الفصل الثاني

١

شُغلتُ طيلة الصيف بترجمة البحث عن الذات إلى الإنجليزية، وكان الدكتور رشاد رشدي يتعجل الرئيس السادات للانتهاء منه، فدعاه الرئيس إلى زيارته في الإسكندرية للانتهاء من الفصول الأخيرة، فنزل في فندق فلسطين، وكان يزوره في استراحة المعمورة حتى تكتمل الشرائط التي يسجِّلها الرئيس بصوته، ثم تتولى السكرتارية الخاصة تفريغها، وبعد ذلك يقوم رشاد رشدي بتحرير النص وإعطائي الفصول لترجمتها، وكانت نهاد زوجتي تكتبها على الآلة الكاتبة، فإذا صادفَت شيئًا لا يروقها نبَّهَتني حتى أعدِّله أو أصحِّحه قبل إرساله إلى رشاد رشدي.

وانتهى الكتاب في أكتوبر ١٩٧٧م، وكانت خطابات الناشر الأمريكي تعرب عن السعادة بالمادة المرسلة، ثم تحدَّد موعد سفر رشدي إلى أمريكا للإشراف على الطباعة، وكان على مدار العامَين السابقَين يعاني من انزلاقٍ غضروفي في فقرات الظهر العليا عند العنق، وكان ذلك يسبِّب له آلامًا مبرحة، فانتهزها فرصة ليعرض نفسه على الأطباء في أمريكا، وفعلًا جاءنا في منزل رشدي نصُّ الكتاب بعد ملاحظات الرئيس السادات والتعديلات التي أدخلها بخط يده، وكان يستخدم الحبر الأخضر فيما يضيفه إلى النص، وإن لم يحذف شيئًا، فعكفنا أنا والدكتور رشدي على مضاهاة النصَّين العربي والإنجليزي حتى نضمن تطابُق التعديلات، ثم أراني رشدي الخاتمة التي كان كتبها بالعربية واختار لها العنوان الإنجليزي epilogue وهو عادة ما نترجمه بتعبير «بعد إسدال الستار»، ولكنه لم يرُق له لأنه ينذر بأن قصة الحياة آذنَت بالمغيب. وظلِلْنا ساهرين حتى الرابعة صباحًا هو يكتب العربية وأنا أصوغها بالإنجليزية، وليس معنا سوى مدام ثريا زوجته. وعندما انتهينا من الخاتمة باللغتَين نهضتُ للخروج، ونهض لوداعي. وبعد أن غادرتُ الشقة خطر لي خاطر فعُدتُ أطرق الباب، ولما فتحه لي بنفسه قلتُ له فلنقل «وبعدُ» فحسب! فبدا عليه الارتياح وعُدتُ إلى المنزل مع تباشير الصباح الأولى.

وبعد أن سافر الدكتور رشدي تطوَّرَت الأحداث سريعًا؛ إذ أعلن السادات اعتزامه زيارة القدس لصلاة العيد (عيد الأضحى) في المسجد الأقصى، وهو ما أصبح يُسمى بالمبادرة. واتصلَت بي السكرتارية الخاصة للرئيس، وحُدِّد لي موعد في أوائل ديسمبر، حيث تسلَّمتُ شريطًا عليه تسجيلٌ صوتي للرئيس لفصلٍ جديد يُضاف إلى الكتاب العربي، وطُلب مني أن أترجمه وأرسله عن طريق السكرتارية إلى رشدي في أمريكا. وفعلتُ ذلك، فأرسل لي رشدي من أمريكا نصًّا جديدًا للخاتمة بالإنجليزية، وطلب مني أن أضاهيه بالنص العربي القديم، وأن أدرج الإضافات الإنجليزية بالنص العربي، وأسلِّمه إلى الحاج أحمد يحيى، ناشر النسخة العربية، وصاحب المكتب المصري الحديث، دار النشر المرموقة.

ولم يصدُر الكتاب باللغتَين إلا في أبريل ١٩٧٨م، ولكن مجلة Time نشرَت مختارات من الفصول الأولى للكتاب قُبيل النشر الرسمي، وجعلتُ أقارن النص المنشور بالمخطوط الذي أحتفظ به، فعجبتُ من أن المحرِّر الأمريكي لم يغيِّر حرفًا واحدًا، بل لم يَقْرَب علامات الترقيم (أي الفواصل والنقاط وما إلى ذلك). وزاد من دهشتي أنه حافظ على خطأ كنتُ أخطأتُه عندما ترجمتُ عبارة «الحق والخير والجمال»، فكتبتُ كلمة الحق بحرفٍ كبير (كابيتال) دون الكلمتَين الأخريَين، فإذا به يُبقي على ذلك الحرف كأنما رأى فيه دلالةً عميقةً لم يشأ أن يجور عليها، ولم تكُن إلا سهوًا محضًا.

وعندما عاد رشدي، وذكَرتُ له ذلك، أبدى الدهشة، وقال إنه راجع التجارب الطباعية بنفسه، ولكن السهو وارد في كل حالة! ولم يكن يعلم بسر الكتاب إلا قلةٌ قليلة من المقرَّبين إلى الرئيس — طبعًا — وإلى رشاد رشدي. وأما أنا فلقد تقاضَيتُ أجري من الرئاسة وفقًا للقواعد المعمول بها، وكان قد صدر القرار الجمهوري لعام ١٩٧٨م الذي يحدِّد سعر ترجمة الكلمة إلى الإنجليزية بستة مليمات بدلًا من ٣. وكان المفروض أن يمنحني الحاج يحيى — رحمه الله — شيئًا مقابل تصحيح النسخة العربية حسب الاتفاق، ولكنه تباطأ وتلكأ، فطلبتُ منه أن ينشر لي نصًّا مسرحيًّا، ولكنه تباطأ وتلكأ أيضًا وقال لي إن المسرح للتمثيل لا للقراءة، ولن يشتري النصَّ أحد!

في فبراير ١٩٧٧م، عادت نهاد زوجتي من السعودية، كما قلت، بعد أن قطعَت نصف مدة العقد للسنة الثانية؛ أي بعد انتهاء الفصل الدراسي الأول، وبدأنا نعيش حياة الأسرة التي افتقدناها منذ العودة من إنجلترا. ودخلَت ابنتنا سارة مدرسة بورسعيد بالزمالك (مانور هاوس سابقًا)، ولم توافق ماري سلامة الناظرة على قبولها إلا بعد أن اتفقَت مع نهاد على العمل في المدرسة لتدريس الأدب لتلاميذ الثانوية العامة، وكنتُ أتولى اصطحاب سارة إلى المدرسة بسيارتي الفيات (١٢٨) الصفراء. ولم يلبث أن عاد سمير وحمودة من السعودية في عطلةٍ صغيرة في منتصف الفصل الدراسي الثاني (في أول مارس ١٩٧٧م)، ثم عادا لاستكمال العام الدراسي. وظلِلتُ وحدي أعمل في كتاب السيد الرئيس، بعد أن انتهيتُ من كتاب مصطفى محمود (الماركسية والإسلام) وسلَّمتُه المخطوط، ولكنه قال إنه كتابٌ صغير، ويودُّ إضافة كتابٍ صغير آخر إليه هو لماذا رفضتُ الماركسية فترجمتُه بسرعة. وأذكُر أنني عندما ذهبتُ لتسليمه المخطوط الجديد وتسلُّم المكافأة على الكتابَين معًا، كان معي صديقي المستشار أحمد السودة، وكنا في منزله بالزمالك، وسألَني عن الأجر المطلوب (وفقًا للقرار الجمهوري القديم) فقلتُ له ٢١٢ جنيهًا، فدخل غرفة من غرف المنزل وعاد بمائتَين وقال هذا يكفي، وانصرفنا.

كنتُ عندما سافرتُ إلى دار السلام، للمشاركة في ترجمة وثائق منظمة الوحدة الأفريقية، أتقاضي في اليوم نحو سبعين دولارًا، وكان الدولار له سعران، سعرٌ رسمي، وسعرٌ تشجيعي، فيما يُسمى بسوق الصرف الموازية؛ أما السعر الرسمي فهو أربعون قرشًا، وأما التشجيعي فهو يزيد على ٦٧ قرشًا، وكانت له سوقٌ سوداء كذلك، ولكنني كنتُ أفضل تغيير الشيكات السياحية من البنك، ومعنى ذلك أن العمل في ترجمة المؤتمرات كان مجزيًا على عكس ترجمة الكتب مهما كان كرم أصحاب العمل.

وكما سبق أن ذكرتُ كان عام ١٩٧٧م عام الاستقرار، أو قل عام الحياة الجديدة التي كُتب عليَّ أن أعيشها ما بين الترجمة والتأليف. وفي مارس ١٩٧٧م اتصلَت بي وزارة الخارجية، وأبلغَتْني أنني قد اختِرتُ للعمل بالترجمة في مؤتمر عدم الانحياز بالهند، وبسرعة البرق أنهيتُ الإجراءات الخاصة بالسفر، وكان ذلك في أواخر مارس، لمدة أسبوع، وهناك عملتُ مع صديقتي القديمة عصمت عبد المجيد نصر، زوجة أحد أقربائي، وهو جهاد الميقاتي، وكان معنا من المترجمين محمد عبد النبي (اللغة الفرنسية) ومن الفوريين رفعت شلتوت ود. خلف الله عبد الغني، وعلي أبو شادي كبير مترجمي الأمم المتحدة. وكان المؤتمر عملًا متصلًا، وإن كان نطاقه محدودًا؛ فهو ليس مؤتمر قمة بل مؤتمر دول لجنة التنسيق للحركة فقط، ولكن زيارة الهند كانت ممتعة، وأوحت لي بقصيدةٍ لم تُنشر إلا عام ٢٠٠١!

في الهند قابلتُ صلاح عبد الصبور الذي كان يعمل مستشارًا ثقافيًّا، وقابلتُ أحمد الإبراشي الذي كان ملحقًا إعلاميًّا، ولكن أوقاتنا كانت محدودة، بسبب ضغط العمل. ودعانا القنصل يسري لحفل عشاء في السفارة، ودهشت عندما قدَّم نفسه لي قائلًا إنه أحد تلاميذي القدامى! وفي منزل صلاح عبد الصبور قضينا ليلةً رائعة، فكان ينصحنا على المائدة بالإكثار من أكل اللحم بسبب رخص سعره، والإقلال من الأرز بسبب غلائه، وأسمعنا هناك بعض قصائده وناقشنا الأحوال الأدبية في مصر. وفي الصباح، وكنا آخر مارس أو أول أبريل، جاءنا من يقول إن عبد الحليم حافظ قد تُوفي! كانت آخر ليلة نقضيها في الهند وفي صباح يوم السفر، تأخَّر «فوزي» وهو كاتب على الآلة الكاتبة (من وزارة الخارجية) فذهبتُ إلى غرفته أستطلع الأمر، فإذا به يجاهد لكي يضع في حقائبه ما بقي من الكعك و«القرص» لديه، وكانت والدته قد زوَّدَته بكمياتٍ هائلة حتى تغنيه عن إنفاق النقود في الطعام في الهند وكان قد بقي معه جوال (جوالق) كامل. ولم يكن من الممكن بعدما اشترى من الهدايا لأسرته أن يرحل عائدًا إلى مصر ومعه ذلك الجوال، فحاول حشرها حشرًا في الحقائب دون جدوى، فاهتدينا إلى حلٍّ معقول وهو تركُ جانبٍ منها للعاملين بالفندق، وكان فندقًا متواضعًا أصحابه فقراء والعاملون فيه أفقر، فوافق على مضض، وجعل يجاهد كي يحشُر ما تبقى في حقائبه في أكياس من النايلون.

كانت زيارة الهند تجربةً فريدة، إذ كان نص الاتفاق التي عقدَتْه ماري بني (Penny)، وهي «المقاوِلة الإنجليزية التي تتولى تنظيم المؤتمرات الدولية، يقضي بالاستعانة ببعض المترجمين المحليين، إلى جانب جهاز سكرتارية هندي خالص، بالإضافة إلى فريق الآلة الكاتبة العربية، وكان يتكون من أربعة هم فوزي المذكور ومحاسن ومديحة وفوزية، وهم جميعًا من العاملين في وزارة الخارجية المصرية؛ ولذلك وجدنا معنا في فريق الترجمة الإنجليزية/العربية شابًّا في أواخر الثلاثينيات من مسلمي الهند يُدعى الأستاذ «نقوى»، وقد أوضح لنا أن اسمه ذو جذور عربية، فهو مشتق من النقاء، وكان يعمل أستاذًا للغة العربية في جامعة نيودلهي. ولم يكن في فريقنا سوى عصمت وأنا، وكانت المادة المترجمة زاخرة، فأعطيتُه صفحة وبعض صفحة ليترجمها إلى الإنجليزية وسمحتُ له بما يريد من وقت، ولكن عمل المؤتمرات لا يسمح بهذا الوقت في العادة فترجمتُها بنفسي (سرًّا) على الفور، وأرسلتُها للطباعة والتوزيع، وقلت لعصمت أن تتولى مراجعتها عندما يعود بها، ثم شُغلتُ بعد ذلك بالترجمة والمراجعة والتحرير حتى ساعةٍ متأخرة، وعدنا جميعًا إلى الفندق، دون أن يظهر للأستاذ «نقوى» أثَر.
وفي اليوم التالي، وفي نحو الساعة الثانية عشرة ظهرًا، ونحن نستعد للانتهاء من أعمال جلسة الصباح، دخل الأستاذ «نقوى» ومعه النص المترجم، وقدمَّه إلى عصمت. وكانت عصمت ولا تزال ذات نفسٍ صافية صادقة لا تعرف المداورة ولا المراوغة، وتعبِّر عن رأيها دائمًا بصراحةٍ تامة، وتضحك مما يغيظها مثلما تضحك مما يسعدها. ولم تمضِ دقائق حتى سمعتها تُقهقِه وتصرخ، فأدركتُ أن الأستاذ نقوى قد «لبَّخ» تلبيخًا شديدًا، فتناولتُ الورقة منها بسرعة واصطحبتُه خارج الغرفة، وأوضحتُ له أخطاءه، وشكرتهُ على مجهوده، ثم أعطيتُه نصًّا إنجليزيًّا هذه المرة وطلبت منه الانصراف. وعندما عُدتُ إلى الغرفة كانت عصمت ساكنةً ذاهلة، فسألتُها ما الخبر، فقالت: هل هذا هو أستاذ اللغة العربية هنا؟ وفي الجامعة؟ قلتُ لها ربما لا يكون أفضل مَن عندهم، ولكنني كنتُ مقتنعًا في أعماقي بأن العربية لا تنتمي إلا لأبنائها، وقد تأكَّد ذلك عندما عاد الأستاذ «نقوى» في اليوم التالي بالنص العربي؛ إذ كان عدد الأخطاء التي أخطأها مذهلًا. ولو كنا صدَّقناه وسمحنا له بالعمل رسميًّا معنا لجلب لنا المصائب؛ إذ اختلطَت عليه بعض المعاني مثل «الضفة الغربية» West Bank (التي ترجمها بالبنك الغربي) والتسوية السلمية peaceful settlement إذ ترجمها بالمستوطنة السلمية. ولا أدري ما عساه أن يحدث لو قلنا إن البلدان العربية تطالب بمستوطنةٍ سلمية في الشرق الأوسط!
وقبل رحيلنا بيوم اشتريتُ عقدًا من لآلئ المياه العذبة (fresh water pearls) بثمنٍ زهيد، ومعظم أسعار الهند زهيدة، ولكن الدُّر غير مثقوب، وقد نصحني صاحب الدكَّان أن أستأجر شخصًا لثقبه ونظمه (أي وضعه في دوبارة أو خيط من النايلون)، فطلبتُ من يفعل ذلك فجاءني، وكان من الفقراء الهنود حقًّا وصدقًا، وصحبتُه إلى الغرفة وكان نحيل الجسد ضئيل الجِرم يتكلم إنجليزيةً بدائية. وحاولتُ الاحتفاء به فطلبتُ له الشاي، ولكنه قال إنه يعبد الماء. وتصوَّرتُ أنه يستخدم الفعل استخدامًا استعاريًّا، فقدَّمتُ له كوبًا من الماء البارد، وإذا به يُقعي ثم يركع ركعةً تقترب من السجود، ويستغرق فيما يشبه الغيبوبة حتى خفتُ عليه، ولكنه سرعان ما أفاق، وقال لي معتذرًا إنه كان يصلي لإلهه وهو الماء، ثم تجرَّع ما في الكوب وبدا عليه الانتعاش لأن روح الإله — في عقيدته — قد تملَّكَته، فأمكنه إنجاز العمل بسرعة، وخرج.

وعندما عدت إلى مصر سمعتُ أن السادات قد عاد من رحلةٍ خارج البلاد، وكان يتوقع من الصحف تغطية أنبائها، ولكن الصحف كانت تحمل صور الراحل عبد الحليم حافظ، وكان الحديث في كل مكان يدور حول الراحل العظيم، إلى جانب أنباء كارثة طيرانٍ مروعة في جزر الكناري، راح ضحيتها ٥٧٤ شخصًا (٢٨ مارس)، وبعض الأنباء التي كان البعض يتناقلها دون اهتمام مثل التحول الماركسي في إثيوبيا بعد ثلاث سنوات من الإطاحة بالزعيم القديم هيلا سلاسي؛ إذ كان منجستو يقبض على البلد بيد من حديد، والحرب الأهلية في أنجولا لا يهدأ لها أوار، وتولي حكومةٍ جديدة في الهند بعد هزيمة إنديرا غاندي في الانتخابات، والعالم يبدو في تغيرٍ مستمر، ولكنني كنت على المستوى الشخصي سعيدًا بعودة سمير سرحان وعبد العزيز حمودة عودة نهائية من الإعارة في السعودية، واهتم كل منهما بشئون الاستقرار، وذهبت أنا وزوجتي وابنتي لقضاء أيامٍ معدودة في شاطئ المعمورة، وزُرنا رشاد رشدي في فندق فلسطين، وذات يوم شاهدتُ لديه عايدة شعراوي (الدكتورة) زميلتي القديمة ومعها نسخة من أحد فصول رسالتها للدكتوراه، وكان رشدي يقتنص الوقت المتاح له أثناء كتابة نص البحث عن الذات، لقراءة ما يأتيه به الطلاب.

وعندما عُدنا إلى القاهرة وجدنا إعلانًا نشرته أكاديمية الفنون للعمل فيها، وكانت الشروط تنطبق على نهاد زوجتي فقدَّمَت أوراقها، وانتظرنا بداية العام الدراسي حتى يُبَت في الطلب، وكان المطلوب الحصول على الماجستير في الأدب الإنجليزي، وكانت قد حصلَت على هذه الدرجة من جامعة ساسكس Sussex في إنجلترا، وتخصَّصَت في الدراما والرواية؛ ومن ثَم كانت فرصتُها كبيرة عند المفاضلة مع غيرها، خصوصًا لأنها حصلَت على درجة الليسانس الممتازة، بمرتبة الشرف، في الأدب الإنجليزي من جامعة القاهرة.

ولا يفوتني أن أذكُر هنا أن بنات السيد الرئيس الثلاثة لبنى ونهى وجيهان كن قد التحقن بقسم اللغة الإنجليزية لدينا، وكانت السيدة الأولى جيهان السادات قد انتهت من دراستها بقسم اللغة العربية، وحصلَت على تقدير ممتاز. كانت البنتان الكبريان تنجحان بسهولة؛ فهما تتمتعان بالذكاء والاجتهاد معًا، فكانتا تحصلان على تقدير جيد كل عام، أما الصغرى فكانت غير مجتهدة، وكانت تنتقل بمواد «تخلُّف» من عام إلى عام. وفي العام التالي (٧٨–٧٩) رسبَت في أربع مواد فعادت السنة الثالثة كلها باعتبارها «باقية». والحق أن أحدًا منا لم يتعرض لأي ضغوط حتى يساعدها، ولو أنني علمتُ أن بعض أساتذة القسم كانوا يُستدعَون إلى منزل الرئيس في الجيزة لشرح بعض ما قد يستعصي على الطالبات.

كنتُ قد وطَّنْتُ النفس على أن أحاول كتابة مسرحيةٍ جديدة، وكانت خبرات السفر في المؤتمرات قد بدأَت تُمدُّني بزادٍ لا بأس به من المادة الإنسانية، ولكنني لم أكن قد نشرتُ كُتبًا تحمل اسمي بعد عامَين من العودة. وباستثناء ترجمة كتاب مصطفى محمود الذي ظهر بالإنجليزية عام ١٩٧٧م، إلى جانب الترجمات التي كنت أنجزتُها لمجلة المسرح والسينما (يوسف جوهر) ومجلة فنون (سعد الدين وهبة)، والتي حضَّني على الانتهاء منها صديقي أمير سلامة، الكاتب المسرحي والناقد النابه، الذي عمل معي بعد ذلك سنواتٍ طويلة مديرًا لتحرير مجلة المسرح، وتُوفي عام ٢٠٠١م (رحمه الله) فبكَيتُ فيه دماثة الخلق وحلاوة المعشر، لم أنشُر شيئًا يُذكر ولم أحقِّق شيئًا مما أصبو إليه. واستسلمتُ للقدَر وأنا أترجم البحث عن الذات؛ فهو عمل ربما لن يحمل اسمي (بخلاف كتاب مصطفى محمود)، بل ولا اسم رشاد رشدي بطبيعة الحال. واجتهدتُ — كما سبق أن قلت — حتى انتهيتُ منه في أكتوبر، ووضعتُ همي بعد ذلك في تأمل مواقف وشخصياتٍ تصلُح لمسرحيةٍ جديدة لا يكون مصيرها مثل مصير ميت حلاوة، التي وضعتُها في الدرج، وقرَّرتُ تجميد موقفها حتى يقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا.

ولكن بداية عام ١٩٧٨م كانت تختلف اختلافًا تامًّا عن أواخر العام المنصرم. كان «حسن» (المخرج) قد اختفى اختفاءً مفاجئًا من الأكاديمية، والحق أنني لم أكترث لاختفائه، وعلَّلتُ ذلك بأنه ربما ترك مصر في إعارة إلى بلدٍ عربي، وكنت مشغولًا بما أكتب وما أترجم، وإن كنتُ أحيانًا ما أعجب مما يفعل، وأجد في مغامراته تسريةً عن الهموم التي أتحملها في الكتابة وفي الترجمة جميعًا. وكنت كثيرًا ما أتذكَّر قصصه فأقول في نفسي: ويلٌ للشجيِّ من الخليِّ؛ فهو مثال الفنان الخالي البال؛ إذ تعلَّم من الحياة المسرحية والسينمائية ألا يرهق نفسه بالتفكير، وأن يُلقي خلف ظهره بأية هموم قد تنشأ من الصدام مع واقع يؤلمه، وأن يُركِّز على اللحظة الراهنة فيعيشها بعمق بعد أن يضفي عليها من خياله ألوانًا وظلالًا تجعلها ذات سحرٍ أخَّاذ. وفي شتاء ٧٧–١٩٧٨م، كان استقرارنا العائلي قد حدَّد لي نمطًا جديدًا من الحياة يتناقض تمامًا مع حياة «حسن»، بل كنتُ على وشك أن أنساه حين وجدتُه ذات يوم جالسًا في غرفة الأساتذة بالمعهد العالي للفنون المسرحية!

وكنتُ على وشك الانصراف بعد التوقيع في دفتر الحضور حين لمحتُه ولم أصدِّق عينيَّ؛ إذ كان يرتدي ثيابًا فاخرة وشبه «رسمية»، وكان يمسك غَلْيونًا غير موقد، وإن كانت تَرين على وجهه سحابةُ حزن تنم عن انشغالٍ غير معهود فيه بفكر أو همٍّ دفين! وعندما التفتُّ إليه وخاطبتُه مرحبًا نهض بخفة ورشاقة فردَّ التحية، وتبادلنا السلامات، ودون وعي خرجنا معًا من الغرفة ونحن نتبادل بعض أحاديث «السمر» (small talk) حتى وقفنا على سُلم المعهد، فاقترب منا شابٌّ أزرق العينَين يُدعى «محمد الأزرق»، وكان معيدًا بالمعهد ويُتابع دراستَه في المعهد العالي للنقد الفني، كما كان مرشحًا لبعثة في الخارج، فسلَّم علينا، وحادثنا في أمر بعثته كأنما ليصل بذلك حديثًا كان قد انقطع منذ هنيهة! وقلت في نفسي إن هؤلاء الفنانين لا يشعرون بالزمن؛ فالاستغراق في الحاضر يجرفُهم دائمًا إلى ما لا يبتعد به الزمن عن آخر اليوم أو الغد على أقصى تقدير، وهم دائمًا ما يدورون في دوَّامات المشروعات الفنية التي قد لا تتحقق أبدًا. ولم نكد نؤكد له ضرورة معرفة لغة البلد التي سيدرُس فيها، ونحن في أعماقنا نتلهَّف على الرحيل — فأنا أريد أن أعرف أخبار «حسن»، وهو يريد أن يُطلعني عليها — حتى تجمَّع عددٌ من الطلاب والمعيدين، كان من بينهم توفيق عبد اللطيف المعيد وعبد الرحمن عرنوس المدرس بالمعهد، وبعض الفتيات، فاعتذرتُ للجميع بمشاغلي وانسحبتُ برقة، وإذا بحسن يعتذر بسرعة هو الآخر، ويلحق بي عند أسفل السُّلم قائلًا إن لديه ما يريد أن يقوله.

وسرنا معًا حول مبنى المعهد إلى الكافيتريا حيث شمس الصباح الدافئة، واشترينا الشاي وجلسنا فقال لي «حسن» إنه قد عاد لتوه من الاتحاد السوفييتي بعد الحصول على الدكتوراه! وكان يعرف أنني سوف أدهَش لذلك فوعدني بالحديث التفصيلي في كيفية تدبير ذلك (في وقتٍ لاحق) قائلًا إنه يفضِّل الآن أن يحكي لي عن مشروعاته بعد التأهُّل، وكيف أنه نادم على السنوات التي قضاها في الغرب، وكيف أن الاشتراكية تقدِّر الفن والفنانين حقَّ قَدْرهم، إلى آخر هذا الكلام المعروف؛ ومن ثَم اقترح عليَّ أن أكتب له مسرحيةً فكاهية، حتى ولو كانت «مقتبسة» حتى نهزَّ الدنيا هزًّا، كما قال، لأنه يتطلع إلى موقعٍ مرموق في مصر!

والغريب أنني صدَّقتُه، على الرغم من يقيني بأنه «خِدْن أوهام» — كما يقول الشاعر — وفرحتُ بما عرضه عليَّ من أسماء النجوم التي يريدها أن تلعب الأدوار الرئيسية، بل وبدأتُ أفكِّر في النصوص العالمية التي يمكن إعدادها بحيث تمثِّل الفن الراقي وتُرضي الجمهور في الوقت نفسه، فقلتُ له ما رأيك في حُلم ليلة صيف؟ فاعترض على الفور، وقال إن شيكسبير لا يصلُح في مصر، فأخذتُ أستعرض معه أسماء ما أتصوَّر أنه يصلُح من مسرحيات موليير إلى هزليات جورج فيدو، وهو يعترض على الواحدة بعد الأخرى، حتى وصلنا إلى نويل كاوارد البريطاني فقال إنهم أنهكوه اقتباسًا، ولكنه يتصوَّر اقتباس مسرحية مثل ملهاة غرفة النوم للكاتب البريطاني ألان إيكبورن، ولم أكن قرأتُها، فدهِشتُ لإحاطته بهذا النص، وتصوَّرتُ من العنوان أن به ما لا بد أن يثير الرقابة فوعدتهُ بقراءتها والاتصال به بعد ذلك، وبدا لي أننا على وشك إنجاز شيءٍ ما، ففرحتُ وحاولتُ النهوض ولكنه استبقاني وقال إن لديه طلبًا خاصًّا، فتوقَّعتُ طلب النقود، ولكنه قال إنه يريد أن يعيَّن أستاذًا في الأكاديمية، وإن مستقبله معلَّق بتحقيق هذا الحُلم، وإنه يعرف أنني لو كلمتُ رشاد رشدي فسوف يستجيب. وقلتُ له إنني سوف أخاطب د. رشدي في هذا الموضوع بعد عودته من أمريكا، لكنني لا أستطيع أن أعده بشيءٍ محدد، ونهضنا. وقال لي ونحن في الطريق إلى سيارتَينا: «على فكرة … زوجتي تسلِّم عليك.» وفهمتُ أنه يشير إلى الممثلة الشهيرة، فسألتُه عن أخبارها فقال «أبدًا … إنها حامل!» ووقفتُ مذهولًا، وكأنما لمح في عيني شبه استفهام عن خطيبته (الراقصة)، فأسرع قائلًا «قصدك اسمها إيه؟ لا … دي سافرت مع الفنون الشعبية للعراق ولا تريد الرجوع!» وساد صمتٌ قصير قال بعده ضاحكا: «لكن فيه غيرها! لا بد من تعدُّد القنوات!» ولم أستطع تمالُك نفسي من حب الاستطلاع؛ فهذا رجل لا يهدأ ولا يكِل ولا يمَل، فسألتُه مباشرةً عن هذه الجديدة، فقال إنها لا تزال «مشروعًا»، وإنها تعلم أنه متزوِّج وتعرف كل شيء عن طباعه؛ أي إنها تدخل الطريق «مفتوحة العينَين». وسألتُه إن كان ينتوي الاقتران بها، فقال نحن مقترنان فعليًّا ولا ينقصنا إلا شقةٌ مناسبة! ثم تكلم في شبه تأمُّلٍ حزين قائلًا: «الموضة اللي طالعين فيها اليومين دول يا سيدي … اكتب لي ورقة! كأن الورقة دي سر الحياة!» وأفهمتُه أنني أختلف معه في نظرتي للمرأة، فرد بسرعة «يا حبيبي افهمني! تقنين العلاقة يقتلها … وأنا مع برتراند راسل في «الحب الحر» (… free love) إذا وَضعْت قيود عليه تبقى قتلته … وأستاذك رشدي بيقول إن الحب شعلة لازم تنطفي … المهم إنك تولع شعلة تانية … وبسرعة! وخرافة إن القلب لا يتسع إلا لواحدة لا بد من قهرها! وبعدين التغيير هو سُنَّة الحياة.» وقلتُ له إنه لا يقبل ذلك مع زوجته، فكيف يقبله لنفسه، وقال وهو يركب السيارة: «أنت بريطانيا أثَّرت عليك أكثر من اللازم … بكرة أثبِت لك وجهة نظري، بس انت شد حيلك وكلِّم رشدي!» وانطلَق بالسيارة.

وكنتُ أنتوي أن أفاتح رشاد رشدي في الموضوع فعلًا، لولا أنه عندما عاد كانت في انتظاري تقلُّبات في العلاقة لم أكن أتوقَّعُها.

٢

لا أدري أسباب الجفوة المفاجئة التي حدثَت في دائرتنا الضيقة (inner circle) بعد عودة رشاد رشدي من أمريكا. ويبدو أنها أسباب ترجع إلى الأكاديمية؛ إذ كان رشدي قد أحاط نفسه بعدد من الموظفين المداهنين مثل حسين مهران، وأحمد الفخراني، وعاصم عباس، وغيرهم ممن كانوا يُوحون إليه بضرورة التخلي عن أبنائه القدامى (ثلاثتنا سمير وحمودة وأنا)، وبالانقضاض على أساتذة الأكاديمية بيد من حديد. ولم يكن رشدي — للحق والتاريخ — يُصغي إلى نصائحهم دائمًا أو يعمل بها، ولكنه لا شك قد تأثر في إدارة الأكاديمية بآراء مستشاريه، فبدأ الصدام بينه وبين فوزي فهمي وإبراهيم حمادة، وكانا عميدَين للمعهد العالي للنقد الفني وللمعهد العالي للفنون المسرحية (على الترتيب). ولما كان قد استصدر من رئيس الجمهورية قرارًا جمهوريًّا بمد العمل له رئيسًا للأكاديمية أربع سنوات (من ١٩٧٦–١٩٧٩م)، وذلك بعد سن المعاش (التقاعد)، الذي كان بلغه قبل سنوات، فقد زيَّن له مستشاروه اتخاذ قراراتٍ فردية أغضبَت الأساتذة. وكان أكبر صدام له مع فوزي فهمي وإبراهيم حمادة (رحمهما الله)؛ إذ كان كلٌّ منهما ذا ذاتٍ منتفخة، وكان كلٌّ منهما يتمتع بثقةٍ لا متناهية في نفسه. وكنتُ أتصور بعد العمل الذي جمعَنا في الكتاب وما يُسمى ﺑ «عشرة العمر» القديمة ألا أجد نفسي طرفًا في هذا الصراع، ولكنني أحسستُ بجفاءٍ لا يمكن أن تخطئه العين تجاهي، وشعَرتُ بأن بعض الأيادي تعمل في الخفاء على التفريق بيننا، حتى كان كأنما يتحاشى النظر إليَّ داخل الكلية. ووصلَت الأمور — لا أدري كيف — إلى ذروة عجيبة؛ إذ استصدر هؤلاء منه قرارًا يقضي بمنعي من التدريس في أكاديمية الفنون يوم ١٧ مايو ١٩٧٨م، ولم يكن قد بقي على انتهاء العام الدراسي إلا أيامٌ معدودة. وعندما ذهبت إلى محاضرتي في ذلك اليوم قال لي زكي، معاون المعهد: «آسف! لديَّ قرار بمنعك من الدخول من باب المعهد العالي للنقد الفني!» والتفَّ الطلاب حولي، وأرادوا أن ألقي المحاضرة في الهواء الطلق ولكنني اعتذَرْت، وكانت المرارة شديدة. وعندما عُدتُ إلى المنزل وجدتُ ما يدعو لمرارة أشد! لقد أرسلوا طلبًا إلى نهاد زوجتي بردِّ مبلغ ١٠٢ جنيه، مقابل الساعات الإضافية التي كانت قد عمِلَتها في المعهد العالي للفنون المسرحية طيلة العام الدراسي، بحجة أن رئيس الأكاديمية لم يوافق على انتدابها للتدريس.

كانت أحوالي المالية مرتبكة في تلك الأيام، ولكن النجدة جاءت من السماء؛ إذ اتصل بي أمين بسيوني، وكان رئيس صوت العرب آنذاك، وقال إنه يريد حلقاتٍ إذاعية بعنوان الحب والحرب، وسرعانَ ما كتبت أول خماسية عن أنطونيو وكليوباترا، وتقاضيتُ آخر الأسبوع مبلغ ١٢٠ جنيهًا (من أصل ١٥٠ — ناقص الضرائب). وسدَّدنا الأموال، وأرسلَت نهاد زوجتي إلى رشاد رشدي خطابًا شخصيًّا تستنكر فيه ذلك الإجراء، ولكن الأزمة كانت قد تخطت الحل؛ إذ قام الزبانية بإحالة فوزي فهمي إلى التحقيق في النيابة الإدارية، واستُدعيتُ أنا وسمير سرحان للشهادة في القضية، وكانت التهمة هي تغيير المناهج دون استئذان! وبطبيعة الحال أوضحنا الحقيقة لوكيل النيابة فأمر بحفظ القضية، ولو أن «الجماعة» لم يسكتوا وظلوا يمارسون تخريبهم في الظلام.

بذل البعض عدة محاولات للإصلاح، وأذكُر أننا اجتمعنا، أنا وسمير ورشاد رشدي، في غرفته القديمة بقسم اللغة الإنجليزية، وتصافينا تصافيًا عاطفيًّا. وقال له سمير إن طباعنا تختلف عن طباع هؤلاء الموظفين، وقالها بالإنجليزية مستخدما تعبير (our chemistry) وضحك رشدي، وإذا بالباب يُفتح ويدخل الفخراني الذي كان فارع الطول أصلع الرأس ووراءه مهران وعباس، فكان ذلك إيذانًا بانفضاض الاجتماع؛ فلم يكن هناك ما يُرجى تحقيقه في وجودهم.

وشهد عام ١٩٧٨م حادثةً غريبة، وأكاد أقول فريدة؛ إذ كان الخلاف قد دبَّ بين وزير الثقافة والإعلام آنذاك عبد المنعم الصاوي وبين سعد الدين وهبة. وقيل إنه بسبب التنافُس في انتخابات مجلس الشعب، ولكن الوزير استصدر قرارًا قضائيًّا بإنهاء عمل سعد وهبة؛ أي إحالته إلى المعاش، وكان وكيلًا أول لوزارة الثقافة، وكذلك زوجته سميحة أيوب، بتهم تتعلق بإدارة وإنشاء شركة خاصة للإنتاج الإعلامي والثقافي (أي الفني) هي شركة «فجر». وفي آخر ليلة من ليالي عرض مسرحية ست الملك بالمسرح القومي (تأليف سمير سرحان) وكانت سميحة أيوب تلعب دور البطولة فيها، وقفَت على المسرح بعد خاتمة المسرحية تُخاطب الجمهور، وألقت مونولوجًا جعل الأيادي تلتهب بالتصفيق لها، والغضب من قرار إحالتها إلى التقاعد.

وشجَّعَني تقديم مسرحية ست الملك على أن أتقدم إلى هيئة المسرح بمسرحية ميت حلاوة، وكان كمال يس متحمسًا لإخراجها. وبدأت الخطوات التنفيذية فأرسل المسرح الحديث، الذي كان يرأسه محمود عزمي نص المسرحية إلى الرقابة. وذهبتُ إلى المسرح الذي كان مكانه في مسرح الجمهورية الحالي، فقابلني مخرج يُدعى جمال الشيخ، وقال لي أنا بصراحة ضد هذه المسرحية! وسألتُه عن السبب فقال إنها «ضد السادات!» وأنكرتُ ذلك بشدة وقلتُ له كيف انتهيتَ إلى تلك النتيجة العجيبة؟ فقال إن «غريب» بطل المسرحية هو الرمز الحي للسادات! وانطلق يقول: «إنه غريب عن الثورة، وهو إذن رمز الانتهازي الذي يدمِّر تركيبة الجمعية التي ترمز بها إلى الثورة!» وقلتُ له إن ذلك تفسيرٌ غير مقبول، ولا مبرِّر له إلا في ذهنك! وانصرفتُ مُغضَبًا. وبعد أيامٍ معدودة قابلتُ المخرج رشاد عثمان، الذي كان يريد إخراج المسرحية، وقال لي: «الحق! الرقابة رفضت النص؟»

وهُرِعتُ في صباح اليوم التالي إلى منزل سمير سرحان القديم في روكسي بمصر الجديدة، وأبلغتُه ما سمعتُ، وكنتُ مهتاجًا ثائرًا، فقال لي هدِّئ روعك! سوف نمضي معًا إلى الرقابة! وخرجنا إلى رقابة المصنفات الفنية في الطابق الثالث بمبنى جريشام، الذي تقع فيه هيئة الاستعلامات، وبمجرد أن سألناه عن النص قيل لنا: «آه! المسرحية المرفوضة؟» وكانت تلك الكلمات كالسهام في جانبي، ولكنني تذرَّعتُ بالصبر، ودخلنا إلى مكتب مدير الرقابة ولا أذكُر من اسمه إلا «رضوان» فرحب بنا، وكان في المكتب محمد شيحة (الدكتور) وسيدة في مقتبل العمر تُدعى فاطمة، وناقشناه في أسباب الرفض، فأطلَعَنا على التقرير الختامي وتقارير الرقباء الستة، وأهمهم ممثل يُدعى محروس الجارحي، وكان قد كتب يقول إن المسرحية «ضد النظام»، وانتهى إلى العبارة التي هزَّتني هزًّا «ولو كانت هناك عقوبةٌ أقسى من المنع لطبَّقتُها على المؤلِّف!»

واستنكرتُ ما جاء في التقارير، وكان سمير سرحان ينصحني بالتريث والهدوء، وأخيرًا قال رضوان ما يعتبره خلاصة التقارير ألا وهو أن المسرحية شيوعية! وغامت الدنيا في عيني فعلًا وأحسستُ بدُوارٍ خفيف، حتى إنني لم أستوعب كل ما قاله سمير؛ إذ جعل يشرح لرضوان أن جمعية الصيادين التي هي جزء من الجمعية الزراعية والصناعية … إلخ، لا ترمز لشيء، وإنما هي معالجةٌ ساخرة لسوء فهم الاشتراكية وتطبيقها تطبيقًا بالغ السوء، فقال رضوان: ولكنك لا بد أن توضِّح ذلك في النهاية بصريح العبارة حتى لا يختلط الأمر على الجمهور، فيتصور أنك تؤيد هذا الضرب من الاشتراكية! فقال سمير: وهذا هو ما فعله عناني في آخر المسرحية فعلًا! فقال رضوان: أين؟ فردَّ سمير بسرعة: لا بد أن صفحةً وقعَت! والتفت إليَّ بسرعة وقال لي هل تذكُر ما جاء في تلك الصفحة يا عناني؟ وأدركتُ ما يرمي إليه فقلتُ بسرعة: نعم! فقال إذن اكتُبها فورًا من الذاكرة! وأخرجتُ قلمًا من جيبي، والتقطتُ ورقةً من المكتب، وبسرعة البرق كتبت صفحة «الإيضاح» التي أستنكر فيها مساوئ الفهم والتطبيق! وعندها ابتسم رضوان بسمةً عريضة، وقال لمدام فاطمة أن تُحضر خاتم الرقابة لإجراء اللازم، ولكنها قالت إنها تخصُّص سينما، وإن شيحة لديه الخاتم. وفعلًا تم المطلوب، وتمت كتابة خطاب موافقة الرقابة. وخرجنا بعد ساعات من التوتُّر وأنا أشعر بزهو انتصارٍ نادر!

ولكن لجنة المسرح (فرقة المسرح الحديث) لم تأخذ برأي الرقابة، وأحال محمود عزمي (تحت ضغط جمال الشيخ وغيره) نص المسرحية إلى الوزير للبَتِّ في صلاحيتها للعرض، ولم يكن لي من سبيل إلى الوصول إلى الوزير. وبينا أنا في خِضَم هذه الحَيْرة وصلَني استدعاء من الدكتور محمود الشنيطي — رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب — للمساعدة في ترجمة شيءٍ ما. وعندما دخلتُ المكتب قابلَني ضاحك السن، وأعطاني الخطاب المطلوب ترجمتُه، وعجبتُ من هذا الطلب؛ فهو خطاب عادي والدكتور محمود يجيد الإنجليزية، ولكنني فعلتُ ما طلبه. وما كدتُ أفعل حتى اقترب مني وجلس وجعل يقول في شبه همس: «إيه حكاية ميت حلاوة؟» وفهمتُ على الفور أن ذلك هو الهدف الحقيقي للزيارة، فاعتدلتُ في مجلسي، وحاولتُ استجماع جميع نقاط الدفاع عن النص وتنظيمها قبل عرضها — فهذه محاكمة ولا شك! ولكنني قبل أن أتمكَّن من الرد على ما توقَّعتُه من هجوم فوجئتُ به ينهض ويُحضر ملفًا من درج مكتبه ويضعه بيننا على المنضدة قائلًا: «فيه كام حاجة كده عايزة نظر.» وانتظرتُ أن يعرض تلك الأشياء، وبدأ يتصفح المسرحية المنسوخة في المسرح على الإستنسل — أي نسخة الإخراج، لا النسخة التي كنتُ قدَّمتُها للرقابة — ولم أستطع مقاومة التطلع إلى الخطوط التي وضعَها تحت بعض العبارات. ومضت ثوانٍ مفعَمة بالتوتر الشديد، وبدا لي الانتظار دهرًا طويلًا، أنقذني منه رنين جرس التليفون. وما كان أشدَّ دهشتي حين سمعتُه يقول: «أيوه أيوه فاهم! ما هو معاي هنا! يعني إنت مستعد تخرجها؟ طيب طيب.» وضحك ضحكةً كبيرة وهو يقول لي بعد أن وضع السماعة: «ده كمال يس!» وحمِدتُ الأقدار على التدخل في الوقت المناسب. واستمر قائلًا «براءة يا عم … ممكن تبدءوا التجارب؟»

كنتُ لا شك أشعُر براحةٍ عميقة، ولكن حب الاستطلاع دفعني إلى سؤاله عن «الأشياء التي فيها نظر»، فقال «يعني … حاجات زي الوحدة الفكرية … والرمزية اللي ما لهاش لازمة … ما له الحب والغرام والحاجات الحلوة؟ ليه الرمزية بس؟!» وألقى نظرةً سريعة على النسخة الموضوعة على المكتب، ثم قال: «أنا عملت لك قائمة مؤقتة … لكن ده مش تدخُّل ولا حاجة … يعني المخرج يمكن يطلب منك تعديل كلمة هنا وكلمة هناك … وانت عارف الأحوال!» قال ذلك برقَّة لم أعهدها فيه، ونهض ليعلن انتهاء المقابلة.

وخرجتُ سعيدًا؛ فالدكتور محمود الشنيطي هو رسميًّا نائب وزير الثقافة، والوزير يثق فيه ثقةً مطلقة، ومعنى الموافقة أن الطريق أصبح مُعبَّدًا لإخراج المسرحية، ولكن خاب ظني كما سوف أشرح فيما بعدُ. يكفي أن أقول هنا إن صيف عام ١٩٧٨م كان يحمل المزيد من المفاجآت. وكان أولها في مايو حين جاءني استدعاء من منزل الرئيس السادات، فذهبتُ متوقعًا أن أُسأل عن بعض أمور قسم اللغة الإنجليزية؛ حيث تدرُس بنات السيد الرئيس، ولكن السيدة جيهان السادات استقبلَتني في الصالون استقبالًا شبه رسمي، وجاءت الفتيات، فسلَّمن وخرجن، ثم فاتحَتْني السيدة الأولى فيما عساها تدرُسه للماجستير في الأدب المقارن، وفي مجال الشعر على وجه الخصوص، قائلة إنها سمعَت أنني متخصص في الشعر الرومانسي — الإنجليزي، وأنني ترجمتُ بعضه (وقد عرفتُ فيما بعدُ أن مصدر المعلومات كان مجدي وهبة رحمه الله). وحدَّثتُها باستفاضة عن المجالات المتاحة من وجهة نظر الأدب المقارن حين يكون المدخل هو الأدب العربي لا الأدب الإنجليزي، ومكثتُ ساعةً أو بعض ساعة وانصرَفتُ.

كانت المقابلة ودية إلى أقصى حد، وكانت تتناقض تمامًا مع مقابلات كبار موظفي الدولة، فتفاءلتُ. وكنتُ أتوقع السفر إلى لوساكا، عاصمة زامبيا، في اليوم التالي، فأعدَدتُ حقيبتي وودَّعتُ الأسرة، ولحقتُ بفريق الترجمة في المطار حيث ركبنا طائرة مصر للطيران إلى نيروبي؛ حيث يجب تغيير الطائرة. وكان فريق الترجمة يتكون مني. ومن آن ماري جريس، وسميرة عبد السيد، وفتاة في العشرينيات من وزارة الخارجية (للآلة الكاتبة العربية) اسمها ليلى عبد الحليم، وأخرى تعمل في الميريديان (للآلة الكاتبة الفرنسية) اسمها إيفيت إسكندر. وكان باقي أعضاء الفريق قد اتجهوا قبلنا إلى لوساكا، وهم: كمال عزت، الذي سافر مباشرةً من روما، وعبد الرحيم شلقامي (الآلة الكاتبة العربية) الذي سافر مباشرةً من أديس أبابا؛ حيث يعمل بصفةٍ دائمة، وشوقي الكيلاني الذي كان في مؤتمرٍ آخر سافر منه إلى لوساكا. كان ذلك يوم السبت، وكانت الطائرة تُقلِع بعد منتصف الليل. ووصَلنا فجر الأحد إلى نيروبي، في نحو الخامسة صباحًا. وتساءلنا عن الطائرة التي سوف نركبها إلى لوساكا، وكانت تابعة لشركة طيران أفريقيا الشرقية، ولكننا لم نجد إنسانًا نسأله؛ إذ كانت عطلة الأحد بادية في كل شيء؛ فالمكاتب مغلقة، وبعض الأشخاص من أبناء أفريقيا نائمون هنا وهناك، ولم نجد بُدًّا من إيقاظ أحدهم، فاصطحَبَنا إلى مكتب الموظف النبطشي (النوبتجي) وكان يُغالب النعاس ويجرع القهوة، وحادثناه بالإنجليزية فلم يبدُ عليه الفهم، فحاولنا الفرنسية ولم تكن النتيجة أفضل. وكِدْنا أن نيأس حين دخلَت فتاةٌ نشيطة حادثَتْنا بالإنجليزية، فقلنا فُرجَت، وعندما شرَحَتْ لها سميرة عبد السيد ما نحن فيه من حَيْرة ضحكَت وقالت: آسفة! شركة طيران أفريقيا الشرقية أفلسَت! لا تُوجد طائرات! وتسمَّرنا لحظاتٍ في أماكننا؛ إذ تصوَّرنا جميعًا أنها لا يمكن أن تكون جادة، ولكن الأمور كانت قد تعقَّدَت فعلًا؛ لأن الأحد عطلةٌ مقدَّسة، والسكون يخيِّم على المطار، ولا أحد هناك أو يمكن أن يظهر قبل الضحى!

تذكَّرتُ أن لي صديقًا هو توم هيتون الإنجليزي، الذي كان يعمل في محطة الإذاعة البريطانية في نيروبي، وكنا ما زلنا نتراسل وفي مفكِّرتي رقم التليفون، فتركتُ الفريق في القاعة المقفرة التي بدأَت تغزوها أضواء سماءٍ ملبَّدة بالغيوم، وذهبتُ إلى كابينة التليفون، وطلبتُ العامل، فوافق على إجراء المكالمة مقابل دولارٍ واحد، فنقدتُه إياه، وخاطبتُ توم فأيقظتُه من النوم وشرحتُ له الموقف فقال لي: «لا تقلق! سوف أكون لديك حالًا!» وبعد انتظارٍ طال فأمعن في الطول لمحتُ توم هيتون داخلًا ومعه شخصٌ فارع الطول كأنه الجني الذي خرج من القمقم، وعرَّفَني توم به قائلًا هذا هو مدير المطار! وعرفتُ فيما بعدُ أنه كما نقول هنا «ناظر المحطة». المهم أنه شرح لي أن إفلاس الشركة معناه أن تتولى مصر للطيران إنزالنا في فندق حتى يتسنَّى إيجاد مكانٍ لنا على طائرةٍ أفريقية أخرى من الشركات المتعاقدة مع مصر للطيران. وكان ذلك «الحل الرسمي» معناه ضياع يوم على الأقل، وأما الحل غير الرسمي الذي اقترحَتْه آن ماري جريس فهو أن نشتري لنا تذاكرَ على أي طائرة متجهة إلى لوساكا، ثم نطالب بالثمن فيما بعدُ! وقالت سميرة عبد السيد: نطالب المنظمة به؟ أم مصر للطيران؟ فقلتُ إننا في ورطة، وإذا كان ثمن التذكرة زهيدًا فلا يهم. وبدأنا نرصُد ما لدينا من نقودٍ سائلة فوجدنا ما يكفي أربعة أشخاص ولا يكفي خمسة، مما جعل هذا الحل مستبعدًا. وهكذا لم يبق سوى الحل الرسمي. واقترح توم هيتون أن نتصل بمصر للطيران فورًا، وتولى هو الاتصال، وخرج مع «ناظر المحطة» لإجراء اللازم، بعد أن وعدَنا بالرد علينا بعد قليل.

وفي نحو الواحدة ظهرًا جاءنا من يخبرنا أن هناك طائرةً خاصة ستقوم في الخامسة من نيروبي إلى لوساكا، وأن مندوب مصر للطيران سوف يأتي للانتهاء من الإجراءات، وأننا مدعُوون للغداء على حساب الشركة في بوفيه المطار. وعاد توم هيتون مع زوجته جاكي، وجلسنا نتسامر حتى نحو الثالثة، ثم انصرفا. وكان التعب قد بلغ بي مبلغه، فغفوتُ قليلًا، وفتحتُ عيني على صراخ سميرة عبد السيد؛ إذ كانت الطائرة قد وصلَت، وكان الناسُ يتدافعون إليها ويتزاحمون بالمناكب، وكان الزحام أشد مما تحتمله السيدات. وكان لا بد أن نتقدم جميعًا وأنا ﮐ «القاطرة» فنشُق طريقًا وسط الحشود نحو الباب، وأنا أدافع الحشد الصاخب صائحًا صارخًا. وفعلنا ذلك، مما تطلَّب قدْرًا كبيرًا من الجهد البدني حتى وصلنا إلى الطائرة، وهناك طُلِب إلينا أن نتعرف على حقائبنا حتى تُوضع في الطائرة. وساد الهَرْج والمَرْج، واشتد الصياح والصراخ؛ إذ إن أحدهم شاهد غلامًا يختطف حقيبةً ظنها الراكب من متاعه، وينطلق بها إلى حيث يعلم الله! ولكننا نجحنا جميعًا في العثور على المتاع، وتأكدنا من تحميله على الطائرة، وانطلقنا إلى لوساكا.

أما ما حدث في لوساكا فروايتُه قد تستغرق صفحاتٍ طويلة. ولقد أفردت لحادثة المطار هاتَين الصفحتَين؛ لأنها حادثة تكرَّرَت كثيرًا على مدى السنوات العشرين الماضية، وأكاد أقول في كل مؤتمر أعمل فيه في أفريقيا، ولكنني سأكتفي بما حدث في الليلة الختامية للمؤتمر؛ إذ كان ينبغي كتابة التقرير بالعربية والإنجليزية والفرنسية، ولجنة التنسيق لتحرير أفريقيا كانت اللجنة الأساسية لمنظمة الوحدة الأفريقية التي تتولى متابعة نشاط حركات التحرير في شتى البلدان الأفريقية. وقد أتاح لي العمل بالترجمة في مؤتمراتها أن أزور بلدانًا أفريقية كثيرة، وكان ما حدث في الليلة الختامية لا يختلف هنا عما شهدتُه في بلدانٍ أخرى كثيرة.

كان المترجم الفوري كمال عزت يترجم من الفرنسية إلى العربية في الكابينة، وسامية خلاف تترجم من العربية إلى الفرنسية، وآن ماري جريس من الإنجليزية إلى الفرنسية وبالعكس، وسميرة عبد السيد من العربية إلى الإنجليزية، وشوقي الكيلاني من الإنجليزية إلى العربية، وأنا المترجم التحريري الوحيد في الفريق! وكان المفروض أن يتولى الأفريقيون إعداد النص المطبوع الأصلي بالإنجليزية والفرنسية، وأن يترجمه أحدنا (وكنتُ أنا ذلك الشخص) من إحدى اللغتَين إلى العربية. وكان المفترض أن يكون النص قد اكتمل قبل بداية الجلسة الختامية — كما هو الحال في شتى المؤتمرات العربية والعالمية — وكان علينا أن نستقل الطائرة عائدين من لوساكا إلى نيروبي فالقاهرة، في السابعة صباحًا. وهكذا كان المفترض أن تكون الجلسة «جلسةً شكلية» (a formality)، أو جلسةً ختامية رسمية لا تتأخر عن الثامنة أو التاسعة مساء، ولكن الذي حدث هو أننا بعد أن انتهينا من التقرير بالإنجليزية والعربية (ولقد شاركتُ مترجمًا أفريقيًّا نابهًا اسمه «قوصى» في صياغته بالإنجليزية). وبعد أن وافق عليه السفراء بدأ الوزراء في الجلسة العامة يعترضون على فقراتٍ منه ويقترحون إبدالها بفقراتٍ جديدة، وكانت الفقرات الجديدة تُملى إملاءً على كاتب الجلسة أثناء الاجتماع، فإذا كانت بالفرنسية ترجمها كمال عزت وأعطى النص إلى إيفيت إسكندر، وإذا كانت بالإنجليزية ترجمتُها أنا، وعبد الرحيم شلقامي جالس إلى الآلة الكاتبة ينسخها بهمة ونشاط. ومرَّت ساعات المساء ودخل الليل، وبدا على أعضاء السكرتارية الأفريقية التعب، وبدأ النعاس يتسلل إلى عيونهم (مثلما تسلَّل إلى عيون كثيرٍ من المندوبين في القاعة)، ولم أعرف سر ذلك إلا حين وجدتُ صناديق الجِعَة الأفريقية مكدَّسة بجوار مكاتبهم. وانتصف الليل والجلسة صاخبة، والأفريقيون ينامون الواحد بعد الآخر. وكانت إيفيت إسكندر تكتب ما يأتيها به كمال عزت، وشلقامي يكتب ما أمليه عليه. وتوغل الليل حتى الهزيع الثاني فلم يبقَ يقظًا إلا نحن المصريين، ولكننا لم نستسلم حتى انتهينا من التقرير في الخامسة صباحًا.

وعندما عُدتُ إلى القاهرة كان أول ما سألت عنه هو ما حدث للمسرحية. وكان الرد هو أن الأستاذ محمد لمعي رئيس هيئة المسرح، وهو ضابط سابق بالجيش، قد رفض تقديمها على المسرح. وعندما زرناه أنا وسمير سرحان في المكتب بشارع عبد الخالق ثروت قال لنا بلهجةٍ عسكرية: «لقد أمرتُ بوقف التعامل مع هذه المسرحية الشيوعية!» وعندما شرح له سمير أن المسرحية تنتهي بتصحيح الصورة وذكر مساوئ عدم الفهم الصحيح للاشتراكية وسوء التطبيق، قال بلهجة استنكار وصوتٍ مدَوٍّ: «يعني تيجي في الآخر وتقول كلمتين بعدما يكون الناس اتحولوا؟» وخرجتُ منكَّس الرأس، فاقترح سمير أن أنشُر المسرحية، ولكنني عرفتُ صعوبة ذلك آنئذٍ، فقرَّرتُ أن أعيدها إلى الدُّرج، وأنتظر ما تأتي به المقادير.

وفي أواخر عام ١٩٧٨م تبسَّمَت الدنيا بعض الشيء!

٣

في أغسطس ١٩٧٨م طرق الباب طارقٌ في السادسة صباحًا، وجاءت إليَّ نهاد تخبرني بأنه — فيما يبدو — عسكري، ولو كان يرتدي الزي المدني، فقفزتُ من الفراش قفزًا وكنا في رمضان، وكنا نسهر مثل جميع أهل القاهرة آنذاك حتى الفجر، ثم لا ننهض حتى الضحى، وإن كنتُ أنا وما زلتُ أستيقظ قبل إشراق الشمس، مهما بلغ السهر. وهُرِعتُ إلى الباب فوجدتُ شابًّا يتكلم بلهجةٍ عسكرية، ولم يزد على أن قال: «موعدك الساعة الواحدة ظهرًا.» وانصرف. ونظرَت إليَّ نهاد في دهشة، ولم أكن أقل منها دهشة، وقلتُ في نفسي: «لقد تأخر زائر الفجر هذه المرة! والله زمان!» ولم أُخفِ قلقي من هذا الطارق، وطمأنتُ نهاد وقلتُ لها سواءٌ أكان هناك ما يسوء أم لا فلا بد من إجراء تحقيق؛ لأن عهد المعتقلات ولَّى إلى الأبد، وسواء أكان الذي أبلَغ السلطات هو أحد زبانية رشدي أم لمعي أفندي فسوف أثبِت براءتي. وقالت إنها ستذهب لوالدتها، وسوف تتوقع مني اتصالًا تليفونيًّا قبل الإفطار إذا سار كل شيء على ما يُرام، وإلا فسوف تعرف أنني ما زلتُ رهن التحقيق. وليست كتابة المسرحية بالجريمة النكراء؛ فأنا لم أنشرها بعدُ، ولم يثبُت أن بها معارضةً للنظام، مع أن النظام يسمح رسميًّا بالمعارضة. وعلى أي حال فكلها ساعاتٌ معدودة، ولكم سبَق لنا الانتظار!

وفي الواحدة تمامًا دق الجرس فخرجت، وكانت نهاد تُخفي قلقها، وذكرَت أن ليليان زوجة لطفي الخولي كانت تُعِد له حقيبة في مثل هذه الحالات، ولكننا كنا متفائلين. وانطلقَت بي السيارة — وكانت سيارةً مدنية عادية — وما كان أشدَّ دهشتي حين دخلَت السيارة منزل رئيس الجمهورية في الجيزة! ووجدتُ ترحيبًا من الرائد عبد العظيم «مشرف المنزل» الذي ساقني إلى الصالون. وهناك جاءت السيدة جيهان السادات، ورحَّبَت بي، ثم انتقلنا إلى غرفة مكتبها، وبدأنا مناقشة مشروع رسالة الماجستير، واندمجنا في الحوار، وتشعَّب الحديث وتلوَّن، فبهرني ما تتمتع به من صبر وقدرة على التفكير المتأني. ولما كنا في رمضان فلم يكن يقاطعنا من اعتدناهم فيما بعدُ من حاملي صواني عصير الليمون والقهوة. واستمرَّت المناقشة حتى الرابعة، فطلبتُ أن أتصل بزوجتي في شبرا بالتليفون، ففهمَت من ذلك أنني أريد الرحيل، فقامت وأوصت السائق بتوصيلي إلى شبرا، ولكنني فضَّلتُ أن أذهب إلى المنزل في المهندسين، ثم أذهب إلى أصهاري في شبرا بسيارتي الخاصة.

كانت تلك بسمةً حانية من القدر في أحلك لحظات حياتي؛ فلا شك أن معرفة السيدة الأولى والإشراف على دراستها الأكاديمية، ولو من الباطن، يمكن أن ينجيني من أمثال الرقباء الذين يطالبون برقبتي. وذهبتُ إلى شبرا، وهمستُ لزوجتي بسر الاستدعاء الصيفي. وعندما انتهى رمضان وجاء العيد، أحسسنا بأن لدينا ما نفرح به حقًّا؛ فتلميذتي هذه المرة ذات موقعٍ مرموق في الدولة، وكنتُ في مسيس الحاجة إلى مثل هذه التلميذة المجتهدة، خصوصًا بعد أن آنستُ في أسئلتها وخلال المناقشة مدى جدية مطلبها، ومدى حدَبها على العلم والعلماء. ولم أعرف سر استدعائي في ذلك الوقت تحديدًا إلا عندما ذاعت أنباء سفر الرئيس إلى الولايات المتحدة لإجراء المفاوضات حول جلاء إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة، والتي بدأَت في أوائل سبتمبر ١٩٧٨م، وانتهت بتوقيع اتفاقيتَي كامب دافيد في ١٨ من ذلك الشهر بوساطة الرئيس جيمي كارتر. وعندما عاد الوفد المصري، استُدعيتُ مرةً أخرى وتكرَّرَت اللقاءات.

كنتُ في تلك الآونة قد يئستُ أو كدتُ من «الإفراج» عن مسرحيتي ميت حلاوة، وكان حُلمي القديم بإعادة إصدار مجلة المسرح ما زال يراودني، ففاتحتُ سمير سرحان في الموضوع، ولكن جو وزارة الثقافة كان متجهمًا، وكان من الواضح أن تغييرًا ما لا بد أن يقع دون أن ندري كيف، فاقترح سمير إنشاء مجلةٍ خاصة — أي مجلةٍ تابعة للقطاع الخاص — وكانت اللوائح تنص على أن إصدار أي مجلةٍ خاصة يجب أن يكون تحت عباءة جمعيةٍ مسجَّلة ومعترف بها، فتفتَّق ذهنه الخلاق عن إنشاء نادٍ للمسرح يُصدِر مجلة بعنوان نادي المسرح؛ ومن ثَم بدأنا العمل. وكانت قضية سعد الدين وهبة وسميحة أيوب قد حُسمَت لصالحهما وعاد كلٌّ منهما إلى منصبه السابق، فاجتمعنا ذات يوم في أكتوبر في غرفة الأستاذة سميحة في المسرح القومي (الأزبكية)، واقترحنا تشكيل النادي برئاستها؛ فهي علم من أعلام المسرح. وكان مجلس إدارة النادي يضم سمير سرحان وفوزي فهمي وجمال سلامة (وهو أخو مرفت سلامة الناقدة والمذيعة التليفزيونية وزوجة فوزي) والفنانة محسنة توفيق، ومن الشباب أسامة أبو طالب (الدكتور)، وشخصٌ كنتُ أراه لأول مرة اسمه مرسي نويشي (اتضح لي فيما بعدُ أنه أفَّاقٌ كبير).

كانت مغامرة إصدار المجلة ممتعة؛ إذ عقدنا أول اجتماع لهيئة التحرير التي كان على رأسها سمير، وتضمُّني مع فوزي نائبَين له، وتضم أسامة سكرتيرًا للتحرير، وذلك وفقًا للأقدميات الجامعية. وبدأ سمير العمل، فاتجهنا إلى دار روز اليوسف حيث قابلنا مندوب إعلانات فذًّا ذا ذهن وقَّاد يُدعى أنور حجازي، واتفقنا معه على الحصول على إعلانات من بعض الشركات، وكان أهمها شركة مصر للطيران، بحيث تغطي تكاليف العدد الأول. والغريب أن حجازي المذكور كان كفيفًا. وبعد ذلك عقدنا اجتماع تحرير (نحن الأربعة) في فندق ميريديان (الجديد) واتفقنا على مواد العدد، وحدَّدنا يناير موعدًا لصدوره. وكنتُ أتأمَّل حينذاك اختلاط مفاهيم المسرح في مصر، والتفرقة بين العرض المسرحي وبين أدب المسرح (الدراما)، حين وقعَت حادثة الانتحار الجماعي لطائفة «معبد الشعب» الأمريكية. وخلاصتها أن جماعةً دينية متطرفة يرأسها شخصٌ يدعى جيم جونز، واسمه الكامل جيمس وارن جونز، وكان يقول إنه كاهن، اتخذَت من غيانا في أمريكا الجنوبية مقامًا لها. وكانت تضم الشباب بصفة أساسية، وكانوا يتزوجون بحرية فيما بينهم، ولديهم أطفال من مختلف الأعمار. وكان ذلك المتطرف قد أقنعهم بترك ممتلكاتهم من «عَرَض الدنيا الزائل»، والتفرُّغ للعبادة تحت مظلة تعاليمه (التي لم يكشف عنها النقاب أبدًا). وعندما قام أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي واسمه «ليو رايان» بزيارة أمريكا الجنوبية للتحقيق فيما قيل من أن بعضهم كان محتجزًا رغم أنفه، قتلَه بعض أعضاء الجماعة يوم ٢٠ نوفمبر، ثم انتحر الجميع بتناول السم، وكان عددهم ٩٠٩ (تسعمائة وتسعة) بنسائهم وأطفالهم، بعد أن دعاهم القسيس الزائف إلى الرحيل معه إلى العالم الآخر، وأطلَق الرصاص على رأسه.

وقرأتُ تحقيقًا في مجلةٍ أمريكية آنذاك تقول إن جونز المذكور كان متحدثًا بارعًا وممثلًا موهوبًا، وإن طقوس الجماعة كانت مسرحية في جوهرها، بعد أن عثَر المحققون في الحادثة على كُتيباتٍ تركِّز على الطقوس والشعائر التي تتضمن حركاتٍ وأقوالًا، وموسيقى يشهدها الجميع ويشاركون في أدائها. وكان العمل المسرحي أو «فنون الأداء» — كما نُسمِّيها اليوم — من صلب ممارسات العبادة لديهم، فاتخذتُ من هذه الحادثة نقطة انطلاق للتفرقة بين المسرح أو فنون الأداء وبين الدراما. وكتب فوزي دراسةً عن المسرح الروسي. وكتب سمير دراسةً عن مسرح السبعينيات في أمريكا. وكتب أسامة دراسةً لمفهومه عن البطل التراجيدي من وجهة نظر الإسلام.

واكتملَت المادة في ديسمبر — وكانت من بينها دراسةٌ رائعة للمدارس المسرحية الحديثة كتبَتْها نهاد صليحة زوجتي (طوَّرَتها فيما بعدُ وطبعتها مستقلةً بعنوان المدارس المسرحية المعاصرة) — وذهبنا إلى دارِ نشرٍ مغمورة اسمها «دار الهناء» في شارعٍ متفرع من شارع الصحافة وربما كانت مطبعة وحسب، فجُمعَت المادة بالتيبو (اللينوتيب) وصُحِّحت، ثم طُبع الغلاف الملوَّن، وبه ثلاثة إعلانات. وصدَرَت مجلة نادي المسرح في أول ١٩٧٩م، وكان سعر النسخة ٢٥ قرشًا. واصطحبني سمير غداةَ صدورِ العدد الأول إلى أماكن التوزيع، فوجدنا أن عدد المُباع لم يزد على سبعين نسخة، فقرَّرنا القيام بالدعاية اللازمة، ومحاولة الحصول على المزيد من الإعلانات، وتعريف أهل المسرح بالمجلة الوليدة.

وفي أواخر ١٩٧٨م أنشأت جريدة الأهرام صفحةً خاصة بالثقافة. واختلف المسئولون بالجريدة حول من يتولى الإشراف عليها هل توفيق الحكيم أم ثروت أباظة، وكان لكلٍّ منهما أنصاره؛ فتوفيق الحكيم عَلَم لا يُنازَع في مكانته، ولكنه هرمٌ مُهدَّم، ولا يستطيع ممارسة العمل الصحفي، وثروت أباظة كاتبٌ كبير، وله نفوذه وأنصاره؛ ومن ثَم استقر الرأي على أن يتولى أحد الصحفيين المحترفين تنفيذ الصفحة حتى يُحسم الخلاف. ووقع الاختيار على فاروق جويدة، الشاعر؛ فهو شابٌّ وصحفيٌّ محترف؛ ومن ثَم بدأَت الصفحة في الظهور، وبدأَت تملأ الفراغ الذي أحدثه اختفاء المجلات الأدبية، ونُشرَت فيها مقالاتٌ لكبار الكُتاب. وسرعان ما بدأ سمير سرحان ينشر فيها مقالاتٍ منوَّعة. وظهر لي أول مقالٍ طويل بالعربية منذ عودتي يوم ٢٤ ديسمبر ١٩٧٨م. وفي أواخر ذلك العام أيضًا دعينا أنا وزوجتي نهاد إلى حفل زفاف جمال السادات في منزل الجيزة، كما دُعي إليه كثيرٌ من أساتذة كلية الآداب. ووجدتُ في الحفل الكثيرين من المعارف الآخرين. ورحَّبَت بنا السيدة الأولى خير ترحيب وفق تقاليد أم العريس المصرية. ولما كانت قد سجَّلَت لدرجة الماجستير بإشراف سهير القلماوي، وكنت الوحيد (باستثناء رشاد رشدي) من قسم اللغة الإنجليزية الذي دُعي إلى حفل الزفاف، فقد بدأَت الشائعات عن مشاركتي في الإشراف من الباطن، وإن كان دوري مقصورًا في تلك المرحلة على لقاءاتٍ دورية لشرح نصوصِ شلي. وكان مجدي وهبة هو الذي يراجع ما تكتبه «الطالبة» مع سهير القلماوي، ولكن النشر في الأهرام كان التتويج الحقيقي لعام ١٩٧٨م.

٤

كان حُلم تقديم المسرحية على المسرح ما فتئ يراودني، وإن كان قد أصبح الآن بعيد المثال، لسببٍ آخر لا علاقة له بالرقابة، وهو اختفاء ممثلي المسرح في استوديوهات اليونان والخليج العربي لتصوير المسلسلات. واقترح عليَّ أحمد زكي المخرج أن أقدم نصًّا لشيكسبير؛ إذ لن تعترض الرقابة عليه، بل ويمكن تصويره تلفزيونيًّا. واقترح مسرحية زوجات مرحات (واسمها الأصلي زوجتان مرحتان من ضاحية وندسور) بسبب شخصية فولسطاف الكوميدية. كما اقترح تمصير النص؛ أي تحويله إلى نصٍّ مصري عربي؛ بمعنى أن تُصبِح الشخصيات مصرية تتحدث اللغة العربية المصرية لا الفصحى، التي هي لغة كتابة لا لغة حديث. وقال إنه يتصور أن يصبح اسم البطل فنطاس باشا مثلًا! وراقتني الفكرة، فعكفتُ على النص أترجمه إلى تلك اللغة التي يُطلَق عليها وصف العامية وإن كانت «عامية المثقفين» — كما يُسمِّيها السعيد بدوي — أو «العامية الجَزْلة»، كما يُسمِّيها محمد مندور. وكانت التجربة طريفةً وبالغة الثراء؛ فلغة النص الكوميدي لدى شيكسبير «عامية» في معظمها، والمضاهاة بين لغتَي الحديث هنا وهناك شاقة وعسيرة، خصوصًا عند إعادة صياغة الموقف الدرامي التي قد تستلزم ما يوازي علميًّا إعادة الكتابة، بمعنى إعادة التأليف، وفي هذه العملية يختلط النقل بالإبداع في علم الترجمة الحديثة (translatology)؛ إذ لا يعقل أن تظل الكلمات كما هي حين تتغير الشخصيات عند التحول من بيئة إلى بيئة. وفنطاس باشا، وهو هنا من زعماء المماليك، لن يتحدث اللغة التي يتحدثها فارس من عصر النهضة، وإن كان تراث العصور الوسطى يجمع بينهما. وكان أمامي خياران؛ إما أن أصب شخصية «فولسطاف» في شخصية فنطاس باشا، فتخرج الشخصية المحلية العربية غير صادقة لبيئتها وتراثها، وإما أن أعطي الحرية للشخصية الجديدة في أن تتحرك وفقًا لمقتضياتها الخاصة، وقد فضَّلتُ الخيار الأول — على ما به من مثالبَ فنية — لأنني كنتُ ما زلت كاتبًا مسرحيًّا جديدًا، ولأن الخيار الثاني كان معناه «اقتباس» المسرحية الأصلية أو استلهامها في كتابة نصٍّ جديد، وهذا هو ما يحدث في الواقع في كل ترجمة، وإن كنتُ لم أدرِك ذلك آنذاك. ولم تكن لديَّ جرأة نعمان عاشور في ترجمة عطيل — وهو نصٌّ تراجيدي شيكسبيري — إلى اللغة العربية المصرية (العامية).
وبدأت المشاكل بالعنوان؛ فكلمة merry تعني المرح فعلًا، ولكنها هنا تعني «الجدعنة»، على نحو ما نرى في المصطلح الإنجليزي The more, the merrier أي «البركة في العدد» أو في مصطلح the merry men of England أي جدعان الإنجليز، أو ذوو الشهامة؛ فكلمة merry من الكلمات الإنجليزية التراثية، وإطلاقها على الزوجتَين تحمل إلى جانب المرح معاني تمتزج فيها صلابة النفس بالاعتزاز بالشرف، ولكن المسرحية كانت قد عُرفَت بهذا العنوان بالعربية (زوجات وندسور المرحات)، ولم تكن هناك فائدة من تحري الدقة العلمية في ترجمةٍ هي في جوهرها إعادة صياغة. وصادفَتْني بعد ذلك صعوباتٌ كثيرة عالجتُها في الكثير من كتبي عن الترجمة بالإنجليزية والعربية، منها الوزن والقافية؛ إذ أحيانًا ما يكمُن في هذَين العاملَين سر النص بحيث يتجاوز معناهما معنى الألفاظ. وهنا كان عليَّ أن أحوِّل كل أرجوزة إلى مثيلٍ لها أو مقابلٍ عربي ينقل قوة الوزن والقافية؛ فعندما يحاول «فولسطاف» مراودة زوجة السيد «فورد» (الذي أسميتُه وردًا في التمصير) عن نفسها، ويرسل لها خطابًا يحاول فيه إثبات شاعريته، وما هو بشاعر، يُخرِج لنا أبياتًا سخيفة نضحك منها، وذلك أساسًا بسبب اعتسافه طريق الوزن والقافية؛ فهو يوقِّع الخطاب قائلًا:
Thine own true knight
By day or night
Or any kind of light!

وقد ترجمتُها على النحو التالي — حفاظًا على روح الفكاهة:

فارسُكِ المختار،
بالليل والنهار،
وسائر الأنوار!

ولم أجد ما يبرِّر محاولة نقل المعنى المنثور كأن أقول، فارسك المخلص الأمين، مثلًا، بل ضحَّيتُ بذلك في سبيل بحر الرجز والقافية؛ فالكاتب ما كان ليكتب السطر الأخير لو كان شاعرًا يحسب حسابًا لكل لفظة. وقِسْ على ذلك ما جاء في النص من أغانٍ وأراجيز.

وانتهيتُ من الترجمة بسرعة، وأعدَدتُ نسخةً على الآلة الكاتبة، وقرأتُ النص على زوجتي نهاد صليحة أولًا، ثم على سمير سرحان وزوجته نهاد جاد، فاقترح الجميع تقديمه إلى المسرح الكوميدي. وكان يرأس الفرقة ممثلٌ ومخرجٌ ذو شعبيةٍ كبيرة هو السيد راضي. وزرتُ السيد راضي في منزله بالمهندسين، وعرضتُ عليه الفكرة، وتركتُ له نسخة من المسرحية. وسرعان ما حدَّد موعدًا لبدء التجارب المسرحية (البروفات) في مسرح الحكيم القديم، وكان مقره مبنى مسرح محمد فريد، الذي ضاع الآن من أيدي وزارة الثقافة. وعندما ذهبتُ لحضور البروفة الأولى، مررتُ بتجربةٍ لا أعتقد أنها تكرَّرَت في حياتي المسرحية بعد ذلك.

اجتمعَت الفرقة، وبدأ السيد راضي بتقريع الممثل محمود القلعاوي لكثرة تخلفه عن العمل في مسرح الدولة، وانشغاله بمسرح القطاع الخاص والمسلسلات. وألقى ما يشبه الخطبة عن ضرورة الالتزام بالواجب الفني لمسرح الدولة، ثم بدأ الممثلون يقرءون الأدوار، فاكتشفتُ أن السيد راضي لم يقرأ النص قبل تلك اللحظة. وكان الممثلون يعترضون أحيانًا على بعض العبارات، فيقول كلامًا يُثبِت أنه لا يعرف ما سيحدث. وعندما انتهى الفصل الأول (أو الجزء الأول) بوضع فنطاس باشا في سلة الغسيل ضحك ضحكًا شديدًا، وقال لي: «حلوة دي! ده حتة بلوف (وقد أدركتُ أن كلمة «بلوف» قد تكون تحويرًا للإنجليزية bluff ولكن معناها اختلف؛ فهي لا تعني «الخدعة»، بل تعني حركةً مسرحية بارعة تقوم على الخداع). وكانت التجربة المسرحية (البروفة) الأولى فاشلةً بكل المقاييس؛ فالممثلون كانوا يقرءون النص لأول مرة. وكان الشخص الذي أسندَت إليه البطولة (واسمه أبو زيد) سخيًّا بتعليقاته ضنينًا بفنه، فكان يُكثِر من ضرورة وضع إفيه (من الفرنسية effet بمعنى فكاهة) هنا، والحديث عما يضمن هنا سوكسيه (من الفرنسية succés بمعنى التصفيق) وكان ثقل ظله دافعًا على الانقباض العظيم.

وبعد البروفة انتحى بي السيد راضي جانبًا، وأفهمَني أنه يريد منصبًا مرموقًا لقاء إخراج هذه المسرحية. وقد خُيِّل إليه أنني أستطيع مساعدته في ذلك، بسبب الشائعات. ويبدو أنه كان يريد أن يصبح رئيسًا لهيئة المسرح. ولقد تحقَّق له ما أراد بعد نيِّف وعشرين سنة، في عام ١٩٩٢م. وأذكُر عندما طُرد كرم مطاوع من رئاسة هيئة المسرح بسبب خلافاتٍ سوف أعود إليها في حينها، وعُيِّن السيد راضي رئيسًا للهيئة، أن قال لي حامد شاكر، المدير الإداري لمسرح الأزبكية، إن الهيئة بهذا التبديل تشبه من يطلق الزوجة ست البيت ليتزوج الخادمة! ولكن الذي حدث هو أن السيد راضي نجح في إدارة الهيئة حين تولاها، وساعدته الظروف في تقديم موسمٍ مسرحي ناجح، ولكن تجربتي الأولى معه كانت محزنة؛ فالممثلون مبتدئون، لا يستطيعون قراءة الكلام المطبوع، والحس الفكاهي لديهم شبه معدوم، ولا يتصوَّرون أن الجمهور سوف يضحك إلا على الفكاهات اللفظية أو ما نُسمِّيه ﺑ «التقريع» بالعامية، ربما من صفة «القرعاء» حين تُوصف النكتة بأنها قَرعة (بالعامية).

وأعدتُ المسرحية إلى درج مكتبي، ولم أتصل بعد ذلك بالسيد راضي ولم يتصل هو بي. وذات مساء في صيف ١٩٧٩م، ونحن نجلس أنا وسمير ونهاد جاد ونهاد صليحة في حديقة المسرح العائم بجوار كوبري الجامعة، وصل حمدي غيث — الممثل والمخرج الشهير — وفتح موضوع المسلسلات، وجعل يدافع عن اندفاع الفنانين إلى الخارج للتصوير، قائلًا إنها ظاهرةٌ صحية، وإن المسرح بصورته القديمة أصبح وهمًا، وإن زمان إخراج المسرحيات الكبيرة قد انقضى، وعلى الجميع أن يسايروا التيار. واحتدم النقاشُ وكنتُ قد عُدتُ لتوِّي من أول مؤتمرٍ دولي يُعقد في أوروبا، وهو مؤتمر التنمية الريفية والإصلاح الزراعي في منظمة الأغذية والزراعة (روما)، وكان معي مترجمان هما عمرو أحمد عمرو وسعيد مطر. وقد أوحى لي وجودهما معي وما قصَّاه عليَّ من قصص بعدة أفكارٍ تدور حول جدلية النفس — إن صح هذا التعبير — كما تعرَّفتُ لأول مرة على الأستاذ أسعد حليم، المترجم العظيم، وعلى غيره من العاملين الدائمين أو المؤقتين بالمنظمة مثل سمير عفيفي — الذي أُكثر من الإشارة إليه في كتبي عن الترجمة — وعلي حنفي سليمان وعبد الرازق إبراهيم، وأحمد فؤاد بلبع، ومحمود يونس (الذي عملتُ معه فيما بعدُ في المنظمة العالمية للأرصاد الجوية في جنيف) وغيرهم.

أما جدلية النفس فأقصد بها التناقُض الكامن في نفس كل إنسان بين عالمه الخاص بأحلامه ورؤاه وهمومه وبين عالمه العام، وهو الدور الاجتماعي الذي يضعه لنفسه، ويؤديه مرتديًا قناعًا أو عدة أقنعة. وزادتني قراءتي لكتابات كارل جوستاف يونج (Jung) عالم النفس النمسوي الشهير، إيمانًا بهذه الجدلية الباطنة. وتصوَّرتُ أنني لو أخرجتُ العالم الخاص من نفس الإنسان وألبستُه ثوبا آدميًّا (شخصية أخرى) لمواجهة العالم العام أو القناع الاجتماعي، فلا بد أن يحدث صدام من لونٍ ما، ورأيتُ أن ذلك ما يفعله كبار كُتاب الدراما منذ أقدم العصور. ولنا أن نتصوَّر مثلًا أن «ياجو» في مسرحية عطيل يمثِّل جانب المخاوف والغَيرة الكامن في نفس عطيل، وأن شيكسبير يُخرِجه لنا في هذه الصورة المجسَّدة حتى نراه رأي العين. ويظل عطيل أمامنا — حتى في أحاديثه الفردية (المناجاة) ممثلًا للجانب الواعي فقط من شخصيته. ومعنى هذا أن ياجو يمثل ما لا يعيه من عدم الثقة في حب ديدمونة له، بسبب لونه أو بسبب تقدُّمه في السن مثلًا. وإذن فقد يكون «الخاص» هو اللاوعي ويكون العام هو «الوعي»، فإذا كانت نتيجة الصدام داميةً خرجَت لنا المأساة، وإن أمكن التصالح خرجَت ملهاة.
وأعدتُ النظر في بعض مسرحيات شيكسبير، فوجدتُ أن الوعي واللاوعي قد يتبادلان الأدوار، بمعنى أن الشخصية التي تمثل اللاوعي قد تقترب كثيرًا من الوعي فتصبح ممثلةً له، والعكس بالعكس. ومن هذا المنظور فإن البطل ونقيضه (foil) قد يكونان وجهَين لعملةٍ واحدة. وأمكنَني من هذه الزاوية أن أتصوَّر مواقف يُرغَم فيها البطل إرغامًا على مواجهة اللاوعي لديه، مجسَّدًا في شخصية أخرى؛ ومن ثَم شرعتُ في إعادة كتابة مسرحيتي القصيرة السجين والسجان؛ حيث التبادُل واضحٌ بين الدورين، ثم كتابة مسرحيةٍ أخرى هي الصديقان — كانت أول وآخر مسرحية تنشر لي في مجلة المصور القاهرية — بعد أن أرسلها سمير سرحان دون أن يستشيرني إلى صبري أبو المجد، رئيس التحرير، الذي قرأها فأعجَبَته ونشرها في عددَين متواليَين. ولم ألبث أن كتبتُ مسرحيتَين أخريَين من نفس المنظور هما البحيرة حيث يتجسد اللاوعي في امرأة، والصديقتان، وفيها تتبادل الشخصيتان دور الوعي واللاوعي. وكانت هناك شركة للإنتاج التليفزيوني العربي، مستشارها الفنان كمال الطويل، ولديها لجنة قراءة من كبار النقاد، فاقترح سمير تقديم بعض هذه المسرحيات إليها. كما قدَّمَت نهاد صليحة مسرحيتَها الأولى المؤلَّفة في ضوء القمر (وكلها من فصلٍ واحد، ولا يزيد عدد شخصياتها عن ثلاثة) إليها. وقام سمير العصفوري بإخراج البحيرة وفي ضوء القمر في تونس، وصوَّرهما التليفزيون وأذاعهما.

وفي خِضَم انشغالي بهذه المسرحيات القصيرة كان سمير مشغولًا بكتابة نصٍّ جديد هو امرأة العزيز. وكانت الصورة التي تُلِح على ذهنه فيها (بعد شخصية الحاكم بأمر الله في ست الملك) هي شخصية الرجل الذي يسعى للمجد، فيدوس في سبيل ذلك أعز أصدقائه وأقرب الناس إليه، ولكنه كان يستعذب فكرة إغواء امرأة العزيز ليوسف عليه السلام، فاستوحاها في تصوير غواية زوجة الباشا لشابٍّ تبنَّاه وربَّاه، ولكن الرقابة فطنَت للتشابه، وأصَرَّ الرقيب على حذف الكثير من المسرحية، بل وتغيير عنوانها إلى روض الفرج. وكان سمير قد كتب مسرحيةً أخرى قصيرة من فصلٍ واحد للتليفزيون أخرجها كرم مطاوع، وصوَّرها في اليونان، فتوثَّقَت علاقة سمير بكرم، وكان من الواضح أنه هو الذي سوف يُخرج روض الفرج. ولما كان سمير يدرك كل الإدراك أن النجم (نجم الشباك)؛ أي الممثل ذائع الصيت هو القادر على اجتذاب الجماهير، فقد اقترح أن يقوم فريد شوقي بهذا الدور على المسرح. وفعلًا تلاقى الجميع في منزل سمير بروكسي، وسهرنا نناقش المسرحية، وأبدى فريد شوقي إعجابه الشديد بالدور، وانصرفنا ظانين أن المسألة قد حُسمَت. كما اقترح كرم مطاوع أن يلعب أحمد زكي (الممثل) دور الشاب. وتعدَّدَت لقاءاتنا معه، ولكن أجور هيئة المسرح المتواضعة لم تُقنِع أيهما بالاشتراك في المسرحية.

وكنا آنذاك في خِضَم معركة لم نحسب لها حسابًا، وهي معركة وزارة الثقافة نفسها؛ إذ كان الوزير منصور حسن — داعية الخصخصة — قد اقترح إلغاء الوزارة، وإبدالها بمجلس يمثل قطاعات الثقافة المختلفة، وهاجمنا تلك الفكرة في العدد الثاني من مجلة المسرح. كما هاجمها كثيرون ممن ساءهم تردي الأحوال الثقافية في المسرح وفي غيره، فكان صلاح عبد الصبور الذي عُيِّن رئيسًا للهيئة العامة للكتاب خلفًا للدكتور محمود الشنيطي (الذي تقاعد لبلوغ السن القانونية) يخاف على مستقبل النشر في مصر، قائلًا إن الهيئة هي الوحيدة القادرة على نشر الموسوعات والأعمال العلمية الجادة التي لا تستهدف الربح، ومنها موسوعة الدكتور ثروت عكاشة عن الفن التشكيلي وترجماته لأوفيد وغيره. وكان الخوف كل الخوف من زوال هيئة المسرح — الملاذ الأخير لهذا الفن العظيم — ومن زوال هيئة الآثار والثقافة الجماهيرية وما إليها من هيئات لا يمكن تعويضها، لا من القطاع الخاص ولا بمجلس الثقافة الذي حلَّ محل المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية، ولكن رشاد رشدي أرسل مقالًا نُشر في صفحة الثقافة الوليدة في الأهرام يقول فيه إن أكاديمية الفنون يمكن أن تحلَّ محل وزارة الثقافة، فردَّ عليه سمير سرحان بمقالٍ يقول فيه إن الأكاديمية هيئةٌ تعليمية ونطاقها مقصور على فنونٍ معينة ولا يشمل سائر أنشطة وزارة الثقافة.

وقابلتُ صلاح عبد الصبور ذات يوم عن طريق المصادفة البحتة (وكلٌّ منا في سيارته الفيات ١٢٨ في زحمة مرور أمام كوبري الجلاء — قبل بناء النفق)، وسلَّمتُه نص ترجمتي الإنجليزي لمسرحيته مسافر ليل، وكانت معي في السيارة بعد كتابتها على الآلة الكاتبة، ثم مضت كل سيارة لحال سبيلها. ومضت أيام قبل أن نتلقَّى أنا وسمير وفوزي فهمي دعوةً لحضور اجتماع يعقده منصور حسن — وزير الإعلام والثقافة وشئون رئاسة الجمهورية — لمناقشة إلغاء الوزارة! وكان الاجتماع يضُم معظم المثقفين العاملين في هذا المجال، أو هذه المجالات. وشاهدتُ إبراهيم نافع الذي كان ينتظر تأكيد تعيينه رئيسًا لتحرير الأهرام يتابع الحوار باهتمام. وكان حوارًا ساخنًا تسوده العصبية؛ إذ كان المجتمعون ينادون بما يشبه الإجماع بضرورة الحفاظ على الهيئات الثقافية؛ فالتحول من الاشتراكية (رغم أن الدستور ينص عليها) إلى الرأسمالية لا يعني إلغاء إشراف الدولة ومساعدتها للعمل الثقافي. وقال أحدهم إن أمريكا ليست فيها وزارة للثقافة وردَّ آخر بأننا لسنا أمريكا. وقال ثالث إن بريطانيا بها مجلس للفنون، وهو ما نريد من المجلس الأعلى للثقافة أن يكونه، فقلتُ له إن بها وزيرة للثقافة والفنون اسمها جوديث هارت، فقال ثروت أباظة «يعني لا بد من وجود وزير!» وأخيرًا قال منصور حسن: «وهو كذلك. سيبقى الوزير.» وبعد الاجتماع العاصف جاءني صلاح عبد الصبور متهللًا وقال إنه قرأ الترجمة وإنها أعجبَتْه كثيرًا وضحك قائلًا: إنه يبحث لها عن ناشر! وضحكتُ معه، وخرجنا جميعًا بعد أن وعد الوزير بإعداد صيغةٍ لتشكيل المجلس الأعلى للثقافة بحيث لا تتعارض مع هيئات الوزارة القائمة، ومع الإبقاء على منصب الوزير واختصاصاته.

٥

ولم نكن في ذلك كله بمنأًى عن الأحداث المتسارعة من حولنا عربيًّا ودوليًّا؛ فقد كان ختام عام ١٩٧٨م ختامًا أيضًا لحقبةٍ كاملة من تاريخ المنطقة، لم يكن السعي فيها للسلام ينفصل عن غيره من القضايا الحيوية، خصوصًا قضية الشعب العربي الفلسطيني. وكانت الدول العربية تخشى أن يؤدي توقيع المعاهدة المرتقبة للسلام إلى فصل قضية استرداد الأرض المصرية المغتصبة عن القضية الفلسطينية، على الرغم من إصرار السادات على الربط بين القضيتَين وخصوصًا إقامة دولةٍ فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس. وتجلَّى ذلك عند إعلان فوز السادات ومناحم بيجين بجائزة نوبل للسلام، وإعلان ذلك في أوائل ديسمبر ١٩٧٨م. وكانت الثورة على أشُدِّها في إيران؛ حيث استمرت المظاهرات طيلة ذلك الشهر ضد الشاه، مما جعله يغادر البلاد ويأتي إلى مصر في آخر يناير ١٩٧٩م. كما تُوفي الرئيس هواري بومدين في أواخر ديسمبر ٧٨م، فبدأ عهدٌ جديد في الجزائر ما زلنا نشهد آثاره. وما إن وصل آية الله الخوميني إلى إيران في فبراير ١٩٧٩م حتى ظن الجميع أن عهدًا جديدًا مشرقًا قد بدأ. وكانت كل هذه المشاغل موضع اهتمام المثقفين على اختلاف مشاربهم.

وأذكُر أننا كنا ذات يوم في زيارة للفنانة سميحة أيوب في منزلها، وكان لديها مجموعة من الفنانين والمثقفين أذكُر منهم محمد عودة وفيليب جلاب وفريد شوقي وعزت العلايلي وسمير صبحي (من الأهرام) وزوجته إخلاص (الثقافة الجماهيرية) وسمير سرحان ونهاد جاد وأنا ونهاد صليحة، وغيرنا من أعضاء نادي المسرح بمناسبة صدور العدد الثالث من المجلة، ولن أنسى النقاش العنيف الذي دار حول تلك القضايا جميعًا، وأدهشني التفاؤل الشديد بالثورة الإيرانية. وكانت حربٌ أخرى تدور في أفريقيا؛ إذ غزت القوات التنزانية (التي يدعمها الغرب) أراضي أوغندا، واستطاعت الاستيلاء على العاصمة كمبالا في أواخر مارس ١٩٧٩م، واضطُر عيدي أمين إلى الفرار منها، بعد أن تكبَّد الجيشان خسائر فادحة. وقد نُوقش ذلك كله في حفل سميحة أيوب، وإن كانت بؤرة المناقشة هي توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في ٢٦ مارس، واجتماع الدول العربية في بغداد يوم ٣١ مارس ١٩٧٩م لإعلان مقاطعة مصر. وبذلك تحقَّقَت مخاوف الكثيرين من وقوع غربةٍ ثقافية للكثيرين من أبناء مصر، الذين يعتبرون مصر قلب الأمة العربية النابض.

وقال فيليب جلاب إن هذه كارثة، وانطلق يتحدث عن مغبة تقطيع الوشائج الثقافية بين مصر والعالم العربي، بينما كان محمد عودة يعرب عن جذَله لطرد شاه إيران وإنهاء الحكم الملكي الدكتاتوري وبداية عصرٍ جديد. وكنا نتبادل الآراء حول هذا وذاك حين سمعنا ضجيجًا في الغرفة المجاورة للصالة، وإذا به فريد شوقي ينتقد رشدي أباظة ويصرخ قائلًا إنه ليس فنانًا، وجعل يردِّد: «أروني دورًا واحدًا يدلل على عبقرية في الأداء!» وكان عزت العلايلي يهدِّئ من ثائرته ويطيِّب خاطره ويقول له أنتما أحباب، وما بينكما من ودٍّ لا يقطعه التنافس. وما إن سمع فريد شوقي كلمة «التنافس» حتى عاد لثورته، وأنكر أن رشدي أباظة لديه ما ينافسه به. وتَدخَّل الحاضرون وهدَأ الموقف بعد عناءٍ شديد. ونسينا في غمرة ذلك كله أن نحتفل بالعدد الثالث والأخير من المجلة!

ومع تباشير الصيف، ومع دهشتنا لانتخاب مارجريت تاتشر رئيسة لوزراء بريطانيا، في أوائل مايو ١٩٧٩م، جاءني عرض للعمل في روما بمنظمة الأغذية والزراعة (بالترجمة والمراجعة) لمدة شهرَين! وقبلتُ فورًا، وما إن انتهت الامتحانات حتى شددتُ الرحال إلى روما، وكان ذلك في أوائل يوليو؛ حيث بدأَت سنوات الترحال إلى أوروبا في الصيف، والتي استمرت حتى هذه الأيام، وإن حلَّت عواصمُ أخرى محل روما. ولن أنسى فرحتي حين تركتُ حقيبتي في الفندق وخرجتُ أنشقُ عبير المساء، وكان ذلك يوم الأحد أول يوليو ١٩٧٩م، وظلِلتُ أسير في شارع تراستيفيري حتى النهر، ووقفتُ أنظر في مسرحية أنطونيو وكليوباترا لشيكسبير، وحفظتُ ترجمة لويس عوض للسطور التي ورَد فيها ذلك الاسم، قبل أكثر من عشرين عامًا.

Let Rome in Tiber melt and the wide arch
Of the ranged empire fall! Here is my space.
ألا فلتذُب روما في نهر التايبر! وليَتَهاوَ صَرحُ الإمبراطورية الشامخ! إن مكاني هنا!
كانت أشجار الأَرز الأوروبية تنتظم في صفوف على جانبَي النهر، والناس يسيرون فرادى وجماعاتٍ كأنهم يحتفلون بجمال الصيف. ومررتُ في آخر الشارع بمنزل دانتي (Casa Dante) وقد أصبح مكانًا أثريًّا يشهد بعبقرية شاعر إيطاليا القديم. وظلِلتُ أسير حتى غربَت الشمس، فعُدتُ ونمتُ وقد نسيتُ العالم والثقافة وكل شيء!
وشغلتُ نفسي طَوالَ الصيف بالترجمة نهارًا، وقراءة المطبوعات المتخصصة في المساء، واكتساب المعرفة في أثناء ذلك بمصطلحات العلوم الزراعية التي هي علوم الحياة؛ إذ اكتشفتُ أن معرفتي باللغة الإنجليزية — على طول ما أنفقتُه في تعلُّمها — تفتقر إلى الإحاطة بمصطلحات هذه المعارف الحيوية، من بيولوجيا وكيمياء وفيزياء، ولكلٍّ منها فروعُه المتصلة بالزراعة من قريب أو بعيد. وكان العلماء المصريون من أوائل من عرَّبوا مصطلحاتها، وأشاعوها، فأصبحَت عربيةً راسخة، وأصبحَت معرفتُها لازمة لمن يريد أن يتابع مسيرة العلم في القرن العشرين وتطوُّره من يوم ليوم، خصوصًا ونحن بلدٌ زراعي، ولدينا تراثٌ معرفي خصب حافل في هذا المجال، ولكن العلم الحديث قد استحدث الكثير ولا مناص من الإلمام به. واكتشفتُ أيضًا أن المترجم الذي لا يخوض تلك العلوم المتخصصة سوف يظل عاجزًا عن فهم الكثير مما يقرأ حتى في الصحف الأجنبية والمجلات السيارة. والترجمة في المؤتمرات السياسية يكفيها العلم بمصطلحات السياسة والاقتصاد؛ فلها رطانةٌ خاصة (jargon) أي عباراتٌ ثابتة تتكرر دائمًا، ولا تكاد تزيد من حصيلة المترجم. والترجمة الأدبية لها أصولها التي تُبيح التحرُّر من الحرفية في الإشارة إلى دقائق الموضوع. وأما الترجمة العلمية فهي فنٌّ مختلف، وغايتها هي الدقة والوضوح وإحكام نقل المعنى مهما بدا عسيرًا أو عصيَّ المأخذ؛ ومن ثَم أعددتُ كراسًا لي أدوِّن فيه ما يصادفني من مصطلحات، حتى أحسستُ في آخر الصيف أنني قد اجتزتُ دورةً تدريبية مبدئية في الترجمة العلمية. وعرفتُ في غضون ذلك كيف تنتقل تلك المصطلحات إلى اللغة اليومية، وكيف تشكِّل ما يُسمَّى باللغة العامة في الحديث وفي الكتابة.
لقد كانت دورةً تدريبية مكثَّفة حقًّا، فكان سمير عفيفي رئيس القسم يكلِّفنا بالعمل أحيانًا في عطلة نهاية الأسبوع. ولما كنتُ أعجِز أحيانًا عن استجلاء معنى مصطلحٍ من المصطلحات فقد بدأتُ التردُّد على الزملاء من العاملين في القسم العربي، وكانوا يمثلون بلدانًا عربية مختلفة، فكان من بينهم المصري مثل سمير عفيفي وحنفي سليمان وعبد الرازق إبراهيم ويسري سلطان، والسوري مثل لؤي جمعة ومحمد صقر، واللبناني مثل حبيب يزبك، والعراقي (الكردي) زهير عبد الملك، والجزائري مثل الأزرق بن عَلُّو، والسوداني مثل الفاتح أبو سمرة، والفلسطيني مثل عدنان عنَبْتاوي، وانضم فيما بعدُ مصري ظل حتى سن التقاعد وهو إبراهيم طه معاذ، والمصري (صديق دار السلام) إبراهيم الخضري الذي استقال هو والمصري عمرو صالح، بعد عدة سنوات، والمصرية ناهد الجمل التي استقالت أيضًا بعد عدة سنوات (وهي والدة هبة صالح التي تعمل في هيئة الإذاعة البريطانية حاليًّا). وكان العمل في هذا القسم نموذجًا للتوحيد العربي للمصطلحات العلمية، وهو هدفٌ لم تنجح جامعة الدول العربية في تحقيقه، فكان من المُحال على قارئ نصٍّ من النصوص أن يستدلَّ على القطر العربي الذي ينتمي إليه المترجم؛ فالكل يكتب لغةً واحدة هي العربية المعاصرة الموحَّدة، أو ما نُسميه Modern Standard Arabic والكل يستعمل المصطلحات نفسها. وكان سمير عفيفي رئيس القسم قد بذل جهودًا مضنية في هذا السبيل، فكان يجتمع بالمتخصصين في العلوم الزراعية من شتى البلدان العربية، ويستقي منهم ما يتفقون عليه من مصطلحات، والكثيرون منهم يحضُرون مؤتمرات المنظمة في روما، بل ويعمل بعضهم فيها (في شتى الأقسام) أو يعمل ممثلًا لها في بلدانٍ أخرى. وبعد ذلك تبدأ مرحلة إشاعة المصطلح المتفق عليه في مطبوعات المنظمة، حتى إذا استقر ولاقى القبول في البلدان العربية أُدرِج في معجم مصطلحاتٍ خاص بالفرع الذي ينتمي إليه. وهكذا اعتدنا مصطلح الألياف التخليقية (synthetic fibres) بدلًا من الصناعية تحاشيًا للخلط بينها وبين (industrial) والخشب الرقائقي (plywood) الذي نُسمِّيه «أبلكاش» بالعامية. وقِس على ذلك مئات المصطلحات التي تعرَّضتُ لها في كتبي عن الترجمة.

ومن مزايا توحيد المصطلحات أن أصبح العلماء يلتزمون بما اتفقوا عليه نشدانًا للتفاهم الكامل وللتفكير والبحث العلمي المستقل باللغة العربية؛ ولذلك نبغ من علمائنا العرب في الزراعة من تُرجمَت أعمالهم إلى اللغات الأوروبية بيسر وسهولة؛ إذ لا غموض ولا التباس. وأذكُر أنني عملتُ مع الأستاذ أسعد حليم في الصيف التالي في ترجمة موضوع عن الأسماك، وكانت المشاكل أكبر مما نستطيع التغلب عليه وحدنا، فتصدَّى رئيس القسم لجميع المصطلحات الجديدة، وجعل يعقد اللقاءات المتوالية مع خبراء مصايد الأسماك من البلدان العربية؛ إما في روما أو خارجها، حتى استطعنا في آخر الصيف تحقيق مضاهاةٍ شبه كاملة بين مصطلحات اللغتَين. وكان المعجم الصغير الذي صدَر فيما بعدُ ثمرةً لهذا الجهد الدائب.

وكان من مصادر مصطلحاتنا كتب اللغة القديمة؛ إذ ترك العرب تراثًا حافلًا من المصطلحات العلمية، ولو أنه مبثوث دون نظام في كتب اللغة، ومعظم الفضل في اكتشافه يرجع إلى عرب شمال أفريقيا حتى أقصى الغرب؛ إذ إنهم حاولوا في إبَّان موجة التعريب بعد الاستقلال عن فرنسا إيجاد مرادفاتٍ لكثير من مصطلحات العلوم الحديثة، وقد نجد أن بعض مصطلحاتهم الجديدة طريفة، أو قد نضحك منها في لغة السياسة لأننا لم نعتدها في المشرق، مثل قول أهل تونس ﺑ «الحسني» بدلًا من «سلميًّا» (الحل السلمي أو التسوية السلمية = بالحسني) ولكن بعض مصطلحاتهم العلمية أدق، مثل التفرقة بين الغرس (planting) والفِلاحة (agriculture) والزراعة (farming)، وكذلك تفرقتهم بين كلمتَين تشتركان في الكثير وتختلفان في القليل، وهما management وadministration فهم يترجمون الأولى بالتدبير (وما أجملها!) والثانية بالإدارة، ونحن لا نجد سوى الكلمة العربية الأخيرة ترجمةً للكلمتَين الأجنبيتَين، وأحيانًا ما نضيف بعض الصفات للتمييز بين معنى الأولى والثانية، ولكننا لن نستطيع نقل جمال كلمة «التدبير» ترجمةً للأولى خصوصًا ونحن نقرأ ما طرأ عليها من تطور في الإنجليزية المعاصرة. ولقد تذكَّرتُ فضل أهل المغرب العربي علينا حين قرأتُ كتابًا للدكتور محمود عرفة محمود، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة، عن العرب في الجاهلية، فوجدتُ معظم أسماء الآلات الزراعية التقليدية التي كنتُ أبحث عن مقابلاتٍ لها بالعربية دون جدوى.

وعندما عُدتُ إلى مصر في سبتمبر كنتُ عازمًا على توسيع نطاق معارف الطلاب لدينا باللغة الإنجليزية العلمية، ولأن الجيل القديم من الأساتذة لم يكن يهتم بالترجمة اهتمامي بها، وكان المبحث الجديد الذي يُطلق عليه اسم «اللغويات» أو علم الألسنة (كما يقول العقاد) يجتاح جامعاتنا فلا يكاد ينجو أحد من الإصابة به، وكانت الدكتورة فاطمة موسى قد سافَرَت إلى المملكة العربية السعودية في إعارة وتركَت رئاسة القسم للغويٍّ ضليعٍ هو الدكتور سعد جمال الدين، وكان يطمح في تكوين قاعدةٍ عريضة من اللغويين المتخصصين، ولم يكن بين الكبار من يساند دعوتي إلى الاهتمام بالعربية الاهتمام الواجب.

وشُغلتُ بصدور نص مسرحيتي ميت حلاوة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في عام ١٩٧٩م، وكان سعر النسخة ٣٥ قرشًا. وقد كتب لها سمير سرحان مقدمةً طويلة جُعلَت في آخر الكتاب تذييلًا للنص. وكان الأمل يتضاءل في أن ترى النور على خشبة المسرح، فقدَّمتُ المسرحيات القصيرة الأربع إلى صلاح عبد الصبور (رئيس الهيئة)، فوافق على نشرها في سلسلة المسرح العربي (وظهرت في العام التالي بعنوان السجين والسجان ومسرحيات أخرى). وما كدنا نبدأ العام الدراسي (١٩٧٩–١٩٨٠م) حتى تردَّد في الأوساط الثقافية نبأ اعتزام الاحتفال بعيد ميلاد طه حسين، وقرَّر الدكتور حسين نصار — عميد الكلية — إقامة مؤتمرٍ علمي ومهرجانٍ فني بالكلية بهذه المناسبة. ووقع الاختيار علينا أنا وسمير سرحان لكتابة نصٍّ مسرحي عن حياة طه حسين يقدِّمه طلاب الكلية. واختار سمير المخرج فهمي الخولي لإخراج العرض.

وعكفنا أنا وسمير على قراءة طه حسين وما كُتب عنه ليلًا ونهارًا، ثم وضعنا الخطوط الرئيسية للعرض المسرحي. وقسَّمنا العمل فيما بيننا بحيث أركِّز أنا على المعارك الأدبية، مثل معركة كتاب في الشعر الجاهلي وقضية النحل، ويركِّز هو على المعارك الثقافية والسياسية. كما انفرد بكتابة بعض مشاهد حياته في القرية وزواجه من سوزان. وكان الجو آنذاك مشحونًا بنشاط الجماعات الدينية التي جعلَت همها إعادة المرأة إلى المنزل، وتحريم كل شيءٍ عليها. وكان ظهور هذه الجماعات وانتشارها سرًّا غامضًا، وما زلتُ عاجزًا عن رصد بدايتها. وقد كتبتُ عن ذلك في مقدمتي الإنجليزية لترجمة كتاب أحمد بهجت مذكرات صائم. وما زلت أذكر يومًا في عام ١٩٦٩م، حضرنا فيه أنا ونهاد زوجتي حفلًا أحياه عبد الحليم حافظ في لندن، وغنى فيه أغنية عن القدس، تحدث فيها عن الله وعن الإيمان، فسمعتُ أحد الجالسين من العرب إلى جواري يقول: «هلَّا عرَفتوا الله يا مصريين» (أي هل عُدتُم الآن إلى الإيمان بعد هزيمة ١٩٦٧؟)

واتفقنا أنا وسمير على أن يكون المشهد الأول حيًّا (ربما أكثر من اللازم) بأن يبدأ العرض بمشهد من مسرحية أوديب التي ترجمها طه حسين، فينبري أحد الطلاب، الذي كان يشارك بالتمثيل في العرض ولكنه يجلس بين المتفرجين في الصالة، فيتقدَّم من خشبة المسرح ويقول للممثلين: فلتذهب المرأة إلى المنزل فهي حرام في حرام! وهنا يتصدى له طه حسين فيقنعه بالمنطق بخطل رأيه؛ ومن ثَم تبدأ أحداث المسرحية. وبعد ليلة العرض الأولى، وكانت تحضُرها السيدة جيهان السادات، طلبنا منها أن ينتقل العرض من مسرح الأزبكية (حيث الاحتفال) إلى الطليعة، ويُعرض على الجماهير أسبوعَين. ووافقَت. وأذكُر أنني ذهبتُ (بعد انتقال العرض) إلى منزل الدكتور لويس عوض، واصطحبتُه بالسيارة إلى مسرح الطليعة حتى يراه، وسُرَّ سرورًا كبيرًا، ودهش وأنا أصطحبه في نهاية المسرحية إلى المنزل من أننا استطعنا في ذلك الجو الفني الخانق أن نقدِّم هذا العرض التسجيلي الجميل، ثم ضحك وقال: إنتو عاملين سوزان عاشقة رومانسية؟ دي كانت une femme dragon (قالها بالفرنسية – أي امرأة كالتنِّين)، ثم قال إنها كانت تُشير إلى زوجها بلقب الباشا، فكان حين يتصل به بالتليفون مثلًا تقول له le pacha n’est pas la (الباشا غير موجود!)

وأذكُر ذات يومٍ عندما بدأ العرض، وانبرى الطالب الذي يمثل دور المتطرِّف للممثلين، أن صدَّقَت إحدى المتفرجات أنه فعلًا من الجمهور، وصرخَت خائفةً على نفسها من الجماعات الدينية، ونهضَت تجري حتى أقنعناها بأنه تمثيل في تمثيل! وعندما شاهَدَتْ فريدةُ النقاش — صديقتي القديمة — ذلك العرض قالت: «كويس خالص … بس ليه بقى مصر للمصريين؟» وسكتُّ؛ فالواضح أنها تعرف أن ذلك جزء من تاريخ طه حسين، ولكنها كانت تخشى — مُحقَّة — العزلة العربية التي بدأَت بعد توقيع معاهدة السلام.

وفي صباح يوم من أيام السبت زارتني اعتدال عثمان — الكاتبة المشهورة وتلميذتي السابقة — في الجامعة، وكانت تعمل في هيئة الكتاب، وكان صلاح عبد الصبور يُحبها ويحترمها، فعهد إليها بالإشراف على تجارب طباعة مسرحية مسافر ليل في ترجمتي الإنجليزية، وراجعَت معي في الكلية بعض النقاط الخاصة بالتذييل، وكنا نطبع آنذاك على ورق «البروماید» قبل الانتقال إلى الكمبيوتر والكَلْك. وكان سمير سرحان قد كتب لها مقدمة بالإنجليزية، فراجعت «التجربة» (البروفة) كلها، وسَعِدتُ بأن المسرحية على وشك الصدور. وقد تُرجمَت بعد ذلك من الإنجليزية إلى عدة لغاتٍ أوروبية. كما أُعيد نشر النص الكامل في أمريكا في مشروع «بروتا»، الذي تشرف عليه سلمى الخضراء وروجر ألان.

وشُغلتُ بعد ذلك بمراجعة بروفات النص الذي حقَّقتُه للشاعر وردزورث، وكتبتُ له مقدمةً طويلة بالإنجليزية، وأسميتُ الكتاب «جدلية الذاكرة»، وفيه أطبق فكرة الجدلية الهيجلية على السيرة الذاتية التي كتبها الشاعر في صورتها الأولى. وشاهدتُ في هيئة الكتاب، أثناء التصحيح والمراجعة، الدكتور ثروت عكاشة لأول مرة بعد عودتي من الخارج، وكان يشرف على إعداد مجلدٍ جديد من مجلدات تاريخ الفن التشكيلي.

٦

كنتُ في عام ١٩٧٩م قد أتممتُ الأربعين، وأحسستُ أن العمر يُفلِت من يدي دون تحقيق شيء؛ فالسنوات العشر التي قضيتُها في إنجلترا سنوات تحصيل واستيعاب لثقافةٍ غربية لم يعُد أحد يريدها. وكان أشد ما يقلقني هو عادة القصد في التعبير، وربما كان ذلك راجعًا إلى أسلوب التفكير الذي تعلمتُه في أثناء الدراسة. وأحيانًا ما كانت الفكرة تأتي بالإنجليزية فأترجمها، ومن شأن ذلك أن يجعل كلامي أشبه بأسلوب الترجمة (translationese) وهو أسلوبٌ قبيح. وإذا كنتُ قد نشرتُ ترجمةً بالإنجليزية تحمل اسمي (كتاب مصطفى محمود) ومسرحيةً لصلاح عبد الصبور على وشك الصدور (هي مسافر ليل) وأخرى لا تحمل اسمي (البحث عن الذات)، وكتبتُ دراسةً بالإنجليزية عن الشاعر وردزورث هي مفارقة ماثيو أرنولد (أو Arnoldian Paradox) في مجلة الكلية، ودراسةً بالإنجليزية للمخطوط الذي حقَّقتُه على وشك الصدور، فإنني لم أترجم إلى العربية إلا نصوصًا ثلاثة هي العزلة (مسرحية من تأليف هارولد بنتر)، والساعة الناطقة (مسرحية قصيرة من تأليف توم ستوبارد)، والبيت (مسرحية من تأليف دافيد ستوري)، بل إن الأخيرة كانت بالعامية! كما كانت ميت حلاوة والمسرحيات الأربع (السجين والسجان وغيرها)، بل والإعداد الشيكسبيري لزوجات مرحات كلها بالعامية! وكان استعراض حصيلة هذه السنوات مخيبًا للآمال؛ إذ تعلَّمتُ من كتابة نص العمر قضية عن طه حسين مع سمير سرحان أن النجاح في مجتمعٍ عربي لن يكون إلا بالعربية، وأن اللغة العربية التي تشرَّبتُ حبها في طفولتي تُعاتِبني مُرَّ العِتاب؛ إذ إنني على اطمئناني إلى قدرتي على الكتابة بالعربية، وهو ما أكَّدَته كتاباتي المتوالية في الأهرام على امتداد عام ١٩٧٩م، كنتُ أتردَّد حين أُفاجأ أثناء الكتابة بكلمةٍ عربية لم استعملها منذ سنواتٍ عديدة، تبرُز كأنما من أعماق اللاوعي، فأعجَب لها، وأدهَش منها، وأتوقف في حَيرة أتساءل إن كانت صحيحة؛ ولذلك كنتُ أُكثِر من الاختلاف إلى قسم اللغة العربية لأطرح أسئلتي عن الكلمات أو العبارات أو المسائل النحوية على الدكتور يوسف خليف، العلامة والشاعر المرهف والإنسان الفذ، ولم يكن يضيق بي مهما تعدَّدَت أسئلتي. وأحسستُ أن الغياب عن اللغة طيلة هذه الفترة أفقدني الثقة في صحة ما أكتب، وأورثَني الخوف من الاتهام بالتفرنُج، أو ما يُتَّهم به دارسو الآداب الأجنبية من ضعف في اللغة القومية.

وكان من عادتنا في تلك الأيام أن نتردَّد أحيانًا على مطعم في وسط البلد، في شارع متفرع من شارع طلعت حرب، اسمه «ركن الكباب»، فنتناول العشاء بعد عمل اليوم الطويل الشاق. وكان أربعتنا — سمير سرحان ونهاد جاد، وأنا ونهاد صليحة — النواة الدائمة، كما كان من بين الصحبة أيضًا محمد جلال الروائي، وعايدة عبد العزيز الممثلة (وزوجها أحمد عبد الحليم عندما يزور مصر)، وكنتُ في هذه الجلسات أستمع ولا أكثر من الكلام. كما كنا نلتقي كثيرًا في منزل سمير سرحان في روكسي، وكان الحديث يتشعَّب ويتفرَّع، وإن كان يدور في معظمه حول الفن والأدب. وسمير سرحان كريمٌ مضياف، يُحب الناس، سريع البديهة، قادر على تحويل دفَّة الحديث إذا تجهَّمَت نبراتُه إلى ما يسرِّي ويخفِّف، أو يسرُّ ويلطِّف؛ فخياله خصب لا نهاية لخصبه.

وذات يوم كنا نسير أنا ونهاد زوجتي في وسط البلد حين شاهدنا ديوانًا جديدًا لصلاح عبد الصبور عنوانه الإبحار في الذاكرة، فاشتريناه. وانتهى بنا السير إلى مقهى «لاباس» القديم، الذي شَهِد بدايات حبنا في الستينيات، وجلسنا نتصفَّحه، فوجدنا أن قصائده تكاد تترجم نفسها دون مشقة. وامتد بنا الوقت ونحن نطلب القهوة بعد القهوة، حتى انتهينا من ترجمة بعض ما فيه. وعندما عدنا إلى المنزل عكفتُ عليه فأنجزتُ جانبًا كبيرًا منه. وكنا في عطلة رأس السنة الميلادية، فكتبَت نهاد — متطوِّعة — بعض القصائد المُترجَمة على الآلة الكاتبة. وأحببتُ أن تكون تلك نواةً لمجموعةٍ شعرية كاملة.

ولم تلبث المصادفة أن لعبَت دورها؛ إذ كان الشاعر الأمريكي ستانلي كونيتز Kunitz في زيارة لمصر، فاستضافه صلاح عبد الصبور في منزله، ودعاني للمشاركة في حفل الاستقبال المحدود. واصطحبتُ معي القصائد المُترجَمة، وقرأتُها على الحاضرين، وكانوا مزيجًا من الأجانب والمصريين، فسُرُّوا سرورًا عظيمًا، وكان صلاح عبد الصبور أكثرهم سرورًا بما شعر به من «حرية في النقل» (على ما حفلَت به الترجمة الإنجليزية من الأساليب البريطانية التي علَّق عليها الشاعر الأمريكي). وعندما رددتُ الزيارة دعوتُ الدكتورة أنجيل بطرس والدكتور جرجس الرشيدي (أستاذي القديم وزوج الدكتورة أنجيل) والدكتور مصطفى سويف والدكتورة فاطمة موسى (زوجته) وسمير سرحان طبعًا ونهاد جاد — وعلى رأس المدعوين صلاح عبد الصبور وسميحة غالب (زوجته). ولم يكن الحفل المحدود في منزلنا ذا طابعٍ أكاديمي — كما توحي أسماء المدعوين — بل كان ذا طابعٍ أدبي خالص، وإن لم يخلُ من مناقشاتٍ أكاديمية عند قراءة عبد الصبور لأشعاره وقراءتي لترجماتها.

وساقت المصادفة إليَّ في مطلع العام الدراسي ٧٩-١٩٨٠م الدكتور مختار التهامي، الذي أصبح عميدًا لكلية الإعلام، وكان مدرسًا للغة الإنجليزية في مدرستنا (الأورمان النموذجية) عام ٥٤-١٩٥٥م حين حصل على الدكتوراه، وكان صديقًا للدكتور سعد جمال الدين (رئيس قسمنا)، فجاء يطلب منه بعض المتخصصين في الترجمة، وأستاذًا لتدريس مادة الفكر العالمي المعاصر بحيث يركِّز فيها على المسرح بدلًا من التركيز على الأفكار التي كانت الجامعة تنظر إليها بشك وارتياب — أي الفلسفات المعاصرة وتجلياتها الاجتماعية والسياسية — إذ كان رئيس الجامعة الدكتور حسن حمدي غير سعيدٍ بما سمعه عما يُدرس في إطار تلك المادة، وكان الذي يدرِّسها قبلي هو الدكتور حسن حنفي (من قسم الفلسفة لدينا) فأُلغي انتدابه، وجيء بالدكتور عزت قرني (من قسم الفلسفة بجامعة عين شمس)، ولم يكن حظُّه بأفضل من سلفه، فانتهى الرأي إلى تعديل اللائحة، وذلك يقتضي إجراءاتٍ مطوَّلة، فقال له الدكتور مختار: «أنا آتيك بمن يدرِّس المادة مقتصرًا على المسرح دون سواه.» ولكن الدكتور مختار كلَّفني بتدريس الترجمة أيضًا، وتدريس الدراما لطلاب شعبة الإذاعة والتليفزيون، فكان لي في ذلك العام ما يشبه الجدول الدراسي الكامل باللغة العربية، وهو ما عوَّضَني عن البعد عن الأكاديمية.

وفي خِضَم انشغالي بالتدريس في قسمنا وفي كلية الإعلام ذكَّرني سمير سرحان بأن موعد ترقيتي يحين في عام ١٩٨٠م، وكان قد حصل هو على الأستاذية عام ١٩٧٩م، وحصل عليها من قبله عبد العزيز حمودة. وفهمت أن مقصده هو أن أبذل جهدًا أكبر في الأبحاث الأكاديمية، ووعدتُه بذلك، لكنه أضاف أن عليَّ أن أجمع ما نشرته من ترجمات مع مقدماتها (العربية والإنجليزية)؛ فهي مما يُحسب لأساتذة اللغة عند الترقي، وأن أضعها في كتبٍ مستقلة حتى تجد اللجنة العلمية مادة تقرؤها وتحكُم عليها. وفعلًا كتبتُ دراسة عن الشعراء العرب المعاصرين بالإنجليزية، أرصد فيها عن طريق المقارنة مع الشعراء الإنجليز جوانبهم الرومانسية ومظاهر الحداثة لديهم، ولم أنتهِ منها إلا في منتصف عام ١٩٨٠م؛ إذ تطلَّبَت ترجمة بعض المعاصرين (إلى جانب صلاح عبد الصبور)، مثل أحمد عبد المعطي حجازي وفاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبو سنة وفاروق جويدة ووفاء وجدي وصلاح جاهين وملك عبد العزيز وأمل دنقل ونجيب سرور ونصار عبد الله وغيرهم، وأصبحَت في يدي مادة تصلُح لكتاب (لم يُنشر إلا بعد خمس سنوات أو ست)، وجمع المقالات التي كنتُ نشرتُها في مجلة فنون ومجلة المسرح والسينما ومجلة نادي المسرح التي توقفَت عن الصدور بعد اكتشاف تلاعُب مرسي النويشي في الحسابات وتخريبه للميزانية، ووضعها معًا في كتاب أسميتُه فن الكوميديا. كما جمعتُ المسرحيات التي ترجمتُها إلى العربية مع مقدماتها، ونشرتُها في كتابٍ مستقل بعنوان ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي، وصدر الكتابان في عام ١٩٨٠م.

وفي مطلع العام الدراسي ١٩٨٠–١٩٨١م، وكنتُ قد عُدتُ لتوِّي من روما بعد قضاء الصيف مع نهاد زوجتي وابنتي سارة، ما بين العمل والتسرية، جاءتني إحدى طالباتي السابقات من كلية الإعلام (اسمها شويكار)، وكانت قد التحقَت بالعمل في الإذاعة في قسم البرامج الموجَّهة تطلب ترجماتٍ للشعر العربي لإذاعتها (مع مقدمات). ورحَّبتُ بالفكرة، وأعددتُ لها مجموعة من القصائد للشعراء الذين ذكَرَت أسماءهم مع مقدماتٍ موجزة، وتوالت إذاعتها في شتاء عام ١٩٨٠م. وتوالت الرسائل من أمريكا وكندا وأستراليا والهند (وهي البلدان التي يستمع أهلها إلى تلك الإذاعات الموجَّهة) تُثْني على البرنامج، مما دفع عبد الحكيم فهيم، رئيس القسم (وكان من زملاء دراستي في الجامعة) إلى طلب رفع أجري من جنيه ونصف في الدقيقة إلى جنيهَين، ووافق مدير العقود محمود مصطفى، فيما يشبه المعجزة؛ إذ كان معروفًا عنه الحرص على المال العام.

كنتُ فرحًا بالتقدير الأدبي أولًا؛ إذ انفرجَت ضائقتي المالية بعد العمل في منظمة الأمم المتحدة المذكورة. وكانت التزاماتي في الكلية تقتصر على التدريس؛ فلم يكن لي حق الإشراف على الرسائل أو مناقشتها. وكان نشاطي الأدبي يكاد ينحصر في الترجمة، بعد أن توارى حُلم تقديم مسرحياتي على المسرح أو تراجع. وكان في الترجمة عوضٌ أي عوض، وخصوصًا ترجمة الشعر؛ فالشعر لغة عالمية، ونبضه هو نبض الإنسان نفسه، وموسيقاه تُطرِب قبل أن تنطق معانيه. وكنتُ أومن وما زلت بأن الشعر لا يُترجَم إلا شعرًا، ولكن الشعر نشاطٌ فردي شبه خاص، والمسرح نشاطٌ جماعي جماهيري يعتمد على التواصل الحي مع البشر. وكنتُ وما زلتُ أتردَّد بين هذا وذاك، حتى حين كتبتُ بعد عدة سنوات أولى مسرحياتي الشعرية؛ فالهوة التي تفصلهما كبيرة، والشعر الغنائي (lyrical)؛ أي الشعر الذي يتحدث فيه الشاعر بصوته مباشرة دون أن يتخفَّى وراء قناع أو أقنعة، بعيدٌ كل البعد عن لغة المسرح حيث تتحرك الشخوص وتتحدث فيما بينها وإلى الجمهور حتى ما تكاد ترى المؤلف أو تسمع له حسًّا، ولكن الشعر صعبٌ وطويلٌ سُلَّمه، وترجمتُه أيسرُ من نظمه.

وفي عام ١٩٨٠م وافق صلاح عبد الصبور على إصدار مجلةٍ تابعة لهيئة الكتاب تُعنى بالنقد ومدارسه الحديثة، وعيَّن عز الدين إسماعيل رئيسًا لتحريرها. وذهِلتُ عندما شاهدتُ العدد الأول؛ إذ كان مجلدًا ضخمًا يضم أشتاتًا من مدارس النقد الحديثة والقديمة، ويحتفل احتفالًا عجيبًا بالبنيوية، وهي المدرسة التي كانت شمسُها قد غربت قبل عشر سنوات على الأقل، وكان المتوقع ممن يكتب فيها أن يُطيل فيسهب، ويُكرِّر فيطنب، فكانت الدراسات مطولةً حافلة بالأسماء الأجنبية التي تخيف القارئ، ولكنها كانت تمثل ولا شك صحوةً أدبية مرموقة، وكانت تُعتبَر — من أحد جوانبها — ردًّا على المقاطعة العربية، كما قال حسن!

«حسن! أين كنتَ أيها العفريت؟» صحتُ في رنَّة فرحٍ صادقة عندما صادفتُه ذات يوم عند باب مبنى الإذاعة والتليفزيون، وضحك ضحكته الصافية، وقال لي: «هنا ما ينفعش! وتعال معي.» واصطحبني إلى داخل المبنى، واتجهنا يسارًا إلى مصعد الإذاعة، وقال لي: «عندي إذْن صرفٍ سريع … وبعدين نتكلم!» وانتهى من تحصيل المبلغ الذي كان كبيرًا، ثم عرَّجنا على المكتب الصحفي في الدور المسحور، وسلَّم على بعض أصدقائه فيه، ثم جلسنا، فطلب لي القهوة، وشرع يحكي لي أنه تحوَّل إلى الكتابة الإبداعية والنقد، ولكنه لا ينشُر في الصحف المصرية، بل في الصحف العربية الأخرى خارج مصر! وسألتُه عن المبلغ الذي ناله من الإذاعة المصرية منذ لحظات فقال: «ده عمل مشترك! وسوف أحكي لك.»

كان موجز ما حكاه حسن على امتداد ما يقرب من ساعةٍ كاملة هو أن البلدان العربية الغنية بالبترول انتهزَت فرصة تجميد العلاقات مع مصر (وإن كان ذلك شكليًّا فقط) وانطلقَت تُصدِر صحفًا ومجلاتٍ جديدة، وهي ترحِّب كل الترحيب بكتابات المصريين، وترحِّب ترحيبًا أشد بمن ينتقد الأحوال في مصر، سواء أكانت أحوال الثقافة أم أحوال السياسة. وسرعان ما فَطِن المصريون إلى ذلك، فانقضُّوا انقضاض الطيور الجارحة على الموائد الحافلة. وقال إنه يفضِّل أن يكتب عن أحوال السينما والمسرح حتى لا يُغضِب السلطات في مصر إذا كتب عن موضوعات ذات أبعادٍ سياسية. وأكَّد لي أنهم يرحِّبون بكل مَن يكتب، فإذا كان اسمك مسبوقًا بلقب الدكتور ضمنتَ مكانًا ثابتًا! وسألتُه عن شأن الإبداع فقال إن المصريين يتَّسمون بسعة الحيلة، فأنشأ بعضهم شركات أو وكالاتٍ مشتركة للإنتاج الإذاعي والتليفزيوني، ومزية هذا اللون من الإبداع هو أنه لا علاقة له بالسياسة من قريب أو بعيد. وأضاف شارحًا مقصده: «لقد انتهيتُ من كتابة سباعية عن صعصعة محيي الموءودات في الجاهلية، وتقاضيتُ عنها ذلك المبلغ الهائل.» وسألتُه: ولكنك أخذتَ المال من الإذاعة المصرية، فقال حسن: «المقاطعة ليست رسميةً كما تعرف، والعرب يهدِّدون بقطع العلاقات إذا وقَّعَت مصر معاهدة السلام في أبريل ١٩٨٢م بعد جلاء إسرائيل عن سيناء، وهذا مستبعد طبعًا.» فقلتُ له: «تقصد قطع العلاقات؟» فقال بسرعة: «كل شيء يسير على ما يُرام!» فسألتُه إن كان ما زال يمارس التمثيل، فأجاب بلهجة من يستنكر السؤال: «في كل مسلسل وكل سهرة.» ولمَّا رأى دهشتي وعجبي أضاف قائلًا: «أجمل شيء في الإنتاج الجديد هو الذقون! الإذاعات والتليفزيونات العربية تريد أن تملأ ساعات إرسال، والمستشارون يرون أن السلامة في التاريخ! وخصوصًا لو كان تاريخًا معروفًا ولا خلاف عليه … وهكذا اتجه الجميع إلى التاريخ المجيد بحجةٍ ظريفة غاية الظرف … وهي إذكاء الروح القومية وأمجاد العرب الخوالي! وكل واحد لبس لحيةً مستعارة وعبايةً وما إلى ذلك … وصوِّر يا جدع!» فقلتُ له: ولكن أليس في هذا سياسة؟ أليس فيه انتقادٌ غير مباشر لمصر؟ وضحك قائلًا: «وهل تنكَّرَت مصر للماضي العريق؟ إننا رسميًّا نسير في نفس الطريق ونقول إن استرداد أرضنا المحتلة انتصار يُحيي أمجاد الماضي! بل إننا نؤكِّد هذا الاتجاه التاريخي وندعمه؛ فنحن لا نتخلى أبدًا عن التاريخ ولا عن العرب والعروبة! وأنا أكتب الآن مسلسلًا عن عمر بن عبد العزيز — وأرجو ألا يسبقني إليه أحد؛ فهو مطلوب في إذاعة قطر.» ورأى دهشَتي الشديدة، فأخرج من حقيبته عقدًا بمبلغٍ كبير قائلًا: «إنك تُضيِّع وقتك في الجامعة.» وأكَّدتُ له أنني سعيد بعملي، وأنني لا أحتاج إلى مثل هذه المبالغ، فضحك وقال: «أنت حر!» ثم نهضنا واتجهنا خارجَين. ولاحظتُ أننا على وشك أن نفترق دون تبادل الأخبار «الشخصية»، فعَنَّ لي أن أسأله عن الأسرة، والتفتُّ إليه بعد فترة صمت كأنما لألقي السؤال، فإذا به يبادرني بالرد قبل أن أسأله: «أنا رجعتُ حرًّا من جديد!» وتوقَّفتُ عن السير فوقف. وبعد ثوانٍ أضاف: شعلة الحب انطفأَت، وكان لا بد من الانفصال! وسألتُه عن الطفل فقال: «لقد أنجبتُ بنتًا ونحن على اتصال من وقتٍ لآخر!» ولما رأى عُبوسي وتجهُّمي قال لي وكنا قد خرجنا من المبنى ونقف على السُّلم الخارجي: «كانت غلطة … وكل منا يعرف ذلك … ولن تتكرَّر!» وأعطاني بطاقة فيها اسمه وعنوانه وأرقام التليفونات، وألحَّ عليَّ قبل أن نفترق أن أتصل به للتفكير في مشروعٍ فني كبير.

كنتُ ولا أزال شديد الإعجاب بقدرة حسن على تطويع نفسه للظروف المتغيرة، وكنتُ ولا أزال أحسُده على هدوء أعصابه وقدرته على التحكُّم في مشاعره. وكان يُنتدب للتدريس في الأكاديمية أحيانًا فيُبهر الطلاب بمعارفه الواسعة، وإذا ضمَّته ندوةٌ ثقافية لم يكن أعلى الحاضرين صوتًا، بل أثبتهم جَنانًا وقدرةً على الرد المفحم المقتضب، ولكنه كان مولعًا بالمواقف الدرامية في الحياة اليومية، وقد قال لي بعد ذلك إنه لا يكذب أبدًا، فإذا تحتم الكذب لجأ إلى الصمت وتذرَّع بالصبر، وخصوصًا في علاقاته مع الجنس الآخر، وهي التي تشعَّبَت وذاعت أنباؤها. وفي سبتمبر ١٩٨٠م، ومع نشوب الحرب العراقية الإيرانية، سمعتُ أنه سافر إلى العراق منتدبًا للعمل في إحدى جامعاتها، أما زوجته فقد جمعَتْني الظروف بها بعد ذلك عدة مرات.

وفي أكتوبر ١٩٨٠م كنتُ في مكتب الدكتور حسين نصار (العميد) حين قابلتُ الدكتورة فاطمة موسى، ولامَتْني على عدم التقدم للترقية!

٧

كثُرَت لقاءاتي كما قلتُ مع صلاح عبد الصبور، وعندما صدَرَت ترجمتي لمسافر ليل في عام ١٩٨٠م ازداد اقترابنا، ولكنها لم تصدُر عن الهيئة العامة للكتاب، بل عن إدارة العلاقات الثقافية الخارجية بوزارة الثقافة. وأما كتابي بالإنجليزية عن جدلية الذاكرة Dialectic of Memory فقد صدَر عن الهيئة في عام ١٩٨١م، بعد ميت حلاوة ومجموعة السجين والسجان (١٩٧٩م و١٩٨٠م على الترتيب)؛ ومن ثَم توثَّقَت علاقاتي بالعاملين في الهيئة أيضًا، وعرَفتُ من بينهم الشاعر سعد درويش، الذي تخرَّج في قسم اللغة الإنجليزية، وكان في أواخر الخمسينيات من عمره، وبالفنان سعد عبد الوهاب (الرسام لا المُغَنِّي)، وبمجموعة العاملين في إدارة النشر، وعلى رأسهم لمعي المطيعي، الكاتب المشهور. وفي شتاء عام ١٩٨٠–١٩٨١م كنا نتبادل الزيارات العائلية مع أسرة صلاح عبد الصبور، وكان سمير سرحان ونهاد جاد كثيرًا ما يزوراننا في المنزل، وإن كانت زياراتنا أنا ونهاد لهما أكثر، وكان كوبري ٦ أكتوبر (الكوبري الجديد) قد اختصر زمن المسافة بيننا وبين روكسي إلى أقل من النصف. وذات ليلة من ليالي الشتاء تردَّد في الأوساط الثقافية أن وزارة الثقافة بصدد إقامة احتفال بذكرى الزعيم الوطني محمد فريد، وعُقد اجتماع في الوزارة اقترح فيه عبد الصبور تقديم عملٍ مسرحي غنائي أو موسيقي لإحياء تلك الذكرى. وكان وكيل الوزارة المسئول آنذاك هو فؤاد العرابي (ابن زكي العرابي باشا)، واقترح أن يكتب النص سمير سرحان ومحمد عناني بعد نجاح المسرحية عن طه حسين، وأن يتولى إخراجها سمير العصفوري. وسرعان ما بدأنا العمل، فأحضرنا كل ما كُتب عن محمد فريد من دار الكتب (استعارَتْها لنا سهير، مديرة مكتب صلاح عبد الصبور)، واشتريتُ أنا مذكرات محمد فريد، ودرست المقدمة التي كتبها الدكتور رءوف عباس، أستاذ التاريخ الحديث بكلية الآداب جامعة القاهرة. كما كان يتردَّد في الأوساط الثقافية أن مصر تنتوي إرسال وفدٍ ثقافي إلى أمريكا في مارس ١٩٨١م للطواف ببعض جامعاتها بغرض التعريف بأحوال مصر الحديثة، وكأنما كانت تلك مبادرةً للتصالح مع العالم قُبيل الدخول في عملية السلام الحقيقية، بالجلاء الكامل للقوات الإسرائيلية عن الأراضي المصرية بعد عام تقريبًا.

وعكفنا — أنا وسمير — على العمل، فانتهينا من النص بسرعة. وبدأ العصفوري تجاربه المسرحية، وكنا نحضُرها حتى تُلبي بعض طلباته. وكتب الأغاني شاعرٌ يُدعى أحمد عفيفي، كان يعمل ممثلًا (موظفًا) في فرقة المسرح الحديث. وانشغلنا في ذلك الشتاء بهذا العمل المسرحي الضخم؛ إذ حشَد العصفوري له نخبةً من كبار الممثلين، إلى جانب المجموعات (الكورس)، والمغنِّيات أذكُر منهن زينب يونس وإيمان الطوخي وسهير طه حسين. وكان البطل هو محمد السبع — الممثل الشهير والقدير. وقد دهِشتُ لرؤية إيمان الطوخي تُغني؛ إذ كانت إحدى طالباتي في كلية الإعلام، وكانت مُجدَّةً مجتهدة. وعندما زار المسرح الممثل العظيم محمد الطوخي ليطمئن على ابنته ويشهد جانبًا من البروفة طلب منه العصفوري إلقاء بعض سطورٍ من النص، فبهر الحاضرين بصوته الرخيم، وإذا بمحمد السبع يحتج ويهدِّد بالانسحاب! وربما لا يعرف الكثيرون أن الممثلين يدَّخرون جهد الأداء (إذا كانوا كبارًا) حتى يبدأ العرض، وكان محمد السبع واثقًا من نفسه فلم يبذل جهدًا في الأداء ريثما ترتفع الستار. وكان سمير العصفوري قلقًا كشأنه دائما يريد أن يسمع فيطرب ويطمئن. ومنذ تلك اللحظة لم يعُد محمد السبع يدَّخر جهدًا في الأداء حتى يرضي العصفوري — ويبعد شبح منافسة محمد الطوخي!

وكان العصفوري يستعين بمعظم أفراد فرقة مسرح الطليعة، مثل زايد فؤاد ومحمد فريد وعادل خلف وأحمد عقل وأحمد راتب وعهدي صادق وغيرهم؛ لأنه كان يريد أن ينسب الإنتاج لفرقة مسرحه، وقد ظل متربعًا على عرشه سنوات طويلة — باستثناء فترات محدودة — حتى أصابه الاكتئاب من حال المسرح المصري فتركه! وكان ما يُسمِّيه العصفوري بالمعمل أو المختبر (اللابوراتوار) هو في الحقيقة تطوير النص أثناء البروفات بما يُلائِم مزاجه النفسي، وهو مبدعٌ خلَّاق، فاقترح ذات مساءٍ إضافة شخصية العمدة المصري لتجسيد بعض القيم الأصيلة في مصر. والغريب أنه كان محقًّا في وجهة نظره؛ فقارئ النص قد لا يكتشف الحاجة إلى تلك الشخصية، ولكن التجارب المسرحية كشفَت عنها، فسهرنا أنا وسمير وأعَدْنا كتابة المشهد. وفي ليلة التجربة النهائية حضر فؤاد العرابي بصفته الرسمية في الوزارة، وصلاح عبد الصبور بصفته نائب وزير الثقافة، وكانا يمثلان «الرقابة»، وصدَرَت موافقتهما.

وعُرضَت المسرحية وأذيعَت مباشرةً على الهواء في الإذاعة والتليفزيون، وحضر العرض الرئيس السادات. وبعد العرض وتحية الجمهور، جرينا أنا وسمير لمقابلة الرئيس، فمنعَنا رجال الأمن، فإذا بجيهان الصغيرة (نانا) تُهرَع إلينا، وتأخذنا إليه، وتقول له ها هما مَنْ كتبا النص، فأثنى السادات على العمل، وقال «دراما جميلة ومؤثرة!» وكان سمير سرحان في أثناء الاستراحة قد خاطب المسئولين في وزارة الثقافة في حضور السيد الرئيس حتى يوافقوا على صرف تكاليف العرض، لأن أحدهم واسمه جمال حمزة، وكيل الوزارة للشئون المالية والإدارية، كان يؤمن بأن يعمل العاملون بلا مقابل. وإذا قَبِل الاستثناء من ذلك، وقرَّر دفع مبلغٍ ما، فلا بد أن يُذيق المبدعَ الأمرَّين قبل أن يُعطيَه حقه.

وبعد أسبوعَين تأكد خبر رحلة مصر اليوم، إلى أمريكا، وأنه برنامج ترعاه قرينة الرئيس. وكنتُ في منزل صلاح عبد الصبور، وكان يوسف إدريس قد انتابته أول أزمةٍ قلبية، فجعل يحكي لنا ما أحسَّه وكيف واجهها. وفاتحتُ صلاحًا في أمر سفرنا أنا وسمير، فقال يا ريت! لكن الوفد اكتمل! ولما كنا على علاقةٍ طيبة بالوزير فقد خاطبناه فوعد خيرًا. وقُبيل السفر بأيام تشفَّعَت لنا السيدة الأولى، فانضممنا إلى الوفد، وكان يتكون من سهير القلماوي ومرسي سعد الدين ولويس عوض وفرخندة حسن ومحمد شعلان وأستاذ في العلوم لا أذكر اسمه وصلاح عبد الصبور وسعد الدين إبراهيم وسمير سرحان وأنا. وسافرنا إلى نيويورك حيث قضينا الليلة، ولم يكن قد حجز لنا أحدٌ غرفة في أي مكان، فاتصل سمير سرحان تليفونيًّا بمحمد حقي، المستشار الإعلامي، الذي تدخل في اللحظة المناسبة، حتى نقيم في الفندق نفسه في بروكلين، وهو فندق «هيات» بشارع ٤٢.

وفي الصباح زارتنا الدكتورة منى نجيب ميخائيل، الأستاذة في قسم اللغة العربية بجامعة نيويورك — وزميلة سمير في الدراسة بقسم اللغة الإنجليزية — ومعها زميلةٌ لها اسمها أيتن هيكل (من أسرة هيكل باشا)، وكان النشاط يتكون من زيارةٍ للجامعة وعقد ندواتٍ شاركنا جميعًا فيها. وبعد الظهر ألقى لويس عوض محاضرةً ينعَى فيها تدهور الأدب العربي في مصر، ويقول إن هناك اثنَين فقط يُعتبران مَعقِد الأمل (هما جمال الغيطاني ويوسف القعيد) ولكنَّ طائرَين لا يعنيان مَقْدَم الربيع! (وهو مثلٌ إنجليزي شهير). وفي المساء بدأَت ندوة الشعر، فتحدَّث صلاح عبد الصبور، ثم طلب مني إلقاء قصائده بالإنجليزية، ففعَلْت، وهلَّل له الحاضرون من أمريكيين وعرب.

وانتقلنا إلى واشنطن بعد ذلك، وتكرَّر السيناريو في مؤسسة سميثونيان، ثم سافرنا أنا وسمير وصلاح مع الأستاذ جورج عطية (رئيس القسم العربي) في سيارته إلى جامعة بنسلفانيا في مدينة فيلادلفيا؛ حيث اجتمعنا مع المستشرق روجر ألان وبشابٍّ عربي يُدعى عدنان حيدر، ثم ألقيتُ بعضًا من شعر صلاح، فقال روجر ألان: «إنك رابع مصري أعرفه يعرف الإنجليزية!» وكان من الطبيعي أن أشعر بالسعادة لوضعي في قائمة تضم محمد مصطفى بدوي ولويس عوض ومجدي وهبة. وأخذ روجر نصوص القصائد مني ونشَرَها في مجلة الجامعة Nimrod في الخريف التالي، ودعانا إلى منزله حيث قابلنا زاهي حواس (الدكتور)، الذي كان يدرس الآثار المصرية في تلك الجامعة. وسهرنا ما شاء الله لنا أن نسهر، ثم عُدنا إلى واشنطن.
وانتقلنا إلى الجنوب — إلى جامعة تكساس في مدينة أوستن — وتكرَّر السيناريو. وقابلنا الأستاذة فدوى ملطي دوجلاس وشاعرًا أمريكيًّا اسمه جون دافيد لم يصدِّق أن الشعر الذي قرأتُه كُتب أصلًا بالعربية. ومن تكساس طرنا إلى لوس أنجيليس، وزرنا هوليوود، وسرنا في شوارع بيفرلي هيلز. واقترح لويس عوض ذات مساء أن نذهب إلى مرقص؛ فماذا نخاف؟ وذهبنا معه أنا وسمير سرحان، وكان الضجيج رهيبًا والموسيقى تصُكُّ الآذان صكًّا، وكان أحد المغنِّين قد أطلق لحيته وبدا في ثيابٍ رثة، فقال لويس عوض: «إنه يشبه كارل ماركس! وهذا يدُل على تمرُّدٍ دفين على قيم المجتمع!» وانصرفنا مبكرين. وفي اليوم التالي قابلنا عفاف لطفي السيد، ودعَتْنا إلى الغداء في مطعم الجامعة، وكانت الأيام تمُر سراعًا، والأمريكيون يحتفون بنا في كل مكان. وبعد عودتنا إلى مصر كتب لويس عوض مقالًا طويلًا في الأهرام يصف أحداث «المهرجان». وقدم فاروق شوشة أمسيةً ثقافية جمعَتْني مع صلاح عبد الصبور؛ حيث ذكر تعليق أستاذٍ أمريكي على ترجمتي قائلًا: (Enani’s English puts ours to shame)؛ أي إن مستوى لغة الترجمة يجعلنا نخجل من مستوانا. وقال لي شوشة ذات يومٍ إنه ما زال يحتفظ بشريط ذلك البرنامج ولم يمسَحه.

وكان حُلمي في تقديم مسرحية ميت حلاوة الذي شَحبَت ألوانُه ما فتئ يراودني. وكان الجو الثقافي مصر غير واضح المعالم؛ فالمعارضة التي سمح لها السادات بإنشاء صحف وتكوين أحزاب تنقسم إلى يمينٍ ضعيف ويسارٍ قوي. وكان اليمين يتهم اليسار بأنهم فلول المنتفعين بعهد عبد الناصر، واليسار يتهم اليمين بأنه متفسخٌ انتهازي بل ولا أخلاقي. وكنتُ أقرأ كتابات هؤلاء وهؤلاء، وأرى أن الموقف قد بدأَت تظهر فيه اتجاهاتٌ سلفية مدمرة، ظهَرَت أول ما ظهَرَت في صورة الجماعات الدينية. وكان التقسيم القديم إلى يمين ويسار يبدو «غير واقعي»؛ فمجموعة أصدقائنا المقرَّبين تُعتبر أقرب إلى اليسار منها إلى اليمين. ولم أكن أشاهد أحدًا يمكن وصفُه بأنه من اليمين الصادق، ولكنني كنتُ أرى في «ياسر»، الطالب بقسم اللغة الإنجليزية، ما يمكن تسميتُه بالخطاب السلفي الجديد، الذي كان ساعدُه يشتد يومًا بعد يوم، وكان يتوسل بالدين، أو بالظواهر المرتبطة بالدين، مثل إطلاق اللحية وتربية الزبيبة على الجبهة، وإمساك السبحة، والحوقلة والبسملة بمناسبة وغير مناسبة. وكان ياسر داعية إعادة المرأة إلى المنزل، وقد أخذ يردِّد الآيات الوحيدة التي حفظها من القرآن عن الحجاب والاستقرار في البيوت. وكان لدينا في الحي مسجدٌ صغير (زاوية) يؤمُّها الكثيرون ممن يستمعون إلى أمير الجماعة «عزت» (رحمه الله)، وهو مَن كنتَ تسمع في خُطبه نبراتِ اليسار واضحةً جلية، في إطارٍ سلفي يتناقض كل التناقض مع تلك النبرات. وكان يجمع في أحاديثه بين ما لا يمكن الجمع بينه من تحرُّر وحبس، وانطلاقٍ وانغلاق، وكان سامعوه من الشباب يلتقطون من أحاديثه ما يروق لهم فيجعلونه سنةً لمستقبلٍ غامض ينذر بأخطر العواقب.

وذات يوم كنت ذاهبًا إلى الجامعة في الصباح الباكر؛ إذ كانت دروسي تبدأ في الثامنة، حين أشار إليَّ شخصٌ ذو لحيةٍ قصيرة (عرفتُ فيما بعدُ أن اسمه فوزي)، فتوقَّفتُ وسألتُه ما يريد فطلب مني توصيله إلى الجامعة حيث يعمل في الإدارة. ولاحظتُ عينَيه الحمراوَين، فسألتُه ما الخبر، فقال إنه لم ينم طُول الليل؛ إذ سهر في الزاوية المذكورة حتى الصباح في سبيل الله، وعندما سألتُه عن سبيل الله، قال إنه كان يقرأ الأوراد ويردِّد التعاويذ طول الليل، وقلت له: «ولكنك لن تستطيع التركيز في عملك بالجامعة … وربما غفوتَ أثناءه!» فقال بسرعة: «ما عند الله خير وأبقى.» وكان حوارنا طيلة الطريق يسير على هذا النحو. وفهمتُ منه عندما وصلنا أنه إذا غفا أثناء العمل فسوف يكون ذلك نعمة وفضلًا من الله وبركة؛ لأنه لن يُشاهِد النساء في العمل، ولن يُشاهِد المجتمع الكافر!

هل يستطيع مثل هذا الشاب أن يستجيب لما كتبتُه في ميت حلاوة؟ وما موقفه من الفن عمومًا؟ وما آراؤه في السياسة والاقتصاد؟ تُراه يُحسب على اليسار أم اليمين؟ وماذا عساه أن يقرأ إذا قرأ شيئًا؟ كان العائدون من الإعارة في البلدان العربية الشقيقة يُحضِرون معهم لوازمهم من المعدَّات الحديثة، وبعض الأفكار الثابتة التي تقهر الفكر اليميني واليساري معًا، وأهمها «التواكل»؛ فغاية الإنسان في نظر مصطفى المهندس صديقي هي الزواج والتكاثر؛ إذ قضى معي ساعتَين في الجامعة (وكان يحاول إلحاق ابنه بإحدى الكليات المصرية بعد أن سُدَّت منافذ الجامعة في وجه أبنائه حيث كان يعمل) في شرح أسباب «وكستنا» (نكستنا؟) وأهمها أننا تركنا الله وأبدلناه بالإنسان، ولكن الذين توكَّلوا على الله كوفئوا في الدنيا دون مجهود، وسوف يضاعف الله لهم الأجر في الآخرة. وقال لي مصطفى إن بناته عابداتٌ قانتاتٌ محصنات، وسوف يرزقهن الله بأزواج من السماء يحقِّقون لهن السعادة في الدنيا والآخرة.

ما الذي حدث لمصطفى المهندس؟ (وهو ليس قريبًا لفؤاد المهندس) لقد قضى في بلدٍ عربي شقيق خمس عشرة سنة، ورجع في حياته إلى مطلع القرن العشرين في مصر؛ حيث أصبح ربَّ البيت المطاع، وانتفشَت ذاته وهو يأمر وينهى بين أفراد أسرته، ويسمح لنفسه بأي قَدْرٍ من الحرية يريده. وكان ناجحًا في عمله، بل هو إداريٌّ فذ نال درجته الجامعية في المحاسبة، ثم انتقل إلى الإدارة فنجح، ولكنه لم يكن يستشعر الزهو الحقيقي إلا حين يمارس سلطته في البيت؛ فرؤساؤه في العمل يحرمونه من كل سلطة. وعندما كنا نتذاكر أيام لهونا في الجامعة في الخمسينيات كان يلين وترقُّ نبراتُه ويعود في حضوري مراهقًا بل طفلًا بريئًا، ولكننا إذا وجَّهنا دفَّة الحديث إلى المجتمع أصبح كالصخر قسوةً وفظاظة! تُرى هل يستطيع أن يتجاوب مع ما كتبتُه في ميت حلاوة؟

وفي الصيف ناقشنا الموضوع — أنا وسمير سرحان — فاقترح أن نبدأ بإعادة مجلة المسرح؛ فهي المجلة القادرة على نشر الثقافة المسرحية، وإعادة تهيئة الجو لتقبُّل الأعمال المسرحية الجادة. وتقدَّمنا بالطلب إلى وزارة الثقافة، ووُوفِق عليه، في مايو ١٩٨١م (وصدر العدد الأول في يوليو ١٩٨١م)، وكانت انتصارًا باهرًا. وكان سمير هو رئيس التحرير، وكنتُ نائبه، وكان أمير سلامة هو مدير التحرير. أما مجلة نادي المسرح فقد أصبحَت من ذكريات الماضي البعيد. وكنتُ سافرتُ أثناء إعداد المجلة إلى العراق — لأول وآخر مرة — للعمل مراجعًا للترجمة بمؤتمر تعقده منظمة المؤتمر الإسلامي. وكنا في يوم ٧ يونيو، وكان يوم الأحد، نجلس في قاعة الترجمة بمبنى مجلس قيادة الثورة، حين سمعنا صفارة الإنذار، فحسبناها غارةً إيرانية، وشاهدنا من الشباك المدافع المضادة للطائرات تُطلِق طلقاتٍ كثيرة سريعة، ولم يكن المساء قد حل بعدُ، فلم نخف ولم نترك القاعة، بل وقفنا نرقُب المدافع التي لم تكن تبعُد كثيرًا عنا. وكان معي حسين العليمي — المترجم — فقال لي: لا يمكن أن يضرب الإيرانيون منظمة المؤتمر الإسلامي … فهم أعضاء فيها! ودخل الغرفةَ الدكتور عبد الوهاب المسيري وكان يعمل معنا بالترجمة، فقال: أراهنكم أنها إسرائيل! وضحكنا. كيف تأتي الطائرات الإسرائيلية من فوق سوريا أو الأردن دون اعتراضٍ لضرب بغداد؟ وماذا يُفيدها من ضرب منظمة المؤتمر الإسلامي؟ وبتنا الليلة دون أن نعرف الحقيقة. ولم نعرف سوى في الصباح التالي أنها كانت طائراتٍ إسرائيلية وأنها دمَّرَت المفاعل النووي العراقي تمامًا! وقال لنا زميلٌ عراقي إن الإسرائيليين دمَّروا المنشآت السطحية فقط، ولم يصلوا إلى المفاعل الذي كان خبيئًا تحت الأرض، ولكننا عندما عُدنا إلى مصر سمعنا موشي ديان يقول (يوم ٢٤) إنهم «دمَّروا كل شيء» وإن لديهم ما أسماه «المقدرة أو القدرة النووية (nuclear capability) وحدهم في المنطقة (وقد تُوفي ديان في أكتوبر من ذلك العام).

وبعد صدور مجلة المسرح سافرت إلى روما للعمل بالترجمة والمراجعة في الأمم المتحدة، ولحقت بي نهاد زوجتي وسارة ابنتي، ثم لحقت بنا عزة وسناء وبرتي أخوات نهاد، وقضين معي عدة أسابيع، وفي يوم الأربعاء ١٩ أغسطس، دخلت المكتب في الصباح لأجد المترجم أحمد فؤاد بلبع متجهمًا مع زوجته نجلاء — وعلمت منهما أن صلاح عبد الصبور قد توفي في اليوم السابق.

٨

كانت وفاة صلاح عبد الصبور ضربةً موجعة لي على المستويَين الأدبي والنفسي، وعرفتُ أنها ستكون كذلك لنهاد فلم أقل لها إلا بعد يومَين أو ثلاثة، وسافرَت الأسرة قبلي إلى مصر، وبقيتُ في روما. وكنتُ أواظب على شراء الصحف المصرية حتى جاء يومٌ قرأتُ فيه عن انقضاض السادات على معارضيه، وقرأتُ قائمة أسماء المغضوب عليهم وأنا أرتجف خوفًا من أن يكون اسمي بينهم، ولكن «ربنا ستر». وقطعتُ العمل بالترجمة، وعُدتُ إلى مصر لأرى الذعر في وجوه الكثيرين وعدم الفهم في وجوه العامة. وقمتُ بزيارة السيدة جيهان السادات بعد أن حصلَت على الماجستير وكانت تفكِّر في موضوعٍ للدكتوراه وتريد أن تستشيرني، وتحدَّثنا في كل شيء ما عدا السياسة، ولكن الزيارة بثَّت بعض الاطمئنان في نفسي. وقال لي سمير سرحان ونحن خارجان من مسرح الطليعة ذات يوم بعد إحدى تجارب مسرحيتي زوجات مرحات إن منصور حسن وعد بتعيينه أمينًا عامًّا للمجلس الأعلى للثقافة.

كان محمود الألفي هو الذي يقوم بإخراج المسرحية، ولم يأتِ بممثلين من خارج فرقة الطليعة إلا بنادية عزت، ولكنه كان يعمل بجدٍّ ونشاط، فكلَّف جمال سلامة بكتابة الموسيقى وتلحين الأغاني التي كنتُ كتبتُها بالفصحى وبالعامية طبعًا، فأبدع وأبهر. وتوقَّفَت التجارب المسرحية في مطلع أكتوبر بسبب سفر بعض الممثِّلين. وفي يوم ٦ أكتوبر اغتال المتطرفون رئيس الجمهورية، فأحسستُ أن عهدًا كاملًا قد انقضى؛ لأن الزعامة في بلادنا ما زالت تقوم على شخصية الزعيم دون غيره.

ولا أستطيع أن أحدِّد الوقت الذي زالت الجفوة فيه بيننا وبين رشاد رشدي، ولكنها زالت فجأةً مثلما بدأَت، وإن كانت قد خلَّفَت ندوبًا ما لبثَت أن تلاشت على مر الزمان. وكنتُ مشغولًا إذ ذاك بمحاولة تقديم ميت حلاوة على خشبة مسرح السلام، وهو مسرح أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا بشارع القصر العيني. وكان محمود الحديني قد عُيِّن مديرًا عاما للفرقة، فاستبشرتُ به خيرًا، خصوصًا بعد أن قرأ النص المطبوع، واقترح إعادة كتابة الفصل الثالث برُمَّته، واستبدال لغز اختفاء الجمال بلغز اختفاء الأغنام؛ لأنه — كما قال — لا مفَر من تفسير ذلك اللغز بأنه يشير إلى المصريين، والجمل حيوانٌ محترم، وله تاريخه الطويل في حياة العرب، وهو نموذج الصبر والتحمُّل إلى آخر ما قال. وحاولتُ أن أبيِّن أنه لا تُوجد رمزية، ولكنه قال إن المتفرجين قد اعتادُوها، ولا مناص من التغيير! وصدَعتُ بالأمر وأعَدتُ كتابة الفصل الثالث في أواخر أكتوبر. وفجأةً جاءنا أمرٌ من رئيس هيئة المسرح بإيقاف العمل. وكان الاعتراض يقول إن لجنة القراءة المركزية لم تُجزها. ولم أعترض؛ إذ كنت مشغولًا بمسرحية زوجات مرحات، التي بدأ عرضها في أول نوفمبر، ولاقت نجاحًا جماهيريًّا منقطع النظير، فاستمر العرض شهرَين. وزارنا أيامها المخرج الأمريكي الكبير جوزيف باب الذي تخصَّص في إخراج شيكسبير، وكانت تُعرض له آنذاك خمسُ مسرحيات في وقتٍ واحد في شتى أنحاء الولايات المتحدة، فدعَوتُه لمشاهدة العرض، الذي قسَّمه محمود الألفي إلى جزأَين، وبعد انتهاء الجزء الأول قال لي إن لديكم ممثِّلين عباقرة، وكانت سعادتُه غامرة، على الرغم من عدم معرفته باللغة العربية!

وعندما بدأ النقاد يكتبون عن العرض هالتهم «الروح الشعبية» المصرية فيه؛ فالفكرة السائدة عن شيكسبير هي أنه كاتبُ مآسٍ متجهِّم، يتحدث «الفصحى» التراثية، وهي الفكرة التي أشاعتها ترجمات الشاعر خليل مطران. ولم يكن يريد أحدٌ أن يطَّلع على ملهاوات شيكسبير، أو يتجاوب مع روح الفكاهة التي تنافس روح الهزليات لديه. وكان أقسى هجوم هو هجوم الناقد محمد رفاعي في مجلة صباح الخير بعنوان «مقتل كاتبٍ مسرحي!» وسمحَت لي نهاد جاد — زوجة سمير سرحان ومديرة تحرير المجلة — بالردِّ عليه، في العدد التالي، بمقالٍ عنوانه «مقتل النقد المسرحي»، ولكنَّ نقادًا آخرين قَبِلوا ما قدَّمتُه، مثل السيدة آمال بكير، التي جعلَت عنوان مقالها في الأهرام «شيكسبير في قالبٍ كوميدي».

وفي أواخر نوفمبر عقَدَت لجنة القراءة جلسةً خاصة لمناقشة ميت حلاوة. ولمَّا كنتُ عضوًا في تلك اللجنة فقد كنتُ حاضرًا، ولكن القانون لا يسمح للمؤلف بالحضور إلا في حالة الخلاف، فخرجتُ من الغرفة، وكان الاجتماع في المساء في مقر هيئة المسرح في شارع عبد الخالق ثروت، وجلستُ أنتظر الحكم. وبعد نحو ساعة، استُدعيتُ للدفاع؛ إذ كان عبد الفتاح البارودي أعلى الحاضرين صوتًا، وكان يُصِر على رفض المسرحية لأن بها تعريضًا بالرئيس السادات! وقلتُ له متحديًا أن يشير إلى أي عبارةٍ تُفيد ذلك، فقال إنك تجعل أعضاء الجمعية، يهتفون قائلين: «فليسقُط الخائن!» وذلك ما لا أرضاه على الزعيم الراحل! وقلتُ له كيف تفسر «الخائن» بأنه الرئيس؟ إذا كان ذلك رأيك فعبِّر عنه كتابةً حتى أرفعه إلى الوزير! فهاج وماج، وقال إنك أصبحتَ مثل الشيوعيين! وانفَضَّ الاجتماع دون حسم، فبدأنا الخروج، فعرض علينا المخرج أحمد زكي أن نزوره في منزله لاستكمال السهرة، وكان معنا الدكتور أحمد مرسي والدكتور عبد العزيز حمودة (الذي كان مناصرًا للمسرحية). وجلسنا نتسامر بعض الوقت في منزل أحمد زكي وزوجته فريال الإنجليزية (ولها اسمٌ آخر هو جيرالدين أو جيري). واقترح الدكتور مرسي في آخر المساء أن نتجاهل عبد الفتاح البارودي، وأن تُصدِر اللجنة قرارها بالأغلبية لا بالإجماع.

وانتهى العام وقد قرَّر محمود الحديني تقديم النص مهما يكن، فاقترح رشاد عثمان (المخرج) إسناد الدور إلى نوال أبو الفتوح، فذهبنا إلى منزلها في المهندسين وأعطيناها نسخة. وبعد يومَين أعربَت عن موافقتها، وجاءتنا إلى المنزل مع رشاد عثمان، ولكن جلال الشرقاوي، وهو أستاذ جلال توفيق الذي أُسندَت إليه مهمة الإخراج، لم يكن مؤيدًا لذلك الاقتراح. واقترح الأخير إسناد الدور إلى عايدة عبد العزيز، وهي صديقةٌ قديمة، فكلمناها وقرأَت النص، وقضينا أمسيةً جميلة في منزل جلال توفيق بالعجوزة مع الممثل القدير محمد توفيق، وكان اسمه من بين الأسماء المقترحة، ولكن لم ينقضِ أسبوع حتى تلقَّى محمود الحديني خطاب اعتذارٍ من عايدة عبد العزيز تقول فيه إنها لا تقبل المشاركة في مسرحيةٍ شيوعية (ولا يزال الحديني يحتفظ بذلك الخطاب). واقترح الحديني الاستعانة بالممثلة (…) وفعلًا جاءت مع أحمد بدير، وبدأنا بروفة الترابيزة (أي قراءة النص دون حركة)، ولكنها طالبت بضعف الأجر المقرَّر للدور، فوعدناها بمخاطبة الحديني في ذلك الشأن.

وذات يومٍ كنتُ خارجًا من مبنى التليفزيون حين قابلتُ إحدى تلميذاتي السابقات في قسم اللغة الإنجليزية، فرحَّبتُ بها ورحَّبَت بي، ثم أردفَت: «أنا زعلانه منك!» «خير!» «كيف تستعين في مسرحيتك بزوجة زوجي؟» ولم أكن أعلم أن الممثلة المشهورة قد تزوَّجَت مذيعًا (رحمه الله) هو زوج تلميذتي. ومرَّت الأيام وصادفتُ الممثلة المشهورة وتجاهلت الموضوع تمامًا! وعندما تكرَّرَت هذه القصص في الوسط المسرحي لم أعُد أدهَش لما يقوله لي «حسن»، خصوصًا عندما عرفتُ أن لهذه الممثلة ابنةً من زوجٍ سابق هي حاليًّا أستاذة في الجامعة!

وبعد التعثُّر في اختيار الممثلين، استقر الأمر على سميرة محسن (الدكتورة) ومعها سمير حسني وعبد الحفيظ التطاوي ومحمد الشويحي (رحمهما الله) وانتظمت التجارب المسرحية، وبدأ العرض يوم الخميس ٢٨ يناير ١٩٨٢م، بعد أن توقف عرض زوجات مرحات في آخر العام السابق. وبدأ الجمهور يتردَّد على المسرح الذي كان جديدًا إلى حدٍّ ما، وتوالت المقالات النقدية في الصحف بعد إقبال الجمهور. وكان الأسبوع الأول قد شهد ازدحامًا غير متوقع، وربما كان ذلك بسبب «أقاويل» الوسط الفني، ولكن الذروة كانت يوم الجمعة ١٢ فبراير ١٩٨٢م؛ إذ حضرت مجموعة القادة الثقافيين (الروَّاد) من قصر ثقافة مصر الجديدة، فاضطُر محمود الحديني أن يفتح لهم البلكون، بعد أن كانت الصالة قد امتلأَت عن آخرها، وأسعدني هذا الإقبال الذي كان خير دعاية للمسرحية. وبدأت المقالات النقدية تتخذ شكلًا معاديًا، فكتب فؤاد دواره مقالًا ناريًا في الكواكب يهاجم المسرحية، فردَدتُ عليه بمقال في العدد التالي. وكان حسن إمام عمر هو رئيس التحرير الذي سُرَّ سرورًا بالغًا باندلاع المعركة. وجاء فيليب جلاب صديقي ليشاهد المسرحية، فأزعجه ما اعتبره انتقادًا للشيوعية أو الاشتراكية، وبدلًا من أن يكتب هو أتى بزينب منتصر (من روز اليوسف وهي أخت الفنانة سهير المرشدي)، وجلس معها في الصف الأول يشرح لها خبايا النص وخفاياه، فكتبَت مقالًا لا يقل التهابًا عن مقال دواره، ولكن مقال آمال بكير في الأهرام كان متعاطفًا، وكذلك كانت مقالات غيرها في المصور وآخر ساعة والأخبار والجمهورية.

وفي يوم السبت التالي ليوم الجمعة المذكور جاءني سمير سرحان، وقال إنه يريدني لأمرٍ هام، فتركنا المسرح، وخرجنا إلى شارع جانبي متفرع من شارع القصر العيني وقال لي: «إيه رأيك؟ … لقد عرض عليَّ الوزير (محمد عبد الحميد رضوان) وظيفة رئيس الثقافة الجماهيرية في صباح اليوم؟ وأشرتُ عليه بأن يقبل دون تردُّد، وسرنا طويلًا ونحن نقلِّب الأمر على وجوهه، ثم انتهينا إلى أن ما أشرتُ به عليه هو الصواب، وما ضرر التجوال في ربوع مصر بين القرى والدساكر؟ وفعلًا ذهب إليه في صباح الأحد ١٤ فبراير، وتسلَّم صورة القرار الوزاري بانتدابه للعمل بعض الوقت من جامعة القاهرة رئيسًا لهيئة الثقافة الجماهيرية (التي أصبحَت حاليًّا هيئة قصور الثقافة).

كان ذلك معناه إلقاء مسئولياتٍ جديدة على عاتقه، ولكن سمير سرحان لا يخشى المسئولية، بل يرحِّب بها. وسرعان ما درس الأحوال في ربيع ذلك العام، وما إن حل أبريل حتى كان قد قرَّر بث النشاط في فرق الأقاليم المسرحية، عن طريق تكوين فرقٍ دائمة في قصور الثقافة وفي بيوت الثقافة من أبناء الأقاليم نفسها، حتى يجد الشباب في النشاط المسرحي، الذي لا يقتصر على الإخراج والتمثيل بل يتضمن سائر الفنون المسرحية (من موسيقى وفن تشكيلي وتأليف)، ما ينمي قدراتهم الإبداعية، ويشغلهم عن الاتجاه السلفي الذي بدأ يتسرب، بل ويضرب بجذوره في عقولهم. ولم يلبث أن قرر تنفيذ مشروعٍ ثقافي موجه إلى الشباب بعنوان مكتبة الشاب، وكلَّف عددًا من أساتذة الجامعة بكتابة كُتبٍ مبسَّطة لتعريف الشباب بأهم المجالات العلمية والأدبية والفنية. واستجاب على الفور عددٌ لا بأس به من الأساتذة أذكر منهم علي الدين هلال (وزير الشباب الحالي، وكان أستاذًا فعميدًا لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية) والدكتور محمد محمود الجوهري، أستاذ الاجتماع، والدكتور أحمد مرسي، أستاذ الأدب الشعبي، وغيرهم، فعادت الروح إلى الهيئة.

ولم تمضِ أيام على بداية عمله في الثقافة الجماهيرية حتى اتصل بي تليفونيًّا في منزل راوية أباظة، الممثِّلة في فرقة الطليعة، وكانت قد دعَتْنا إلى العشاء مع سمير العصفوري، بعد عرض الماتينيه لميت حلاوة، وكان يومًا مطيرًا، ولكن المسرح كان غاصًّا بالمتفرجين. وكان سمير سرحان من المدعوِّين، ولكنه اتصل للاعتذار، ولإبلاغي أن كرم مطاوع قرَّر البدء في إخراج مسرحية روض الفرج، وأنه يتدارس النص حاليًّا معه، وأن التجارب المسرحية ستبدأ في اليوم التالي، وهو يوم السبت ٢٠ فبراير! واختار كرم مطاوع زوجته سهير المرشدي للقيام بالبطولة، إلى جانب حسن عبد الحميد، وأمين الهنيدي، وسمير حسني (بطل ميت حلاوة)، وعبد الحفيظ التطاوي (الذي كان يعمل في ميت حلاوة أيضًا)، وفعلًا بدأَت «بروفات الترابيزة»، ولم تستمر سوى أسبوعٍ واحد، انتقل بعدها كرم مطاوع إلى الحركة.

وافتُتحَت المسرحية في أبريل ١٩٨٢م، وحضر حفل الافتتاح الوزير محمد عبد الحميد رضوان، ولفيفٌ من كبار الشخصيات، مثل الدكتور يوسف شوقي (الموسيقار) وبعض الكُتاب والنُّقاد. وكانت المفاجأة التي لم نحسب لها حسابًا، وهي تصوير اغتيال الضابط الإنجليزي على المسرح بصورةٍ أعادت إلى الحاضرين ذكرى اغتيال السادات. وكان كرم قد كلَّف الشاعر سيد حجاب بكتابة بعض الأغاني التي سُجِّلَت لمصاحبة بعض فقرات العرض. وكانت الأغنية هنا تتضمن تعريضًا مستترًا بالحكم، والنص الأصلي يحدِّد هذا الحكم بأنه حكم الملك فاروق الطاغية، ولكن الصورة المسرحية جرَّدَت النص من التحديد الزمني، وأوحتَ للمتفرج بأنه قد يكون حكم الطاغية في أي زمانٍ ومكان، مما أحزَن الوزير، وأغضَب المسئولين الذين صُدموا لمرأى الضابط وهو يُصاب بطلقات المسدس ويهوي على الأرض! وتردَّدَت الأقاويل — كما هي العادة — وكثُرَت الهمسات والتلميحات، وازداد إقبال الجمهور، ولكن النقاد كانوا منقسمين بين مؤيِّد ومعارض. واقتُرح تغيير المشهد أو تخفيف حدة التشابه بين الحادثة التاريخية أيام الاحتلال والحادثة التي كانت لا تزال حيةً في الأذهان، ولكن كرم مطاوع رفض تعديل أي شيء.

ولم يمضِ أسبوعان على افتتاح العرض حتى وقع ما لم يدُر بخلَد أحد؛ إذ شبَّت النيران في غرف الملابس بالمسرح، ولم يستطع أحدٌ مكافحتها، فأتت على خشبة المسرح نفسها، ولم يكن أيٌّ منا حاضرًا في تلك الليلة المشئومة، وعندما سمع سمير بالخبر أسرع يستطلع الأمر فلم يجد سوى الحُطام والرماد، فقال — على ما في حَلْقه من غُصَّة — لقد سطعَت المسرحية كالشهاب الذي انطفأ! وهزَّتْني تلك النهاية الحزينة! وقال البعض إن بعض «عملاء السادات» هم الذين أشعلوا النار عمدًا. وقال آخرون إن أجهزة الأمن وراء الحريق. وقال العقلاء إن المسرح لا تُوجد به وسائل أمن من الحريق، وإن شدة الحرارة في ذلك اليوم الخماسيني قد ساعدَت على انتشار النار. وإن بَقِيَت المسألة لغزًا محيرًا حتى اليوم.

وعلى الرغم من كل ما حدث لم يفقد سمير سرحان إيمانه بالمسرح باعتباره فن الفنون، وسار في طريقه في الثقافة الجماهيرية، يعقد الاجتماعات في القاهرة، أو يسافر يومًا بعد يوم إلى الأقاليم للاتفاق على إنشاء الفرق الثابتة. وقد صحبتُه ذات يوم إلى دمياط حيث تكوَّنَت فرقتها الخاصة، وقال لي في طريق العودة: «لقد نجحنا نجاحًا يُعتبَر بدايةً لا نهاية … فما زلنا في الأربعين، وإذا عشنا فسوف نحقق المزيد.»

وتشجَّعتُ بعد النجاح الذي لاقته ميت حلاوة على تقديم نصٍّ كنتُ كتبتُه قبل عام، وألقيتُ به يأسًا في الدرج، وكنتُ استوحيتُه من «ياسر» تلميذي، الذي يقول بأن الحجاب هو جوهر الإسلام (فهو في رأيه مثل إعلان الشهادتين)، ومن «فوزي»، الذي كان يقضي الليل في سبيل الله يقرأ التعاويذ، ومن غيرهما ممن اقتربتُ منهم، بل ومن أحد زملائي في المدرسة الثانوية في رشيد، بعد أن قابلتُه في العاصمة وقد «تدَرْوَش» وقارب «الانجذاب». وأعدتُ كتابة النص في الصيف، بعد أن انتهيتُ من ترجمة الكتابَيْن الأوَّلَين من الفردوس المفقود. وكنتُ قد رُقِّيت أستاذًا مساعدًا في مايو ١٩٨١م، فهدأ بالي بعض الشيء، وتفرَّغتُ للترجمة والتأليف.

وقدَّمتُ نصَّ المجاذيب إلى مسرح الطليعة، وكان يرأسه محمود الألفي بعد انتقال سمير العصفوري إلى المسرح القومي، وتركتُ المسرحية تُواجه أقدارها، وسافرتُ إلى روما. وقد اكتشفتُ أن الترجمة أصبحَت أكثر من مورد رزقٍ لي؛ فهي للكاتب ممارسة «كتابة مزدوجة»؛ أي استيعاب فكر وإعادة صَوغه بما يماثله أو يقابله أو يوازيه، دون أن يكون مطابقًا له كل الانطباق؛ فالاستيعاب كتابةٌ معكوسة؛ لأنه تدريبٌ للوعي — كما يقول أصحاب النظرية الحديثة — على التكيف مع وعيٍ آخر وتطويعه وفقًا لخبرات المُترجِم وتكوينه النفسي والثقافي. وتُعتبَر إعادة الصوغ (إلى حدٍّ ما) كتابةً جديدة لجمهورٍ جديد! وفي ذلك الجهد المزدوج تتجلى قدرة المترجِم على التفاعل. والتفاعل — تعريفًا — نشاطٌ مزدوج؛ لأنه أخذ وعطاء في الوقت نفسه! ولذلك قَبِلتُ ترجمةَ كتاب موسيقى قدماء المصريين، للدكتور محمود الحفني (والد الدكتورة رتيبة)، إلى الإنجليزية، في أثناء مقامي في روما، إلى جانب عمل الأمم المتحدة! وكان الدكتور عز الدين إسماعيل قد كلَّفني بترجمته، بعد أن أصبح رئيسًا لهيئة الكتاب.

وتوفَّرتُ في روما أيضًا على الانتهاء من كتابة حواشي الفردوس المفقود، ومراجعة النص مراجعةً دقيقة، فكنتُ أقضي وقتي بالعمل صباحًا في الترجمة العلمية، ومساءً في قراءة الكتب التي اشتريتُها من مكتبة الأمم المتحدة (أو اصطحبتُها معي من مصر)، وانتقاء الفقرات التي سوف أقتبسها للمقدمة، ثم أترجمها، أو ألخِّص بعض آراء النقاد، حتى تكوَّنَت لديَّ مادةٌ كافية، فنسختُها على الآلة الكاتبة، واطمأنَّ قلبي إلى صورة النص المترجَم بمقدمته وحواشيه، فتركتُه حتى أعود إلى مصر.

كنتُ قد تخطَّيتُ الأربعين، كما قلتُ، وبدأتُ ألبس نظارةً طبية للقراءة (طول النظر)، وبدأتُ أعاني من ضغط الدم المرتفع، وهو ما أثَّر بعض الشيء على القلب، فكان ما يُسمَّى بالدقة الناقصة (missed beat)، ولكن ذلك كله لم يؤثِّر في خطة عملي. وكانت أحلامي قبل وفاة صلاح عبد الصبور أن أصدِر مجلةً إنجليزية فصلية تعرض للأدب العربي المترجَم، واخترتُ لها اسمًا وافق عليه الشاعر الراحل وهو Cairo Literary Review، ولكن أحداث العام (أو الحول الذي حال) وأَدَت أحلامي في هذا المجال، ولم يعُد أمامي إلا أن أسابق العمر فأترجم شيئًا مهمًّا يبقى للأجيال. ولمَّا كنتُ قد جرعتُ الكفاية من كئوس العذاب في المسرح، فقد قدَّمتُ طلبًا للعمل بجامعات الإمارات، ورفضَني رئيس القسم الدكتور محسن أبو سعدة، وهو مصريٌّ متخصص في اللغويات، فنصحَني سمير بتقديم طلب إلى جامعة الملك عبد العزيز بالسعودية، ففعَلْت. وكان همي أن أبتعد بعض الوقت عن صداع الممثلين وصراعاتهم وأقاصيصهم، والتفرُّغ للتأليف والترجمة، وكنتُ سعيدًا بأنني أترجم الآن، أو بأنني عُدتُ إلى الترجمة العربية.

وكانت تجربة ترجمة الفردوس المفقود متعةً فريدة؛ لأنها أتاحت لي أن أنهل من ثروات اللغة العربية التي كانت تبدو بعيدة المنال قبل سنواتٍ معدودة، وهي كامنة في أعماق النفس، وكان على رأسها ما حفظتُه طفلًا من القرآن الكريم في الكُتَّاب، وما لقَّنَنيه والدي من أشعار العرب صبيًّا، وما توارى منذ اليفوع في مجاهل النفس، ثم آن أوان استعادته، القوة والعنفوان. وكان سبيلي في ذلك أن أعيد قراءةَ بعضِ ما قرأتُ في سني حياتي الأولى، حتى أوقظ ما هجَع وأنبِّه ما غفَل. وما إن انتهيتُ من الترجمة حتى عرضتُها على الدكتور مجدي وهبة، فقرأها هو وكامل المهندس، وأعادها مع الإشارة إلى ما يحتاج إلى هوامشَ لإيضاحه (وقد انتهيتُ من ذلك في روما)، وترَكَها لي في الكلية مع ورقةٍ يُثني فيها على الجهد، ويتحدَّث عن «قلمٍ ممتع عذب»، فقدَّمتُها بعد عودتي في سبتمبر إلى الدكتور عز الدين إسماعيل، فأمر بنشرها على الفور في سلسلةٍ جديدة أسماها «الإبداع العالمي».

وكانت نهاد زوجتي قد حصلَت على بعثة لدراسة الدكتوراه في إنجلترا، وانتهت من الإجراءات اللازمة، بعد أن رشَّحها المعهد العالي للنقد الفني للبعثة، وكان العميد هو الدكتور سعد المنصوري. وكان سبتمبر أيضًا شهر الكوارث العربية؛ إذ انقضَّت إسرائيل على مخيَّمات الفلسطينيين في لبنان، واندلعَت معاركُ طاحنة أدَّت إلى إجلائهم منها، كما هيَّأ مناحم بيجين وإريل شارون الفرصة لحزب الكتائب اللبناني للانقضاض على الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا، فوقعَت المذبحة التي جعلَتنا جميعًا نضيق بالدنيا وما فيها.

وجاءني في سبتمبر نبأ من جامعة الملك عبد العزيز في جدة بالمملكة العربية السعودية يفيد قبولي للتدريس بها، فبدأتُ العمل للانتهاء من إجراءات السفر. وسافرت نهاد زوجتي مع سارة ابنتي إلى إنجلترا، يوم الأحد ٣ أكتوبر ١٩٨٢م، وكان مقررًا أن تبدأ دراستها في اليوم التالي. وشُغلتُ أنا بعد ذلك باستخراج تصريح العمل واستخراج جواز سفرٍ جديد وما إلى ذلك. ورأيتُ أن الإعارة فرصةٌ سانحة — كما قلت — للابتعاد عن جو العمل المضني في مصر في الجامعة وفي المسرح، وإنجاز بعض مشروعاتي الأدبية، والترجمة، والحياة في أرضٍ مباركة.

وتحمَّلتُ هذه المرة متاعب التعامل مع موظفي الحكومة راضيًا، وكنتُ أتردَّد على المسرح من وقت لآخر لأستطلع أنباء المجاذيب، فأدركت أن أمامها شوطًا طويلًا. وكان رئيس القسم الدكتور سعد جمال قد رفض طلبي للإعارة إلى الأمم المتحدة، ولم يعُد أمامي سوى الإعارة إلى جامعةٍ عربية. وكان ماهر شفيق فريد قد عاد من إنجلترا قبل عامَين، وسجَّل للدكتوراه بإشراف الدكتور مجدي وهبة، ونُوقشَت رسالته آنذاك، ففرحتُ لذلك كل الفرح. كما كان عبد العزيز حمودة قد عُيِّن وكيلًا لكلية الآداب، بعد انتخاب الدكتور الجوهري عميدًا فابتسمَت الحياة. وزاد من بسماتها تقديم مسرحيته الرهائن في المسرح الحديث، الذي شهد عرض ميت حلاوة في مطلع العام، وإعادة عرضها في يوليو، أثناء وجودي في روما.

وبرحيلي إلى المملكة العربية السعودية بدأ فصلٌ مستقل من حياتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤