الفصل الثالث

الفلسفة في فرنسا

(١) إميل دوركيم (١٨٥٨–١٩١٧)

الفلسفة الفرنسية سائرة في وجهاتها التي صادقناها أثناء القرن الماضي، فالوجهة الواقعية وجدت لها أنصارًا في إميل دوركيم وليڤي برول وغيرهما من الأساتذة الاجتماعيين، والوجهة الروحية يمثلها علماء ورياضيون يبينون ما في العلم الحديث من تركيب صناعي يدع المجال مفتوحًا أمام الحرية والأخلاق، وأشهر هؤلاء هنري بوانكاري وبيير دوهيم، ولكن ممثلها الأكبر هنري برجسون الذي أقام مذهبًا تامًّا في الوجود والأخلاق والدين، أما دوركيم فيعد واضع علم الاجتماع المعاصر، أهم كتبه: «تقسيم العمل الاجتماعي» (١٨٩٣) و«قواعد المنهج الاجتماعي» (١٨٩٥) و«الانتحار» (١٨٩٧) و«الصور الأولية للحياة الدينية» (١٩١٢) و«التربية الخلقية» (١٩٢٥)، وكان قد أصدر مجلة «السنة الاجتماعية» في ١٨٩٦ وظل يصدرها إلى ١٩١٣ بمعاونة ليڤي برول وموس وهوبرت وفوكوني وبوجلي وبسيميان وداڤي وهلبكس وهم أركان علم الاجتماع في فرنسا الآن، وقد استؤنف إصدار المجلة سنة ١٩٢٥.

أخذ دوركيم على نفسه أن يقيم علمًا اجتماعيًّا واقعيًّا يختلف عن فلسفة التاريخ وعن النظر المجرد في ماهية المجتمع بأن يقصر غرضه على استكشاف القوانين التي تربط ظواهر اجتماعية معينة بظواهر أخرى معينة، كما يرتبط الانتحار مثلًا أو تقسيم العمل بازدياد عدد السكان، وذلك باستخدام المناهج المألوفة في العلوم الطبيعية والتي ترجع إلى الملاحظة والاستقراء مع ما يقتضيه علم الاجتماع من تعديل طفيف يضيف إلى ملاحظة الحاضر ملاحظة الماضي أو التاريخ المقارن، ويجعل الاستقراء إحصاء، إذ أن المذهب الواقعي لا يعترف بوسيلة أخرى لدراسة الإنسان، والمقصود بالظواهر الاجتماعية أنحاء الفكر والعاطفة والعمل الصادرة عن الناس بما هم أعضاء مجتمع، مثل الأخلاق والأديان والأنظمة السياسية والقوانين المدنية والتقاليد القومية والبدع الفنية والنظريات العلمية، وما إلى ذلك من مظاهر الحياة الإنسانية، هذه المظاهر اجتماعية بالذات يجدها كل فرد قائمة في بيئته ويتأثر بها تأثرًا قويًّا بوساطة فعل التربية وضغط المجتمع، حتى ليذهب هذا الضغط أحيانًا كثيرة إلى حد إكراه الفرد على اتخاذ مواقف مخالفة لرأيه الخاص، فإن معنى الحياة الاجتماعية أن يقبل الفرد هذه المظاهر ويتطبع بها فيتلاءم مع المجتمع ويندمج فيه، فعلامة الظاهرة الاجتماعية أنها تفرض نفسها على الأفراد وتكرههم على الأخذ بها، كيف نفسرها؟ لقد تردد دوركيم بين قولين: أحدهما أن الأفكار والعواطف الاجتماعية صادرة عن «وجدان اجتماعي» متمايز من الوجدانات الفردية وأعلى منها: وهذا القول يجعل للظاهرة الاجتماعية وجودًا ذاتيًّا ولعلم الاجتماع موضوعًا خاصًّا به لا يشاركه فيه علم آخر، ولكن هذا القول يشخص كلًّا مجموعيًّا، ودوركيم يعترف بأن ليس في المجتمع سوى الأفراد، ويعرض القول الآخر وهو أن الوجدان الاجتماعي، ولو أنه جملة الوجدانات الفردية، إلا أنَّه يؤلف كلًّا مغايرًا لها كما يؤلف التركيب الكيميائي شيئًا مغايرًا للعناصر، وهذا القول يرجع إلى أن الحياة الاجتماعية تولد في الفرد ظواهر نفسية من نوع خاص، وينافي تعريف الظاهرة الاجتماعية كما ذكرناه إذ يجعل منها ظاهرة نفسية فيرد علم الاجتماع إلى علم النفس.١

على أن دوركيم يحرص على أصالة علم الاجتماع ويستمسك بتعريفه للظاهرة الاجتماعية، ويضع مذهبًا فلسفيًّا هو إحدى صور الفلسفة الحسية أو التجريبية أو الواقعية، فيذهب في مسألة المعرفة إلى أن المعاني والمبادئ العقلية نتاج الفكر المجموعي؛ فإنها كلية ثابتة إلى حدٍّ ما ضرورية لتنظيم التجربة (كما جاء عند كنط وسبنسر) بينما التصورات الحسية جزئية متغيرة، فالمعاني والمبادئ تعلو على الفكر الشخصي كما يعلو المجتمع على الفرد، فمعنى النوع يتضمن معنى القرابة بين الأفراد، ومعنى الجنس يتضمن معنى القرابة بين الأنواع ومعنى ترتيبها بعضها من بعض، وليس في الطبيعة (كما يتصورها الحسيون) قرابة ولا ترتيب، ولكنهما أمران اجتماعيان، ومعنى العلة يتضمن معنى قوة موجدة ومعنى السلطة وهما معنيان اجتماعيان، ومعنى الكلي يتضمن مجموع الموجودات أو المجتمع، ومعنى الواجب يتضمن ما لسلطة الجماعة من قوة إكراهية، وهكذا يزعم دوركيم — كما زعم سبنسر — أنه يفض الخلاف الناشب بين الحسيين والعقليين بقوله إن المعاني والمبادئ مصنوعة من المجتمع غريزية في الأفراد.

وهو يفسر الأخلاق والدين على النحو ذاته سواء من جهة الصورة أو من جهة المادة، فمن الوجهة الصورية نحن نعتبر الفعل خلقيًّا متى كان مطابقًا لقانون مفروض، وكان غيريًّا لا أنانيًّا، وكان إراديًّا، وهذه الخصائص ترجع إلى المجتمع فإن الخاصية الأولى نتيجة النظام الذي تفرضه حتمًا كل جماعة، والخاصية الثانية نتيجة الإخلاص للجماعة الذي تفرضه الحياة فيها، والخاصية الثالثة نتيجة ما يلحظه الفرد من أن استفادته من الحياة الاجتماعية تتوقف على إرادته هذه الحياة وشروطها، ومن الوجهة المادية نرى الأخلاق مختلفة باختلاف الزمان والمكان وسائر الظروف، أي نراها تابعة لأحوال المجتمعات التي تخترعها وتفرضها على الأعضاء، فإن لكل مجتمع أخلاقه هي مظهر أحواله، ولا محل لتسويغ الأخلاق بتركيب فلسفة أخلاقية، وأما الدين فقديم كالاجتماع: كان صورته الأولى وتطورَا معًا، بدأ الدين بأن تصور الناس قوة لا شخصية متفرقة في الأشياء تمنحها ما لها من قوة، ثم تشخصت هذه القوة في الطوطم أولًا وفي الإله الواحد أخيرًا، فكانت لنا فكرة الله كموجود شخصي مقدس؛ فإن هذه الفكرة ليست مستفادة ممَّا نشعر به من قوة باطنة، ولا مكتسبة بالاستدلال، ولكنها اجتماعية، والدين أقوى مظاهر الحياة الاجتماعية وأعمها، إليه ترجع الصور التي انتظمت بها المعارف الإنسانية، إذ أنه الينبوع الذي تفيض منه القوة الجسمية والقوة المعنوية في أفعال الحياة المشتركة.

هذا الموقف يستهدف لنفس الانتقادات التي توجهها إلى سائر المذاهب التجريبية: إن المشابهات التي توحي بالمعاني الكلية متحققة في الجماد وفي النبات وفي الحيوان وفي حياتنا الاجتماعية، فلا يمكن أن يقال إن الحياة الاجتماعية مصدرها الوحيد، ثم إذا كانت الحياة الاجتماعية قد انتظمت على أنحاء كلية فلا يخلو إما أن يكون ذلك بناء على معان سابقة في أذهان بني الإنسان أو بناء على مشابهات وجدوها بينهم، وفي كلا الحالين تكون المعاني راجعة إلى غير الحياة الاجتماعية.

وإذا كانت الأخلاق على ما يقول دوركيم من الاختلاف والتغير، فكيف نعلل ما يبدو لبعضها من ضرورة عند جميع الجماعات؟ ويفسر دوركيم المؤسسات والقواعد الاجتماعية طبقًا لنظرية التطور، فيبدأ بأبسط الصور ويسمي الجماعات التي تلاحظ عندها هذه الصور بالبدائية، في حين أن المنهج العلمي يقضي بالقول بأن الحالة المسماة بدائية هي أبسط ما وصل إلى علمنا من حالات، لا أنها الحالة الأولى تاريخيًّا، إذ قد تكون الإنسانية بدأت على حالة عقلية متقدمة، وقد تكون الجماعات التي نعتبرها الآن بدائية منحدرة من جماعات متحضرة زالت عنها الحضارة، فالاجتماعيون يعدون البسيط قديمًا وليس هذا بالضروري، ويعتقدون أنهم يؤيدون مذهب التطور وهم إنما يقبلونه مبدئيًّا.

(٢) ليڤي برول (١٨٩٧–١٩٣٩)

كان أستاذًا لتاريخ الفلسفة، وله في هذا الباب كتاب عن «أوجست كونت» ودراسات أخرى، وناصر المذهب الاجتماعي بكتبه الآتية: «فلسفة الأخلاق وعلم الأخلاق» (١٩٠٣) و«الوظائف الفكرية في الجماعات الدنيا» (١٩١٠) و«العقلية البدائية» (١٩٢٢) و«الروح البدائية» (١٩٢٧) و«الفائق الطبيعة والطبيعة في الفكر البدائي» (١٩٣١).

في كتابه عن الأخلاق يريد أن ينظر إلى الأفعال الإنسانية على أنها ظواهر طبيعية وحسب، فينتقد فلسفة الأخلاق، ويقترح بديلًا منها علمًا للأخلاق، ويرجع نقده إلى ثلاثة أمور: الأول أن فلسفة الأخلاق تزعم أنها علم معياري يعين ما ينبغي أن تكون عليه الأفعال الإنسانية، في حين أن العلم دراسة وصفية للظواهر وقوانينها، ففكرة العلم المعياري تنطوي على تناقض، الأمر الثاني أن الفلاسفة مختلفون في المبادئ متفقون مع ذلك في قواعد السلوك، وهذا يدل على أنه لا يوجد بين القواعد وبين المبادئ التي يدعون أنهم يستنبطوها منها صلة منطقية، الأمر الثالث أن الفلاسفة يضعون قضيتين لا يمكن قبولهما: الواحدة أن هناك طبيعة إنسانية فردية واجتماعية هي واحدة في كل زمان ومكان ومعلومة لهم إلى حد كبير يستطيعون معه أن يعينوا لها القواعد الملائمة لكل حالة من حالات الحياة، والحقيقة أن التباين شديد جدًّا بين الناس أفرادًا وجماعات، والقضية الأخرى أن الضمير شيء مطلق وأنه يمن تبرير أوامره تبريرًا منطقيًّا، مع أن علم الاجتماع يقيم الدليل على أن الضمير نتاج الأيام وأن معانيه ومبادئه وليدة تجارب وعادات تختلف نشأة وقدمًا اختلافًا شديدًا جدًّا، أما علم الأخلاق فإنه يدرس الأفعال الإنسانية وقوانينها كما تقع عليها الملاحظة المباشرة ويوردها التاريخ، وينتهي إلى أن الأخلاق مظهر للجماعة تابع لماضيها وديانتها وعلومها وفنونها وعلاقاتها بالجماعات المجاورة وحالتها الاقتصادية؛ وإذن فالأخلاق تختلف باختلاف الجماعات وأحوالها والأخلاق جميعًا طبيعية، سواء في ذلك أخلاق الأقوام المنحطة وأخلاق الأمم المتمدينة، ولما كانت الجماعة لا تستقر على حال واحدة، فيلزم أن أخلاقها متطورة حتمًا بتطور العوامل الاجتماعية، وفائدة علم الأخلاق أنه يسمح لنا بتكوين «فن خلقي» أي جملة من القواعد تعالج بها أحوالنا، دون أن يكون لهذه القواعد صفة الإلزام، ودون أن يكون لأفعالنا قيمة ذاتية يعبر عنها بالخير أو بالشر.

وفي كتبه الأخرى يذهب إلى أن المتوحشين لا يفكرون بمعانٍ محدودة يتضمن بعضها بعضًا أو يناقض بعضها بعضًا، ولكنهم يفكرون بصور خيالية ولا يراعون مبدأ عدم التناقض، وأن هذا لون من التفكير سابق على تفكيرنا المنطقي فتفكيرنا المنطقي صناعي، وأن التفكير البدائي هو التفسير الوحيد للاعتقاد بما فوق الطبيعة، ذلك الاعتقاد بأن الأشياء حاصلة على قوى خفية تستطيع إحداث السعادة أو الشقاء، وما يلزم عنه من تكريم تلك القوى واحترام التقاليد والخوف الديني أن يضطرب نظام المجتمع إذا أهملت الجماعة عباداتها وتقاليدها.

ولم يكن ليڤي برول مبتكرًا في أقواله هذه، فإنها أقوال الحسيين من عهد بعيد أيدها بشواهد مستمدة من مذكرات المبشرين والسياح وهو جالس إلى مكتبه، ولسنا بحاجة إلى الرد على نقده لفلسفة الأخلاق وقد طالما رددنا على مثله في سياق هذا الكتاب، أما رأيه في تفكير المتوحشين فقد خالفه فيه بعض الاجتماعيين، ورد عليه برجسون في كتابه «ينبوعا الأخلاق والدين» ص ١٥٩–١٦٩ من الطبعة الأولى، وانتهى هو إلى الإقرار بأن هذا التفكير يفسر بالجهل والغرض والتسرع وما إلى ذلك من أسباب الخطأ المعروفة، وأن المتوحشين لا يجهلون المبادئ الأولية ولكنهم يسيئون تطبيقها كما يسيء تطبيقها أطفالنا والجهلاء منا.

(٣) هنري بوانكاري (١٨٥٤–١٩١٢)

هو واحد من فريق من العلماء يتابعون نقد رنوفي وبوڤرو للمعرفة العلمية، وله في هذا النقد كتب مشهورة هي: «العلم والفرض» (١٩٠٢) و«قيمة العلم» (١٩٠٥) و«العلم والمنهج» (١٩٠٩) و«خواطر أخيرة» نشرت بعد وفاته (١٩١٣).

وهو يذهب إلى أن ليس للنظريات العلمية ما يدعيه لها المذهب الواقعي من قيمة مطلقة، ففي تطبيقها، ولا سيما على الظواهر المستقبلة، يوجد دائمًا إمكان للتغير، ويوجد أحيانًا كثيرة ضرب من عدم المطابقة قد يسمح بتصور تفسير أخر، فالنظرية العلمية قائمة دائمًا على قدر من الفرض، وما النظريات التي يقال إنها «حقيقية» إلا «أنفع» النظريات أي التي تبسط للعالم عمله وتعطيه أجمل صورة من الكون؛ ذلك بأن النظريات رموز مجردة يركبها العقل للتعبير عن العلاقات المشاهدة بين الظواهر، حتى إن نظريتين متعارضتين يمكن أن تكونا كلتاهما أداة نافعة للبحث، ويمكن أن تكون إحداهما أنفع من الأخرى؛ فبالنسبة إلى إدراكنا للأشياء نجد أن المكان الأقليدي ذا أبعاد الثلاثة أنفع من الأمكنة المفترضة في الهندسات اللا أقليدية وليس له غير هذه الميزة، ونظرية كوبرنك مجرد فرض وهي لا تمتاز على نظرية بطليموس إلا بأنها أبسط وأنفع، وقد قلنا (١٩٩ ى) إن السبب في هذا الموقف هو أن العلماء صاغوا نظرياتهم في شكل رياضي، ولاحظنا أن هذه الصياغة كانت ممكنة في علم الطبيعة فقط لبساطة المادة وكثرة الإمكانيات في تنوع الحركة، ولكنها غير ممكنة في علم الحياة وعلم النفس حيث يعود العقل إلى تحري خصائص الأشياء وإقامة نظريات «حقيقية».

(٤) پيير دوهيم (١٨٦١–١٩١٦)

يلتقي مع پوانكاري في القول بنسبية العلم الحديث، وقد فصل رأيه وأورد عليه الأمثلة والشواهد في كتاب معروف عنوانه «النظرية الفيزيقية، موضوعها وتركيبها» (١٩٠٦)، وفي كتاب آخر اسمه «نظام العالم، تاريخ المذاهب الكونية من أفلاطون إلى كوپرنك» (في خمسة مجلدات ١٩١٣–١٩١٧) عرض هذه المذاهب عرضًا وافيًا فإذا بها ترجع إلى مذهبين: أحدهما أن النظرية العلمية تفسير حقيقي للظواهر، كالمذهب الآلي عند قماء فلاسفة اليونان وعند ديكارت، وهذا يجعلها ميتافيزيقية أو يربطها بنظرية ميتافيزيقية، والآخر أنها مجرد تصور للظواهر وقوانينها لا يدعي النفاذ إلى جواهر الأشياء، وهذا يجعلها افتراضًا ليس غير، كالنظريات الفلكية التي نبتت في مدرسة أفلاطون وسائر النظريات الطبيعية الرياضية التي تتالت بعد ذلك، والكتاب مرجع جليل في تاريخ العلوم ومنها العلم الإسلامي وقد وقف عليه المؤلف من الترجمات اللاتينية في العصر الوسيط.

(٥) هنري برجسون (١٨٥٩–١٩٤١)

ولد في باريس من أسرة يهودية قدمت فرنسا من إنجلترا، كان في المدرسة الثانوية تلميذًا نابهًا أظهر استعدادًا نادرًا للعلوم، ولكنه اختار الفلسفة، وتخرج في مدرسة المعلمين العليا على أساتذة معروفين، منهم إميل برترو، ونجح في مسابقة الأجريجاسيون (١٨٨١) فعين مدرسًا للفلسفة في مدارس ثانوية بالأقاليم، ثم بباريس (١٨٨٩) حيث ذاع صيته بعد حصوله على الدكتوراه، فعين أستاذًا في الكوليج دي فرانس (١٩٠١) حيث قضى خمس عشرة سنة يلقي المحاضرات أمام جمهور عديد معجب أشد الإعجاب، ولما أعلنت الحرب العالمية الأولى أرسل بمهمة إلى أمريكا، ولما كونت جمعية الأمم لجنة للتعاون الفكري مؤلفة من اثني عشر عضوًا انتخب هو رئيسًا وظل يشغل منصبه هذا إلى سنة ١٩٢٥، ثم أصابه مرض أقعده إلى آخر حياته دون أن يحول بينه وبين العمل العقلي.

بدأ بأن كان ماديًّا على مذهب سبنسر، ولكن التفكير في الحياة النفسية قاده إلى إنكار قول الماديين إنها مؤلفة من ظواهر منفصلة تتصل بموجب قوانين التداعي، وإن هذه الظواهر من قبيل الظواهر الخارجية قابلة للقياس والحساب وجاءت رسالته للدكتوراه «محاولة في الوقائع المباشرة للوجدان» (١٨٨٩) معلنة لهذا الإنكار بقوة وبراعة لفتتا إليه الأنظار، فتنفس الكثيرون الصعداء من أولئك المثقفين الذين كانوا يرزحون تحت كابوس الآلية والجبرية، ومنذ ذلك اليوم كان هو زعيمًا من زعماء الروحية،٢ ثم شرع يتعمق خصائص الروح والعلاقة بينها وبين الجسم فوضع في ذلك كتاب «المادة والذاكرة» (١٨٩٦) وهو كتاب عسير الفهم في بعض المواضع، ورأى أن خصائص الحياة النفسية متحققة في الحياة التامة أيضًا، وأنه يستطيع أن يطبق نظريته في الروح على الكون أجمع، فكان هذا موضوع كتاب «التطور الخالق» (١٩٠٧) الذي كان له وقع عظيم، ثم عكف على دراسة الأخلاق والدين، وبعد ربع قرن بالتمام أخرج كتابه «ينبوعا الأخلاق والدين» (١٩٣٢) فكان وقعه أعظم، فإنه يقيم فيه العقائد الميتافيزيقية على التجربة الروحية ويشيد بالتصوف المسيحي، وتلك هي كتب أربعة رئيسية تحوي عرضًا شاملًا للمذهب يضاف إليها كتيب في «الضحك» أو «محاولة في دلالة المضحك» (١٩٠٠) وكتاب «في الديمومة والتقارن» (١٩٢٢) وضعه بمناسبة نظرية إنشتين في النسبية، ومقالات ومحاضرات نشر بعضها بعنوان «الطاقة الروحية» (١٩١٩) والبعض الآخر بعنوان «الفكر والمتحرك» (١٩٣٣) وفي هذا المجلد الثاني مقالات هامة ضرورية لتمام الوقوف على مذهبه، وهي: «الحدس الفلسفي» (ف ٤) و«إدراك الغير» (ف ٥) و«مدخل إلى الميتافيزيقا» (ف ٦).
«الوقائع المباشرة للوجدان» تشهد بأن الحياة النفسية تيار غير منقطع من الظواهر المتنوعة، أي تقدم متصل من الكيفيات المتداخلة، بخلاف الظواهر المادية التي هي كثرة من الأحداث المتمايزة المتعاقبة، والحياة النفسية تلقائية فإنها انبعاث من باطن وخلق مستمر أو «ديمومة» durée لا تحتمل رجوعًا إلى الماضي وعودة ظروف بعينها، ولا توقعًا للمستقبل ضروريًّا، كما تحتمل الظواهر المادية، فعلم النفس المادي الذي يزعم تطبيق القياس على الظواهر النفسية وجعلها «علمية» يخلط خلطًا شنيعًا بين الإحساس الذي هو فعل غير منقسم وبين المؤثر الفيزيقي وزيادته ونقصانه، والواقع أن لا نسبة ألبتة بين الحدين، فالحياة النفسية كيف بحت مباين للكم، على حين أن المادة متجانسة في جميع أجزائها، موجودة بجميع أجزائها معًا، باقية هي هي، حاضرها ومستقبلها كماضيها بغير تغيير، وإذا كنا نضيف الكم أو الشدة إلى الظواهر النفسية فذلك لأننا نقرنها بالظواهر الجسمية التي تصاحبها أو تترجم عنها، وهذه الظواهر الجسمية هي المقيسة في الواقع، فنقيس السرور أو الغضب مثلًا بالمساحة المنفعلة من جسمنا، وهما في الحقيقة كيفيتان خالصتان، ولا ينطبق القياس إلا على المكان المتجانس من حيث إن القياس انطباق مكان على مكان، وإذا كان العلم يعتمد على القياس ويطلب الدقة الرياضية فذلك لأن عقلنا قوة تقيس وأن مجاله المستحب المكان والمادة، فيحاول أن يدخل على حياتنا النفسية تجانسًا يسمح بقياسها، وطريقته في ذلك أنه يسمي حالاتنا الباطنة فيتخيلها منفصلة بعضها عن بعض كالأسماء الدالة عليها ومرتبة بعضها تلو بعض كأنها على طول خط، وينقل الألفاظ المنطبقة على الماديات إلى المعنويات فيصف ظواهرنا الوجدانية بالشدة أو بالضعف ويقارن بينها على هذا الاعتبار، ومن هنا تنجم الصعوبات في مسألة الحرية؛ فإننا نتصور دواعي العمل كأنها وقائع متمايزة تتظاهر على أحداث الفعل أو تتعارض، فتفرض أن الحرية قوة أخرى ناشئة من لا شيء هي التي تحدث الفعل أو تمنعه، والحقيقة أن ليس في عالم النفس آلية وجبرية إذ أن الديمومة كيف محض وليست مركبة من أجزاء متجانسة قابلة لأن تتطابق، كما أنه ليس في عالم النفس خلق من لا شيء مقطوع الصلة بالماضي، ولكن الحرية عين صيرورة الأنا، والفعل الحر تقدم متصل يبدأ بضرب من العزم ثم ينمو هذا العزم وينضج مع النفس كلها إلى أن يصدر عنها كما تسقط الثمرة الناضجة من الشجرة، فالخطأ الأكبر قائم في الترجمة عن الزماني بالمكاني وعن المتعاقب بالمتقارن.

ولكننا لا نرى أن برجسون أفلح في إثبات الروح والحرية، أجل إن إباء الظاهرة النفسية للقياس يدل على أنها صادرة عن مبدأ مغاير للمادة، ولا يدل على أن هذا المبدأ مفارق للمادة: إن الإحساس والانفعال والتخيل والتذكر ظواهر نفسية وفسيولوجية معًا تتم في الأعضاء وبالأعضاء، فمحال أن تصدر من غير مشاركة الجسم، وقد غلا برجسون في رفضه إضافة الشدة إلى الظاهر النفسية ظنًّا منه أن الشدة لقبولها التفاوت قابلة للقياس كالكمية، والواقع أن الكيفية تختلف شدة، يشهد بذلك الفضيلة والملكة العلمية أو الفنية، فإنها تتفاوت درجة وتمكنًا دون أن يمكن تقدير هذا التفاوت تقديرًا عدديًّا، أما أن العقل قوة تقيس وأن مجاله المكان وحسب، فنظرية سيفصل برجسون القول فيها ويبين دلائلها عنده، وسنعود إليها، وأما أن الحرية هي التلقائية فهذه خلط بين الاثنتين: إن التلقائية مشتركة بين جميع الأحياء بل بين جميع الأجسام، فلئن كان الجماد لا يتحرك إلا بفعل خارجي فإنه متى تحرك كانت حركته بفعل باطن ذاتي، إذ يمتنع أن تكون الحركة شيئًا ينتقل من المحرك إلى المتحرك ويعمل فيه، وعلى ذلك ليس القول بأن الفعل الحر فعل تلقائي بمميز له من الفعل الآلي، ولا بمفيد معنى الحرية الذي هو الاختيار المروي لفعل مع استطاعة عدم اختياره أو استطاعة اختيار ضده، ولكن مثل هذا الاختيار يقتضي جوهرًا ثابتًا مغايرًا للظواهر متحكمًا فيها، وقد ارتضى برجسون نظرية في العقل تبطل الاعتقاد بالجوهر كما سنرى.

لما عاد إلى مسألة الروح في كتابه «المادة والذاكرة» عرف الروح بأنها ديمومة وذاكرة، وميَّز بين نوعين من الذاكرة: ذاكرة هي عادة مكتسبة بالتكرار ولها جهاز محرك في الجهاز العصبي، مثل الذاكرة التي تعي شعرًا أو نثرًا محفوظًا عن ظهر قلب، وذاكرة بحتة هي تصور حادثة انطبعت في الذهن دفعة واحدة واحتفظت بخصائصها وتاريخها، مثل تذكري أني حفظت قصيدة، الذاكرة الأولى تردد الماضي والثانية تتصوره، وهي الذاكرة الحقة، وهي لا تحفظ في الجسم، ونحن نحفظ جميع الصور ونحمل ماضينا بأكمله في أدق تفاصيله، فالذاكرة هي الروح نفسها بما هي حياة وديمومة، ولكن الذكريات محفوظة في حالة أشباح غير منظورة إذ أن الشعور خاصية الحالات النفسية الماثلة الآن الفاعلة الآن فحسب، وما ليس بفعل فلا يخص الشعور وإن كان لا ينقطع عن الوجود على نحو ما، وحياتنا الشعورية موجهة إلى العمل، ويبقى ماضينا وراءها في حالة ذكريات بحتة غير مشعور بها، عديمة الصلة بالحاضر عديمة الفائدة العملية، ويتضح هذا بالنظر في الأحلام، فإنها تتناول ماضينا كله ولا تقتصر على حالة حاضرة معينة يحدها الانتباه والاهتمام كما يحدث في اليقظة، وتظهر الصور في مجال الشعور كلما أحوجنا إليها العمل، ومهمة الجسم هي أن يجيء بها إلى هذا المجال فيحول الصور التي بالقوة إلى صور بالفعل، فإن الجسم «مركز عمل» هو «ممر الحركات الصادرة والواردة، وأداة الوصل بين الأشياء المؤثرة فينا وما نؤثر فيه من أشياء»: ليس بوسعه أن يحفظ صورًا ولا أن يبعث صورًا، ولكنه يوفر للصور الوسيلة كي تصير مادية وتعود إلى الشعور، وفي حالة فقدان الذاكرة ليست الروح هي المعتلة بل الدماغ، وليس هناك محو للذكريات بل اضطراب في الأجهزة المحركة، وتبعًا لذلك يقلب رأي الماديين رأسًا على عقب؛ فإنهم يعتبرون الجسم هو الموجود حقًّا ويعتبرون الشعور ظاهرة عارضة ويعتبرون الطرفين متوازيين، والحقيقة أن الشعور في المحل الأول وأن الجسم آلته، تلك أهم قضايا الكتاب، وهي تدل على أن برجسون ثنائي كديكارت يضع الروح والجسم الواحد بإزاء الآخر ولا يفطن إلى جسم الحي يحيا ويشترك في الإحساس والانفعال والتخيل والتذكر كما أسلفنا، وأن تمايز الروح والجسم لا يستتبع انفصالهما واستقلال الواحد عن الآخر في الوجود والفعل.

خصائص الحياة النفسية متحققة في الحياة النامية أيضًا، وكتاب «التطور الخالق» يحوي دفاعًا متينًا عن هذا الرأي وتفسيرًا للآراء الواردة في الكتابين السالفين، يقول برجسون: ليس الكائن الحي مجرد مركب من عناصر سابقة كما يرى الآليون ولكن الحياة شيء غير العناصر وشيء أكثر من العناصر، إن الكائن الحي «يدوم» ديمومة حقة، فإنه يولد وينمو ويهرم ويموت، وهذه ظواهر خاصة به لا تبدو بأي حال في المادة البحتة، وليست الأنواع الحية ناشئة من أصول متجانسة نمت وتحولت بتأثير القوى الفيزيقية والكيميائية على ما شاءت الصدفة العمياء: هذا وهم من الآليين، فإنهم ينظرون إلى الكائنات الحية فيحللونها بالفكر إلى بسائط ويجعلون من هذه البسائط المعقولة أصولًا تاريخية، على حين أن العضو في الكائن الحي «وحدة مركبة من آلاف الخلايا المختلفة مرتبة ترتيبًا معينًا»: فكيف انضمت هذه الخلايا العديدة بالترتيب المطلوب؟ ثم إن الكائن الحي، من جهته، وحدة مركبة من أعضاء تتكون بالنمو من الداخل فكيف يمكن الادعاء بأن الكائن الحي تكون بالإضافة من الخارج على ترتيب معين في أزمنة متطاولة؟ ثم إننا نلاحظ في سلاسل مختلفة من الأحياء منفصلة منذ عهد بعيد وحدة تركيب في أعضاء معقدة غاية التعقيد، كالشبكية مثلًا: فكيف اتفق لمثل هذه السلاسل أن تنتهي إلى نتائج متشابهة في نقط مختلفة من المكان والزمان؟ بيد أن هذا النقد موجه إلى التطور الآلي كما تصوره دروين وسبنسر لا إلى التطور إطلاقًا ونحن نشاهد الأحياء مراتب بعضها فوق بعض: فكيف نفسر ظهورها إلى الوجود؟ إن في بعض النبات تطورًا فجائيًّا يسمح لنا أن نتصور أن كل نوع من الأنواع الحية قد صدر دفعة واحدة عن «نزوة حية» من وجدان شبيه بوجداننا وأعلى منه: «في وقت ما وفي نقط ما من المكان نبع تيار حي واجتاز أجسامًا كونها على التوالي وانتقل من جيل إلى جيل وانقسم بين الأنواع الحية وتشتت بين الأفراد دون أن يفقد شيئًا من قوته بل إنه يزداد قوة كلما تقدم»، ويزداد شعورًا؛ فهو في النبات سبات وخمود، وفي الحيوان غريزة، وفي الإنسان عقل، وهذه طبقات مختلفة بالطبيعة لا بالدرجة فقط، أما المادة فقد نشأت من وهن التيار الحيوي أو توقفه، فما هي إلا شيء نفسي تجمد وتمدد، كما نشاهد في أنفسنا حين ندع فكرنا يجري اتفاقًا فيتبدد في آلاف من الذكريات تتخارج وتنتشر فتتراخى شخصيتنا وتتنزل في اتجاه المكان، أو كما نشاهد الماء يندفع من النافورة ويرتفع خطًّا كثيفًا دقيقًا ثم يهبط على شكل مروحة وقد انفصلت نقطه المتراصة وتباعدت وتساقطت في مساحة أوسع، فالمادة شيء نفسي متراخٍ صار متجانسًا وقابلًا محضًا وحدًّا أدنى من الوجود والفعل، والعالم أجمع ديمومة أي اختراع وتجديد وخلق وتقدم متصل.

الآن نستطيع أن نفهم حقيقة المعرفة الإنسانية؛ فمتى كانت الصيرورة عين الوجود وعين نسيج الأنا، كان الثبات ظاهريًّا أو نسبيًّا، ولم يعد هناك أشياء أو جواهر بل عاد الوجود أفعالًا وحسب، وعادت الأشياء والأحوال مشاهد يجتزئ بها عقلنا من الصيرورة، وكانت معانينا ناشئة من هذه التجزئة، ونحن نميل طبعًا إلى تجميد مشاعرنا لنعبر عنها باللغة، وما المعنى الكلي إلا اسم يطلق على ذكريات تؤلف موقفًا معينًا بإزاء طائفة من الأشياء هي التي يطلق عليها الاسم، إن العقل عاجز عن تصور الحركة وعن تفسيرها، وهو لا يفهم حق الفهم إلا الجامد القابل للقياس، وحالما يتناول الزمان والكيف يترجم عنهما بلغة المكان والكم، وهو يستخدم معاني محدودة ثابتة لا تصيب شيئًا من إنية الموضوع أو فرديته ولا تساوق الموضوع في ديمومته، هو قوة التفكير المجرد المستدل، هو منبع حجج زينون المنكرة للحركة والكثرة، وقلَّما يعجز عن التدليل على قضيتين متناقضتين، فالمعرفة الحقة حدس يدرك الموضوع في ذاته، ولكننا لا نزاول هذا الحدس إلا نادرًا بسبب ما يقتضيه من توتر النفس في مجهود شاقٍّ مؤلم للنفاذ إلى باطن الموضوع ومتابعته في صيرورته، أما العقل فقد خلقه التيار الحيوي للعمل لا للنظر كما خلق الغريزة في الحيوان، الغريزة قوة استخدام آلات عضوية بل قوة تكوينها، والعقل قوة صناعة آلات غير عضوية، الغريزة إحساس لا استدلال، وهي تعمل دون تردد ولا تربية، وتعمل على نحو معين، والعقل بحاجة إلى التربية والتروية، ولكن مجاله أوسع بكثير، من هذه الأقوال نتبين أن برجسون يتصور العقل على طريقة ديكارت فيظن وظيفته مقصورة على إدراك معانٍ واضحة متميزة على مثال المعاني الرياضية وأنه لا يدرك القوة والحركة والحياة فيرد النبات والحيوان وجسم الإنسان مجرد آلات، فإذا ما رأى برجسون بطلان هذه النتيجة اتهم العقل ذاته واصطنع مذهبًا لا عقليًّا والتمس المعرفة الحقة في حدس لا ندري ماذا يحدس والوجود صيرورة محضة خلو من ماهيات تدرك.

التيار الحي الخالق للروح والمادة هي يكون الله؟ إنه لشبيه بالله، وكثير من عبارات برجسون يؤدي هذا المعنى إلى ذهن القارئ، منها قوله: «إن فكرة الخلق تغمض بالكلية إذ فكرنا في «أشياء» مخلوقة و«شيء» يخلق؛ أما أن يتضخم الفعل كلما تقدم وأن يخلق كلما تقدم، فهذا ما يشاهده كل منَّا حين ينظر إلى نفسه وهو يفعل» وقولوه: «إذا كان الفعل الذي يتم في كل مكان من نوع واحد فإني أعبر تعبيرًا مختصرًا عن هذا الشبه الغالب حين أتحدث عن مركز تنبع منه العوالم كما تنبع الصواريخ من باقة عظيمة، على أن لا أقصد بهذا المركز «شيئًا» معينًا بل أقصد به نبعًا متصلًا، فالله على هذا التعريف، ليس حاصلًا على شيء تام، ولكنه حياة غير منطقعة وفعل وحرية، وخلقه، على هذا التصور، لا خفاء فيه، فإننا نحسه في أنفسنا حالما نعمل بحرية»، وعلى هذا يكون برجسون من أصحاب وحدة الوجود، ولكنه أعلن إلى أحد النقاد أنه في العبارات المذكورة وأمثالها «يتحدث عن الله باعتباره الينبوع الذي تخرج منه على التوالي — بفعل حر — التيارات التي يكون كل منها عالمًا، وأن الله من ثمة متمايز منها»، هذا الإعلان ينسخ قول أن ليس هناك شيء خالق وشيء مخلوق، ولا يتفادى وحدة الوجود من حيث إن الخلق عنده نبع وصدور عن ذات الله فيكون المخلوق من عين ماهية الله، ولكن برجسون — منذ ذلك التاريخ — يذكر الله كأنه موجود مفارق للتيارات والعوالم، ونحن مضطرون أن نسلم بهذا القصد مع ما نجد من صعوبة الملاءمة بينه وبين المذهب.

ولكن مسألة تقوم حينئذٍ وهي هذه: كيف نعلم أن الله موجود وأنه متمايز من العالم؟ لا مجال للتدليل العقلي على وجود الله في فلسفة تنكر على العقل قيمة النظرية في معانيه ومبادئه، والواقع أن برجسون ينتقد الأدلة السلفية ويرفضها رفضًا باتًّا، فدليل المحرك الأول مستبعد من جراء مبدأ المذهب أن ليس يوجد سوى حركة بغير محرك ولا متحرك، ودليل العلل الغائية يتنافى مع المذهب كذلك، فأولًا الغائية تعين صورة المستقبل ونحن نعلم أن الديمومة خلق متجدد، ثانيًا الغائية تشبه عمل الطبيعة بعمل الصانع الإنساني يركب قطعًا وأجزاء ليحقق نموذجًا، بينما الطبيعة تكوِّن أو تعضون وتخرج الكائن الحي بأكمله من خلية تتكثر، والدليل المستمد من نظام العالم ساقط هو أيضًا: أين النظام؟ إذا دققنا النظر في العالم «بدا الفشل كأنه القاعدة، وبدا النجاح كأنه الاستثناء وكان دائمًا ناقصًا»، «إن النوع والفرد لا يفكران إلا في ذاتهما فينشأ من هنا خلاف مع سائر صور الحياة، فليس يوجد التناسق في الواقع»، ثم إن النظام ليس شيئًا حادثاُ ممكنًا مجرد الإمكان حتى يطلب تفسيره، بل من الضروري أن يوجد نظام ما، والاضطراب المطلق غير معقول.

هذا النقد للأدلة على وجود الله ليس بأقوم من النقود الكثيرة التي سبقته، إن دليل المحرك الأول لا يستبعد إلا في مذهب ينطوي على التناقض إذ يقول بحركة صرفة دون شيء يحرك ولا شيء يتحرك ولا شيء إليه يتحرك، ودليل الغائية قائم إذ لولا الغاية لما كانت الحركة أو وقعنا في التناقض المذكور الآن، لذا دعا أرسطو الغاية علة العلل، والشيء المنظم مفتقر إلى منظم سواء أحدث بتركيب أجزاء أو بتعضون، ففي الحالتين الأجزاء (أو الأعضاء) تابعة لنظام الكل والكل مع ذلك لا يوجد إلا بها فلا بد من سبق وجود فكرة الكل في عقل ما، أو ليس يستخدم برجسون مبدأ الغائية في مناقشة التطور الآلي؟ وأي التصورين أمعن في البطلان: تصور الموجود يركب من أجزاء تضاف شيئًا فشيئًا، أو تصوره يخرج كله دفعة واحدة دون غرض سابق، وكيف يرد دليل النظام بعد ما تقدم؟ إن انتظام الكائنات كل على حدة أمر لا شك فيه، وانتظامها فيما بينها هو الغالب، وليس ينهض الاضطراب أو ما يبدو كذلك حجة على النظم حيثما يوجد النظام، وكيف ينكر فيلسوفنا وجود النظام ثم يقول إن النظام ضروري؟ إما هذا وإما ذاك.

إذا كانت الأدلة على وجود الله غير ناهضة فكيف نعرف الله؟ لا يبقى لدينا سوى التجربة، والواقع أن برجسون يدعي إقامة ميتافيزيقا تجريبية مبدؤها أن كل موجود فهو بالضرورة موضوع تجربة حاصلة أو ممكنة، ويرى أن لدينا تجربة إلهية فيقول: «إن حدس ديمومتنا يصلنا بديمومة تتوتر وتتركز وتزداد اشتدادًا حتى تكون الأبدية في الحد الأقصى»، وأبدية الله ديمومة كذلك، وهنا يفترق برجسون عن الفلاسفة الذين يرون أن الله ثابت مستكفٍ بنفسه فيقول: «ولكن الموجود الكافي نفسه ليس غريبًا عن الديمومة بالضرورة» و«إن في الحركة لشيئًا أكثر ممَّا في الثبات»، إن إله الفلاسفة وليد العقل ونتاج فعله المجرد المجمد! وهكذا يطبق بجرسون فلسفة الصيرورة إلى النهاية، ويستعيض عن الإله الثابت بإله متغير، أي إن الله عنده موجود نسبي مركب من فعل وقوة، موجود ناقص «يتضخم كلما تقدم» ويكتسب شيئًا جديدًا بلا انقطاع، وليس هذا شأن الله أو العلة الأولى، كما ذكرنا غير مرة، يظن برجسون أن الثبات معناه الجمود، والواقع أن الفلاسفة يثبتون أن الله حي بل الحياة بالذات ويريدون بثباته أن حياته هي هي دائمًا، كما يجب للعلة الأولى.

بعد ظهور كتاب «التطور الخالق» الذي لخصنا نقطه الأساسية، كان الاعتقاد العام أن هذه النظرية لا تسمح بإقامة فلسفة أخلاقية، على اعتبار أن هذه الفلسفة تستلزم معاني ومبادئ ثابتة تدبر السيرة الإنسانية وأن الصيرورة لا تحتمل شيئًا ثابتًا، بيد أنه لم يكن من الممكن أن تظل فلسفة تدعي أنها روحية بغير أن تعرض للأخلاق وللدين، ففكر الفيلسوف وقدر ربع قرن وأخرج لنا «ينبوعا الأخلاق والدين» فأتم بهذا الكتاب مذهبه دون أن ينبذ أو يغير شيئًا من المعاني والمبادئ التي سبق له عرضها، «الينبوعان» هما الغريزة والحدس، وقد صادفناهما، وكل من هاتين الوظيفتين يوجد أخلاقًا معينة ودينًا معينًا، فيكون هناك نوعان من الأخلاق ونوعان من الدين، أحد نوعي الأخلاق أخلاق ساكنة مغلقة، والآخر أخلاق متحركة مفتوحة، يتقوم النوع الأول في جملته من عادات تفرضها الجماعة ابتغاء صيانة كيانها بحيث يعتبر خيرًا ما يكفل هذه الصيانة ويعتبر شرًّا ما ينال منها فيبدو الواجب «رباطًا من قبيل الرباط الذي يجمع بين نمل القرية الواحدة أو خلايا البدن الواحد» «ومن هذه الوجهة يفقد الواجب خاصيته النوعية (أي الخلقية) ويتصل بأعم الظواهر الحيوية» غير أن هناك فارقًا، وهو أن الإنسان حاصل على عقل وحرية، وحينئذٍ «يبدو لنا الواجب بمثابة الصورة التي تتخذها الضرورة في مجال الحياة حين تقتضي في سبيل تحقيق غايات معينة العقل والاختيار ومن ثمة الحرية»، فهذا النوع من الأخلاق صادر عن الغريزة وعن الضرورة الاجتماعية؛ والأخلاق هنا في مستوى أدنى من مستوى العقل، هي أخلاق الجماعات المغلقة على أنفسها.

أخلاق النوع الأخر تجاوز حدود الجماعة وترمي إلى محبة الإنسانية قاطبة بل الخليقة بأسرها، تظهر في بعض الأفراد الممتازين يسمعون في أنفسهم نداء الحياة الصاعدة فيتملكهم انفعال خالص غير ذي موضوع فائق لمستوى العقل شبيه بالانفعال الموسيقي الذي «لا يتصل بشيء» هؤلاء هم «الأبطال» أمثال أنبياء بني إسرائيل أو سقراط، يجذبون الناس بالقدوة لا بالاستدلال، ومجرد وجودهم نداء، وأخلاقهم هي الأخلاق الكاملة المطلقة، لا تعرض قانونًا ينفذ بل مثلًا يحتذى، «إن الفعل الذي تنفتح به النفس يوسع ويرفع إلى الروحانية الخالصة أخلاقًا سجينة مشخصة في عبارات»، وذلك هو المعنى العميق لما في «العظة على الجبل» من معارضات، حيث يقول المسيح: «قيل لكم … وأقول لكم»، أخلاق الإنجيل أخلاق النفس المتفتحة، غير أنه يجب أن نذكر دائمًا «أن الضغط الاجتماعي وفورة المحبة مظهران للحياة متكاملان» أي إن نوعي الأخلاق مظهران طبيعيان للتطور الحيوي ومرحلتان في تقدمه، الأخلاق المتحركة انفعال بحت عند «البطل» ومثال يحتذى عند الجمهور، وليست قانونًا خلقيًّا ملزمًا في صميم الضمير، فالإلزام الخلقي مفقود في الأخلاق بنوعيها.

كذلك الحال في الدين، فهناك دين ساكن وآخر متحرك، نشأ الأول من إرادة اتقاء ما قد يكون العقل من أثر مرهق للفرد ومفكك للجماعة إذا ما فكر العقل في الموت وفي مخاطرات المستقبل وفي أسس الحياة الاجتماعية، هذه الإرادة تبعث في الإنسان «الوظيفة الأسطورية» فتنهض هذه تصور حياة آجلة، وتخترع قوات فائقة للطبيعة خيرة أو شريرة، وتروي «قصصًا كالتي تروى للأطفال» فتضع عقيدة وتثبت سنة، هذا الدين شأنه شأن الغريزة في الجماعات الحيوانية «يحمل الإنسان على التشبث بالحياة ومن ثمة على التشبث بالجماعة» أما الدين المتحرك فهو امتداد القوة الحيوانية، وهو انفعال صرف «مستقل عن السنة وعن اللاهوت وعن الكنائس» يظهر في بعض الأفراد الممتازين الذين هم المتصوفون.

«إن الله محبة، وهو موضوع محبة: هذا ما يجيء به التصوف» و«نهاية التصوف اتصال جزئي بالجهد الخالق تنكشف عنه الحياة، هذا الجهد هو في الله إن لم يكن نفسه»، لقد حاول الفكر اليوناني أن يرتفع إلى هذه القمة فلم يبلغ إليها، وذلك لأن التصوف التام فعل وقد اتبع فلاسفة اليونان طريقًا عقلية صرفة واعتقدوا أن العمل أدنى من النظر، أو أنه «تضاؤل النظر»، وقد كان للهند تصوفها، ولكن التشاؤم منع هذا التصوف من المضي إلى غاية شوطه، وقد أعوزت البوذية الحرارة وأعوزها الإيمان بفاعلية العمل الإنساني والثقة به، والثقة هي التي تستطيع أن تصير قوة تنقل الجبال، التصوف التام هو تصوف كبار المتصوفين المسيحيين، ومحال أن يشبهوا بالمرضى فإنهم ذوو صحة عقلية متينة نادرة، من علاماتها ميلهم إلى العمل وقدرتهم على التكيف مع الظروف، إنهم أشباه أصيلون، ولكن ناقصون، لما كانه على وجه التمام مسيح الأناجيل؛ وعلى ذلك فالتصوف «يوفر لنا الوسيلة لتناول مسألة وجود الله وطبيعته على نحو تجريبي».

هذه النظرية تجمع بين النظرية الاجتماعية والنظرية الروحانية بأن تجعل للدين صورتين طبيعيتين على السواء إحداهما سفلى متأصلة في الحياة البيولوجية والأخرى عليا راجعة إلى ما في التيار الحيوي العام من قوة انتشار وصعود، بيد أننا نرى أن الدين أيًّا كان يقوم في علاقة يدركها الإنسان بينه وبين الله، وهذا هو الدين الطبيعي أي العقلي الذي يمكن استخلاصه من القصص والخرافات وتسويغه بالعقل، وأن لا حاجة إلى افتراض وظيفة أسطورية وهبتنا الطبيعة إياها خصيصًا لتحقيق غايات حيوية، فما هي إلا المخيلة تكسو الأفكار ثوبًا من الصور المحسوسة، ونرى أن التيار الحيوي قاصر عن أن يصلنا بالله لعلو الله عن كل مخلوق علوًّا كبيرًا، وأن «تجربة الله» شعور بالحضور الإلهي سببه تنزل من قبل الله وإشعار لنا من لدنه، ومن الغريب أن برجسون بعد أن أعلن أن التصوف وسيلتنا لمعرفة الله معرفة تجريبية، عاد فقال إن النفس إذا ما وصلت إلى حال التصوف «لا تسأل نفسها إذا كان المبدأ الذي تتصل به هو العلة المفارقة للأشياء أو وكيلًا أرضيًّا عنها، ولكنها تكتفي بأن تحس أن موجودًا أقدر منها بكثير يتغلغل فيها دون أن تفني فيها شخصيتها»، وإذن فالتصوف لا يعطينا الله، بل إن برجسون يقول إن التصوف لا يعنى بالأمر. كيف إذن قرأ برجسون المتصوفين المسيحيين؟ لقد قرأهم خلال آرائه ومقاصده تحدوه رغبة خفية في استخدامهم لا في الأخذ عنهم، إنه يضعهم في رأس المتصوفة، ولكن لأي سبب؟ لميلهم إلى العمل، ونجاحهم في العمل، والعمل جوهر الوجود عند فيلسوفنا، أما عقيدتهم فلا يحفل بها، وهو يقول أن لا أهمية للعلم إن كان المسيح إلهًا أو إنسانًا، على أن تصفح كتبهم يبين لنا بوضوح أنهم أصحاب عقيدة معينة يؤمنون بها ويحيون بها ولها، وأن العمل — عند الذين زاولوه منهم — امتداد للنظر غايته نشر ملكوت الله، وأنهم إنما يطلبون الله ويدعونه، وأنهم يجدون الله، لا وكيلًا عن الله أيًّا كان هذا الوكيل، والمتصوف المسيحي الذي يتصوره دينه على الطريقة البرجسونية يخرج على المسيحية، أي الذي يبتر العقائد من الدين ويبتر «القصص» القائمة عليها هذه العقائد ليقنع بطلب انفعال صرف يجهل مصدره، لقد كان على الفيلسوف أن يأخذ التجربة كاملة، ولو اقتضته مراجعة فلسفته، تلك الفلسفة التي تنتهي في الواقع إلى نفس النتائج التي انتهى إليها المذهب «العقلي» الآلي الذي يعارضه برجسون، إذ أن مذهب الصيرورة لا يسمح بإثبات نفس دائمة، ويتصور الحرية مجرد تلقائية، والفعل الخلقي إما فعلًا ضروريًّا أو انفعالًا بحتًا بغير اختيار ولا إلزام، والدين مجرد انفعال أيضًا خلوًا من الإله الحق.

وقد نقول إن آراء برجسون معروفة يما سبق من الفلسفة؛ فالصيرورة وردت عند هرقليط وهجل، وتلقائية الحياة وردت عند شلنج ومين دي بيران وراڤيسون، وصدور الموجودات عن النزوة الحيوية شبيه بصدورها عن النفس الكلية عند أفلوطين، والاسمية ونقد العقل ركنان أساسيان في المذهب الحسي، والآراء في الأخلاق والدين ورد مثلها كثيرًا في العصر الحديث، ولكننا نقول إنه بالرغم من هذا يعد أكبر فيلسوف ظهر في فرنسا من عهد بعيد لما بذله من براعة في الجمع بين هذه الآراء والتجديد في عرضها، ولعله أكبر فيلسوف على الإطلاق في هذا النصف الأول من القرن العشرين، وقد كان نفوذه واسعًا عميقًا، فقد أذاع لونًا من التفكير وأسلوبًا من التعبير طَغَيَا على سائر فروع المعرفة العلمي وتجاوزها إلى الأدب، وكانت دلالاته التاريخية أنه قصد إلى إنقاذ القيم التي أطاحها المذهب المادي؛ فهو يبدو من هذه الوجهة وكأنه واحد من أولئك «الأبطال» الذين أشاد بهم، أولئك الذين يقومون في الإنسانية ليعلنوا إيمانهم بالروح وينبهوا إخوانهم على أن الكون المادي ليس وطنًا لهم وإنما «الكون آلة لصنع آلهة»،٣ وقد مضى هو بكل إخلاص في طموحه وتفكيره حتى بلغ إلى المسيحية الكاثوليكية، ولولا الاضطهاد المعروف الذي شن على اليهود لاعتنقها ولكنه أراد أن يظل بين المضطهدين، وتمنى لو أن قسيسًا كاثوليكيًّا يسير في جنازته ويصلي على جثمانه،٤ كيف اجتمعت في عقله عقائد المسيحية وفلسفة الصيرورة والاسمية؟ لا ندري، ولكن الذي ندريه هو أن الفلسفة شيء لا يذكر بالقياس إلى هذا التوجه إلى الله في الوقت الرهيب الذي يسبق الخروج من هذا العالم.

(٦) أندري لالاند (١٨٦٧)

أستاذ المنطق بالسوربون، ولما أنشئت الجامعة المصرية طلبت إليه أن يدرس بها فتخرج على يديه الفوج الأول من طلاب قسم الفلسفة، ثم عادت فاستقدمته مرتين فتخرج على يديه فوجان آخران، وجميع الذين عرفوه، من أساتذة وطلاب، يحفظون له أجمل الذكرى لسجاياه العالية، وعنايته الأبوية بالطلاب بالقاهرة وبباريس، ومشاركته الفعالة في إقرار التقاليد الجامعية في الجامعة الناشئة على العموم وفي كلية الآداب على الخصوص.

آمن بالأخلاق منذ أن شرع يفكر لنفسه، وكان مذهب التطور هو السائد حينذاك في العلم والفلسفة، وكان هربرت سبنسر حامل لوائه في الميدانين، إذا كانت كتبه عبارة عن تلخيص العلوم تبعًا لقانون التطور، وقد بلغ ضجيج الأشياع والخصوم أقصى حد، فأراد الأستاذ لالاند أن يدير الرسالة التي يتقدم بها للدكتوراه على «الأخلاق والتطور» وهو يشعر شعورًا قويًّا بتعارض أساسي بين مدلول هذين اللفظين، وأخذ ينعم النظر في المسألة، فإذا هي تتشعب إلى مسائل متصلة بها، وإذا هو يلاحق هذه المسائل، حتى انتهى بعد سنين سبع (١٨٩٢–١٨٩٩) إلى كتاب ضخم جعل عنوانه هكذا: «في الفكرة الموجهة للانحلال ومعارضتها للفكرة الموجهة للتطور في منهج العلوم الطبيعية والأخلاقية»، لكل من لفظي الانحلال والتطور معنى جرى به استعمال سبنسر: التطور Evolution ترقي الكائن من التجانس إلى التنوع وتكامله على هذا النحو، وإن يكن اللفظ في حد ذاته لا يدل على غير التحول أو الانقلاب من حال إلى حال أيًّا كانت، والانحلال Dissolution عكس التطور، أي تفرق العناصر المؤتلفة، بل عودة العناصر المتنوعة إلى التجانس، غير أن الأستاذ لالاند وجه لفظ الانحلال إلى معنى إيجابي مختلف عن هذا المعنى السلبي، فدل به على ارتداد المتنوعات المتنازعات إلى وحدة عليا هي ترقٍّ وتقدم، على ما سيتبين بعد حين، ولكن الناس كانوا قد ألفوا المعنى السلبي وحده كمدلول للفظ الانحلال، فمكان هذا اللفظ مدعاة لشيء كثير من التردد وسوء الفهم لدى قارئي الرسالة، ثم إن الرسالة كانت مثقلة بشواهد مستمدة من علوم الطبيعة والحياة والاجتماع، وكان تقدم هذه العلوم يبطل كثيرًا من هذه الشواهد، وكان الأستاذ لالاند دائب التفكير في كل ذلك بالطبع، فلما آن الأوان عاد إلى رسالته بالتنقيح والحذف والإيجاز، مع محافظته على الفكرة الأساسية، وأخرج طبعة ثانية بعنوان «الأوهام التطورية» Les illusions évolutionistes (١٩٣٠ في ٤٦٠ ص) وهو عنوان أضيق من محتوى الرسالة، إذ أنها لا تقتصر على تبديد بعض أخطاء وقعت فيها فلسفة التطور، ولكنها تشتمل على قسم تركيبي هو مذهب المؤلف وهو إذن القسم الأهم، في هذه الطبعة الثانية أبدل كلمة Dissolution التي تعني الانحلال بكلمة Assimilation أي التمثيل أو التحول من الاختلاف إلى التشابه، كتمثيل الكائن الحي غذاءه، وبكلمة Involution وهي تستعمل بالإنجليزية منذ منتصف القرن التاسع عشر بمعنى مضاد لمعنى Evolution وبنوع خاص بمعنى اضمحلال الكائنات المنوعة وانحطاطها، ولكن الأستاذ لالاند يريد بها المعنى الذي أراده في الأصل وهو ارتداد المتنوعات إلى ضرب من التجانس العالي أو تراجعها إلى وحدة عليا، وقد أضاف هوامش عديدة تناول فيها نتائج مؤلفات أحدث عهدًا، وبين موقفه الخاص، وتعد رسالته من أهم المصنفات في الفلسفة الفرنسية المعاصرة لما امتازت به من سمو المقصد ودقة التحليل وقوة الحجة وبعد المرمى في نصر الروحية على المادية.

يعتبر الأستاذ لالاند مذهب التطور مجرد فرض، ثم يسلم بأنه الآن أقرب الفروض إلى الحقيقة، وأن تاريخ الحياة على وجه الأرض يتلخص في أنها قوة تعمل على إيجاد كائنات أكثر فأكثر تركزًا وملاءمة مع البيئة، وأنها منذ أدنى صورها وأبسطها توكيد للفردية واجتهاد في تنميتها على حساب المادة البحتة وحساب سائر الأحياء؛ ومن ثمة تنازع مستمر للبقاء، بيد أن هذا المذهب الواسع تعوزه الدقة ويشوبه التناقض، وهو مع ذلك، أو من أجل ذلك، رائج لدى الجمهور لأنه يخاطب المخيلة، إذا كان التطور أمرًا مشاهدًا، فمشاهد أيضًا أن الكائن الحي يبذل مجهودًا هائلًا في دفع العدوان عليه، وأنه بذلك يحافظ على كيانه فيصون نوعه من التغير، على أن هنالك ما هو أعظم خطورة: إذا كان التنوع قانون الحياة، فإن لعالم الجماد قانونًا آخر لم يعره أصحاب التطور ما يستحقه من عناية، إن الطبيعة بأسرها تتقدم في اتجاه محتوم هو تناقض الاختلاف وبوجه خاص تناقص التفاوت بين الطاقة والكتلة، أي إنها تتقدم ببطء صوب ما يسميه العلماء موتها الطبيعي، صوب حال يتلاشى فيها الاختلاف، وتتلاشى الطاقة، ويتحقق توازن تام لا يختل من تلقاء نفسه بعد ذلك، والحياة مسوقة إلى هذه النهاية، فالقانون الأعم قانون تساوٍ وتوازن، وسير الطبيعة في جملتها تراجع لا تتطور، والذي ينحاز إلى جانب الحياة، ويصطنع لنفسه مذهبًا ما تنم عليه من روح انتشار وفتح، ينحاز إذن إلى قضية خاسرة.

هذا التراجع تنفر منه الغريزة الحيوية وتفزع من نهايته المحتومة التي هي القضاء على الحياة، ولكن العقل يرضى عنه كل الرضا، والعقل لا يدرك إلا الماهية الثابتة، ولا يقدر أنه فسر الأشياء إلا إذا ردَّها إلى ضرب من الوحدة والمساواة، «من الوجهة المنطقية، كل فارق فهو أمر حادث يدعو للعجب ويتطلب تفسيرًا بل تصحيحًا، إذا رأيت برجين غير متساويين فوق بناء بعينه، وسطحين مختلفين في بقعة من الماء بعينها، وميلين متعارضين في شعب بعينه، فإن عقلي يبحث حتمًا عن سبب هذا التباين»؛ وعلى ذلك فبين العقل والجماد الثابت المتساوي اشتراك ومماثلة، وبينه وبين الحياة المتغيرة المتنوعة تقابل ومخالفة، فإن النمو — وهو الخاصية الأساسية للحياة — شيء غامض قليل المعقولية، إن العقل وظيفة تمثيل، إنه يعمل على تمثيل الأشياء لذاته بأن يطبق عليها معانيه ومبادئه فيجعلها معقولة، وعلى تمثيل الأشياء بعضها لبعض وبذلك يفسرها التفسير العلمي، وعلى تمثيل العقول بعضها لبعض وبذلك يحقق موضوعية العلم، فالعمل العقلي تراجع؛ لأن للكائن العاقل خاصية لا توجد إلا له وحده وهي أنه لا يعمل بما هو عاقل إلا إذا تصور العمل وقدر له قيمة، فهو في جميع أفعاله المروية يصدر عن «أحكام تقويمية» تقدر قيم الأشياء وتقرر «الأفضل» أو «ما يجب أن يكون» وتبدو في ثلاث صور: «الحقيقة» في مجال النظر، و«الخير» في مجال العمل، و«الجمال» في مجال الإحساس، فأما الحقيقة فتبدو في التمثيل الذي ذكرناه، وأما الخير فهو تمثيل كذلك إذ أن القاعدة الخلقية حكم يصدره العقل بالعدول عن الغريزة وعن العاطفة الخاصة إلى أمر رفيع مشترك بين الناس، وجميع المذاهب الأخلاقية تقويمية بالضرورة، وأما الجمال أخيرًا فهو تمثيل وتقويم أيضًا مهما يظن بأن قوامه الذوق الشخصي والأصالة الحرة؛ إذ أن الفن يرمي دائمًا إلى التعبير عن فكرة كلية أو عاطفة مشتركة.

ويظهرنا التاريخ على أن العقل قد عمل على توجيه التقدم الإنساني، في الفرد والمجتمع، وجهة معارضة تمام المعارضة للغريزة والتطور المتنوع، أجل لقد كان هذا العمل ضعيفًا بطيئًا متفاوت الحظ من النجاح، ولكنه كان مستقيمًا متصلًا في تصميم وعناد، إن مذهب التطور يثير الغريزة ويبرر جموحها من حيث إنها مظهر القوة الحيوية، ويحاول أن يرد إليها استعداداتنا العقلية والخلقية على أن هذه الاستعدادات نماء الغريزة وازدهارها، فيخلط بين دائرتين لا اشتراك بينهما، ويتجاهل ثنائية الإنسان بالرغم من إلحاح الأخلاقيين فيها، ولما كان لا يميز بين الأخلاق والبيولوجيا فإنه ينظر إلى الفتح والاستعمار كأنهما مظهران سائغان من مظاهر الحيوية، ويقدس الأنانية القومية، ويعد تقدمًا ورقيًّا تنظيم المجتمع على غرار التنظيم البيوولجي وما ينطوي عليه من تفاوت الأجزاء وإخضاع بعضها لبعض، فلا يرى سبنسر من غاية قصوى سوى ازدياد الحياة، ولا يرى دروين من وسيلة لتحسين الإنسان سوى مصلحة الفرد وانتخاب الأصلح كما في الحيوان، ومن هنا نشأت أخطاء أو أوهام هي أبلغ أخطاء عصرنا ضررًا، أما العقل فقد اتجه دائمًا إلى التقريب بين الناس، وإلى تكوين مجموعة من الحقائق تؤلف تراثًا مشتركًا بين الجميع وإلى الاستعاضة عن العلاقات القائمة على القوة بعلاقات صادرة عن العدالة، وإلى سن قوانين تستطيع الإدارات جميعًا قبولها وتنفيذها طوعًا، وإلى إعلاء قدر الخيرات العقلية والروحية، وهي التي تحتمل المشاركة فيها دون نقصان أو زوال، بل إن حظ كل فرد منها يتعاظم كلما تكاثر عدد المشاركين فيها، وإلى تحويل ما في الحياة من شهوة عمياء ونزوع نهم للفتح والتملك إلى محبة مستنيرة لإخواننا في الإنسانية، بتأثير العقل انتشرت فكرة المساواة بين الأفراد في الحقوق والواجبات القانونية والسياسية، فدب الوهن في الطبقات الاجتماعية وتحللت رويدًا رويدًا في الهند ومصر وروما، في العصر القديم والعصر الوسيط، وبتأثير العقل استحال نظام الأسرة من السلطة إلى الحرية، وتدرجت حال المرأة من الانزواء والخنوع إلى المساواة بالرجل، وشاعت فكرة السلام العام والاتحاد بين الدول من المثقفين إلى الجمهور، فليست الأفكار الأخلاقية مجرد أفكار، ولكنها قوى تعمل في الواقع وتكيف الطبيعة الإنسانية والمجتمع الإنساني بالرغم من مقاومة الأنانية البيولوجية، وهكذا يوجد الفكر المروي في هذا الميدان نوعًا جديدًا من التراجع، أو هو يدفع بالتراجع إلى الأمام على نحو خاص به هو وبوسائل جديدة، فإذا بالتراجع هو في حقيقة الأمر القانون العام للطبيعة، وإذا بمذهب التطور، وقد ظن أنه يجد في دائرة الحياة خير ميدان لتأييد مبادئه، يفوت أهم ما في الدائرة الإنسانية وأدعى ما يستدعي النظر.

بعد هذا الوصف للعقل والدفاع عنه، قضى الأستاذ لالاند حياته في تعمق وجهة نظره وتأييدها، يحدوه الإيمان بخطرها البالغ في بناء العلم وتوجيه الحياة وتدبير السيرة، فنشر كتابًا في «نظريات الاستقراء والتجريب» (١٩٢٩). La théorie de ľinduction et de ľexpérimentation هو سجل نفيس للغاية يعرض هذه النظريات، ويمحصها، وينتهي إلى أن أساس الاستقراء التعميم، وأن التعميم خاصية أولية للفكر الإنساني، وأن التمثيل أو التراجع قانونه، ونشر أخيرًا كتابًا عنوانه «العقل والمعايير» (١٩٤٨) La raison et les normes كان قد ألقاه دروسًا قبل عشرين سنة، يرد فيه على الفلاسفة التجريبيين الذين يذهبون إلى أن المعقولات الرئيسية، كالزمان والمكان والعلة والقانون وما إليها، وحتى العلوم الرياضية مستفادة من التجربة، وأن تاريخ المعرفة يدل على أن مفهوم هذه المعقولات قد تغير باستمرار، ويخرجون من هذا إلى إنكار قيمة العقل، فيسلم الأستاذ لالاند بالمقدمتين، وينبذ النتيجة، وذلك بملاحظة أن تغير مفهوم المعقولات يسير سيرًا تراجعيًّا، وأن التراجع إذن هو القانون الأساسي، وأنه يجب أن يرد إلى مبدأ ثابت هو الذي يسمى عقلًا أولًا بالذات، أو عقلًا مكوِّنًا Raison Constituante (بكسر الواو) لأنه المبدأ الواضع للقيم وللقواعد في النظر والعمل، والمنتج للمعقولات، والمشرف على تطورها، في حين أن جملة المعقولات، التي يظنها التجريبيون كل العقل، أحرى بها أن تسمى بالعقل المكوَّن (بفتح الواو) القابل للتغير دون مساس بجوهر العقل (Raison constituée).

وللأستاذ لالاند، في المجلات الفلسفية، من فرنسية وإنجليزية، مقالات عديدة فيها توجيهات جديدة ومراجعات على الكتب المعاصرة، وكلها ترمي إلى الغرض نفسه، ولعل أعظم جهوده شأنًا وأبعدها أثرًا ذلك «المعجم الفلسفي» الذي أخرجه لأول مرة في سنة ١٩٢٦، وأخرج طبعة خامسة له منقحة ومزيدة في سنة ١٩٤٧، فقد اضطلع به سعيًا إلى التوحيد الفعلي بين العقول بإيجاد لغة يتخاطب بها المفكرون وهم آمنون سوء التفاهم، مما يقتضي من كل أن يعدل عن عادات وآراء خاصة إلى عادات وآراء مشتركة، فتتفق العقول، ومن ثمَّة تتفق الإرادات، كان يحرر التعريفات، ويضع عليها الملاحظات، ثم يعرضها على أعضاء «الجمعية الفرنسية للفلسفة» ومراسليها في الخارج، فيتلقى تعقيباتهم، ويعيد تحرير التعريفات والملاحظات، حتى بلغ بها الغاية في الدقة والإحكام وجاء معجمه أداة لا يستغني عنها مشتغل بالفلسفة عن قرب أو بعد، فالأستاذ لالاند كان في جميع أدوار حياته داعية للتمثيل والتوفيق عاملًا لهما.

(٧) الفلسفة الوجودية

إلى جانب التيار البرجسوني والمدارس المعروفة توجد في فرنسا الآن محاولات ثانوية، وإن لم تخلُ من مقدرة، تجمع تحت اسم «الوجودية» لاتفاقها على أن الإنسان محور تفكير الإنسان، وأن منهج هذا التفكير النظر في الإنسان على ما «يوجد» لا تحليل ماهيته المجردة،٥ أجل ليس هذا المنهج جديدًا؛ فقد تعد سقراط وأفلاطون والقديس أوغسطين وبسكال وجوديين، ومن قبيلهم موريس بلونديل (١٨٦١) الأستاذ بجامعة إكس في كتابه «العمل» وجبريل مرسيل (١٨٦٩)، وكلهم يؤمنون بالعقل وبموضوعية المعرفة ويفسرون الإنسان طبقًا للمبادئ العقلية، أما الوجودية الجديدة فقد نشأت احتجاجًا على الإسراف في العقلية كما يشاهد عند هجل الذي يرد الموجود إلى الماهية المجردة فيغفل كل ما فيه من إنِّية أو فردية، فهي لاميتافيزيقية، تنكر أن يكون الوجود عين الماهية، وتنفر من المذهب والمذهبية وتقتصر على وصف الظواهر النفسية، فلا تعين قيمة المعرفة بالإضافة إلى «الحقيقة» بل طبقًا لما يبدو من قيمة حيوية في ظواهر الشعور الخالصة من الانفعالات والإرادات والآراء المكتسبة من المجتمع، ومع اتفاق الوجوديين المعاصرين على هذا المنهج نراهم يختلفون في نقطتين رئيسيتين: إحداهما خاصة بالمعرفة، والأخرى خاصة بتفسير الإنسان، ففي النقطة الأولى يأخذ بعضهم بالتصورية فلا يجعل فرقًا بين العالم الخارجي والعالم الداخلي بحجة أن كل ظاهرة طبيعية فهي في الوقت نفسه ظاهرة نفسية وأن «وجودها» كله قائم في كونها حالة نفسية، بينما البعض الآخر يرى أن الظاهرة الطبيعية يقارنها في الوجدان شعور بالخارجية فيميز بين المجالين ويحاول تبرير موضوعية المعرفة، وفي النقطة الثانية ينظر بعض الوجوديين بنوع خاص إلى ما سماه پسكال بعظمة الإنسان المتمثلة في عقله وفي طموحه إلى المثل الأعلى، فينتهي إلى الإيمان، وينظر البعض الأخر إلى ما سماه پسكال بحقارة الإنسان المتمثلة في أهوائه ورذائله وأمراضه الجسمية والنفسية، فينتهي إلى المادية والإلحاد، ولعل هؤلاء يبدءون بالإلحاد، ويبدأ أولئك بالإيمان تبعًا لمزاجهم الجسمي والعقلي، ثم يستخدمون المنهج الوجودي للوصول إلى ما يريدون، وهذا المنهج كثير الشيوع في العصر الحاضر: عليه عول ڤوندت وكولبي وهوڤدنج ونيتشنر في علم النفس، وتشارلس پيرس ووليم جيمس في البراجماتزم، وچون ديوي في اعتباره المعرفة أداة في خدمة الحياة، وشيلر في مذهبه الإنساني، وغيرهم ممَّن يحذون حذوهم.٦
وأشهر الوجوديين الفرنسيين الآن، أي أكثرهم إنتاجًا وضجيجًا، جان پول سارتر الذي يعرف الوجودية بأنها مذهب إنساني، ويلح في تلحيل النواحي القذرة البشعة من الإنسان في قصص تلقى رواجًا كبيرًا٧ وهو مادي ملحد يظن أن الإلحاد يستلزم القول بأن الوجود في الإنسان سباق على الماهية، أو أن «الإنسان يوجد أولًا ويعرف فيما بعد» من حيث إنه لا يوجد إله يتصور الماهية الإنسانية ثم يحققها كما يتصور الصانع ماهية الآلة ثم يصنعها أو كما يتصور كنط الماهية الإنسانية «سابقة على الوجود التاريخي الذي نصادفه في الطبيعة»، هذا موقفه الميتافيزيقي، وهذا الموقف يعود إلى القول بأنه يجب البدء من «الذاتية» لأجل دراسة الإنسان فينظر إليه كما هو موجود في بيئة معينة وفي كل فرد على حدة دون اعتبار للمعنى الكلي الذي يقال إنه يمثل الماهية والذي يدرجون تحته «إنسان الغابات وإنسان الطبيعة والبورچوي» على السواء، ومتى كان الوجود سابقًا على الماهية لم يبقَ في الإنسان شيء يعين سلوكه ويحد حريته بل كان حرًّا كل الحرية يعمل ما يشاء ولا يتقيد بأي شيء، إذ أن الوجودية «لا ترى أن بوسع الإنسان أن يفسر الأشياء بنفسه كما يشاء، وأنه محكوم عليه في كل لحظة أن يخترع الإنسان» فما الإنسان «إلا ما يصنع نفسه وما يريد نفسه وما يتصور نفسه بعد الوجود»، بهذا يظن سارتر أنه يحقق الغرض الذي يرمي إليه وهو إنقاذ الحرية من الجبرية، فيصف الوجودية بأنها مذهب تفاؤل لأنها تضع مصير الإنسان بين يديه «فتجعل الحياة الإنسانية ممكنة».

هذه الوجودية ما هي إلا لون من ألوان المذهب الحسي، فإنها تنكر المعنى الكلي وتغلو في الإنكار حتى تأبى أن تقيم وزنًا لوجوه الشبيه بين أفراد النوع الواحد، وهي وجوه بادية للعيان، فلا تنظر إلى الجزئي إلا بما هو كذلك فتعتبر أن الماهية هي الإنية أي جملة الأعراض المخصصة للجزئي، فتقول إن الوجود سابق على الماهية بهذا الاعتبار، ولا يفطن القائل إلى أن الوجود هو بالضرورة وجود شيء أي ماهية وأن الإنية تعيين الماهية الحاصلة بالفعل من نواحٍ وبالقوة من نواحٍ أخرى، فإن الإنيات وجوه مختلفة لما في الماهية من قوى مختلفة، وقديمًا قال أرسطو إن القوى النطقية غير معينة إلى واحد ولكن في مقدروها الميل إلى ناحية أو إلى أخرى، وهذا أصل الحرية التي هي القدرة على العمل في نطاق الماهية وعلى حسبها، ولا وجه للإغراب بعد هذا بوضع الوجود قبل الماهية!

١  وبالفعل يذهب جبرييل تارد (أحد الاجتماعيين الفرنسيين المعاصرين) إلي أن ما يحدث هو أن يبتدع أحد الأفراد بدعة فيتبعها البعض بفعل الإيحاء والمحاكاة ويقاومها البعض بفعل اعتياد القديم، ثم تحدث ملاءمة تصير بها البدعة حالة اجتماعية.
٢  رسالته الثانية محررة باللاتينية وعنوانها «نظرية أرسطو في المكان».
٣  آخر جملة في كتاب «ينبوعا الأخلاق والدين».
٤  ورد كل هذا في وصيته المؤرخة ٨ فبراير ١٩٣٧ والتي أذاعتها زوجته بعد وفاته.
٥  ويسمى هذا المذهب Existenti lisme وهو غير المذهب الذي صادفناه في العصر الوسيط وسميناه بالوجودية Réalism لقوله بوجود واقعي للماهيات المجردة، بل إنه معارض له منكر للمجردات.
٦  ومن الوجوديين البارزين «سورن كير كجارد» الدنمركي (١٨١٣–١٨٥٥) الذي ترجمت كتبه أخيرًا وشاعت أفكاره بعد أن ظل تأثيره قاصرًا على بعض الأوساط السكندينافية والألمانية، كان سوداويًّا مرهف الحس منطويًا على نفسه شديد التدين، صار قسيسًا بروتستانتيًّا وهاله ما وجد في بيئته من تناقص ورياء إذ تدعي أنها مسيحية ولا تعمل بتعاليم المسيح، ورجال الدين فيما يرددون هذه التعاليم ويعيشون كسائر الناس فتبقى أقوالهم عديمة الأثر لانعدام الحياة منها، فألم وحزن وثار على الكنيسة الرسمية والفلسفات السائدة وبخاصة الفلسفة الهجلية التي توحد بين الوجود والماهية المجردة، أما هو فينظر في الإنسان (أو في نفسه هو) على أساس أن المطلوب مذهب يستولي على الإنسان في إنيته، فوجد أن النظر العقلي لا يسفر إلا عن مفارقات، وأن الإنسان أناني، ومن المحتوم أن يقع في اليأس، وأن الأخلاق والفن قاصران عن الوفاء بالغرض لأنهما ينصان على قواعد عامة لا تمس النفس، وأن المسيحية وحدها تضع علاقة شخصية بين الفرد والله، فيجب اعتناقها من صميم النفس مهما تبد معارضة العقل (في عرفه) والعالم والزمان، وقد بلغ كبير كجارد في التحليل والتعمق شاوًا بعيدًا جعل بعض النقاد يضعونه في صف پسكال.
٧  كتبه الفلسفية: «المخيلة» «الخيالي» «الوجود واللاوجود».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤