الفصل الأول

١

انطلقنا في سيارة الأجرة الصغيرة — الأستاذ أحمد السودة وأخي الأصغر مصطفى وأنا — نطوي شارع المطار طيًّا في ظلام الليل الدامس، وما يشبه الفضاء الممتد بلا نهاية حولنا، وكانت سيارة صغيرة من طراز فيات لم أتبيَّن عام إنتاجها، ولكنها كانت طاعنة في السن أو قل إنها تعرَّضَت لأهوالٍ جعلَتها تبدو هرمةً مهدَّمة؛ فأوصالها ترتجُّ وتصطكُّ كلما صادفَت حفرةً أو نتوءًا في الطريق، فإذا كان النتوء شديدًا قفَزتُ فارتطَم رأسي بالسقف. وعندما تطلَّعتُ إلى عداد السرعة وجدتُه معطَّلًا، فصاح أخي بالسائق أن يبطئ من سرعته بعد أن تجاوزنا سور الكلية الحربية، وأشرفنا على مدخل مصر الجديدة. وكان السائق شابًّا باسم الوجه، لا يكترث للظُّلمة ولا لأشباح المارة ممن يعبُرون الطريق في ثقة واطمئنان، بل ينحرف ويتلوَّى ليتفادى «العوائق» من السيارات والبشر، ولكنني كنتُ على انزعاجي مأخوذًا بجمال القاهرة ليلًا، وبالأضواء المتلألئة في الأفق، فلم أعبأ برعونة السائق. وكان الأستاذ أحمد وأخي يدركان مدى انفعالي فآثَرا الصمت معظم الوقت، فيما عدا كلماتٍ مقتضبة عن الرحلة والوصول.

كان ذلك يوم الأربعاء ١٧ سبتمبر ١٩٧٥م، وكنت أتوقع أن أرى تغييرًا كبيرًا ينبئ عن سنوات الغربة العشر، ولكن ما رأيته لم يكن ينبئ بشيء؛ إذ وجدتُ غرفتي السابقة كما هي، وكان أخي الأصغر مصطفى يَشْغلها، فحطَطتُ الرحال في غرفة أخي حسن، وهو أوسط ثلاثتنا، وكان قد تركها بعد أن تزوج قبل عدة أعوام واستأجر شقةً أخرى، وكان آنذاك في مونروفيا (عاصمة ليبيريا) حيث يعمل دبلوماسيًّا في سفارة مصر. ولم ألحظ في الشارع تغييرًا يُذكر سوى أن اسمه قد تغيَّر من شارع الدُّري إلى شارع الفردوس، ربما للتمييز بينه وبين شارع الدُّري الآخر في أعماق الجيزة، وربما لغضب الحكومة على محمد الدري باشا الذي سُمي الشارع باسمه (وكان ذلك وما زال يمثل لي لغزًا محيرًا). وبعد قليل زارنا ابن خالتي محمد الخطيب، المهندس الذي كان ضابطًا بالجيش والذي أرسل من يستقبلني في المطار، مع زوجته أميرة عجمية (التي حصلَت فيما بعدُ على الدكتوراه، والأستاذة في كلية الآداب حاليًّا)، وهي أيضًا ابنة خالةٍ لي، واطمأنَّا على وصولي ثم خرجا. وكانت والدتي فرحةً بعودتي — بطبيعة الحال — وهي تؤكد لي أن كل شيء كما هو لم يتغيَّر. وقال لي والدي: «هل تُصدِّق أنني أصبحتُ في الستين؟» فكأنما كانت الستين أرذل العمر!

كان أول شيء فعلتُه هو الاتصال بمنزل أصهاري في شبرا، وردَّ على التليفون حماي الأستاذ محمد خليل صليحة رحمه الله، ثم حادثَتْني حماتي وأخوات نهاد بِرِتي وعزة وسناء، وأخوها أحمد، وقيل لي إن سارة ابنتي نائمة، وعلمت أن الجميع بخير. وكانت نهاد زوجتي قد سافرَت إلى جدة قبل عدة أسابيع للعمل بالتدريس في جامعة الملك عبد العزيز. وعلمتُ أنها ترسل إليهم خطابات بصورةٍ منتظمة، كما علمتُ أن سمير سرحان الذي كان معارًا إلى السعودية، والذي أقنعها بالسفر، قد وجد لها سكنًا مناسبًا مع زميلةٍ مصرية هي وفاء الزير (الدكتورة). وكان عبد العزيز حمودة أيضًا في جدة مع أسرته، فاطمأن قلبي على أن نهاد لن تشعر بالوحشة؛ فأصدقاء الصبا من حولها، خصوصًا نهاد جاد (رحمها الله) زوجة سمير التي كانت تُكِن لها حبًّا جارفًا، وكان الإرهاق قد بلغ بي مبلغه فنمتُ من فرط التعب.

نهضتُ مبكرًا وجلستُ وحدي، لم أكن أتأمل أي شيءٍ محدَّد أو أفكِّر في فعل شيءٍ ما، بل كان يغلب عليَّ الشعور بالاستسلام. لقد تجاذبَتْني أيدي الأيام فشُغلتُ بالدراسة المتخصصة حينًا، وبالعمل حينًا آخر، وبالقراءة في غير التخصُّص في أغلب الأحيان، وها أنا ذا أعود إلى مصيرٍ أجهله ولا أريد أن أعرفه، وكان أمرَّ ما فيه تفرُّق شمل أسرتنا. وأذكُر أنني حادثتُ نهاد زوجتي بالتليفون من لندن بعد وصولها إلى جدة، فقالت لي إننا نعيش في قاراتٍ ثلاث؛ أنت في أوروبا، وأنا في آسيا، وسارة في أفريقيا! ولم أكن في ذلك الصباح أفكِّر في شيءٍ من هذا، بل كان عليَّ أن أصدِّق أنني عُدتُ إلى مصر. وعندما دقَّت ساعتُنا العتيقة ثماني دقاتٍ أيقظتُ بعض النائمين، وأخبرتُهم أنني ذاهب إلى الجامعة.

وفي مكتب شئون العاملين بكلية الآداب أمضيتُ ورقة تفيد عودتي من الخارج، وعلمتُ أن راتبي أصبح أربعين جنيهًا في الشهر، ثم دخلتُ قسم اللغة الإنجليزية فلم ألمح أدنى تغيير. وقابلتُ نادية جندي (الدكتورة) زميلتي التي كانت تسبقني بعامٍ دراسي واحد، فرحَّبَت بي ترحيبًا شديدًا، وكانت الصداقة قد جمعَت بيننا أيام الدراسة في الخمسينيات؛ إذ كنا نشترك في تمثيل المسرحيات بالإنجليزية، وكان حديثنا اليوم أيضًا بالإنجليزية، وبعد دقائق فوجئتُ بها تقول لي: «لقد اكتسبت لهجةً بريطانية خالصة!» فوجئتُ ودُهشت، لأنني كنت أتوقع أن تكون هذه هي اللهجة السائدة، ولم أكن أتوقع أن تنتقل اللهجة الأمريكية (مع اللغة الأمريكية) إلى أفواه المصريين! وقابلتُ بعض الزملاء ممن تخرَّجوا أثناء غيابي مثل محمود عياد (الدكتور) (الذي هاجر إلى أمريكا) ورشيد العناني (الدكتور) (الذي هاجر إلى إنجلترا) وعبلة مصطفى (الدكتورة) التي كانت تتحدث عن السفر لاستكمال الدراسة، ثم عدتُ أدراجي سيرًا على الأقدام، مما أتاح لي أن أتطلع إلى كل شيء في شارع الدقي، كأنما أحاول بعث ذكرياتي، ولكن مَشاهد الماضي البعيد كانت تُزاحِم المشاهد الآنية، وتختلط مع مَشاهد بلاد الإنجليز، فلا تعود إلا بالبلبلة.

وفي المساء زارني الأستاذ أحمد السودة الذي أصبح رئيسًا للنيابة الإدارية، وكان دائب القراءة والاطلاع متبحرًا في العلم ويتعطش دائمًا إلى المزيد، مما زاد من حبنا وتقاربنا إلى هذا اليوم، مع الأستاذ ماهر البطوطي — الذي كان يعمل آنذاك في وزارة التعليم العالي بعد عودته من العمل ملحقًا ثقافيًّا في إسبانيا، وكان قد أجاد الإسبانية إلى جانب الفرنسية والإنجليزية، وكان يحلم مثلي بمستقبل أدبي في الكتابة والترجمة — وخرجنا معًا نتجاذب أطراف الحديث، ونتبادل الأخبار عن أفراد أسرة كلٍّ منا، وعن أحوال مصر بصفةٍ عامة، وسرنا معًا إلى وسط البلد كما كنا نفعل قبل عشر سنوات، وكان التغيير الوحيد هو الزحام الشديد، ولا غرو فاليوم الخميس، ومساؤه مساء السهر. ولاحظتُ إعلاناتٍ عن مسرحياتٍ ذات أسماءٍ عجيبة وأفلامٍ ذات أسماءٍ أعجب وأغرب. وتحادثنا عن الزواج والإنجاب، فشرحتُ لهما كم كان حظي سعيدًا بالزواج من نهاد، وبالحياة معها خارج مصر؛ أي خارج نطاق الأسرة — وهو ما لا يتوافر لكثير من الأزواج — ولم يكن الأستاذ أحمد وماهر قد تزوَّجا بعدُ، فقال ماهر البطوطي إنه تعرف على فتاةٍ فرنسية أثناء مقامه في إسبانيا وينتوي الزواج منها لو قُدِّر له أن يعمل خارج مصر. وقال الأستاذ أحمد إن تجربة الزواج لا تنجح في أحوالٍ كثيرة وينبغي التروِّي قبل ولوجها. وصادفنا في الطريق بعض معارفنا الذين رحَّبوا بعودتي، وعرَّجنا على مقهى جروبي بميدان سليمان (طلعت حرب) حيث قابلنا «مصطفى هاملت» الشهير.

كان مصطفى المذكور قد نال أعلى درجة في اللغة الإنجليزية عام ١٩٦١م على مستوى الجمهورية كلها، فتسلم جائزةً مالية وأدبية، والتحق بقسم اللغة الإنجليزية واثقًا من التفوق، ولكن الدراسة (والامتحانات) بالجامعة تختلف عن الدراسة والامتحانات في الثانوية العامة، فلم يُوفَّق في السنة الأولى؛ إما بسبب ثقته الزائدة بنفسه، وإما بسبب الاختلاف الذي ذكرتُه، فتحوَّلَت هذه الثقة إلى غطرسة وخيلاء، وأصبح يمشى مشيةً مسرحية عادةً ما ننسبها إلى من يمثِّلون أدوار العظماء على المسرح، وانتقل بتقدير «معقول» إلى السنة الثالثة، فتملَّكَته حالة غضب واشمئزاز من الدنيا — وهو ما ننسبه عادة إلى شخصية هاملت في مسرحية شيكسبير التي تحمل ذلك العنوان — وتكوَّن لديه مزيج من الشعور بالعظمة والاضطهاد معًا مما يسميه العلماء «بارانويا»، وسرعان ما أصبح يتكلم بلهجة العارف بأسرار الكون وألغازه، المحيط بدقائق الحياة الدنيا والآخرة، مصعِّرًا خده، ناظرًا بطرف عينه إلى من حوله. وعمل بعد تخرُّجه مدرسًا للغة الإنجليزية في مدرسةٍ ما، فكان ينتهي من عمله ثم يخرج إلى وسط البلد لينظر إلى الناس نظرة تعالٍ وتكبُّر، ثم يحطُّ الرحال في مقهى جروبي سليمان. والغريب أنه كان حادَّ الذهن قوي الذاكرة؛ فما إن لمحني حتى رحَّب بي بالاسم، وقال لي: أنتم في الجامعة تهتمون بما لا يفيد، أما أنا فقد قرأتُ الكتب المقدَّسة واطَّلعتُ على أسرار الملكوت. ولم يستطع أحدٌ منا أن يسخر منه أو يجادله، بل استمعنا إليه في صمت قبل أن نجلس ونطلب الشاي. وهمستُ وأنا أصبُّ الشاي: «لقد شاهدتُ «طارق زكي غانم» هذا الصباح يسير في شارع الدري!» وصاح ماهر «يووه! إنه لا يزال كعهدك به! لم يتوقف عن السير في شوارع العجوزة حاملًا أوراقه!» — وطارق المذكور كان تلميذًا عندي في الستينيات، وكان هو الآخر مغرمًا بشخصية هاملت، فكتب عنها ما يسميه بحثًا، وكان يستمد قوَّتَه من الآلة الكاتبة التي أهداها إليه والده الناظر (في إحدى مدارس الدقي)، فكان يُعِد «بحوثه» على الآلة الكاتبة، فتتخذ صورة الكتاب المطبوع، ويزور الدكتور فايز إسكندر، أستاذ الدراما في القسم، فيُلِح عليه أن يقرأ دراساته، وأن ينشرها له «في الخارج»، ثم انتهى به الأمر إلى أن صار يحمل المخطوط المنسوخ على الآلة الكاتبة ويدور به على الناشرين طيلة السنوات الماضية كلها! — وتذكَّرتُ قول شارلوت زوجة الأستاذ الإنجليزي (كريستوفر سالفسن) الذي أشرف على رسالتي للدكتوراه، إن دراسة الأدب قد تؤثِّر تأثيرًا غير حميد في نفس (عقل؟) الإنسان. وجعلتُ أفكر في ذلك الجنون ونحن عائدون إلى المنزل، وعندما خلوتُ إلى نفسي خرجتُ إلى الشرفة للابتراد.

كانت الشرفة هي المكان الطبيعي لتنسُّم روح «المجتمع» في منطقتنا، فكان معظم أهل المنطقة يعرفون بعضهم بعضًا، بل ويتبادلون التحية في الشرفات ولو كانت تقتصر على بسمة، فإذا كانت البسمة من «بنت الجيران» كُتب على الشاب أن يبيت الليل سُهادًا كما يقولون! ولكنني وجدتُ أن جميع النوافذ مغلقة، وأن كثيرًا من الشرفات قد ضُمَّت إلى الغرفة المُفضِية إلى الشرفة، فأقيمَت فوقها أسوارٌ من الزجاج المُعتِم المُدَخَّن، أو من الخشب، وأن جوًّا غريبًا من الصمت أصبح سائدًا، لا تقطعه إلا أصوات الراديو أو التليفزيون المنبعثة من الشقق. وتذكَّرتُ قول الشاعر الإنجليزي ماثيو أرنولد في قصيدة «ليلة صيف»: إن النوافذ المُغلَقة مُنفِّرة مثل الدنيا. وكانت أضواء الطريق مطفأةً، ربما لتوفير الطاقة، فاكتسى مشهد الشارع كآبةً زادتني همًّا على همٍّ. لقد تغيَّر شيءٌ ما في مصر، وحاولتُ إقناع نفسي بأنه وليد سنوات الحرب الطويلة؛ فأنا أعتبر أن الفترة من ١٩٦٧م إلى ١٩٧٣م كانت معركةً متصلة، وأن جو الحرب قد أحدث تأثيره ولا شك، ولكن إحساسًا دفينًا كان يقول لي إن المسألة ليست جو حرب وحسب، وتأكَّد لديَّ هذا الإحساس فيما بعدُ، مع بداية العام الدراسي، وتنقُّلي للتدريس ما بين جامعة القاهرة وأكاديمية الفنون والأزهر والفيوم — لقد اختلفَت مصر!

وفي الصباح الباكر هبَّت نسمةٌ منعشة؛ إذ اتصل بي ماهر شفيق فريد (الدكتور)، تلميذي السابق وزميلي وصديقي الحالي، فرحَّب بي، وعرض أن يدعوني إلى الغداء معه فرحَّبْت، وهو مثلي ممَّن ينهضون مبكرًا ويحبون المشي مسافاتٍ طويلة، فقررنا الخروج قبل أن تشتد حرارة الشمس. وفعلًا تقابلنا أمام منزله في شارع نوَّال (المشهور باسم نوال دون تضعيف الواو)، وانطلقنا نسير في شارع سليمان جوهر (وكان شارع السوق)، مما أبهجني لوجود الناس من أبناء البلد الذين لم يبدُ عليهم أدنى ما يُذكِّر بجو الحرب (المفترض)، وصرتُ أقف عند باعة الطيور والدواجن، وأتأمل أقفاص الحمام والدجاج والأرانب، وأنظر ما يقوله الزبائن وما يفعلونه، كأنني أرتوي من منهلٍ عذب حُرمتُ منه سنينًا. وكان ماهر صامتًا كدأبه، مقدِّرًا أنني متعطِّش لأن أرى الناس وأن أسمعهم، فقضَينا وقتًا لا حساب له في ذلك الشارع وما حوله حتى وصلنا إلى ميدان الدقي، وكأنما أفقتُ من حُلمٍ طويل سألتُه إلى أين يريد أن يذهب فقال إلى هدهود! وما هدهود هذا؟ فقال إنه مطعم وكبابجي جديد، أغلقَته الحكومة فيما بعدُ بسبب مخالفاتٍ قانونية، ولكنه كان قد ذاع صيته حتى أصبح منافسًا لكبابجي الدقي!

وفي المطعم جعل ماهر يقُص عليَّ طرفًا من أخبار الحياة الأدبية في مصر، ويُطلِعني على ما يدور في الجامعة. وعرفتُ منه أنه يدرُس في جامعة لندن، وأنه يقضي عطلة الصيف في القاهرة؛ إذ أصبحَت الحكومة تسمح للمواطنين بالدخول والخروج كما يشاءون، فسُررتُ سرورًا عظيمًا، وإن لم أكن آنذاك أعتزم الخروج إلى أي مكان؛ فلقد رست السفينة وغِيضَ الماء وقُضي الأمر. وظلِلْنا نتكلم، وكانت كل كلمة تعيد إلى نفسي الاتزان الذي اختلَّ بعض الشيء. وكان الكباب الذي طلبه ماهر شهيًّا فزاد من جمال الكلام وأكَّده، ولم أكن أكلتُ كبابًا مصريًّا منذ عام ١٩٦٥م!

كانت الساعات التي قضيتُها مع ماهر بمثابة «حفل استقبال» حقيقي؛ فهو يمثل العالم الذي عُدتُ إليه، والذي كان ما يزال غامضًا يلفُّه ضبابٌ كثيف، لا أكاد أستبين منه ملمحًا من الملامح. وكان ماهر يعود كل صيف إلى القاهرة حتى لا يتسبَّب طول البعد في مثل هذا الغموض. وأما أهم ما أزال عني الوحشة فهو إيمانه بالرسالة التي نذرنا أنفسنا للنهوض بها، واعتقاده الراسخ بجدوى العلم والأدب مهما تكن الظروف. وكان حديثه معي يصدُر عن قلبٍ يحمل دفئًا صادقًا؛ فكل كلمة متوهجة، وكل صمتٍ ينطق. وعندما آن أوان الرحيل دفع ماهر النقود، ومنح الجرسون بقشيشًا سخيًّا، فوجدتُني أشكره على كرمه، فضحك وذكَّرني بأنني كنت قبل السفر أخرج مع الأصدقاء وأحيانًا أدعوهم إلى تناول الكشري، وكان ماهر على صغر سنه من أفراد «الشلة»، وكانت تلك من الأحداث التي نسيتُها، لكنه كان يذكُرها بوضوح، فأثار حديث الكشري شجوني، واشتقتُ إلى تلك الوجبة المفضلة لديَّ، على ما أحسستُه من امتلاء! وخرجنا من المطعم وعدنا أدراجنا مشيًا حتى وصلنا إلى شارع نوَّال فافترقنا.

وعندما خلوتُ إلى نفسي في غرفتي الصغيرة أخرجتُ حقيبةً ضخمة كانت والدتي قد وضعَت فيها كل أوراقي وبعض كتبي وأشيائي، وكانت من بينها أعداد مجلة المسرح القديمة التي كنتُ أرسل لها «رسائل فنية» ومجلة «الجديد» التي كنت أراسلها أيضًا في مطلع السبعينيات. وجعلتُ أقلِّب الأوراق فعثَرتُ على عدد من مجلة الأدب التي كان يرأسها أمين الخولي، وكان ماهر شفيق فريد قد أخذ مني نص قصيدةٍ قصيرة بعنوان «الصمت» ونشرها فيها (ثم أعدتُ نشرها في أول ديوانٍ لي بعنوان أصداء الصمت عام ١٩٩٧م). كما وجدتُ نصوص بعض المسرحيات التي قدَّمتُها على المسرح قبل سفري، فأضفتُ إلى الحقيبة الترجمة الإنجليزية التي كنتُ أنجزتُها في إنجلترا لمسرحية مسافر ليل لصلاح عبد الصبور. وقضيتُ الساعات التالية في تأمل ما يمكنني أن أفعله في المستقبل. ولم تكن أحلام العودة إلى كتابة المسرح قد تبخَّرت؛ إذ كنتُ ما أزال على حبي القديم للدراما، أتلهَّف للعودة إلى الكتابة وعالم المسرح، ولكنني أغلقتُ الحقيبة مؤقتًا — وعُدتُ إلى الواقع.

٢

كان همي الأول — كما قلت — هو الذهاب إلى المطار لتسلُّم الحقائب الثلاث التي كنتُ أرسلتُها مع الصندوق الخشبي أو الهيكل الخاص الذي وضعت فيه ست مرايا مربعة من البنُّور، ثمن الواحدة جنيهان. وكان إرسال هذه الطرود من لندن يسيرًا، فتصوَّرتُ أن استلامها سيكون يسيرًا كذلك، ولكن القدَر كان يدَّخر لي مذاقًا آخر للعودة؛ إذ بدأَت رحلة المطار في التاسعة ولم تكتمل إلا في الثالثة.

بدأَت الإجراءات بالأوراق، التي اقتضت الانتقال بين المكاتب لجمع توقيعات الموظفين على استمارةٍ خاصة أرفقت بها «بوليصة» الشحن. وظهر فجأةً شخصٌ عذب الحديث يقول إنه متطوع لإنهاء المهمة، و«أنا تحت أمرك» و«كل عام وأنتم بخير». وعبثًا حاولتُ إقناعه بأنني لا أريد مساعدة؛ فقد كان يلازمني كظلي، ويهمس لي عند كل مكتب إن فلانًا يعرف وسوف يساعدني مقابل «إكراميَّة» زهيدة (قروش معدودة)، وكنتُ أدفع صاغرًا حتى بلغ عدد التوقيعات ٢١ توقيعًا، وآن أوان استلام الحقائب، فخرجتُ مع صاحبنا إلى ساحةٍ شاسعة تكدَّسَت فيها أكوام الحقائب، تحت شمس الظهيرة الحارقة، إلى جانب الصناديق واللفافات التي كانت تعلو في أكوامٍ غير منتظمة. ولاحظتُ وأنا أسير وسط هذه الأكوام أن بعض الحقائب غير مُحكَم الإغلاق، وبعضها مفتوح كأنما بُقرَت بطنه وتدلَّت أمعاؤه، فسألتُ صاحبنا فهمس لي مع غمزةٍ بعينه «هذه متروكات» ولم أفهم، فقال إن أصحابها لم يسألوا عنها ومضى عليها زمنٌ طويل فامتدت إليها يد العبث. وخشيتُ أن يكون ذلك مصير حقائبي فاجتهدتُ في البحث حتى وصلتُ إلى البقعة التي حدَّدها الموظف في آخر مكتبٍ مررنا به، فوجدتُها وتنفستُ الصُّعَداء، ثم بحثت عن المرايا فوجدتُها وقد استقرَّت تحت صندوقٍ خشبي ألقاه أحدهم فوقها بركنه المدبَّب فكسر الهيكل الخشبي الذي وضعَت فيه، وكسر أربع مرايا، ونجت اثنتان منها، فحملتُ الهيكل بما فيه، ووضعتُ كل شيء على الترولِّي، وتصوَّرتُ أن الأمر قد قُضي.

وسرنا نحو خمسمائة متر عائدين إلى المنطقة الجمركية، فطلَبتُ من صاحبنا أن يطلب لي سيارة أجرة، فضحك ضحكةً مكتومة وقال: «إن شاء الله … بعد الجمرك.» كانت الأوراق في يدي قد أصبحَت ملفًّا كاملًا، فتقدَّمتُ من رجل الجمرك، وكان فارعَ الطول ذا شعرٍ قصير أجعد، في نحو الأربعين، قوي الذراعَين؛ إذ حمل الحقيبة الأولى على ثقلها بيُسرٍ ووضعها أمامه، ويبدو أنه أعطى إشارةً لم ألحظها لمن معه، فاختفى الجميع وأصبحتُ وحدي في مواجهته. كنتُ هادئ الأعصاب مستسلمًا — كما قلتُ — وعلى أتم استعدادٍ لتقبُّل ما يحدث. وماذا عساه أن يحدث؟ فتح «الكشاف» الحقيبة الأولى فوجد خليطًا من الملابس والأحذية والكتب و«الكراكيب» — أي تلك الأشياء الصغيرة التي نحتاجُها في المنزل ولا نعرف أهميتها إلا حين تغيب. وكانت نهاد جاد زوجة سمير سرحان قد نصحَتني بألا أترك «قشَّة» واحدة في البيت؛ فسوف يوفِّر ذلك عليَّ مهمة الخروج للبحث والشراء. ونظر الكشاف إلى باطن الحقيبة فرأى مقياسًا معدنيًّا من الذي يستخدمه النجارون، وقبل أن يبدأ التفتيش الرسمي وضعه إلى جانبه خارج الحقيبة وهو يقول لي بلهجةٍ جادة «هل أنت متمسك بهذا المقياس؟» وقلتُ بتلقائية «اتفضل» فلم يعقِّب. ربما كنتُ أتوقع كلمة «شكرًا» ولكن الصمت امتد، ويد الكشاف تصنِّف محتويات الحقيبة، حتى أصبحَت مثل دكان الخردوات. ورفع الكشاف بصره إليَّ وقال: «أنت مُعفًى من الرسوم على الكتب والملابس الشخصية المستعملة» ثم ابتسم، وأشار بيده إلى «الكراكيب» قائلًا: «أما هذه الأشياء!» فقلتُ له افعل ما بدا لك! قال: «العفو يا أستاذ … أنا أريد مساعدتك … ولا أريدك أن تدفع رسومًا جمركيةً باهظة.» فلم أعلِّق، فاعتبر أن ذلك موافقة، فبدأ ينتقي ما طاب له من «الكراكيب» — مثل شفرات الحلاقة (قال وشفتاه تتلمظان «أمواس إنجليزي») وأدوات كتابية، وبكرات خيط وإبر، وشرائط لصق حتى جاء إلى حزام جلدي عادي فقال: «هذا من الملابس؟» قلتُ له: «كما ترى!» فابتسم وقال: «فليكن … من أجل خاطرك!» وانتهى من الحقيبة وقد خفَّ وزنها كثيرًا، ولم أحزن إلا لضياع زجاجة الحبر الضخمة، وكنتُ ولا أزال مولعًا بالكتابة بأقلام الحبر السائل!

وتكرر ذلك مع الحقيبتَين، حتى إذا جاء دور المرايا صاح في غضب «من الذي كسر المرايا؟» وانشقَّت الأرض عن موظفٍ صغير، وكان شكله يُوحي بأنه صغير الوظيفة ضئيل المكانة، وكان في صوته خنوعٌ غريب، فغمغم بكلام لم أتبيَّنه، وقال الكشاف: «هذه مهزلة! هذا بنور إنجليزي! وهو غالي الثمن … كيف يحدث هذا؟» ولم أجد ما يُقال فسكَتُّ. واختفى الكشاف لحظة؛ إذ كان عليه أن يحمل غنائمه إلى مكانٍ آمِن، ثم عاد وهو يقول ضاحك السن: «لن تدفع رسومًا على المرايا! المأمور وافق!» وسألتُ بلهجة حاولتُ أن تكون مهذبة: هل أمضي الآن؟ فضحك وقال: «طبعًا طبعًا … أنت شرفتنا … سوف يأخذك المخلِّص إلى مكتب المأمور …»

وبرز المخلِّص من مكمنه (وكانت كلمة المخلِّص ترتبط في ذهني بدلالةٍ دينية) وسار معي إلى مكتب مأمور الجمرك حيث وقَّعتُ ورقة «إفراج» أُقِرُّ فيها بأنني تسلَّمتُ جميع حقائبي كاملةً غير منقوصة وفي حالةٍ جيدة وسليمة … إلخ. ولم أنبس ببِنت شفة طوال تلك الإجراءات، ثم دفعتُ «الترولِّي» خارج البوابة وأنا أحمد الله على أن ظفِرتُ بما ظفِرتُ به من متاعي. وكان التاكسي في الانتظار، فتعاون السائق مع «المخلِّص» على وضع الحقائب وحُطام المرايا (ما نجا منها) فوق السقف وفي حقيبة السيارة. والْتَفتُّ إلى المخلِّص مودعًا وأنا في حيرة كم أدفع له؟ ووضعتُ يدي في جيبي وقبضت على ورقتَين ماليتَين — أعتقد أنهما كانتا جنيهًا ونصف جنيه — وأخرجتُها مقبوضة ووضعتُ ما فيها في يده وهو يعارض بفمه ويقبض على المال بيده، ثم جلستُ في المقعد الخلفي وانطلق بي التاكسي إلى المنزل.

وجعلتُ أستعرض أثناء رحلة العودة ما ضاع من «كراكيب»، وأُحصي ما نجا منها، وقلت في نفسي إن هذه التفاهات لم تكلِّفني كثيرًا، وكان يمكن أن أتركها في المنزل في إنجلترا، كما أن ذلك الرجل قد ينتفع بها؛ فهي ضريبةٌ لا بد أن تطيب نفسي عنها، ولكن الذي ضايقني هو كثرة الأوراق والإمضاءات واليوم الطويل الذي ضاع فيها. وذكرتُ أن متاع المنزل لم يصل بعدُ، وهو الذي شُحِنَ بحرًا، تُرى ماذا سأفعل في جمرك الإسكندرية؟ وقرَّرتُ تأجيل التفكير في الموضوع حتى يحين موعده.

وما إن وضعتُ الحقائب في الغرفة وتناولتُ الطعام حتى رن جرس التليفون، وكانت المفاجأة! إن سمير سرحان في القاهرة في إجازةٍ خاصة. ولم نُضع الوقت في الحديث؛ إذ قال إنه سوف يمر عليَّ في المساء وحدَّدنا الساعة. وعندما جاء كان يقود سيارةً من طراز «فولفو» لونها نبيتي، فخرجتُ معه. وانطلقنا في ليل القاهرة نُشبع نهَمَنا لحديثٍ لا ينفَد كأنما لم نكن معًا في ردنج ولندن من أسابيع معدودة! كان يشجِّعني على اللحاق به في جدة، واستصدر من عميد كلية الآداب في جامعة الملك عبد العزيز دعوةً موجَّهة لي للعمل هناك.

انطلقنا في جولةٍ طويلة بالسيارة، أسمَعَني فيها بعضَ أغاني فيروز التي لم أكن قد سمعتُها من قبلُ، وكانت ذات قدرةٍ غريبة على النفاذ في النفس. وأدهشَني أنني لم أفقد المقدرة على تذوُّق الموسيقى الشرقية بعد السنوات العشر التي كنتُ أسمع فيها الموسيقى الغربية ليل نهار. وهزَّتني أغنية «رجعت ليالي زمان» وعرفتُ أن فيروز غنتها بمناسبة شفاء زوجها من مرضٍ خطير ألمَّ به. وبعد الجولة توقَّف سمير أمام منزل الدكتور رشاد رشدي في شارع الجيزة، وسرتُ وراءه مثل الغريب الذي يتبع مرشدًا، أو مثل مبعوث من أهل الكهف. وكان يُقال لي إنني كنتُ شارد النظرات، فكنتُ أنكِر ذلك، وأحاول جمع شتات نفسي والتركيز فيما حولي. وقال لي سمير إن رشاد رشدي أصبح إلى الصديق أقرب منه إلى الرئيس أو الأستاذ، وغدا يرتبط مع تلاميذه السابقين بحبلٍ من الوُدِّ متين، مما أشاع في قلبي السرور.

واستقبلَنا رشاد رشدي بالترحاب المتوقع، وكذلك فعلَت زوجته ثريا، التي كنتُ تعرَّفتُ عليها في لندن، وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث. وكان دائم الإشارة إلى مشاكل الأكاديمية (أكاديمية الفنون)، وسمعتُ منه أخبار أساتذة الفن وحكاياتهم التي تختلف كل الاختلاف عن حكايات أساتذة الجامعة، ممن تنحصر حياتهم بصفة عامة في العمل الأكاديمي. وأحسستُ أنني أطِل على «عالمٍ جديد جميل» كل ما فيه غريبٌ ومدهش! وقال لي رشاد رشدي إنه أعد لي جدول حصص للتدريس في الأكاديمية — في المعهد العالي للفنون المسرحية والمعهد العالي للنقد الفني — ورحَّبتُ طبعًا؛ فأنا لم أستعمل اللغة العربية في التدريس في يومٍ من الأيام. وكنتُ أحِسُّ أنني أحتاج إلى مثل هذا التدريب المنتظم حتى أعود إلى اللغة العربية، فأعود إلى الوطن حقًّا.

وامتدت الأحاديث وطالت؛ إذ توالى وصول من أعرف ومن لا أعرف، وبعض الأصدقاء القدامى مثل أحمد بهجت، الكاتب المشهور (ابن أخت رشاد رشدي وزوج الكاتبة سناء فتح الله) الذي جاء معه بصديقٍ غريب اسمه عصام، قُدِّر لي أن ألتقي به كثيرًا بعد ذلك. كان قصيرًا يميل إلى النحول والصلع، وكان يتكلم بصورةٍ متقطعة فيدخل السرور على قلب أحمد بهجت. وعلمتُ أنه يعيش ويعمل في ألمانيا بعد أن اضطر إلى الهجرة بسبب ميوله الإسلامية المتطرفة. وكانت تعليقاته التي تثير ضحك أحمد بهجت تتضمن السخرية من كل ما ننادي به، حتى ولو لم يكن خلافيًّا مثل تنظيم الأسرة، وتتضمَّن عداءً دفينًا لعبد الناصر، ولكن أهم سماتها هو عدم الترابط والإشارات المختلطة إلى وقائعَ قديمة وأحداثٍ وقعَت في ألمانيا، فتهامَس البعض قائلين إنه عدمي (nihilist) أو فوضوي (anarchist) ولكنني لم أفهم منه شيئًا. ثم وصلَت الدكتورة سميحة بهجت ومعها زوجها الطبيب وبعض أفراد الأسرة الآخرين مثل عفاف، وهي ابنة أخت أخرى لرشاد رشدي ومعها زوجها توفيق عبده إسماعيل الذي كان على صلةٍ وثيقة بالدكتور عبد القادر حاتم (وتولى منصبًا وزاريًّا فيما بعدُ). وكان الزوار يناقشون من شئون الحياة ما لم يَجُلْ بخاطري، ولا أعرف عنه شيئًا البتة، فيزداد عمق إحساسي بالهوَّة الزمنية التي تفصلني عن مصر.

وعندما انتصف الليل أو كاد بدأتُ أغالب النعاس؛ إذ كنت أستيقظ مبكرًا، ولم تكن آثار رحلة المطار قد انمحَت، ولم أكن أنام في الظهيرة، حسبما تعوَّدتُ في إنجلترا، فوجدتُ صعوبة في متابعة السهرة. ولاحظ سمير ذلك فطلب لي قهوة، ولكن فوات موعد نومي جعلني أحِسُّ بصحوةٍ جديدة فيها لمسة خدَر لطيفة، جعلَت أحاديث القوم تصل إلى مسامعي في غلالةٍ كأنها من نسج الأحلام. وكان معظم الموجودين لا يكادون يشعرون بوجودي، فنهضتُ من مجلسي وتطلَّعتُ إلى صفحة النيل فكأنما كنتُ أرى دنيا جديدة — وسرعان ما اقترح سمير أن نمضي معًا ونحن نتحدث مع الدكتور رشدي عن لقاءٍ قريب.

وفي الصباح ذهبتُ إلى الجامعة فقابلتُ الدكتورة فاطمة موسى رئيسة القسم آنذاك، فقالت لي: «سوف نعلن لك عن درجة مدرس (تخصص شعر) فترقَّب الإعلان.» وحدَّدَت لي ساعات التدريس في العام الجديد، وجلستُ إليها نتجاذب أطراف الحديث؛ فصداقتنا عميقةٌ قائمة على الحب والتقدير معًا، فسألتُها ما سألتُ، وسمعتُ منها بعض الأخبار عمَّن سافر وعمَّن عاد، وسمعتُ عن الاتجاه الجديد في الجامعة إلى ما يُسمَّى ﺑ «القيادة الجماعية» التي تعني إصدار القرارات عن طريق المجالس (مجلس القسم ومجلس الكلية ومجلس الجامعة). وعلمتُ أن ندوة أكتوبر عُقدَت في الجامعة في الصيف، وكانت مؤتمرًا دوليًّا لمناقشة حرب أكتوبر، وكان انقضى على وقوعها عامان، مما ذكَّرني بمؤتمر عدم الانحياز الذي عُقد في الجامعة عام ١٩٦٤م، وشاركت فيه مترجمًا. ودخلتُ غرفة المدرسين، فوجدتُ الدكتور فايز إسكندر الذي رحَّب بي أيما ترحيب، ومعه ضابطٌ برتبةٍ كبيرة لا أذكُرها (مقدم أو عقيد)، وكان يقُص على الدكتور فايز قصة ضياع مكافآت المترجمين منه بسبب إغماءٍ مفاجئ. وقدَّمني الدكتور فايز إليه، دون أن يبدو على وجهه ما ينم عن تصديق أو تكذيب لقصة الضابط، وكان صامتًا حتى انتهى صاحب القصة من سردها وخرج، وقد ضاع اسمه من ذاكرتي مع ما ضاع من ذكريات!

قال الضابط إنه صرف الشيك وأتى بأجور المترجمين والمحررين والمشاركين في أعمال المؤتمر نقدًا في حقيبة «سمسونايت» ودخل الجامعة، وفجأةً أصابه إغماء، وعندما أفاق وجد الناس حوله، لكنه عندما فتح الحقيبة لم يجد المال. لا أذكر الرقم الذي ذُكر آنذاك لكنه كان يُعدُّ بالآلاف، وجعلنا نتعجب مَن عساه يكون السارق؟ ولا بأس من استكمال قصتي مع هذا الضابط التي استمرت عدة شهور في عام ١٩٧٥م — إذ أوصاه أحدهم بأن يلجأ إليَّ لترجمة كُتيبٍ سيصدر عن أعمال الندوة المذكورة — وكان الكُتيِّب صغيرًا لا يزيد عدد صفحاته عن ٣٥، وكانت اللغة سهلةً غير معقَّدة، ولم أصادف فيه كلمةً واحدة لم تسبق لي ترجمتُها في إنجلترا، فانكببتُ عليه وانتهيتُ منه في أيامٍ معدودة، واتصلتُ به تليفونيًّا وقلتُ له إن الترجمة جاهزة، ففرح وقال ضاحكًا إن المكافأة جاهزة أيضًا، وسألني هل تريد شيكًا أم نقدًا، وقلتُ له كما تشاء، المهم أن ننتهي من هذا الموضوع لأن الدراسة بدأَت وأنا مشغول. وفعلًا حضر إلى الجامعة، فرحَّبتُ به وطلبتُ الشاي، وأعطيتُه الترجمة مكتوبةً على الآلة الكاتبة، ونظرتُ إليه مستفسرًا عن المكافأة، ولكنه كان يتحاشى نظراتي؛ إما بالتطلع إلى النص المكتوب صامتًا، أو بالسؤال عن معنى كلمة من الكلمات، ثم تكلم أخيرًا في الموضوع فسأل: هل سنحسب المكافأة بالكلمة أم بالصفحة؟ وعجبتُ لأنه سبق أن قال إنه سوف يدفع مكافأةً شاملة هي خمسون جنيها، وعندما ذكَّرتُه بذلك قال: للأسف! المحاسب اعترض! لا بد من الحساب! كم أجر ترجمة الكلمة؟ فقلت له مليمان من الإنجليزية وثلاثة مليمات من العربية، ومليم للمراجع في الأولى ومليمان للمراجع في الأخيرة، فقال: إذن نعيد الحساب على هذا الأساس! وبدأ يعُد الكلمات العربية بتركيزٍ شديد ثم قال الصفحة فيها ٥٠٠ كلمة، ولم أعترض، ولو أن بعض الصفحات كانت مكدَّسة، وهكذا يكون المجموع ١٧٥٠٠ كلمة في ثلاثة مليمات — ولم أعترض أيضًا — وإذا به يقول: لا … المكافأة الشاملة أوفر لنا … سوف أقنع المحاسب وأتصل بك … وخرج. وعلى الرغم من محاولاتي الدائبة التي استمرَّت في أكتوبر ونوفمبر وديسمبر للاتصال به والحصول على النقود، لم أتقاضَ مليمًا واحدًا حتى يومنا هذا (من عام ٢٠٠٠م).

عندما عُدتُ إلى المنزل وجدتُ خبرًا رائعًا، وهو أن نهاد زوجتي سوف تصل في مساء اليوم نفسه — في إجازةٍ خاصة — وقال لي عبد العزيز حمودة، الذي كان قد عاد لتوِّه، وأنبأني ذلك النبأ تليفونيًّا: هل تحب أن نذهب إلى السويس لاستقبالها؟ فهي ستصل بالباخرة لا بالطائرة! ورحَّبتُ بالفكرة لأنها تمثِّل رحلةً إلى مدينةٍ طالما تردَّد اسمُها في الآونة الأخيرة في أسماع العالم بعد الكفاح البطولي الذي خاضَه شعبُها، والانتصار أخيرًا على الإسرائيليين، وكنتُ أشتاق لرؤية الجبل الذي يُطِل على المرفأ، والذي كانت صورتُه ماثلة أبدًا في مخيِّلتي منذ أيام رحلات الكلية في الخمسينيات. وعندما ذكرتُ ذلك لعبد العزيز حمودة ونحن ننطلق في سيارته الأمريكية (لا أذكر نوعها) قال لي: لم تعُد المدينة إلى سابق عهدها بعدُ … وأمامها شوطٌ طويل! وفي الطريق تجاذبنا أطراف الحديث عن العمل وعن الأسرة فلم نشعر بالرحلة، ولكننا عندما وصَلْنا وسأَلْنا قيل لنا إن الباخرة سوف تصل غدًا. وعلى الرغم من خيبة الأمل فقد كان المشوار ممتعًا؛ إذ تجوَّلنا بالسيارة في الميناء وشاهدتُ الجبل، وكانت الشمس قد غربَت، فاكتسى المشهد جلالًا طالما اشتقتُ إلى رؤيته، وتوقَّفنا عند بعض المعالم الرئيسية قبل أن نعود إلى القاهرة.

أنا دهشٌ لأن هذه التفاصيل تشغل مكانًا واضحًا وثابتًا في ذاكرتي، ودهشٌ لأنني أُثْبتها على الورق وذلك — فيما يبدو — دون مبرر، ولكنها تنتمي إلى ساعاتي الأولى في مصر، والتي لا تزيد على مائة، والتي كانت مشحونة بلقاءات وأحاديث ومشاعر يمكن أن تملأ كتابًا كاملًا؛ ولذلك فليس من الغريب أن يكتب «جيمس جويس» روايةً من ألف صفحةٍ تقريبًا (هي أوليس) يرصُد فيها وقائع ٢٤ ساعة في حياة البطل «ليوبولد بلوم». والربط بين الأحداث ليس مما يستطيعه الذهن الذي «يتعامل» مع معاني الصور التي تتغير عَبْر الزمن. وهذا هو الذي جعل أستاذًا كبيرًا مثل «ديفيد ديتشيز» David Daiches يكتب جانبًا من سيرته الذاتية بعنوان WAS — أي كان — ويُردِفه بعنوانٍ فرعي هو «تسرية من الزمن الماضي» Pastime from Time Past — يتابع فيه أفكاره من خلال ألفاظٍ بعينها، ألفاظ تستدعي ألفاظًا في زمنٍ مضغوط مثل الزمن الرومانسي، فقديمًا قيل إن الزمن الرومانسي هو الكثافة؛ أي إنه يُقاس بالعمق لا بالامتداد — ولطالما أحسستُ أن الزمن لدينا في الشرق رومانسي في جوهره؛ فنحن أسرى لحظاتٍ محدَّدة تتجلى فيها أشياء تصبح هي الزمن لدينا، وهذه اللحظاتُ هي الواحات التي أعود إليها للابتراد من هجير الحياة وقيظ الأحداث! إنها ماثلةٌ أبدًا في النفس، مشرقةٌ أبدًا في الوجدان، نابضةٌ أبدًا في الوعي، وهي التي نعرف منها أننا عشنا!

٣

مرَّ عليَّ سمير سرحان في الصباح، واصطحبني بالسيارة إلى دار أخبار اليوم؛ حيث أخذني لمقابلة أنيس منصور، وكان سمير ولا يزال يحبه حبًّا جمًّا، فرحَّب بنا وكان أيامها رئيسًا لتحرير آخر ساعة. وكان يتكلم في التليفون طول الوقت، وفجأةً وضع السماعة وقال: «جلال عارف … موش عارف حاجة!» وضحك ضحكةً مقتضبة. واتفق معه سمير على نشر شيءٍ ما في المجلة، وخرجنا فمررنا بعدة مكاتب، وكان الحر شديدًا، وعندما عدنا إلى السيارة وجدناها مثل نار الله الموقدة! وكان سمير أثناء تنقلاته يقُص عليَّ طرفًا من الحياة في جدة، فهي غربة من نوعٍ جديد. لكنه لم يكن يعترف بأي اغتراب؛ إذ سرعان ما أقام علاقاتٍ وثيقة مع «الكبار» وحقَّق بذكائه النادر انتشارًا أدبيًّا في كل مكان. وكان إغراء الذهاب إلى جدة كبيرًا؛ فسأكون مع زوجتي (وابنتي طبعًا)، وسنكون جميعًا مع أصدقاء الصبا، وسيكون لدينا من النقود ما يكفي للحياة الرخية، بل وادخار شيءٍ ما للمستقبل! وتحدَّث سمير عن مباهجِ جدة التي كانت لا تزال في مرحلة التحوُّل العمراني الأولى — أي قبل أن تصبح بالضخامة التي شهدتها فيما بعدُ عام ١٩٨٢م — وكانت أحاديثه نموذجًا حيًّا لما يفعله ذهن الفنان بالمادة «الحياتية» (الحيوية)؛ إذ يعيد تشكيلها باستمرار، وكان ذلك ولا يزال ما يميِّز ذكريات سمير عن ذكرياتي!

وعندما وصلتُ إلى المنزل في نحو الثالثة وجدتُ أجمل مفاجأة؛ إذ كانت نهاد قد عادت من السعودية ولديها هي الأخرى عشرات القصص عن الحياة في الغربة الجديدة. وناقشنا موضوع الشقة التي كانت استأجرَتْها لنا بمساعدة والدها في مدينة المهندسين، ودفعَت فيها مقدم إيجار كان يُعتبر باهظًا آنذاك (٦٠٠ جنيه)، وقالت لي إنها تتطلع إلى الاستقلال؛ ومن ثَم قررنا أن نبدأ في إعداد الشقة للإقامة. ولم أكن على دراية بمسائل طلاء الجدران في مصر، فذهبتُ إلى العمارة التي كان بناؤها قد اكتمل، ووجدتُ فيها دكانًا استأجره أحدهم وأحاله إلى ورشة لصناعة المرايا وأنواع الزجاج، فرحَّب بي، وعندما أخبرتُه بموضوع الطلاء عرَّفَني بشخص قال لي إنه مقاول، ويمكنه أن ينتهي من طلاء الجدران و«قشط الأرضيات الخشبية — أي جعلها مستويةً ناعمة — بل وطلائها أيضًا ﺑ «البوليثيرين»، وكانوا يسمونه «البلاستيك» في مصر آنذاك، وكنتُ قد أحضرتُ معي أربعة جالونات من إنجلترا (شحنتُها بحرًا ولم تصل بعدُ) وذلك في غضون شهر على الأكثر، مقابل مبلغٍ كلي هو خمسمائة جنيه، دفعتُ له منها مائة، فأتى بالعمال وبدأ العمل.

وقضينا الأيام التالية أنا ونهاد زوجتي ما بين منزل والدي ومنزل والدها. وناقشنا موضوع ذهابي إلى جدة؛ إذ إنني بعد أن قابلتُ مندوب الجامعة السعودية في القاهرة، وكان رجلًا فاضلًا مهذبًا اسمه الدكتور محمد الرشيد، بل وبعد أن وقَّعتُ العقد (٣٦٠٠ ريال شهريًّا) اتضح أن ذهابي إلى جدة يتطلب استخراج ما يُسمى بالورقة الصفراء — أي موافقة جهة العمل على السفر (التي حلت محل تأشيرة الخروج) — وكان ذلك محالًا، فاعتذرتُ لسمير سرحان، وخرجنا مساء ذلك اليوم مع نهاد جاد زوجته، التي كانت حاملًا في الشهر التاسع، ومع نهاد زوجتي، إلى أحد فنادق القاهرة الكبرى، وصَعِدنا إلى الطابق العلوي حيث تُوجد شرفةٌ واسعة يسمونها «روف»، فجلسنا نطل على القاهرة، وتهُب علينا نسائم الليل المنعشة. وما لبث أن لحق بنا محمد جلال (الروائي) والفنانة عايدة عبد العزيز (زوجة الفنان أحمد عبد الحليم) ولم أكن قابلتُ أيهما من سنين. وكانت الأحاديث شائقةً ممتعة، ولكنني كنتُ صامتًا معظم الوقت، وقد تملكني الإحساس بأنني عدتُ إلى رحم الأم، وتمنَّيتُ لو قضيت الليل كله في ذلك المكان.

وفي اليوم التالي — يوم ٢٤ سبتمبر — ذهبنا جميعا في المساء إلى مكانٍ ما على شاطئ النيل بالقرب من المعادي. وجلسنا نتأمل صفحة الماء والسفن الشراعية المنسابة دون صوت كأنها طيورٌ بيضاء، فأحسستُ أنني عدت إلى رشيد لا إلى القاهرة. وكنتُ أستغرق في أحلام اليقظة وفي ذهني تتردَّد أبياتٌ من الشعر العربي التي كانت مشحونة بالذكريات، فلم ألتفِت إلى أحاديث الصحبة. وكان سمير يقول لي آنذاك إنه يحاول أن يساعدني عمليًّا على العودة إلى مصر، وإنه يريد أن يكون وسيلة امتصاص صدمة العودة — مستعملًا التعبير الإنجليزي shock absorber أي جهاز امتصاص الصدمات الذي شاع إطلاقه على جهازٍ خاص في السيارة يُقال له «المساعدين» في مصر. وكان محمد جلال يتحدث — فيما أذكر — عن الأدب والصحافة؛ فهو مدير تحرير مجلة الإذاعة — ونهاد جاد تشاركه الحديث باعتبارها صحفيةً في مجلة صباح الخير — ولكن سمير كان يتعمد أن يتكلم عن مشروعات المستقبل، كأنما لينتشلني من عالم الغربة، ويقيم الصلات اللازمة مع الواقع الذي عدتُ إليه. وفي اليوم التالي سمعنا أن نهاد وضعَت في المستشفى، وأن اسم المولود خالد، فذهبنا إليها أنا ونهاد وهنأناها بالسلامة. وكان سمير مشغولًا بإجراءات السفر، وأهمها إضافة اسم المولود إلى جواز السفر. وأذكُر أنه كان يشكو من رفض الموظف السماح بذلك دون تصريح من الأمن، وكيف شرح سمير له أن الرضيع لا يمثل خطرًا على الأمن القومي، وكيف اضطُر سمير إلى الاستعانة بأحد معارفه من كبار الضباط لإنجاز المهمة!

وانقضت أيام الإجازة وعاد الجميع إلى السعودية، وبدأنا العمل في الجامعة، أو قل بدأنا الاستعداد للعمل. وذات يوم جاءني الدكتور محمود شكري مصطفى الذي كان عُيِّن أستاذًا في كلية اللغات والترجمة التي أنشِئَت في جامعة الأزهر، وقال لي إنه يتمنى أن أقوم بتدريس مادة الشعر لطلبة السنة الثالثة في قسم اللغة الإنجليزية، فرحَّبتُ، واتفقنا على أن أذهب إلى جامعة الأزهر يومًا واحدًا في الأسبوع — هو يوم الأحد — لكنني سرعان ما كُلفِّتُ بتدريس مادة الشعر أيضًا للسنة الرابعة، ثم مادة الترجمة لطلاب شعبة يسمونها شعبة الترجمة الفورية؛ أي إن عدد الساعات أصبح ست ساعات أسبوعيًّا، تبدأ في الواحدة ظهرًا، وتستمر حتى السابعة، لا تتخللها إلا فسحة لصلاة العصر، ثم فسحة صلاة المغرب التي كانت بمثابة النهاية الفعلية لليوم الدراسي؛ لأن الطلاب كانوا يتفرقون بعد الصلاة، ويرفضون بإصرار أن يشغلهم شيءٌ في الفترة ما بين المغرب والعشاء، ولكن تجربة التدريس في الأزهر كانت ممتعة؛ إذ كنت أستقل الأتوبيس ظهرًا حتى حي الحسين، ثم أتجول ساعة أو بعض ساعة في المنطقة العتيقة، وأشتري السميط أو الخبز والجبن الرومي أو الأبيض. وكنتُ أفضِّل السميط؛ لأنه كان طازجًا، فكنت أقضمه قضمًا، وأختتم الوجبة بزجاجةِ مياهٍ غازية يعتبرونها «كوكا كولا» وإن لم تكن كذلك؛ لأن المقاطعة العربية للشركة الأجنبية كانت لا تزال سارية بسبب تعاونها مع إسرائيل. وكنتُ كثيرًا ما أضع ما يتبقى من الطعام في حقيبتي الصغيرة، ولم أكن أعرف أن أحدًا يراقبني؛ فلقد اعتدتُ التجوال واعتدتُ الحرية، حتى جاء اليوم الذي قال لي أحدهم فيه إن تناول الطعام في الطريق العام «حرام»، وإن وضع الطعام في حقيبة الدرس «غير محمود». كان الناصح من أعضاء هيئة التدريس في الأزهر، وكان مهذبًا ولَبِقًا، فلم أغضب، ولكنني سألتُه عن مصدر معلوماته فابتسم، وقال إن ذلك معروف، فلم أعقِّب، ولم أُولِ الأمر أهمية، وإن كنتُ قد عرفتُ فيما بعدُ أن بين الطلاب من يُبلغ «الإدارة» بكل ما يحدث وكل ما يُقال، فدهشتُ وتعجَّبْت.

كانت مشكلة التدريس في الأزهر هي ضعف حصيلة الطلاب من اللغة الإنجليزية، وكان أضعف الجميع طلاب شعبة الترجمة الفورية، ولم أكن أدرك سر هذه التسمية؛ فالترجمة الفورية مهارةٌ عليا من مهارات المترجم الموهوب الذي يتمتع بخبرةٍ طويلة ولماحية وبديهةٍ حاضرة بل ووقَّادة؛ أي إنها فن لا يصل إليه كل مترجم مهما تكن قدرته اللغوية، فكيف نُعلمها للمبتدئين ممن يجاهدون حتى يتقنوا اللغة الأجنبية قراءة وكتابة؟ وبعد «التفاهم» مع أفراد الفرقة التي كنتُ أتولى التدريس لها، اتفقنا على تحديد قطعٍ معيَّنة وترجمتها وحفظها بحيث لا يخرج الامتحان عنها! كنتُ حزينًا لإقدامي على هذه الخطوة، ورأيتُ من واجبي أن أستشير أستاذًا من أساتذة القسم، فقصدتُ الدكتور وجدي الفيشاوي — خريج جامعة القاهرة — وقصصتُ عليه القصة فلم يُبدِ أي دهشة، وقال بنبراتٍ هادئة: «كلهم يفعلون ذلك! لا تهتم!» ولكنني ألححتُ في طلب العون، فنصحَني بأن أشكو إلى الدكتور محمود شكري مصطفى، ولكن ردَّه كان مماثلًا لرد الدكتور وجدي. ما زلتُ أذكر تلك اللحظات بوضوح؛ إذ كانت الشمس قد مالت للغروب، وكنا نجلس في غرفة الأساتذة، وكنتُ أتطلع من الشباك إلى السحابات الواهنة «التي خرقَتْها مئذنة» كما يقول أحمد عبد المعطي حجازي، وشاعت فيها ألوان الأصيل الشاحبة، وكنا قريبين من «الميضة» (أي مكان الوضوء)، فكنا نسمع قرقعة القباقيب التي يلبسها الطلاب قبل الوضوء، وتصل إلينا أصواتهم العالية فأتصور أن عراكًا قد نشب. وكنتُ قد انتهيتُ من شرب الشاي الذي أقنعتُ الفرَّاش ألا يضيف إليه السكر، فنهضتُ أعتزم الخروج فإذا بالدكتور عبد العظيم سويلم — تلميذي القديم في جامعة القاهرة — يظهر لدى الباب ويفاجئني بعبارات الترحيب، وكنتُ قد رأيتُه آخر مرة في إنجلترا في مكتب البعثات، ففرحتُ وقرَّرتُ استشارته هو الآخر، ولكن الحوار الذي دار بيننا آنذاك كان فريدًا، فسجَّلتُه عندما عُدتُ في مفكرتي. وكنتُ بعد الترحيب والسلامات قد عرضتُ عليه مشكلة الطلاب فانتحى بي جانبًا — بالقرب من النافذة — وقال لي بصوتٍ هامس إنه معار إلى السعودية و«كلام في سرك … لا أريد الرجوع!» فابتسمتُ وقلتُ له لا بأس إذن من التدريس بهذه الطريقة، فقال بنبراتٍ عميقة، وَضَعَ فيها كل ما يستطيعه من تأكيد «مرتب شهر يساوي مرتب سنة.» وابتسمت مؤكدًا استيعابي لما قال، وحاولت محاولة أخيرة «يعني أستمر؟» وكان ردُّه حاسمًا: «يعني أنت أيضًا لا بد أن تسافر.» ورفعتُ يدي بالتحية وافترقنا.

وكان يوم الثلاثاء من كل أسبوع هو يوم أكاديمية الفنون. وكنتُ أقضيه كاملًا من الصباح إلى المساء مع طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية صباحًا، وطلاب المعهد العالي للنقد الفني مساء. وكان التدريس باللغة العربية، فكان يستلزم قدرًا كبيرًا من الترجمة. وهنا أيضًا قابلتُ بعض زملائي السابقين، ولقد تحوَّل بعضهم إلى أصدقاء، بل إلى بعض أقرب الأصدقاء إلى قلبي حتى اليوم. وكان التناقض بين الأزهر والأكاديمية لا يقل عن التناقض بين العالم الذي خلَّفتُه في إنجلترا والعالم الذي عُدتُ إليه في مصر؛ فطلاب الأكاديمية يعرفون منذ البداية أو يراهنون على أن يصبحوا نجومًا لامعة في سماء الفن في مصر؛ فهم يدخلون باب الشهرة والمجد، والمال فيما بعدُ؛ ولذلك فهم فخورون بمواهبهم، ويمارسون ما يشبه التمثيل في حياتهم العادية، وأحيانًا ما يتقمص بعضهم شخصياتِ مسرحيةٍ شهيرة، أو يُحاكون بعض تلك الشخصيات في حياتهم، خصوصًا في قسم التمثيل. أما في أقسام المعهد الأخرى — مثل قسم النقد (الدراما) والديكور وما إلى ذلك — فهم أكثر تواضعًا وأكثر حَدبًا على الدرس.

ولم تمضِ أيام حتى توثَّقَت علاقتي بزميلٍ قديم سأطلق عليه اسم «حسن»، أصبح نافذتي التي أطلُّ منها على عالم الفن المسرحي في مصر؛ فهو مخرجٌ نابه، هادئ الطبع، يميل إلى الهشاشة والبشاشة، ويقول إن ابتعاده عن مصر فترةً ما قد أفاده في ضمان النجاة مما كان يُطلق عليه «صُداع ما بين الحربَين»، وكان يقصد بذلك التمزُّق الذي حدث في الحياة المسرحية ما بين ١٩٦٧م و١٩٧٣م، فإذا كنتُ أنا أتصوَّر أنها فترةُ حربٍ متصلة، فهو يقول إنها كانت فترة انهيار في المعنى؛ أي في الدلالة التي لا بد منها حتى يصبح الفن فنًّا. ولم يكن «حسن» قد ابتعد كثيرًا عن مصر، وأعتقد أنه لم يمكث في الخارج إلا سنواتٍ معدودةً قضى بعضها في أمريكا والبعض الآخر في فرنسا، وكان يزور مصر أثناءها حتى يُبقي على الصلات القائمة بينه وبين العاملين في المسرح، وكان يحاول مثلي أن يتجنب استخدام الكلمات الأجنبية في حديثه، وهي كلمات من اللغتَين الإنجليزية والفرنسية أساسًا وإن كان يضيف إليها شذراتٍ من الإيطالية. كما تعرَّفتُ في المعهد العالي للنقد الفني على بعض الطلاب النابهين الذين حصلوا بعد ذلك على الدكتوراه، وأذكُر من بينهم زين نصار وأحمد العشري ومحمود على فهمي وفاطمة يوسف، والسوري عاصم كلاليب الذي أرسل لي بعد فترة خطابًا من دمشق يقول لي إن الناس غاضبةٌ من نقدي للشاعر عمر أبي ريشة؛ فهو عندهم فوق النقد. وكان الشاعر قد رحل آنذاك إلى المملكة العربية السعودية، واستقَر به المقام فيها حتى تُوفي منذ أعوامٍ قليلة.

وذات يوم من أيام أكتوبر جاءني من يقول إن رئيس الجامعة، الدكتور صوفي أبو طالب، يريدني أن أذهب إلى الفيوم للتدريس في كلية التربية، التي ستفتح أبوابها اعتبارًا من أول نوفمبر. لم أكن أستطيع الرفض؛ فأنا لم أُعيَّن محاضرًا بعدُ؛ لأن الإعلان الموعود لم يظهر في الصحف، ومصيري في العمل معلَّق برضاء الرؤساء. وكانت الجامعة قد أعدت للأساتذة أتوبيسًا صغيرًا ينقلهم إلى الفيوم كل يوم ويعود بهم في المساء، فاخترت يوم الخميس؛ لأنه اليوم الذي لا أعمل فيه في أي مكان. وبدأتُ أذهب إلى الفيوم مع مجموعة من الأساتذة في مختلف التخصصات مثل الكيمياء والفيزياء واللغة العربية. وما زالت ذكريات عملي الأولى في الفيوم حيةً نابضةً في ذهني.

كان ذلك في يوم من أيام نوفمبر. وكان الجو باردًا على غير عادته، فارتديتُ قلنسوتي ومعطفي مثلما كنتُ أفعل في إنجلترا، وخرجتُ إلى الجامعة في السابعة، وتحرَّكَت الحافلة بعد نصف ساعة فوصلنا إلى الكلية في الفيوم في التاسعة، فدخلتُ قاعة الدرس — وهي فصل مثل فصول المدارس العادية — وما إن خلعتُ القلَنسوة والمعطف وبدأتُ الحديث بالإنجليزية، حتى سمعتُ ضحكًا مكتومًا، فالتفتُّ إلى مصدره فلم أعثر على وجهٍ ضاحك، فعدتُ إلى الحديث بالإنجليزية فعاد الضحك، فتظاهرتُ بأنني لم أسمع حتى علت الضحكات، فالتفتُّ فجأة لأرى بيومي — وهو طالب يجلس في الصف الأمامي — مستغرقًا في نوبة من الضحك كنتُ أراها غريبة ولا مبرِّر لها، فسألتُه (بعد أن صمتُّ قليلًا وتوقَّف هو عن الضحك) بالإنجليزية عن سبب ضحكه — وما كدتُ أنتهى من السؤال حتى عاد إلى الضحك، وكان هذه المرة هستيريًّا، فسألتُ بعض الطلبة إن كان يعاني من مرضٍ فأنكر الجميع — فطلبتُ منه الخروج فخرج، وبعد بُرهةٍ عاد متجهمًا كأنما ليؤكد لي أنه لا يضحك، وجلس في مكانه، لكنني ما إن عُدتُ للحديث بالإنجليزية حتى انفجر ضاحكًا من جديد، إلى الحد الذي جعل بعض زملائه يحملونه إلى الخارج؛ حيث استمر يضحك وصوتُ ضحكاته يأتيني من خلال الباب المغلَق، فخرجتُ أستفسر عما حدث له، لكنه كان قد اختفى.

وبعد الدرس جاءني بيومي ليعتذر ومعه مدرسٌ من أهل البلدة أوضح لي أن بيومي لم يسمع اللغة الإنجليزية في حياته، وأنه لم يكن يتصوَّر أن هناك من البشر من يستطيعون أن يتكلموا هذا الكلام غير المفهوم. وكانت الكلمات الإنجليزية تسبِّب له صدماتٍ هستيرية؛ ومن ثَم طلب الإذن بالتحويل إلى قسم آخر يكون التدريس فيه بالعربية، ووافقتُ طبعًا. وظلت مرفت، إحدى طالباتي التي تخرجت بامتياز وعملت معيدة بالكلية، تُطلعني على أخبار بيومي حتى تخرج وعمل مدرسًا، ولم تعُد تنتابه نوبات الضحك حين يسمع الإنجليزية.

وذات يوم اتصل بي صاحب العمارة التي استأجرتُ الشقة فيها وقال إنه قد باعها للحاج يوسف عفيفي ويريد تصفية حسابه مع المستأجرين، فذهبتُ أنا وأخي مصطفى إليه ومعنا العقد، فقال إنه كان قد تسلم ٦٠٠ جنيه بمثابة مقدم إيجار، ولكنه لن يتقاضى الإيجار الآن؛ ولذلك فنحن أحق بما تبقى منه، فدفع لي ٤٥٠ جنيها وأمضيتُ ورقةً ما وانصرفنا. كانت النقود هدية من السماء؛ إذ سرعان ما وصلني تلِغراف من الإسكندرية يقول لي إن الأثاث الذي كنتُ قد شحنته قد وصل، وعليَّ أن أذهب لاستلامه. وفعلًا سافرتُ أنا وأخي مصطفى حيث قابلنا «المخلِّص» وكان يُدعى بركة، وكان من أصدقاء العائلة؛ لأنه كان يعمل لحساب خالي عبد الحليم بدر الدين قبل أن تستولي الحكومة على شركته، وكان يعرف أقاربي، وكثيرًا ما كان يقول إنني أشبه أحد أفراد أسرتي الكبيرة، وهو فاروق الجارم. وكنتُ قد تعلمت من خبرتي في المطار ألا أتعجل الأمور، فتركته يجمع التوقيعات، حتى كاد كل شيء أن ينتهي حين وصلنا إلى الموظف المسئول عن الإعفاء الجمركي الذي قال لي «إن من حقك الإعفاء في حدود ٢٠٠ جنيه باعتبارك عضو بعثة عائدًا.» ولما نظرتُ إليه آملًا أن يفعل ذلك قال لي: «ولكن عليك أن تثبت أنك لم تتمتع بذلك الإعفاء قبل الآن.» فقلتُ له: ألا يكفي جواز السفر؟ فقال: لا، بل عليك إحضار ورقة من إدارة البعثات في القاهرة. ففعلتُ ذلك، وقام الكشَّاف بفحص جميع الأمتعة، وتحديد الرسوم المستحقة على كل قطعة، حتى أتى على الكتب التي كانت تمثل معظم المتاع — ٢٨ صندوقًا — فقال: إننا نريد الآن موافقة الرقابة. فقلتُ له إذن أحضر الرقيب، ولكن الرقيب لا يعرف الإنجليزية! ولم أعرف ماذا أقول سوى أن أوكِّد له أنها كتبٌ أدبيةٌ محضة من المتداوَلة في مصر، فبدا عليه الاقتناع، ثم قال إنها مسئوليةٌ كبيرة وأجهزة الأمن يقظة، وهو قد يوقِّع على الورقة بشرط موافقة مأمور الجمرك والمراقب العام!

وغامت الدنيا في عيني، إذ كنتُ قضيتُ أسبوعًا كاملًا في التردد على الجمرك ما بين القاهرة والإسكندرية. وكان معنى الرحلات اليومية الانقطاع عن التدريس، إلى جانب التعب الجسدي والنفسي بطبيعة الحال. وكرهتُ أن أعود هذه المرة خاوي الوفاض، فأسلمتُ أمري إلى الله، وتطلعتُ إلى السماء وأنا أقول إن هذا قدَري وما يريده الله سبحانه وتعالى لا بد أن ينفُذ. وفجأةً هطل المطر غزيرًا فأسرعنا نحتمي منه. ولاحظتُ أن بالات ورق الصحف كانت ملقاةً على الرصيف دون غطاء، وهي بكراتٌ ضخمة تزن عشرات الأطنان. وبعد دقائقَ معدودةٍ صفت السماء، فعُدنا إلى موقع المتاع، وإذا بصوتٍ جَهْوري ينادي عليَّ، ونظرتُ فإذا الصوت قادم من الطابق الأول (فوق الأرضي) لمبنى الجمرك. وتلفَّتُّ مستفسرًا فقيل لي إنه المراقب العام، واتجهتُ إليه أنا وأخي مصطفى فقام مُرحِّبًا وقال هل أنت محمد عناني مؤلف مسرحية البر الغربي؟ فأجبتُ بالإيجاب، فتهلَّل وجهه، وقال أنا كامل حسني — الشاعر الشعبي في الإسكندرية ومن عشاق مجلة المسرح ورشاد رشدي! وانطلقنا نتحدث عن الأدب كأنما نسينا موضوع الرقابة، ثم التفَت إلى المخلِّص وسأله عن المشكلة، ولم تمضِ دقائق حتى كانت جميع الأوراق قد وُقِّعَت، ودفعتُ الجمرك المقرَّر ولم يكن مقدارًا كبيرًا لأن الكتب مُعْفاة، وحصَلتُ على ورقة الإفراج وخرجنا نبحث عن سيارة شحن تنقل الصندوقَين الخشبيَّين إلى القاهرة. ولم يصدِّق المخلِّص ما حدث، وكان الناس من حوله يتعجَّبون، وقال أحدهم إنها معجزة، وأعطينا العنوان للريس «جيد» سائق الشاحنة وتواعدنا على اللقاء في القاهرة. وكان الاتفاق أن يتصل بي تليفونيًّا حالما يصل إلى مشارف القاهرة، وأن أقابله عند كوبري الزمالك القديم بعد عبوره منطقة إمبابة، وافترقنا. وقررت أنا وأخي أن نمُر على خالتي الحاجة لطيفة بدر الدين — في عمارات الأوقاف بالشاطبي — لنُسلم عليها قبل الرحيل. وقالت لي خالتي دون انفعال: هل مرَرتَ بأزمة قبل أن تمطر السماء؟ لقد شعرتُ أنك في ضيقٍ فصلَّيتُ ركتَين ودعوتُ الله لك! وقلتُ في نفسي هذا والله هو الدعاء المستجاب! وفي القاهرة رنَّ التليفون في السابعة والنصف مساء، وجاء صوت الريس جيد، فانطلقنا في تاكسي إلى حيث كان ينتظرنا. وسارت الشاحنة خلفَنا حتى وصلنا، فاستقبلَنا البواب النوبي عوض، وكان يشبه تمثالًا رائعًا من الأبنوس. وحمل الرجال قطع المتاع إلى الطابق الرابع، وأخذ كلٌّ منهم جنيهَين، ثم انصرفوا. وقال لي عوض إن المالك الجديد للعمارة قرَّر التخلص منه لمرضه، وإنه سيأتي ببوابٍ جديد. ولم أدرِ ما أقول. ووضع عوض الأخشاب التي صُنع الصندوق منها في الجراج. وانصرفنا. وفي الصباح أتيتُ بنجَّار له دكان بجوار منزلنا بالعجوزة فوافق على شراء الأخشاب، واستعمالها في صناعة معدَّاتِ مطبخٍ للشقة، فحملها ومضى، وكان العمال ما يزالون يعملون في طلاء الشقة.

وفي ديسمبر ظهر الإعلان عن درجة مدرس (تخصص شعر) في القسم، وكنتُ المتقدم الوحيد. وتمَّت إجراءات التعيين، لولا أن الجامعة قد استحدثَت دورة لتدريب الأساتذة على التدريس، ولكن مدام وجيدة، رئيسة شئون العاملين، قرَّرَت أن الشرط لا ينطبق عليَّ، فتسلَّمتُ العمل. وارتفع مُرتَّبي إلى ستين جنيهًا في الشهر، فشعرتُ بالاطمئنان وبتُّ قرير العين كما يقولون!

٤

وفي ديسمبر اكتمل طلاء الشقة، وانتقلتُ للعيش فيها. وكان من عادتي أن أذهب لزيارة الدكتور رشاد رشدي في منزله، أو في مجلة الجديد التي كان مقرُّها في غرفة من شقة مجلة الإذاعة، وكانت بها غرفةٌ أخرى اتُّخذَت مقرًّا لمجلة الكاتب، قابلت فيها صلاح عبد الصبور، الشاعر — لأول مرة بعد عودتي — كما قابلتُ ثروت أباظة، الذي كان يعمل رئيسًا لتحرير مجلة الإذاعة، واتفق معي على ترجمة كتاب ذئب الأحراش (عن الإنجليزية) للكاتب الألماني هيرمان هسه، وقال لي إنه سيدفع لي مبلغًا محترمًا هو ١٥٠ جنيهًا، ولكنني كنتُ كلما بدأتُ الترجمة — والواقع أنني قطعتُ فيها شوطًا لا بأس به — توقَّفتُ بسبب صعوبة الكتابة بالفصحى، ولإحساسي بأن ما أكتبه لن يُعتبر أدبًا رفيعًا. وكان العمل بالتدريس يشغل وقتي كله. وأذكُر أن الجامعة الأمريكية عَرضَت عليَّ المشاركة في التدريس، وحدَّدَت الساعات ظهرًا يومَي الاثنَين والأربعاء. وحاولتُ تغيير المواعيد فرفض المسئولون فاعتذَرت. وكان وقتي كله منصبًّا على القراءة وإعداد النقاط التي سأتحدث فيها في المحاضرات. وكنتُ ألتقي في كل يوم جمعة مع صديقي أحمد السودة — ولا أزال أفعل ذلك حتى الآن، ومع ماهر البطوطي — حتى سافر إلى نيويورك. وكان هذا اللقاء الأسبوعي فرصة للتأمل. وكنا نتجه سيرًا على الأقدام إلى وسط البلد، ونحتسي الشاي في جروبي عدلي، ونتجول في المكتبات (أي أماكن بيع الكتب)، وكانت القاهرة كعهدي بها، جميلة هادئة موحية.

وقابلتُ صديقي القديم نبيل راغب (الدكتور) في منزل رشاد رشدي ذات يوم، وعرفتُ أنه يعمل للانتهاء من رسالة الدكتوراه، وكان يقدِّم بعض ما يكتبه منها إلى المشرف (رشدي) لقراءته. وعرفتُ أنه (أي نبيل) يعمل في السكرتارية الخاصة للرئيس السادات، وأن رشدي يتمنى أن يقابل الرئيس لأمرٍ ما. وقابلت في منزل رشدي شخصًا قصيرًا أسمر اللون من كفر الشيخ يُدعى سيد الباز، عيناه خضراوان. وكان أحيانًا يأتي بوالده معه، وكان يوحي للحاضرين بأنه أخو أسامة الباز مستشار نائب الرئيس (حسني مبارك) للشئون السياسية (ومدير مكتبه). والغريب أن سيد هذا كان له أخٌ يُدعى أسامة فعلًا، ولكنه من أسرةٍ مختلفة. وقد حدث في الثمانينيات أن قُبض عليه بتهمة النصب والاحتيال؛ إذ باع بعض أراضي المحافظة للأهالي وهي مملوكة للدولة.

وفي يوم الأربعاء، ٣١ ديسمبر ١٩٧٥م، نشَرَت الصحف نبأً يقول: استقبل الرئيس السادات الدكتور رشاد رشدي، مدير أكاديمية الفنون، ومع الخبر صورةٌ للقاء؛ أي إن اللقاء حدث يوم الثلاثاء ٣٠ ديسمبر، وكان يوم الأربعاء هو اليوم الذي يأتي فيه رشاد رشدي إلى الكلية للتدريس، فجلستُ معه في غرفته، وكان يبدو عليه القلق رغم الخبر المثير، وعندما سألَتْه الدكتورة فاطمة موسى — رئيسة القسم — عما تحدَّث فيه مع الرئيس رفض الإفصاح بشي. وقال لي إن الليلة هي ليلة رأس السنة، وثريا (زوجته) قد أعدَّت ديكًا روميًّا، «وأنت معزوم!» وفعلًا ذهبتُ في المساء، فمرَّ علينا في الشقة أقاربُه الذين ذكرتُ بعضهم من قبلُ. وقال له توفيق عبده إسماعيل، زوج عفاف ابنة أخت رشاد رشدي، إن الدكتور عبد القادر حاتم سعيدٌ بالخبر ويقول إن رشدي سيصبح وزيرًا. وانصرف الجميع لحضور حفل رأس السنة في أماكنَ أخرى، ولم يمكث سوى أحمد بهجت. وعندما جيء بالديك الرومي أبدى اعتراضه على طهوه قائلًا إنه، على تمزُّق أوصاله، لا يزال صُلب الأنسجة! ومكَثنا نتحدث في كل شيءٍ ما عدا موضوع مقابلة الرئيس، حتى حل العام الجديد، وبدا على الجميع الإرهاق فانصرفوا وانصرَفْت.

وجاءني المخرج (حسن) ذات يوم في الأكاديمية، وجلس معي على سُلم معهد الفنون المسرحية، وجعل يقص عليَّ ما حدث للشاعر (والمخرج) نجيب سرور، فقال إنه أصيب بلوثة. وأخذ يتصعلك ويلعب دور الشحَّاذ الفقير في الحياة، وكنتُ قرأتُ له شعرًا أعجبني فقلتُ: له إنه شاعرٌ موهوب. فقال: إن النقلة رهيبة بين الفن والحياة، والفنان مفتون بنفسه أبدًا، يبهره ما يخرج من ذاته من تصاوير قد تكون لفظية أو بصرية، وقد تكتمل في الدراما وقد لا تكتمل. ثم سألني عما أكتبُ فقصصتُ عليه ما أعانيه من إرهاق في التدريس في كلياتٍ متعددة، وما يتيحه لي ذلك من إلمام بخبايا مصر التي ابتعدتُ عنها طويلًا، فسألني عن النساء فضحكتُ وقلتُ له إنني متزوج وزوجتي في السعودية، وإنني الآن راهب، فانخرط يقهقه حتى لفت الأنظار إليه، ثم همس لي: لا بد أن نخرج معًا يومًا ما حتى أُطلِعك على مصر التي لا تعرفها! ورحَّبتُ ولكنني قلتُ إنني لم أتسلم السيارة التي اشتريتُها أنا وزوجتي من شركة النصر— وهي فيات مصرية ١٢٨ — فقال سأصحبك معي في سيارتي، وأفضي إليك بأسرار الدنيا!

وعندما حلَّت عطلة منتصف العام أرسلَت نهاد لي دعوة لزيارة جدة مع سارة ابنتنا، فوجدتُ أن عليَّ أن أستخرج جواز سفر جديد، فأعددتُ الأوراق المطلوبة، واستخرجتُ جواز السفر دون أي صعوبة وأنا بين مصدِّق ومكذب، ولكنني وجدتُ أن الفتاة التي تكتب الأسماء بالإنجليزية (أي بالحروف اللاتينية) كتبَت اسمي مبدوءًا بحرف A بدلًا من E، ولم أكترث فلم أكن أتصور أن ذلك مهم، أو أنه سيتسبب في أية مشكلات؛ فلم أكن أنتوي العودة إلى أوروبا، ولم تكن بي أي حاجة إلى استعمال الاسم بصورته الصحيحة وفقًا للنطق، أو هكذا كنتُ أتصور! واصطحبتُ سارة طفلتنا وذهبنا إلى جدة حيث رحَّب بنا الجميع، وقضينا أيامًا ممتعة. وكانت نهاد قد دعت أختها عزة للزيارة، وما لبثت عزة أن وجدَت عملًا في شركة «أليتاليا» للطيران؛ حيث تعرفت على شاب باكستاني دمث الأخلاق يُدعى شبير شنوي، وما لبثا أن تزوَّجا بعد أشهرٍ معدودة (في عام ١٩٧٦م)، فاستقَر بها المقام في جدة.

وأنا أذكُر الآن هذه التفاصيل لأن تلك الرحلة كانت بداية رحلات لم تتوقف حتى الآن إلى بلدان الله الواسعة، ولأنها كانت تمثل بداية نسق متصل، فكأنما كان الانفتاح الذي يدعو إليه النظام السياسي قد أصبح نمطًا عامًّا من السفر والترحال، وهو ما أصبح سائدًا إلى يومنا هذا، وكان له من الآثار ما لم أكن أتوقع وأنا أحزم حقائبي حتى أعود إلى مصر قبل شهور معدودة!

وعندما عدنا من جدة (أنا وسارة) تسلَّمتُ السيارة، وهي صفراء «فاقعٌ لونُها تسُر الناظرين»، وبدأتُ أستمتع بحرية الحركة، فكنتُ أذهب إلى مبنى جريدة الأهرام، وأصعد لمقابلة أحمد بهجت، الذي أصبح مسئولًا عن الصفحة الأدبية، فأعطيه مقالاتٍ قصيرةً جدًّا، وكان ينشُرها فيقرؤها الناس، ويعرفون أنني عُدتُ من الخارج. ومنه سمعتُ لأول مرة عن جمال الغيطاني؛ إذ قال في غضون حديثٍ مع أحد الزملاء «وهل يفهم أحدٌ في الأدب مثل جمال الغيطاني؟» وكنتُ أخرج إلى مسارح صباي في منطقة الأهرام أو في أعماق الجيزة فأتوقف ساعاتٍ لتأمُّل الزمن الذي كنتُ أراه في كل بقعة. وذهبتُ ذات مرة إلى مسرح الجمهورية بعابدين حيث كانت فرقة المسرح الحديث تقدِّم مسرحية من تأليف الدكتور مصطفى محمود اسمها «الشيطان يسكن في بيتنا»، وحاولتُ التركيز في المسرحية حتى الفصل الثاني، ولكنني كنتُ ضيق الصدر فلا الفكاهات تضحكني ولا الموضوع يشدني، وكيف يشُدُّني نص يقول إن الشيطان هو المرأة؟ ويصوِّر الصراع بين الخير والشر في صورة اجتناب النساء في مقابل الوقوع في غرامهن. وكان الممثلون يتسمون بقَدْر يصعب وصفه من ثقل الظل، حتى انصرف الجمهور — ووجدتُ نفسي وحيدًا في الصالة في الفصل الثالث — فتسلَّلتُ برفق حتى خرَجْت.

وفي الصباح، كنا في يوم الثلاثاء ١٦ مارس (موعد دروسي في أكاديمية الفنون)، قابلتُ المخرج حسن على باب معهد الفنون المسرحية وكان يحمل في يده ملفًا أزرق، وتبدو عليه أمارات الاكتئاب، ولما طلبت منه تفسيرًا لتجهُّمه دفع إليَّ الملف وهو يقول في نبراتٍ مريرة: «اتفرَّج يا سيدي!» وفتحتُ الملف فوجدتُ نصًّا مسرحيًّا من تأليف سعد الدين وهبة بعنوان الأستاذ. وعندما بدأت القراءة أوقفَني وقال «تمهل! لقد رفضَته الرقابة! ولا أمل في الموافقة أبدًا!» وقلتُ له: «لا تبتئس فسوف يتغير كل ذلك فالانغلاق قد انتهى! وكما سمعتُ ألغى السادات معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفيتي بالأمس!» (وكان الإلغاء في يوم ١٤ مارس ١٩٧٦م)، فضحك حسن وقال: «لن يتغير شيء!» وسرتُ معه حتى القاعة التي كنتُ سألتقي فيها بالطلاب، وكنتُ أتصوَّر أنه يريد إخراج المسرحية ولكن الرقابة اعترضَت، ولكنني فهمتُ من حديثه أنه معترض على مبدأ الرفض وحسب.

وعندما انتهيتُ من محاضرتي العامة، في نحو الحادية عشرة، خرجتُ إلى البهو الذي يتوسط المعهد، فوجدتُ حشدًا واقفًا بجوار السُّلم، وعرفتُ من بينهم حسين مهران، الذي كان أمينًا عامًّا للأكاديمية، وأحمد الفخراني الذي كان مستشارًا قانونيًّا، والمقدم عاصم عباس الذي كان ضابط الأمن، وآخرين من العاملين في الطابق الأول (مكتب المدير). ولم أسأل عن سبب الزحام ولم أكترث له، بل اتجهت إلى السلم الموصل إلى غرفة رشاد رشدي، وهناك قيل لي إنه لن يأتي — وهمس لي عاصم عباس قائلًا «إن رئيس الجمهورية قد استدعاه اليوم.» وفهمتُ بعد ذلك من الهمسات وشذرات الحوار أن هؤلاء كانوا يريدون شيئًا ما من رشاد رشدي وخاب ظنهم. وعدتُ أدراجي إلى الممر الموصل إلى قاعات الدرس، فرأيتُ أو سمعتُ من يناديني، وكان حسن (المخرج) جالسًا في غرفة الأساتذة حيث دفتر التوقيع بالحضور، فذهبتُ إليه وقال لي بلهجة قاطعة: «أنا أدعوك إلى الغداء معي.» ولما رأى تردُّدي قال: «لن أقبل الرفض، وهناك مفاجأة!» وكأنني كنتُ مخدَّرًا، استدرتُ وخرجتُ معه دون أن نتبادل أي حديث.

تركتُ سيارتي في فناء الأكاديمية، وركبتُ إلى جوار حسن في سيارته البيجو، وانطلقنا غربًا؛ أي باتجاه أهرام الجيزة. وكان الشارع ما يزال بهيجًا يذكِّرني بالأيام التي كنتُ أتردَّد فيها على المقاهي والمطاعم المنتشرة في سفح الهضبة. وكان الجو صحوًا والنسيم ما زال لطيفًا لم تفسده رياح الخماسين. وما لبث حسن أن صعِد بالسيارة الهضبة، فأوقفها خارج مقهًى يُسمى «كازينو منظر الأهرام». وكنت قد اعتدت المعنى الإنجليزي لكلمة كازينو (أي مكان لعب القمار) فقلتُ في نفسي ليتهم يغيِّرون الكلمة الإنجليزية حتى لا يسيء السياح فهم الدلالة المصرية البريئة! وجلسنا في مقاعد نُطِل منها على القاهرة التي بدت مثل العروس في أبهى حُلَلها. وطلب حسن الشاي ثم بدأ يقص عليَّ طرفًا من مغامراته الغرامية. ولم أجد الوقت مناسبًا لذلك، فأبديتُ تململًا، لم يلبث أن لاحظه فقال: «كل شيء له سبب!» وضحك. وأسرعتُ أعتذر عما بدر مني من سأم، على الرغم من محاولتي إخفاءه، فقال: «إن من أحكي لك عنها ليست نكرة! وأنا أحكي لك ما أحكي لأنها حكت لي ما يهمك.» وكان الطعام قد وصل فحوَّلتُ اهتمامي إليه وأنا أتظاهر بالاهتمام؛ فلم أكن أريد أن أغضِبه فهو صديق عزيز حقًّا، بل كان من القلائل الذين تواصلَت علاقتي بهم منذ الستينيات، حتى انتهى إلى القول بأن لها صديقةً تريد «خدمة» معيَّنة من جهةٍ حكومية، وتعرف صلتي برشاد رشدي وكيف يمكن الاستعانة به (من باب الوساطة)، وعجبتُ في نفسي لذلك اللف والدوران كله فإن كان الأمر ينحصر في «الواسطة» فلماذا لم يفصح عنها «حسن» مباشرة؟ وأخرجتُ من جيبي مفكرتي الصغيرة، ودونت فيها اسم طالبة «الخدمة» ونوع الخدمة. وبعد الأحاديث العابرة التي لم أكن أرى لها وجهةً محددة، نهضتُ وأنا أنظر في ساعة يدي. وفهم حسن مقصدي فضحك وقال انتظر لحظة. والتفَتَ في حركةٍ مسرحية إلى مائدةٍ مجاورة لنا تجلس إليها امرأتان كنتُ لاحظت وجودهما قبل فترة ولكنني لم أتعرَّف على أيهما. وما لبثَت إحداهما أن ضحكَت وقالت بلهجة مسرحية أيضًا «لحظة واحدة!» والتفتُّ أنا إلى حيث جلسنا، وأنعمتُ النظر هذه المرة، وخيِّل إليَّ أن وجه إحداهما مألوف، وردَدتُ على ابتسامتهما بابتسامة؛ فردُّ التحية واجب. وفي لحظةٍ خاطفة وجدتُهما يشاركاننا المجلس! وقال حسن بسرعة: أنت تعرف «فلانة» النجمة المشهورة! وغمغمتُ كذبًا «طبعًا طبعًا» وأنا أحاول جاهدًا أن أذكر لها اسمًا. واستمر حسن يقول «وأما هذه فهي «فلانة» المعيدة في معهد البالية!» وكأنما كان ينتظر مني التعبير عن الدهشة فتوقف — مثل المسرحيين — ليتيح لي ذلك التعبير، ولكنني لم أقل إلا: أهلا وسهلا! وإن كانت دهشتي الحقيقية هي ذلك اللقاء المسرحي الغريب! وخلعَت الأخيرة نظارتها السوداء كأنما لتساعدني على التعرُّف عليها. وفعلًا تذكَّرتُ أنها إحدى طالباتي في دروس الدراما بمعهد الفنون المسرحية لا بمعهد البالية؛ فلم أكن أعمل فيه، فبدأتُ أتشكَّك في الرواية.

وبعد تبادُل الأحاديث «الاجتماعية» التي امتدت حتى أتى الجرسون ودفع «حسن» تكاليف الوجبة، قمنا وتبادلنا التحية من جديد واتجهنا إلى سيارته.

كانت الحادثة غريبة، وتوقعتُ أن يقص «حسن» عليَّ سر ذلك اللقاء الذي كان في رأيي مدبَّرًا، ولكنه التزم الصمت طوال الطريق، حتى وصلنا إلى الأكاديمية. وكنتُ أتحرَّق شوقًا إلى معرفة «القصة» فسألتُ «حسن» سؤالًا مباشرًا، فضحك وقال: «لا تحمل الموضوع أكثر مما يحتمل … وسوف تعرف التفاصيل في حينها!» وتركتُه وعُدتُ إلى قاعة الدرس، وأنا أقلِّب الأمر على وجوهه، حتى انتهى اليوم، وعُدتُ إلى المنزل.

وفي اليوم التالي — يوم الأربعاء — ذهبتُ إلى الكلية، وقابلتُ رشاد رشدي، وجلسنا نتسامر كالعادة. وفجأةً قال لي أريدك أن تأخذني بالسيارة إلى الأكاديمية، وكان في صوته توتُّر لا يخفى على من يعرفه. وعندما وصلنا دخلتُ معه المكتب، فأمر السكرتيرة «كريمة» أن تمنع الزوَّار، وقد رُقِّيَت بعد ذلك فأصبحَت تشغل منصب المسجِّل في المعهد العالي للنقد الفني حاليًّا، وقال لي في نبراتٍ جادة وقد ارتسمَت على وجهه ملامحُ جهمة قاتمة تنم عن قلقٍ شديد لم ينجح في إخفائه: هذه صفحات أريدك أن تترجمها إلى الإنجليزية — تَرجِم قَدْر ما تستطيع اليوم — وائتني بها في الثامنة مساء. وتسلَّمتُ المظروف من يده، وفتحتُه فوجدتُ الصفحة قد امتلأَت بالكلمات حتى اكتظت (لا أقل من ٥٠٠ كلمةٍ عربية)، فقلتُ له: هذا يستغرق وقتًا طويلًا. فقال: أنت لها! فقمتُ وأنا مهموم … فكم من الوقت أحتاج إليه؟

وما إن دخلتُ غرفة المكتب في منزلي حتى بدأتُ العمل، وكانت الساعة قد قاربت الثالثة عصرًا. ولم أتوقف عن الترجمة حتى السابعة تقريبًا، ولم أترجم في ذلك الوقت كله إلا نحو ثلاث صفحات. وكنتُ قد أعدَدتُ صورتَين للنص — الأولى حرفية، والثانية «بتصرف»، أو ترجمة حرة، أو ما نُسمِّيه بالترجمة الإبداعية — إذ استعنتُ فيها بكل ذخيرتي اللغوية، وتعمَّدتُ فيها ما كان شكري عياد ينصحني بالابتعاد عنه وما كان يسميه «التأنق في الأسلوب»، وخرجتُ بالسيارة إلى منزل رشدي. ووجدتُه يجلس وحده في غرفة المكتب، على أريكةٍ في زاويةٍ منها، صامتًا. ولم أكد أجلس حتى قال لي: «اقرأ.» وقلتُ له: «النص الحرفي أم الحُر؟» فقال: «بل الحُر.» وجعَلتُ أقرأ بلهجتي البريطانية وهو يتابع ما أقول في النص العربي، حتى انتهَيتُ. وساد الصمت لثوانٍ خِلتُها دهرًا وأنا أنتظر التعليق، ودقاتُ قلبي تسرع لاهثة، وإذا بصوتٍ أجنبي يقول بلهجةٍ أمريكية (شمالية) ما يفيد الاستحسان، أو ما معناه هذا حسن أو لا بأس. والتفَتُّ فإذا بجوار الباب شخصٌ قصيرٌ أصلع الرأس، يمسك في يده قبَّعة. وقدَّمني رشدي إليه، وعرفني به قائلًا: هذا «مايكل سيمون – بیسي» (Michael Simon Bessie) وأردف الضيف قائلًا: لم أشأ أن أقاطعكما، ولكنني سأذهب الآن إلى المطار!
(I have a plane to catch).

وقلتُ في نفسي إن الحياة المسرحية تفرض نفسها عليَّ بمستوياتٍ مختلفة! ما هذا الغموض في أحداث الأمس واليوم؟ وانصرف الضيفُ فبدا أن رشاد رشدي قد تنفس الصُّعَداء. وجاء بعد توديعه لدى الباب إليَّ ببسمةٍ عريضة تتناقض كل التناقُض مع مظهر القلق الذي كان يكتسيه في الظهيرة.

وبدأ رشدي يقول إنه أقنع الرئيس السادات بكتابة سيرة حياته بالإنجليزية. وكان الرئيس قد أعجبه كتاب الدكتور نبيل راغب، السادات رائدًا للتأصيل الفكري (١٩٧٥م)، فعيَّنه لديه في السكرتارية الخاصة، وكان يُملي ذكرياته على شريط مسجل، أو شرائطَ كثيرة في الواقع، علَّها تصبح مادةً لكتابة تلك السيرة باللغة العربية. وكلَّف أحد كبار الكُتاب، وهو إحسان عبد القدوس، أولًا بإعداد نموذجٍ مُستمَد من تلك الذكريات، التي كان يمليها بحضور نبيل راغب، ويبدو أنها لم تعجبه، ثم كلَّف أنيس منصور بكتابتها، وكان يرتاح إليه، وأنيس ذو أسلوبٍ ساحرٍ جذاب. وفهمتُ من حديث الدكتور رشاد رشدي أنه كان يتابع ذلك كله، ويتحيَّن الفرصة لإقناع السادات بكتابة الكتاب بالإنجليزية لا بالعربية؛ ومن ثَم حصل على الشرائط، واتفق مع الرئيس على إملاء المزيد منها، وكان ذلك سر مقابلته له يوم ٣٠ ديسمبر ١٩٧٥م. وفي الشهور الأولى من ذلك العام (١٩٧٦م) كتب رشدي الفصل الأول بالعربية، وحاول الاستعانة ببعض أساتذة اللغة الإنجليزية لدينا لترجمته، ولكن الناشر الأمريكي لم يستسغ الترجمة، وكان أن استعان بي. ولم يشأ أن يكون وحده الحكَم على الترجمة فدعا الناشر الأمريكي للحضور في الثامنة. وعندما وصل ووجدَنا نعمل قرَّر أن يستمع بنفسه إلى الترجمة — في حركةٍ مسرحيةٍ عجيبة — برَّرها بأنه لم يشأ مقاطعتنا، ولكن الحقيقة هي أنه لم يكن يريد إحراج أحدٍ إذا رفض الترجمة! ويبدو أن الناشر قد اقتنع بالنص الذي سمعه وأبدى موافقته، وانصرف سعيدًا، فكان ذلك مصدر سعادةٍ بالغة لرشاد رشدي.

ومرَّت أيام الربيع المصري سراعًا حتى تُفسِح للصيف قيظه نهارًا ونسائمه الجميلة ليلًا. وعاد الأحباب من السعودية، فعادت نهاد لتُفاجأ بمرض والدها. وجعلنا نتردَّد على الأطباء الذين قطعوا بأنه أصيب بالمرض اللعين. وكانت نهاد قد عانت الأمرَّين من الوحدة والعمل الشاق في السعودية، فذهبنا في الصيف لقضاء أيامٍ معدودة في الإسكندرية — في أغسطس — وعندما عدنا وما كدنا نستريح من وعثاء الرحلة حتى وجدتُ في انتظاري طلبًا من وزارة الخارجية للذهاب فورًا لمقابلة السفير صلاح أبو جبل — رئيس إدارة المؤتمرات — وعندما قابلتُه قال إن عليَّ أن أسافر فورًا إلى كولومبو (سريلانكا) للترجمة في مؤتمر قمة عدم الانحياز. وعندما تساءلتُ عن الإجراءات قال لا تخشَ شيئًا — هذه السكرتيرة ستسافر معك — وسرعان ما استخرج لي جواز سفر لمهمة، وتذكرة الطائرة، وفي غضون ساعاتٍ معدودة كنا في الطائرة! كنتُ مذهولًا من السرعة التي انتهت بها الإجراءات، وكنتُ ما بين مصدِّق ومكذِّب حين وصلنا في مساء اليوم التالي (إذ فقدنا ساعات بسبب فروق التوقيت وتغيير الطائرة في الهند) إلى مقر المؤتمر. وقابلني السفير الدكتور عادل صالح (رئيس الأمانة الفنية للمؤتمر) فأرسلَني إلى فندق فوق ربوةٍ عالية، وسط غابة لم أكن أحلم برؤيتها، ناهيك عن الضرب في شِعابها، فقضيتُ ساعةً أو بعض ساعة أسير في جو آسيا الحار، وإن كانت الحرارة غير شديدة بسبب ارتفاع المكان. وفي الصباح ذهبنا إلى قاعة المترجمين حيث عرفتُ سر استدعائي، وهو أن فؤاد كامل — أحد المترجمين الكبار — قرَّر الرحيل فجأة وكان لا بد من إيجاد بديل له. وتعرَّفتُ هناك على مجموعةٍ قُدِّر لي أن أعمل معها سنواتٍ طويلة بعد ذلك في الترجمة بالمؤتمرات الدولية، كنتُ أعرف بعضهم بسبب زمالتهم القديمة لي — مثل محمد عبد الله الشفقي (رحمه الله) ومثل فكرية السويفي زميلتي في الدراسة الجامعية — وتعرَّفتُ على البعض الآخر، ونشأَت بيننا صداقةٌ عميقة.

وانقضى المؤتمر «وانفض المولد» (وهو مشهد تكرَّر عشرات المرات في حياتي الجديدة)، ولكن الدكتور عادل صالح قرَّر استبقاء عدد من المترجمين والمراجعين ثلاثة أيام للانتهاء من الوثائق، وكنتُ بين مَن بقي. وفي تلك الأيام القليلة أثناء المؤتمر أحسستُ بأنني أدخل عالمًا جديدًا؛ فالمترجمون خليطٌ غريب من الناس، بعضهم جادٌّ لا يعرف الهزل، وهم العماد الذي تستند إليه الأمانة الفنية لكل مؤتمر، وبعضهم دخل مهنة الترجمة دون إحكام الصنعة، وبعضهم من أقارب الكبار أو أصحاب السلطة والنفوذ (ومعظمهم من الفتيات) ولم يكن أمامي إلا أن أعرف هذا وذاك، فمن القسم الأول تعرَّفتُ على اثنَين من كبار مترجمي مصر هما السيدة نهى بدوي (بنت عبد الحميد بدوي باشا) وعمر حسن صبري (ابن حسن صبري باشا)، وكانا مثل سائر أولاد الذوات يجيدان الإنجليزية والفرنسية إجادةً تامة، ولم يكن أيهما في مقتبل العمر. كما تعرَّفتُ على بعض الشبان النابهين مثل محمد عبد السلام رضوان، المترجم الضليع، وتعرَّفتُ أيضًا على بعض موظفي وزارة الخارجية، وعرفتُ أن الدبلوماسي يتميز عن غيره بإضافة لقب بك إلى اسمه رغم إلغاء الألقاب. وانقضَت الأيام كالحلم الجميل. وكان من مكاسب تلك الرحلة تعرُّفي على عبد الرحيم شلقامي — وكان أمهر من يكتب على الآلة الكاتبة العربية — كما جمعَتْني صلاة الجمعة بأحمد بهجت، الذي رأى الناس يتوضئون في بِركة المياه (لأنها جارية من مسيل أحد الغدران في الجبال) وتصوَّر أن الأسماك سوف تعَضُّهم — وإن لم أكن قد رأيت في الماء أسماكًا!

وهكذا في غضون عامٍ واحد من العودة كنتُ قد تركتُ مصر مرتَين! وما إن حططتُ الرحال هذه المرة حتى أدركتُ أن ما رسمتُه لنفسي من حياةٍ أدبية لن يُكتب له أن يتحقق على نحو ما أردت؛ إذ كنتُ تقاضيتُ أكثر من ألف دولار مكافأةً عن العمل عشرة أيام في المؤتمر (وكان أجر المراجع آنذاك ١٢٥ دولارًا في اليوم مثل المترجم الفوري)، وهو مبلغ كنتُ في مسيس الحاجة إليه آنذاك. وما لبث أن تُوفي والد نهاد، وتعرَّضت لهزةٍ عنيفة؛ فأسرة نهاد لم تواجه فاجعةً من قبلُ، وعزة تقيم في جدة، وأحمد ما زال طالبًا في كلية الآثار، وسناء ما زالت طالبة في كلية الإعلام، ونهاد ما زالت في عطلة الصيف في القاهرة وسوف تعود إلى السعودية بعد قليل، وأنا ممزق بين منزلنا الذي أقيم فيه عادةً وحدي لأن سارة تقيم مع أسرة زوجتي في شبرا، وبين منزل أصهاري، وأصبحتُ أشعر بمسئوليةٍ جديدة نحوه. وكنا آنذاك في رمضان، فانتهت مراسم العزاء بسرعة، وأنا أزداد في كل يوم تفكيرًا في أحوال الأسرة وازداد اقترابًا من الله في ضميري، حتى جاء يومٌ بدا لي فيه أن سارة مريضة، واصطحبتُها بالسيارة إلى الدكتور خليل عبد الخالق ومعي عيَّنة من البول؛ إذ شكَكتُ في أنها أصيبت بالتهاب الكبد الوبائي. وعندما دخلتُ إليه سألني عن الحالة فقلتُ له إن درجة حرارتها زائدة نصف درجة — وهذا هو البول وإنني أشك في إصابتها بالصفراء — فإذا به يصرخ في وجهي قائلًا: «إنت حتشخص كمان يا أستاذ؟ إنت إيش فهمك؟ إديها سلفا!» وكتب لي روشتة وخرَجْت.

كانت الساعة قد تخطت الرابعة، والقيظُ في ذروته، ووضعتُ سارة في المقعد الخلفي فغلبها النعاس. وعبَرت كوبري ٦ أكتوبر وأنا شارد الذهن، فإذا بسيارةٍ أخرى تحاول قطع الطريق عليَّ، فصحت في قائدها غاضبًا، فرأيتُه يشير إليَّ أن توقف، فتوقفت. فخرج هو من السيارة وأقبل عليَّ مرحبًا ومعه زوجته، وقال لي ألا تذكُرني؟ كنت زميلك في مدرسة الأورمان! والدي كان الناظر السابق الأستاذ المسيري! وانعقد لساني ولم أجد ما أقوله إلا أن ابنتي مريضة، فقال أنا الآن طبيب في القصر العيني — سِرْ ورائي من فضلك! وسرتُ بالسيارة خلفه حتى توقفتُ عند عيادة لم أكن رأيتُها من قبل في الدقي. وأخذ عينة البول ودخل، ثم خرج ومعه بعض أدوية، وقال لي هل تسمح أن أزورك في المنزل بعد الإفطار للاطمئنان على سارة؟ وتوقَّفنا في الطريق عند منزله في شارع مصدق — القريب من منزلنا — حيث أعطى سارة عصير برتقال، وقال لي اجعلها تستريح حتى المساء، وفعلًا أتى إلى المنزل في نحو التاسعة، واطمأنَّ على سارة وخرج بعد أن أعطانا نتيجة التحليل.

وفي الصباح استدعينا الدكتور السعيد يونس الذي أكد صحة تشخيص المسيري، وقال لنا لا تقلقوا فالأطفال ﺑ «ياخدوا الصفرا على رجليهم»، يقصد أنهم لا يتطلبون من الراحة ما يتطلبه الكبار. ولم تَمضِ أيامٌ معدودة حتى كانت سارة قد شفيت، ولكن هذه الأحداث جعلت نهاد عازفة عن العودة إلى السعودية، وكانت تشعُر بأنها مرغمة على ذلك، بسبب العقد الذي وقَّعَته، ويتضمن شرطًا جزائيًّا، إلى جانب الالتزام الأدبي. وكانت تعاني وتكتم معاناتها؛ فأسرتها الصغيرة في حاجة إليها، وأسرتها الكبيرة ليست أقل حاجة؛ ومن ثَم توجَّهنا إلى مقر البعثة السعودية حيث اتفقنا على إمكانية إلغاء العقد في منتصف العام — أي بعد ثلاثة أشهر أو أربعة — ثم سافر الجميع من جديد بعد العيد، وعُدتُ إلى الوحدة والوحشة.

ومع بداية أكتوبر كنتُ قد قطعتُ شوطًا لا بأس به من كتاب رشاد رشدي — نحو ثلاثة فصول — أرسلها في الحقيبة الدبلوماسية من مكتب أسامة الباز — وفوجئتُ ذات يومٍ في الجامعة بالدكتور مصطفى محمود (الكاتب) داخلًا ومعه كتابٌ صغير عنوانه هو الماركسية والإسلام، وطلب مني أن أترجمه. ووجدتُه صغيرًا فقَبلْت، وجعلتُ أترجم فيه على فترات، وكنتُ أجد مشقةً كبرى في الترجمة بسبب أسلوب الكاتب الاستطرادي؛ فهو يقفز من فكرة إلى فكرة داخل العبارة ويغيِّر النبرة داخل الفقرة الواحدة، ولكنني كنتُ أشغل نفسي به في لحظات الفراغ وما كان أقلَّها في تلك الأيام!

هل كان ذلك ما عُدتُ إلى مصر لأفعله؟ أين طموحاتي الأدبية؟ أين كتابة المسرح؟ أين الترجمات الأدبية التي كنتُ بدأتها بمسرحية مسافر ليل لصلاح عبد الصبور، وهي الآن قابعة في قاع الحقيبة الضخمة في منزل والدي؟ وفحصتُ ذات مساء مخطوط مسرحية لم يُقدَّر لها أن ترى النور أبدًا عنوانها «الزيارة» فوجدتُ النص أوروبيًّا في بنائه وصوغه، ومن المحال تحويله إلى نص عربي الروح مثلما هو عربي اللغة، ونظرتُ أيضًا في مخطوط مسرحيةٍ أخرى لم أكتب منها إلا بضع صفحاتٍ قبل أن أسافر وعنوانها «السجين والسجان» — فأعجبَتْني حيوية الحوار وغرابة الموقف وتمنيت أن أكملها! وكانت لديَّ بعض أوراقٍ خطَّطتُ فيها «موقفًا» من مواقف مسرحية «الغنم» التي كانت تشغلُني طيلة السنوات العشر السابقة — وفيها أتصوَّر موقفًا غريبًا يتمثل في «فرار» الغنم من الحظيرة كأنما قامت بثورة! وأنطلق من ذلك الموقف لتأمل مفهوم الاشتراكية الذي أخذنا به في مصر، وكيف تتحول مبادئها إلى قيمٍ غامضة لا علاقة لها بالنظام الذي وضَعه العالم وطوَّره — وكان يغيظني أن أقرأ عباراتٍ مثل «جهاز عروسة اشتراكي» في الصحف، أو أسمع كلمات (في أغنية لعبد الحليم حافظ) تقول «لو تخدم باشتراكية» أو «يا عديم الاشتراكية» — تُرى ما معناها؟ هل يفهم الشعب المصري وغالبيته من الأميين معنى ذلك النظام الاقتصادي بشتى صوره الأوروبية؟ وتصوَّرتُ أن أسخر من فهم المصريين للقيم النبيلة أو عدم تحويل تلك القيم إلى واقعٍ عملي في المسرحية — وكان تفكيري أيضًا غريبًا؛ بمعنى أنه كان يفترض قدرة القارئ أو المشاهد على إدراك معنى «التورية الساخرة» أو المفارقة الدرامية (dramatic irony) وكان ذلك خطأ. كان كل شيء في حياتي الأدبية قد انفرط عقده، وكانت الأيام تجري كأنما دون هدف — وكأنما كنا جميعا نتسابق نحو الغاية المحتومة دون مبرر لحياتنا أو أحلامنا — كان أكتوبر ١٩٧٦م شهر «الانقباض الأعظم»!

٥

واتصلَت بي في نوفمبر نهى بدوي، وقالت إن هناك فرصةً للاشتراك في مؤتمر في الجزائر، وإن التذكرة موجودة في مكتب شركة الخطوط التونسية، فذهبتُ إلى الكلية وقدَّمتُ طلبًا للسفر؛ أي لاستخراج الورقة الصفراء. وكان معنى السفر أثناء العام الدراسي، ضرورة موافقة القسم ثم العميد ثم مجلس الكلية، ثم رئيس الجامعة، وهي إجراءات تستغرق وقتًا طويلًا، ولكن إغراء السفر لرؤية الجزائر وكسب المال أيضًا كان لا يُقاوَم. وشرعت في الإجراءات حتى انتهت، وتسلَّمتُ الورقة الصفراء من مدام وجيدة، وخرجتُ سعيدًا؛ فالتذكرة في جيبي ولم يعُد هناك مجال للقلق. وعندما وصلتُ إلى المطار وتوجَّهتُ إلى ضابط الجوازات قال إن الورقة الصفراء لا تصلُح! وتطلَّعتُ إليه في ذهول! هل هي مزوَّرة؟ ما عليه إلا أن يتصل تليفونيًّا بالعميد ليتأكد بنفسه من صحتها! ولكنه ضحك قائلًا: أين ختم النسر؟ وفوجئتُ وانعقد لساني، لم يخبرني أحد بضرورة ختم النسر! وبذلتُ محاولاتٍ متعددة لإقناع الضابط الكبير الذي كان يتكلم كأنه صاحب المطار أو صاحب مصر نفسها — وحاولتُ بكل ما أوتيتُ من لباقة إقناعه بالاتصال بالكلية أو قبول إقرار مني أو أي شيء — ولكنه قال كلامًا مهينا بصوته الجَهْوري الأجش الذي لا تزال أصداؤه ترن في ذاكرتي بعد هذه السنين كلها، فخرجتُ واستعدت حقيبتي وقررت إلغاء الرحلة. وعندما عدت إلى الكلية وقصصت عليهم القصة كان رد الفعل مزيجًا من الرثاء والسخرية والتشفي! أفلا يعلم هذا العائد من إنجلترا أن ختم النسر هو سر الحياة؟

لم يتغير في مصر شيء إذن — وتأملتُ ما أنفقتُ في استخراج الورقة الصفراء؛ إذ كان على الساعي — بعد الحصول على توقيع رئيس القسم — أن يحصل على توقيع العميد، ثم غالبية أعضاء مجلس الكلية، فيما يُسمَّى «القرار بالتمرير» — أي أن يمُر عليهم في أماكن عملهم أو في منازلهم في الأوقات التي يُحتمل العثور عليهم فيها، وكنت أصاحبه بالسيارة في هذه الرحلات إلى المنازل، وكان كلما حصل على توقيع صاح صيحة الظفر، حتى إذا اكتمل العدد المطلوب (أكثر من ٣٥ توقيعًا) طار إلى العميد ثانيًا للأمر بإعداد مذكرة وكتابتها على الآلة — الكاتبة في قسم «النسخ» — ثم حمل المذكرة إلى إدارة الجامعة. وكان رئيس الجامعة في اليوم الذي زرناه فيه غائبًا في الفيوم، فتطوع أحدهم بإدراج المذكرة في «البوسطة» التي ستُحمل إليه، والعودة بها «إكرامًا لخاطري» في اليوم التالي، فإذا تم التوقيع عادت المذكرة إلى الكلية لاستخراج الورقة الصفراء، وتوقيع العميد عليها من جديد! ولكن ختم النسر أبى واستعصم فطارت الرحلة!

وفكَّرتُ في أحداث العام المنصرم، وجعلتُ أتأمل الآمال الضائعة والآمال التي تحقَّق بعضها ولو بصعوبة، فقرَّرتُ أن أشغل وقتي بالقراءة مثلما كنتُ أفعل في إنجلترا، وفي الكتابة التي جئت إلى مصر من أجلها. وساعدني جو الخريف الجميل على تحقيق بعض من هذا وذاك، فأخرجتُ الصور الفوتوغرافية (الزيروكس) التي كنتُ صوَّرتُها لمخطوطات الشاعر الإنجليزي وردزورث، والتي تتضمن مسوَّدات السفر الأول والسفر الثاني من قصيدته «المقدمة»، وهي سيرةٌ ذاتية كُتبَت شعرًا وكنتُ درستُها في إنجلترا. وقرَّرتُ أن أحقِّق النص الأول لهذَين السفرَين استنادًا إلى هذه المخطوطات بعد أن أنفقتُ الكثير في سبيل الحصول عليها؛ فالسفران يمثلان قصيدةً مكتملة، ولو أن الشاعر عاد إليهما قبل أن ينشرها فاستكمل سيرته الذاتية، وزاد عدد الأسفار إلى ثلاثة عشر سفرًا في عام ١٨٠٥م. ووجدتُ أن تحقيق النص الأول ونشره مع مقدمةٍ وافية يمكن أن يشغلني في ذلك الشتاء، بل إنه كان يمثل حُلمًا من أحلام دراستي في إنجلترا، فعكفتُ على ذلك العمل حتى آخر العام.

كنتُ سعيدًا — لا شك — باستغراقي في الدراسة؛ فلم أعد أذهب إلى الأزهر ولا إلى الفيوم. وحصرتُ نشاطي كله في جامعة القاهرة وأكاديمية الفنون، حتى انتهيت من تحقيق النص ومضاهاة القراءات المختلفة في شتى المخطوطات بما استقَر عليه الشاعر آخر الأمر. وكتبتُ في غضون ذلك دراسةً مستقلة ومنفصلة لمفهوم الأسلوب عند ذلك الشاعر، منطلقًا من مقولة «ماثيو أرنولد» إن الشاعر لم يصطنع لنفسه أسلوبًا خاصًّا، بل كان يكتب ما تمليه عليه الطبيعة، وما جاء في مقاله عنه من أن الطبيعة نفسها هي التي كانت تمسك بالقلم وتكتب له! وعندما اكتملَت الدراسة عرضتُها على أستاذتي الدكتورة فاطمة موسى، فرحَّبَت بها، واقترحَت نشرها في مجلة الكلية. وعُدتُ أنا إلى التحقيق، فكتبتُ له مقدمة من خمسين صفحة، ولكن أبواب نشر ذلك العمل كانت مغلقة في مصر، فوضعتُ كل شيء في الدرج، وعُدتُ إلى مسرحيتي القديمة «الغنم» فقطعتُ فيها شوطًا طويلًا، وكنتً أشعر بحاجة ماسة إلى عرض ما كتبتُ على ناقد أو كاتب أو مخرج، ولكن الأصدقاء كانوا في السعودية، فوضعتُ ما كتبت أيضًا في درج المكتب، وشغلتُ نفسي بالترجمة والتدريس وحسب.

وفي يناير ١٩٧٧م اتصلَت بي إدارة المؤتمرات بوزارة الخارجية، وكلَّفَتني بالسفر إلى دار السلام (تنزانيا) للترجمة في مؤتمر تعقده لجنة التنسيق لتحرير أفريقيا المنبثقة عن (أو التابعة) لمنظمة الوحدة الأفريقية، فركبتُ الطائرة في الواحدة صباحًا ووصلت إلى دار السلام، مرورًا بنيروبي (كينيا) في نحو التاسعة، بعد ليلة لم أنم فيها إلا لمامًا، فوجدتُ في انتظاري الأستاذ محمد متدن (واسم الأسرة باللغة السواحلية تحريف للكلمة العربية متديِّن) ومعه جميع وثائق المؤتمر التي يريد ترجمتها بالعربية. وطلبتُ منه أن يمهلني حتى أنال قسطًا من الراحة، ولكنه أصَر على ترجمة إحدى الوثائق فورًا؛ لأن الجلسة الأولى ستُعقد في الرابعة من عصر ذلك اليوم، ولا بد من النص العربي في أيدي المندوبين من السفراء أو وزراء الخارجية العرب. وصَدَعتُ بالأمر، وتحقَّق ما يشبه المستحيل بفضل عبد الرحيم شلقامي — أسرع من يكتب على الآلة الكاتبة العربية في العالم — إذ جلستُ معه في غرفة بمقر اللجنة، وشرعتُ أترجم ترجمةً منظورة at sight أي أقرأ النص الإنجليزي بالعربية، وهو يكتب بسرعة نطقي للكلمات، مثلما كنتُ أفعل مع «جنيفر باتشلور» (جيني) الإنجليزية إبَّان الأزمات في إنجلترا! وكان أحد العاملين يأخذ الصفحات المكتوبة على الإستنسل (قبل شيوع آلات التصوير أو النسخ) فيستخرج منها النسخ المطلوبة، حتى إذا حان موعد الجلسة كان النص العربي في أيدي الجميع.

واستمر الإرهاق في أفريقيا عدة أيام متوالية، لم يخفِّف منه سوى متعة مشاهدة أفريقيا السمراء، ومقابلة أحد تلاميذي السابقين في قسم اللغة الإنجليزية، وهو إبراهيم الخضري، الذي كان يعمل آنذاك ملحقًا صحفيًّا بالسفارة المصرية. وكان إبراهيم طموحًا شديد الذكاء ذا طابعٍ عملي في حياته — فهو من دمياط، المجتمع الصناعي الذي لا يفهمه الكثيرون — وشديد الولع بالفكاهات والقفشات، فدعاني إلى الغداء في منزله عدة مرات، وفي فندق على ساحل المحيط اسمه «بحاري بيتش»، وكان قد تعلم اللغة السواحلية أيضًا وأجاد فهم أبناء أفريقيا، فكان خير عوض عن إرهاق الترجمة. وقد قُدِّر لنا أن نلتقي فيما بعدُ ونعمل معًا فتراتٍ طويلة في قسم الترجمة العربية بمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة في روما. وقابلتُ بالمصادفة سفيرنا في دار السلام أحمد حتاتة (رحمه الله)، الذي كانت تربطه بالأسرة صلة نسب، فدعانا إلى منزله أيضًا (أنا وفريق الترجمة؛ آن ماري جريس، وسميرة عبد السيد، وشوقي الكيلاني، ونهوت عبد الله). وبعد انقضاء الأسبوع تقاضيتُ الأجر، وكان ٤٥٠ دولارًا، وعُدتُ إلى القاهرة محملًا بالشاي ولوز الكاشو (يكتبونها كاجو في مصر الآن محاكاةً للنطق العربي الذي يعطِّش الجيم).

وعُدتُ إلى الجامعة للتدريس يوم السبت ١٥ يناير ١٩٧٧م، وكنتُ قد انقطعتُ عن أخبار مصر أثناء الرحلة، فسمعتُ من الزملاء كثيرًا من الأحاديث عن الأزمة الاقتصادية. وكان معظم أصدقاء الستينيات قد خرجوا من مصر في إعارات للعمل بالبلدان العربية، أو بالأمم المتحدة، بعد أن أصبح الخروج من مصر ميسورًا. ولم يكن هناك مَن أستطيع مناقشته في الشئون العامة غير أصدقاء الصِّبا، الأستاذ أحمد السودة، والأستاذ ماهر البطوطي، ولم أكن أقابلهما سوى يوم الجمعة، فخرجتُ في مساء ذلك السبت إلى منزل رشاد رشدي لأطمئن عليه، فإذا به ما زال يعاني من نوبة الإنفلونزا الحادة. وسمعتُ أن الرئيس السادات قد اتصل به تليفونيًّا من أسوان ليطمئن على صحته. ومكثتُ ساعتَين أحطتُ فيهما بما فاتني من أنباء؛ إذ توافد الأصدقاء وجعلوا يطرحون من الآراء ما ذكرتُه بعد ذلك في خطاباتي إلى سمير سرحان ونهاد زوجتي وهما في جدة.

كان أهم ما سمعتُ في تلك الجلسة أن معارضي السادات، ومعظمهم من مؤيدي عبد الناصر، غير مقتنعين بسياسة الانفتاح التي أدت إلى «توحُّش» بعض التجار الذين استغلوا فتح الأبواب للإثراء السريع دون وازعٍ من ضمير؛ ومن ثَم إلى نشأة طبقة يتزايد عدد أفرادها من المستغلين والجشعين، فأصبح من الصعب الحصول على مسكن بالإيجار، وارتفعَت أسعار الوقود نتيجة ارتفاع أسعار النفط عالميًّا، وتعالت أصوات المعارضين، والسادات يسمح لهم بإصدار الصحف الجديدة والحديث دون خوف. وكنت أستمع في صمت فأنا بطبعي عازف عن الكلام فيما لا أعرف، وعندما احتدم النقاش مِلْتُ على أحد الضيوف فسألته عن حقيقة الانفتاح — وكان ملمًّا بالجوانب الاقتصادية «السرية» التي أجهلها ويجهلها الكثيرون — فقال لي: «إنك لا تستطيع تحويل النظام الاشتراكي إلى نظام رأسمالي بين يوم وليلة! فهذه هي الوصفة الجاهزة والسريعة للتمزُّق الاجتماعي، وأوضح مجال لذلك هو الطعام؛ فالناس لا بد أن تأكل، ونحن لا ننتج كفايتنا من الأغذية، والمستوردون من الأفراد والشركات الخاصة يستغلون ذلك أبشع استغلال، بعد أن غابت رقابة الدولة تقريبًا!»

وسألتُه إن كانت الحكومة قد تخلت عن مسئوليتها في الرقابة حقًّا، فقال كلامًا سجَّلتُه في خطابٍ مطوَّل أرسلتُه يوم الأحد إلى نهاد زوجتي، وملخَّصه أن الكبت والانغلاق في أيام ما كان يُسمَّى بالاشتراكية أوجد فئةً من المتحايلين على القوانين، وأن هذه الفئة تنخر كالسوس في جسد الاقتصاد المصري، يساعدهم في ذلك الفاسدون من العاملين في الحكومة، والفساد يستشري في كل نظامٍ مغلق بطبيعة الحال، ولكنه ينمو ويزدهر في مراحل التحول الاجتماعي، خصوصًا إذا كان ذلك التحول فجائيًّا! وقلتُ له إن السادات سوف يحصل على الأموال اللازمة للنهضة الاقتصادية من إخواننا العرب، ولخصتُ له ما نشرَتْه صحيفة التايمز البريطانية عن الخطة الرئيسية master plan التي أعدَّها السادات بمساعدة شركات الخبرة الأجنبية لتحويل شرق الدلتا ومنطقة قناة السويس إلى منطقةٍ صناعية كبرى، وبها موانئ للتصدير، وحدثتُه عن الوعد الذي تلقاه من العرب عام ١٩٧٥م، بعد إعادة فتح القناة، بالمساهمة في هذه الخطة بنحو عشرة مليارات دولار.

وضحك الضيف قائلًا: وهل صدَّقت الصحيفة البريطانية؟ لن يحصُل السادات على شيء من إخواننا العرب؛ فلكلٍّ منهم همومه ومشاغله. ودعني أؤكِّد لك أن السادات يعلم ذلك، أو أصبح يعلمه بعد أن قضى ما يقرب من عامَين في الاستجداء! وأخشى ما أخشاه أن يُفلِت زمام الموقف من يده وأن يُفاجأ بانفجارٍ غير متوقع! لقد كان الناس يتوقَّعون بعض التحسن الاقتصادي بعد نصر أكتوبر، ولكن انظر ما يحدث الآن!

وعندما عُدتُ إلى المنزل تذكَّرتُ رواية ابن آوى للكاتب الإيطالي جيبوسيبي لامبيدوزا، التي يُصوِّر فيها تحولًا مماثلًا إبَّان توحيد إيطاليا في القرن التاسع عشر، ويصف فيها بالتفصيل ما يُسمِّيه بالطبقة الوسيطة؛ أي التي تَكسبُ دائمًا في كل تحولٍ اجتماعي؛ فهي تستفيد من الانهيار مثلما تستفيد من الازدهار، وسلاحها دائمًا هو الاستغلال وخدمة المصالح الشخصية. وذكَرتُ مسرحية السبنسة لسعد الدين وهبة، التي يقول فيها أحد الأشخاص إن القطار قد يسير في اتجاهٍ معيَّن فتصبح العربات الأولى هي الدرجة الأولى، أو في الاتجاه المعاكس فتصبح الدرجة الثالثة (السبنسة) هي الأولى، ولكن الدرجة الثانية تظل دائمًا درجةً ثانية! وعندها عُدتُ إلى مسرحيتي الغنم فألححتُ على اختلال المفاهيم خصوصًا ما يتعلق منها بالسلطة والشعب، وما يتصل منها بمفهوم الاشتراكية الذي شوَّهناه في مصر، على نحو ما ذكرتُ آنفًا. ولم أكن قادرًا على الوصول إلى الفصل الثالث، كأنما كنتُ أنتظر الأحداث العامة التي تحدِّد لي مسار الكتابة!

كانت الصحف في ذلك الأسبوع تركِّز على الأزمة الاقتصادية، ووجدتُني رغمًا عني أناقش الموضوع مع كل من أعرفه. وفي صباح الثلاثاء ١٨ يناير ١٩٧٧م صدَرَت الصحف وهي تحمل أنباء زيادة أسعار الكثير من السلع الأساسية ومنها وقود السيارات. وكنتُ في أكاديمية الفنون، فقابلت المخرج «حسن» الذي بادرني بالتحية وشدَّني شدًّا إلى ركنٍ قصي كأنما يريد أن يُسِر إليَّ بما كان يشغله من أمور المسرح (أو النساء)، وجلسنا في حديقة المعهد، وأبديتُ له استعدادي الكامل للإصغاء، فإذا به يحدِّثني عن الضائقة الاقتصادية! ولم أكن أتوقع ذلك فسألتُه أن يوضِّح لي ما غمض عليَّ من علاقاته مع الفنانات، فضحك ضحكةً مقتضبة «خلينا في المهم»؛ ومن ثَم انطلق يتحدث عن أزمة مسرح الدولة وما يتهدَّده من خطر الانهيار، وانتشار فرق القطاع الخاص، والمهازل التي تقدَّم باسم «الهزليات» الغنائية أو الموسيقية. ولم أجد في ذلك كله ما يستدعي جو السرية الذي أشاعه دون مبرر، فقلتُ له إنني مرتبط بعدة مواعيد ولا بد أن أنصرف، فحدَجَني بنظرة عتاب قائلًا: «أتترك أخاك في محنته؟» وكان ذلك كافيًا لشد انتباهي فقلتُ له: «ما تلك المحنة؟» فقال: «لقد قرأتُ ما أعلنَتْه الحكومة اليوم من قرارات برفع جميع الأسعار، ومنها أسعار البنزين، بل والغاز والكيروسين، وربما شعَرتُ بضيق الناس لهذا الغلاء المفاجئ؛ فالمكوجي كان يتقاضى قرشًا ونصفًا عن كي القميص فأصبح يتقاضى قرشَين، وأنا غارق في الديون إلى أذني!» وفهمتُ ما يرمي إليه ولكنني لم أعلِّق، فاستمر قائلًا: «إن الفنانة الشهيرة التي رأيتَها في الهرم هي زوجتي! وصديقتها التي كانت تجلس معها هي خطيبتي!» وكدتُ أضحك، ولكنني تماسكتُ وأمسكتُ لساني. وساد الصمت المتوتر لحظاتٍ كنتُ أنتظر فيها نهاية القصة وأتوقع طلب العون، ولكنه نهض وقال: «لعلك فهمتَ الآن سر الأزمة! لقد تعاقدتُ على إخراج مسرحية للقطاع العام، ثم تآمر الناس ضدي دون سبب مفهوم، فطارت المسرحية، وأنا الآن مضطر إلى إخراج هذا الهراء (تفضل! اقرأ). وأخرج من حقيبته مخطوطًا لمسرحية دون عنوان، تصفَّحتُها فقرأتُ ما يمكن تسميته بالحوار وإن كان على درجة من الانحطاط لم أعهد مثلها يومًا ما. وقبل أن أبدي أي رأي بادرني قائلًا «لا بد من إخراجها مهما بلغ من ابتذالها فهي مصدر الرزق الأوحد! ما رأيك؟»

كان الموقف محيرًا وغريبًا وبه عناصر «عبث» واضحة. وحاولتُ بالمنطق الهادئ الذي اعتدتُه أن أربط بين علاقاته النسائية وأزمته المسرحية فلم أفلح. ووجدتُني مضطرًّا إلى سؤاله، وكانت إجابته حاضرة؛ إذ قال إنه سوف يسند دور البطولة إلى زوجته؛ فهذا هو «المعقول» الوحيد، ودور الراقصة إلى خطيبته، فهذا «معقول» أيضًا، ولكنه يخشى أن تُفصح أيٌّ منهما لصاحبتها عن علاقتها به؛ إذ إن زواجه من الأولى زواج «سري» حتى تلك اللحظة، وكذلك خطبته للراقصة! وأبديتُ له دهشتي، قائلًا إنهما صديقتان وكانا يتسارَّان معًا يوم لقائنا في الهرم، فأجاب بأن زوجته لا تعرف إلا أن الراقصة (وقد اتضح أنها قد طُردَت من المعهد) تشارك في الأعمال الفنية فقط، وأن الراقصة لا تدري شيئًا عن زواجه؛ فهو يعيش وحده في شقة في «منيل الروضة»، وزوجته تقيم مع والدتها المسنة التي فقدت السمع تقريبًا، وتعتمد اعتمادًا كاملًا على ابنتها في كل شيء!

ولم أدرِ بمرور الوقت وأنا أستمع لهذه الأقاصيص التي بدت لي أغرب من الخيال؛ إذ تبيَّنتُ أن موعد محاضرتي لدبلوم الترجمة في الجامعة قد حان، فتململتُ في مقعدي وأنا أنظر إلى الساعة كأنما لألفتَ انتباهه إلى الزمن، ولم يغب عن نظره ذلك فأسرع يقول: «كل ما أردتُ اليوم هو إشراكك معي في الأزمة؛ فأنا أعرف أنك كاتب مسرحي موهوب، ولو قدَّمتَ لي نصًّا محترمًا فسوف ينقذني من هذه الورطة.» فأخبرته أن «الغنم» لم تكتمل، فأسرع يقول «مسرحية مترجمة يا أخي؟» فقلتُ له «المترجمات كثيرة!» فقال «لا! ولكن ترجم لي نصًّا جديدًا نقدِّمه معًا إلى المسرح القومي مثلًا … أو الحديث … فيعود علينا جميعًا بالخير.» وابتسمتُ ووعَدتُه خيرًا، فأردف يقول بالإنجليزية:

Meanwhile, you haven’t got a tenner to spare by any chance?

وقلتُ في نفسي إن هذه الأقاصيص تساوي عشرة جنيهات ولا شك! فأخرجتُ الورقة المالية ودفعتُ بها إليه، فعاد يقول بالإنجليزية:

A temporary loan, of course!

وأمَّنْتُ على كلامه مكررًا «طبعًا طبعًا»، وانصرفت.

وانهمكتُ في التدريس عصر ذلك اليوم، وشغلَتني المشاكل اللغوية عن «حسن» و«حواديته»، وإن كنتُ في أعماقي أكابد صعوبةً في تصديق ما قاله. وكان من الممكن ألا أذكر هذه القصة باعتبارها من نسج الخيال، شأنها في ذلك شأن الكثير من قصص أهل الفنون، لولا ما ثبَت من صدقها في الأعوام التالية، وما أدت إليه من أحداث بعضها مستمر إلى يومنا هذا (٢٠٠٠م)، ولكنني كنتُ في دروس الترجمة — ولا أزال — أنسى الدنيا وما فيها؛ إذ حلَّ الظلام وأضيئت أنوار قاعات الدرس. وفي نحو السابعة مساء طرق الباب عم محمد شهاب، فراش القسم، وقال لي ماذا تفعل؟ المظاهرات في الشوارع، والدنيا مقلوبة! فأنهيتُ الدرس فورًا وسمحتُ للجميع بالانصراف، ثم مررتُ على والدي ووالدتي للاطمئنان عليهما، فوجدتُ أخي مصطفى أيضًا، الذي قال لي إن المتظاهرين يخلعون بلاط الشوارع، ويقذفون أعمدة الإنارة بالأحجار، فعدتُ إلى المنزل، فلم أجد أخبارًا في الإذاعة والتليفزيون عما يحدث، باستثناء ندوةٍ اقتصادية بين كبار علماء الاقتصاد والقانون.

وفي الصباح، سمعتُ أن الحكومة قد فرضت حظر التجول اعتبارًا من الساعة الواحدة ظهرًا، وكنتُ آنذاك في السيارة الصغيرة، حين قطع المذيع الأغنية ليذيع القرار. وكنتُ قد وصلتُ إلى قرب ميدان الدقي، فأوقفتُ السيارة في شارع التحرير (غربي الميدان) وخرجتُ لأنظر فوجدتُ حشدًا هائلًا من البشر الذين يصيحون ويصرخون، بعضهم يجري في اتجاه الجيزة، وعددًا من الصغار يجرون نحوي خوفًا وذعرًا، وجاءني أحدهم وهو يبكي ويقول: «لقد خطفوا البلوفر!» فأيقنتُ أن الشغب جاد، فعُدتُ إلى السيارة وعُدتُ أدراجي، وظلِلتُ أستمع إلى الإذاعة حتى اقترب موعد حظر التجول، وصدَرَت البيانات الرسمية عن أعمال الشغب. وكنتُ أقف في صيدلية «الصفاء» القريبة من منزلنا، فقال لي الدكتور إننا يجب أن نعود إلى بيوتنا، فلا يعلم إلا الله ما يكون من أمر تلك الثورة.

كان الإحساس بالعزلة غريبا في مصر، إذ خرجتُ إلى الشرفة لأرقب المارة والسيارات فلم أجد أحدًا على الإطلاق. وفي نحو الساعة الرابعة وصلَت سيارة مصفحة بها جنود ومدافع رشاشة، فوقفَت عند تقاطع شارعنا (شارع دمشق) مع الشارع الرئيسي (شارع سوريا) وظل الهدوء مخيمًا حتى أظلمت الدنيا، واستأنستُ بالتليفزيون الذي كان يذيع فيلمًا من أفلام عبد الوهاب القديمة، وكان المذيع يقاطع الفيلم بين الفَينة والفَينة ليذيع بيانًا أو بلاغًا. وعندما حان موعد نشرة الأخبار، ذكَر التليفزيون أن الرئيس السادات عاد من أسوان لمتابعة الموقف، وأنه سيُلقي خطابًا في اليوم التالي.

وسرعان ما رُفع حظر التجول، وعدَلَت الحكومة عن رفع أسعار بعض السلع، ولكن الرجَّة التي أحدثَها خروج الجماهير إلى الشوارع كانت عنيفة، وحدَستُ أنها لن تمُر بسلام. وتبارى المحللون السياسيون وكُتاب صحف المعارضة الوليدة في تقديم تفسيراتهم، وكان بعضها يؤيِّد ما قاله السادات في خطابه من أن تلك الفَورة لا تعدو كونها بعض أعمال الشغب الإجرامي، وبعضها يصفها بأنها ثورةٌ شعبية على الحكم، وعلى رئيس الدولة تحديدًا فأسمَوها انتفاضة شعبية، وأسماها السادات «انتفاضة الحرامية». وقدَّمَت بعض الدول العربية الغنية بعض الأموال إلى مصر لإغاثتها في تلك المحنة الاقتصادية. وقد اتضح للجميع أنها ليست أزمةً عابرة، وأن أحداث المستقبل لا بد أن تكشف الكثير عما وراءها.

وكان من عاداتي التي لم أقلع عنها منذ عودتي إلى إنجلترا عادة الاستماع إلى الإذاعة المصرية والإذاعة البريطانية، وخصوصًا إلى الخطابات السياسية (إذ كنتُ أترجمها إلى الإنجليزية من باب كسب الرزق). وكان اهتمامي بمتابعة تطورات الأحداث العالمية قد أصبح عادةً مكتسبة، والعادة — كما يقولون — طبيعةٌ ثانية، فلاحظتُ في الخطابات التي كان يلقيها الرئيس السادات تغييرًا ما في النبرة، خصوصًا فيما يتعلق بالمساعدة المتوقَّعة من أشقائنا العرب، الذين أصبحوا من أغنى دول العالم، بعد تضاعُف سعر النفط أضعافًا مضاعفة. وكنتُ ألمح ضيقًا، في خطاباته الجماهيرية، وبَرمًا بعدم تحقيق ما يبدو أنه وُعِد به أو كان يتوقعه. كما لاحظتُ أن سياسة الانفتاح — على كل مساوئها — قد سمحَت بقَدْرٍ من حرية التعبير في الصحف (على الأقل) لم نكن نحلم به من قبلُ، مما أتاح لي تطارُح الآراء دون خوفٍ مع أصدقائي المخلصين من المؤمنين صدقًا وحقًّا بالاشتراكية. وكنتُ لسببٍ غامض غيرَ محسوبٍ من أي طائفة إلا إذا اعتبرنا أن دراستي العربية المبكرة وإقامتي الطويلة في إنجلترا، وارتباطي الشديد برشاد رشدي قد جعلني أبدو أقرب إلى اليمين في نظرهم مني إلى اليسار. ولم أكن أكثرث لذلك التصنيف آنذاك على أي حال؛ فلستُ ولم أكن مفكرًا سياسيًّا، وإن كانت السياسة تفرض نفسها فرضًا على كل أديبٍ مهما حاول التملُّص والتخلُّص!

ونتيجةً للمناقشات المستفيضة في ربيع ١٩٧٧م، عُدتُ إلى مسرحيتي، وقد اقترح المخرج العبقري كمال يس — رحمه الله — تغيير اسمها إلى ميت حلاوة، فأكملتُ الفصل الثالث الذي أسخر فيه من نوع الفكر الذي يُسمى اشتراكيًّا ظلمًا، وهو الشائع في بلدان العالم الثالث التي لم يُكتب لها أن تمُر بمراحل التطور الاجتماعي الأوروبي الذي أثمر الاشتراكية المعروفة، وكانت مصر قد أخذَت بجانبٍ منه ولم تأخذ بجوانب. وكنتُ — كما سبق أن قلت — أسخر من سوء الفهم وسوء التطبيق، ومن صورٍ معروفة من صور الانحراف بالسلطة؛ ومن ثَم دعوتُ أصدقائي إلى جلسة في منزلي بعد عودة نهاد من السعودية، وكانوا تحديدًا سمير سرحان وعبد العزيز حمودة، وفوزي فهمي، ونهاد جاد زوجة سمير، وكمال يس، ونهاد زوجتي، وقرأتُ عليهم المسرحية، وبدا عليهم السرور، ثم بدأَت المناقشات التي انتهت إلى ضرورة تعديل الفصل الثالث، وكانوا مُحقِّين تمامًا، ولو أنني قرَّرتُ آنذاك أن أضعها في درج المكتب ريثما يأتي الخريف ويبدأ الموسم المسرحي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤