الفصل السادس

ديوان الأفنان

فصل في أن الشعراء كماليون

مقدمة لصاحب الديوان

يُحْكَى أن دوناتلي الإيطالي صنع دمية فأجاد صنعها، فلما رآها أستاذه قال له مازحًا: ما ينقصها غير أمرٍ واحد. ثم كتمه عنه حتى مَرِضَ دوناتلي من الأسف عليه، والفكر فيه، وحتى أشْرَفَ على الهلاك. فدعا أستاذه وقال له: قد رأيتَ ما بي من الداء. وأني هامة اليوم أو غدًا. فأخبِرْني أي نقص رأيتَ في دميتي؟ قال: ما ينقصها غير الكلام! فقام المريض محمومًا حتى أطل على دميته وقال: تكلمي، تكلمي، فما ينقصك غير الكلام، ثم وقع ميتًا!

وكل ذي فن في فنه مثل دوناتلي في طموحه إلى مرتبة الكمال. وإنما يجيد حسب فَضْل المَلَكة المهذبة التي يسترشدها من نفسه، لا لأنه يقصد إلى ما أُولِعَ به الناس، مما يستفز إعجابهم؛ فإن إعجاب الناس — وإن كان حبيبًا — يتطلب بإرضاء مَلَكته المهذبة لا بإرضائهم، ويأمل أن يقنعهم ما أقنعه من نفسه. وهذا سبيل أثره فيهم الذي يأمله في حياته أو بعد موته. وسواء أَأَكْبَرَ الناسُ شِعْرَه أم أصغَروه، فإنه يعيش بحسرة على ما يعجز عنه، وبلهفة على ما لم يَقُلْ، وإنْ جَلَّ ما يقولُ.

ومن هنا ولج التحاسد إلى أفئدة الشعراء؛ فإن الشاعر يُعَالِجُ حسرة على كل فوزٍ لم يَفُزْهُ، وطائر أمل لم يقنصه. فإن نفس الشاعر طمَّاحة أبدًا. وخليق بمن يعرف أن فوق كل إجادة إجادة أن لا يدع للحسد سبيلًا إلى قلبه، وأن يعد كل قصيدة جليلة فوزًا يزهى به عالم الحسن على عالم القبح، ونصرًا أصابته الحياة على الموت، غير مفرق بين قائل وقائل في الإعجاب الذي لا يتقاضاه الشاعر، بل يتقاضاه شعره.

ألا وإن أجلَّ شعر شكسبير هو ما كان يحلم به شكسبير، ويود لو قيَّدَه بقيود الكلام، وليس أجلُّ شعره ما يعجب به الناس ويعجب منه، فإن كل حسن في الفنون عنوان لحسن، وكل فوز وعد بفوز. فإن الشاعر ليرى في نفسه القصائد التي يحلم بها كما يرى العاقر أبناءه الذين لم يلدهم. أو كما كان ميشيل أنجلو يرى الدمى التي لم ينحتها كأنها محبوسة في الصخر الأصم الذي لم يلمسه بَعْدُ. وقد ورد عن كثير من كبار ذوي الفنون ما يثبت هذا الظمأ الذي هو خير لشعر الشاعر شَرٌّ لنفْسِهِ.

ولو كانت الحياة شجرةً لكان الجمالُ زَهْرَها والشِّعْرُ طائرَها. ولولا الشعر افْتُقِدَ جمال الحياة، وكل حيٍّ شاعرٌ بمقدار ما يحس الجمال في الأشياء والأخلاق والأعمال التي ينشدها. والعالَم عالَمان؛ عالَم الجمال وعالَم القبح، وكل منهما ممتزج بأخيه، منعدم فيه. والشاعر رسول الجمال يسعى في تحقيق عالمه. وإنما الخير ضرب من الجمال، والشر ضرب من القبح. والشاعر يعرف أن الشر محتوم ولكنه يعرف أن من الحتم أيضًا الطموح إلى ما وراء الشر المحتوم من الخير المحتوم. ومن أجل ذلك كان كل شاعر كماليًّا سواء أعرف أم لم يعرف. وهو إذا نبذ عقيدة اقتران الجمال والخير، إنما ينبذها شوقًا إليها، كما يهجر المحب عشيقته مِنْ هَجْرِها إياه، وإنما الحياة أو الحق كالميزان، لا يعتدل أعلاه إلا إذا استوى جانباه. ومن أجل ذلك صار الشاعر يعدل بطموحه وخياله وجمال شعره جانِبَ الذين لا يعرفون فروض الشعر ومنزلته من الحياة، كما يعدل كل نقيض نقيضه. وهذا أساس الحياة. ألا ترى كيف عدل عيسى — عليه السلام — روح الأثرة في دولة الرومان؟ وكيف أنَّ رَفْض شوبنهور للحياة يَعْدِل تقديس نيتشه إياها، وتقديس كل ما تغري به؟ ومنزلة السعادة في الحياة كمنزلة الشعر من النثر. والذين يسعون في نصرة الخير واستخلاص السعادة التي فيما دون المحال، يأخذون نثر الحوادث فيجعلونه أوزانًا وأنغامًا.

ومن أجل ذلك يتغنى الشاعر بالبطولة ورجالها الذين يشايعونه في مداواة قُبْح الحياة، ولو لم يكن من المكافحة كي يستخلص من الحياة جمالها إلا التغني بما يلهي المكافحين، ويليح لهم بمثال الجمال المنشود أو تحذيرهم باليأس والسخر إذا استناموا إلى الأمثل، أو اتخذوا منه مرقدًا لكفى.

ولا ريب أن شعر الشاعر ابن طَبْعه ومزاجه، وأن الشعر ضروب متغايرة. وذلك لا ينفي ما ذكرنا. هذا شكسبير ما ترك جانبًا من جوانب النفس وهو من رحب النفس بحيث يسع الجرم والمجرم، ولكنك لا تجد فيه تزيينًا للباطل إلا على لسان أهله وصفًا لهم. كما أنك لا تجد فيه وعْظ من لا يرى إلا جانبه من الحق. وإنما نريد بذكر ما ذكرنا، أن الرغبة في الشعر من أجْلِ أنه شِعْر، لا من أجْلِ مقصد خلقي حقٌّ إذا عنى الراغب أن الشاعر ينبغي أن لا يتجاوز أصول فنه التي يهيئ بها لذَّات الفنون، كي يبلغ من النفس مبلغه من التأثير فيها بتلك اللذات، وأما إذا قيل: إن الشعر لهْوُ ساعة؛ فهذا قول من اللغو!

الحياة والحق

هات اسقني الذُّكَرَ الخوالدَ هاتِ
إِنَّ النفْوسَ كثيرةُ اللفتاتِ
يا ساقيَ الذكرى، كئوسك أَضْرَمَتْ
مِنْ ذا الرحيقِ النارَ في لهواتي
أصحوت من خمرِ الحياةِ وإِنما
طيبُ الحياةِ يصاب في الغفلاتِ
والعقل أليقُ بالفتى من غفلةٍ
للسعد تحكي غفوةَ النشواتِ
لولا فروضُ العيشِ لم أعبأْ له
جيشًا من الآراءِ والعزماتِ
وتكاثُرُ الحاجاتِ ينبئ أنما
خلقُ النفوسِ لأعظم الغاياتِ
وهي المنى صوتٌ صداه صرخةٌ
لليأسِ ثم الموت كالسكتاتِ
واليأسُ ينبئ أن فوقَ جهودنا
خيرَ المنالِ وأعظمَ الرغباتِ
لولاه لاستوت المطالبُ كلُّها
حيثُ الحضيضُ ووهدةُ الوهداتِ
إِنَّ الفضيلةَ والرذيلة لذةٌ
خيرُ الجنى يُجْنَى لخيرِ جناةِ
لا تسعد المجدود منك برحمةٍ
أهلُ الجحيمِ أحقُّ بالرحماتِ!
وهي التجاربُ للعقول صياقِلٌ
صفحاتها للغيبِ كالمرآةِ
إِنَّ التجاربَ كالأزاهرِ جمَّةٌ
أوَمَا اغتفرْتَ الشوكَ للزهراتِ؟
يا قلبُ لا يغنيك ذعرك للأسى
فالخوفُ أول مهبطِ المهواةِ
والموت ظلُّ الله أبشرْ إِن دنا
في ظلِّه أمنٌ من الحسراتِ
ثبتَ الزمانُ ونحن نعدو عمرنا
ونخال أنَّ الدهرَ ذو نقلاتِ
كالراكب العجلان ينظر حوله
فيرى الشخوصَ سريعةَ العدوَاتِ
والعيشُ كالحرباءِ يخدع لونُهُ
والحِسُّ بعضُ حبائلِ الخدعاتِ
فالمرءُ يسري وهْو قيدُ مكانهِ
سكن الوجود لشدة الحركاتِ
والحقُّ مثلُ الشَّمسِ يهلك آله
والشَّمسُ أُمُّ الخير والآفاتِ
أُمُّ الهدى لكنَّ بعضَ ضيائها
رفع السراب وغرَّ في الفلوات
والحقُّ مثلُ الشَّمسِ يجعل ضوءه
بعض النفوسِ قرارةَ الحشرات
والمرءُ في دنياه خابطُ حَنْدِسٍ
آراؤه ضربٌ من الخطواتِ
كم حكمةٍ فيها الدواءُ لعاقلٍ
لو يدرك المعلول عزم أساةِ
والعزمُ شيءٌ لا يباع فيشترى
مَنْ للشقيِّ ببائعِ العزماتِ
والموت بحرٌ والنفوسُ لآلئٌ
والعيشُ فوق الموتِ كالموجاتِ
لسنا نُصِيبُ الحقَّ فيما نبتغي
لكنْ كظلِّ الحقِّ في الصفحاتِ
نبغي من الدنيا نظامَ محدَّدٍ
فى رحبها برءٌ من الغاياتِ
فنظامها ألِفَ النقيض نقيضه
ونقائضُ الأيامِ كالأخواتِ
والعيشُ غيمٌ والعقولُ جلاؤه
كالشمسِ تنقش جانبَ الْمزْناتِ
نظرُ الأنام إِلى الحقائق في الدنى
كتطلُّع الحمقاء في المرآةِ
كالطفلِ ينظر في الأضاةِ فينثني
متسائلًا عن روضةٍ وأضاةِ
والفكرُ دائرةٌ يظل يدورها
في دهره متقارب الدوراتِ
فلكلِّ دهرٍ دورةٌ معلومةٌ
ومطالبٌ موصوفةُ المسعاةِ
والفكرُ يعظم وهْو في دوراته
كالماءِ حول مواقعِ الحصباتِ
والحقُّ في الأضداد يلقي سره
ولقلَّما ندريه بين عداةِ
كالمرءِ يُنْكِرُ في الوجوه غريبَها
ويحنُّ نحو أحبةٍ ولدَاتِ
والحقُّ مختلفُ المقاطعِ والنُّهى
متباينُ الأسبابِ واللهجاتِ
والعيشُ مثلُ الشمسِ يُعْمِي ضوءه
عن أنجمٍ تزدانُ بالظُلماتِ
ولعلَّ في ظلم الحمامِ زواهرًا
تجلو الظنونَ وتكشف الغمَّاتِ
احزنْ ولذَّ وقلْ لكلِّ مقدَّرٍ
يا مرحبًا بالحزنِ والفرحاتِ!
وخُذِ الأنامَ على عوائد كيدهِ
واغنم صفاءَ العيشِ في الفلتاتِ!

أبو الهول

أنختَ فوق الدهرِ بالكلْكلِ
وكنتَ مثلَ الواعظ المرسلِ
عند فلاة قلَ قطَّانُها
هل باختيارٍ كنت في معزلِ؟
مضى الأُلَى شادوك في مجدهم
كأَنه منك لدى موئلِ
فهل مللْتَ العيْشَ من بعدهم
كأَنما جُلِّلْتَ بالمُثْقِلِ
ثقل من الدهر تحمَّلْتَهُ
لو حلَّ بالأطواد لم تحملِ
فهل يَدرُّ العيشُ من بعدهم
أم ما ضروعُ الدَّهرِ بالحفَّلِ؟
وأنت مثل الخان في لُبْثه
ونحن مثلُ الراكبِ المعُجَلِ
غدًا ترى عيناك من بعدنا
غير حلول الحيِّ والمنزلِ
كم أمَّةٍ من بعدها أمَّةٌ
قد رحلت عنك ولم ترحلِ
فأنت سفرُ الدَّهرِ خَطَّتْ به
يداه آيَ المُحْكَمِ المنزلِ
فاتْلُ لنا من آيهِ آيةً
لعلَّنا نجنبُ ما يبتلي
كم وعظَ الدَّهر فلم نزدجرْ
وكم سما الناسُ ولم نعتَلِ
قيَّدَنَا العجزُ ونرجو عُلًا
يسمو الذي في الطير لم يكبل
نعاف مستطرف ما يُرتجى
كأنَّنا في العيشِ لم نُجْبَلِ
فيا مثالَ الدهرِ يا رمزه
كم صنمٍ في القلبِ لم يبطلِ
كأَنَّ روحَ الدهرِ في جسمه
إِن تره من نحوه تمثلِ
تحسبُه من هيبةٍ عاقلًا
من حسب المرهوب لم يعقلِ
كأَنما في طي ألحاظه
ذكرى لعهدِ الزمنِ الأولِ
كأَنه في صمته حارس
يحرسُ بابَ القدر المقْفلِ
يا عجبًا أبصرتَ ما قدْ مضى
ونظرات منك لم تقتلِ
أبصرتَ أكلَ الدهرِ أبناءه
ألم تُرعْ من ذلك المأكلِ؟
بينكما نجوى على صمتهِ
وصمْته في فيك كالمِقوَلِ
عشَّشَ فيك الحادث المجتوي
وكنت عرش الرمية الضئبلِ
مرَّتْ بك الأيامُ مخشيَّة
كأنَّها مرَّتْ على هيكلِ
فابعثْ لنا من عزمها عدَّة
فلو سألت الدهرَ لم يبْخلِ
ولو نهيتَ الدهرَ لم يعتدِ
ولو زَجرتَ الدهرَ لم يُقْبِلِ
والدهر كم تسحرُ أحداثه
لبَّ غضيض اللبِّ والمفصلِ
أيُّ حكيم قد رأى ما رأتْ
عيناك في الدهر ولم يُذْهَلِ؟
يا ناظرًا ينظرُ هذا الورى
نظرةَ طرْفِ الناظر المعضلِ
انظر إِلى الأقدار في غيبها
واذكرْ مآلَ العيشِ في المقبل
أغابرُ الأيامِ في صرفها
كمضمرٍ في الغيبِ مستقبلِ
أمالكٌ عُوجِلَ عن مُلْكِهِ
كذي علاء بَعدُ لم ينزلِ
والناس حَلْيُ القاهر المعتلي
يألم نار الحاذق الصيقلِ
يصوغهم كلُّ غلُوبٍ على
سنَّةِ مُلك الرمحِ والمنصلِ
كم عبرة للناس أبصرتها
وعبْرة للهاطل المسبل
فهل دموعُ النحسِ تحيي الورى
مثل عقيب المطر المرسلِ؟
أراك لا ترثي لما نابهم
يا ليتني مثلك لم أحفل!
ومقلة تُخبر ألحاظها
أنَ عيونَ الدهرِ لم تُسملِ
والدهرُ وهْو الساهر المعتدي
يُغْضي وعينٌ لك لم تغفلِ
وربَّ لحظٍ منك قد رِشتَهُ
في قلبِ هذا الدهرِ كالموغل
فابحثْ خباياهُ وأحناءه
واكشف لنا عنْ ذلك الغيطلِ
كأنَّ روحَ الدهرِ تبغي به
وكْنًا لها أُحْكِمَ كالمعقلِ
تحسبُه لو جئته ناشدًا
معنَى حياةِ الناس لم يجهلِ
يا من سؤال العيش في صَمْتِهِ
اسألْ ومن لم يدره فاقتلِ
كم امتطى الأيام تجري به
كأَنَّه والخلد في منزلِ
كم عبَّ لُجَّ الدهرِ ثم انثنى
إِلا بقايا الماءِ في الجندلِ
كأنَّه منتظر موعدًا
حُيِّنَ كي ينطق بالمِقْوَلِ
لو فاهَ يومًا ذاكرًا سرَّه
لم يعجب الرائي ولم يَعْجَلِ
أو أنه المسحورُ في صمته
قد كان يمشي مشيةَ المشبلِ
فخاف صرف الدهر من فتكه
وعلمه بالحادث المقبلِ
فذاده بالسحر عن نطقه
حتى تناسى عيشه المنجلي

هرم خوفو

يا موجةً للدهر لم تهزمِ
تعلو عُلوَّ الجبل الأعظمِ
وما رأينا قبلها موجةً
تعلو فلا تحدر للمحطمِ
ما الناس والآثار من بعدهم
إِلا كموجٍ إِنْ علا يُهزمِ
موجٌ لبحرٍ ما له ساحل
غير الرَّدى في لحدِه المظلمِ
كم عند شط الموتِ شِلْو رَدى
يقذفه الدهرُ إِلى ضيغمِ
هل أنت شِلوٌ لزمانٍ قضى
رفاته الآثارُ لم تُردمِ
لم يَبْقَ من عمران من قد مضوا
إِلا بقايا الجِلْد والأَعْظُمِ
كأنما يدخرُ من مجدهم
ما يدخرُ النملُ من المطعمِ
كيف نرجِّي الدهر ذا عفةٍ
إِن ذاقَ طعمَ اللحم لم يقرمِ
لا يسمع الدهر سوى منصت
بالروح إن يُصغ له يبكمِ
همهمةٌ يطلقها عارمٌ
إِن يمضع المودى به يبغمِ
هل خاف هذا الدهر صرف الردى
فشادَ صرحًا منك لم يثلمِ؟
لا يجرؤ الموتُ على بيته
في هرمٍ كالجبلِ الأدهمِ
أم شادك العقل لكيما يرى
من فوقك الأقدار لم تهجمِ؟
بعيدةٌ لم تَبْدُ أشخاصُها
تهفو لنا في يومها الأَيوَمِ
كي يؤذن الناسَ بإِقبالها
من قبل أن تُفْجأ بالمقدمِ
إِنْ أرْزَمَ الرعدُ على شاهقٍ
ففوقك الأيامُ كالمِرزمِ
أو كَلَّلَتْ هامتَه ديمةٌ
وطْفاءُ مثل المِجْسدِ المسَهَّمِ
فوقك أرواح عُصور خلَتْ
كديمةٍ سوداء لم تحسمِ
هدت يدُ الدهرِ مَشِيدَ البنا
وهْو إِذا أمَّك كالأجذم
كم أنزلَ الدهرُ شآبيبَه
على جبينٍ منك لم يهرمِ
كالمزْنِ فوق الزهرِ يحيا به
زهرُ الربى من غيثه المرهمِ
كأنما الأيام ظئر به
تغذوه منها بسليلِ الدمِ
كأنما ينمو على مرِّها
فيرتدي تاجًا من الأنجمِ
قد شمخَ الترب به عزةً
كشامخٍ بالأنف لم يخطمِ
أم قلَّصَتْ وجه الثرى كبرة
فأنت من تجعيدها الأقدمِ
أم كفنيقٍ ما له راكب
يمنع ظهر المكرم المقرمِ
أم ثدْي مصر إِنها ناهد
عشيقة للقدر الأزلمِ
أم أنت ناب الأرض ذا شحذةٍ
خُلِّف في شدق فمِ الأهتمِ؟
أخرج صخر الأرض طيَّاته
حتى بدت كالهرم المفعمِ
أم كيف شادَ القوم أحجارَه
حتى بدت في عِظَمِ المخْرمِ؟
كأنما روحُ زمانٍ مضى
معششٍ فوقك كالقشْعمِ
يا معبدًا يُعبدُ فيه الحجى
إِلى الحجى في صنعه ينتمي
أجلُّ ما تُعْبد فيه النُّهى
سليلها في صُنعه المحكمِ
قد حلمتك الأرضُ في بطنها
كأنها المقلات لم تعقمِ
تمخضت عن عَلَمٍ أروع
مُفذَّة في الحمل لم تُتْئِمِ
ثم تردَّى بعلها بعده
كيف نرجِّي النسل من أيِّمِ
يا علمَ الدنيا الذي قد غدا
عجيبة الغائر والمتهمِ
علت بك الأرض كمن قد علا
برأسه الكبر فلمْ يهضمِ
رفعْتَ رأسًا منك مَا طَالَهُ
رأس البناءِ الشامخ الأقومِ
كأنما كلُّ البنا سُجَّد
من هيبة للملك الأعظمِ
يا ملكًا ما انحلَّ سلطانه
قد هدم الماضي ولم يُهدمِ
كم دولةٍ قد ضاع سلطانُها
ودولةُ الأهرام لِم تهرمِ
كم شابكت كفَّاك أيدي الردى
ثم انثنى عنك ولم تُكلمِ
يا غِيرَ الأيام في كرِّها
من أبيضٍ نأمنُ أو أسحمِ
تباعدي إِن شئتِ أو فاهجمي
على شبيه البطل المُعْلَمِ
هيهات لم يبدُ له مقتل
قد أخطأ الرامي فأشوى الرمِي
كم خالَ فيك الناسُ سرًّا طَوا
هُ الدهرُ لم يُكْشَفْ ولم يُعْلَمِ
خلُّوا الأُلَى شادوك قد أودعوا
فيك رموز المطلب الأكرمِ
ما أودعوا إِلا كنوزًا غدت
نهبة كفِّ الصائل المجرمِ
وكلُّ ما لم يبدُ كنه له
يُخال كنزَ الحقِّ والمغْنمِ
والمرءُ يبغي الحقَّ في خِدْرِهِ
وَلوْ بدا في أعين الأنجمِ
ورِمَّةٌ خبأها كاهنٌ
لفاتك الآراء والمخذمِ
رِمَّةُ ربٍّ رائعٍ عزمُهُ
قد أُخْرِجَتْ من بَعْد للمرجمِ
جلالُ روحٍ منه ذي همَّةٍ
مُجسَّم في صنعه المحكمِ
لا تحسبن الناسَ لم يُجْدِهِمْ
غير منالِ البُرْد والمطعمِ
فالنَفسُ تبغي أن يرى كنهها
مجسَّمًا في صُنعها الأعظمِ
لم يُصلح الناسَ لذي أمرهم
غيرُ شفيع السَّيْف والدرهمِ
أظلمهم مَنْ ساغ طعم الأذى
ليس الذي يظلم بالأظلمِ
كلُّ ضعيفٍ خيره علَّةٌ
من ذا الذي صَحَّ فلم يعرمِ؟

الليـل

يا جوهرًا نفسي له صورةٌ
لأنتَ عندي بالمكانِ المصونْ
كالنَّجمِ في البحرِ يرى نفْسَه
في كوكب الأفقِ القصيِّ! الشطونْ
قمْ حدِّثِ الليلَ حديثَ الكرى
فطيره قد عشَّشَتْ في الجفونْ
كأَنه المرآة مصقولة
تصقله الأحلامُ صقلَ القيونْ
الكونُ وكرٌ والدجى واقع
كالطير تُؤْوِي فرخها في الوكونْ
يصيخ قلبي تحت أستاره
كالطفلِ يصغي لدعاء القرينْ
كأنما أحسبُ أستارَه
مسدولة فوق اليقين المبينْ
أكاد أن أسمعَ في جنحِهِ
وجيبَ قلبٍ منه جمَّ الشجونْ
وناطق بالصمت كانت له
هذي الدراريُّ مكان العيونْ
أحسبه قد شاب مما رأى
فالشهبُ فيه شعرات السنينْ
كلا هو الخالد في ملكه
متوجًا بالنجمِ فوقَ الجبينْ
تكاد تبدو النفسُ في جُنحِهِ
كالوضعِ يبدي من خفيِّ الجنينْ
تشدو لك النفسُ بأنغامِهِ
كالريح تشدو في حفيفِ الغصونْ
في فحمة الليل وقودُ النهى
وفي دُجى الليلِ ضياءُ الحزين
كأَنني في جُنحه مفردًا
سحابة الحزن بقلبِ الركينْ
كأنَّ روحَ الموتِ في جنحه
تخطرُ في أثناءِ هذا السكونْ
الصمتُ سجنٌ والدُجى حارس
والصوتُ مأسور عليل الأنينْ
أو كوليدٍ كَلَّ من ضحكه
تحصنه أمٌّ رءومٌ حضونْ
أو هو صبٌّ عاشقٌ للدُّجى
تناجَيَا باللَّحظِ بين الجفونْ
كأَنما هذا الدجى معبد
وفي خشوع الحيِّ صمتُ اليقينْ
أو كضريح النورِ يخفى به
قد خُطَّ فيه للنهار الدفينْ
هل ذهلة الأصواتِ أن قد رأَت
ما أودع الليل غلاة الظنونْ؟
تلفَّت الريح به خيفةً
هل عادها من ذعرها كالجنونْ؟
كأَنه ظلٌّ ظليلٌ بدا
لدوحة الفردوسِ ذات الغصونْ
أما ترى أثمارها في الدجى
نجمًا تناءى مثل ذخرِ الضنينْ؟
أم هو ظلُّ الموتِ إِما دنا
سغبان يسعى لاقتضاء الديونْ؟
أم هامة اليوم الذي قد مضى
يهيج من روعِ الجبان الظنينْ؟
فالكونُ منه خاشعٌ حائر
مات به الصوتُ ومات السكونْ
وخلَّفا روحَيْهِما في الدُجى
كما يروع الحيَّ روحُ الدَّفِينْ
قلبيَ عودٌ خافق قلبه
أوتاره تنبض نبضَ الوتينْ
تفهو بيَ الذُّكرةُ في جنحه
كأَنها هامةُ ماضي السنينْ
أو دميةٌ ينحتها ناحتٌ
يحكي بها من أمس هلكَى الشجونْ
أو كهدايا هالكٍ غابرٍ
تطير عنها خطراتُ المنونْ
الليلُ مثلُ الماءِ في ركدةٍ
والصبحُ يبدو مثل ماءٍ معينْ

سؤر العيش

يمر بي زمني كالصِلِّ منفلتًا
من بعد ما كان كالأطيار وثَّابَا
أمسي كنِهيٍ أرى في قاعه دُررًا
تذكي اللواعِجَ أن قد غاب ما غابَا
حتى لقد صار لي عُشًّا ألوذ به
والقلبُ إِن ذيدَ عن أوكاره آبَا
كم طارت النفسُ في رأْدِ الصبا مَرَحًا
كالطير يبغي بنهي الشمسِ تشرابَا
مثل الندى وجناح الضوء يحفزه
يسمو بخارًا فإِنْ حطَّ الدجى آبَا
قد تهبطُ النفسُ مثل الطيرِ عاجلها
نسرُ الظلام فكان النسرُ غلاَّبَا
أحارسٌ كان هذا الموت من قدم
أغفى فأفلت صِلُّ العيش وانسابَا
وكان حيةَ حواء التي خدعَتْ
بلذة العيشِ أوَّابًا ولعَّابَا
ولذةُ العيش أثمارٌ مهدلة
تبقى رمادًا إِذا ذيقت وتَوْرابَا
إِن الصبا معبدٌ للعيش نعبده
على مضاضته بوركتَ محرابَا
ظلُّ الجنانِ رفلنا في غضارتها
حتى تقلَّص ظلُّ الخلدِ وانجابَا
والموتُ كالأسد العدَّاء تلقمه
لذائذُ العيشِ تخشى منه أنيابَا
لا بل هو الظئرُ والأرواح في يده
كالطفل في المهدِ لا تألوه إِطرابَا
والعيشُ كالنردِ ترمي غير محتكم
فيطلع العيشُ حرمانًا وإِنهابَا
أدلى ليَ الدهرُ خيطًا من حبائله
فعدتُ ما عاد هيَّابًا ووثَّابَا
كالحوت أفلتَ مكلوم اللهاة فإِن
أدليت خيطكَ ألفى فيه آرابَا
كم عشيَ القلبُ في ضوءِ الصبا فمضى
كخابط الليلِ أعمى بات جوَّابَا
والظلُّ والشمس لا يبغي افتراقهما
فما ابتغاؤك عيشًا لم يَذُقْ صابَا
فاجعل همومَك بيتًا غالَ قاطنه
عادِي الوباء فلا تطرق له بابَا
كزائف الذخرِ قلب ليس ينفق في
سوق الحياةِ وإِن أثرى وإِن طابَا
وما انتفاعي بخيرٍ كلُّه فشلٌ
يأسى الصفيُّ ويمضي الخبُّ خلَّابَا
والمرء يغفل عن أمر الحياةِ وما
جبنًا يطامن بل حزمًا وإِصحابَا
ضمائرُ الناسِ كالرعديدِ يزعجها
صوتُ السكونِ فتبغي فيه صخابَا
يندسُّ في غمرات العيشِ جارمهم
وقد يبيت لوَحْي النفسِ هيَّابَا
كذلك المرءُ يخشى أن يرى أبدا
مفكرًا خاب تسآلًا وتطلابَا
قارِضْ مُضيفك من بشرٍ ومن كرمٍ
إِنَّ الزمان إِذا ريَّبْتَه رابَا
والسخرُ مرآة إِبليس التي نُصِبَتْ
إِنْ تُبْصِرَ الحقَّ فيها عادَ كذَّابَا

ذكرى أمس

مدَّتْ لك الذكرى وجيع القيودْ
مخبوءة في خدعات الجدودْ
كأَنها ذو إِحنةٍ ماكر
يهدي صِلالًا تحت زهرٍ نضيدْ
وقبر أمس شاحبٌ مائلٌ
كذي حياة راكع بالوصيدْ
والذِّكْرُ دوحٌ فوقه باسق
أفنانه مثمرة بالوعودْ
والذكرُ صِلٌّ لاذع نابه
يا ليته يخلع رثَّ العهودْ
كالحية الرقطاءِ في خفية
ينخر من قلب الأبيِّ الجليدْ
مطيةُ الذكرِ على نهجها
معكوسةُ المسعى لخلفٍ تحيدْ
كأَنما إِذ عِفْتُ باب الردى
تبغي خلاصًا من سبيلِ الوليدْ
كي تتخطى أزلًا ماضيًا
ترجع منه عن طريق الخلود
كم تبتغي أمْسَكَ إِن ساءك الْـ
ـيوم وأمسِ مُعْجِزٌ مَنْ يُعِيدْ
يا مخرج الملحود من قبرِهِ
لم يَبْقَ منه غيرُ عظمٍ ودودْ
أمس الذي فات على قربهِ
كالأبد الآبد قاصٍ بعيدْ
وإِن يسؤْكَ اليوم ترجُ غدًا
إِن غدًا ليس بيومٍ جديدْ
فانظر إِلى أمس مضى واستعن
منه على اليوم برأيٍ سديدْ
الشيخُ يبغي ضلَّةً أمسَهُ
وفي غدِ اليافعِ حلمٌ سعيدْ

نعسة الطرف

عيناك عيناك منبت الذكَرِ
كالزهرِ في قاعِ رائق الغُدُرِ
فنعسة الطرفِ أنه أبدًا
كذاهل قد أصاخ للفكرِ
بالله ما تذكر العيون أألْـ
ـحاظ مشوق بالصبر مستترِ؟
أم تذكر العهدَ حيث لا عذلٌ
يلوي بصادٍ عن مورد خصرِ؟
أم طرفك الناعس النئوم يرى
ما منَّ من فتنةٍ ومن سكرِ؟
لواعج العاشقين ذخرك والـ
ـذِّكْرَى وعاءٌ لخير مدَّكرِ
تنظر في أنفسٍ وفي مُهجٍ
فعل غنِيِّ يرنو إِلى الذُخرِ
أم رحمة غضت اللواحظ مـ
ـما يشتكي العاشقون بالنظرِ
أم لوعة رنقت لحاظك إِذْ
عشقت عشقًا لحسنك العطرِ
أم غضَّة في لواحظ حلم
بعالم الحسن طيب الخبرِ!
بعالم أنت من بشائره
بشرى طيور الربيع بالزهرِ
يخفي اقتدارَ العيونِ إِن نعستْ
كصولةٍ في الخفاءِ للقدرِ
كم صائلٍ سيفه تشفعه
وصائل بالحياءِ والخفرِ
قد تقصفُ الريحُ كلَّ عاتية
وتعجز الريحُ عن أذى الخورِ
عينك من لمحةِ الزواهر أم
مقبوسة الضوءِ من سنا القمرِ؟
أم من غدير الحياةِ حفَّ به
من هدب عينيك باسقُ الشجرِ!
كم جاءك العاشقون من نذر الْـ
ـحبِّ بخير الزهورِ والثمرِ
فكيف تُرعى لحبِّ محتضر
ينبت من قبره على مَدَرِ؟
ولست أرضى لمثل وجهك قلْـ
ـبًا بين جنبيَّ غائضَ العُذَرِ
نفسيَ بحرٌ ظَلَلْتُ أسبرُهُ
كما يغوص الغواصُّ للدررِ
والذكرُ كالبحرِ كم رمَى جيفًا
تبدو كغرقى السنين من عمري
فانعمْ فإِنَّ الحياةَ دانية
قطوفها، وامضها على غرَرِ!

قبس الحسن

شعري بحرٌ وأنت ساحلُهُ
قد صدَّه عنك قلبُكَ الحجرُ
يا ليت أن الخلودَ لي قبس
من حسنك الغضِّ ناله الشررُ
كيما أنير الحياةَ قاطبةً
أوضاحها من جداك والغُرَرُ
كالبدرِ يكسو الأشياءَ حلَّتَهُ
وَشي من السحرِ حاكه القمرُ
فاكسُ بأنوارك الورى أبدًا
كي لا يبين الشقاءُ والعسر
يا شمسَ حسْن حياتنا ثمر
ينضجُ في ضوءِ حسنك الثمرُ
ويخصب القلبُ إِن رآك كأَنَّ
الحسنَ إِما جلوته مطرُ
أشعِلْ بألحاظك الحياة فإِنَّ
الصخرَ إِما رمقته دررُ
يا عار حسن جلوتَ غرَّته
إِن لم يَرُقْ في قريضيَ الأثرُ
وأنضبُ الناسِ فطنة وحجى
تنبع فيه من حسنك الغدُرُ
عطَّرت برد الحياةِ قاطبةً
فكلُّ شيءٍ لمسته زَهرُ
أنت أعرتَ الحسانَ روقتها
كأَنها منك أنجم زُهر
والحسنُ روحُ الحياةِ يستره
للقبح ستر كالقشر يندثرُ
أو مثل لمع البريقِ آونة
لناظر، والظلامُ معتكرُ
يا بارق الحسن في الحياة أما
تبصرُ من شاقَ قلبَه النظرُ؟
ود شحيح رأى جمالك لو
تصاغ منه الحليُّ والبِدرُ!

درع الحياة

الْبَسْ على السمع درْعَا
والبس على العين دِرْعَا
فالناسُ شاكٍ وعادٍ
يبغون في الدرع صدْعَا
والمرءُ جدُّ شقيٍّ
إِن ضاقَ باللؤم ذَرْعَا
واقهر فلست بناجٍ
إِن رمتَ باللين طوعَا
تقلَى من الصحب مما
نرضى من النفس خدْعَا
إِنْ نعمة بك حلَّتْ
ساءَت لدى الإِلف وقْعَا
حتى كأَن لها في
حشاه نهشًا وقطْعَا
تكاد تخطم أنفًا
منه وتثقب سمْعَا
فليس يبرأ صدرًا
إِلا إِذا شامَ نفْعَا
تخال في العين منه
أفعى وفي الثغر أفعى
يرومُ خفضَك كيما
ينالَ بالخفض رفْعَا
وليس يرحم إِلا
من هابَ للشرِّ وقْعَا
أو من يسرُّ بأن قد
عداه ما بتَّ ترعى
فإِن رجوتَ رحيمًا
في الخَطب ألفيتَ قَذعَا
عدُّوا الشقاءَ اجترامًا
والخفض فضلًا وصنْعَا
فالبسْ على الصدر درعًا
والبسْ على القلبِ دِرعَا

طائر السعادة

لعمرك ما اللَّذات إِلا حمائم
تنوحُ على أفنانها وتطيرُ
نشدتك يا طير اللذاذةِ والهوى
أما لك في هذي الحياةِ وكورُ؟
وإِن الذي يرجو السعادةَ واثب
على ظلِّه لو أنَّ ذاك يجيرُ
وبعض مساعي المرءِ حمى وخيبة الْـ
ـمطامع برء للحجى ونشورُ
ومن لم يجد في نفسه ذخر عيشه
فليس له بين الأنامِ نصيرُ
وهل يستقيم السعدُ للمرءِ في الدنى
ومطلبُه بين الضلوع سعيرُ
وليس شقاءُ المرءِ فيما يصيبه
ولكنَّه طبع له وضميرُ
هو العيش كالحسناءِ تبغض محجمًا
جبانًا، ويحظى بالوصال جسورُ
ومهما يُتَحْ في العيش فالخوفُ خادمٌ
وكلُّ جريءٍ في الحياةِ أميرُ
ومن صان عن رقِّ المطالب عنقه
رأى أن خطبَ الدهرِ ليس يضيرُ
قلى العيش حبُّ العيش قد شطَّ رغده
كما يبغض المهجور وهْو أسيرُ
كمن يبغض الحسناءَ يقلَى دلالها
وفي الصدر منه لوعةٌ وزفيرُ
إِذا أخطأ المرءُ السعادَة خالها
سرابًا يغرُّ العينَ منه غديرُ
وليس عجيبًا أن يرى العيشَ مجهلًا
فإِن الحجى طرف لديه ضريرُ
وما السعدُ إِلا حكمة وتجاوزٌ
وإِنك ربٌّ في الأنام غفورُ
تكيد بصفو الصفحِ من يبتغي القذى
لوردك، إِن الشائبين كثيرُ
ومن لم يجدْ في عيشه فرض آمل
رأى أن سعدًا في الحياة عسيرُ
ومن ضمَّ قلبًا أخطأ السعدَ خاله
يتاح له بعد الممات حبورُ
أمانيُّ خلف الموت ظل حياته
يقيل بها والحادثات هجيرُ
بدا ليَ أنْ لا سعْد إِلا تصبُّر
تقرُّ به في النائباتِ صدورُ
وعزمٌ وإِيمان وطبعٌ وحكمة
ورأيٌ بآلاءِ الحياةِ خبيرُ
وإِنَّ أجلَّ الخلق ما هو مقبل
تُهيِّئهُ بعد الدهورِ دهورُ
وإِن الأذى سبرُ القلوبِ وصيرف الـ
ـنُّفوسِ وقيْنٌ للعقول وظيرُ
وراجي حياةٍ ليس للشرِّ بينها
مَثار تنال النفسَ منه حَرورُ
كمن يرتجي أسبابَ أمر يعافه
وذاك محالٌ في الدُّنى وغرورُ
وليس أعزُّ الرغبِ سعدًا فإِنه
يضنُّ بعيشٍ ليس فيه سرورُ
ولو أن خلدًا كان أمرًا مقدَّرًا
أهاب الفتى بالموت وهْو قريرُ

لا مرحبًا بالأقدار

ألا ليت للأقدارِ قلبًا وفطنةً
أيرحمنا من لا يساء ويجذلُ؟
وهل نافعي ذمُّ القضاءِ وجورُه
كما ينقم الظلمَ الأسيرُ المكبَّلُ؟
وهلْ يملك المظلومُ إِلا شكاته
وإِن كان حمل الحتمِ بالصبر يجملُ؟
ولو كان هذا الحتمُ قرنًا قتلته
فإِمرته حملٌ على النفس يثقلُ
ولو كان سعدًا خلت أنِّي ملكتُه
ولكنه نوءٌ من الشرِّ مسبلُ
إِذا فر نحو الدار طِرفٌ لراكبٍ
توهمه طوعًا إِلى الدار يرقلُ
ولو أن صبرًا كان رُوِّع بالذي
بُلِيتُ به ما كان للصبرِ موئلُ
ولو أن خطبًا نابه بعض شرِّه
لأصبح لا يصمي ولا يتغلغلُ
فمن لي بنفسٍ في الشقاءِ نعيمهَا
كأَنيَ في نار الشقاءِ سمندلُ!

مرحبًا بالأقدار

إِن الذي بثَّ فيَّ الخوفَ علَّمنى
حملَ الهمومِ فكلُّ الأمر أقسامُ
إِن كان بي جزعٌ فالصبرُ غايتهُ
أو كان بي سَقَمٌ فالعيشُ أسقامُ
وإِنَّ دمعيَ حتمٌ لست أدفعه
إِذا ابتلانيَ إِثخانٌ وإِيلامُ
فإِن ترِبْتُ فعيشُ المرءِ متربةٌ
وإِن غرمْتُ فبعضُ الغرمِ إِنعامُ
وإِن مدحْتُ فأمر كان عن قدرٍ
يجري القضاءُ فيسري اللومُ والذامُ
يا مرحبًا بالذي يأتي القضاءُ به
حظُّ المحكم ترحيبٌ وإِعظامُ
حزمُ المزورِ إِذا ما زاره ملكٌ
أن لا يلوح به حقدٌ وأوغامُ
أَدرْ عليَّ كئوسَ العيشِ قاطبةً
سعدٌ ونحسٌ وإهوان وإِكرام
إِن كان عيشٌ فإِن العيشَ محتملٌ
أو كان موتٌ فما لي عنه إِحجامُ
الظِمْءَ والجوعُ والأسقام قاطبةً
والذلُّ والفقر تقديرٌ وإِرغامُ
وإِن لجأت إِلى موتٍ ألوذُ به
فالموتٌ عن قدرٍ والعيشُ أعوامُ
فإِن فررت فمن حتمٍ إِلى قدرٍ
قد استوى فيه إِحجام وإِقدامُ
والجسمُ في العيش لا يعيا بمؤلمه
وإِن أتيح له نوحٌ وإِرزامُ
هذي مرارةُ كأسٍ لذَّ شاربها
خمارها فهو عبَّاس وبسَّامُ
والنفسُ كالخيل والأقدار رائضها
فالبؤس ركضٌ ورغدُ العيش إِجمامُ
ما دمت تعدو من الأقدار عدوك من
ضاري الفواتك فالأقدار آلامُ!

خلود التجارب

وكم ساعةٍ كالخلد فزتَ بخيرها
هو الروح حرٌّ لا يذلُّ لتحكيمِ
بلغت بها أقصى مُنى النفس كلِّها
كأَن قضاءَ الدهرِ ليس بمحتومِ
نفوسٌ تودُّ العيشَ نهزة لاعبٍ
فتحسب أنَّ العيشَ أضغاثُ محمومِ
ترجِّي سنيَّ العمر كالنحل ضمِّنَا
لعيشٍ كأَرْي النحل ليس بموهومِ
ترجِّي خلودًا والخلودُ عناؤها
وأي بقاءِ خالد غير مسئومِ
وما الخلد إِلا ساعة تقنع الحجى
وتُسعد نفسًا لا تدين لتهويمِ
وقالوا بأن العيش فرضٌ مبغض
وذلك حرصٌ منهمُ غير مكتومِ
وعذرٌ على حبِّ الحياة ولهفة
وأي امرئٍ في العيش ليس بمكلومِ
يعيش شقيُّ الناسِ من خيرِ عيشه
وإِن كان يسعى في الورى جدَّ مهمومِ
يظل فتًى في نفسه ذخر ذاخر
وإِن كان محرومًا كأنْ غير محرومِ
فما العيش إِلا حكمةٌ وتهادنٌ
فيخلط مجهولًا لديه بمعلومِ
ويخلط حلوًا في الحياة بحنظل
ويأخذ من عيشٍ حميدٍ ومذمومِ
وقد صحَّ أنَّ الجدَّ يلهي عن الأسى
وإِن كان جدًّا لا يجيء بمغنومِ
وكم نُهزةٍ بالحسِّ لم أحسُ خمرها
حسوت بنفس تستقاد بتكريمِ
هو الروح مثل الحسِّ في كلِّ لذةٍ
وليس نعيم نال روحٌ بمحلومِ
وطالعتُ في سِفر الحياة كأَنني
ظفرتُ بسفرٍ في التجارب مرقومِ
فما نفْع هاتيك التجارب هديها
وليس أخو التجريب فينا بمعصومِ
ولكنَّها لذات نفس تمرَّسَتْ
بوقعٍ مرجًّى أو مواقع منقومِ
فمنها مصيفٌ للنفوس ومربع
ومنها كعام المحل ليس بمرهومِ

المثل الأعلى

يزعم الزاعمون أن أخس الْـ
ـخلق في النفس لازب لن يزولَا
كيف لا يخلد الخسيس من النفْـ
ـس إِذا ما اعتقدت أن لن يحولَا
مرحبا بالمحال فك عن النفـ
ـس من العجز والقنوع كبولَا
يشرق المرء بالزلال فهل كا
ن زلال من أجله مرذولَا
إِنما التذت الحياة لأنْ كا
ن ستير من أمرها مجهولَا
كل معنًى عَرَفْتَه كان مملو
لًا ومعنًى جَهِلْتَه مأمولَا
إِني ولعتُ بروقةِ الأحلامِ
أَأُلَام في طربي وفي استغرامي؟
دنيا يشطُّ بها المنامُ إِذا نأى
صدُّ الحبيبِ يشطُّ بعد لمامِ
ومن استنام إِلى الحقائق لم يَجِدْ
عزمًا سوى نابٍ لديه كهامِ
عجبًا نعافُ الخيرَ وهْو محبَّبٌ
حتى كأن الخيرَ في الإِحجامِ
جهل الورى فمضى الورى في الشرِّ إِنَّ
الخيرَ كلَّ الخيرِ في الأحلامِ!
ما في الوجود حقيقةٌ غير النهى
فاطمح بنفسك للذرى والهامِ
أتنال أوهامَ الحقائق قانعًا
وتعاف خيرَ حقائق الأوهامِ؟
والعيشُ إِن لم تبغه لعظيمة
فالعيش حلم طوارق الأعوامِ
لفررت عن دار المذلة والأذى
لو فرَّ بعضُ الناسِ في الأحلامِ
وبدا له بين الحقيقة والكرى
بابٌ لِولَّاجِ العوالمِ سامي
فيفرُّ منه إِلى الفضائل والنهى
وينال ما يغلو على المستامِ
إِن خلت أن الذام ضربةُ لازب
في النفس كيف تعاف ضرَّ الذامِ؟
والنفس إِمَّا شئتَ كانت عالَمًا
يسع الدُنى في طوله المترامي
فكأنما جزعَ الزمانَ جناحُها
فرأته من خلفٍ له وأمامِ
وكأَنما حد الفضاءِ يحدها
يا طيبه من منزل ومقامِ!
فإِذا سكنتَ إِلى مجالي عيشها
ذلَّلْتها بخزامةٍ وزمامِ
ورأيتَ عالَمها الوسيعَ كعالَمٍ
للنمل يصغر عن مدى الإِعظامِ
لو كنتَ تعرف قدْر مقبل علمها
أو جهلها لكشفت كل قتامِ
وعرفت ما العرفان لا يلوي به
أقصرْ فليس مرامُه بمرامِ
والمرءُ يضمر للبعيد مهابةً
فإِذا دنا ألفاه حظَّ طغامِ
ويرى المحبَّب بين ذين يرومه
بالنصر آونةً وبالإكرامِ
ولرُبَّ نفسٍ كالخشاشِ مطارها
زحف الصِلالِ تدب في الآجامِ
أنى يكون معبَّد لحياته
بين الأباةِ الصيد والأعلامِ
ولرُبَّ مصفودٍ بلذة عيشه
كالنحل يصفد في الجنى بحمامِ
ومِن النفوس ذوات أجنحةٍ ترى
كالطير ناهضة على الآطامِ
ولذاذة الآثام في ندم عليْـ
ـها قد أتيح لجدَّة الآثامِ
إِنَّ السكينةَ قد يملُّ نزيلها
حتى يلذ العيشَ في الآلامِ
بئستْ حياةٌ قد رضِيتَ براكدٍ
مِنْ أَمْرِها وقنعت بالإجمامِ
فالنفس للمثل الأجلِّ طموحها
كالنجم يهدي من وراء ظلامِ
طورًا كما رقص السرابُ وتارةً
يشفى به من غلَّةٍ وأُوَامِ
كالبدرِ في ليلِ العواصفِ ساطع
في أفْق مخشيِّ الزماجر طامي
يبغي به الملَّاحُ هَدْي سفينه
في زاخر باللجِّ كالآكامِ
كم صان من جأشِ الحزين وكشَّفتْ
لمحاته من سُدفة الإِظلامِ
من ذاد عنه النفس يخشى هلكها
كمعالج للِظمءِ خوف جمامِ
صنو الذي لم ترضه لمحاته
من يبتغي في النجم فضْل ضرامِ
لولا وقوع شعاعه في نهجها
ضلَّت عليه طليقة الأيامِ
والمرءُ إِن نبذَ الكمال وهديه
شقَّ العصا وأحلَّ كلَّ حرامِ
ورأى الأنامَ فريسةً مذخورة
لموفقٍ في شرِّه عزَّامِ
ولقد يعود قذًى يصيب به العمى
فينال من عزمٍ ومن إِقدامِ
كالنار يهلك حرُّها وضياؤها
يعشى وفيها من هدًى وقوامِ
يحكى أضاميم السقام ولوعه
فكأَنه سقمٌ من الأسقامِ
ولطالما خاض الفتى من أجله
كيما يكون زواخر الآثامِ
أقسى الأنامِ من استبدَّ به الحجى
فسها عن العبرات والآلامِ!

الفصول

طيري أَمَانيَّ النفوسِ وغَرِّدي
فلقد دعاك الروض خير دعائِهِ
هذي عيون للطبيعة قد رَنَتْ
في الزهر من أكمامه وخِبائِهِ
بسط الربيع على الحياة رِدَاءَه
يا ليتها أبدًا تُرَى بردَائِهِ
بل ليته بُرْدٌ نخيطُ على هوى
هذي النفوس لكي تُرى بروائِهِ
والشيء لولا أن يَرُوعَ بفقده
ما شاق عند قدومه بلقائِهِ

•••

لا كالشتاءِ تزايلت أوراقه
كتزايُل المهجور عن قرنائِهِ
تتناثر الأزهار عن أفنانِهِ
كتناثر اللَّذَّات من أهوائِهِ
وتخال إِذْ دَلَفَ الشتاء كأنما
ساق السَّنا بِدَبُورِه ورُخائِهِ
هَربُ الضياءِ من السحاب وريحه
هَرَب الكعَاب من الهوى وقضائِهِ
فرَّ الخريف من الشتاء وخلفه
عادٍ يريد لحاقه بجرائِهِ
مثل المريض يفرُّ من عادي الردى
هيهات ذا، والدَّهْر من أعدائِهِ
راع الشتاءُ بقُرِّه فكأَنما
أنفاس ثغر الموت قُرُّ هوائِهِ
والريح مثل فم الشتاءِ وصوتها
شكوى العجوز يخاف من أبنائِهِ
نقمَ العقوقُ فقام يشكو أمره
للناس ينشد آسيًا لبكائِهِ
والأرضُ تنظر في فروج أديمها
نظر الفقير إِلى ثقوب ردائِهِ
من بعد ما نفدت نفائس كنزه
سَرفًا وشحَّ العيش بعد سخائِهِ
وكأنما دجَنُ الشتاء مقطِّبًا
ذكرى العجوز لزهوه وفتائِهِ
وكأنما دوح الخمائل في الدجى
نشوى شياطينَ انتشَتْ بسقائِهِ
شربت من الإِظلام حتى أكثبتْ
تبغي النهوض كُمكْثِبٍ من دائه
في كل غضٍّ في الظلام نواظر
كنواظرٍ للغيب خلف كِفَائِهِ
وكأنما دوحُ الظلامِ ثواكلٌ
لبست حدادَ الثكل فعل نسائِهِ
تحنو عليك غصونُها فكأنما
تبغي سرار السمعِ من إِصغائِهِ
والدوحُ يهفو كالمؤرَّق في الكرى
يلوي على الأفنان فضْل كسائِهِ
تتردَّد الأرواح في أفنانه
كتنفُّس الرعديد في لأوائِهِ
وكأنَّ في إِطراقها وسكونها
فِكرُ المصيخ لروحه وندائِهِ
يا ليت بعض العمر تُقطَعُ بِيدُهُ
وَثبًا ويُمْهِل في سنيِّ رخائِهِ
كالسِّفْر تقرأ بعضه مُتريِّثًا
جذلًا وتطوي بعضه لهرائِهِ
أوْ ليت حادي الأرض يعكس سيرها
عن بعض دورتها بوقع حدائِهِ
أوْ ليت هذا الدهر عقربُ ساعةٍ
يَلْوِي به عن نحسه وشقائِهِ
آمال أمسِ كزهرة قد صَوَّحَتْ
عود الربيع مجدِّد لرجائِهِ
يا نفس لا تأسيْ لِعُمْرٍ قد مضى
بربيعه زمن أتى بشتائِهِ
تَتَشوَّفين إِلى قديم عهوده
نَظَرَ الغريق إِلى السُّهَى وسمائِهِ
بُشراكِ خلف الموت لو تردينه
نبت الربيع يروق في غلوائِهِ
كالطير بعد الصيف تترك عشها
نحو الجنوب ترود أرض ثوائِهِ

•••

عَطَفَ النسيم على الأزاهر هامسًا
أَنَّ الربيعَ سعى إِلى ندمائِهِ
إِنَ الربيع أخا الصبيحة مقبلٌ
إِقبال وجه الحبِّ في لألائِهِ
كالظئر بَشَّرت النئُوم بأن بَدَا
فجرٌ لِعيدٍ كان قيدَ رجائِهِ
والقلب مثل الطير في وضح الضُّحَى
يتلو على الإِصباح آيَ غنائِهِ
وكأنما أمُّ الخلائق دوْحةٌ
من قبل آدم فهي من قربائِهِ
تشدو كَشدْو الأمِّ ناح وليدها
تحنو عليه لصونه ووقائِهِ
والريح طيرٌ شادَ في أفنانها
وكرًا كأن الزهر من أبنائِهِ
وكأَنَّ أجنحة الملائك نسمها
نَسَمٌ يطبٌّ برفقه وصفائِهِ
وكأَنَّ ينبوه الحياة غديرها
خُلْدُ الصِّبا في جرعةٍ من مائِهِ
والقلبُ مثل النهر باشَرَ ماءَهُ
جسم الحبيب تراه في سَوْدائِهِ
أَهْوَاك يا روح الربيع فهيِّئي
جسمًا كجسم الغيد في لألائِهِ
ثم ارقصي بين الخمائل في الضُّحى
رقصَ المدلِّ بحسنه وبهائِهِ
فلعلَّ في قبلات ثغرك برء ما
أعيا الأنام بحكمه وقضائِهِ
أَرِدُ الخلود بقبلةٍ وبضمةٍ
تروي ظماءَ الخلد من لميائِهِ
والزهر يبعث بالطيور إِلى الضحى
تُفْضي إِلى الآفاق من أنبائِهِ
الأرض أمٌّ للخلائق كلهم
والشمس بَعْلٌ شاقها بفَتَائِهِ
فالناسُ والأطيارُ في وَضَح الضحى
والزهر في الأكمام من أَبنائِهِ
النارُ والأَمواهُ من آبائنا
والنار والأَمواه من آبائِهِ
يهنيك يا دوح الخميلة بعده
نسيانُ نيسانٍ وطيب هوائِهِ
تنسى الربيع كأنه آزفه
نغم البلابل في مثير حُدَائِهِ
لا تمنع المشتاةُ عوْدَ زهوره
وأريج نسمته وحَلْي كسائِهِ
يا ليت طيب العمر يُنسي ورْدُهُ
فأَبيتُ مثلك لا أحنُّ لمائِهِ
لكنَّ طِيب العمر ليس بعائدٍ
لأخِي صَدًى يُظْميه صَوْب بُكائِهِ
وترى كحالات النفوس تغيُّرًا
في روضه وسمائه ونِهائِهِ
فكأَنما للكون روح خُلْقُه
يبدو لنا في غيْمه وضيائِهِ
تتغير الأشياءُ فوق وجوهه
لتغير الأشجان في حَوْبَائِهِ
من لي بأجنحةِ الزمانِ أهيضها
كي لا يطير بصفوه ورخائِهِ
أَوْ ليته الغَرِد الحبيسُ أُقيمُه
كيما أُراح لشدوه وغنائِهِ
كي يذكر العهد الأنيق وأوجهًا
كانت تطلُّ على وذيلةِ مائِهِ
خلع الجمالُ قناعَه وسعى إِلى
عشاقه وعفاته وظمائِهِ
والمرءُ لولا صَيْفه وربيعه
ما ذاق حُلمَ السَّعْد في لأوائِهِ
والروضُ بابٌ للجنان وثغرة
منها ترى الفردوس خلف فنائِهِ
وكأنما صبغ الأزاهرَ صابغٌ
فتكاد تأخذ منه إِثرَ طلائِهِ
والضوءُ غُدرانٌ ترقرق تِبْرُها
وأراق منها الأفق فضل إِنائِهِ
واللونُ شِعْرٌ للطبيعة وقعُهُ
في العَيْن وقعُ اللحن في سودائِهِ
شهدَ الشتاءُ بأن أفْق سمائِهِ
أدنى إِلينا من قصيِّ فضائِهِ
والنفسُ تعظم في الربيعِ كأَنها
في زهره ونسِيمه وصفائِهِ
والضوءُ خمرٌ للنفوسِ ونشوةٌ
ودم الحياة يشام في أثنائِهِ
والأرضُ كالحسناءِ قُدَّ قميصُها
فبَدَتْ محاسنُ جسمها ووَضائِهِ
فكأَنما رفع الربيعُ حجابَها
فانجاب ستر الحسنِ عن حسنائِهِ
والضَّوْءُ كالحسناءِ بُزَّ رداؤها
فأماطَ عنها العُرْيُ ستر غطائِهِ
والقلبُ مثل الطير هِيض جناحُه
في نزْوِه وحنينه وغنائِهِ
والطيرُ أفواه الرياض فشدوها
أبدًا يزجِّي الدَهرَ وقْعُ حدائِهِ
وكأنما نغمُ الحفيفِ هواتفٌ
في القلب دَوَّتْ منه في أنحائِهِ
والضوءُ من خَلَلِ الغصون كأنه
طيرُ الفراشِ نراه من شجْرائِهِ
وكأنه والقلب يذكو شجوه
شرر الغرام يطير من حَوْبائِهِ
نثرت ذكاءُ على البسيطة عسْجدًا
فاذخرْ ليوم الدَّجْن كنز ثرائِهِ
ولكل شيء منطقٌ يشدو به
والنفسُ تعرف كنه سحر غنائِهِ
تتلو عليك الطيرُ طِيبَ ثماره
وَأَريجَ روضته ورقة مائِهِ
والحسنُ ظلٌّ للسعادة في الورى
إِنَّ السعادة لا تُرى بِفنائِهِ
ظلُّ الجنانِ على البسيطة واقعٌ
فاستقبل اللَّذات من آلائِهِ
يُنسي الحياة وبؤسها وشقاءها
حتى يخال الحُلم أصل شقائِهِ
فكأَنه كوْنٌ حلمت بحسنه
حتى نقلت إِلى ذرَى خضرائِهِ
هذي الطيور صوامت كنواطق
ذخر النسيم نشيدها لهوائِهِ

•••

وكأنما زهر الخميلة إِن بَدَا
حُلُمُ الهوى في طيبه ووضائِهِ
والطيرُ أرواحُ الزهورِ وصَيْفُها
عهد الشباب يروق في لألائِهِ
ضحِكَ الزمانُ فذاع من ضحكاته
صيف يعيد الحبَّ في غلوائِهِ
والقيظ يزفر بالهجير كأنما
يتنفس الولهان من بُرَحَائِهِ
فكأَنما مرحُ الحياة وحسنُها
لهب ترقرق في خفيِّ دمائِهِ
وكأَنما نغمُ الطيورِ أريجُها
يُسقاه زهر الروضِ في أَنْدائِهِ
فيحيله نشرًا يَضُوعُ ورونقًا
يشتار منه النحل أَرْيَ عطائِهِ
ودَّت ذوات الحسن أنَّ حُلِيَّها
كحُليِّه ورداءها كردائِهِ
مرح الكعاب الرُّودِ في خطراتها
كالنهر يرقصُ في ترقرق مائِهِ
والريح تعبث بالغصون كأنها
طِفلٌ يعيث على رءوس إِمائِهِ
وترى جذورَ الدَّوح مثل أصابع
بسط الشحيح يصون كنز ثرائِهِ
وكأنما نغمُ البلابل مَطْرَةٌ
فوق اللُّجين شجا مُرِنُّ إِنائِهِ
تندى على القلب الجديب فينثني
روْضًا يرفُّ بزهره وأضائِهِ
والزهرُ في وَضَحِ الصبيحة قد صحا
صحوَ المفيق من الكرى وقضائِهِ
وجلت ذكاءُ ندى الزهور كأنها
أمُّ الوليدِ تزيل فضل بكائِهِ
حتى إِذا اشتدَّ الهجير حسبته
نشوانَ أثمله اللظى بسقائِهِ
وإِذا الأصيل علا السماءَ حسبته
ذا لوعة حانت نوى قربائِهِ
وحمَى على قُبَلِ الظلامِ ثغوره
كمعشَّقٍ متسَتِّرٍ بردائِهِ
وتراه يرنو للنجوم كأنها
حُلُمٌ يُطِلُّ عليه في حوْبائِهِ
كالطفلِ يُبْصِرُ في الوذيلة وجهه
فيخال ذاك الوجه من قرنائِهِ
تحكي النجوم الزُّهْرُ في دوْراتها
رَقصَ المدلِّ بعيشه وروائِهِ
والنجم من خَلَل الغصون كأنه
ثمرٌ تَدَلَّى من عَلِيِّ سمائِهِ
درس السماء صفاءها وضياءها
حتى جرى بعروقه ودمائِهِ
والحي يحيا كالذي هو ناظر
كالأُفْقِ يُرْسَمُ في متون نِهائِهِ
والزهرُ يحلم بالفرادس طرفه
حلم الغريب بأهله وفنائِهِ
حَسِبَ الطيور تحاملت عن قلبه
وبدت تبوح بشجوه ورجائِهِ
والقلب مرآة الزمان فصيفُه
في صيفه وشتاؤُه كشتائِهِ
والكونُ مرآةُ الفؤادِ فقبحُه
وجمالُه في نحسهِ ورخائِهِ
والضوء مثل دم الربيعِ فلا تَعفْ
جُرَعًا تنيلُ الخلْد من ضَذائِهِ
هذي الطيور لسانه وغناؤها
مستأنف من شدوه وغنائِهِ
والزهر في حرِّ الهواجر نائم
سحَرَتْه باللحظات عين ذُكائِهِ
والأرض تحلم بالجِنَان فصيفها
حُلُمٌ يزيح القلب من ضرَّائِهِ
بسطَ الجمالُ على الفضاءِ جناحَه
فالصيف من لألائه ورُوائِهِ
فكأَنه مَلَكٌ يُحلِّقُ فوقها
فتصيب من آلائه وعطائِهِ
يا ليت أنَّ المرءَ في أرجائها
متَفرِّقٌ في أرضه وسمائِهِ
حتى يصيرَ من الجمال بمنزل
في مائه ونسيمهِ وضيائِهِ
وتظل تسمو النفسُ في آفاقه
كالطيرِ حَلَّق في أديمِ فضائِهِ

خواطر الأرق

يا ليلُ أين أليفُ الهمِّ والذكرِ
مسهَّد القلبِ عون لي على السهرِ؟
وصاحب الهمِّ يبغي صنوه أبدًا
كساهرِ الليلِ يقضي الليلَ بالسمرِ
فقل لأحلامك اللاتي نراح لها
قَوْلي لمن هو روح الضوءِ والبصرِ
خاض الزمانُ مياهَ الحبِّ فاعتكرَتْ
كخائض النهر أبدى كدرة العكرِ
مراسم لك دون القلب يدرسها
كالرِّيح تمحو ظلالَ الزهر في النهَرِ
وعنكبوت من النسيان ناسجة
خيطًا على القلب يخفي أنفَسَ الذخرِ
جلت عن القلب ذكرى منك طارقة
كمن يزيح القذى عن شرعه الغدرِ
فابعث بذكراك في قلبٍ نبتُّ به
كالجذر مستوثقًا في منبت الشجرِ
فإِنَّ زهرة حسنٍ أنت لابسها
تسقي دمي مثل ريِّ الماءِ للزهرِ
والذكرُ كالطرف إِما نابه أرق
يا عازبَ النومِ أسدل حاجب الذكَرِ!
خواطرٌ كطيورِ الروضِ سانحة
تستدرج القلبَ أخذ الطير بالنظرِ
إِنْ غرَّبَتْ فإِلى ذكراك عائدة
عَود الطيور إِلى الأوكار في الشجرِ
قد قُلت للحبِّ لا تعتب على سكني
لنبوةٍ منه في أيامك الأُخَرِ
كم لي وكم لك من يوم لنَا بَهِجٍ
بطلعةٍ منه تحكي طلعةَ القمرِ
إِن يَقْسُ قلبك فالأقدار قاسية
وأسعد الناس من يأتمُّ بالقدرِ
أو يَجْفُ قلبك فالأثمار يانعةٌ
ودون ذلك يُبْسٌ من نوى الثمرِ
أو كان قولك مرَّ الطعم لا عجبًا
فإِن ثغرك كأس العابس الأَشِرِ
فارجم بقلبك قلبًا أنت مالكه
فإِن قلبَك مثلُ الماس في الحجرِ
ولست أول من أصمى فلا حرج
للناس رجم كرجم القرد بالمدرِ
لم يترك الناسُ من قلبي له رمقًا
حتى أقول تحرَّجْ من دمٍ هدِرِ
يرمونني بقلوبٍ في مودتهم
أقسى من الصخر فعل الراجم المكرِ
كأنها بعض أحجار الجحيم رَمَتْ
بها شياطينُ تبدي صورةَ البشرِ
والحبُّ كالبحر لا يَخْشَى به غرقًا
من غاص فيه على الأصداف والدررِ
وخالطٌ في الهوى لم يَدْرِ لذَّته
كخالط الكأس أخطا لذة السُّكرِ!

غل السرائر

لقد عابني للناس أنْ عفتُ لؤمَهم
ومن لم يسغه فهْو أجنب بائنُ
وإِنَّ رضاءَ النفسِ ما ينبغي لها
وليس رضاءُ النفس ما هو كائنُ
فيا عائبًا نفسي بقولة كاذب
وما عاب نفسًا جائر القول مائنُ
أتبصق في المحراب وهْو مطهَّر
وتحسب أن البصقَ لله شائنُ؟
يقولون: رزق المرء مفتاح قلبه
ألا إِنه قفلٌ على القلبِ صائنُ
فدعْ عنك هذا الناس إِن كنتَ فاعلًا
يكاد المبادي والصديق المداهنُ
أقولك للأنعام عزي يعزها
وإِن قلت لليث اصطبر هو ساكنُ!
وكيف يطيبُ العيشُ للمرءِ وحده
ومن حوله في الناس باكٍ وحائنُ
يضير شقاءُ الخلقِ من حيث لا يُرى
كما تطرق العدوى وإِن قيل آمنُ
يقارب في بغضي عدوٌّ عدوَّه
كما اقتربت في الصدر منه الضغائنُ
ولخَّتْ صدور العجم تضمر بغضتي
فقد شاكلتها في الأنام القرائنُ
ومن نغص الحساد نعمى يسيغها
رأى أن لحظَ الشمسِ في الأفقِ عائنُ
سخائم لا يدري سوى الموت سلها
إِذا بشَّمَتْ منها النفوس البوائنُ
لئن بلغ الإِنسان أفْق وهاده
تعجَّبَ من غلٍّ طوته البواطنُ
وقد يعجب الإِنسانُ من غلِّ غيره
وقد عمرَتْ في الصدر منه المواطنُ
وكل امرئٍ فينا حسودٌ محسَّدٌ
ولكنْ على قدر النفوسِ التباينُ
لئن كان في نفسي عدوٌّ أخافهُ
فلا غرْوَ إِنَّ الناسَ عادٍ ولاعنُ
حياتي حياةٌ إِن يَلُحْ لي حسنُها
يهشَّ لها من سادرِ الموتِ ماجنُ
تضيء شموس المجد آثار من مضوا
أتدفأ منها في الضريح الدفائنُ؟

آلة الضمير

ألا مَنْ لِدَهْرٍ وأيامِهِ
وخبٍّ يكيد بإِبهامِهِ
يودُّ عشير الورى صنوه
لكيما يُسَرَّ بإِيلامِهِ
وليس الضميرُ لخير سواه
ولكنْ ليحظى بأحكامِهِ
ليمنع إِتيانه مأثمًا
يرى مهلكًا دون إِنعامِهِ
فإِن لم يجد فيه هلكًا يعاف
تناءَى الضمير بآلامِهِ
فلا تبتَغِ النصف من خيِّرٍ
يرى الطهر في روث آثامِهِ
هل التبر يحمر من سفكه
دماء تصيح بإِجرامِهِ؟
وما الناسُ إِلا أخو خجلةٍ
بريءٌ شقيٌّ بأحلامِهِ
وذو لوثةٍ ما له من حياءٍ
يخفِّض من حقِّ إِكرامِهِ
فداوِ الحياءَ ببعض الشرور
لتفلت من ظنِّ لوَّامِهِ!
وما كلُّ باغٍ لخير الشرو
رِ ينقع من غلِّ تهيامِهِ
بقدر تُقاكَ يضيرك شرُّ
كَ ضيرَ النقيض بإِلمامِهِ
وبعضُ الضمائرِ داءٌ عياء
يذلُّ البريء بأسقامِهِ
وآخرُ كالسيفِ حرب الخطوبِ
ونور المغذِّ بإِلهامِهِ
ومن لذة العيشِ جهلُ المغامِـ
ـر لؤم الضمير وأوهامِهِ
وذلك من خير هذي النفو
س، والشرُّ يثني بإِبرامِهِ

دعوة المصلح

ألا يا صيحة أطْلَـ
ـقَها المحتثُّ في الوادي
لئن كنت طواك الدهْـ
ـر فينا طيَّ أَبْرادِ
أما يزجي خفاء البذ
ر زهر الفنن البادي؟
سقاك السامعُ الواعي
بصوبِ الرائحِ الغادي
وغنَّى هاتفُ النفسِ
بغصنٍ منك ميَّادِ
ففي النفسِ بلاغٌ منْـ
ـكَ مخبوءٌ لميعادِ
وفي النفس اقتدارٌ منْـ
ـكَ مثل الضَيغمِ العادي
غدًا ينفجر الصخرُ
بريِّ الهالك الصادي
وصمتٌ منك قد يحدو
بإِبراقٍ وإِرعادِ
وإِنَّ الدهر بانيك
بأطنابٍ وأعمادِ
وخصَّت لك في الغيب
مقادير بمرصادِ
وكم من دعوةٍ قامت
مقام الماءِ والزادِ
وكم من خافت الأصوا
تِ ذي وعد وإِيعادِ
سيسعى لك أفواج
بإِتهام وإِنجادِ
ويهفو منك في الأقوا
م من غيٍّ وإِرشادِ
ويحكي صادر عنك
إِذا مرَّ بورَّادِ
وكم من مختفٍ ينخـ
ـر في صرحٍ وأطوادِ
ألا يا صيحة خِيلَتْ
أضلَّ طريقَها الحادي
وظلَّتْ وهْي كامنة
كمون الصلِّ في النادي
كما تختمر الخمر
ةُ في الدَّنِّ لميعادِ

الشهرة بعد الموت

ما أحسن الصيتَ لو أن الفتى
يزاد عمر الصيتِ في عمرِهِ!
أمَّا ولا نفع يرجَّى به
وا غبْنةَ الميت في ذكرِهِ
يهدم من لذات أيامه
كيما يُشاد الذكر في قبرِهِ!
وما رأينا بائعًا من غدٍ
بما مضى بالذكر من دهرِهِ
بشهرة من أزلٍ غابرٍ
ليومه المُعْنِق في فرِّهِ
سيَّان صيت قد مضى عهده
والمقبل المرجو من أمرِهِ
والذكرُ ظلٌّ لحياةٍ مضَتْ
يخفيه جرمُ الدهرِ في مرِّهِ
ورب ظلٍّ خلف ساعٍ سعى
يخفيه جرمُ الدهرِ في مرِّهِ
صيتٌ يعيد الذهنَ كالمنتضي
والسيف راق العين من شَهْرِهِ
والنفسُ تبغي الخلدَ في وهمِها
والوهمُ مثل الحقِّ في خدرِهِ
فالبُطل في إِيمانها نافع
إِن لم يُرِبْها الوهمُ في غدرِهِ
تحتال بالأهرام طورًا وبالْـ
ـقرطاس يحوي اللبَّ في سِفْرِهِ
سفائن لا بد من هلكها
إِذا استفاض الدهرُ في بحرِهِ

دلال الربيع

أنت روحُ الربيع حين تَلَالَا
يا ربيعًا زاد الربيع جمالَا
غير أن الربيعَ وهْو عزيزٌ
ليس يسلي عن الحياة رجالَا
إِنْ أتى كان قُرَّةً ووصالَا
أو مضى كان ذكرةً ومقالَا
أيها المعرض المدلُّ بطرف
وبثغرٍ يحكي لنا الجربالَا
زدْ مطالًا فلست أبكي وصالًا
تِهْ دلالًا فلست أخشى دلالَا
أنا كالليل يفزع الغرُّ منه
ويزيد الحكيم فيه جلالَا
ويرى الرأي في الدُجنة ما لا
تبصر العينُ حكمةً ومقالَا
هو نِعْم الطبيب إِن كرث الخطْ
ـبُ وأنحى على اليتيم وطالَا
وابتدار الربيع عانقه كا
نون أرعى من أن يطيل زيالَا
وسريعٌ كرُّ الزمانِ فإِن فا
ت شتاء حدَا الربيع زوالَا
وطلوعُ الربيعِ وهْو قرين
لشتاءٍ أرجى وأجدى نوالَا
ضمَّ قلبي من الحوادث ذخرًا
تارةً مطرة وطورًا هلالَا
يا شبيهَ الربيع إِنَّك حال
وفؤادي قد شامَ حالًا وحالَا
وفؤادي كالكون لا بل هو الكو
نُ حوى منك نضرةً وجمالَا
فابتعِدْ إِن قدرت هل يجد البدْ
رُ عن البحر والسماءِ مجالَا
وائتني في الشتاءِ أرتجعِ الصيْـ
ـفَ إِذا شئت قيظه والظلالَا
بزفيرٍ يحيي الغصونَ ويلقي
فى رواءِ الزهور سحرًا حلالَا
فيفرُّ الشتاء في غابر الدهْـ
ـر ارتياعًا وحيرةً وضلالَا
غير أني أقلى من الصيف إن جا
ءَ وقد آذن الربيعُ ارتحالَا
يا ربيعًا مضى وخلَّف في القلْـ
ـبِ غرامًا كالصيف أوفى وغالى

ربيع القلوب

ربيعَ القلوبِ وعهدَ الزهورِ
مطارك مثل مطار الطيورِ
تضمُّ لنا الإِلف بين الوكورِ
معلِّلنا بالرجاءِ القصيرِ
وخادعنا عن صروف الدهورِ
وخير الخمار خمار السرورِ
وخيرُ زمانٍ زمان الزهورِ
وعهد الهدوى ونجيُّ الصدورِ
ويا رُبَّ عهد كَوَجْه البشيرِ
كثير المانيِّ جمِّ الحبورِ
وهل يصقلُ العيش غَير الغرورِ
وهل يشبه الزهر غير الثغورِ؟
تمرُّ علينا بلفح الحَرُورِ
وطيبِ الزهور ونفح العبيرِ
وتخلف ذكرى كشدوِ الخريرِ
ربيع القلوب وعهد الزهورِ
فقم واستمعْ نُصْحَ هذي الطيورِ
تقول اغتنم صفوَ عيشٍ نضيرِ
ولا تغبننْ في الشباب القصيرِ
فعهدُ الشبابِ كعهد الزهورِ
فيا قمرًا في ليالي الحبورِ
طلعْتَ علينا طلوعَ البدورِ
لتغرب في ظلمات القبورِ
تمتعْ بضوئك قبل المسيرِ
فمكثُك فينا كمكث الزهورِ
وملكك في ضوءِ هذا السفورِ
وعادى الردى يده في النحورِ
وفي كل جِيدٍ ممرُّ الجريرِ
وكم ثمر عَطن في الثغورِ
ويعبث بالزهر عصفَ الدَّبورِ
ولا يندمُ المرءُ قبل القتيرِ
وقبل انجلاء غشاء الأمورِ
فإِنَّ الشبابَ كثيرُ الغرورِ
وفعل الرجاء كفعلِ الخمورِ
وهل ينفعُ المرءَ وعظُ النذيرِ
إِذا فات عهدُ الشبابِ النضيرِ؟

حقيقة أم وهْم

إِن يكن ريع من خرائب نفسِ
في ضلوعٍ من الحوادث درسِ
فبما قد أفاض من وَضَح الحُسْـ
ـن عليها كالبدر فوق الرَمْسِ
أو أكن قد بكيت للنأي فالأر
ض تريق الندى لنأي الشمسِ
ولوَ انَّ الأيامَ تُدْرِكُ ودًّا
لبكى لي من حرقة النأي أمسى
أنت نفسي وليس من حقِّ نفسي
أن يقولَ العذولُ أبغضت نفسي
أَشَقَاءٌ في الحب قد صارَ سَعْدًا
أم هو السعدُ حائلٌ للنحسِ
فكأني أحببتُ منك خيالًا
خِلْتُ إِياك غير جسمٍ وجَرْسِ
وكأني لم أُلْفِ بعدُ لقاءً
أتقرَّى اليقين منك بلمسِ
فلعلِّي إِذا لمستُكَ لمْ أُلْـ
ـفِكَ فينا إِلا مجاجة شمسِ
إِن تكنْ قد نفيْتَ عنيَ آما
لي وجرَّعْتَنِي مرارةَ يأسي
فالأسى لا كأنت إِلفٌ ودود
أنت خَلَّفْته فأكثر أنسي
فهْو عندي وديعةٌ فاطَّرحها
في ضلوعٍ على الصبابة حبسِ
لو عداني نحس شقيت به منـ
ـك لما خفَّ من أساي ونحسي
وشقيُّ الهوى ليشقى ولو أخْـ
ـطأ منه صُبابة المتحسي
إِنما السعدُ والشقاءُ من النفـ
ـسِ فما لي أنحى على غير نفسي
سننٌ سنَّها القضاءُ فقد أصـ
ـبحَ حربي من كنت أَعتدُّ تُرْسي

عالم الحسن

ذراني أُبيحُ الحسنَ قودَ عناني
فهذي عيونٌ للمنون تراني
وأكبر ما أقلى من الموت أنني
إِذا متُّ لم أبصر وجوه حسانِ!
ففي كلِّ معنًى فتنةٌ ولذاذة
وفي كل وجهٍ للجمالِ مَعاني
فمَنْ لي بخلد أبصرُ الغيدَ كلها
سواء أقاصٍ في الدنى وأداني
وأبصر حسنًا أطفأ القبرُ نورَه
وأبصر ما لم يبصر المَلَوانِ
وترنو عيونٌ سوف يملك سحرها
عنان قلوبٍ نحوهن رواني
وتبدو وجوه في الغيوب مهودها
وأسمع ما لم تسمع الأذنانِ
كأني بتربي يعرف الغيد إِن سعت
عليه فتدوي الأرضُ بالخفقانِ
فيا عاشقيها إِنَّ في القبرِ عاشقًا
وأي قلوبٍ في التراب حواني
وقلبيَ عودٌ أَحْكَمَ الحسنُ لحنَه
فحسب الهوى من نغمةٍ ومثاني
تقاطَر ماء في المناقع من علٍ
تقاطُر حسن الكون دون جناني
أحسُّ إِذا ما أَبْصَرَ الطرفُ حُسْنَهُ
كأن بسمعي أنَّةً لحناني
كأن وجوهَ الكونِ نغمةُ منشدٍ
يرتِّل آمالي بغير لسانِ
فيا مَنْ ضياء الشمس بين عروقه
دماء تضيء الوجه بالجريانِ
ويا مَنْ رحيق الخلدِ من خمر ثغره
يداوي به من غائل الحدثانِ
فلو نالَ منه خائف الموتِ جرعةً
إِذن لأصابَ الخلدَ كلُّ جبانِ
جمعت صفات الحسنِ والخلد كلَّهَا
فلم يَبْقَ منها في الحسان معاني!
سواء حسان بعد لم يَبْدُ حسنها
وأخرى حداها الموت بالوخدان
فما عشقَ العشَّاقُ من عهد آدمٍ
سوى لمعات منك غير دواني!
رميت جميلًا والوليد بفتنةٍ
وها إِنَّ سهمًا من هواك رماني
دعاني دعاءُ العيشِ والموت دونه
فلبَّيْتُ فيك الشوق حين دعاني
دعاني دعاءُ الليلِ رقَّ نسيمُه
وربَّ صموتٍ ناطِقٌ ببيانِ
دعاني دعاء البحر يشجو خرِيرُه
ويحكي عبابَ الدهرِ بالنهضانِ
دعاني دعاءُ الذكر والذكرُ هاتفٌ
ويا رُبَّ ذكر هاتف بأماني
دعاني دعاءُ العود في البحر ليلةً
رعى البحر فيها بدرها ورعاني
دعاني دعاءُ الزهر والطيرُ روحها
تشوق فؤادَ الصبِّ للطيرانِ
دعاني دعاءُ الفجرِ والفجرُ شائقٌ
كأنَّ انفجارَ الفجر خلْق كيانِ
فلا تدعوَنْ قلبي إِلى الحبِّ دعوةً
لكيما تثيب الحبَّ بالشنآنِ
دعوتك بالحسنِ الذي أنت ربُّه
لكي لا تخال القلب نهزة جاني
ولا تنقمنْ أني نقمت خديعة
من الناسِ غالت مهجتي وجناني
ولا يكُ فوضى قلبك الغضِّ أنَّهُ
فؤاد على رعْي الأمانة حاني
فإِن كان لي في بعض خلقي ومنطقي
شفيع إِلى لقياك ليس بواني
فحسبك فاصدع حاجب الود بيننا
بإِمرة معبودِ الجمالِ مداني
وإِلا فناكِرْني على الحبِّ يسترحْ
فؤادٌ حبيسٌ في حِبَالِكَ عاني
سِوَاكَ يهزُّ القلبَ كالظئرِ طفلها
وأنت تجنُّ القلبَ بالخفقانِ

اختفاء الحق

لو عددنا متاجرَ الْـ
ـحقِّ ألفيت مفلسَا
تاجر الحقِّ بالمعا
ني فقد نال واكتسى
كان يشري نسيئة
فرأى التَّجْرَ أبخسَا
فاختفى خشيةَ القضا
ءِ فهل ناله الأسى؟
كتم العيش منزل الْـ
ـحقِّ إِذْ كان أخرسَا
هو طبٌّ بأمره
فحماه ليُبْلَسَا
علِّمُوهُ خَطَّ ابنِ مقْـ
ـلَةَ إِن كان ألبسَا
وسلوه يخطُّ في الـ
ـطَّرس أسرارَه عسى
أو فصبوا له الشرا
بَ ليفشي إِذا احتسى
لمت قومي لِجَعْلِهم
صفقة البطل منفسَا
ذلك الحقُّ بينكم
بعد ما كان أشوسَا
صاح في القوم قائلٌ:
إِنه عاش مُفْلِسَا
وهو إِن عاش مفلسًا
كان بُطْلًا مقدَّسَا!

زورة الملائكة

مرحبًا بالملأ الأعلى الذي
شرَّفَتْ داريَ منه والفناءْ
حُلمًا في النوم أم حقًّا أرى
يا ولاةَ الحقِّ يا أهلَ السماءْ
يا ولاةَ الحقِّ يا أهلَ النُّهَى
تبعثون البرءَ في جرح القضاءْ
أسعِدُوني أقتبسْ من نوركم
بُلْغَة النفس وريًّا للظماءْ
مَلَكُ الفضل حَييٌّ لحظه
وعميمُ الفضل قرنٌ للحياءْ
مَلَك الطُّهْر صبيحٌ وجهه
إِنَّ وجهَ الطهر معبودُ الرواءْ
مَلَك الحق اختفى في نوره
ما أضلَّ الطرف في ذاك الضياءْ
مَلَك الرفق دواء لحظه
إِنَّ بعضَ اللحظ يشفي كالدواءْ
مَلَك الجود ضحوك بِشْره
مثل ضِحْك التِّبْر في وجه الشقاءْ
مَلَك العفو رجيحٌ رأيه
إِنما النقمة ضربٌ من غباءْ
يرحم الجاني عليه كذبًا
ويرى الأفعال في غيب القضاءْ
طهرت نفسي في أضوائكم
مثلما تطهر أجسامٌ بماءْ
وشممت الخلدَ من أنفاسكم
نفس يشفي من الداءِ العياءْ
أسمعوني منطقًا أحيا به
يطرف النفسَ بألحان العلاءْ
منطقًا كاللحن حلوٌ رجْعه
لو وعته الريحُ في سمع الهواءْ
زورة فَكَّت أخيذًا عانيًا
بحبال اليأسِ مصفود الرجاءْ
وأرى في النفسِ رسمًا منهمُ
مثل رسمِ النجمِ في مَتن النُّهاءْ
وعبيرًا كشذا الأزهار إِنْ
خلَّفَتْ في الأنف ذكرى كالذماءْ
خلفوني وادعًا من بعدهم
أحمد العيشَ وأستقصي البقاءْ

الأم المسكينة

أمُّنا الأرض كالعجوز التي تشْـ
ـقى وتسعى لرزق نسلٍ كثيرِ
فإِذا ما غَدَت تدلَّلَ طفلًا
ضجَّ طفلٌ من خلفها بالنعيرِ
كلُّنا ودَّ لو تمدُّ له الأر
ضُ فراشًا من النعيم الوثيرِ
وتغنِّي له بما يطرد الهمَّ
كهزِّ الرءوم مهْدَ الصغيرِ
وهْي عمياءُ لا ملام عليها
لا يصيب الصوابَ غير البصيرِ
لا ترى أدمعَ الشقيِّ ولا تُبْـ
ـصر وجهَ المحزونِ والمصدورِ
وهْي صمَّاء ما وَعَتْ صرخات الـ
ـنَّحْسٍ في الخلق من شقاءِ الأمورِ
فهْي أَوْلَى برحمةٍ وبإِشفا
قٍ عليها من مشفقٍ وعذيرِ

جد أم لعب

يبكي بريءُ الورى لمذنبه
فقلْ لراجي القضاء ريع به
ذا صولجان القضاءِ منفلت
أما ترى الليل ظلَّ مضربه
هذي كرات الدنى تدار به
لعبة من جدٍّ في تطربه
فلا تقل حقُّه وحكمته
أتبتغي الحقَّ بين ملعبه؟
يا حيَّةَ الخلدِ كم لبسْتِ وكم
نضوْتِ جلدًا يشقى الآنام به
كأنَّ هذي الحياة غانيةٌ
تعافُ بُردًا من بعد مطلبه
كأنما الناس بُردها أبدًا
تعافُ ملبوسه لمعجبه
ثوبًا فثوبًا تظلُّ تخلعه
إِذا خصيُّ الحِمام آبَ به
كأَنَّ مرآتها الكمال فما
ترضى بما لم يَرُقْ بمُذْهبه
يا ضيعةَ الخلدِ لهو غانية
يقضي به الخلد في تسرُّبِه
وهكذا المرءُ عيشُه طلبٌ
حتى ليؤذى بنيلِ مأربِه
هل لنفوسِ الورى الظماء وهل
للعيش من ناقعٍ يبل به؟
أم ظِمْؤها قاطعٌ بأن لها
خير منالٍ تظمى لمشربِه
أم ظمؤها غلةُ الجريحِ أخي الـ
ـدَّاء هلاك لا برء منه به

اصبر

اصبر لعلَّ النحسَ في لونه
إِذا دجا ظلٌّ لِجرمِ النعيمِ
لعل دمعًا منك لم تحتسبْ
ينبت زهرًا في اليبابِ العقيمِ
لعل دمعَ النحسِ درٌّ له
يسلك في عِقد الرخاءِ النظيمِ
والصبرُ طِرفٌ مجهد أعرج
لكنَّه يبلغ شأو الظليمِ
ومبتغٍ محْوَ الأسى بالأسى
كمبتغٍ بالزفر طرد الغيومِ
أو مبتغٍ إِطفاء شمس الضحى
بنفخةٍ يرسلها في النسيمِ
أو ناصب للريح أشراكه
يرجع عنها وهْو عين الكظيمِ
وهل زفير الحزنِ هادٍ لفُلْـ
ـكِ الرُعب في بحر الأسى والغمومِ
أطماعنا كالجنِّ إِن رامها الْـ
أهوجُ تدمي قلبَه بالكُلُومِ
كالكلبِ يدمي قلبَ كلَّابه
آنًا ويعنو للبيبِ الحليمِ
إِذا هدى الناسَ ضياءُ الرجا
ءِ اهتاجَت الأطماع نار الهمومِ
كم خيبة تعقد عزم الفتى
للنهر لولا الصخر خطو السقيمِ

صلع الدهر (من شعر السخر)

ناصٍ صروف الدهر مستقبلًا
قَذَاله لو جزَّهُ أصلعُ!
فجزَّ من لمَته خصلةً
لعلَّها من خلفه ترقعُ!
فالدهرُ إن أقبلتَ ذو لمَّةٍ
لكنَّه من خلفها أقرعُ!
مطلعُه مثلُ طلوع المُنى
وحسرة ما خلَّف المطلعُ!
ولا ترم بالذمِّ صفعًا له
فإِنما يصلع إِذ يصفعُ!
قراعه مثلُ قراعِ الظُّبى
وإِنما يَقرِع إِذ يُقرعُ!
فاطْل قفاه بمدادٍ لعلَّ
اللون من روقته يخدعُ!
وغضَّ عنه نظرًا واعيًا
فإِنما يعديك ما يطبع!
وإِن جرى في الدمِّ كره له
فخير ما يجدي لك المِبضَعُ!
حِجامةٌ لا شك في نفعها
وقد يضير المرء ما ينفعُ!
ولا تَعِفْ صحبتَه، إِنه
بالرغم من صلعته أروعُ!
واحْنِ له الرأسَ لكي لا ترى
فإِنها من خلفه تلمعُ!

قرد النهى أو الفلسفة الحديثة

لئن كان خلقُ القرد والناس واحدًا
وصُدِّقَ ما خالوه من ذلك القولِ
فسائلْ بهذا الدهر إِن جدَّ جدُّه
أيا دهر ما للقردِ ويبكَ والعقلِ!
مقيمٌ على الدقعاء يسمو برأيه
إِلى خير ما جاءت به حكمة الرسلِ
وقُلْ لبغيضٍ يحسبُ الحقَّ جرعةً
مقالَ رشيد القولِ والخلق والفعلِ
جهلتُ، ولكني بجهليَ عالِم
وإِنك لا تدري بما فيك من جهْلِ
ودَعْهُم ولُجْ بالرأي في كل مغلق
فإِنك يا قرد النهى معوز المثلِ
ولو كان ذاك العقل نقلًا حمدته
ليهنك يا قرد النهى مطعم النقلِ
ولكنه كالآلِ يظمى غديره
وإِن نِلْتَ من جدواه نَيْلًا على نَيْلِ

قبلة الوداع

قبلةٌ ثم فرقة وتنائي
أَيُعِيدُ الزمانُ عهد اللقاءِ؟
وعناقٌ كملتقى اللجِّ في اليمِّ
وضم الغريق وجه الماءِ
وانثناء عن العناق كما ينْـ
ـهارُ عن بعضِهِ مشيدُ البناءِ
قُبَلٌ كالطيور تصدح بالحبِّ
فتصغي قلوبُنا للغناءِ
عابقات كأَنَّها الزهَرُ الغضُّ
تذيعُ العبيرَ في الأرجاءِ
خالدات كأَنها النجم في الأفْـ
ـق تزين النفوسَ بالآلاءِ
وهْي في ظلمةِ الحياةِ نجومٌ
هُنَّ هَدْيُ الهوى وهدْي الرجاءِ
قُبلٌ صوتها ككلحبةِ النِّيـ
ـرانِ في يابس الغضا والإِضاءِ
فهْي روحُ العهدِ القديمِ وهل تؤ
تى نفوسٌ من ميتة وعفاءِ؟
يسمع العابرُ المجدُّ صداها
فوق هذا الثرى وتحت السماءِ
فيخال الهواء قبل إِلفا
لفَّه من نسيمِهِ في رداءِ
وحماه عن العيون فما يخْـ
ـطرُ إِلا في طيِّ هذا الهواءِ
كذب الظنِّ إِنها ذكر الما
ضي ونفس كثيرة الأصداءِ

تبر النفوس

لو أنَّ لي حكمةً مثل التمائم أو
رُقًى سعدت بها لو ينفع الراقي
فعْل الفتى هو شطرٌ من تفكُّرِهِ
أجلُّ شطريه من أفكاره الباقي
داوِ النفوسَ بلذَّات الجسوم ودا
وِ الجسمَ بالنفسِ فعْل الحافظ الواقي
نار الأسى شعلةٌ تهدي النفوسَ كما
يهدي المغلَّس من لمحٍ وإِبراقِ
والبغض في زهرات الحب ريقته
كالصِلِّ يجمع من سمٍّ وترياقِ
أنت النعيمُ وروحي في جحيم هوًى
ترى الفرادسَ من دمعٍ وآماقِ
شوْق إِليكم يحيل النفسَ مِثْلَكُمُ
شكلًا بشكلٍ وأخلاقًا بأخلاقِ
فاطرد مثالَ كمال في الضمير له
لمع السرابِ لعين الركبِ والناقِ
بطلعةٍ منك مثل الشمس رافعة
ذاك المثال على لألاءِ رقراقِ
يطلُّ في النفس مزهوًّا بصورته
كمنْ يطلُّ على الأحياء من طاقِ
الضوءُ تبرٌ ولكنْ ما له لمع
على خَصاصة إقتار وإِملاقِ
والتبر ضوءٌ يطيع اللمس رائقه
يذلُّ بالحرص من هامٍ وأعناقِ
فأنت تبرٌ وضوءُ الحسنِ وهجتُه
وأنت شمسٌ تعلَّتْ بعد إِشراقِ
فلا تكنْ لك روحٌ في وضاءته
مثل الدميم بقصر جدِّ برَّاقِ
الزهرُ زهرٌ وإِن لم يَلْقَ ناشقه
وعاطلُ الحسن كالحالي بعشَّاقِ
لئن مضى الزمنُ الماضي بروقته
عدلًا تقضَّى بأحزان وأعلاقِ
وخلَّف الذكرَ روحًا منه شائقةً
كالبدرِ يهتك من إِظلام آفاقِ!

ليت شعري

ألا ليت شعري فتنة من جمالكَا
ويا ليت شعري خطرة من دلالِكَا
ويا ليته من سحر لحظك نشوة
أداوي بها قلبًا بحبِّك هالكَا
ويا ليته عطفٌ كعطفِك نافعٌ
ويا ليته مستأنف من وصالكَا
دع اللحظَ يسقِ القلبَ منك، ولا تَخَفْ
على منهل الألحاظِ رشف نِهَالكَا
أتنقص من رشف العيونِ كأنما
تبقَّى مثالًا ناحلًا من خيالكَا؟
وقد تصقل الوجه الصبيحَ لواحظٌ
تبثُّ الهوى بثَّ الهوى من صقالكَا
وما لضياءِ الحسن ظلٌّ على الثرى
ولكنها روحي ترى في ظلالكَا
إذا اسطعت فاجحدْ ما عشقناه نتخذْ
على الحسن عونًا ناصرًا من مقالكَا
إِذا كان ربُّ الحسن بالحسن كافرًا
فذلك سهمٌ قاتل من نبالكَا
تبالَهَ بالنكران كيما يغرَّنا
دلالك يا ويح الهوى من دلالكَا!
أتنكر أنَّ الحبَّ أنت سننته
وأوردتنا وِرد الهوى في عقالكَا؟
جمالك ولَّاجٌ إِلى القلب بالغٌ
سريرة قلب برؤه في جمالكَا
فلا تجعل النكران كَلْمًا ولوعةً
فحسبي كلومٌ جمَّةٌ في نزالكَا
ولا تجعلنِّيَ خاطر السوءِ في الورَى
تضنُّ عليه أنْ يُلمَّ ببالكَا
ولا تتركنْ قلبي كأطلالِ معبد
يُري الناظرَ العجلان عقبى زيالكَا
وإِن خلتَ بي الكفران فاسأل محاسنًا
لديك أقلبي مفلت من حبالكَا؟
جمالك أشراك القضاء فما لنا
فكاكٌ فقد أحمى علينا المسالكَا

أأنت والربيع (أغنية)

أما كفى الربيعْ
يهيج إِذ يضوعْ؟
وقلبيَ الصديعْ
في نشره يذيعْ
أأنت والربيع؟
جلاكَ لي السطوعْ
يا قمرًا يروعْ
من حسنه شفيعْ
جدَّ بيَ الولوعْ
أأنت والربيع؟
روح له سَنيعْ
منك له طلوعْ
اليأسُ والطموعْ
والحبُّ والربيعْ
أما كفى الربيع؟
وعيشُنا شروعْ
يا لهف من يضيعْ
أطياره وقوعْ
زيالها سريعْ
أأنت والربيع؟
ها شملنا جميعْ
وعيشنا وديعْ
وما له رجوعْ
وأنت لي قَطُوعْ
أأنت والربيع؟
تعيا به الضلوعْ
من شجوِ ما يذيعْ
قلبي له سميعْ
إِذا دعا يطيعْ
أأنت والربيع؟
نافسك الربيعْ
من غيرةٍ يضوعْ
فَغَرْ وصِلْ تُليعْ
حسنًا له يضيع
أأنت والربيع؟

حلم بالأرواح الطليقة

تعوم فوق النورْ
كالغيد في الغديرْ
مرسلة الشعورْ
كفاتنات الحورْ
في فلكٍ مسحورْ
تمرح كالطيورْ
على ذُرَى الأثيرْ
والخلد كالوكورْ
وكلَّة الخدورْ
ترقص مثل النورْ
في روضه النضيرْ
ومائه الطَّهُورْ
كرقصة البدورْ
في صفحة الغديرْ
تنفح بالعبيرْ
كنفحة الزهورْ
صافية الضميرْ
كلمعة البلُّورْ
مثل ندى الزهورْ
في عيشها المنيرْ
لم تَعْيَ بالأمورْ
وطارق المقدورْ
وصولة الدهورْ
كصولة النسورْ
لم تدْرِ في الحبورْ
ما عيشة المأسورْ
فى نطفة الفجور!

الوحـدة

عذيريَ من باغٍ أغذَّ وأوضعَا
وأسمعَ بالقولِ المضيض وأوقعَا
وما سرَّني أنْ نلتُ منه بسبةٍ
إِذا صار بين الناس شِلوًا مبضعَا
لسهلت لي غدرَ الحياة بغدرة
وهوَّنْت عندي الحادثَ المتوقعَا
وعلمتني الصبرَ الجميلَ على الأسى
بصبري على ما قد أمضَّ وأوجعَا
وقد صرتُ لا ألقاك إِلَّا براحةٍ
وقد كنت لا ألقاك إِلا مروَّعَا
وكم نعمة للناس في جنب غدرهم
ويا رُبَّ شرٍّ عادَ بالخير ممْرَعَا
سأهجر هذا الخلق لا هجرَ عائدٍ
ولكنَّ يأسًا حين لم يُبْقِ مطمعَا
وإِني رأيتُ العقل كالضوءِ حليةً
لروضٍ فإِنْ يسطعْ على القبر روَّعَا
وإِن كنت بين الناس ظَلَّ مفرقًّا
فإِن عفت هذا الخلق كان مجمَّعَا
وما جامعات الضوء إِلا كوحدةٍ
تجمَّع من ضوءِ النُّهَى ما تذعذعَا
فيشعل نيران الذكاء اقترانه
وقد كان بين الناس نهبًا مضيَّعَا
وكنتُ إِذا ما خلتُ فيك مودةً
أُحبُّك حتى أحسب الحبَّ مصرعَا
وحتى تصيرَ الأذنُ عينًا بصيرة
وحتى تصيرَ العينُ للقلب مسمعَا
فكنت كمن يرمي إِلى الطفل دِرةً
ويأمل منه أن يشاق ويهرعَا!

من الحي إلى الميت

من لحيٍّ بميِّتٍ يترجَّى
عنده الحق أبلجا لا يفوتْ
خبِّريني نفائس اللحدِ هل قـ
ـبة تلك السماءِ والتابوتْ
توأمان استسر في الجدث الدو
د وفوق الأجْداث حيٌّ يموتْ
خبريني نفائس اللحد أم كلُّ
رميمٍ في لحده صمِّيتْ
هل لحيٍّ من ميِّتٍ هاتف يُو
ضح أمر الحياة وهْو مقيتْ
هل عَدَتْه الحياة أم ليس يدري
تلك حُلم وما لحلمٍ ثبوتْ؟
رُبَّ مَيْتٍ يسائل الحيَّ عنها
وهْو في اللحدِ حائر مكبوت
خبريني عن الحجى أين يمضي
أين تمضي عرامة وقنوتْ؟
أين يمضي الذكاءُ والأملُ الحُلْـ
ـوُ وأين المعشوقُ والمنعوتْ؟
أين نارُ الحياةِ كالنَّارِ في رهْـ
ـطِ مجوسٍ ما خيف فيها الخبوتْ؟
أين ذكرى في النفس تمضي وتَثني
رُبَّ عهدٍ يمضي وذكرى تفوتْ؟
أَمَحاها الحِمامُ كالريحِ تمحو
نؤي دار والشمل شملٌ شتيت؟
أم وعاها الحِمام كالدرِّ في الظلـ
ـمةِ يرنو لضوئه السبروتْ؟
أم تُرى هذه المشاعر أَوْهَا
م فلسنا نحيا ولسنا تموتْ؟
ليس إِلَّا كما يقولُ ركينٌ
لا يفيت الصواب منه مفيتْ
فوقنا الأُنجم الصوامتُ لا تدْ
ري وتحت الرجامِ صمٌّ سكوتْ

سجن الفضيلة

إِنَّ الفضيلةَ ماسةٌ
صُنْها عن الرائي الحسودْ
صَوْنَ الشحيحِ لفلسه
حِذْر المُداهن والحقودْ
صوْنَ الجبان لنفسه
حذر البوارق والرعودْ
صون المثمِّر مالَه
حذر المؤمر والجنودْ
صون الشفيق فتاته
حذر الوعيد أو الوعودْ
واجعل لها بين الضلو
عِ خبيئةَ الذخر التليدْ
فضياؤُها كالحقِّ أفْـ
ـتنُ وهْو في ظلم الجحودْ
وصفاؤُها كالخمر تصْـ
ـقلُ في الدنانِ على الخلودْ
إِن الفضيلةَ زهرةٌ
تذوي بأنفاس الحسودْ
ونسيمُها كالعطر فاحْـ
ـذر أن يذيعَ فلا يعودْ!

بيت اليأس

بنيتُ بيتَ الحياةِ أبغي
في ظلِّه مسكنًا فسيحَا
جرَى غُرابُ القضاءِ نحوي
ولم يكن طائرًا سنيحَا
فأُرْعِشَتْ كفُّ مَنْ بناهُ
فلم يكن أسُّه صحيحَا
يغبقني طارقُ الرزايَا
من بعد ما علَّني صَبوحَا
اعتادني الهمُّ غير غبٍّ
فلم يمت قلبيَ القريحَا
كشارب السمِّ كي يصادى
من علِّه سمَّه صريحَا
يا بيتَ سوءٍ على ذُراه
ذو نعبةٍ همَّ كي يصيحَا
يا دهرُ لِمْ لمْ تبح جناني
إِلى سبيل النُّهى جنوحَا؟
خَصَصْتَنَا بالنُّهَى فهلَّا
جعلتها عزمةً نصوحاَ؟
أَوْدَعْتَ في الناسِ كلَّ طبعٍ
يعنو له عيشهم ربيحَا
من يشتري نُهْيةً بطبعٍ
يمضي إِلى نفعه نجيحَا
أَلَحْتَ لي بالسراب حتى
عشقتُ ضوءًا له لموحَا
كمن بنى بالتراب بيتًا
فانهار حتى غدَا ضريحَا
كذاك صَرحُ الحياةِ أمسى
رسْم فلاة بها طريحَا
ودكَّ بيتَ الحياة فوقي
وقمتُ من تحته جريحَا!

لغز الحياة

الشكُّ أول منزل العرفان
إِنَّ اليقينَ هو المكانُ الثاني
مدٌّ وجزرٌ في النفوسِ كأنما
يتنازعان سريرةَ الوجدانِ
والعقلُ فوقَ الخلدِ مدَّ جناحه
كالطير هابطة على الأوكانِ
والعقلُ ريحٌ صَرْصَرٌ تهفو به
والدهرُ بحرٌ فائض الأزمانِ
تبدو إِذا ما هاجَ من أعماقه
قنص الردى وجواهر الدِّهْقانِ
والشكُّ مشعالُ الحكيمِ وربما
أضحى حريقًا للجهول الواني
كونٌ تَرَقْرَقَ في منادحِ رحبِه
سرٌّ جرَى كالماءِ في الأغصانِ
سرُّ الحياةِ لحسِّها ولعقلها
يحكي دماءَ القلب في الأبدانِ
روحُ الحياة كذي البراثن رابض
دامي المخالب شاحذ الأسنانِ
يلقي على الأحياءِ قولة سائل
يا هَوْلَ عيشِ فريسة الحَدَثانِ
إِنَّ الحياة لغادةٌ معشوقة
تصبو إِلى المُتَمَاجِنِ الفتَّانِ
وتصدُّ عن متسائلٍ متشوِّفٍ
للحقِّ ينشده بكل مكانِ
يا عاشقَ الحسناءِ كيف أغرتها
أو كنت تبغيها بقلب ثاني
روح الحياةِ على العقول مؤمر
يعتزُّ بالأضغان والأشجانِ
مثل الوصيِّ على الوليد إِذا نشا
يلوي عليه جوامع السجانِ
كي يستبدَّ بماله وعقاره
ويليح زخرف خدعة المنَّانِ
ثار الحبيسُ على الوصيِّ وظلمه
فرماه بالعصيان والنكرانِ
ورأى به لَممًا وليس كما رأى
لو كان يغنى العقل بالعصيانِ
ماذا أرجِّي في العقول وصوبها
رشح الطباعِ وغلة الظمآنِ؟
ولربَّ غرٍّ بالغ بطباعه
ما ليس يبلغه ذَوُو الأذهانِ

خواطر في الحياة

(أُرْسِلَتْ إلى الأستاذ الأديب الشيخ محمود محمود.)

أنت على خلَّتَيْكَ محمودُ
فعدْ بيُمنِ الحياة محمودُ
وإِنما العيشُ هكذا نُقَل
والدهر خرق سنيُّه القودُ
وخيرُ ما يُطْلَبُ الرخاءُ به الـ
ـصَّبْرُ، ومَنْ قد عداه مكدودُ
والدهرُ مثل الشحيح في عدةٍ
أصدق آلائه المواعيدُ
كلُّ رجاءٍ نرمي الطليب به
فهْو قنًا في الضلوع مقصودُ
ورُبَّ رامٍ أصاب مهجَته
سهمُ رجاء إِليه مردودُ
والسخطُ غربال جاهد قصد الـ
ـسَّيل كأَن الأتيَّ مسدودُ
آمالنا هامةٌ نُراعُ بها
للسعدِ وهْو الطليب ملحودُ
وحيرة النفس كالظلام وقد
يهدي ويقلي الضياءَ مزءودُ
والرغب عجب النفوس تخدعها
مرآتها والطماح معبودُ
وقد تزين الحسناءَ دَمْعَتُها
والنفسُ تجدي سنيها السودُ
كم عدة في الحياةِ خائنة
كما يخون الخميس رعديدُ
كخازن الحبِّ للمشيب وما
يعطف من أجل ذخره جِيدُ
يبخر في خيبة لنا أمل
بحر الندى والظميُّ مجهودُ
ما ليَ أهدي إِليك من حِكَمٍ
يا ليتها الدرُّ وهْو منضودُ
أَحْبُوكَ من حكمة القريض كما
يهدى لروض الربيعِ أمْلُودُ
وأنت أحجى بأن تزفَّ لنا الـ
ـحكمة فيها اليقين مشهودُ
وخير ما يبعث الفتى طُرف
من عقله والمزيدُ تأويدُ

الشجرة والغراب

رأيتُ الحوادثَ في وَكْرِها
ونبتَ المقادرِ في برِّها
كأنَّ غرابًا على فرعها
يحطُّ فيأكل من خيرهَا
إِذا ذدْته آبَ يهوي بها
على دوحِها وعلى نهرهَا
فقلت له: أَبْقِ من خيرها
تذوَّق إِذا جُعْتَ من شرِّها
وإِلا فأرسل عليها الطيورَ
أبابيل تقضي على أمرها
وهل أزجر الطَّير عن دوحةٍ
تَذَوَّقْتُ ما مرَّ من تَمْرِها
فقال: أتأكل من حُلْوِها
وتترك للدهر من مرِّهَا؟
إذا أنت ما ذقتَ من ضرِّها
أتعرف ما الخير من شرِّها؟
خذ الحلوَ والمرَّ من رطبها
أقاسمك السوءَ من ضرِّها
ومن صَبَّرَ النفس في ضيقها
رأى الرغبَ أوْجَعَ من صبرهَا
وفي الصبر صبرٌ يريك الدنى
كأنك رفِّعْتَ عن أمرها
تظلُّ مطلًّا على دهرها
كأنك أُعْفِيتَ من مرِّها
يريك مساوئَ خوْد الحياةِ
كأنك ما بتَّ في خدرها
كأنك ما الْتَحْتَ من ثغرها
ونافسْتَ رهطَك في برِّها
كأنك ما كنتَ من ناسها
ولا كنتَ تسعى إِلى نكرها
ولا بِتَّ يومك في دِرعها
ولا تُقْتَ دهرًا إِلى سرِّها

يا شاعر الكون

(حية إلى صديقنا العقاد لظهور ديوانه الثاني.)

يا شاعرَ الكونِ أَطْلِقْ من سرائره
نورَ الحياة فشعرٌ منك يذكِيهِ
لك الخليقةُ والأيام ماثلة
فمًا نأتْ بمقالٍ أنتَ باغيهِ
كأنها لك بستانٌ وفاكهة
تُجْنَى وخيرُ الجنى ما أنت جانيهِ
الفضلُ أغلب من غرٍّ يصاقبه
والعقلُ أعدى على غمرٍ يدانيهِ
فلم يضرْكَ جوار من أخي جهلٍ
الفكر عدوى وجار المرء يعديهِ
قد يُنكر الفضلَ بين الناس صاحبُه
ويمدح الفضلَ بين الناس باغيهِ
كم أَكْبَرَ الناسُ أمرًا أنت تُصْغِرُهُ
وغاب عنهم جلالٌ أنت تدريهِ
إِن يُعْظِمُوكَ فبالنفس التي صَغُرَتْ
أو ينظروا فبطرفٍ أنت ثانيهِ
كالمرء وهْو قعيد رهْن عرْصَتِهِ
يخال خيْرَ مكانٍ بيته فيهِ
لو أنْصَفَ الأرضَ قال: الأرضُ واسعة
والكون أكبر من زعْمٍ أناجيهِ
يا ناطقًا يذر الألبابَ صامتةً
كأنما فاه ذاك الخلد من فيهِ
تذكي الذكاءَ بسحرٍ أنت نافثه
حتى لشدة ما تذكيه تفنيهِ
تقصِّيًا لمعانٍ لا انتهاءَ لها
يفنى الذكاءُ ولا تفنى معانيهِ
حتى يظلَّ ولا ذِهْنٌ يراك به
لولا بريقُ خيالٍ أنت موريهِ
كمن يرى الشيءَ لا ينحو سواه فيخْـ
ـفى عنه حتى كأنْ قد زال باديهِ
إِطار شِعْرك خلدٌ أنت زائنه
كواحة الخرْق زينٌ في صحاريهِ
أصورة الكونِ أم ذا الكون صورته
كالآل يحكي ضياءً أنت مبديهِ
أو كالغدير يرى في الماءِ مرتسمًا
رسم الدراريِّ يحكيها وتحكيهِ

كعبة النفس

أيا كعبةَ الآمالِ ذات المحارمِ
مكانُكِ من قلبي كمحرابِ صائمِ
فلا تأخذوني بالرجاء فإِنما
رجائيَ إِيمان النفوسِ الحوائمِ
وهل تسجد الأرواحُ إِلا لذي النُّهى
وتعبد إِلا ساميات العظائمِ
وأكرم سؤْل النفسِ ما كان وَقْعُهُ
على الفضل من أهل النهى والمكارمِ
ولولا احتذاء الفضل في الشعر ما غَدَتْ
صروحُ المعالي باديات المعالمِ
ومَنْ كان ذا روحٍ بريءٍ من الأذى
كروحك لم يَعْرِفْ وجوهَ المظالمِ
ولم يَدْرِ ما يلتذه الناسُ من أذًى
ولو كان نارًا في لهاةِ الحلاقمِ
يرى المرءُ أن النفسَ خيلٌ لراكضٍ
وإن كان محذورَ الردى في الشكائمِ
أظَلُّ رقيبَ السوء حتى يمسني
وأجعل أنفي نهبة للخواطمِ
وأي امرئ في العيش يُحْمَدُ خلقه
إِذا لم يعوَّذْ من حقود الرجائمِ
فكم راجمٍ بالغيب نفسًا بريئةً
ورُبَّ مقالٍ مثل لذع الأراقمِ
وهل يعدل الإِنسان في بعض فِعْلِهِ
إِذا كان فيه مدرج للنمائمِ؟
وما النفسُ إِلا تربة ليس ريُّها
من العيش إِلا بالنفوس السواجمِ

الصنم المكسور

عابدٌ يبكي على صنمِهْ
عافَ ورْدَ العيشِ من سقمِهْ
عابد من حسنه صنمًا
خالَ كَلَّ الفضلِ في صنمِهْ
حطمته قولة فهوى
كيم الجصِّ منهشمِهْ
كنتَ لي حُلمًا ألوذ به
خابَ من يبكي على حُلمِهْ
إِن رضيتُ العيشَ بعدكمُ
فحياةُ المرءِ في ألمِهْ
أو بكى شِعْري فلا عجبٌ
بعضُ شعرِ المرءِ من لَمَمِهْ
كنتمُ للعين باصِرَها
وجلاءُ العيشِ من ظُلَمِهْ
كم لأهل الفكر من ذِممٍ
كيف لم تُبقوا على ذممِهْ
كان قلبي معبدًا لكمُ
ويْح قلب رِيعَ في صنمِهْ!

غلة النفس

رأيت محمَّقًا يجري
يحاذي الماءَ في النهرِ
يكلِّمه ويسألُهُ
ويحسبُ أنه يدري!
يقول له: أعَنْ سببٍ
ومن أربٍ إِلى أرَبِ
ويحسب في الخرير له
لسان الناطق اللَّجِبِ
تريد النفسُ رؤيتَها
مخارجها وغايتَها
سؤالٌ ليس يسأله
مبيح النفس نشوتَها
رأيت محمَّقًا يَفِدُ
وراء الريحِ تطَّرِدُ
وزَمرُ الريح يطربه
يحدثه فلا يجدُ
كذاك المرءُ في الزمَنِ
يداوي غلَّة الفطنِ
ولكن ليس ينفعه
شرابُ الآل في الدمنِ
وما من غلَّةٍ عَرَضَتْ
بغير دوائها خُلِقَتْ
فأين الريُّ تطلبه
نفوسٌ طالما ظمئتْ
أجِزْ للعيش معركه
لعلَّ الكونَ يدركهُ
ضميرٌ ما استبان له
يروِّضه ويملكهُ
ولولا ظلمةُ الحَيْنِ
وجبن المرءِ للبيْنِ
لبُغِّضَتِ الحياةُ له
وخصَّ الموت بالزيْنِ!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤