الفصل الثالث

أناشيد الصبا

وما الشعرُ إِلا القلب هاجَ وجيبُهُ
وما الشعرُ إِلا أن يثيرَ مثيرُ
وللريحِ هبَّاتٌ وللنفس مثلُهَا
تغني رُخاءٌ فيهما ودَبورُ
من قصيدة «الشعر والطبيعة» لصاحب الديوان

إهداء الديوان

صديقي الأعزَّ
الأستاذ الأديب والشاعر الجليل
إبراهيم عبد القادر المازني

أهديك هذا الديوان هدية ود، أنشدك فيه قولَ أبي تمام:

وقلتُ أخٌ قالوا أخٌ من قرابةٍ
فقلتُ لهم إِن الشكولَ أقاربُ
نسيبيَ في عزمي ورأيي ومذهبي
وإِن باعدَتْنا في الأصولِ المناسبُ

كلمة لصاحب الديوان في: العاطفة في الشعر

إن روح الشاعر مثل آلة الغناء، لا بد أن تتهيأ تهيُّؤًا خاصًّا لكل نغمة من النغمات فيُقَصَّر بعض الأوتار، ويطال بعضها، ويُشَدُّ وتر، ويُرْخَى آخر، والشاعر لا يمكنه أن يهيئ روحه كذلك متى شاء. بل لا بد من أسبابٍ يتوخاها زمنًا، حتى يساعده الطبع فتتهيأ نفسه، ثم يوقع عليها ما يشاء وجدانه من الألحان. والشاعر الكبير لا يكتفي بإفهام الناس، بل هو الذي يحاول أن يسكرهم ويجنهم بالرغم منهم. فيخلط شعوره بشعورهم، وعواطفه بعواطفهم. ولِشِعْرِ العواطف رنَّةٌ ونغمة لا تجدها في غيره من أصناف الشعر. وسيأتي يوم من الأيام يفيق الناس فيه إلى أنه هو الشعر ولا شعر غيره. فالشعر مهما اختلفت أبوابه لا بد أن يكون ذا عاطفة. وإنما تختلف العواطف التي يعرضها الشاعر. ولا أعني بشعر العواطف رصْفَ كلمات ميتة تدل على التوجع أو ذرْف الدموع. فإن شِعْرَ العواطف يحتاج إلى ذهن خصب، وذكاء، وخيال واسع، لِدَرْس العواطف ومعرفة أسرارها وتحليلها، ودرْس اختلافها وتشابهها، وائتلافها وتناكرها، وامتزاجها ومظاهرها وأنغامها، وكل ما توقع عليه أنغام العواطف من أمور الحياة وأعمال الناس. فينبغي للشاعر أن يتعرض لما يهيج فيه العواطف والمعاني الشعرية. وأن يعيش عيشة شعرية موسيقية بقدر استطاعته. وينبغي له أن يُعَوِّد نفسه على البحث في كل عاطفة من عواطف قلبه، وكل دافع من دوافع نفسه، لأن قلب الشاعر مرآة الكون فيه يبصر كل عاطفة جليلة شريفة، فاضلة أو قبيحة مرذولة وضيعة.

والحياة في نظر الشاعر الذي يعيش لِفَنِّه الجليل، قصيدةٌ رائعة تختلف أنغامها باختلاف حالاتها، ففيها نغمة البؤس والشقاء، وفيها نغمة النعيم والجذل، وفيها أنغام الحقد واللؤم، والشر والندم، واليأس والكره، والغيرة والحسد، والمكر والقسوة؛ وأنغام الرحمة والجود، والأمل والرضا والحب. فالشاعر الكبير هو الذي يتَعَرَّف كيف يقتبس من هذه الحالات أنغامها، ويصوغها شعرًا. وهو الذي عواطفه مثل عواطف الوجود؛ مثل الأمواج أو الرياح أو الضياء أو النار أو الكهرباء. وهو الذي يحكي قَلْبُه الأُرْكِسْتَر الكثير الآلات، الكثير الأنغام، أليس الوجود أيضًا أُرْكِسْتَر آلاتُهُ الناس، وعواطفهم وأعمالهم، والرياح والأمواج، والطيور والحيوانات؟ كذلك قلب الشاعر أركستر آلاته العواطف، ومن أجل ذلك لا يَنْظِم الشاعرُ الكبير إلا في نوبات انفعال عصبي، في أثنائها تَغْلِي أساليب الشعر في ذهنه، وتتضارب العواطف في قلبه. ولكن تضاربًا لا يُزْعِجُ نَبْضُهُ طيورَ الأنغام الشعرية التي تغرد في ذهنه. ثم تتدفق الأساليب الشعرية كالسيل من غير تعمُّدٍ منه لبعضها دون بعضها. أما في غير هذه النوبات، فالشعر الذي يصنعه يأتي فاتِرَ العاطفة، قليل الطلاوة والتأثير. وإدمان الاطلاع أساسٌ في الشعر؛ لأنه هو الذي يهيئ الطبع. أما انتقاء الأساليب عند النظم، فدليل على أن الشاعر غير مُهيأ الطبع ناضبه؛ ليس في أعصابه نغمة، ولا في قلبه عاطفة.

وإذا نظرت في الشعر العربي، وجدْتَ أن شعراءَ الجاهليةِ وصدْرِ الإسلام، كانوا أصْدَقَ عاطفة ممن أتى بعدهم. والسبب في ذلك أن النفوس كانت كبيرة، والعواطف قوية، لم يُتْلِفْها بَعْدُ الترَفُ والضَّعْفُ، وغير ذلك من الصفات التي تطرَّقَتْ إلى الأمة في عهد الدولة العباسية، وما بعدها من العصور، التي أُولِعَ فيها الشعراء بالعبث والمغالطة، والمغالاة الكاذبة، والتلاعب بالألفاظ، والخيالات الفاسدة. وشِعْر الأُمَّة مرآةُ حياتها. فإذا كانت نفوس أفرادها كبيرة، كان شِعْرها شديد التأثير، صادق العاطفة. وإذا كانت نفوس أفرادها حقيرة، كان شِعْرها ألفاظًا مرصوفة ميتة، ليس فيها عاطفة. والعواطف هي القوة المحرِّكة في الحياة، وهي للشِّعْر بمكانة النور والنار.

الحب والموت

حنيني إِلى وجهِ الحبيبِ جنونُ
جنونٌ يهيج القلبَ وهْو شجونُ
أحبك لا حبي عليك بسُبَّةٍ
ولا أنَّ وجدي في هواكَ يُشِينُ
وحُسْنُك يجلو النفسَ من كلِّ ريبةٍ
ويُطْهِرُ قلبًا في هواكَ طعينُ
فجُدْ لي بذخرٍ من ودادك خالدٍ
فكلُّ قليلٍ من هواك ثمينُ
وإِنَّ ظنوني في الحياة كثيرةٌ
ولكنَّ ظني في هواك يقينُ
فوا حَسْرَتَا لا لي إِليك وسيلةٌ
ولا أنَّ قُرْبًا في الحياةِ يَحِينُ
وقربك إِشفاقٌ وبرٌّ ورحمةٌ
على مهجةٍ إِن لم تَبِنْ ستبينُ
وكيف أُرجِّي منك عطفًا ورحمةً
ولم يُفْشَ سرٌّ في الضلوع كمينُ
ولم تَدْرِ أني منك ضامرُ لوعة
ولا أن قلبي في هواك رهينُ
عسى مخبرٌ عما أُعَانِيهِ في الهوى
فيُؤمَلُ خفضٌ من رضاك ولينُ
نهاري حنينٌ واشتياقٌ ولوعةٌ
وليلي حنين في الهوى وأنينُ
وما الدهرُ إِلا البحر والموت عاصفٌ
عليه وأعمار الأنام سفينُ
فلا تعصفوا بالهجر والبعدِ والقلى
فما لي على هذا الشقاءِ مُعِينُ
تبشرني الآمالُ بالقرب منكمُ
فيا ليت آمالَ النفوس يقينُ
ويا ليت لي نهجًا إِليك وحيلةً
ويا ليت عطفًا من رضاك يكونُ
ويا ليت أني مُقْعَدٌ في ديارِكُمْ
مقيمٌ على صَرْفِ الزمانِ ركينُ
ويا ليتني شيء إِليك محبَّبٌ
وأنت به طول الحياة ضنينُ
ويا ليت أن القربَ يُنْصِفُ والنوى
فيُحْمَدُ عزٌّ في هواك وهونُ
ويا ليت بي نوعًا من النحسِ واحدًا
فإِن شقائي في هواك فنونُ
يُغَيِّرُ صرف الدهر ما شاء في الورى
وحبك في القلب اللجوج مكينُ
فلا تنخدع بالناس عني فإِنَّهُمْ
كلابٌ ترى أن العواءَ يزينُ
أعزُّ صديقٍ في الخفاءِ يكيدني
وأصدقُ صحبي في الودادِ يمينُ
وكلُّ فؤادٍ في المحبة كاذبٌ
ولكن قلبى في هواك أمينُ
ومن يَصْحَب الأيامَ من بعد خبرةٍ
يقلُّ لديه تافهٌ وثمينُ
وكيف أضل الحقَّ في العيشِ طرفةً
ولحظك فيه الحقُّ وهْو مبينُ؟
غدًا يَكْثُرُ السالون منا ومِنْكُمُ
ويرقأ دمعٌ بيننا وشئونُ
ونصبح لا قلبٌ يَحِنُّ إِليكمُ
وتغمض عنكم أعينٌ وجفونُ
وكم قبلنا خلَّى حبيبٌ حبيبَه
وكم من قرينٍ بانَ عنه قرينُ
ويفجع ريب الدهرِ بالكف أختها
تبين شمال أو تبين يمينُ
ونبكي على حُسْنٍ طَوَتْه يدُ البلى
ومَنْ بُزَّ عنه الحُسْنُ فهْو غبينُ
وما كنتُ أدري أنَّ حسنك زائل
وأن عزاءً عن هواك يكونُ
فلا يخدعَنْكَ الحسنُ فالحسنُ طرفةٌ
تَمُرُّ كحلم العينِ وهْو ظَنُونُ
غدًا يكثر الباكون حولي وحولَكُمْ
وما الناسُ إِلا هالكٌ وحزينُ
غدًا يستذلُّ الموت منا ومِنْكُمُ
وكلُّ نفيسٍ في الممات يهونُ
فنصبح موتى لا نحسُّ افتقادكم
وأيُّ دفينٍ يستبيه دفينُ
ويسعى على قبري وقبرك بعدنا
من الناسِ خبٌّ ماكرٌ وخئون
وتمضي الليالي والشهورُ وتنقضي
قرونٌ على أعقابهن قرونُ
كأن الفتى لم يَحْيَ يومًا لحاجةٍ
إِذا ما دهته بالعفاءِ مَنُونُ!

بين الحياة والموت

وقفتُ على البحر الخضمِّ عَشِيَّةً
وللريحِ فيه والعباب بوادرُ
وقد بَسَطَ الليلُ البهيمُ جلالَهُ
وللسحب نوءٌ هاطل اللجِّ هامرُ
وللرعد ضحكٌ رائعُ الصوتِ هائلٌ
كأنَّ ضجيجَ الرعد بالناسِ ساخِرُ
أقَطِّعُ قلبي بالبكاءِ وبالأسى
وحبُّ الردى داءٌ دخيل مُخَامِرُ
بكيتُ بكاءَ اليأسِ لا يأسَ مثله
وقُلْتُ وبِي مِنْ سانِحِ الموتِ خاطِرُ:
أجِرْنِيَ من ظُلْمِ الحياةِ ولؤمها
فإِن شقائي مثلُ لجِّك زاخِرُ
أرى كفنًا من نسجِ موجكَ أبيضًا
تمزقه الأرواح وهْي ثوائرُ
وأنت مِهَادٌ لَيِّنُ الطيِّ ناعمٌ
ونعشٌ لمن يرجو الردى ومَقابِرُ
فأَغْرَقَ ضِحْكُ الرعدِ شكواي ساخرًا
وأُبْتُ بهذا العيش والقلبُ صاغِرُ
أعالجُ صرف الدهر في غيرِ مطمعٍ
وأفعل ما تُملي عليَّ المقادِرُ
ولكنني أرجو من الموتِ راحةً
ويُفْزِعُني وقْعٌ له وخواطِرُ
وما العيش إِلا الذئب تُدْمَى نيوبه
وللعيش نابٌ قاتِلٌ وأظافِرُ
ولكنه كالخمر تحلو لشاربٍ
وإِن سُلِبَتْ منه النهى والسرائِرُ
فها أنا بين العيش والموتِ واقفٌ
فهل مُخْبِرٌ يدري متى أنا سائِرُ؟
لعلَّ الذي أرجو من الدهرِ واقعٌ
فقد كان ما قد كنت دهرًا أحاذِرُ
عسى أن يعودَ العيشُ جمًّا جمالُهُ
ففي الروض فينانٌ وفي الأفق زاهِرُ
ويكشف صرف الدهر عني غشاوةً
من اليأس لا تُجْدِي لديها البصائِرُ
فلا تعذلاني بارك الله فيكما
فإِني بهذا العيش راضٍ وصابِرُ!

حكمة التجارب

انضُ عنك الحذارَ من حدثِ الدهْـ
ـرِ فليس الحذارُ يُغْنِي فتيلَا
ليس تجدي تجاربُ المرءِ لو شَبَّـ
ـتْ لها في الفؤَادِ داءً دخيلَا
فأَرِقْ فوقَ نارِ قلبِك ما اسطعْـ
ـتَ عزاء جمًّا وصبرًا جميلًا
ودَعِ الناسَ يهذرون بما شا
ءوا فلسنا نخافُ قالًا وقيلَا
إِنما العيشُ أنْ تكون جريئًا
ليس ترضى الحياة غمرًا ذليلَا
وتلين الحياة للثابت الْوَا
دعِ لا مَنْ يخافها أن تهولَا
كن كثيرَ العزاء عن كلِّ ما فا
ت ولو كان في الحياةِ جزيلَا
خذ بنصحي فقد حييتُ كثيرًا
وَلَوَ انِّي لم أمْضِ عمرًا طويلَا
عشتُ في كل ساعةٍ أَبَدَ الدهْـ
ـرِ وعالجتُ نضرةً وذبولَا
ورَمَتْني الحياةُ بالحلو والمرِّ
فطَوْرًا رغدًا وطورًا وَبِيلَا
ورَفَعْتُ الستارَ عن خدعة العيْـ
ـشِ وقهقهت وانتحبت عويلَا
وصحبتُ الحياةَ في حالتيها
وخبرت القنوطَ والتأميلَا
وأعاد الأنامُ قصةَ من ما
تَ فكانوا قابيلَ أو هابيلَا
فترى الخلقَ في المطامع إِمَّا
قاتلًا ظالمًا وإِما قتيلَا
ما ترى الناسَ في الحياةِ حيارى
ضلَّ من كان عالمًا أو جهولَا
لا تُعنِّي بأمرها النفسَ يومًا
فتصيرَ الحياةُ فيك كبولَا
ثم لِنْ للزمانِ ما اشتدَّ واجعلْـ
ـه إِذا لان نجعةً ومقيلَا
إِن يكن ينفع البكاءُ فإِنَّا
قد بكينا على الحياة طويلَا
ورأينا الحياةَ من كل وجهٍ
وعشقنا كمالهَا المستحيلَا
ورجعنا إِلى الحقائق حتى
لم نَعُدْ نحسب الخيالَ جميلَا
ما لهذا الليل البهيم حزينٌ
مطْرقٌ يبحث الحياةَ طويلَا
سَلْ عيونَ الظلام أنْجُمَهُ الغرَّ
أمَا آنَ حزنُه أن يزولَا
أحدادًا على الورى يلبس الحا
لِكَ من جنحه يئل أليلَا؟
أم لأمرٍ مخبَّأ في حشاه
لم يُدانِ ألبابنا والعقولَا؟
أم سديلٌ يخفي المقادير عنا
وستارٌ فقد مللنا السديلَا؟

الدفين الحي

أَخِلَّايَ لا والله ما بيَ جفوةٌ
ولا أنا أخشى أنها ستكونُ
وأَذْكُرُكُمْ ذِكْر النعيمِ وما له
من القلب إِلا زفرةٌ وحنينُ
ولكنَّ همًّا في الفؤاد مقرُّه
وفي الدم والأحشاءِ ليس يهونُ
تضيق عليَّ الأرضُ من جنباتها
كأني على قيد الحياةِ دفينُ
دفينٌ طواه الأقربون بلحده
وظنوه مَيْتًا إِنها لظنونُ
رأَوْا غفوةً منه تغر كأنما
دَهَتْهُ من الدهرِ الخَئون منونُ
فدَلَّوْهُ في قبرٍ سحيقٍ وأطْبَقُوا
عليه رجام القبر وهْو ركينُ
أفاقَ وما يدري أفي الحلم ما يرى
وهيهات منه إِنه لدفينُ
فهاج هياج النسرِ في الأسْر طرفُهُ
وأدركهُ حتى الممات جنونُ!

الحسن مرآة الطبيعة

قم بنا نعشقُ النجومَ حبيبي
أوشك الليل جنحه أن يزولَا
قم بنا نخلس الزهورَ من الحبِّ
ونسقي الرحيقَ والسلسبيلَا
وأرى البدرَ فَوْق وجهك يا بَدْ
رُ نعيمًا جمًّا وحسنًا صقيلَا
قم بنا نعشق الحياةَ حبيبي
لا تَدَعْنِي متيمًا مخذولَا
أنت مرآة ما يجيء به الكَوْ
نُ من الحسنِ بكرةً وأصيلَا
فأرى في الصباحِ منك ضياءً
وأرى في المساءِ منك ذبولَا
وأرى فيك للظهيرة حرًّا
وفتورًا لذًّا وظلًّا ظليلَا
وأرى فيك نسمة كليالي الـ
ـصَّيْفِ حيث النسيمُ يسعى عليلَا
وأرى منك في الخريف شبيهًا
ثمرًا يانعًا وزهرًا جميلَا
كم جميلٌ يُزْهِي بحسنٍ عميمٍ
حجب الموتُ لحظه أن يصولَا
ذو بهاءٍ ونضرةٍ وضياء
مَنَعَ الموتُ أَمْرَه أن يطولَا
أَكَلَتْهُ الديدانُ مَيْتًا وقد كا
ن يعافُ العناقَ والتقبيلَا
هكذا سُنَّةُ الردى وقديمًا
أهلك الناس نشأَهم والكهولَا!

سحر الربيع

أتعرف أنفاسَ النسيمِ المعطَّرِ
وبهجةَ أزهار الربيعِ المبكَّرِ؟
وهل قُمْتَ في أظلاله بين نسمةٍ
تفوح وغصنٍ ناعم متأطِّرِ؟
وهل ذُقْتَ من غدرانه الماءَ صافيًا
فذقْتَ به من نشوةٍ كأسَ مُسْكِرِ؟
وهل غرَّد الغرِّيدُ في فَلَقِ الضحى
ومن تتطاير شجوه الطيرُ يعذرِ
كأنك منها بين عودٍ وقينةٍ
ودفٍّ ومزمار وصنجٍ ومزهرِ
وهل ألقت الأغصانُ أوراقَ زهرِها
عليك سقوط اللؤلؤ المتحدرِ؟
وهل واجَهَتْكَ الشمسُ من كل وجهةٍ
بضوءٍ كأُلهوب اللظى المُتَسَعِّرِ؟
ونلتَ من الأزهار ما بين لؤلؤ
ودرٍّ وياقوت يروق وجوهرِ؟
وهل حَرَّكَتْ فيك الأزاهيرُ صبوةً
يُشبُّ لظاها بالمنى والتذكُّرِ؟
وظلَّ فؤادٌ بين جنبيك خافقًا
خُفُوقَ الرياحِ بالرداءِ المنشَّرِ
وإِن يك حالُ القلبِ عما عَهِدْتَهُ
فهل دام ذو عهدٍ فلم يتغيَّرِ؟
وهل مدَّتِ الأشجارُ نحْوَكَ شُرَّعًا
غصونَ جنًى من مُثْمِرٍ أو منوَّرِ؟
وهل ذُقْتَ طعمَ الحبِّ تحت ظلالها
وفُزْتَ بيومٍ طيِّبِ الذكرِ أزْهَرِ؟
وشاب بياضَ النور للشمس صفرةٌ
فظل كلَيْلٍ ساطعِ البدرِ مقمرِ
هناك يلذُّ النفس أن تُحدث المنى
وتبصر حلمَ المطلب المتوعرِ
إِذا أنتَ لم تَدْرِ الربيعَ وسِحْرَهُ
ومن يَلْقَ ما لاقَيْتَ يا قَلْبُ يُسْحَرِ
ولم تعترفْ بالحبِّ والوجد والصبا
ولم تَرَ أثناءَ القضاءِ المقدَّرِ
ولم تَسْرِ ليلَ الصيفِ في أخرياته
ولم تَرَ صبحًا كالغدير المفجَّرِ
وإِن أنت لم تَهْوَ النجوم ووَمْضَها
ولم تَدْرِ منها مَخْبَرًا أيَّ مَخْبَرِ
ولم تلتمس في كلِّ شيءٍ جمالَهُ
ولم تَهْوَ وجهَ الحسن في كل منظَرِ
فكن حجرًا لا حسَّ فيه للامسٍ
عديم الحجى ملقًى بأكنافِ محجَرِ!

جنة الحب وجحيمه

ما أحسنَ الحبَّ يا حبيبي
وأحسن الحسن لو يدومْ!
لست أريد الخلودَ دارًا
إِلا إِذا كُنْتَ لي نديمْ
ما أهْوَنَ البؤسَ حين تبدو
وأهْوَنَ الوجد والهمومْ
متى أراكم فأيَّ عَيْشٍ
أخشاه أو حادِثٍ أليمْ
ونظرة منك يا حبيبي
أشهى من الخُلْدِ والنعيمْ
من جنة الخلد فيك حسنٌ
وفيك من زهرها نسيم
فأنت زهري وأنت خمري
وأنت برقي الذي أشيمْ
وأنت لي بالنهار شمسٌ
وأنت بالليل لي نجومْ
إِن غبتَ عني فأيَّ نورٍ
أراه أم مطلبٍ أرومْ؟
إِن غِبْتَ عن مسمعي وطرفي
فالعيش من بعدكم جحيمْ
وإِن تَعُدْ لي يَعُدْ نعيمي
وينجلي الشكُّ والغيومْ
وإِن تَعُدْ لي يَعُدْ سروري
ويُنْقَضُ الحزن والوجومْ
أُحِبُّ عيشي إِذا دَنَوْتُمْ
والعيش من بعدكم عقيمْ
فلا رجاء ولا فعال
ولا مساعٍ ولا مَرُومْ
والعيشُ من حسنكم صحيحٌ
وهْو إِذا غِبْتُمُ سقيمْ
والعيش من لحظكم مضيءٌ
وهْو إِذا غِبْتُمُ بهيمْ
أنتم دواءٌ لكل داءٍ
فأبْرِءوا قلبيَ الكليمْ
فالقلبُ في حُبِّكُمْ كتومٌ
لكنَّ دمعي به نَمُومْ
غدًا ينال الممات منا
فمن دفين ومن رميمْ
فخفِّفوا هجركم قليلًا
فالموتُ من خلفنا غريمْ
وكلنا بالحياةِ صبٌّ
لكننا للرَّدى خصومْ!

حسرة العيد

أعيدٌ وقلبي من رضاك بعيدُ
فيا عجبًا للدهر كيف يكيدُ؟
وهل لَكَ في ذا العيد يا قلبُ فرحةٌ
أمِ العيدُ نحسٌ ليس فيه سعودُ؟
وكيف يسرُّ العيدُ قلبي، وودُّكم
وإِن قَرُبَتْ منا الديار بعيدُ؟
وكيف أرى للعيد طعمًا ولذةً
ودون فؤادي من هواك وَقُودُ؟
أرى العيدَ يُدْنِي من حبيبٍ حبيبَهُ
وقلبي شقيٌّ من هواك وحيدُ
يهنئُ بعضُ الناسِ بالعيد بعْضَهُمْ
وتترى وفودٌ بينهم ووفودُ
وينْسَوْنَ ماضي البؤْس أو حاضر الردى
وتُخْفَى تِرَاتٌ بينهم وحُقودُ
وكلُّ امرئٍ في العيد بالعيدِ ناعمٌ
وكلُّ محبٍّ ضاحكٌ وسعيدُ
ولكنَّ لي في العيدِ شجوًا وحسرةً
وإِني لِمَنْ يَلْتَذُّهُ لحسودُ
حنانيك يا شبه الربيع ويا أخا الـ
ـصَّباحِ فأيامي لبعدكَ سودُ
وما مرَّ بي يومٌ أَودُّ ولم أَقُلْ
ألا ليت أيامَ النعيمِ تعودُ
أظلُّ ولم ينعم بمرآك ناظري
كأَني يتيمٌ في الديارِ وحيدُ
فيا ليتني طفلٌ يعيش بغفلةٍ
يلذُّ صباح العمر وهْو جديدُ
ويا رُبَّ طفلٍ في الشقاءِ معذبٍ
أناخَ عليه الهمُّ وهْو جدودُ
فيا ليتني صخرٌ على الأرض هادئٌ
صبورٌ على مرِّ الزمانِ جليدُ
أَتؤنسُ في العيدِ الرياضَ وزهْرها
وتوحش قلبي وهْو منك عميدُ؟
وما القلبُ إِلا روضة الوجدِ والهوى
يرفُّ بها زهرُ الهوى ويميدُ
فللحبِّ أزهار ولكنَّ تحتها
من الحبِّ حياتٍ هناك تَرُودُ
فمَنْ غرَّهُ زهرُ الغرامِ وحسنُه
أحسَّ دبيبَ السمِّ وهْو شديدُ
إِذا كنتُ لا أخشى ملامةَ لائمٍ
فكيف أسرُّ الحبَّ وهْو جديدُ؟
أخافُ عليه ظنةَ الناسِ إِنهم
كلابٌ إِذا كشَّفْتَهُمْ وقرودُ!

الخوف والفزع

حَذِرْتُ الذي يُمْنِي ليَ الدهرُ من أذًى
فيا ويْحَ نفسي من عناءِ التفزُّعِ
ويا ويْحَ نفسي كلَّما لاح بارقٌ
تطاير آمالي ويهتاج مطمعي
ويا ويْحَ نفسي كلَّما جاءَ كارثٌ
ظلَلْتُ وقلبي كالبناءِ المضعضعِ
وحتَّامَ هذا الخوف في كلِّ لحظةٍ
يدبُّ إِلى قلبي وطرفي ومسمعي؟
أفي كلِّ يومٍ حادث يستذلني
وفي كلِّ يومٍ لي طماح مودعي؟
وفي كلِّ يومٍ خيبةٌ إِثْرَ خيبةٍ
ولوعةُ قلبٍ ذي كلومٍ مُفزعِ؟
وفي كلِّ يومٍ لي خليلٌ يخونني
وفي كلِّ يومٍ لي حبيبٌ مُفجِّعِي؟
وحتَّامَ أرجو الموتَ لا أستطيعه
وأفرق منه أن يلمَّ بمضجعي؟
أعالجُ في الأحشاء يأسًا ومطمعًا
فيا بؤس أضدادٍ وبؤس المجمعِ
عسى أن يتيحَ الله صبرًا يحوطني
فتهدأَ أضلاعي وترقأ أدمعي
وينقذني من مهلك أيِّ مهلك
ويخرجني من مجزع أيِّ مجزعِ
أما في ضياءِ الشمسِ مسلًى لبائسٍ
أناخ عليه الهمُّ من كلِّ موضعِ؟
فمن لي بعيش لا أبالي صروفَه
أقول لدهري: طِرْ بصرفك أو قَعِ!
نعيشُ بغشٍّ منك يحلو لغافلٍ
فأَسْدِلْ علينا غفلةً ثم فاخدعِ!

نشوة الحب

نجواك في العيش إِسراري وإِعلاني
وأنت بثِّي وتهيامي وأشجاني
بغَّضْتَ لي العيشَ حتى ما أُسرُّ به
إِلا بقايا رجاءٍ ليس بالداني
الموتُ أروحُ لي والقبرُ أرفقُ بي
من عيشةٍ بين تحنانٍ وهجران
ونظرة منك أهواها وآملها
تودي بيأسي ولوعاتي وأحزاني
جَرَّبْتُ فيك شجونَ الحبِّ قاطبةً
وأَوْجُه الحبِّ من قاصٍ ومن داني
فلم أدعْ شجنًا في الحبِّ أجهله
ولا رميت بزقٍّ منه ملآنِ
مِنْ حبِّكم صرت لا ألوي إِلى أحدٍ
حتى كأني غريبٌ بين أوطاني
أمشي أُحَدِّثُ نفسي عن محاسنِكم
حتى يُخَالُ حديثي لَغْوَ نشوانِ
نشوان ليس له عقلٌ فيُسْكِتُهُ
الحب خمري وليس الخمرُ من شاني
وأسأَلُ النجمَ عنكم أين موقعكم
من البلادِ وما للنجم عينانِ
يمر بي الناسُ لا أدري مرورَهُمُ
فيستوي فيهِمُ جهلي وعرفاني
أنكرت من حبِّكم ما كنتُ أعرفه
فطالَ في الحبِّ إِنكاري ونسياني
كأنما كلُّ مخلوق أمرُّ به
يصيح بِاسْمِكُمُ في طيِّ آذاني
فأحسب البدرَ صدَّاحًا بذكرِكُمُ
والطير من ذكرِكُمْ والزهر خلاني
والريحُ تشدو بكم والشمسُ تعرفكم
والوردُ بالحبِّ ناداني وحيَّاني
أنتم حياتي وأنتم مشتكى حزني
وأنتمُ في مرائي الحلمِ نُدماني
يا بؤس للحب، إِن الحب ذو خُدعٍ
مثل الشرابِ تراءى ثُمَّ أظماني
من لي بمن قلبه قلبي فأُخْبِرُهُ
سرِّي وأودعه شجوي وتحناني
فما اتخذت خليلًا غير مضطغنٍ
ولا مررتُ بخلقٍ غير خوانِ
والناس في العيش إِن كشَّفْتَ أمْرَهُمُ
أَلْفَيْتَهُمْ بين أضغانٍ وبهتانِ
إِن الحمير — حمير الناس — نهقتها
أودت برُشْدِ رجيح الرأي غضبانِ!
جهلٌ ولؤْمٌ، وأحقادٌ ومفسدةٌ
والشر يجرع منه كل إِنسانِ!

غاية الحب

أجِلْ في نجوم الليلِ لحظك طرفةً
فإِني إِليها في دجى الليلِ ناظرُ
عسى يلتقي لحظي ولحظك عندها
فتعرِفُ ما تُطوى عليه النواظرُ
عسى يلتقي روحي وروحُ عندها
على لحظةٍ إِن اللحاظَ بصائرُ
عسى يَشْعُرُ الولهانُ بالقرب منكمُ
ويجري بكم منه على البعدِ خاطرُ
يحدثني عنك الهلال إِذا بدا
وتخبرني عنك النجوم الزواهرُ
وإِني أحبُّ البدرَ من أجل حبِّكم
وتسعدني حتى أراك الأزاهرُ
عسى تجمع الأحلامُ بيني وبينكم
ومن لي بها والطرفُ باكٍ وساهرُ
وتذكرني في الحلمِ، والحلمُ باطلٌ
فما ليَ في غير الكرى منك سامرُ
وهيهات لا في يقظة أنت ذاكِرِي
وما ليَ في حلم الكرى منك ذاكرُ
وأهتف طولَ الليلِ باسمك جاهدًا
وهاجسُ هذا الذكر داءٌ مُخامِرُ
فتبدو لعيني صورةٌ منك غضَّةٌ
ألذُّ بها حتى كأَنك حاضِرُ
فما لي سوى الأوهامِ منك عُلالة
وما لي سواه منك عونٌ وناصِرُ
سيبقى لكم في القلبِ وجدٌ ولوعةٌ
وذخرُ هيامٍ يومَ تُبْلَى السرائرُ
ويبدو لكم ما كنتُ أخفيه جاهدًا
وفي البعث يبدو ما تُكنُّ الضمائرُ
فيا كعبة الحسنِ التي أنا عابدٌ
مناسكُ تهيامي بها والمشاعرُ
ويا جنةَ الحسن التي أنا آملٌ
غديرُك ملآن وزهرُك ناضرُ
أما من سبيلٍ لي إِليك ومنهج
أمِ امْتَنَعَتْ مني إِليك المصادرُ؟
أظل إِذا ما لحْتَ لي عن فُجاءَةٍ
فؤاديَ مخمورٌ ولبيَ طائرُ
فليتك تحلو والحوادثُ مُرةٌ
وليتك وافٍ والأنامُ غوادِرُ
إِذا كنت لي خِدْنًا أَلُوذُ بحبِّه
فلستُ أبالي ما تُعِدُّ المقادِرُ
وإِن نِلْتُ منك الودَّ والعطفَ والرضا
فلستُ أبالي أن تدورَ الدوائِرُ
وإِن تَرْضَ عني فالحياةُ جميلةٌ
وإِن تُبْدِ صدًّا فالنهارُ دياجِرُ
وإِن حياتي ليلة مدلهمة
فهل تأتينِّي عن رضاك البشائر؟
وإِن تُبْدِ لي عطفًا فما الكونُ باطلٌ
ولا العيشُ خوَّانٌ ولا الدهرُ جائِرُ
لقد صَدَقَتْ مني الظواهرُ في الهوى
إِذا كَذَبَتْ فيما تقول الظواهِرُ
أناجيك بالسِّحْرِ الحلالِ من الهوى
وبالسِّحْرِ من شعري فهل أنت شاعِرُ؟
أتذكر ملقًى بالحديقةِ طيبًا
فإِني له في الدهر ما عشتُ ذاكِرُ
أشرت بتسليمٍ، فسلمت مثله
فرحت وقلبي من جوى الحبِّ حائِرُ
فإِن تهجروا فالقلبُ أسوان بائسٌ
وإِن تعطفوا فالقلبُ راضٍ وصابِرُ
وإن تبعدوا فالأرضُ جرداءُ جدبةٌ
وإِن تقربوا فالدهرُ فينان زاهِرُ
وإِن تغربوا فالعيش أسودُ داجنٌ
وإِن تشرقوا فالعيش أبلجُ ظاهِرُ
حياتي إِذا ما غبْت عني زواخرٌ
تموج وإِظلام الدُّجَى والأعاصِرُ
فأي بقاءٍ بَعْدَ بُعْدِكَ نافعٌ
وأي رجاءٍ بعد بعدك باهرُ؟
وإِن كنتَ عندي جئت بالعقلِ والحجى
وإِن لم تجئ فالقلبُ مجنونُ ثائِرُ
وإِنَّ حياتي إِنْ قَرُبْتَ خصيبةٌ
وإِن حياتي إِن بَعُدْتَ لعاقِرُ
وآمنتُ أنَّ السِّحْرَ حقٌّ فإِنما
فؤاديَ مسحورٌ وحسنُك ساحِرُ
وآمنتُ أن الحسنَ مُلْكٌ ودولةٌ
فقلبي مأسورٌ وحسنُك آسِرُ
وآمنت أن الحبَّ والوجدَ ميسرٌ
فقلبي مقمورٌ وحسنُك قامرُ
إِذا متُّ فاذكرني وزرنيَ زورةٌ
وهل عجبٌ في أن تُزَارَ المقابِرُ؟
وقِفْ وتأملْ ما بدا لك طرفةً
ألا كلُّ حيٍّ مثل ما سرتُ سائِرُ
عسى دمعة حَرَّى عليَّ تُرِيقُهَا
وقد يعظ الموتُ الفتى وهْو سادِرُ
فلا تنذعر فالموتُ غادٍ ورائحٌ
وكلُّ جميلٍ فهْو لا بد غابِرُ
سيُنْفِذُ فيك الموتُ أمرًا مقدَّرًا
وتلقى الذي قد كنتَ قدْمًا تحاذِرُ
ويأكلُ منك الدودُ ما شاءَ حقبة
ووجهك مقبوحٌ وعظمُك ناخِرُ
وريحك ريح النتْن لا نتن مثله
تُسدُّ إِذا ما شُمَّ منه المناخرُ
فلا تحسبنْ أني من الموت ضاحكٌ
ولا تحسبنْ أني بحسنِك ساخِرُ!
ولكن وجدي منك جُنَّ جنونُهُ
فها أنا من حبي لحسنك هاتِرُ!
أما رحمةٌ ترجى لديكم لبائسٍ
حزينٍ عليلٍ، حبه لك ظاهِرُ؟
وفي القرب لو تدنو دواءٌ لهمِّه
وإِنك إِما غبت فالهمُّ حاضِرُ
فيا بؤس نفسي منك يا بؤس عيشتي
أما آن أن تُغْشَى المنايا البواكرُ؟
أما آن أن ألقى حِمامًا يريحني
فتهدأ أضلاعي وتهدا المحاجِرُ؟
أما آن أن ألقى قضاءً يميتني
فيرتاح حُسَّادي وتسلو العواذرُ؟
وينسانيَ الخلُّ الوفيُّ لميتتي
كأَنْ لم نكن والحيُّ للحيِّ ذاكِرُ
وينسانيَ الوغدُ اللئيم لميتتي
ويرتد عني نابُه والأظافرُ!
أما آن أن أنسى الحياةَ ولؤمها
فلا طمعٌ يردي ولا اليأس ذاعِرُ
أما آن أن يبكي ليَ الأهلُ طرفة
وأُصبح ممن غيَّبَتْه المقابِرُ
وأصبح لا قلبي يُجن بذكركم
ولا أنا مهجورٌ ولا أنت هاجِرُ
إِذا ما الردى بالمرءِ حلَّ قضاؤه
رويدك لا تغنى لديه المغافر
وإِني أحسُّ الموتَ يسري دبيبه
بروحيَ حتى فيه منه بوادِرُ
نعيت لكم نفسي فلا لومَ بيننا
فوقْع المنايا بيننا متواترُ!
فإِما غدًا أو بعد ذاك وإِنما
تغادي المنايا شملنا وتباكرُ
سلامٌ عليكم حيث كنتم فإِننا
سيهلك منا أولٌ ثم آخِرُ!

الشعر والطبيعة

إِذا غنَّتِ الأطيار في الأيك صدَّحًا
تغنت لأشجان الفؤادِ طيورُ
وللريح هباتٌ وللنفسِ مثلها
تُغَنِّي رُخاء فيهما ودبورُ
وما الشعرُ إِلا القلب هاج وجيبُه
وما الشعرُ إِلا أن يثيرَ مثيرُ
نرى في سماءِ النفس ما في سمائنا
ونبصر فيها البدرَ وهْو منيرُ
وما النفس إِلا كالطبيعة وجهها
رياضٌ وأضواءٌ بها وبحورُ
وَفيها صراخُ اليمِّ إِن ماج موجهُ
وفيها خريرٌ خافِتٌ وغديرُ
وليلٌ وإِصباحٌ لها وكواكِبٌ
تسير بآفاق بها وتدورُ
إِذا كنت في روضٍ فقلبيَ طائرٌ
يغنِّي عَلى أغصانه ويطير
وإِن كنت فوق البحرِ فالقلب موجةٌ
تَسرَّبُ في أمواجه وتسيرُ
وإِن كنت فوق الشُّم فالقلبُ نسرُها
وللنسرِ في شمِّ الجبالِ وكورُ
وتَنْثُر أغصانُ الخريفِ زهورَها
كما جاد بالشِّعْرِ الجليل شعورُ
فيا قومُ ما للجهل ملء عيونكم
ألستم ترونَ الدائرات تدورُ؟
لبستم على الأيام ثوبَ مذلةٍ
فكيف بِنَضْو الثوبِ وهْو نضيرُ؟
إِذا صاح ذاك العَيرُ فيكم صياحه
طربتم وقلتم شاعرٌ وكبيرُ
ويزعجكم أن الطيورَ صوادِحٌ
ويطربكم أن الغناءَ نعيرُ
أصاب ذكائي منكُمُ بردُ طَبْعِكُمْ
وأطفأَ مني القلبَ وهْو قديرُ
ويصدأ طبعي في خبيثِ هوائكم
وجوُّكُمُ بالداهيات يمورُ
فلا تحسبوا أني أقولُ لتسمعوا
ولا أن مثلي بالقنوط جديرُ
وماذا يفيد الشعرُ والقلب ميتٌ
وهل للنفوس الهامدات نشورُ؟
إِذا كان يُحْيِي الشعرُ نفسًا مريضةً
فهيهات تحيا النفسُ وهْي قَبُورُ!

الأزاهير السود

قد جنينا من أزاهير الردى
زهرة اليأس وأزهار الأسى
زهرةٌ سوداءُ لا تَعدِلهُا
زهرةٌ حمراءُ من زهر الهوى
كيف نهوى زهرةً، أوراقها
من دموع الصبِّ تندى والدِّما؟
تشعل الوجدَ ولوعات الغليلِ
وهْي مثل الجرح في صدر القتيلِ
ودماءُ القلبِ تجري بمسيل
دمه ري جذور وأصول
كلما زادَ احمرارًا لَوْنُها
راح جسمي بشحوبٍ ونحول
قد جَنينا من أزاهير الشقاءْ
زهرةً سوداء من زهرِ القضاءْ
تُبدلُ النفسَ سوادًا من ضياءْ
ليس تنمو في رجاءٍ أو رخاء
تنفح السم أريجًا والبلاءْ
وهْي تغذى من زفير وبكاءْ
كم جنينا من أفانين الأَلمْ
زهرةً سوداء من زهر الندمْ
لونها المأخوذُ من لونِ الظُّلَمْ
عابسٌ فوق شفاه المبتسِمْ
زهرةٌ سوداءُ من زهر النِّقَمْ
فهْي طيف من ممات قد أَلَمْ
كم جنينا من أزاهير القدرْ
وأفانين صروف وغِيَرْ
زهرةٌ سوداء من زهر الضجَرْ
وهْي مِنْ نَبْتِ هموم وكَدَرْ
فهْي بالليل سهادٌ وسَهَرْ
وهْي في الصبحِ الشقاءُ المنتظرْ
هذه الأزهارُ سودٌ كالقضاءْ
في رياضٍ من شقاءٍ وعناءْ
ليس لي منها مفرٌّ أو نجاءْ
فهْي حولي في صباحٍ ومساءْ
إِن هذا العيش داءٌ أيُّ دواءْ
ليس يُمْحَى بشكاة أو بكاءْ!

طبع الإنسان

إِنما المرءُ خيالٌ زائلٌ
سعةُ الآمال فيه كالقِدمْ
مثل قدر الخلدِ أطماع له
وبه عجزٌ وضيق في الهممْ
ويودُّ المرءُ لو نال السهى
وهْو فوق الأرضِ لمَّا يحتكمْ
فهْو مثلُ الطفلِ في آماله
يبتغي النجمَ منالًا من أَممْ
سفهًا أنظم في وصف الهوى
ولقد أنظر ما تأتي الأممْ
من ذنوبٍ ما لها من رادعٍ
تترك الناسَ على بؤسٍ وهَمْ
غاب رشدُ الناسِ عن أنفسهم
ضاع منهم تحت أشلاء الرممْ
يُقتلُ المرءُ على الجرم ولا
يُسأل الجبارُ عما يَجْتَرِمْ
أَسْعَدُ الناسِ قتيلٌ هالكٌ
رُبَّ عيشٍ هو شرٌّ من عَدَمْ
إِنَّ بالمرءِ جنونًا جاعلًا
نوبةً للشر فيه تحتدمْ
لا ينال البُرْءَ من نوبته
أو يذيع الشرَّ منه والألمْ
هل لنا من كوكبٍ ذي مِرَّةٍ
يصدع الأرضَ إِذا ما يصطدمْ
فيريح الناسَ من آلامهم
ويزيل الشرَّ منا والتُّهَمْ
حدَّث الدهرُ حديثًا صادقًا
إِنما الناس قطيعٌ من غَنَمْ
وصِفَاتُ الذئبِ طبعٌ فيهِمُ
وصفاتُ القردِ والكلب النَّهَمْ
أين فخرُ الناسِ بالعلم وما
يردع الأهواء من خيرِ الحِكَمْ؟
يبسط العلمُ عليهم جلدةً
بضةَ الملمس تخفي من نقمْ
جلدة السخل بها الذئبُ ارتدى
فإِذا ما غفل الراعي هجم
وإِذا ما اقتدر المرءُ سطا
وإِذا ما ضعف المرءُ حلمْ
لا تُرَجَّى منهمُ مرحمةٌ
رحمةُ الخب بكى حتى احتكمْ
لو يكون المرءُ فينا آمنًا
سطواتِ الشرِّ منا ما رَحِمْ
نحن نبكي رحمةً من خشيةٍ
أن نعاني الضيمَ من خطبٍ يُلِمْ!

الحب واليأس

حجبت عيناك عني نورَها
وابتسامًا فيهما كان يجول
فحياتي كظلامٍ حالكٍ
ونجومي قد تقاضاها الأفول
كنت أستهدي بمصباحِ الهوى
في طريق العيشِ والعيشُ وعر
كنت أستهدي بنورٍ منكمُ
فحجبتم نورَ قلبي والبصر
صرت أستهدي بنارٍ للشقاءْ
في ظلامِ اليأسِ تخبو وتنير
تقصر الأشجان فيها وتطول
كلما هبَّت بها ريحُ الزفير
فهْي كالأشباحِ في جنحِ الظلام
راقصاتٍ بين نارٍ ورياح
راقصاتٍ كشياطين الدجى
مُحيياتٍ للدجى حتى الصباح
فاهجروني إِن سمعتم من نصيحٍ
ما عليكم من ملامٍ في جفاء
إِنَّ حبِّي مثلُ داءٍ قاتل
فاستجيروا بمفرٍّ أو نجاء
أنتُمُ كالزهرِ تمحو زهوه
ريحُ سوءٍ حملت جرثومَ داءْ
إِن حبي ريح سوءٍ قتلت
زهْو قلبي من حياةٍ ورجاء
فاحذروه واتقوني جهدَكم
إِن في قربي لكم عَدْوَى الشقاء!

الحبيبان

مناجاة الحبيب الأول

يحكي فؤادي في هواك الجحيمْ
وأنت إِبليس لذاك الجحيمْ
بالشرِّ ألحاظك مبثوثةٌ
وبالرزايا والبلاءِ المقيمْ
وخدُّك المشبوبُ في حمرةٍ
كالجمرِ يذكو للعذابِ الأليمْ
والريقُ كالمهل شرابُ الردى
يُظمي ولا يشفي أوام الكليمْ
وحرُّ أنفساِكَ في مرِّها
يلفح لفحًا مثل لفح السمُومْ
يا تائهًا يختال في مشيه
كالصلِّ إِذ يعوج أو يستقيمْ
عيناك يغري لحظها بالبغاءْ
أحب عُشَّاقك فينا الأثيمْ
أنت إِله الشرِّ في حسنِه
وقبحه، ويحٌ لحسنٍ ذميمْ!

مناجاة الحبيب الثاني

يا جنةَ الحبِّ وروضَ النعيمْ
لأنتَ برءٌ للأسى والهمومْ
يا جنةً تترك قلبي لها
كالروضةِ الغَنَّاءِ ذات الكرومْ
يا جنة ما إِنْ بها حيةً
ينفث سُمًّا فمها أو سمومْ
يسعى إِليك الكونُ من بدئه
كما سعى نحو الطبيبِ السقيمْ
فلفظك العذبُ رحيقُ الهوى
ووجهُك الزاهر زهر عميمْ
تُبرئ أنفاسك في مُرِّها
من الجوى والوجد مثل النسيمْ
وطيُّ ألحاظك نورُ الهدى
ودون أضلاعك قلبٌ رحيمْ
وأنت كالدميةِ في شكلها
وحسنِها الخالد خلد النجومْ
للخير في الحسنِ خلودٌ فلَا
يصيبه الدهرُ مصاب الجسومْ

صداقة الأموات والأحياء

لأيِّ أَمْرٍ خذلتموني
يا أهلَ ودِّي وإِخوتي؟
كأنكم ما صحبتموني
إِلا لنحسي وشقوتي!
أما كفى وقْع نائباتٍ
يَقْرَعْنَ عودي ومروتي؟
حسبي سقامي وطول همي
وذلٌّ عدمي ولوعتي
كلُّكُمُ كاذبٌ حقودٌ
يُشْعِلُ يأسي وحسرتي
أين الأُلى قربهم شفاءٌ
يكشف غمي وكربتي؟
مرآهُمُ نشوةٌ وسكرٌ
ونطقهم برءُ غلتي
أواه من وَقْعةِ المنايا
يَقَعْنَ في خيرِ نخبتي
ما العيشُ عيش إِذا تناءوا
وصرت أبكي لوحشتي
كيف أرجِّي بكم شفائى
وأنتمُ أصل علَّتي؟
كأنني بينكم غريبٌ
أندب حظِّي وغربتي
أنتم سهام تهيض عظمي
وهم وقائي وجُنَّتِي
لا يرتجى مِنْكُمُ معينٌ
يُغْنِي إِذا النعل زَلَّتِ
غدًا ينال الحِمام منا
بكل شملٍ مشتِّتِ
حتى كأنْ لم نكن نرائي
على دهاءٍ وخدعةِ
نعيشُ بالغشِّ ما حيينا
غش عِدًى أو أحبةِ
حتى إِذا لاحت المنايا
ورُبَّ حي كميِّتِ
طَهَّرَنَا الموتُ من خطايا
بَيِّنَة في الأَسِرَّةِ
ننسى عداء الذين ماتوا
والحيُّ يقلى بزلةِ
فنحسب الميت ذا وفاءٍ
نبكي عليه بحُرْقَةِ
ولو يعود الدفينُ حيًّا
من بعد نشرٍ ورجعةِ
لصار في ودِّه كذوبًا
وعاد يُمْنَى بظنةِ

شاعر يحتضر

أَأَلقى الموتَ لم أنبه بشعري
ولم يعلم سوادُ الناس أمري؟
وفي نفسي من الأبد اتساقٌ
تدور الكائناتُ بها وتجري
فمَنْ للقلب يطربه بلحنٍ
يحن إِليه من نظمٍ ونَثْرِ؟
ومن للكون يرمقه بفكرٍ
شبيه الكونِ في سعةٍ وقدْرِ؟
ومعنى الخلد يصغر عند نفسي
يضلُّ الخلدَ في أنحاء فكري
إِذا ظمئ الفؤادُ إِلى كمالٍ
رأى طولَ الخلودِ كقيْدِ شبْرِ
رأيتُ الناسَ مثل البحر لجًّا
وكم في البحر من صدفٍ ودرِّ
هي الأقوام كالأمواج تعلو
كذاك الموج يسفل حين يجري
صحوتُ من المعيشة بعد سكرٍ
فيا لهفي على نشوات سكري
شربت الحلوَ من كاسات دهري
كذاك المرُّ من كاسات دهري
وحالات البقاءِ لها خمارٌ
على طعْمَيْهِ من حلوٍ ومرِّ
فحالاتُ السرورِ لها عقارٌ
وللأرزاءِ فينا كأس خمرِ
وكان الجهلُ لي عيدًا فولَّى
فيا شوقي إِلى جهلات عمري!
وأَعقبت التساؤلَ والتقصي
وما في ذاك من غبنٍ وخسرِ
فمن لي بالسكينة في حياةٍ
أعالجها كأني رهن أسْرِ؟
ظمئت إِلى الكمالِ فلم أَنَلْهُ
وذقتُ اليأسَ في صلةٍ وهجْرِ
وعالجتُ العواطفَ هائجاتٍ
هياج النارِ من لهبٍ وجمْرِ
وجملتُ الحياةَ بنظم شعرٍ
شبيه الضوءِ في الأفقِ الأغرِّ
قصائد نيرات خالدات
خلود النجم من شهبٍ وزهْرِ

أمل قديم

ذكراك كالغيثِ تحيي جدبَ آمالي
وتنقل العيشَ من حالٍ إِلى حالِ
من بَعْدِ ما طُوِيَتْ نفسي على مَضَضْ
وراح بي اليأسُ بين الصَّحْبِ والآلِ
وطالَعَتْني خطوبٌ كلما عصفتْ
عفَّت على أملٍ كالمنزلِ الخالي
حتى كأَن فؤادي منزلٌ خرِبٌ
مهدَّمٌ بين آثار وأطلالِ
من بعد ما يئست نفسي وما بلغتْ
من الحياةِ لباناتي وآمالي
وَطَّنْتُ نفسيَ أن أحيا إِلى أمدٍ
من الحياةِ سقيمَ الوجهِ والحال
حتى رأيتُ بروقًا منك صادقةً
تستنزل البرَّ في دفقٍ وتهطالِ
فصرت أُثْنِي على عيشي ولذَّتِهِ
وكنتُ أثني على موتٍ وآجالِ
متى أراني ولي من رعيكم سببٌ
جمُّ الأماني رخيُّ العيشِ والبالِ؟
أضحى رجائيَ مثل الشمسِ منتشرًا
يجلو هموميَ في حلٍّ وترحالِ
علَّ الزمان يرى ما لستُ أكْتمهُ
من الرجاءِ فيُدْنِي بعضَ آمالي!

مرآة الضمائر

ضمائرُ هذا الخلق مثلُ طباعِهِ
وكم من ضميرِ لا يُنَهْنَهُ بالزجر
وكم من ضمير فاسدٍ تستشيره
فتلقاه عند الخير والشرِّ لا يبري
وبعضُ المرائي خادعٌ غيرُ ناصحٍ
يواجه وجهًا منك بالحسن والبشرِ
ولكنَّ منها صادقًا غيرَ كاذبٍ
يريكَ الذي قد بتَّ تخفيه في الصدرِ
فإِنْ ترَ يومًا مثلَها من وذيلةٍ
فليس لها خيرٌ لديك من الكسرِ
إِذا لاحَ يومًا شكلُ وجهِك فوقَها
تبيت على ذعرٍ وتصحو على ذُعْرِ
ترى فوقها ما بتَّ تخفيه جاهدًا
من السوءِ والأحقادِ واللؤمِ والشرِّ
يرى الناس فيها أوجهًا كلها خنًا
يلوحُ كما تبدو الجماجمُ في القبرِ
وفي كلِّ وجهٍ لو فطنت إشارةٌ
تدلُّ على ما في الضميرِ من السرِّ
وفي كل وجهٍ من جنونٍ ومن أذًى
ملامحُ لا تخفى تناديك بالجهرِ
وكلُّ ضميرٍ لو فطنت مخادعٌ
وكلُّ ضميرٍ لو بدا لك في خُسْرِ
بَنِي آدمَ لا تذكروا العدلَ ذكرةً
فما العدلُ إِلا ما تَرَوْنَ من الأمرِ
إِذا ما بدت من مطمح المرءِ حاجةٌ
فلا عدلَ يرضاه ولا رحمة تسري
وكلُّ ضميرٍ بالمعاذير مولعٌ
إِذا ما أتى ذنبًا أحال على العذرِ
وقد يحسبُ الشر الوجيعَ فضيلةً
إِذا خال فيه ما يلذ من الخير
وقد يحسبُ الشيءَ الحرامَ محللًا
إِذا ظن فيه ما يصاب من التجرِ
وقد يحسبُ العدل المبين ظلامةً
إِذا خاف منه ما يعاف من الضرِّ
إِذا ما بدا لي البشرُ في وجْهِ صاحبي
أظلُّ مَرُوعًا خوفَ عاقبةِ الْبِشْرِ
يحيِّيكَ من ألحاظه بطلاقةٍ
ويأكلُ عِرْضًا منك بالنابِ والظُّفرِ
وكلُّ صديقٍ إِن رأى بك حسرةً
وكان بخيرٍ قال حظُّك في الصبرِ
هو الصبرُ حلوٌ للذي لا يذوقُه
فإِن ذاقه فالصبرُ شرٌّ من المرِّ!
ولو كان للآثامِ ريحٌ خبيثةٌ
تطيَّب كلُّ الناسِ بالندِّ والعطرِ
ولو كان سوءُ النفسِ داءً بِجِلْدِهِمْ
لأصبح كلُّ الناسِ يُوسَمُ بالعرِّ
فعالهمُ حتى الطلاقةُ متجرٌ
وربح فإِنَّ البرَّ يبذل للبرِ
همُ ساوَمُوا الخلاقَ في كلِّ فعلةٍ
يبيعون خيرًا بالجزاءِ وبالأجر
هم يحسبون الدينَ رزقًا ومتجرًا
فيا عجبًا للدين يُخْلَطُ بالنكرِ
فعَدْلُهُمُ ظلٌم وخيرُهُمُ أذًى
وودُّهُمُ ودٌّ ينغص بالغدرِ
وصِدْقُهُمُ كِذْبٌ وكلُّ فعالهِم
رياءٌ كأن الغشَّ في دمهم يجري!

عناء الطيف

أَرِحْنِي يا طيفَ الحبيبِ بهجرة
فإِنك توري حسرتي وتزيدها
ويا طيفَه أنت السرابُ تكيدني
وحوليَ صحراءُ الغرامِ وبِيدُها
تروِّعني بالشوق في كلِّ طرفةٍ
إِذا ما انقضت لوعاتُ شوقٍ تعيدها
ويا طيفُ قد قطَّعْتَ قلبي صبابةً
وعَذَّبَ عيني دمعُها وسهودها
ويا طَيْفُ لا في يقظةٍ أنت تاركي
ولا في هجود العينِ يحلو هجودها
وتشعل من شوقي الذي أنا مطفئ
وتحدث منه لوعة لا أريدها
وتبتعث النفس اللجوج إِلى الهوى
وقد شفَّها أن لا حبيبَ يعودها
كفاها من الوجدِ الأليمِ قديمها
فيا بؤسها إِن لم يمتها جديدها
حنانيك لا حبي قليلٌ ولا الهوى
لذيذٌ ولا الآمال يدنو بعيدها
وإِن لنفسي كل يومٍ شقاوةً
حبيبٌ ينائيها وخبٌّ يكيدها
أما آن أنْ تلقى مماتًا يريحها
فيُصدع عنها كبلها وقيودها
حياتي على الهجران شرٌّ من الردى
فوا حسرتا أن لا حمام يبيدها!
ويا طيفُ أنت البوُّ فيك مضاضة
وسخر وأم البوِّ أودى وليدها
أبيتُ طوال الليلِ أبكي بحرقةٍ
كأنيَ ثكلى قد أصيب وحيدها
فيا ليت أن العمرَ أنغامُ منشدٍ
إِذا ما مضت لي لذة أستعيدها
ولذات نفسي في الحياةِ قليلةٌ
فيا ويحها إِن لم أجد من يعيدها
لقد قُسِّمَتْ في الحبِّ بيني وبينكم
جدود الهوى والنفس شتَّى جدودها
فإِن جدودَ الحبِّ عند نحوسها
وإِن جدودَ الحبِّ فيكم سعودها
وللريحِ هباتٌ وللشوقِ مثلُها
وهباتُ شوقي لا يصاب ركودها
يسومون نفسي الصبرَ والصبرُ قاتلٌ
لقد صبرتْ لو أنَّ ذاك يفيدها!

سلوان الجنون

عسى ينعم الولهانُ منك بنظرةٍ
وهل بعدكم في العيشِ حُسْنٌ فيُنْظَرُ
عسى بالضلوع الخافقاتِ من الجوى
تقرُّ وبالقلبِ الجريحِ فيجبرُ
عسى تُسْعِدُ الأقدارُ يومًا بودكم
فيا طيبها لو أنَّ قربًا يُقَدَّرُ
عسى أن يعودَ النومُ عينًا كليلةً
فلا الدمعُ يقذيها ولا النومُ يَنْفِرُ
عسى أن يعودَ العيشُ جمًّا ضياؤه
وأحمد من مرآه ما كنتُ أُبْصِرُ
عسى هجرة تدعو المحبَّ فيرعوي
إِلى سلوةٍ تنهى الفؤاد فيزجرُ
فلا تحْزننْ إِن أدركتنيَ سلوةٌ
فأنت الذي علَّمْتَنِي كيف أصْبِرُ
عسى أن تجنَّ النفسُ فيكم جنونها
فلا ذكرة تصبي ولا فكر يخطرُ
فإِن جنونَ النفسِ سعدٌ وراحةٌ
وإِن عناءَ الحبِّ ذاك التذكر
فأنساك حتى لستُ أدري أعائش
على الأرضِ تسعى أم دفين معُفَّرُ!
وأنساك حتى لو عرضت مسلمًا
لما سرني منكم سلامٌ ومحضرُ
وأنساك حتى لا أريد وصالَكم
ولا الهجر يُجري دمعتي حين تهجرُ
كأَنك ما كنتَ الضياءَ لمقلتي
ولا مسمعٌ فيكم لذيذ ومنظرُ
كأنك لم تضحكْ فتضْحَكَ عيشتي
ولم تكُ غضبانًا فتدجو وتكدرُ
ولم تك لي الماءَ الزلالَ على الصدى
إِذا ذاقه الظمآنُ يُرْوَى ويسكرُ
كأَنيَ لم أَقْضِ النهارَ بحسرةٍ
ولم أكُ حتى مَطْلَعِ الفجرِ أَسْهَرُ
ولم يجرِ دمعي حرقةً وصبابة
ولم يك قلبي والِهًا يتسعَّرُ
ولم يك لي في كلِّ قولٍ تقوله
غناءٌ وألحانٌ تروق وتسحرُ
كأَنيَ لم أعشقْكَ في كل نبضةٍ
لقلبي ولم أعشقْكَ من حيث أشعرُ
كأَني لم أعشقك في كلِّ طرفةٍ
لعيني ولا في خطرةٍ حين تخطرُ
ولم أكُ من خوفي عليكم مروَّعًا
أبيت حذار السوءِ أبكي وأُذْعَرُ
ولم أكُ من شوقي أمرُّ ببيتكم
وأنتم نيامٌ، خائفًا أَتَسَتَّرُ
فإِن يبلغ الحبُّ الجنونَ فلا تَلُمْ
أما كل مجنونٍ على الهجر يُعْذَرُ؟

ليس لي شغل سواك

ليس لي شغلٌ سواكْ
فأجِزْ عني جفاكْ
شقيتْ بالناس عينٌ
لا ترى حتى تراكْ
أنت خيرُ الناسِ روحًا
كلُّ مخلوقٍ فِدَاكْ
لا يطيبُ العيشُ إِلا
بالذي فيه رضاكْ
أنت لا تعرف ما قدْ
بتُّ أُخْفِي من هواكْ
أنت معنى كلِّ حُسْنٍ
فله الله اصطفاكْ
أنت معنًى وهْو لفظٌ
مَنْ عناه قد عناكْ
يا نبيَّ الحسنِ إِني
مؤْمن يرجو هداكْ
إِن طرفي في عناءٍ
ليت طرفي ما رآكْ
إِن قلبي في عذابٍ
ليت قلبي قد قلاكْ
فَخَرَ الكونُ وأبدى
بهجةً حيث احتواكْ
أظلمَ العيشُ فجُدْ لي
بضياءٍ من سناكْ
بسلامٍ أو كلامٍ
أجتنيه في لقاكْ
إِن نفسي لك غرسٌ
كيف لا ترجو جداكْ
إِن نفسي لك أرضٌ
وقعت تحت علاكْ
أنت معنى كلِّ مخلو
قٍ فلا حيٌّ سواكْ!
فتعطَّفْ يا حبيبي
لا تخيِّبْ مَنْ دعاكْ!
وابْتَسِمْ يَبْتَسِمِ الدهْـ
ـرُ ويدجو من جفاكْ
وَقَعَتْ نفسيَ من حُبِّـ
ـكَ في شرِّ الشِّباكْ
ليس لي فيه معينٌ
لا ولا منه فِكاكْ
لمَ لا تُدْنِي محبًّا
كلما حنَّ بَكَاكْ؟
ما درى للعيشِ معنًى
قلبُه حتى هواكْ
ما رأى للعيش حسنًا
لحظُه حتى رآكْ
كيف تسلو عن محبٍّ
بك صبٌّ ما سلاكْ؟
لا هناك النومُ يا سا
لِبَ نومي لا هناكْ!
ما هناني النومُ مذ لا
حَتْ لعينَيَّ حُلاكْ
أيُّها القلبُ اسْلُ عنهُ
فهْو لا يدري لظاكْ
ناعمُ البالِ قريرٌ
ليته عانى جواكْ
أيُّها النشوان من خَمْـ
ـرِ الهوى من ذا سقاكْ؟
أيُّها الوالِهُ مِنْ وجْـ
ـدِ الهوى ماذا دهاكْ؟
ما نهاك الصدُّ والإِعْـ
ـراضُ عمن قد جفاكْ؟
ما أظن الحبَّ يحدو
بك إِلا للهلاكْ!

حلم بالبعث

رأيتُ في النوم أني رهنُ مظلمةٍ
من المقابر ميتْا حوله رممُ
ناءٍ عن الناسِ لا صوتٌ فيزعجني
ولا طموحٌ ولا حلم ولا كلمُ
مطهَّر من عيوبِ العيشِ قاطبة
فليس يطرقني همٌّ ولا ألمُ
ولست أشقى لأمرٍ لست أعرفهُ
ولست أسعى لعيشٍ شأنه العدمُ
فلا بكاءٌ ولا ضحك ولا أملٌ
ولا ضميرٌ ولا يأس ولا ندمُ
والموتُ أطهر من خبثِ الحياة وإِن
راعت مظاهرَهُ الأحداث والظلمُ
ما زلتُ في اللحدِ مَيْتًا ليس يلحقني
نبحُ العدوِّ وبي عن نبحهِ صممُ
مرَّت عليَّ قرونٌ لست أحفظها
عدًّا كأَنْ مرَّ بي الآبادُ والقدمُ
حتى بُعِثْتُ على نَفْخ الملائكِ في
أبواقهم وتنادت تلكمُ الرممُ
وقام حولي من الأموات زعنفةٌ
هوجاءُ كالسَّيلِ جمٍّ لجه عرمُ
فذاك يبحثُ عن عينٍ له فُقِدَتْ
وتلك تعوزها الأصداغ واللممُ
وذاك يمشي على رجلٍ بلا قدمٍ
وذاك غضبان لا ساقٌ ولا قدمُ
ورُبَّ غاصبِ رأسٍ ليس صاحبَه
وصاحبُ الرأسِ يبكيه ويختصمُ
ويبحثون عن المرآةِ تخبرهم
عن قبحِ ما تترك الأجداثُ والعدمُ
جاءت ملائكةٌ باللحم تعرضه
ليلبس اللحم من أضلاعنا الوضم
رقدتُ مستشعرًا نومًا لأوهمهم
أني عن البعثِ بي نومٌ وبي صممُ
فأعجلوني وقالوا: قمْ فلا كَسَلٌ
يُنْجِي من البعث، إِن الله مُحْتَكِمُ
قد مُتَّ ما مُتَّ في خيرٍ وفي دعةٍ
وقد بُعِثْتَ فماذا ينفع الندمُ؟
أستغفر الله من لغوٍ ومن عبثٍ
ومن جنايةِ ما يأتي به الكلمُ!

صنم الملاحة

صنمَ الملاحةِ والرشا
قةِ واللذاذةِ والألمْ!
ناجيتُ قلبَك كي يَرِقَّ
فما أحسَّ ولا رَحِمْ
يقسو فؤادُك يا صَنَمْ
أوَليس من حجرٍ أصَمْ؟
وخدعتني بغدير حُسْـ
ـنِكَ كالسرابِ إِذا أَلَمْ
وتركْتَنِي كالمصحر الـ
ـظَّمآنِ يهلكه السقمْ
صنمَ الملاحةِ زفرتي
تحييك من سِنة ونومْ
وتبثُّ فيك الحبَّ يا
صنم الملاحةِ يا صنَمْ!
فتحس فيك شجونه
وتصير من لحم ودَمْ
فدَعِ الجمودَ لأهله
إِنَّ الجمودَ هو العدَمْ
صنم الملاحة إِنَّ حُسْـ
ـنَكَ مثلُ ألحانِ النغَمْ
فإِذا لقيتكَ أو سمعْـ
ـتُكَ أو رأيتكَ في الحلمْ
تدع الفؤادَ كطائرٍ
إِنْ همَّ بالطيرانِ لَمْ
وتنام ليلك ناعمًا
وأبيت ليلي لم أنَمْ
صنم الملاحة إِنني
وهواك في نحسٍ وهَمْ
بلغ الغرامُ إِلى الجنو
ن فلا عتاب ولا ندَمْ
وملكتني فظلمتني
والحسنُ أظلمُ مَنْ حَكَمْ
وحييت بين الناسِ معْـ
ـروفًا بحبِّك متَّهَمْ
والحبُّ حلوٌ ذائبٌ
والحبُّ من صابٍ وسمْ
ومن العجائبِ أنني
بسرابِ حسنك معتصمْ
فكأن حسنَك ما جنى
شرًّا عليَّ ولا اجترمْ
يا ليت حبَّك يا صنَمْ
حُلْمٌ تجيء به الظلمْ
فأفيقُ منه مسلِّمًا
مثل الظلام إِذا انصرمْ
فكأنَّ حسنك لم يَكُنْ
وكأنَّ حُبَّك لم يُلمْ!

بين الحقيقة والخيال

أما عَلِمَتْ عيناك أني قتيلها
وكلُّ حبيبٍ بالمحبِّ خبيرُ؟
فليس عيونُ النرجس الغضِّ مثلَها
ولا القطرُ فوق الوردِ وهْو نضيرُ
وليس عيونُ النَّجمِ أبهى إِذا بدت
وللنَّجم لحظٌ في الظلام منيرُ
لعينيك سحرٌ ليس للسحر فعله
فليس لها في الفاتنات نظيرُ
أما عَلِمَتْ عيناك أنيَ عاشق
وأني غريبٌ في الحياةِ أسيرُ؟
أما عَلِمَتْ عيناك أن لحاظَها
تثير غرامًا واللحاظُ تثيرُ؟
إِذا ما كَرَرْتُ اللحظ نحوك طرفةً
رجعتُ ولحظي من سناك حسير
لقد كثرَ الناعون للودِّ بيننا
فهل يأتيَنِّي عن رضاك بشيرُ؟
حبيبي دعِ الدنيا تجيء بما تشا
فكلُّ فضاءٍ طائر سيطيرُ
وجدْ لي بذخرٍ من ودادِك وافرٍ
وكلُّ قليل من رضاك كثيرُ
وإِن تَلْقَ ودًّا مثل ودي فلا تكن
له عائفًا، أمُّ الودادِ نَزورُ
ولا تحسبنَّ الناسَ ناسًا فإِنهم
قرودٌ إِذا كشَّفْتَهُمْ وحميرُ!
وأكثر ما خالوه صدقًا وحِكْمَةً
نعيقٌ إِذا بينته ونعيرُ!
وآذانهمْ مثلُ الحميرِ طويلةٌ
وذيلهُمُ لا كالقرودِ قصيرُ!
بني آدم من قبل آدم قد مضت
عصورٌ على أعقابهن عصور
فإِن يكُ فيكم فطنةٌ وضمائرٌ
فللقرد عقلٌ وافرٌ وضميرُ!
ضمائركم لو تعلمون حبائلٌ
لها من أباطيل النفاقِ سيورُ
حبيبي لا يحدثْ لك الحسن غرَّةً
فكلُّ حياةٍ لو علمتَ غرورُ
أما أنتَ نسلُ القردِ كالناسِ كلهم
وذلك رأيٌ لو غضبت خطيرُ!
مشابه لا تخفى لديك كثيرةٌ
تحدثنا أن النظيرَ نظيرُ!
فإِن قلتُ أنت البدرُ فالقولُ كاذبٌ
وإِن قلتُ أنت الشمسُ فهْو فجورُ!
وما ذاك إِلا خدعةٌ وتعلُّلٌ
وبعض الخداعِ للحياة نصيرُ
وهل يستقيمُ العيشُ إِلا بخدعةٍ
وأيُّ سرورٍ في اليقينِ سرورُ؟
بلى أنت نسل البدرِ والشمس زوِّجا
وأنت جمالٌ للحياة منيرُ!

الحسود

أخٌ لي، وإخوانُ الصفاءِ قليل
خليلٌ وهل في الحاسدين خليلُ؟
إِذا ما بدت لي خصلةٌ يستجيدها
طواها عنيفٌ عند ذاك عجولُ
وأدركه مسُّ الجنونِ وأظلمت
عليه السماءُ، والنهارُ جميلُ
تنفَّسَ أنفاسًا سراعًا، وأبرقت
له لحظات كلهن غليلُ
فرائصه مرجوفةٌ، ودموعه
تَحَيَّرُ في آماقِهِ وتجولُ
وإِن تبدُ مني ريبة قال باسمًا
ألا إِنها طبْعٌ لديه دخيلُ
ويشدو بمدحي حاضرًا، ومديحُه
إِذا غبتُ عنه كالهجاءِ ثقيلُ
ويبسم للزاري عليَّ كأنَّما
يقول له أحسَنْتَ حين يقولُ
ويوهم صحبي أنني ذو عداوةٍ
أجولُ بعيبٍ فيهمُ وأصولُ
وأنيَ مغتابٌ وأنيَ حاسدٌ
أعيب عليهم فضلهم وأُذيلُ
إِذا استخبروا عن شيمتي ومحاسني
يجمجم قولًا مشكلًا ويميلُ
وإِن مدحوني جاهدين وأَكْثَرُوا
تململ حقدًا والحقودُ عليلُ
يُعِينُ على شتمي وإِن هو لم يَقُلْ
مقالًا وبعضُ الصامتين يقولُ
ويبغضني سرًّا كأنِّي وترْتُهُ
بفضلي وما تبغى لديَّ ذحولُ
ويعتد غنمًا أن تنيخَ مصيبةٌ
عليَّ وأني في الشقاءِ أقيلُ
كأَنَّ جحيمًا موقَدًا في ضلوعِهِ
تؤججه ريحٌ عليه تجولُ
وفيه شياطين من الحقدِ وجهها
يروعُ إِذا أبْصَرْتَه ويهولُ
فلا زال مسمومًا من الحقدِ عانيًا
ولا زال عني من هواه نكولُ

بالله ما تفعل لو بلغوك

بالله ما تفعل لو بلغوكْ
أني عَرَتْنِي جِنَّة من هواكْ؟
أأنتَ باكٍ للمحبِّ الذي
لم يعرف الذلةَ حتى رآكْ؟
أم ضاحكٌ لاهٍ به ساخر
والسخر أن تضحك ممن بكاكْ؟
بكاكَ للصدِّ ولوعاته
إِذ أظلمت عيشته من جفاكْ
وكيف لا يُذْهِب لبي الهوى
إِذ مضت لي أشهرٌ لا أراكْ؟
أظلُّ كالأعمى إِذا غبتمُ
فالعينُ لا تبصر حتى تراكْ
يا نور عيني، غال عيني العمى
أغدقْ عليها رحمةً من سناكْ
والعقلُ لا يعقل إِن غبتمُ
والنفسُ لا تأملُ إِلا رضاكْ
أبيتُ لا أذكر إِلا اسمَكُمْ
فليس لي في العيشِ شغلٌ سواكْ
حتى متى لا ودَّ لي منكمُ
حتى متى لا حظَّ لي من لقاكْ
مرآك مرآك الذي أبتغي
طوبى لعبدٍ قاطنٍ في ذراكْ
بالله ما تفعل لو بلغوكْ
أن الهوى أورد نفسي الهلاكْ
وأنني قد صرتُ في حفرةٍ
قنيصةَ الدودِ ويا بؤس ذاكْ
والدودُ لا يُفلت منه الرميم
والموتُ ما للمرءِ منه فكاكْ
أأنت تبكي للرميمِ الدفينِ
أم ضاحك مما جنته يداكْ؟
بالله ما تفعل لو بلغوك
أنيَ أسعى عامدًا للهلاكْ!
لما مللتُ العيشَ من بعدكم
سقانيَ السمَّ الذي لا سقاكْ
جرعتُ منه جرعةً كأسها
يروي صدى القلب الذي قد هواكْ
يا عجبًا لو كنتَ لي راحمًا
أَحُرْقَة الرحمةِ تكوي حشاكْ؟
اضْحَكْ ولا تحزن لما نابني
الجسمُ والروحُ جميعًا فداكْ!

الحب والحياة

إِني أحبُّك يا صديقْ
والحبُّ أهْوَنُهُ شديدْ
حبًّا يزيد على الملا
مِ كأنه الطفل العنيدْ
إِني أحبُّك ما حَيِيـ
ـتُ فإِن قضيت فلا يبيدْ
وإِذا بعثت فأنت شغْـ
ـلي لا الجزاءُ ولا الوعيدْ
والحبُّ فيه لذي الصبا
إِما الهلاك أو الخلودْ
والحبُّ مثل الخمر تشْـ
ـربها فيغريك المزيدْ
والحبُّ مثل الحرب إِنْ
شَبَّتْ يَشِيبُ لها الوليدْ
لا يسلمنَّ من اللوا
حظِ لا الجبان ولا الجليدْ
إِن السعادةَ والشقا
وَةَ والحمام لها جنودْ
فتكاتُ طرفِك كالمقا
درِ في المصادر والورودْ
لحظٌ يطل به الضيا
ءُ على المباسمِ والخدودْ
لحظٌ هو الصدقُ المبيـ
ـنُ وغيرُه الكذبُ الرديدْ
لحظٌ به سرُّ الحيا
ةِ وسرُّها أبدًا جديدْ
لا تخجلنَّ إِذا وُصِفْـ
ـتَ بحسنِ طرف أو بجيدْ
فالحسنُ أعظم ميزةٍ
والحسنُ كالذخرِ التليدْ
حدثتُ نفسي أن حُبَّـ
ـك لا الرشيد ولا الحميدْ
فإِذا عفوتَ فإِنني
وحياة حبِّكَ لا أعودْ
لو كان حسنُ العيشِ في الـ
ـصَّبواتِ كالنغمِ السديدْ
فإِذا انقضى عاودْته
فأعيده للمستجيدْ
لقضيتُ منه مأربي
ونعمتُ بالأملِ المديدْ
ليس السعادةُ للمحبِّ
بل الجميلُ هو السعيدْ
والحبُّ قد يجني على الْـ
ـمَعْشُوقِ من شرٍّ وكيدْ
أوَما ترى حَسَنَ الطيو
رِ يُصَاد للريشِ النضيد؟
تجني المناقبُ والصفا
تُ على الذكيِّ أو البليدْ
فالعيرُ ذلَّله الغبا
وجنى الذكاءُ على القرودْ
تتكسَّب الرزقَ القليـ
ـلَ لتضحك القومَ الجمودْ
حسبوا الأديبَ وقولَه
كالقردِ يضحك لا يفيدْ
أوَّاهُ من عنتِ الجهو
لِ وما يقولُ وما يكيدْ
لو كان قلبي كالرما
د لما أَلِمْتُ من الخمودْ
ولئن ضحكت فإِنه
ضحك البوارقِ والرعودْ
والحبُّ فيه تَعِلَّةٌ
تُلْهِي الشَّقيَّ عن الجدودْ
تُلْهِي المحبَّ عن الحيا
ةِ أو النحوسِ أو السعودْ
وتليح بالحلم اللذيـ
ـذِ وتحته الأمل الصَّدودْ
فاضرب بسهمك في الحيا
ةَ فما البكاءُ على فقيدْ؟
واندسَّ في وسط الزحا
مِ فما الخمول وما القُعُودْ؟
وارْقُصْ على نغم الحيا
ةِ فما لها أبدًا مُعِيدْ
واضحكْ وكُلْ واعملْ ونَمْ
وادأب على السعي المجيدْ
واحمل حياتك في يديْـ
ـك فإِن أصبْتَ فما تميدْ
واستقبل الأيامَ في
دعةٍ فمن بيضٍ وسودْ
فإِذا دَعَتْكَ منيةٌ
والمرءُ كالزرعِ الحصيدْ
فادلفْ لها دلفَ المجرِّ
بِ لا يخور ولا يحيدْ!

سراب الود

ألوي إِلى الناس وجهًا غيرَ منبسطٍ
وأتقيهم بقلبٍ غيرِ مسرورِ
أنَّى تلفتُّ لم أبصر سوى رجلٍ
بادي العداوةِ مخضوبِ الأظافيرِ
هم يحسدوني على عيشي فوا أسفي
عيشي عليلٌ وصُنْعِي غيرُ مشكورِ
تكشَّف الناسُ عن عادٍ له إِحنٌ
وعن ذليلٍ شديدِ الغلِّ مقهورِ
للناسِ في العيشِ من بدوٍ وحاضرةٍ
طبعُ العقورِ وإِما طَبْعُ معقورِ
ما كنتُ أختار هذي الناسَ منزلةً
لو أنني كنتُ حُرًّا غير مجبور
الشرُّ والكِذْبُ والأحقادُ طبعهمُ
والحقدُ في الطبع بادٍ غيرُ مستورِ
أسقي التصافي خليلًا لا يعاشرني
إِلا على رَنَقٍ منه وتكديرِ
إِذا اتخذْتُ خليلًا لي أصادقُه
دار الزمانُ علينا بالمقاديرِ
فينجلي صرفه عن واترٍ حنِقٍ
وعن مروعٍ كثيرِ الهمِّ مَوْتُورِ
عَلَلْتُ بالودِّ قلبي وهْو ذو أملٍ
لا الود يصفو ولا قلبي بمغرورِ
فما طلابي سرابًا عزَّ مطلبُهُ
وقد ظفرتُ بحظٍّ منه مقمورِ
أَمَا حبيبٌ رغيبٌ ذو مصادقةٍ
أقضي به العيش محمود المصاديرِ؟
إِني لأرحم نفسي أنني أبدًا
بين البغال وأحلام العصافيرِ!
يا ويْح نفسي، أما ألقى أخا ثقةٍ
كأَنما روحه صيغت من النورِ؟

عبث الحياة

(أرسل إلي صديقى الشاعر العبقري الجليل عباس أفندي محمود العقاد هذه الأبيات الآتية وهو مقيم بأسوان):

«يا جارَ بَحْر الروم ما لك صامتًا
هلَّا اقتديت بموجه المتجدِّدِ؟
غضبان من لؤم الحياة وإِنها
أَمةٌ ولكن ما لها من سَيِّدِ
إِما غضبت ففي جوارك خضرم
غضبان يقذف باللغام المزبدِ
إِني ألبُّ بموطن لو أَنَّهُ
قفْر لأطربني صغير الفدفدِ
تمضي الشهور وفي الجوانح لوعةٌ
تمشي على كبدي كحز المبردِ
أشكو الزمان إِلى القريض وتارةً
أشكو القريض إِلى الزمان المعتدي
فاكتب على هذا الزمان ذنوبه
إِنا نؤجله الحساب إِلى الغدِ
واضحك فإِن قالوا تَضَاحَكَ قانط
فاضرب لهم مثل الغمام المرعدِ
تالله لو علموا لكان مكاننا
فيهم أعز، وكيف عِلْم المقتدي»

(فأجبته بهذه الأبيات الآتية بالعنوان السابق):

ماذا يفيدُ تصوُّبي وتصعدي
في مسلكٍ للعيشِ غير ممهَّدِ؟
كالبحر في أحواله متغيرًا
عبثًا يضجُّ بموجه المتجددِ
عبثًا تعيثُ الريحُ في هباتها
كالحادثاتِ إِذا تروح وتغتدي
عبثًا يسير النجمُ في أبراجه
متنقلًا في سيره عن موعِدِ
عبثًا تضيء الشمسُ وجْهَ مسالكٍ
للعيش تزخرُ بالشقاءِ المزبدِ
لو كان يدري المرءُ قدْر شقائه
في العيشِ ودَّ لَوَ انَّهُ لم يُولَدِ
والناسُ غرقى في الشقاءِ ولؤمِه
من ناقمٍ يشكو ومن متبلِّدِ
ومن البليةِ أنني بشقائهم
وشقاوتي أمحو لذيذ تجلُّدِي
إِن التبلدَ والبلادةَ والغبا
مثلُ الخمورِ لذيذة والمرقدِ!
ولَرُبَّ صحوٍ للخمار مبغَّضٍ
يأتي بهمٍّ للحياة مجدَّدِ!
من لي بعيشٍ لا أحس صروفَه
كالماءِ أو كالنار أو كالجلمدِ!
ماذا يفيد تضاحُكٌ مِنْ قانطٍ
نار الجحيم بقلبه المتوقِّدِ؟
ضحك يهدُّ القلبَ وقْعُ رعوده
ولرُبَّ ضِحْكٍ في النعيم مغردِ!
ماذا على الإِنسان لولا نسله
إِن باع دنياه بموتٍ سرمَدِ!

الحياة والفنون

جمَّلكِ الله يا حياةُ كما
جمَّلَ وجْهَ السماءِ بالشُّهبِ
حديقةٌ للنفوسِ زاهيةٌ
ببدائع في الفنون والأدبِ
تجلو لك العيش من غياهبه
مستخلصًا من شوائبِ الريبِ
تنوِّر النفس نَورها أبدًا
في مشرق من ضيائها الذهبي
والحسنُ ضوءُ النفوسِ يظهرها
غرَّاءَ في حُلَّةٍ من اللهبِ
والحسنُ ثوبُ النفوسِ تلبسه
والنفسُ تُزْهَى بثوبها القشبِ
وكلُّ فنٍّ إِلى الجمال له
من محكم الصنعِ أقرب النسبِ
من علَّم المرءَ في بدايته
صنعَ مفيدِ الآلات والقضبِ؟
من علَّم المرءَ أن يقيم على الْـ
أرض بيوتًا مرفوعةَ الطُنُبِ؟
من علَّم المرءَ أن ينال من الْـ
ـمزمار والصنجِ لذةَ الطربِ؟
يحكي بها ضربه مُغَازَلَةَ الْـ
ـعاشقِ لينًا وسورةَ الغضبِ
واللحنُ خمرُ النفوس تشربه
واللحنُ سكر مثل ابنة العنبِ
يحكي به موقعَ الحوادث والْـ
أقدارِ من مغنمٍ ومن سلبِ
يحكي به الجدَّ إِذ يجد به الـ
ـدَّهْرُ وطورًا كرقصةِ اللعبِ
يحكي به السعدَ والشقاءَ وما
نُصِيبُ من نعمةٍ ومن كربِ
يحكي به خفقةَ الفؤاد على
حاليه من راحةٍ ومن تعبِ
من علَّم المرءَ أن يخط على الْـ
ـقرطاسِ لونًا من أعجب العجبِ؟
يحكي به الضوءَ والدياجير والْـ
أجسام من ناضرٍ ومن شحبِ
يحكي به الجلدَ في نعمومته
وما يليه من الدم السرِبِ
يحكي به أوجهَ الحياةِ وما
نراه في بدئها وفي العقبِ
كأنما يقبس الضياءَ من الـ
ـشَّمْسِ ويأتي بظلمةِ السحبِ
من علَّم المرءَ أن يقدَّ من الـ
ـصخرِ دُمًي في وضاءةِ الشهبِ؟
تلك مثال الكمالِ صَوَّرَهُ
يظل عريان غير محتجبِ
أو في ثيابٍ كأنما يبرز الـ
ـرِّيحُ بها الجسمَ ليس في حجبِ
تحسبها في الحياةِ ماثلةً
تفكر فيما تريد من أربِ
تحسب فيها القلوبَ نابضةً
خافقةً بالشعور والنصبِ
من علَّم المرءَ أن يقولَ من الـ
ـشِّعْرِ مقالًا كاللحنِ في الطربِ؟
يعلم الناسَ في سرورهِمُ
حكمةَ هذي الصروف والنوبِ
وأن هذي الفنون قاطبةً
جماعها في القريضِ والأدبِ
والفنُّ جمٌّ والعيشُ آخره
دانٍ دلوفٌ بالحادث الأشِبِ
وفي صروفِ القضاءِ عرقلةٌ
تقتل روحَ الذكاءِ بالريبِ
وتبعثُ اليأسَ والملالةَ والـ
ـشَّكَّ وتودي بهمةِ الطلبِ

مناجاة الأرواح

بحقِّ مَنْ خلقَ الأرواحَ ذاكيةً
وأَوْدَعَ الروحَ طولَ العمرِ في الجسدِ
وخالِق الحبِّ والأرواح تألفه
فيمنع المرءَ من صبرٍ ومن جلدِ
وجاعِلٍ رسلًا في القلبِ يرسلها
للقلب عن كثبٍ تسعى وعن بعدِ
وباعث من ضمير الصبِّ خاطرةً
مثل الفراشةِ حامَتْ حولَ ذي غيدِ
تلك المناجاة تدني الروحَ عن شحط
وتستقيدك في دلٍّ وفي ميدِ
بحقِّ من أنت من آيات صَنْعَتِهِ
صنعًا يلوح بحسنِ الواحد الصمدِ
لو شاء بزك ثوب الحسنِ أجمعه
فصرت عريان من أثوابِهِ الجددِ
ألا بعثتَ خيالًا منك في صلةٍ
يزورُ بالليل في نومٍ وفي سهدِ؟
وما انتفاعي بطيفٍ كله خدعٌ
يا ليته كان ذا روحٍ وذا جسدِ!
أو زرتني زورةً في الدهر واحدة
تجيء عفوًا فلم تخلف ولم تعدِ
كم قد دعوتك في الظلماءِ منفردًا
وكم صدحتُ كصدحِ الطائرِ الغردِ
أبيتُ سهرانَ مشغوفًا بذكركمُ
وليس يدنيك لا شوقي ولا سهدي
هيهات هيهات ما للقلب من رسلٍ
إِن الدعاءَ شفيعٌ غير ذي سددِ
لو أن للقلبِ ما خالوه من رسلٍ
لكنت تعرف ما وجدي؟ وما كمدي؟
بل أنت لاهٍ قريرُ اللعينِ ذو سنةٍ
في حين وجدي شديدٌ غير متئدِ!

أنا مجنون بحبك

أنا مجنونٌ بحبِّكْ
فأزل غُلةَ صبكْ
ليتني بالسحرِ معرو
فٌ فأبغي خلس لُبِّكْ
ليتكم كأس عقارٍ
وأنا مُغْرًى بشربكْ
أيها الظالمُ رفقًا
ليس قلبي مثلَ قلبكْ
إِن يكن في البعدِ موتٌ
فادنني أحيَ بقربكْ
أنت كالدهر مريبٌ
نجِّني من سوءِ ريبكْ
ليتني طولَ حياتي
أحمد العيشَ بجنبكْ
ليتني في الموتِ طولَ الـ
ـدَّهْرِ مدفونٌ بتربكْ
سلمك المأمول فردو
س فأخمد نار حربكْ
ودُّكم كالسحب وعدٌ
ووعيدٌ طي سحبكْ
عتبكم عتب الليالي
لم أجد عتبًا كعتبكْ
أنا أهواك وما لي
منك إِلا سوء غيبكْ
ألِهَدْيٍ ضوء عينكْ
أم لرجمٍ لحظ شُهْبكْ
أنت بستانٌ أنيقٌ
نضجت أثمار رطبكْ
أتعدُّ الذنبَ ذنبي
ليت لي قلبًا كقلبكْ
ذنبيَ الحبُّ لديكم
ليت ذنبي مثلُ ذنبكْ
يا طبيبَ الحبِّ ليس الْـ
ـهجرُ من ناجعِ طبكْ
إِنَّ قلبي طولَ دهري
ناظرٌ يرنو لصوبكْ
كلُّ خيرٍ دون شرِّكْ
كلُّ صدقٍ دون كِذْبِكْ
كلُّ عذبٍ دون مُرِّكْ
كلُّ جدٍّ دون لعبكْ
كلُّ صعبٍ دون سهلكْ
كل فضلٍ دون عيبكْ!

ظالمي ما أعدلك

ظالمي ما أعدلكْ
فاقْضِ إِنَّ الحكم لكْ
ليت روحي طرفةٌ
وجده عنك ملكْ
متُّ من داءِ الهوى
ليت حبًّا قتلكْ
لا يغرَّنَّكَ أن الْـ
ـقلبَ عبدٌ ذلَّ لكْ
كم جميل ما بدا
فاتنًا حتى هلكْ
أيُّ ذنبٍ جئته
عن ودادي نقلكْ؟
أي أمرٍ طارقٍ
عن دعائي شغلكْ؟
قد بدا لي يا حبيبي
منك أن لا قلب لكْ
إِن يكن فيك جمالٌ
إِنَّ شِعْرِي جَمَّلَكْ
كل حُسْنٍ شمته
فيك روحي حاك لكْ
ليت لي يا قلب قلبًا
طائعًا لي بدلكْ
قد دعا داعي الهوى
فاتَّئِدْ ما أعجلَكْ
لتموتنَّ ولا تَبْـ
ـلُغُ منه أملكْ
ما أظن الحبَّ إِلا
بالغًا بي أجلك!

ليتني وليتك

ألا يا ليتني نسمهْ
ويا ليتك لي زهرهْ
فأهواك وتهواني
فلا عتب ولا هجرهْ
وكنتُ الروضَ ممطورًا
وكنتَ الغيث لي مطرهْ
ألا يا ليتني ماءٌ
ويا ليتك لي خمرهْ
فأحويك وتحويني
ولا وجد ولا غدرهْ
ألا يا ليتني ليلٌ
وكنتَ الدهرَ لي بدرهْ
ألست الليل أحويك
وأنت البدر لي غرهْ؟
ألا يا ليتني طرفٌ
وكنتَ الدهرَ لي نظرهْ
فألقاك وتلقاني
فلا بعد ولا ذكرهْ
ألا يا ليتني بحرٌ
ويا ليتك لي قطرهْ
ألا يا ليتني أفقٌ
وكنتَ النجمةَ الزهرهْ
ألا يا ليتني معنى
وكنت الدهرَ لي سرَّهْ
ألا يا ليتني مَيْتٌ
ويا ليتك لي حُفْرَهْ
فلا شوقٌ ولا يأسٌ
ولا نهيٌ ولا زجرهْ!

لولاك

لولاك ما ذقتُ طعمَ العيشِ لولاكا
فالحلوُ والمرُّ معقودٌ بجدواكا
لولاك ما بتُّ طولَ الليلِ مكتئبًا
ولا حننت لبرقٍ من ثناياكا
تصيحُ بي الطيرُ إِني عاشقٌ لكمُ
من علَّم الطيرَ أنَّ القلبَ يهواكا؟
والزهرُ يعذرني فيكم ويبسم لي
هل يعلمُ الزهرُ ما تجنيه عيناكا
يهبُّ شوقي لريحِ الوردِ أنشقه
كأنما نفحاتُ الوردِ ذكراكا
أهوى النسيمَ الذي من نحو بيتكمُ
يا طيبه حينَ يأتينا برياكا
أحببتُ من حبِّكم من كان يعرفكم
كأنما قربه من طيبِ رؤياكا
فإِن في عينه عن حسنكم خبرًا
ونظرة سُرِقَتْ من حسنِ مرآكا
حبيبُ يا زهرةَ الدنيا وبهجتها
هل من ودادٍ فتلقاني وألقاكا؟
أمشي أحدثُ نفسي عنكمُ أبدًا
لعلَّ قلبيَ يسعى بي لمثواكا
اختارني الحبُّ دون الناس كلهمُ
فهبَّ قلبي ولباه ولباكا
كم يخلقُ القلبُ من نجواكُم رسلًا
هل جاءكم هاتفٌ منه فحياكا؟
يطيفُ بي هاتف من طيفكم أبدًا
يا ما أميلحه لو كان إِياكا!
من حبِّكم صرتُ أبغي عنكُم بدلًا
أقول يا ليت أن القلبَ يقلاكا
أشكو إِلى الريحِ ما ألقى بحبكُمُ
يا قلبُ صبرًا فما تجديك شكواكا؟!

الربيع والصبا

يا قلبُ ما لك كالشتاءِ وبؤسه
أيعودُ شجوك في الربيعِ الآتي؟
قد كانت الآمال فيك صوادحًا
تهفو بسمع أحبتي ولداتي
وتليح لي بمطامعٍ مرجوةٍ
إِذ أنت تدعو والحبيبُ يؤاتي
يا قلبُ نابذك الهوى ونبذته
أفهل نسيتَ محاسنَ اللذَّات؟
ذهب الهوى بزهورِه وطيورِه
أفلا يصيخُ لدعوتي وشكاتي؟
من لي بأيامٍ له محمودةٍ
ذهبيةِ الأشواق والصبواتِ؟
نستقبل الأقدارَ وهْي كوالحٌ
فنعيدها مبيضةَ الصفحاتِ
ذهب الربيع أخو الصبا بذهابه
فالطيرُ خرسٌ ميتةُ النغمات
أين السبيل إِلى معاودةِ الصبا؟
أيعودُ شجوُ القلبِ بعد فواتِ؟
والقلبُ مثلُ الزهرِ يحييه الهوى
يومًا ويدركه الأسى بممات
والمرءُ يحيا بعد فَقْدِ شجونِهِ
ليست حياةً بعدها بحياةِ
فالصدرُ قبرٌ والشجونُ رفاتُه
ذكرى تليحُ بحفرتي ورفاتي!

ليلة القدر

أمانًا ليلة الدهرِ
أمانًا ليلةَ العمرِ
فقد أبْصَرْتُ مَنْ أهوى
شبيهَ الوجْهِ بالبدر
فبتُّ الليلَ سهرانَا
أنادي اللهَ بالجهرِ
عسى يدني مُنى قلب
شقيٌّ فيك بالهجرِ
وأستدنيك بالنجوى
وأستدنيك بالسحرِ
فلم أظفر بمأمولٍ
وولَّتْ ليلةُ القدرِ
عناءٌ كلها كانت
من الإِمساء للفجرِ

الرحمة (منقولة عن شكسبير)

وما الرحمةُ الغراءُ بالقهرِ تُجْتَدَى
ولا يستقيد القسرُ أفضالَ راحمِ
تجود كما جادت سماءٌ بغيثها
فتجدي كما يجدي سخيُّ الغمائمِ
أليستُ كقطرِ الغيثِ ريًّا ونعمة
تعيد وجوهَ الروضِ غرَّ المباسمِ؟
وتبدرُ من قلبِ العظيم عظيمةً
وأَعظم نفعًا في فعالِ الأعاظمِ؟
فطوبى لذي همٍّ ينالُ شفاءها
وطوبى لذي فضلٍ كثيرِ المكارمِ
تطهرُ قلبَ المرءِ لو يستطيعها
وتكسرُ من شرِّ الخطوبِ الهواجمِ
هو الرفق تاجٌ للملوك يزينهم
بأحسن من تيجانهم والصوارمِ
وفي صولجان الملك روعٌ لناظرٍ
يدل على بطشِ الملوكِ القماقمِ
ويملأ قلبَ المرءِ خوفًا وهيبةً
فيفرق من سطوِ الطغاةِ الغواشمِ
ولكن مُلْكَ الرفقِ أَعلى مكانةً
تبوِّئهم ملكًا رفيعَ الدعائمِ
فإِني رأيتُ الرفقَ كالخلد ملكه
ولكن ملك السيف ليس بدائمِ
وما نعت الرحمنُ إِلا بنعته
فطوبى لجمِّ الرفق جَمِّ المراحمِ
إِذا ما مَزَجْتَ العدلَ بالرفق جاهدًا
وإِني رأيت الرفقَ خيرَ المطاعمِ
بلغتَ رضاءَ الله في خير نعتهِ
وسرتَ على نهج النفوسِ الكرائمِ

غروب الشباب

يموتُ شبابُ المرءِ والمرءُ غافلٌ
ويعقبه بعد الشبابِ مشيبُ
ويمضي شبابُ العاشقين وما انقضى
لهم أربٌ من عيشهم ونصيبُ
شبابُ أَضِئ لي العيشَ كالشمس كلما
حداها إِلى باب السماءِ غروبُ
طَلَعْتَ طلوعَ الشمسِ والعمرُ واضحٌ
شهيٌّ، وأثمار الحياةِ تطيبُ
وتغرب عنا مغربَ الشمسِ رائعًا
وأنتَ على ما كان فيك حبيبُ
تضيء بحارَ العمرِ كالشمسِ حقبة
وتطفئك الأحداثُ وهْي خطوبُ
لك الشَّفَقُ المشبوبُ كالنار كلما
تأجج في صمِّ الضلوع لهيبُ
وتندبك الأشجانُ وهْي سحائبٌ
لها منظرٌ عند الغروبِ مهيبُ
فقمْ يا مشيبي واملأ العيشَ وحشةُ
لها من دياجير الظلامِ ضروبُ
وما الشَّعَرُ المشبوبُ في الرأس حليةٌ
ولكنْ رمادٌ للحياة يريبُ
وما الشعَراتُ البيض فيك مضيئةٌ
وليس لها في الزاهرات ضريبُ

الحب القديم والجديد

ذهب الحبُّ فلا تحزن له
ومضى الوصلُ فلا يُغْنِي الندمْ
كنت تسقينيَ من كأسِ الهوى
جرعاتٍ هي من خير النِّعَمْ
فإِذا الحبُّ نعيمٌ ينقضي
وإِذا حُسْنك طيفٌ في الحلمْ
لا يحلُّ البغضُ فينا منزلًا
حلَّه فينا الغرامُ المنصرمْ
كلُّ شيءٍ لبلاغٍ ومدًى
ومدى الحبِّ ملالٌ وسأمْ
فابتدره وهْو في إِبَّانه
واسْلُ عنه وهْو نضوٌ منثلمْ
أولُ الحبِّ عبابٌ زاخرٌ
وبقاياه كموجٍ منهزمْ
لا أريدُ الحبَّ إِلا رائعًا
مالئًا للنفس كالسيل العَرِمْ
ليس للعتبى مجالٌ بيننا
فبنا عن رجعة العتبى صممْ
إِن نحاولْ رجعَ وصلٍ دارسٍ
لا يعود الذكرُ إِلا بالألمْ
لذة الذكرى إِذا ما لم يكن
كلف يجلبُ للقلبِ السقمْ
لك في الناس أليفٌ عاشقٌ
ولنا في الناس عشقٌ مكتتمْ
قد بلوناك حميدًا في الهوى
وبلوناه حميدًا لا يُذَمْ
لك من ودي نصيبٌ وافرٌ
حافظٌ عهدَ الزمانِ المنصرمْ
ليس للحبِّ قيودٌ أو إِسارٌ
إِنما الودُّ كفيلٌ بالذممْ
أنت عندي مثلُ حلمٍ رائقٍ
أو خيالٍ يطرق النومَ مُلِمْ
أو كنور البدر فضيًّا له
وترٌ في القلب فضيُّ النغمْ
غير أن الشمسَ يوري نورها
في نواحي القلبِ حبًّا كالضرمْ
يبعث الرغبةَ فينا حرُّها
إِنما الرغبةُ نار تضطرمْ
ولنا في الناس إِلفٌ حسنُهُ
مثلُ حسن الشمسِ جالٍ للظلمْ
أنا منه كلَّ يومٍ في جوًى
يستبيح القلبَ من لحمٍ ودمْ
ومن العشق جنونٌ خابلٌ
يزدري المرء له وقع التُّهمْ
ما على العاشقِ من لوعاته
ما يرى في الحبِّ من عذلٍ وذَمْ
وحبيبٌ باسمٌ مثلُ الضحى
وإِذا فاتحته الحبَّ وَجَمْ
جاهلٌ بالعيشِ لا يعرف ما
تخبأ الأيامُ من صرفِ القسمْ
يحسب الحبَّ كَحلْىٍ زائنٍ
لابسًا من درِّه ما ينتظمْ
إنما الحبُّ جنونٌ وجوًى
ورجاء واجترامٌ وندمْ
وبه للنفس مَحْيا أو ممات
وبه للقلب غنمٌ أو نقمْ
يرفع الحبُّ ذليلًا خاملًا
ويذل الحبُّ شهمًا لم يُضَمْ
كما محبٍّ هالكٍ من لوعةٍ
وحبيبٍ بات كالصخر الأصمْ
ولقد يجني على الحسن الهوى
مثلما يجني على العيش العدمْ!

مواطن الحب

الحبُّ طلاَّعُ الثنايا له
في كل وادٍ جيئةٌ أو ذهوبْ
وفي الجيال الشمِّ وكرٌ له
كأنه النسرُ إِليها يئوبْ
وفي الكوخ نزَّال وفي الروضة الْـ
ـغَنَّاءِ نزال بها لا يريبْ
تراه في الصحراءِ في ظعنه
وفي القصور البيضِ إِلف ربيبْ
لا في المكان الجدبِ مستوحشًا
وليس يزهوه المكانُ الخصيبْ
له على الأمواج مسعًى وفي الـ
ـرِّياحِ مسعًى رائعٌ لا يخيبْ
فراشه الأرضُ على رحبها
وسقفه وجهُ السماءِ الرحيبْ
بين القبور ضاحكٌ تارة
ونائحٌ طورًا وطورًا قطوبْ
أما ترى العشاقَ في خلوةٍ
وطاؤهم قبر وروضٌ قشيبْ؟
فلمْ يبالي الميتُ في قبره
ما دام يخلو بالحبيبِ الحبيبْ؟
إِن لهم في عيشهم فسحةً
للفكر يحدوه الأسى والمشيبْ
فدعْهُمُ الآن على غِرَّة
فإِنما الغِرةُ عيشٌ خَلوبْ
يلعبُ بالأرواح هذا الهوى
كالطفلِ يلهيه الذبابُ الصخوبْ
ليس فقيرٌ جاهلًا أمره
ولا غني خاليًا لا يريبْ
كلاهما طبٌّ بأمر الهوى
فإِنما دارُ الغرامِ القلوبْ
في كلِّ أرضٍ منه إِثْر له
وكلُّ ريحٍ من شذاه تطيبْ
في كلِّ دارٍ من جواه مريض
وكلُّ قلبٍ فيه جرحٌ رغيبْ

جنون الحياة

لا تُرعْ فالدهرُ مجنونُ
كلُّ حىٍّ فيه مغبونُ
جنَّ من حولٍ ومقدرةٍ
وكذا ذو الحولِ مجنونُ
كلُّ ثبت الجأشِ في دعةٍ
وقليلُ الصبرِ محزونُ
إِنما الدنيا لذي خلدٍ
رأيُه بالعزم مقرونُ
هذه الأقدار محدقة
غرَّ منها الضيقُ واللينُ
نحن في أقدامها كرةٌ
ما لنا في العيشِ تأمينُ
لا تفكر في مصادرها
كلُّ هذا الفكرِ مظنونُ
لا تفكر في مصائبها
أيُّ ما أملت ميقونُ
فعلامَ الخوف من غِيرٍ
للعوادي شرها الحينُ
احْسُ كأسَ العيشِ في دعةٍ
لا يرْعك العزُّ والهونُ
كسرابِ البيدِ عيشتنا
ما لنا في الدهرِ تمكينُ
صورٌ للدهرِ يعرضها
ثم تخفى وهْو مدجونُ
كم ترى في العيش ذا وجلٍ
أي شيءٍ فيه مأمونُ
لو يفيد الخوفُ صاحبَه
صحَّ أن السعدَ مضمونُ
وتناجي ما مضى أبدًا
أيجيب الحيَّ مدفونُ؟
إِن أتاكَ الهمُّ مشتملًا
سيفه والسيفُ مسنونُ
ورأيت القلبَ منك جرى
دمه والقلبُ مطعونُ
دار عنه الناسَ كلُّهمُ
إِن برَّ الناس مظنونُ
ثم قَهقِهْ في وجوهِهِمُ
وإِذا ما لام محزونُ
فتضاحَكْ، ثم قل أبدًا
إِن هذا الدهر مجنونُ!
دهرنا دار المجانين
كل حي فيه مسجونُ!

فراشة الحب

شَرِبْتُ بلحظك كأسًا تلذُّ
فأسكرْتَني يا مليحَ الهشاشِ!
فأنت نعيمي وأنت شقائي
وأنت هلاكي وأنت معاشي!
وبعدُك عنيَ موتٌ كريهٌ
وقربُك بعثٌ يجد انتعاشي
فحتَّامَ أدعوك لا تستجيب
وطرفي إِلى نور وجهك عاشي
أحوم عليه وفيه الهلاكُ
كما حامَ بالضوءِ طيرُ الفَراشِ
أظلُّ إِذا لحتَ ذا لوعةٍ
كذي القرِّ في هزةٍ وارتعاشِ
أموتُ من الحبِّ يومًا فيومًا
وحبُّك في القلبِ نامٍ وناشي
وهيهات أسلو وحسنك ريٌّ
أيسلو عن الري سربُ العطاشِ
وفي الحسنِ حاجةُ نفسِ الأديب
هي الطيرُ وهْو لها كعشاشِ
فلا تأخذنَّ بقولِ العدوِّ
فالكِذْبُ في الناس بادٍ وفاشي
فخيرهُمُ فيه طبع الجحاشِ
وشرهُمُ فيه طبعُ الخشاشِ!

عصفور الجنة

ألا يا طائرِ الفردو
سِ قلبي لك بستانُ
ففيه الزهر والماءُ
وفيه الغصن فينانُ
فغرِّدْ فيه ما شئتَ
فإِن الحبَّ مرنانُ
وفيه منكَ أنغامٌ
وفيه منك ألحانُ
وللأشجان أوتارٌ
وناياتٌ وعيدانُ
ألا يا طائرَ الفردو
س إِن الشعر وجدانُ
وفي شدوكَ شِعْر النفْـ
ـس لا زورٌ وبهتانُ
فلا تعتدَّ بالناسِ
فما في الخلق إِنسانُ
وجدْ لي منك بالشعرِ
فإِنا فيه إِخوانُ
ألا يا طائرَ الفردو
س قلبي منك ولهانُ
فهل تأنفُ من روضي
وما في الروضِ ثعبانُ؟
وهل تفرق من جوِّي
وما في الجوِّ عقبانُ؟
وهل تنفر من قلبي
كأن القلبَ خوَّانُ؟
فما لي منكَ إِسعادٌ
ولا لي منك لقيانُ
ألا يا طائرَ الفردو
س إِن الدهر ألوانُ
وللأقدارِ أحكامٌ
وللمخلوق إِذعان
أرى الأحداثَ إِسرارًا
ستمسي وهْي إِعلانُ
ويهفو بكَ ريبُ الدهْـ
ـرِ إِن الدهرَ طعَّانُ
فلا حسنٌ ولا شدوٌ
ولا زهرٌ وأغصانُ
سيبقى لك في قلبي
موداتٌ وتحنانُ
فإِن ملَّكَ أحبابٌ
وإِن عقَّك إِخوانُ
وإِن رابك من عَيْـ
ـشِكَ لوعات وأحزانُ
وإِن باعدك الحسن
وثوبُ الحسنِ خلقانُ
فجرِّبْ عندها قلبي
فقلبي منك ملآنُ
إِذن تَعْرِفُ أن القلـ
ـبَ من حبِّك نشوانُ
فعشِّشْ فيه في أمنٍ
فقلبي بك جذلانُ
وأسمِعْني من الشعرِ
فإِنَّا فيه خلانُ
وهل تفهمُ ما أعني
وهل للطيرِ أذهانُ؟!

إلى الروح التي أهوى

إِلى الروح التي أهوى
أعزَّ الله مأواها
حياءٌ صدَّها عنا
وسوءُ الظنِّ أقصاها
فهل من عطفةٍ تُرجى
فإِنَّا نتمناها
وروحي نحوها تهفو
فليت الحبَّ أدناها
لعلَّ الموتَ يدنينا
ويؤينا وإِياها
أجوبُ العالمَ المجهو
لَ جذلانًا بلقياها
إِلى الروح التي أهوى
أطابَ اللهُ مثواها
لقد أفسدت العيشَ
فليت القلبَ يقلاها
ونعم العيش لو تدنو
وبئس العيش لولاها
وكان العيشُ محمودًا
بملقاها ورؤياها
فليت الحبَّ أصماها
وليت الحبَّ أعداها
فتدري لوعةَ الأشوا
قِ واليأسِ وحاشاها
لعلَّ الله يرعاها
فإِن القلبَ يهواها
فهل من مبلغٍ قولي
إِلى الروح التي أهوى؟

بعد الحسن

عتبتُ فلم ينفع لديك عتابُ
وقلتُ وما لي في هواك جوابُ
وكنت أعد الحسنَ فيك فطانةً
وإِن جنوني في هواك صوابُ
سأصبر حتى يتلف الدهرُ حسنَكم
وكلُّ بناء لو علمتَ خرابُ
وكيف يتيه المرءُ من حسن وجهه
وعقبى جمال الفاتنين ذهابُ؟
سأصبر حتى تنقضي منه دولةٌ
وتصبح تُقلى تارةً وتعابُ
فجرب ودادي تلقني لك حافظًا
وإِنيَ أرضى والأنام غضابُ
تجدني أخاك الصادق الودِّ لم أَخُنْ
إِذا خان من فوتِ الجمال صحابُ
وتعلم ما ودِّي وما كان حسنكم
وتعرف أي الباقيين سرابُ
وأبصر فيك الحسن من بعدِ عهده
وأي ودادٍ بعد ذاك يصابُ
وليست حياةُ المرءِ إِلا سحابةً
تمر وما غرَّ اللبيبَ سحابُ
وتبكي على العهد القديمِ الذي مضى
وليس لحسنٍ فات عنك إِيابُ
وما ينفع المرءَ الحزينَ بكاؤه
إِذا صال ظفرٌ للزمان ونابُ
ستصبح يومًا في التراب مجندلًا
بفيك وفي العينين منك ترابُ
وتمسي رفاتُا في الترابِ ذليلةً
يقيء الفتى من مسِّها ويصابُ
فخفف قليلًا من جفائك واتَّعِظْ
فما ينفع الوجه الأغر شبابُ
أُخَيَّ أما من عطفةٍ أستفيدها
لديك فإِن البعدَ عنك عقابُ؟
ولا تحسبنْ أنِّي سكتُّ ملالةً
فإِن سكوتي في هواك خطابُ!

الحب والخلود أو وحي الشعر

قد سقاني هواك كأسَ الخلود
وحدا بي للعزة القعساءِ
وسما بي فوق السموات حتى
صِرْتُ مثل السماءِ فوق السماءِ
وجرى بي شوطًا بعيدًا فخلَّفْـ
ـتُ ورائي نوابغَ الشعراءِ
صرت كالبدر في السماء منيرًا
في دجًى من جهالةِ الجهلاءِ
حدَّثَتْنِي عنك النجومُ حديثًا
وحديثُ النجومِ ومضُ الضياءِ
أنت وحيي ومنطقي وخيالي
وبياني وهمتي وذكائي
شاعرَ الحسنِ إِنَّ حسنَك والخلْـ
ـد وشعري ريُّ النفوس الظماءِ
ظمأٌ دائمٌ وريُّ سرابٍ
أم زلال ذو نشوة وصفاءِ؟
رُبَّ شعرٍ كالداءِ مُرٍّ وشعرٍ
صادق الفعلِ ناجعٍ كالدواءِ
منه ما يجلب بالزمانةَ والسقـ
ـمَ ومنه مستجلبٌ للشفاءِ
إِن تكن وحيَ شاعرٍ يبلغ الشمْـ
ـسَ ويربو على مدى الجوزاءِ
أنت كالشمسِ في نهاري مضيء
ومنيرٌ في الليلةِ القمراءِ
وملأتَ الفؤادَ نورًا ونارًا
فانْمَحَتْ منه آيةُ الظلماء
وجعلتَ الفؤَاد بحرًا خضمًّا
وشعورًا يجيش كالهيجاءِ
كنتَ لي ناظرًا يرى بلحاظ الـ
ـظَّنِّ ما لا يلوح للبُصَرَاءِ
وجلوت الحياةَ غرَّاء تزهو
فألاحت بالحجةِ البيضاءِ
وجعلت الفؤَادَ كالطير يشدو
أو فصيح مجوَّد الغناءِ
وجعلت الفؤادَ زهرًا زكيًّا
وجِنانًا فسيحةَ الأرجاءِ
أنت أفهمتني الملالةَ واليأ
سَ وعَلَّمْتَنِي صنوف الرجاءِ
أنت أنبتَّ لي جناحًا وأرهفْـ
ـت سهامًا كثيرة الإِصماءِ
لك في النفس منزلٌ ومسيرٌ
كمسير الدماءِ في الأعضاءِ
وخلقت الحياةَ خلقًا جديدًا
ثم أبديتَ لي كنوزَ البقاءِ
وجعلت الفؤاد ينبض نبضًا
ذا وئيدٍ كالضربةِ الهوجاءِ
آه ما أتعس المعايش والأيَّـ
ـام لولا عواطف الشعراءِ
كجنون النعيمِ والبؤس فيهم
وهْي تبدو لغيرهم كذُكاءِ
كنتَ لي نجمة تلوح لهديي
ورشادي في العيشة الكدراءِ
كنتَ نحسي وشقوتي ورخائي
وعنائي ولذتي وثرائي
كنتُ آتي بالشعر مما أراه
من ضياءٍ وروضة وهواءِ
صرتَ لي في اللحاظ ضوءًا وفي السمْـ
ـع غناءً يطير بالأهواءِ
ونسيمًا في الأنف رطبًا ذكيًّا
وعُقاري وموردي وغذائي
وجعلتُ الكمالَ فيك مثالًا
ووصفت الكمالَ للأحياءِ
وقبست الأشعارَ من حسنك الغضِّ
وحكت القريضَ للفطناءِ
فلئن كنتُ قد أصبتُ وأبدعْـ
ـتُ فأنت الخليقُ بالإِطراءِ
ولئن كنتُ قد عجزت وقصَّرْ
ت فحكمٌ مقدرٌ في القضاءِ
عبث نسبة الغناءِ إِلى الروْ
ضِ فليس الغرابُ كالورقاءِ!

الحب والود

ألا إِن أشقى الناس من لا تقاربُهْ
وإِن سعيد الناس من أنت صاحبُهْ!
وكيف أُرَجِّي للملمَّات صاحبًا
أفاتحه ودي فيزورُّ جانبُهْ؟
وليس لقلبي جرأة فأؤمه
وليس لقلبي سلوة فأجانبُهْ
وأقسم لو أني عليه مملكٌ
لما كنتُ أفشي ذنبَهُ أو أعاقبُهْ
فكيف وما لي قدرة فأقيده
ولا ليَ منه عطفة فأعاتبُهْ
فيا آفةَ القلب الطموحِ إِلى الهوى
غَلَبْتِ فَرِفْقًا بالذي أنت غالبُهْ
أتهجر خلًّا وافيًا أنت همه
وتترك قلبًا والهًا أنت شاعبُهْ؟
أراني إِذا ما غبت عني كأَنني
خميص قد استعصَتْ عليه مكاسبُهْ
طرقت بيوتَ الناسِ أبغي مودةً
وكلُّ خليلٍ ماذق الودِّ كاذبُهْ
فلما بدا لي منكما ما أعزه
هويتكما والحبُّ شتَّى معاطبُهْ
وهل عجبٌ أن يعشقَ الفضلَ والحجى
أديبٌ يرى في الفضل قرنًا يقاربُهْ؟
وهل من جناح أن أكون أخاكما
فتزهر من ليل الحياةِ كواكبُهْ؟
وما ليَ في حسن الحسانِ مآربٌ
إِذا أَرْدَتِ المرءَ اللئيم مآربُهْ
وما الحسنُ إِلا زينة الفضلِ والنهى
وكلُّ لئيمٍ أسود الروحِ شاحبُهْ
وما كلُّ حبٍّ لاعجٍ بمحرَّمٍ
ولا كل من يهوى هوًى هو شائبُهْ
أما أنتما حبٌّ قديمٌ كتمته
سنين وحُبٌّ لا أزال أحاربُهْ
فيا أخويَّ استيقنا وتبصَّرَا
رويدكما فالدهرُ شتَّى عجائبُهْ
وإِن خليلَ الفضلِ ريٌّ ونعمةٌ
وإِن خليلَ السوءِ تسري عقاربُهْ
فمن لي بمن أُلْقِي إِليه سريرتي
وأفضي إِليه بالأسى وأصاحبُهْ؟
فما أنا ممن يعشق الغيدَ قلبُهُ
وتسكب من هجر الحسان سواكبُهْ
ولكنَّ قلبي يعشق الحسنَ والحجى
إِذا اقترنا والخلق شتى مطالبُهْ
مَنَحْتُكُمَا قلبي فهل ذاك نافعي؟
أيرتجع الموهوب مَنْ هو واهبُهْ؟
أحبكما للحسن والحسنُ باهرٌ
وأهواكما للفضلِ شتى غرائبُهْ
وأحسن فضلٍ في الورى فضلُ باسمٍ
جميل المحيا لا تصاب معايبُهْ
بربكما لا تتركاني كغارقٍ
يغالب لجَّ اليأسِ واليأسُ غالبُهْ
ولا تتركاني فارغَ العيشِ خائبًا
وكلُّ حزينٍ فارغ العيش خائبُهْ
ولا تتركاني في الحياةِ كذي ضنًى
تَعَدَّتْهُ عُوَّادٌ وملَّتْ أقاربُهْ
ولا تحسبا أن السكوتَ جلادة
فما كل صمتٍ يَحْمَدُ العيشَ صاحبُهْ
وإِن غبتما فالعيشُ كالليل مظلمٌ
تعبُّ طواميه وتدجو غياهِبُهْ
وإِن تهجراني فالسلامُ عليكما
سيصدع قلبي منكما ما أغالبُهْ
ولن تجدا ودًّا كودي فجَرِّبَا
هل العيشُ إِلا طعمه وتجاربُهْ
خليليَّ إِن الدهرَ ما تَعْلَمَانِهِ
وإِنَّ مريرَ الموتِ ما الخلق شاربُهْ!

وعظ القدر

على الدهرِ والدنيا، على العيش والردى
فرائض لا تبلى ولا تتحولُ
وتهلك هاتيك الشعوبُ وتنطوي
كما يهلك المرءُ الضعيفُ المقتَّلُ

•••

فقم واستمع خطوَ الحوادثِ بيننا
فكلُّ ضعيفٍ عاجزٍ ليس يسمعُ
ترى سيرها سيرَ الجيوشِ مهيبةً
منظمةَ الأقدامِ تعدو وتُسْرِعُ

•••

لعل لها صوتًا ينبه غافلًا
فينشط مكسالٌ ويفهم أخرقُ
فإِن تكن الأقدارُ كالسحبِ إِنها
يضجُّ ضجيجُ الرعدِ فيها وتبرقُ

•••

أما في رعودِ الحادثات مواعظٌ
أما في بروقٍ للمقادير زاجرُ؟
نَصَحْتُكُمُ لو تسمعون نصيحةً
نعم تسمع المرء الضعيف الأوامرُ

•••

سلاسلُ للأحداث فيكم قيودها
فليس بكم قيدُ الحوادث منبتَّا
وفيكم بقايا للحياةِ قليلة
فلا تحسبوا يا قومُ أنكُمُ موتَى

•••

إِذا رضيتْ نفسي بحالٍ رغيدةٍ
فقد خنتُ آمالي وخنت عقيدتي
وما هذه الحالات إِلا كسُلَّمٍ
فلا تقنعوا منها بحال حميدةِ

•••

فما أفسدَ الحالات كالدهر مفسدٌ
ولا جدد الحالات كالفكرِ مصلحُ
وكلُّ قديمٍ للبلى غير أنه
سيعقبه أمرٌ به النفس تفلحُ

•••

فقُمْ عاوِنِ الأحداثَ في وَصْف سيرها
وألهِبْ بسوطِ الجدِّ خَيْلَ المقادرِ
وعِشْ مع هذا الكون كونًا معظمًا
وكُنْ في قواه بين ناهٍ وآمرِ

•••

فإِني رأيتُ النفسَ كالأفْقِ بهوُها
تسير بها الآمالُ سيرَ الكواكِبِ
هي النفسُ دنيا لا يقام نظامها
إِذا اختل في الآفاق سير الرغائبِ

مشتري الأحلام

يا مشتري الأحلامِ يرغبُ في الكرى
كيما ينالُ من الكرى ما يطلبُ
عندي من الأحلام كلُّ بضاعةٍ
ومتاجر غبانة لا تُكسبُ
حلمٌ يروع ولا يسرُّ وغيره
حلم يسر إِذا يجيء ويعجبُ
حلم يزيل عن الفقير خصاصةً
حتى يبيتَ على الدسوت يعصَّبُ
حلم ترى فيه العزيزَ مرجَّمًا
مستجديًا خِلفًا يذلُّ ويضربُ
خُذْ منِّيَ الآمالَ حلمًا رائعًا
شرِق النواحي بالضياءِ يذهَّبُ
صدَّاع قيد المستحيل سرابهُ
ووميضُه البرقُ الكذوبُ الخلَّبُ
وفضائل ممدوحة ورذائل
مقبوحة أحلامها لا تنضبُ
والنورُ حلمٌ والظلام وكلما
يبدو لعينك ظاهرًا أو يُحْجَبُ
إِن الحياةَ إِذا اختبرْتَ أمورها
وبلوْتَ من لذاتها ما يطربُ
حلمٌ على حلمٍ يغرُّ وقد ترى
حلمًا على حلم يغرُّ ويعجبُ
وأزاهرُ الأحلام مثل نعيمها
وشقاؤها حلمٌ يروعُ ويرهبُ
لا تحسب الأعمالَ تنفي أنها
حلمٌ يجيء به الخيالُ فيكذبُ
فالمرءُ يطمع في المنام مطامعًا
ويبيت يعمل جاهدًا أو يلعبُ
يا مشتري الأحلام لا تُزْهَى بها
فتعود تبكي للصروف وتندبُ
يا غُبْنَتَا للمرءِ في أحلامه
إِنْ أَيْقَظَتْهُ الحادثاتُ الغلَّبُ
لو يستحيل المستحيلُ على الورى
وأنال من أحلامِه ما أطلبُ
لجُنِنْتُ جِنَّةَ قادرٍ متحكمٍ
يرضى على هذا الأنام ويغضبُ
وأخذتُ من هذي الحياة لُبَابَها
وشربتُ من أكوابها ما يُشْرَبُ
والكونُ فكرُ الله ينظر في الذي
يرضيه من خلق الوجودِ ويعجبُ
إِن راقه خلق الوجودِ مثاله
كيما يجيء على الكمالِ فيغربُ
أوْ لم يَرُقْهُ فهْو ليس بصانعٍ
دنيا تهون على هواه وتجدبُ
فالكون لم يُخْلَقْ ونحن نظنه
خلقًا يجيء به الزمانُ ويذهبُ

جنة الحسن

أيا جنةَ العشاقِ هل ليَ وقفة
أُرَفِّهُ قلبى ساعةً في ظلالكِ
وأُبْصِرُ منك الزهرَ والزهرُ باسمٌ
وأسمعُ منك الطيرَ تشدو هنالكِ
وأعبد فيك الحسنَ شتى صفاته
وكلُّ جمالٍ خالد في خلالكِ
ففيك معاني الخلدِ والخلدُ فاتنٌ
هل الخلد إِلا حلية من جلالكِ؟
أما أنت دنيا الحسن والحسنُ باهرٌ
وما ليَ منها غير مكذوب آلكِ
ويا جنةَ الفردوس ماؤُك خمرةٌ
فهل أنا أُسْقَى جرعة من زلالكِ؟
ويا جنة الفردوس هل أنا آثمٌ
فيُحْرَمُ قلبي حَظَّهُ من نوالكِ؟
ويا فتنةَ العشاقِ هل من وذيلةٍ
فتشقيك فيها فتنةٌ من جمالِكِ؟
ويا بهجةَ الطاووس حسنُك زائلٌ
رويدك فينا واسألي من مآلكِ
ويا زينةَ الدنيا التي أنا عاشقٌ
حنانًا لعيش من جفائِكِ حالكِ
فهل زورة تشفي الفؤَادَ من الجوى
فليس دوائي زورةً من خيالكِ
وإِن تبتغي بالدلِّ موتي فأبشري
هنيئًا مريئًا قد ظفرت بذلكِ
فيا ليتني فكرٌ يكون ببالكِ
وهل نافعي أني أكونُ ببالكِ؟

صوت النذير

(هذه قصيدة في وَصْف أخلاق المصريين، وإظهار أماكن النقص فيها، وحضِّهِمْ على مزاولة الأعمال الاقتصادية النافعة ونشر العلوم. والعلم والمال أصل القوة، والقوة أساس الحياة.)

خلِّ الهوينى فهذا أمرنا جللُ
لا اليأسُ فينا بمحمودٍ ولا الأملُ
ولاح لي بيننا في عيشنا ظُلَم
فانظر بعينيك أي الأمر مقتبَلُ
بوادر يعرفُ التاريخ فعلتها
تدعو إِلى الموت لا شكٌّ ولا جدلُ
كم أمَّةٍ هلكت من قبل ما عَرَفَتْ
أن الهلاك إِليها عامد عجِلُ
تعلل النفس بالأحلام تنظرها
والهلك حتمٌ ويخفى سيره المهلُ
تظن أن طريقَ العزِّ مسلكُها
والموتُ من حولها كالنقعِ ينسدلُ
لا الدهرُ غرٌّ ولا الأيام ظالمةٌ
وإِنما العيش فينا والردى عللُ
كلٌّ له أجلٌ يسعى لِيَبْلُغَهُ
وليس يُفلت إِمَّا جاءه الأجلُ
لولا التنافس في الدنيا لما صلحت
ولا الحضارة والأيام والدولُ
وا حسرتاه لقومٍ ليس ينفعهم
نصحُ النصيحِ ولا الوعَّاظُ والرسلُ!
مستنبتين بأرض العجزِ ليس لهم
عنه ولا عن فناءِ الجهلِ مرتحلُ
تسعى بهم غِيَرُ الأيامِ واعظةً
والقومُ صمٌّ كما لا تُشْتَهَى هملُ
زاوين إِلا عن الفحشاء أنفسهم
وفوقهم من بوادي خزيهم حللُ
يا بارك الله مقدورًا يعاجلهم
فتطهر الأرض لا رجسٌ ولا خطلُ
بأي حقٍّ يعيش الغافلون ولا
نفعٌ يجيء به قوم إِذا غفلوا؟
ما باشروا الصدق في قول ولا عملٍ
فكُذِّبَ الأصدقانِ: القول والعملُ
إِذا أصيبوا بشرٍّ هيِّنٍ خنعوا
وإِن أصابوا منالًا هينًا جذلوا
ويغضبون على من رامَ نفعَهمُ
فما يشجعه في السعي محتفلُ
ويُحْسِنُونَ إِلى من رامَ ضُرَّهُمُ
فما يثبطه ردعٌ ولا عذلُ
فلا حكيمٌ ولا ندب ولا فطنٌ
ولا عظيمٌ ولا ثبْتٌ ولا بطلُ
إِذا هممتم بأمرٍ نفعه عمم
ألهاكم العجزُ والزلاتُ والمللُ
وإِن بُدِهْتُمْ بخطبٍ ضُرُّهُ أَمم
ضاقت لديكم به الغايات والسبُلُ
وصاحبُ الجهلِ فيكم آمن فرِحٌ
وصاحبُ العقلِ فيكم حاذرٌ وَجِلُ
إِذا نطقتم بحقٍّ فيكمُ حصر
والبَطْلُ مبتدرٌ منكم ومرتجل
فإِن رقدتم فإِن النومَ عادتكم
وليس تصحو لكم روحٌ ولا مُقَلُ
والعجزُ مهلكةٌ والضعفُ مضيعةٌ
وما لكم إِن غفلتم عنهما نُقلُ
هل خدعة أوهمتمكم أن جمعَكُمُ
جمعٌ كثيرٌ فخير منكمُ رجلُ
تهافتون على الأدناس ما نتنت
مثل الذبابِ على الأدناس ينتقلُ
أفهامكم مثلُ أفهام الفراش إِذا
حام الفراشُ على المصباحِ يشتعلُ
فإِن دعيتم إِلى خيرٍ ومكرمةٍ
حكيتم البُهم لا عقلٌ ولا حيلُ
فما طبيبٌ يداوي داءَكم أبدًا
إِلا الهلاك وهذا ريثُه عجلُ
ومن دلائلِ هذا الهَلْكِ أن لنا
فخرًا فنحسب أنَّ الفضلَ متصلُ
إِذا خُشيتم فأنتم معشرٌ جبن
وإِن رُجيتم فأنتم معشرٌ خُذُلُ
كم من نصيحٍ لكم بالرشد ينصحكم
كأنما حظه من نصحه الصحَلُ
كلوا وناموا ونالوا حظكم أبدًا
من التثاؤبِ لا لومٌ ولا عذلُ
وعاقروا الخمرَ والأفيون في دعةٍ
فعيشكم مثل ظل سوف يرتحلُ
واستخبروا عن هوى اللذات قاطبةً
أمَّا عن العزِّ والعليا فلا تَسَلُوا
وملءُ أشداقِكم ضحكٌ أأسكَرَكُمْ
من حسن حالِكُمُ خمرٌ هي الجذل؟
أم ضحكةُ الرجلِ المجنونِ من حزَنٍ
لَشدَّ ما نالَ منك البؤسُ يا رجلُ؟
أم ضحكةُ الخنثِ الموهون أضحكه
أمرٌ معيب فلا تقوى ولا خجلُ؟
أنا النذيرُ إِليكم والنصيحُ لكم
وليس يؤثرُ نصحًا عاجزٌ مَذِلُ
يمضي الزمانَ فلا عزمٌ فيسعدكم
وليس يزدادُ إِلا العجزُ والخيلُ
وفيكُمُ من صفات السوءِ أخبثُها
حتى لقد صار فيكم يُضْرَبُ المثلُ
أشعلتُمُ نارَ يأسي وهْي خابية
وقد قتلتم ذكائي وهْو مشتعلُ
هيهاتَ هيهاتَ إِني مِقْول أبدًا
حلق الزمانِ به في الناس يرتجلُ
أنتم بِفِيَّ كطعم المرِّ أمضغُهُ
حتى تساوى لديَّ الصابُ والعسلُ
فإِن فهمتم فما لي فيكمُ أربٌ
وإِن جهلتم فشرُّ العادةِ الجَهلُ
إِذا هجوتُ فما أهجوكُمُ أبدًا
إِلا ودمعٌ على الخدين ينهملُ
أنتم أحقُّ بتأبينٍ ومرثيةٍ
والزرءُ بالحيِّ جرحٌ ليس يندملُ
أنتم عليَّ وإِن طالت مهانتكم
أعزُّ ذي قدمٍ يسعى وينتعلُ
فنحن في أمرنا طرًّا سواسيةٌ
وإِن تفاوتَتِ الأخلاقُ والنِّحَلُ
وليس لي فيكمُ حظٌّ ولا أملٌ
وليس لي في الورى من دونكم بدلُ
إِني رأيتُ حياةَ الناس أولها
يدعو لآخرِ ما يأتي ويقتبلُ
لقد ورثنا قرونًا كلها كمدٌ
مُورٍ على القلبِ مثل النارِ يشتعلُ
فنحصد الشوكَ مما ذرَّ أوَّلُنا
إِنَّا ورثنا عن الأسلاف ما فعلوا
فمن خمولٌ ومن جهلٍ ومن كسلٍ
وأعظم الخطبِ ما يأتي به الكسلُ
ثقلٌ على النفسِ نمضيه ونصرفه
حتى يصحَّ وحتى يصدقَ العملُ
ونَجْتَنِي العمر غضًّا كلُّه ثمرٌ
ونشربُ العيش ريًّا كله جذلُ
إِن الأمانيَّ دون القلبِ ما برحت
في القلبِ منزلُها مستمرأٌ خضلُ
نستخبر القوم أنَّى وجهة سلكوا
فبَلَّغَتْهُمْ إِلى عليائها القللُ
هم زاولوا الجدَّ قد دانت تجاربُه
لهم فعزوا بها والدهرُ مقتبلُ
قوموا اجعلوا السعيَ في الأطماع رائِدَكُمْ
ما أضيع المرء لولا السعي والأملُ
بعضُ العلومِ إِلى الأعمالِ منتسبٌ
وأحسن العلمِ ما يجدي به العملُ
هذا السلاحُ الذي يدحو لهم سبلًا
في مجدهم لا القنا الخطية الذبُلُ
يا قومُ هذا سبيلٌ لا خفاءَ به
فيه الحياةُ لأقوامٍ إِذا عقلوا
إِنا بمنزلةٍ الفصل يَتْبَعُهَا
إِما الحياةُ وإِما الموتُ والأجلُ
حتَّامَ ننكر حقًّا غير مشتبهٍ
لا يكره الحقَّ إِلا من به دَخَلُ
لا يصلح العلمُ مضنونًا به أبدًا
فأين شؤبوبه لا ينفع البللُ
هذا الذي يدع الأقوامَ قادرة
فكلُّ فردٍ كعضوٍ ما به شللُ
أذلك المال مضنون به أبدًا
إِن العزيز لدى الأوطانِ مبتذلُ
والعلمُ مثل عصا السحَّارِ يبسطها
فيصبح المالُ قد ضاقت به السبل
والعلمُ والمال مقرونان في قرَنٍ
لا نجتني المالَ حتى يصدق العملُ
وإِنما لغةُ الأقوام ميزتهم
فإِن تولت فمجدُ القوم مرتحلُ
قد أصبح العلمُ والآداب ضائعةً
وأصبحَ الشعرُ فوضى كلُّه زَلَلُ
يَرْقَى الوجودُ بعيش الصالحين له
من ليس يدركهم عجزٌ ولا كللُ
وما الحياةُ بمستشفًى لمن سدكت
به الزماناتُ والأمراضُ والعللُ
بل الحياةُ جهادٌ لا خفاءَ به
فليس يُفلح إِلا الأغلبُ البطلُ
إِن الحياةَ كتنور ومعركةٍ
يصلى الشجاعُ ويصلى العاجزُ الوكِلُ
وكلكلُ الدهرِ لا يُبقي على ضرِعٍ
وليس يخدعه جودٌ ولا بخَلُ
نلهو عن العيشِ، والأقدارُ نافذةٌ
كأَنهن مطايا تحتنا ذُللُ
إِن المقاديرَ أجنادٌ مجندةٌ
تصولُ بالحقِّ لا ظلمٌ ولا خطلُ
لا رحمة عندها تُرجى ولا مقةٌ
ولا الشفاعة تقصيها ولا الخَوَلُ
كم أعصرٌ قَبْلَنا بادت وكم دُوَلٍ
حتى كأَنْ لم يكن عصرٌ ولا دُوَلُ
كم معشرٍ مثلكم لِيمُوا فما انتفعوا
وأُشعروا النقص فيهم ثم ما حفلوا
فبادَرَتْهُمْ يدُ الأقدارِ حاصدةً
فما وقى جمعَهم سهلٌ ولا جبلُ
إِذا ابتلى الله قومًا بالهلاك فلا
سمْعٌ لديهم ولا عزْمٌ ولا حِيَلُ!
ليس التوكُّلُ في نومٍ وفي كسلٍ
فهْو المعينُ لمن يسعى ويخْتَتِلُ!

بين الحب والبغض

رمى اللهُ في عينيكَ بالسهدِ والعمى
ولقَّاك من دنياك صابًا وعلقَمَا!
وعلمكَ السهدَ الطويلَ على الأسى
إِذا حلَّ همٌّ في الفؤادِ وخيَّمَا!
وعلَّمَكَ الأحزانَ والبثَّ والجوى
وما نُكِبَ المغرورُ إِلا لِيَعْلَمَا!
وأودعك الليلُ البهيمُ همومَه
وأصبحت حرَّانَ الفؤَادِ متيَّمَا
وأتلفَ طولُ الهمِّ عينَيْكَ بالبكا
إِذا ما مضى دمعٌ بكيت له دَمَا
وخلَّف فيك اليأسُ كالسمِّ في الحشا
تعالج داءً من جواه مكتَّمَا
أأنسى بكائي والعيونُ هواجعٌ
أراقب ليلًا غائرَ النجمِ مظلمَا؟
أأنسى انفرادي والْتِيَاحي ولوعةً
كأَن لها بين الأضالعِ أرْقَمَا؟
أننسى عذابَ القلبِ هاجَ وَجِيبُهُ
كأَنَّ جحيمًا دونه وجهنَّمَا؟
لقد كنتَ في عينِي ألذَّ من الكرى
وأطيبَ من طيبِ الحياةِ وأكْرَمَا
وجوَّدتُ فيك الشعَر والشعرُ ساحرٌ
وهل تسحر الأشعارُ غرًّا وأعْجَمَا؟
فما ازددْتَ إِلا قسوةً وتباعدًا
وما ازدَدْتَ إِلا غلظةً وتجهُّمَا
فعلَّمتَ قلبي كيف يقسو وإِنه
ليحزن أن تلقى هوانًا وتأْلَمَا
جنيتُ على نفسي فليس بنافعي
إِذا صالَ خطبٌ أن تصابَ وأنْدَمَا
ولو كان في نفسي وقاءٌ يصونكم
لَأَنْزَلْتُ من نفسي المكانَ المكرَّمَا
وخطَّتْ عليك النفسُ خوفًا من الردى
فكانت مجنًّا صادقَ الصنعِ مُحْكَمَا
وليت لساني سُلَّ مني ولم أَقُلْ
رمى الله في عينيك بالسهد والعمى!
سَلِمْتَ، وما حيٌّ على الدهرِ سالمًا
وعِشْتَ سعيدًا بالحياة مُنَعَّمَا!
لقد سمتُ نفسي عنك صبرًا وسلوةً
وجشَّمتُ قلبي صبره فتجشَّمَا
ووالله ما لي عنك صبرٌ أطيقُهُ
فقد ودَّعَ الصبر القديم وسَلَّمَا
وإِني لتعروني إِذا لحت هزةٌ
كما ارتعش المصروع حينًا وجَمْجَمَا
وإِن بقلبي من جفائك جِنةً
فإِن رامَ يومًا قَتْلَكُمْ ما تَأَثَّمَا!
فأسقي جنوني من دمائك جرعةً
وهيهات يجدي القتلُ قلبًا مُكَلَّمَا!
وأنفعُ منها غلَّتي وصبابتي
لعمرك إِن الجرم لا ينقع الظَّمَا!
أأنت زهاك الحسن والحسنُ فتنةٌ
لصاحبِهِ حتى يرى الظلمَ مَغْنَمَا
فأصبحتَ مغرورًا تتيه وتنثني
رويدك هل تبغي إِلى الشمس سُلَّمَا!؟
كأني بصرفِ الدهرِ حلَّ وعيدُه
فلم يُبْقِ لي في حسنكم متوسَّمَا
ولم يُبْقِ إِلا منظرًا لك شائنًا
ووجهًا صفيقًا في الترابِ مهدَّمَا
وهل تترك الأقدار يومًا إِذا سَطَتْ
على حَسَنٍ إِلا رفاتًا وأَعْظُمَا؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤