الموضوع والمنهج والتقسيم والدلالة١

«الذكريات» ما تَبقَّى من السيرة الذاتية. هي ما رَسَخ في الذاكرة، ولم يَطوِه النسيان. أمَّا السيرة الذاتية فهو سِجلٌّ لتاريخ حياةٍ، يمكن أن يتم عن طريق شريط تسجيلٍ، لا حياة فيها، يعتمد على التوثيق والتنسيق والاختيار، ما يدخل في السيرة وما لا يدخل، الحَيرة بين الذاتي والموضوعي، رؤية سِجِل الذاتية الشعورية أو اللاشعورية، الرسالة التي يُريد أن يُوصلها للناس. أمَّا «يوميات» فهو اللفظ الذي استعمله جابريل مارسيل في «يوميات ميتافيزيقية»، وعثمان أمين في جزء من «الجوانية». والعنوان «ذكريات» ليس ذكرياتي حتى أُضفي طابعَ الموضوعية عليها؛ فالعصر يتكلم من خلالي، هموم الفكر والوطن.

وتتداعى الذكريات بطريقتَين: الأولى زمنيًّا، من الطفولة الأولى حتى الشيخوخة الأخيرة في مَراحلَ زمنيةٍ تُميِّزها مَراحلُ التعليم أو الأسفار أو النضال السياسي على النحو الآتي:
  • (١)

    الطفولة: الكُتَّاب، المدارس الأولية والابتدائية والثانوية (١٩٣٥–١٩٥٢م).

  • (٢)

    التعليم الجامعي (١٩٥٢–١٩٥٦م).

  • (٣)

    السفر إلى فرنسا (١٩٥٦–١٩٦٦م).

  • (٤)

    الأستاذ الجامعي (١٩٦٦–١٩٧١م).

  • (٥)

    السفر إلى أمريكا (١٩٧١–١٩٧٥م).

  • (٦)

    إعادة إشهار الجمعية الفلسفية المصرية ومقاومة الانقلاب على الناصرية (١٩٧٦–١٩٨٢م).

  • (٧)

    التدريس في المغرب والبحث الدولي في اليابان (١٩٨٢–١٩٨٧م).

  • (٨)

    رئاسة القسم ومحاولة تكوين مدارس فكرية (١٩٨٧–١٩٩٥م).

  • (٩)

    «التراث والتجديد» وأحزان خريف العمر (١٩٩٦–٢٠١١م).

  • (١٠)

    الثورة المصرية، والربيع العربي (٢٠١١–٢٠١٨م).

  • (١١)

    كل نفسٍ ذائقةُ الموت (٢٠١٨م–…).

والطريقة الثانية، التقسيم الموضوعي للذكريات، مثل: الجامعة، السياسة، الاستبداد، الدين، الفن، الوطن، الهزيمة والنصر، القومية العربية، الحب. وعَيبُ هذه الطريقة تجاوُزُ التطوُّر الزماني، وتقطيعُ التجربة الذاتية عَبْر مَسار العُمر لمعرفة مدى نُضجها وكأنَّ صاحبها قد مات. هذه الطريقة أَشبَه بالجسد الحي الذي يُقطَّع بعد الذبح حِرصًا على الأجزاء، وليس خوفًا على الحياة. قد تُفيد تعليميًّا، ولكنها تقضي على الحياة العُضوية للجسد.٢ كما تبدو هذه الطريقة وكأنها تأليفٌ في عدة موضوعاتٍ مُتناثرة، وفي هذه الحالة تقضي على مَوضوعيَّتها وعِلميَّتها.

وفي كلتا الطريقتَين تأتي الذكريات وتذهب لاإراديًّا في سَرَيانها، وإن كان يمكن أن تبقى في خطوطها العريضة، مَراحِلها أو موضوعاتها؛ فالذكريات تعوم في مُحيطٍ من الحرية، وتسبح مع التيار، لا يمكن إيقافها بالقوة إن أتت، ولا يمكن استدعاؤها إن هَربَت؛ فالشعور تيَّارٌ جارف كما يقول هوسرل وبرجسون: مَيزَتها الصدق في الحضور والغياب.

ومن ثم يكون السؤال: هل الذكريات علم أو فن؟ فلسفة أم أدب؟ هي كلاهما لأنها تحليلٌ نفسي لصاحبها؛ فهي أقرب إلى علم النفس وتَداعي المعاني والصور. وهي فنٌّ لأنها لا تخضع إلا لفن الكتابة وفن الرواية. ونموذج ذلك «قصة نفس» و«قصة عقل» و«حصاد السنين» لزكي نجيب محمود مُقارنةً ﺑ «حياتي» لعبد الرحمن بدوي التي هي أقرب إلى السجِلَّات والمُدوَّنات؛ لذلك كانت «اليوميات» إحدى وسائل كتابة الذكريات. يكتب الذكرياتِ الأُدباء مثل لويس عوض، والفلاسفة مثل رسل وياسبرز وسارتر، والعلماء مثل أينشتاين. والفنون التشكيلية سِيَرٌ ذاتية لأصحابها؛ مثل تماثيل نهضة مصر لمختار مُؤرِّخًا لثورة ١٩١٩م بالفن ومُعبِّرًا عنها بالحجر والإزميل، وموسى لمايكل أنجلو؛ فعندما تكتمل «ذكريات» من أي نوع ستكون؟

العنوان «ذكريات» وليس الذكريات؛ فربما لم أَتذكَّر كل شيء؛ فالاسم النكرة أكثر دلالة من المعرفة. وربما يستحيل على الإنسان أن يَتذكَّر كل شيء، وتلك فضيلة النسيان عند برجسون، ذكرى تأتي وأخرى تذهب وإلا لانفجرت الذاكرة لِكثرة ما اختُزن فيها من ذكريات. وإذا تذكَّرها فلن يستطيع أن يكتب كل شيءٍ فيها حياءً وخَجلًا في مجتمع ما زال الحب بكافة أنواعه: الحسي والمعنوي، الجسدي والروحي، ما زال غير مقبولٍ صراحة كما يُغنِّي عبد الوهاب في أغنية «عاشق الروح» في آخر فيلم «غزل البنات».

والذكريات تجاربُ ذاتية، قد يعيشها شخصان قريبان مثل الأَخوَين، ولكنهما يُعبِّران عنها بطريقتَين مختلفتَين مثل يوسف وإخوته؛ فالذكريات لا تتعلق فقط بالذاكرة، هي إحدى وظائف، العقل، ولكنها ترتبط بالعواطف والانفعالات بل والمصالح والأهواء؛ فالحاضر هو الذي يتحكَّم في الماضي كما يتحكَّم الماضي في الحاضر؛ فالذكريات ليست فقط روايةً للقديم بل هو تحريكٌ من الجديد.

وهي ليست «ذكرياتي» لأن الموضوع ليس ذاتيًّا خالصًا، إنما هي «ذكريات» أكثر من ثمانين عامًا؛ فهي ذكرياتٌ عن عصرٍ بأكمله: سبعة عشر عامًا قبل الثورة، ثورة ١٩٥٢م وتقلُّباتها من الناصرية (١٩٥٦–١٩٧٠م)، والانقلاب عليها منذ ١٩٧٠م حتى بعد اغتيال رئيس الجمهورية عام ١٩٨١م، ثم استمر الانقلاب على الناصرية لأن الرأسمالية ليست جريمة حتى الثورة الشعبية في يناير ٢٠١١م والتموُّجات فيها بين الإسلاميِّين والعسكريِّين والفلول، جمعًا بين الاستبداد والفساد، ووضعًا للإسلاميِّين واليساريِّين في السجون والمُعتقَلات، انتظارًا لثورة الجياع أو الجرابيع والعشوائيات، والعودة إلى الناصرية روح الثورة الأَوَّل، وتحقيقًا لشعار الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

وليس العنوان «حياتي» أو «سيرتي الذاتية»؛ فكلها تُحوِّل الذكريات إلى جانبٍ ذاتي خالص، وتنسى أنها تعبيرٌ عن عصرٍ بأكمله يُمكِن الرجوع إليه. وليست «يوميات» تُدوِّن أحداثَ يومٍ بيوم؛ لأن هذه الأحداث لها مَسارٌ موضوعي. وليست مُجرَّد حوادثَ مُتفرِّقة، وإن كان أحمد رامي في الإهداء يقصد حبيبته؛ فربما أقصد أنا مصر، حبيبتي الكبرى، بالرغم من كل ما طرأ عليها من تطوُّراتٍ جَعلَت الناس تندم على أيام زمان أو الزمن الجميل؛ فهذا واجب المُثقَّف الوطني الذي يحمل «هموم الفكر والوطن». ظنَنتُ أنها ستأخذ وقتًا طويلًا؛ عامًا تقريبًا، فلمَّا قَفَزتُ على الجزء الأخير من «التراث والتجديد» «التفسير الموضوعي»، كما قَفَز «هيجل والهيجليون الشبان» من قبلُ، بدأتُ في الكتابة لاستراحة مُحاربٍ من توثيق الآيات والموضوعات التي ربما أكون قد نَسِيتُها حتى أُصِبتُ بضعف النظر أو إحساسًا بِدُنوِّ الأَجَل.

وإذا كانت الذكريات هي استدعاء الماضي، والماضي مُنصب في الحاضر، فيتداخل الماضي في الحاضر، الموتى مع الأحياء. تذكُّر الموتى ليس به حرج، ولكنَّ الحرج مع الأحياء في المُراجَعة والتأويل المُضادِّ على أَحسنِ تقدير، وفي الخصام أو التقاضي على أسوأ تقدير. وفي تذكُّر الأحياء في الحاضر تشتد أزمة الاختيار بين الذكريات: أيها يُذكر، وأيها لا يُذكر؛ فتتدخل الإرادة في انتقاء الذكريات منعًا للإحراج. وربما يختلط المستقبل أيضًا مع الماضي والحاضر في ذِكرِ ما كان الإنسان يوَدُّ فِعله ولم يفعله وهو قد فعله بالفعل. وهنا تتداخل الأبعاد الثلاثة للزمان؛ الماضي والحاضر والمستقبل. وقد تُنسى بَعضُ تجاربِ الحاضر، فلا تدخل في الذكريات التي تحتوي على التجاربِ الحية التي تبقى في الذاكرة، سواءٌ في الماضي أو في الحاضر.

والتقسيم إلى إحدى عشرة مرحلةً هو تقسيمٌ زمني وموضوعي في آنٍ واحد؛ فبدأت بالموضوع والمنهج والتقسيم والدلالة، ثم أوَّلًا: الطفولة: الكتَّاب، المدارس الأولية والابتدائية والثانوية (١٩٣٥–١٩٥٢م) حيث بدأ الوعي بالعالم عن طريق اللعب والفن والفكر. ثانيًا: التعليم الجامعي (١٩٥٢–١٩٥٦م) حيث بدأ الوعي العلمي مُتزاوجًا مع الوعي الوطني، والتطلُّع إلى أُفقٍ أوسع. ثالثًا: السفر إلى فرنسا (١٩٥٦–١٩٦٦م) حيث توازنت الشخصية بين الدين والدنيا، تجارب الأنا والآخر، وصياغة مشروع «التراث والتجديد» (بالفرنسية). رابعًا: الأستاذ الجامعي وفلسفة المقاومة (١٩٦٦–١٩٧١م) ودرء الهزيمة أو النكسة في ١٩٦٧م بعد النكبة في ١٩٤٨م وقبل صفقة القرن في ٢٠١٧م أشبه بنداء إلى الأمة الألمانية لفشته لمقاومة نابليون الذي احتل ألمانيا. خامسًا: السفر إلى أمريكا (١٩٧١–١٩٧٥م)، لمعرفة العالَم الجديد؛ أمريكا، تدريسًا ودراسة، قراءات وزيارات وتوسيع المعرفة بالدين من المسيحية إلى اليهودية، والفلسفة، من الفلسفة الأوروبية إلى الفلسفة الأمريكية. سادسًا: إعادة إشهار الجمعية الفلسفية المصرية ومقاومة الانقلاب على الناصرية (١٩٧٥–١٩٨٢م) خاصةً بعد مظاهرات يناير، ١٩٧٧م «انتفاضة الحرامية»، وإعادة إشهار الجمعية الفلسفية المصرية عام ١٩٧٦م بعد أن أَسَّسَها منصور فهمي باشا في ١٩٤٤م وتَوقَّفَت بعد الحرب العالمية الأُولى، وزيارة القدس نوفمبر ١٩٧٧م لإيجاد أحلافٍ خارجية، وكامب ديفيد ١٩٧٨م، واتفاقية السلام ١٩٧٩م، وطرد أساتذة الجامعات والصحفيِّين، وتحويلي مُوظَّفًا في وزارة الشئون الاجتماعية، وسجن هيكل، وإبعاد الأنبا شنودة إلى الصحراء في سبتمبر ١٩٨١م مما كلَّفه حياته في أكتوبر من نفس العام. وقد كتبتُ «مقدمة في علم الاستغراب» عام ١٩٨٢م وأنا خارج الجامعة وفي ذهني وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. سابعًا: فلسفة المشرق والمغرب، بالتدريس في المغرب وتَولِّي الإشراف على البحوث الدولية في جامعة الأمم المتحدة في اليابان (١٩٨٢–١٩٨٧م). ثامنًا: رئاسة القسم ومحاولة تكوينِ مدارسَ فكرية (١٩٨٧–١٩٩٥م). تاسعًا: «التراث والتجديد» وأحزان خريف العمر (١٩٩٦–٢٠١١م). عاشرًا: الثورة الشعبية والربيع والعربي (٢٠١١–٢٠١٨م). الحادي عشر: كل نفسٍ ذائقةُ الموت (٢٠١٨م–…).

ويختلف طول المراحل من حيث المكان: أَطوَلُها مرحلة ١٦٧ شارع الحجاز (١٩٧٠–١٩٩٥م) خمسة وعشرين عامًا، ثم مرحلة باب الشعرية (١٩٣٥–١٩٥٦م) واحدًا وعشرين عامًا في شارع البنهاوي، درب الشرفا، عطفة البنهاوي رقم ٤، ثم مرحلة مدينة نصر (١٩٩٥–٢٠١٨م) ثلاثة وعشرين عامًا في ١٨ شارع لوزاكا متفرع من أحمد فخري، ثم مرحلة فرنسا (١٩٥٦–١٩٦٦م) عشرة أعوام، ثم مرحلة العباسية الشرقية (١٩٦٦–١٩٧٠م) مع الوالدين ١٣ شارع الجنزوري منذ العودة من فرنسا ١٩٦٦م حتى الزواج ١٩٧٠م. إلا أن أكثرها عُمقًا في استدعاء الذكريات الماضية والأحلام الحاضرة هي المرحلة الأُولى (١٩٣٥–١٩٥٦م) مرحلة الميلاد والكُتاب والمدارس الأولية والابتدائية والثانوية والجامعية؛ فما زالت الشقَّة التي وُلِدتُ فيها، والغُرفة التي ذاكرتُ فيها، وكنتُ فيها مع أخي سيد وأعز الأصدقاء محمد وهبي عبد العزيز هي أَعمَق الذكريات، وتعود دائمًا أَكثرَ من أطولِها في شارع الحجاز (١٩٧٠–١٩٩٥م)؛ فذكرياتُ الطفولة أكثر عُمقًا في النفس من ذكريات الشباب في فرنسا أو الرجولة بعد الزواج أو الكهولة في مدينة نصر.

وكانت الذكريات في الصياغة الأولى تسترسل دون جهدٍ كبير؛ فالخطوط العريضة تظهر، والمراحل الزمنية لا شك فيها. وفي الصياغة الثانية بدأت تُظهِر ما أسقطه النسيان في الصياغة الأولى؛ فبدأت بتجسيدٍ أكثر، يملأ فراغاتها. وفي القراءة الثالثة بدأت تظهر موضوعاتٌ جديدة من دائرة النسيان إلى دائرة التذكُّر. ولو كانت هناك قراءة رابعة لخَرجَت بعض الذكريات من جوف النسيان؛ فالذكريات بِئرٌ له أعماقٌ متعددة، وكلما نزل الدلو أَعمقَ أخرج الماء؛ لذلك يستطيع من عاصروا الأحداث من الأقارب والأصدقاء، التلاميذ والزملاء، بالقراءة الجماعية، أن يُصحِّحوا أو أن يزيدوا ما نَسِيت؛ فالذكرى بارقٌ يلمع ثم يختفي كما صَوَّر أحمد رامي في الإهداء. وما كنتُ أُحاول أن أتذكره بالإرادة في قراءةٍ أُولى يأتي طواعيةً في القراءة الثانية؛ فتسلسل الذكريات ليس فعلًا إراديًّا بل هو تيَّارٌ جارف يأتي ويذهب. وهناك فَرقٌ بين الذكرياتِ السطحية؛ أي مُجرَّد تسجيل الأحداث، والذكرياتِ العميقة التي أَثَّرَت في الوِجدان، وتَركَت آثارًا في الشخصية. الأولى سرعان ما يأتيها النسيان، وتكون على هامش الذاكرة. والثانية تكون في أعماق الذاكرة ولا تُنسى، وتكون جُزءًا من الشخصية.

وهناك إشكال يظهر خاصةً في الجُزأَين الأَخيرَين وهو: هل تستدعي الذكرياتُ الأحياءَ مع الأموات، الحاضرِين مع الراحلِين؟ لا حرج في استدعاء ذكريات الراحلِين، ولكن ماذا عن ذكريات الحاضرِين؟ وكيف تستدعي ذكرياتِ الحاضرِين وقد تكون بعضَ المثالب مما يستدعي الحرج أو ما يُظن أنه تجريح وتَعرُّض بالمذكور؟ وكلهم أَصدقاءُ وزُملاءُ في الظاهر أو في الظاهر والباطن. ويَصعُب ألا يُتعرف عليهم، بالرغم من عدم ذِكر أسمائهم. والحل الوسط ذِكرُ النماذج الجامعية دون إشارةٍ إلى أَحدٍ بالاسم، ومع ذلك يمكن تعيين الأسماء بهذه الطريقة عن طريق هذه العلاقات مثل التخصُّص أو النشاط العلمي أو العلاقات الاجتماعية. ومع ذلك ظلَّ استدعاء أسماء الأعلام مسألةً مُثارة لا أدري ماذا أفعل فيها رغبةً في أَكبرِ قَدْرٍ من العمومية، ورفعًا للإحراج، والزمالة الطويلة التي تجاوَزَت نصف القرن؛ فإذا ذكرتُ أَحرَجتُ، وإن لم أذكُر تاهتِ الذكريات ووَقَعت في ضبابية، وهي مصدر المعرفة. وسألني أحد الأقارب أو الأصدقاء: لماذا لم تَذكُرني؟ ذَكرتُ ثم شَطبتُ ثم عُدتُ إلى الذِّكرِ من جديد؛ فالأفضل أن يكون الإحراج لي وليس إلغاء الحوادث والأشخاص التي نَشَأت فيها الذكريات. ثم أَحسَستُ في قراءةٍ ثالثة أنه لا بد من ذِكر الأعلام حتى تتضح الذكريات في الراحلِين فقط دون الحاضرِين، ولكن في الهامش؛ نفورًا مني من وضع أسماء الأعلام في النص. وأخيرًا في قراءةٍ رابعة وأخيرة عُدتُ إلى الخيار الأول بإعادة أسماء الأعلام إلى المتن بمحاسنها وعيوبها؛ ففي العلوم الإنسانية لا يُوجد صوابٌ مُطلَق أو خَطأٌ مُطلَق. وقد استدعى ذلك إسقاط الألقاب ورموزها مثل «أ.» للأستاذ، «د.» للدكتور، «أ.د.» للأستاذ الدكتور؛ فالذكريات لِنماذجَ بشرية وليس لِشخصياتٍ اجتماعية تَحرِص على ألقابها. ويظل التردُّد حتى الآن قبل أن أَدفَع الكتاب إلى المطبعة، وربما يُوجد حلٌّ نهائي. ووَصلتُ إلى حلٍّ وقتي، وهو ذِكر أسماء الراحلِين دون أسماء الحاضرِين، ثم تَبرُز قضية تلميذي نصر حامد أبو زيد، هل هو من الراحلِين أو من الحاضرِين؟ هل يدخل في النماذج أم إنه لا تصنيف له؟

وتتفاوت الذكريات في الأعماق. الذكريات الأُولى هي الخطوط العامة للسيرة الذاتية والتي تأتي في القراءة الأُولى، وعادةً تكون ذكريات الطفولة. والثانية ذكريات فرنسا التي كَوَّنَت الشخصية بعد ثقلها من اختيار النص إلى اختيار الواقع، ومن التقليد إلى الاجتهاد. والثالثة ذكريات العودة إلى مصر خاصةً ذكريات الفترة الأخيرة بعد السفر إلى أمريكا والمغرب واليابان، وبعد مزيدٍ من التعرُّف على الوطن العربي. وأَعمقُ الأعماقِ هي الطفولة الأُولى ومحل الولادة والسكن قبل المُغادَرة إلى فرنسا، وهي مرحلة الأمل في الاستقلال أو الموت الزؤام ومقاومة الاستعمار والفقر والإقطاع قبل أن تنقلب على نفسها في المرحلة الأخيرة في قرب النهاية؛ مرحلة اليأس بعد عديدٍ من تجارب الإحباط في محاولات النهضة والإصلاح والتجديد والثورة إلى مرحلة الاستبداد والاعتراف بإسرائيل وإقامة كافَّة العلاقات معها والارتماء في أحضان أمريكا والخليج ووَضعِ نفسها في صَفقة القَرن.

والخطورة في الذكريات أن يتناولها أَحدٌ بالزيادة والنقصان؛ زيادة ما يحب، وإخفاء ما لا يُحب؛ الكشف عما يُريد أو التستُّر على ما لا يُريد ظانًّا منه أنه يُحافظ على مركز صاحب الذكريات. ويتم ذلك إراديًّا وليس بالفعل الطبيعي للذاكرة والنسيان، بل إن إكمال الصورة وإبرازَها على نحوٍ غيرِ ما هي عليه يَقرُب من المُغالاة؛ فقد تُوصف بالكذب إذا زادت عن حَدِّها، وأصبَحَت أَكبرَ من جزءٍ للصورة الأُولى، تعظيمًا للنفس أو إقلالًا من شأن الآخرِين.

ومن القضايا المنهجية الصلة بين الخاص والعام؛ فهل كل ما يَحدُث وتستدعيه الذاكرة هي ذكريات؟ وماذا يُفيد الناس أنني جُعتُ أم شَبِعت، نمتُ أم استيقظتُ، عَرِيتُ أم لَبِست؟ لا يهم إلا ما له من دلالة على الفقر، ونشأة الوعي مبكرًا؛ فالذكريات هو مجموع الدلالات للأحداث وليس الأحداث ذاتها كما يفعل الخبر الصحفي للناشئِين. لا يهم إلا ما له علاقةٌ بالفكر أو الوطن كما عرضت في «هموم الفكر والوطن»، وهو ما يَشغَل كل الناس في اللاشعور بعد أن انشغل الشعور بمشاكله في الحياة اليومية كالغذاء واللباس والإسكان والمرض، وكيفية تكييف حاجاته مع دخله المحدود. ومع ذلك لا تنفصل الذكريات عن البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية التي نَشأَت فيها؛ فهي أقرب إذن إلى علم النفس الاجتماعي عن الوَصفِ التقريري.

والخطورة أيضًا في عدم ضبط الميزان بين الذاكرة والخيال؛ فقد يَتَذكَّر الإنسان شيئًا إلى المنتصف دون النصف الآخر، فيأتي الخيال لِتكملةِ الصورة؛ فالموضوع نِصفه ذاكرةٌ ونِصفه خيال. والسؤال هو: هل الخيال يُكمِل الذاكرة أم إنه يفارق الذاكرة بدافع الإبداع الفني؟ نصفه فلسفة ونصفه فن، بدايته صدق ونهايته أَقلُّ صِدقًا ولا أقول كذبًا؛ فالذاكرة تحتاج أحيانًا إلى ضبط وتوضيح وإكمال. لا يُطبَّق على التذكُّر مِقياس الصدق في العلوم الطبيعية المتطابق مع التجربة ولكن الصدق مع النفس. لا يعني ذلك وجود منطقٍ للتذكُّر فإنه يظل فعلاً حُرًّا يقوم على الاستبطان والتداعي، بصرف النظر عن الترتيب الزماني، وهذا سبب التَّكرار أحيانًا كما هو الحال في الموسيقى؛ إذ يتكرر اللحن من المقدمة إلى الوسط إلى النهاية. وكما هو الحال في القرآن الكريم مثل فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ في سورة الرحمن؛ لذلك يصعب ذكر فهرسٍ تفصيلي بحوادثَ معينة؛ لأن ذلك يفصل المتصل كما يقول برجسون. يَكفِي المَراحل الكبرى التي تختلف الذاكرة عليها.

وبالرغم من حرصي الدائم على التوازن الكمي بين الأبواب والفصول إلا أن الذكريات حَكمَت نفسها بنفسها؛ فهناك تجارب شَكَّلَت شخصيتي مثل إقامتي في باريس عشر سنواتٍ ورئاستي للقسم ومحاولة تأسيس مدارسَ فكريةٍ ولا أقول فلسفية، وتعمَّقَت في شعوري وأصبَحَت لا تُنسي، في حين كانت أجزاءٌ أُخرى أصغر مثل أحزان خريف العمر وتمنياتي المتفائلة، والمستقبل المفتوح.

ومعروفٌ في دراستي «التراث والتجديد» أنني لا استعمل ضمير المتكلم المفرد «أنا» أو «الجمع»؛ فالعلم موضوع وليس ذاتيًّا. أمَّا الذكريات فإنها تجمع بين الذات والموضوع من خلال الذات؛ ومن ثَمَّ لا ضَيرَ في استعمال ضمير «الأنا المتكلِّم»؛ فالتجربة ذاتية، وهو مصدر الذكريات الذي يجمع بين الذات والموضوع في علاقةٍ مُتبادلة بينهما. إذا رأى الكاتب سَكنَه القديم هاجت فيه الذكريات، وإذا تَذكَّر شيئًا أَكمَله بالخيال الذي هو الوجهُ الآخر للذكريات.

وقد تتكرَّر بعض الإحالات، ولكن لِكلٍّ سياقها ومدى عمومها أو تفصيلها؛ فالذاكرة لا تعرف التنظيم والتنسيق والرسم الهندسي؛ فالكتابة هي استدعاءٌ تِلقائي طِبقًا لمدى عُمقها واتساع حضورها في اللاشعور. والحكم بالتَّكرار هو عَدَم تَميُّزٍ كافٍ بين التقرير الصحفي والسيرة الذاتية، بين الوصف والتقرير والإبداع الذاتي.

إن هذه الملاحظات المنهجية لم تأتِ استنباطًا من منهجٍ مُعَدٍّ سلفًا، بل هي نِتاج استقراءِ كل إشكالٍ صادفَني في كتابة الذكريات، وحاولتُ التعبير عنها تجريبيًّا، ثم رصَدتُها نظريًّا كتمهيدٍ منهجي، أُسوةً بباقي أجزاء «التراث والتجديد»، وأنا أَوَّل من يَنقُدها، كما تم أيضًا من قبلُ في «محاولة للنقد الذاتي». ومع ذلك أتمنى أن تصل هذه الملاحظات إلى حد «خطوات في المنهج» بعد وضعه مَوضِع النقاش مع مَن ما يزال يجد فائدةً في النقاش الفلسفي.

١  بدأت الإثنين ١٣ / ٩ ثاني أيام عيد الأضحى المبارك ٢٠١٦م بعد أن توقف الإبصار والكتابة عن طريق التوثيق، تحليل مضمون النص القرآني في الجبهة الثالثة من مشروع «التراث والتجديد»، الموقف من الواقع أو نظرية التفسير، التفسير الموضوعي للقرآن الكريم. أثناء ذلك قَفَزَت إلى ذهني «ذكريات» العمر وبعد شَهرَين كنتُ قد انتهيتُ من كتابتها في يناير ٢٠١٨م، ثم عدت إليها في قراءتَين، ثانية وثالثة، وانتهيتُ منها في مارس ٢٠١٨م. ولم يبقَ سوى كتاب «هيجل واليسار الهيجلي أو الهيجليون الشبان».
٢  هذه ثالث محاولة لكتابة سيرةٍ ذاتية: الأولى نُشِرَت في الدين والثورة في مصر ١٩٨٢م ج٥ الأصولية الإسلامية، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٧م. والثانية «محاولة لسيرةٍ ذاتية» في «هموم الفكر والوطن»، ج٢، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤