تصدير

هذا هو الجزء الثالث من واحات العمر، وهو يتناول السنوات من ١٩٧٥م وهو عام عودتي من البعثة حتى عام ٢٠٠٠م، عام التفرُّغ في الجامعة والتحرُّر من المنصب الرسمي؛ أي إنه يبدأ من حيث انتهى الجزء الثاني واحات الغربة، بل في اللحظة نفسها — لحظة العودة بعد السنوات العشر خارج مصر. وهذا الجزء، مثل الجزأَين الأول والثاني، لا يزيد عن كونه مرحلةً من مراحل السيرة الذاتية الأدبية؛ أي إنه ليس تسجيلًا لجميع الأحداث ولا لمعظمها، لا بل ولا لأهمها، بل هو وصفٌ للواحات التي ما زالت خضراءَ دانيةَ القطوف في أعماق النفس. وهي واحاتٌ مصرية صميمة، على كثرة ما انتقلتُ من مصر، واغتربتُ في هذه السنوات. وتقسيم الفصول ليس تقسيمًا زمنيًّا؛ فالفصل الأول يتناول أحداث أقل من عامَين، والفصل الثالث يضغط أحداث عشرة! وكذلك تقسيم كل فصل إلى أجزاء؛ فالأحداث وحدها هي التي أملت التقسيم، وهي أحداثٌ أدبية يتصل فيها العام بالخاص. وكما كان شأني في الجزأَين الأول والثاني، حرصتُ على الصدق في كل ما أرويه، والتزمتُ برصد كل ما اختزنَته الذاكرة، مستندًا إلى المفكرة التي كنتُ، ولا أزال، أسجل فيها الأحداث البارزة، والخطابات المتبادلة مع الأصدقاء، وقصاصات الصحف التي كنتُ، ولا أزال، أحتفظ بها، وكان لا بد من إخفاء أسماء بعض الشخصيات التي تعيش بيننا، إذا رأيتُ أن ما أرويه قد يسبِّب لها حرجًا، ولكنني لم أحجِم عن ذكر الأسماء الحقيقية في معظم الحالات.

والواحات المورقة الوارفة الظلال ليست جميعها واحات فرح وسرور؛ إذ إن بعضها يحفل بالأحزان والآلام، ولكنها تظل واحاتِ ابترادٍ من هجير الحياة لأنها أصبحَت تنتمي إلى الماضي. وقديمًا قال الشاعر: إن الماضي مقدَّس؛ لأنه لا يعود ولا يتغير أبدًا. ومن ثَم فهو يؤكد وجود الزمن، ووجود الزمن أو الإحساس به هو وسيلة كل قلبٍ حي للإحساس بالوجود المطلق؛ أي الوجود الذي يتجاوز البدايات والنهايات، ويربط كل «حادث» في النفس بوجود النفس ذاتها، والنفس بعدُ هي الروح التي لا تتجلى إلا في الزمن، فتؤكد للإنسان أنْ لا بداية ولا نهاية، بل انتماءٌ إلى روح السرمد.

والسيرة الأدبية إذن، ومن هذا المفهوم، تسجيل للحادث الناجم عن السرمدي، وهو الزمن. وتسجيل الحوادث هو ربط لها بالزمن، والطريق الموصل إلى إدراكه، أو الوعي به؛ ومن ثَم فالحوادث ليست «موضوعي»، بل إن الزمن هو «موضوعي»، والربط بين هذا وذاك هو موضوع كل أدب، فما حركة الأدب في النهاية إلا حركة الوعي.

محمد عناني – القاهرة
٢٠٠١م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤