الفصل الثالث

١

وصلتُ إلى مطار جدة يوم الإثنين، ٢٥ أكتوبر ١٩٨٢م، فوجدتُ في انتظاري شبیر شنوي وعزة صليحة زوجته. وفي اليوم نفسه زارني عادل سرحان، أخو سمير، مع زوجته فاطمة، وعلمت أنه يعمل مديرًا لمكتب العميد. وفي صباح اليوم التالي سلَّمتُ نفسي للكلية، وملأتُ استماراتٍ كثيرة، وعرفتُ جدول محاضراتي ومواعيد الدوام؛ أي الحضور في الكلية كل يوم، وكانت من الثامنة صباحًا حتى الواحدة ظهرًا، ولكننا كنا نتفرق حالما ننتهي من صلاة الظهر. وكان الروتين اليومي لي هو الكلية صباحًا ثم العودة للغداء والقيلولة ظهرًا، فالسهر للقراءة والكتابة والترجمة.

وعُدتُ إلى ما كنتُ أهملتُه من كتابة الخطابات والتلهُّف على وصول ردودها؛ فزوجتي وابنتي في إنجلترا، وأصدقائي وأحبائي في مصر. ولم يلبث أن لحق بي في السعودية أخي مصطفى في نوفمبر، عندما حصل على الدكتوراه في إدارة الأعمال من كلية التجارة جامعة القاهرة. وكان المشرف على رسالته هو الدكتور علي السلمي، الذي كان زميلًا لسمير سرحان في جامعة إنديانا بالولايات المتحدة، وعُيِّن وزيرًا لفترة من الوقت، وجمعَتْني الظروف به في التسعينيات في إطار برنامج التعليم المفتوح، ولكنني كنتُ عازفًا عن الحياة الاجتماعية بعد ضجيج القاهرة، وفضَّلتُ التركيز على أعمالي الخاصة؛ فلديَّ نصفُ نهارٍ كامل في كل يوم، ويومان (الخميس والجمعة) للعطلة الأسبوعية. وبعد الاستقرار وشراء سيارةٍ جديدة؛ فهي وسيلة المواصلات الأولى، بدأتُ أنظِّم وقتي.

كان مصطفى محمود قد طلب مني ترجمة كتابه «القرآن الكريم: تفسير عصري»، ولم يكن لديَّ من الوقت ما أخصِّصه لترجمة كتابٍ من هذا النوع، فكنتُ أتلكأ وأراوغ، وإذا بي أتلقى مكالمةً تليفونية منه وأنا في الكلية من مصر، وكان صوته يُعاتبني على الفرار من مصر! فوعدتُه خيرًا، وكان ذلك أول كتاب أنتهي من ترجمته في شتاء ٨٢م، وأعطيت النص لناسخٍ باكستاني في قسم اللغة الإنجليزية اسمه «بدر الدين»، فنسخه دون أخطاءٍ تُذكر. وفي عطلة يناير ١٩٨٣م سافرتُ إلى إنجلترا لقضاء أسبوعَين مع زوجتي نهاد وابنتي سارة.

كانت تلك ثاني مرة أزور فيها إنجلترا بعد رحيلي النهائي عام ١٩٧٥م؛ إذ مررنا بها وقضينا ليلة أنا وسمير سرحان في طريق عودتنا من أمريكا عام ١٩٨١م، ولكننا مكثنا في لندن. أما هذه المرة فقد كنتُ أقيم مع أسرتي في بلدة إكسماوث Exmouth القريبة من جامعة إكستر Exeter حيث تدرُس للدكتوراه، وهي بلدةٌ ساحلية يلطِّف نسيم البحر جوَّها ليلًا، مما خفَّف بعض الشيء من برد يناير أو زمهريره. وكانت تلك عطلة الجامعة أيضًا، فكنا نخرج للنزهة أو نركب القطار إلى لندن لمشاهدة عرضٍ مسرحي (مثل أيام زمان) أو نتردَّد على المكتبات لشراء بعض الكتب الجديدة.
كانت موجة النظرية النقدية الجديدة قد امتدت من القارة الأوروبية إلى إنجلترا، وبدأَت مصطلحاتها تشيع في اللغة الإنجليزية البريطانية المحافظة، فاشتريتُ عددًا من الكتب التي تتناولها تفصيلًا، إلى جانب بعض الكتب عن الشعر ومجموعة كاملة من دواوين الشعراء الجدد، وإن لم يكونوا شُبانًا. وكانت نهاد تقُص عليَّ بعضًا مما تقرأ في إطار دراستها لمسرحيات اللورد بايرون الشعرية؛ فهي تحللها من منطلق مذهب الحداثية (modernism) والوجودية كذلك! ودعانا الدكتور رشيد العناني لزيارته في المنزل، وكان قد حصل على الدكتوراه في أدب نجيب محفوظ وعُيِّن محاضرًا بقسم الدراسات الشرقية بجامعة إكستر، وكان ولا يزال متزوجًا من وفاء فايز إسكندر (ابنة الدكتور فايز أستاذنا القديم). كما عرَّفنا بالدكتور محمود شعبان رئيس القسم، وهو مصري حقَّق ذيوعًا وشهرةً بكتابه بالإنجليزية وعنوانه التاريخ الإسلامي: إعادة تفسير.

مَرَّ الأسبوعان كالأحلام، وعُدتُ إلى جدة برصيدٍ لا بأس به من الكتب، وعكفتُ في الفصل الدراسي الثاني على كتابة الكتاب الذي وعدتُ سمير سرحان بكتابته عن «الأدب وفنونه»، ليُنشَر في مكتبة الشاب من هيئة الثقافة الجماهيرية. وكان منهجي في تأليفه طريقًا، وما زلت أنصح به زملائي مما يعرفون الكثير ثم تقعد بهم الهمة عن الكتابة كنتُ أقول لنفسي بعد أن أنهض من القيلولة أو بعد صلاة العصر: أنت في امتحان يبدأ في الرابعة مثلًا، ومُدَّته ثلاث ساعات، فاكتب ما تعرفه عن القصة القصيرة مثلًا! وكان معنى هذا أن ألتزم بالجلوس إلى المكتب ثلاث ساعات، ووضع النقاط الرئيسية لما تبقى في ذهني بعد ربع قرن من قراءة القصص وما كُتب عنها من نقد، فأوضِّح الفارق بين الحكاية والقصة القصيرة بشكلها الفني الحديث، وأحدِّد عناصرها، محاولًا التركيز في صلب الموضوع دون الدخول في سردٍ تاريخي لنشأتها وتطوُّرها أو لآراء النقاد، ودون إيراد أسماءٍ أجنبية أو عربية، وعلى ضوء هذه النقاط الرئيسية أبدأ في الشرح مخاطبًا الشباب الذين أتوجه إليهم بهذه المعلومات. وقد يتطلب ذلك أكثر من ثلاث ساعات — يُسمح في خلالها بشرب القهوة أو الحركة أو حتى السير في الغرفة دقائق معدودة — وهنا أقول لقد سمحنا لك بساعةٍ أخرى وراحة لصلاة المغرب قبل تسليم ورقة الإجابة! كنتُ «ألعب دور» المعلم الذي يريد توصيل النقاط الأساسية للموضوع لا الباحث الذي يؤصل أو يدعو لنظرة أو نظريةٍ جديدة؛ فكتاب الشاب هو فرصة مخاطبة غير المتخصص، ولا شيء يصُد غير المتخصص عن القراءة مثل الأسماء الأجنبية والنظريات المتعارضة والمصطلحات الغامضة!

كانت تلك حيلة من حيل «الصنعة»، فوضعُ الهيكل مهمٌّ قبل ملئه بالتفاصيل؛ أي إن للكاتب بعد ذلك أن يُورِد أمثلةً على ما يقول، وأن يدعم ما يذكُره بآراء غيره، أو باقتباسات من الكتب المتخصصة، وذلك ما فعلتُه حين ترجمتُ قصةً قصيرة تتبع المنهج الكلاسيكي الذي أوضَحه ﻫ. إ. بيتس H. E. Bates في كتابه عن القصة القصيرة، وحذا رشاد رشدي حَذْوه دون أن يحيد قيدَ أنمُلة، وهي قصة «شكرًا يا مدام»، للكاتب الأمريكي لانجستون هيوز. كما ترجمتُ قصةً تمثِّل المنهج النفسي والأسلوب الشعري أو الشاعري للبريطانية فيرجينيا وولف، وهي قصة «بيت مسكون». وحلَّلتُ قصة «زعبلاوي»، لنجيب محفوظ للتدليل على لون القصة الرمزية. وبعد ذلك دعمتُ ما ذكَرتُه عن ملامح القصة بآراء النقاد والباحثين. وكانت النتيجة أن أصبح الكتاب (الذي طُبع عدة طبعات بعد ذلك) مقدِّمةً ميسَّرة لغير المتخصص، وكانت كل طبعةٍ منه تنفَد بعد أيام من صدورها.

وكانت تجربة التدريس في بلدٍ عربي شقيق باللغة الإنجليزية ذات فوائدَ لم تتضح لي إلا بعد أن عُدتُ إلى مصر؛ إذ كان التركيز كل التركيز على اللغة في ذاتها لا على الأدب الأجنبي، الذي كان ولا يزال يُعتبَر وسيلةً لتدريس اللغة. وكان همي الأول هو أن أتيح للدارسين الفرصة حتى يسمعوا اللغة الإنجليزية السليمة ويلتقطوا مصطلح اللغة (لا مصطلحات العلوم)، فيعتادوا التفكير بتلك اللغة وكتابتها بأسلوبٍ سليم بدلًا من الترجمة الحرفية من العربية. وكانت مادة الترجمة إذن من المواد الأساسية؛ لأن الطالب سوف يفكِّر بالعربية شئنا أم أبينا، أو — في أفضل الحالات — بمزيج من العربية المحلية والإنجليزية المكتسبة في مرحلة الدراسة الأولى، وعلى الأستاذ أن ينبِّهه إلى المقابلات الأجنبية للعبارات العربية التي يتوسل بها في تفكيره. وقد لا تزيد «عبارة» من هذه العبارات عن كلمةٍ واحدة، وقد تطول فتُصبح جملةً كاملة؛ فالترجمة على مستوياتها الأولى تعني المضاهاة بين ما نقوله في بيئتنا المحلية بالعربية، مهما يكن مستواها (سواء نطقنا به أم ظل حبيس الذهن)، وبين ما يقوله أصحاب اللغة الإنجليزية في بريطانيا أو في أمريكا.

وإذن فثَم حاجةٌ إلى التوسُّل بالترجمة في تعليم اللغة، كما يذهب إلى ذلك البروفسور هيرفورد البريطاني. ولا ضَيْر إطلاقًا من استخدام اللغة العربية في دروس تعليم اللغة الإنجليزية في سبيل المضاهاة بين اللغتَين؛ فالطالب يعرف على أبسط المستويات أن يترجم الكلمة العربية «مرحبًا» أو «أهلًا وسهلًا» بمقابلها البريطاني «hallo! أو الأمريكي high»، وألا يستخدم في ذلك تعبير you’re welcome! الذي يستعمل بالأمريكية (ودخل اللهجة البريطانية في الآونة الأخيرة)، للردِّ على كلمة شكرًا، فأصبح يُقابل «العفو؟ أو البريطانية القديمة (Don’t mention it!). والطالب يعرف ذلك في طفولته أو في صباه، ويحتاج إلى توسيع نطاق معرفته بطرائق اللغة التي يكتسبها عن طريق المضاهاة الثقافية، لا بين مفردات وتراكيب لغة الحديث اليومي فحسب، بل بين مصطلح اللغة الأصيل فيوازي بين «هل يُوحي لك ذلك بشيء؟» وبين (Does it give you any ideas) متجنبًا في ذلك ترجمة الفعل «يُوحي» والاسم منه الذي يحمل دلالاتٍ ثقافيةً عربية غير مقصودة بالإنجليزية. كما يتعلم أن هناك مقابلاتٍ أخرى تشترك في المعنى الأصلي وتتفاوت في دلالاتها الثانوية، فإذا كان درس الترجمة فسوف يُعلِّمه أن يقابل بين الأشغال الشاقة وتعبير (hard labour)، فيجب على المدرس أن يوضِّح للطالب أن هناك مقابلًا لذلك التعبير، وهو (penal servitude) الذي يحمل دلالاتٍ ثانويةً لا يُوجد لها مقابل بالعربية!

وعندما كُلِّفتُ بتدريس الترجمة لطلاب الدراسات العليا وضعتُ هذه التجربة موضع التطبيق فراعني الإقبال عليها، وإن كان الطلاب يفضِّلون فك طلاسم اللغة الأمريكية الجديدة، التي بدأَت تسود اللغة الإنجليزية في أجهزة الإعلام الغربية، بل وفي الكتب، فقسَّمتُ المنهج إلى فصولٍ تتصل بشتى مجالات المعرفة، فشعَر الطلاب بأهمية الترجمة لا باعتبارها نشاطًا لغويًّا صرفًا، بل باعتبارها مضاهاةً ثقافية مستمرة؛ فالتعبيرات التي تنتمي إلى الثقافة العربية قد لا يُوجد لها مقابل في الثقافة الإنجليزية، والعكس بالعكس، وهو ما شجعني على الاهتمام بالترجمة في تعليم اللغة الإنجليزية اهتمامي بها كوسيطٍ ثقافي، بل وفكري، وهو ما بدأتُ أفعله في مصر عند عودتي. وعكفت في الفصل الدراسي الثاني على ترجمة مسرحية محاكمة رجل مجهول، التي كتبها الدكتور عز الدين إسماعيل شعرًا إلى الإنجليزية. وكنتُ آتي بما أترجمه منها فأجعله جزءًا من درس الترجمة. وتدريجيًّا أشركتُ الطلاب معي في البحث عن المقابلات الإنجليزية للتعابير الاصطلاحية العربية. وكان التجاوب يزيد عمَّا توقعتُه، فازداد عدد الطلاب الذين يدرُسون الترجمة على هذا المستوى. وذاعت جدَّة المنهج الذي أتبعُه، وسُرَّ به الدكتور عادل إلياس رئيس القسم (وهو سعودي) سرورًا عظيمًا. وعندما اكتملَت المسرحية كتبتُ لها مقدمةً وافية، وأعطيتُها للباكستاني «بدر الدين»، فنسَخها على الآلة الكاتبة لقاء دراهمَ معدودة.

وكانت الخطابات لا تتوقف بيني وبين نهاد في إنجلترا وسمير في مصر، فعلمتُ من نهاد أنها سوف تعود إلى مصر لقضاء أشهر الصيف الثلاثة. كما أطلعني سمير على ما يدور في الحقل الثقافي في مصر؛ إذ كان قد انتهى من الترجمة العامية لمسرحية حُلم ليلة صيف، وأن حسين جمعة، المخرج، يتولى إخراجها لمسرح الشباب، وأن مسرحيتي المجاذيب تُجرى لها التجارب المسرحية على قدمٍ وساق، وأنها سوف تُعرض في الصيف. وقصَّ عليَّ الحل الذي اهتدى إليه لمشكلة ترجمة وثائق «جيبوتي»، وهي مشكلة ذات قصةٍ تشغل حيزًا كبيرًا من خطاباته. فما هي؟

كان قد اتصل به في الصيف أحد المسئولين في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) وأخبره أن لديه وثائقَ كثيرةً عن مشروع يعتزم البرنامج تنفيذه في جيبوتي، وأن الموافقة جاءت من مكتب رئيس الجمهورية الجيبوتية، وأنه إذا وافق فسوف يأتيه مندوب منها لتوقيع العقد. ووافق سمير، وجنَّد كل المترجمين الذين يعرفهم للترجمة من الفرنسية ومن الإنجليزية إلى العربية. وقد وقَّع العقد، وأصبَحَت لديه نسخةٌ عليها شعار برنامج الأمم المتحدة ورئاسة جيبوتي. واطمأن قلبه فجعل يُنفِق من حسابه الخاص على الترجمة، بل إنني عملتُ معه أحيانًا في مراجعة بعض النصوص. وكان محمد (ابن عبد النور خليل سكرتير تحرير المصور) يده اليمني في هذا العمل، وكان قد تخرَّج في قسم اللغة الفرنسية، فكان يذهب إلى المترجمين فيسلِّمهم الوثائق ويتسلم الترجمة، ويذهب إلى مكتب نسخٍ يُسمى الناسخ السريع للانتهاء من إعداد الوثائق. وكانت الأسعار المتفق عليها أدنى كثيرًا من الأسعار الدولية، ولكن سمير وافق لطرافة الموضوع والتحدي المتمثِّل فيه.
وعندما انتهت الترجمة وسلَّم جميع الوثائق إلى مكتب برنامج الأمم المتحدة، وحان موعد تقاضي الأجر وجد المسئولين يقولون له إن النقود قد حُوِّلَت كلها إلى جيبوتي، وإن عليه أن يطالب الحكومة الجيبوتية بدفع مستحقاته، فاتَّصل بالسفارة فوعدوه خيرًا وظلُّوا شهورًا يماطلون، وهو حزينٌ على ما أنفقه في هذا المشروع، وما دفعه للمترجمين من مبالغَ وصلَت إلى آلاف الجنيهات. وكان الحل الذي توصَّل إليه عبقريًّا؛ إذ اشترى تذكرة طائرة إلى جيبوتي ومعه صورة العقد باللغات الفرنسية والإنجليزية والعربية، واتجه إلى وزارة المواصلات المختصة بالإشراف على المشروع (فهو مشروعٌ تموِّله الأمم المتحدة لإنشاء طرق)، وطالبهم بحقوقه! وبعد محاوراتٍ ومراوغاتٍ اتضح له أن المسئول الكبير يريد أن يتقاضى حلاوة دفع المستحقات! فهدَّده سمير بأن يشكوه إلى رئيس الجمهورية وإلى الأمم المتحدة نفسها، ولكن المسئول أفهمه أن ذلك لن يجدي فتيلًا فلا أحد ينكر حقه، ولكن الإجراءات اللازمة لإخراج أية أموال من خزانة الدولة بعد دخولها قد تستغرق شهورًا أو أعوامًا — ولكنها (بعد الحلاوة) قد تستغرق أيامًا أو ساعاتٍ معدودة! كانت تجربةً مريرة، واضطُر سمير إلى أن يتظاهر بالموافقة فقال له المسئول إنه كان يتصور أو يخاف أن الأستاذ (le professeur ne comprends pas) أي لا يفهم. وقال سمير لي في الخطاب: «فأفهمتُه أن البروفسور كله مفهومية.» ولم يتركه سمير حتى أجبره على دفع حقوقه كاملة!
وذات يومٍ دخلتُ مكتب رئيس القسم، وهو غرفةٌ فيها مكاتبُ لأساتذةٍ آخرين، فوجدُت فيها شابًّا اسمه «يوسف»، قدَّمه الدكتور محمود حسين إليَّ باعتباره المشرف على البرامج الإذاعية الثقافية باللغة الإنجليزية في الإذاعة السعودية، وأن لديه برنامجًا جديدًا هو أمهات الكتب العربية (Arabic Classics) وأنه يودُّني أن أكتب له أحاديثَ أسبوعية، أجرُ الحديث ١٥٠ ريالًا! ووجدتُ الفرصة سانحة لأعيد قراءة أمهات الكتب العربية، خصوصًا ما كنتُ درجتُ على حبه في صباي، والاطلاع على غيرها، فذهبتُ في مساء ذلك اليوم نفسه إلى مكتبةٍ كبيرة، واشتريتُ عددًا من كتب التراث، إلى جانب كتبٍ أخرى هُيِّئ لي بعد أكثر من عشر سنوات أن أقدِّم مختاراتٍ منها (مع سمير سرحان) في مكتبة الأسرة، رافد مهرجان القراءة للجميع في مصر! وبدأتُ بابن المقفع، فعرَضتُ لكتاب كليلة ودمنة، وترجمتُ منه قصة القرد والغَيْلم (أي ذكَر السلحفاة)، وأتبعتُه برحلات ابن بطوطة وبرسائل إخوان الصفا وببدائع الزهور في وقائع الدهور لابن إياس وبالأغاني للأصفهاني (ثلاث حلقات). وهكذا حتى اكتملَت ثماني عشرة حلقة. وكان الذي يتولى تسجيلها بالإنجليزية مجموعةٌ من الإنجليزيات والأمريكيات المثقفات من زوجات الطيارين وأضرابهن. ولم تكن المكافأة كبيرة، ولكن ذكر اسمي أسبوعيًّا في الإذاعة الإنجليزية من راديو المملكة كان فيه تعويض عن الجهد. وما زلتُ أحتفظ بتسجيلات هذه البرامج (وقد استمَع إليها عند عودتي الدكتور سمير أمين، مدرس اللغويات بالقسم، وأخذ منها نُسخًا إلى أمريكا).

وانتهى العام الدراسي، وعُدتُ في أواخر يونيو لأجد في المطار نهاد زوجتي مع سعيد منصور — صديقي القديم — الذي كان متزوجًا من الدكتورة نادية البنهاوي — ومعهما أخبارٌ رائعة عن مسرحية المجاذيب! لقد لحَّن الموسيقار علي سعد (زوج الممثلة فتحية طنطاوي) الأغاني التي كنتُ كتبتُها بالعامية في غضون النص. وتحدَّد موعد افتتاح العرض في أول أغسطس ١٩٨٣م. وكان سمير سرحان قد أقنع الوزير رضوان بإعداد مسرحٍ صيفي في حديقة الحرية بأرض المعارض، وهو مسرحٌ في الهواء الطلق. وبدأ عرض مسرحية حُلم ليلة صيف فيه في يوليو!

وسَعِدنا في الصيف بافتتاح مسرحية سمير، ولكن افتتاح المجاذيب تأخَّر حتى منتصف أغسطس، وإذا بالجماهير تتزاحم بصورةٍ لم أشهد لها مثيلًا. وكان المسرح يزدحم كل ليلة ويأتي العمال بمقاعدَ إضافية. ورفض محمود الألفي زيادة أسعار التذاكر؛ فالهدف هو إسعاد الجمهور لا الربح المادي. وكان الجميع في قمة السعادة للأضواء والموسيقى التي أمست تُوحي بزفة عُرس في صيف القاهرة ١٩٨٣م. وبدأ النقاد يتوافدون، وكان أولهم حسن عبد الرسول ومعه أخته سعاد (زميلتي القديمة في قسم اللغة الإنجليزية التي كانت تعمل في اليونسكو) وابنتها لبنى إسماعيل (التي كانت طالبة في قسمنا، وحصلَت على الدكتوراه فيما بعدُ (٢٠٠٠م)). وبعد العرض قال لي حسن عبد الرسول إنه يدرك المعاني الخبيثة التي يزخر بها النص؛ فالمجذوب الأكبر يُقصد به السادات، والمجاذيب هي الجماعات الدينية التي سمح لها بالعمل، فقضت عليه! وأنكرتُ ذلك بشدَّة، مبينًا له أن تلك الشخصيات مستوحاةٌ من الواقع الفعلي، ولا تُوجد في النص أية إيحاءاتٍ سياسية، وافترقنا!

وتركتُ «العرس»، و«الزفة» وعُدتُ إلى السعودية، وجعلتُ أترقَّب الصحف المصرية كل يوم، وأتطلع إلى النقد المسرحي، فلم أجد كلمةً واحدة عن المسرحية، وكان ذلك درسًا قاسيًا؛ فكما قال نبيل بدران — المؤلف والناقد الراسخ — إن دور المؤلف ينتهي في الغرب بكتابة النص، ولكنه يبدأ عندنا بتقديمه على المسرح! فعلى المؤلف أن يَرعى «نصه» بمراعاة شيئَين؛ الأول هو التقليل من خروج الممثلين عن النص؛ فهذه آفةٌ مستأصلة في الجميع؛ إذ ما يكاد الأسبوع الأول ينقضي حتى يكون الممثل قد عرف أو تعرَّف على المناطق التي تحتمل الإضافة لإضحاك الجمهور وزيادة الوقت الذي يقضيه على المسرح. والثاني هو متابعة النقاد وإيضاح مقاصده ومراميه، والإلحاح عليهم بالكتابة، ولكن المجاذيب عُرضَت شهرَين أو أكثر فلم تحظَ بشيءٍ يُكتَب عنها إلا مقالة نقدٍ مرير كتبَتْها أمال بكير بعنوان «معالجة فاترة لقضيةٍ ساخنة!» وقرأتُ المقال وأنا في جدة للعام الدراسي الثاني، فحزنتُ حزنًا عميقًا.

٢

ولكن صيف عام ١٩٨٣م كان يحمل نبأ سارًّا، وهو حصولي على جائزة الدولة التشجيعية في الترجمة، دون أن أتقدَّم إليها؛ إذ فحَصَت اللجنة (لجنة الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة) الأعمال المقدَّمة إليها فلم تَجِد فيها ما هو جديرٌ بالجائزة، فقرَّرَت تطبيقًا للقانون اقتراحَ عملٍ ما وفحصَه. واقترح الدكتور مجدي وهبة، مقرر اللجنة، فحص ترجمة الفردوس المفقود، ففحَصَتها اللجنة، وقرَّرَت بالإجماع منحها الجائزة، وهي ألف جنيه وشهادة تقدير. وكان ذلك دافعًا لي على الاستمرار، فبدأتُ العمل في الجزء الثاني حالما أفقتُ من صدمة الاستقبال النقدي للمجاذيب. وجاءنا في أكتوبر من يقول إن مشروع ترجمة معاني القرآن قد وُوفق عليه، وإن اللجان التي سبق تشكيلُها سوف تبدأ العمل على الفور.

وكان المشروع في بدايته في أيدي أساتذة كلية الهندسة باعتباره مشروعًا للترجمة بالحاسب الآلي، وكلية الهندسة لديها قسم للحاسبات، ولكن أساتذة الهندسة لم يستطيعوا بعد عامٍ كامل إعداد برنامجٍ حاسوبي. ولم ينجح إلا اليابانيون في عام ١٩٩٥م في إعداد برنامج للترجمة العلمية يكاد يقوم كليةً على المصطلحات دون الصياغة؛ ومن ثَم رأت رابطة العالم الإسلامي التي كانت تشارك جامعة الملك عبد العزيز في المشروع، بإشراف العام الفاضل دمث الخلق الدكتور عمر نصيف، تحويلَه إلى كلية الآداب. وكان منهج الدكتور محمد محمود غالي، أقدر وأكبر الأساتذة، هو إعداد بيانٍ كامل بالترجمات السابقة لمعاني القرآن، وهي أكثر من ثلاثين، ولا يُوجد منها حاليًّا إلا ١٩، فتقرَّر إعداد بطاقات تتضمَّن كلُّ بطاقة الآية العربية، وإلى جانبها الترجمات التسع عشرة، ومكان خاص لوضع ترجمةٍ مقترحة تأخذ من الترجمات السابقة حسناتها وتتجنَّب مثالبها. وبعد أيام قضَيناها في اجتماعات مع أساتذة الهندسة، وكان المبلغ المخصَّص للترجمة قد حُوِّل إليهم فأنفقوه على الحواسب، وبعد اجتماعاتٍ مع بعض علماء التفسير الذين كانوا يقدِّمون لنا خلاصة آراء كبار المفسرين، على نحو ما فعل الشيخ محمد علي الصابوني، بدأنا العمل.

كان العمل بالغ النظام والانتظام؛ إذ وضع الدكتور غالي تشكيلًا يضم عدة لجان، تتكون كل لجنة من ثلاثة، ويكون اجتماعها يوميًّا للاتفاق على ترجمة معنى آية أو أكثر، وترفَع مقترحاتها إلى لجنةٍ عليا للنظر فيها، وإقرارِها أو تعديلِها. ولم تُحدَّد لنا أجور، بل ولم نطالب بأجور؛ إذ كان الجميع مقبلين على دراسة كتاب الله. وكانت لجنتي تتكون مني ومن باكستاني يُدعَى الدكتور سيد آل نبي ومن أستاذ من جنوب أفريقيا يُدعى محمد فقير، وكنتُ أتولى أنا قراءة التفاسير التي يأتينا بها أستاذ التفسير، وإلقاء الضوء على معاني الآية الظاهرة والباطنة، والتنبيه إلى تأويلات الشيعة والصوفية، ثم نشرع في ترجمة المعنى محاذرين مشفقين من الخطَل أو الزلَل؛ فالمسئولية عظيمة. وكانت هناك لجانٌ أخرى، أهمها لجنة الدكتور عبد الله عبد الحافظ متولي، ولجنة الدكتور علي جمال الدين عزت، ولجنة الدكتور محمود حسين، وكان في كلٍّ منها باكستانيون وغيرهم، وكان الدكتور غالي يتابع العمل بدأب وإصرار.

كنا نجتمع في المكتبة، فأبدأ بشرح الآية لعضوي اللجنة بالإنجليزية، مما كان يفتح أبوابًا للصياغة واختيار الكلمات. وبعد ذلك ننظر في الترجمات المنشورة للآية، ونُناقشها ترجمةً من بعد ترجمة، فتأكَّد لي ما كنتُ أحِسُّه، وما شهدتُه في الهند، وما أصبح يرتكز الآن على أسسٍ علمية لا تقبل النقض، وهو أن اللغة العربية لغةٌ لا يُدرك أسرارها إلا أبناؤها، وأن مِن أهم هذه الأسرار تغيُّر معاني الكلمات بتغيُّر موقعها في النص؛ أي وفقًا للسياق، وهو ما يصدُق على اللغات الأخرى، ولكن ذلك يتخذ طابعًا خاصًّا في العربية بسبب وجود المستويات الزمنية الثلاثة للعربية، وهي مستويات اللغة التراثية والفصحى المعاصرة والعامية، أو العربية المحلية التي يتحدث بها أهل كل قطر من أقطار الوطن العربي. وقد تأكَّد لي ذلك وأصبحَت له قاعدته العلمية عندما قرأتُ كتاب الدكتور السعيد بدوي عن اللغة العربية ومستوياتها في مصر، الذي كان قد صدر قبل عشرة أعوام ولم أكن قرأتُه؛ فمعظم المترجمين يضعون — من باب احترام كتاب الله — لفظةً واحدة لكل لفظةٍ عربية، وهذا هو منهج أربري — المستشرق البريطاني الشهير — وبعضهم يفسِّر الكلمات التراثية في ضوء الفصحى المعاصرة، وهذا هو منهج بيكتول، وبعضهم يضيف إلى الآية ألفاظًا بين أقواس ليحصر المعنى في تفسيرٍ واحد قد يكون صوفيًّا، وهو منهج يوسف علي؛ ومن ثم بدأتُ في تكوين منهجي الخاص الذي يحسب حساب تغيُّر معنى الكلمة باختلاف زمانها. وتشكَّلَت في ذهني أفكارٌ محدَّدة مستمَدة من واقع خبرتي المذكورة، عرضتُها في عدة كُتب بالعربية والإنجليزية على امتداد التسعينيات وحتى عام ٢٠٠٠م.

كان أهم ما يتطلبه هذا العمل هو الصبر. ويكفي أن أقول إننا لم نُنجِز في ثلاثة أشهر إلا ترجمة معاني سورةٍ واحدة من القرآن. وشُغلنا في يناير ١٩٨٤م، بالامتحانات والتفرُّق في عطلة نصف العام، وسفري إلى إنجلترا لزيارة نهاد زوجتي وسارة ابنتي. كنتُ أشعر بالقوة لوجود النقود في جيبي، فاشتريتُ التذكرة، وحوَّلتُ بعض النقود إلى جنيهاتٍ إسترلينية، وانطلقتُ إلى لندن فقضيتُ الليلة في فندق في محطة بادنجتون، وهي المحطة التي كنتُ أركب القطار منها إلى أوكسفورد أو إلى ردنج. وفي الصباح الباكر ركبتُ القطار إلى إكستر، ومنها إلى إكسماوث، فوصلتُ إلى منزل أسرتي في الوقت الذي كنتُ حدَّدتُه لهما في خطابي الأخير. وفي مساء اليوم نفسه، وكان يبدأ آنذاك في الرابعة (فالشمس تغرب في نحو ذلك الوقت)، سرنا على شاطئ النهر حتى مصبه في البحر، واشترينا مشروباتٍ ساخنة في مقهًى صغير. وهناك قالت لي نهاد إنها تمضي قدمًا في كتابة الرسالة، وتتوقع الانتهاء منها بحلول الصيف! وكدتُ أطير فرحًا؛ إذ سنعود إلى مصر، وسيلتئم شمل الأسرة من جديد. وفي الأيام التالية تردَّدنا على المكتبات، وذهبنا إلى لندن، وشاهدنا بعض المسرحيات. وانقضَت أيام العطلة وعُدتُ إلى جدة وليس في ذهني سوى تلقي الإشارة المرتقبة من نهاد حتى نعود إلى مصر بعد تقديم الاستقالة!

وفي شهور الفصل الدراسي الثاني قطعنا مرحلةً لا بأس بها في ترجمة معاني القرآن فاكتمل لنا جزءان. وأعلنتُ اعتزامي على الاستقالة، فتقبل الزملاء الخبر بالوجوم والتكذيب؛ إذ يندر أن يقطع «المعار» إعارتَه ويترك المال رمز القوة ووسيلتها، ولكنني كنتُ أحمل ما أنجزتُه في ترجمة الفردوس المفقود (أربعة كتب) وحصادًا وفيرًا من كتب التراث التي امتلأَت بها ثلاث حقائب. وذات يومٍ من أيام مايو ١٩٨٤م، جاءني خطاب من نهاد يؤكِّد أنها انتهت من الرسالة، وأن مناقشتَها وشيكة، فأهرِعتُ إلى مكتب العميد وقدَّمتُ استقالتي! واستدعاني العميد الدكتور سليمان غنام — وكانت فيه شهامة البدو وصراحتهم — وقال لي: «إحنا زعلناك في شيء؟» فأكَّدتُ له أن أسبابي عائليةٌ محضة، ولكنه رفض توقيع الاستقالة، وقال لي سنناقشها في الأسبوع المقبل. وأحسستُ أن ثمَّة جهودًا تُبذل لإقناعي بالعدول عن الاستقالة، ولكنني كنتُ قد صمَّمتُ واستخرتُ الله. وقال لي الدكتور عادل إلياس: أفلن تنتظر مكافأة ترجمة معاني القرآن؟ وقلتُ له بثقة إن كانت هناك مكافأةٌ مادية فسوف تأتيني أينما أكن، ولكن مكافأتي الحقيقية هي دراسة هذه الترجمات التسع عشرة وما تعلَّمتُه من التفسير (وتسلَّمتُ المكافأة نقدًا بعد عامٍ كامل وأنا في مصر). وجاءتني مكالمةٌ تليفونية من روما، فاتصلتُ بهم، فقالوا هل يمكن أن تأتي في الصيف شهرَين؟ ووافقتُ على الفور.

وفي أواخر يونيو ١٩٨٤م، وكنا في رمضان، حزمتُ حقائبي التي كانت ثقيلة، وتُنذر بدفع غرامة لزيادة الوزن، ولكنني لم أكن مستعدًّا للتخلي عن أي كتاب. وفي المطار وقفتُ أحدُس كم ستكون الغرامة، ولكن الموظف المسئول رحَّب بي، وقال لقد كنتُ من طلابك! وقلتُ له إنني قطعتُ الإعارة فأبدى الأسف، وقال: «ترجع لنا إن شاء الله!» ورفض أن يفرض عليَّ أي غرامة. وعند وصولي فتح «كشاف» الجمرك الحقيبة الكبرى، فرأى الكتب متراصة، ولاحظ أن عدة مجلدات تحمل عنوان تفسير ابن كثير، فقال لي: «لديك نسخٌ متعددة من هذا الكتاب … هل تتنازل لي عن إحداها؟» فأجبتُه بأنها أجزاء لكتابٍ واحد، إن شاء أخذها كلها أو تركها كلها. وفي المساء أعدَدتُ سيارتي الفيات (١٣٢) شبه الجديدة للعمل؛ إذ كنت اشتريتُها قبل السفر مباشرة، وكنتُ قد بعتُ في جدة سيارتي اليابانية إلى فاروق (أخي شبير زوج عزة). واتصلتُ تليفونيًّا بالأسرة، أسرتي وأسرة نهاد، ثم بسمير سرحان الذي أخبرني أنه ترجم «على كيفك!» إلى العامية، وهي مسرحية شيكسبير التي عادةً ما يُترجَم عنوانها إلى «كما تهواه» وبالفصحى مع أنها كوميديا فاقعة، ولا تصلح لها إلا العامية، وأنه أسماها «زي ما تحب»، وأنه أسند إخراجها إلى حسين جمعة. وحادثتُ ماهر شفيق فريد، ومررتُ عليه في الصباح، وخرجنا نسير، فأخبرني بوفاة والده.

كان ذلك يوم الخميس ٢١ يونيو ١٩٨٤م، وسرنا أنا وماهر على الأقدام حتى وصلنا إلى الجامعة، فتسلمت العمل رسميًّا (أي أنهيتُ إعارتي)، وطلبت إذنًا بالسفر، فقيل لي أنت في عطلة وهذا من حقك، فحصلتُ على الورقة الصفراء. وجلستُ أنا وماهر قليلًا مع عبد العزيز حمودة الذي كان سعيدًا بعودتي، فقال إنه قد انتهى من كتابة مسرحية الظاهر بيبرس (التي قُدِّمَت فيما بعدُ باسم ابن البلد) وإنه ينتظر الفرصة المواتية لعرضها على المسرح، بعد نجاح الرهائن نجاحًا منقطع النظير. وخرجنا وسرنا عائدين إلى القسم فوجدنا الدكتور سعد جمال يلعن الزمن؛ لأنه بلغ سن التقاعد، وعليه أن يترك رئاسة القسم مرغمًا، فسألناه عمَّن عساه يخلفه، فقال لا يُوجد أساتذةٌ عاملون إلا سمير سرحان؛ فالدكتور فخري قسطندي يصغر سعدًا بعام وبضعة أشهر، ولكنه أستاذٌ مساعد، والدكتورة أنجيل بطرس سمعان تجاوزَت السن (فهي من مواليد ١٩٢٣م — أطال الله عمرها)، وفاطمة موسى قضت سنوات الرئاسة الست، وهي سعيدة في السعودية، ثم أردف قائلًا: ولكن سمير سرحان مشغول بالثقافة الجماهيرية!

ورغم حرارة الجو عُدنا أنا وماهر سيرًا على الأقدام إلى منازلنا، وتجاذبنا أطراف الحديث، فأطلعتُه على كل ما فعلتُه، وأطلعَني على مشروعاته. وتحدَّثنا عن أحوال الحياة الأدبية، وقلت له صادقًا إنني أصبحتُ زاهدًا في الضجيج الإعلامي، وإن هدفي هو أن أخلِّف شيئًا ينفع جمهور القُراء العرب؛ إذ لن يلتفت إلينا أحد — نحن دارسي الآداب الأجنبية — وسيظل أهل العربية نجوم المجتمع الأدبي. وحادثتُه عما رأيتُ وسمعتُ في السعودية، وقلت له إن الناس سريعة النسيان، فإذا لم يملك الفرد منبرًا أدبيًّا يحادثهم منه أمسى عاجزًا عن التواصل معهم. وكنتُ علمتُ بوفاة الدكتور رشاد رشدي قبل عام وأنا في جدة، وبوفاة الدكتور أمين روفائيل من قبله، فقرَّرنا في قيظ ذلك اليوم إعداد كُتب نصوص في الشعر والنقد تحل محلَّ كُتبهما التي غدت أضخم مما يحتاجه المدرِّسون.

وفي يومَي السبت والأحد شُغلتُ بالاستعداد للسفر. وفي يوم الإثنين سمعتُ في الإذاعة البريطانية بوفاة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكوه، وقررتُ إعداد برنامج عنه للإذاعة، وعرضتُ الفكرة على ماهر، ولكنه قال إن صديقه محمد إبراهيم أبو سنة يتوقع مني برنامجًا عن الشاعر تيد هيوز! وأعَدتُ كتب فوكوه إلى مواقعها على الرف، وعكفتُ على هيوز فقرأتُ كتابًا عنه من تأليف ساجار، ثم ترجمتُ بعض القطع من متتابعَته الطويلة «بروميثيوس فوق الصخرة». وكان موعد سفري يقترب، فأسرعتُ بتقديم الجزء الثاني من الفردوس المفقود (الكتب الأربعة من ٣–٦)، مع الحواشي الوافية إلى المطبعة، وتعهَّد الشاعر سعد درويش بمراجعة التجارب الطباعية، فسافرتُ إلى روما مطمئنًّا.

ولم تعُد نهاد وسارة إلى مصر إلا في الرابع من أغسطس، وكنتُ أحادثهما تليفونيًّا بصفةٍ مستمرة، وأتمنى لو كنتُ معهما، ولكن إغراء روما كان غلابًا، فشغَلتُ نفسي بقراءة الشعر الإنجليزي الحديث؛ إذ كنت أخشى أن انقطع إلى القدماء، فأعجز عن تذوق المحدَثين، وأعددتُ مذكراتي الخاصة بخمسة شعراء يمثلون مذاهبَ مختلفة وإن كانت الحداثة تجمع بينهم. وبعد أن شبعتُ حداثةً خطرَت لي فكرةٌ مستوحاة من أحد كتب التراث التي كنتُ قرأتها في السعودية، وهي فكرة المجاعة التي وقعَت في أيام المستنصر بالله، ورأيتُ أن تصوير المجاعة على المسرح موضوع ملتهب، وذكرتُ ذلك عَرَضًا على مائدة الغداء للسوري لؤي جمعة (وهو من دير الزور – ريفي الطبع وعنيد وشهم!) والعراقي (الكردي) زهير عبد الملك، فقالا إن ذلك مشهورٌ في تاريخ المنطقة وليس مقصورًا على مصر، ثم أهداني زهير كتابًا صغيرًا للمقريزي هو إغاثة الأمة بكشف الغمة عن تاريخ المجاعات في مصر! وبدأتُ التخطيط لمسرحية الغربان (وأطلقتُ اسم زهير على بطل المسرحية) وإن كانت الشخصيات التي استوحيتُها معاصرة. ووجدتُ أنني أكتب فقراتٍ منظومة، بل وحوارًا شبه منظوم، فقررت أن أستخدم قالب النظم في الكتابة هذه المرة … وبالفصحى!

وتعرَّفتُ آنذاك على شخصٍ نادر يُدعي إسماعيل أبو زيد، أصبح من أقرب أصدقائي، وكان يعمل في قسم التحرير بالمنظمة، وقصصتُ عليه عَرَضًا فكرة الغربان فتحمَّس للفكرة، واصطحبني في السيارة بعد أن انتهينا من العمل في الخامسة إلى مقهى على شاطئ البحر، وجلس يقُص على طرفًا من معاناة الفلاحين في قريته بالدقهلية في أيام الملكية من عنَت الإقطاعيين وجبروتهم، وكيف انتهى به ذلك إلى الإيمان بالناصرية بعد الاشتراكية. وكانت نهاد زوجتي — عندما تعرَّفت عليه في العام التالي وتوثَّقَت العلاقة بيننا — تُطلِق عليه لقب «آخر الناصريين المحترمين» لصغر سنه!

كان حديث إسماعيل أبو زيد يتسم بالصدق والجد، وهما صفتان كانتا قد بدأتا في التواري من مجتمع السبعينيات. وجعلتُ أستمع إليه وأنا لا أريد الرحيل حتى غربَت الشمس، فعُدنا وقد اتضحَت لي صورةُ ما أريد أن أفعل في الغربان. وعندما فتحتُ التليفزيون لأشاهد الأخبار في الثامنة سمعتُ وشاهدتُ مظاهرات الآلاف في الفلبين ضد الرئيس ماركوس، وكنتُ قد بدأتُ في تحسين لغتي الإيطالية، فأدركتُ أن المظاهرة التي نُظِّمَت في ٢١ أغسطس كانت لإحياء ذكرى أكينو (بنينيو أكينو)، زعيم المعارضة الذي اغتالته الحكومة قبل عام. وفي اليوم التالي سمعتُ عن اشتداد حدة المجاعة في إثيوبيا تحت حكم منجستو، فكأنما كنتُ أشهد أحداث مسرحيةٍ فعلية أليمة! وعندما عُدتُ إلى مصر يوم السبت أول سبتمبر كتبتُ في مفكرتي «قراءة تاريخ الدولة الفاطمية».

وشُغلنا عند وصولي بالتقديم لسارة ابنتي في مدرستها القديمة بعد قضاء سنتَين في مدرسةٍ إنجليزية، وتمَّت الإجراءات بسهولة، ثم افتتحت مسرحية زي ما تحب في مسرح الهواء الطلق بحديقة الحرية، وألقى سعد أردش خطابًا عن المسرح بمناسبة انتهاء عمله رسميًّا رئيسًا لهيئة المسرح (لبلوغه سن التقاعد)، ثم بدأ حفل الافتتاح الذي حضره الوزير رضوان، وحضره لفيف من أعضاء هيئة التدريس بقسم اللغة الإنجليزية. واصطحَبني سمير سرحان لتهنئة الممثلين على المسرح فرأيتُ بينهم زوجة «حسن»، وإن لم ألمحها تشارك في العرض! وكدتُ أن أسألها عن «حسن»، وربما لمحَت السؤال في عيني فقالت بلهجةٍ صافية (ويا لها من ممثلةٍ بارعة!): «ده حسن في مصر وبيدور عليك!» وابتسمتُ وشكرتُها! وفي صباح اليوم التالي اتصل بي حسن تليفونيًّا، واتفقنا على اللقاء بعد أيام!

٣

أصرت نهاد زوجتي بعد عودتنا إلى إعادة طلاء الشقة قائلة إنها لا يمكن أن تستقبل الشتاء بهذه الجدران الكالحة، وكانت مُحقة تمامًا ولكنني كنت أخشى القلقلة وقد بدأتُ العمل بقراءة كتاب العقاد عن الفاطميين (واستعرتُه من الأستاذ أحمد السودة)، ثم بقراءة عدد من الكتب المدرسية (ولا أقول « الأكاديمية») مثل كتاب حسن إبراهيم حسن عن تاريخ الإسلام، وكان الواضح (حتى من الأسلوب) أنه ينقل عن مصادرَ أجنبية، ثم قرأتُ أحمد أمين، وأخيرًا استعنتُ بالدكتور حسنين ربيع، أستاذ تاريخ العصور الوسطى وصديقي القديم، فأعطاني قائمةً ممتازة، واخترتُ منها ما وجدتُه مفيدًا (وحاضرًا). وما إن حلَّ الشتاء حتى عثَرتُ على ضالَّتي لا في تاريخ الدولة الفاطمية، بل بعدها بكثير، ولم أجدها في تلك الكتب، بل في خطط المقريزي!

كان سمير سرحان قد عُيِّن رئيسًا للقسم في مطلع العام الدراسي، وقام بجهدٍ مشكور في حفز الدكتور فخري قسطندي (الكسول) على التقدم للترقية لدرجة أستاذ، حتى إنه كان يتابع عمله أحيانًا، ودفعَه آخر الأمر إلى طبع كتابَين عن برنارد شو وعن مسرحية قروسطية هي كل إنسان. وكان الواضح أن سميرًا يخطِّط لترك رئاسة القسم له؛ إذ كان عز الدين إسماعيل مرشَّحًا لرئاسة أكاديمية الفنون في العام التالي، وكانت رئاسة هيئة الكتاب تنتظر شخصيةً أدبية مرموقة مثله، خصوصًا بعد أن أبلى بلاءً حسنًا في الثقافة الجماهيرية. ولقد حضرتُ اجتماعًا له مع مندوب الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) انتهى بحصول هيئة الثقافة الجماهيرية على دعمٍ كبير لأنشطتها. وكان نجاحه محطَّ أنظار الجميع، الذين رأوا في خياله الخصب وذهنه المائج بالأفكار الجديدة، ما يمكن أن ينهض بهيئة الكتاب نهضةً حقيقية، وذلك بعد أن حوَّلها عز الدين إسماعيل إلى دارٍ صحفية، تُصدِر (إلى جانب فصول) مجلة القاهرة (برئاسة عبد الرحمن فهمي) ومجلة إبداع (برئاسة عبد القادر القط)، وإذا كانت فصولٌ فصليةً ويمكن اعتبارها كتابًا دوريًّا، وإذا كانت إبداعٌ شهريةً لا تستنفد الكثير من الورق، فإن القاهرة كانت أسبوعية وتكاد تلتهم الميزانية التهامًا.

وعندما تغيَّرَت الوزارة، وجاء الدكتور أحمد هيكل وزيرًا للثقافة، وكنتُ أعرفه من الجامعة وأحبه وأحترمه، بعد أن ناقشنا مسرحية فاروق جويدة، الوزير العاشق، في صورتها الأولى في برنامج أمسيةٍ ثقافية، أحسستُ أنَّ الأوان قد آن لأن أكتب الغربان شعرًا، ولكن حسين جمعة كان يُلحُّ عليَّ أن أقدِّم له مسرحية مترجمة، وحبذا لو كانت غنائية، وحبذا لو كانت جماهيرية … إلخ، ففكَّرتُ في إعادة صياغة ترجمتي المنثورة القديمة لمسرحية روميو وجولييت لشيكسبير، فعكفتُ على النص القديم تعديلًا وحذفًا وإضافة، وجعلتُ فيه مواقفَ شعريةً كاملة، مثل مشهد الشرفة الشهير. كما «تبحبَحتُ» في الإعداد، فقسَّمتُ العرض إلى قسمَين. وما إن حلَّ الربيع حتى كان النص قد اكتمل، وعندها حَمِدتُ عمل الشتاء مثلما يحمَد القومُ السُّرى عند الصباح! كان حسين جمعة سعيدًا بإخراجه نصَّين بالعامية لشيكسبير من ترجمة سمير سرحان، وكان يتوق إلى الاستمرار بتقديم نصٍّ شعري غنائي في موقعٍ مماثل، بعد إغلاق مسرح حديقة الحرية، فاقترح على «مسرح الشباب»، الذي كان يرأسه رشاد عثمان، التقدُّم بطلب إلى الوزارة بإنشاء «مسرح النهر» في الزمالك، في مواجهة نادي الجزيرة، وما كان أشدَّ سرورَنا حين جاءت الموافقة من الوزارة ومن المحافظة! وبدأ العمل في إنشاء حديقة على شاطئ النيل في أبريل، حتى تكون جاهزة بمسرحٍ كبير من خلفه الأشجار الباسقة لتقديم العرض في الصيف.

وريثما يتم ذلك بدأ حسين جمعة تجاربه المسرحية في مكانٍ أعده خصيصًا بجوار المسرح العائم بجوار كوبري الجامعة، واختار عزة بلبع للقيام بدور جولييت وأشرف سيف (ابن وحيد سيف) للقيام بدور روميو، وكان تصوره أن يكون العرض غنائيًّا وموسيقيًّا. ولم نجد خيرًا من جمال سلامة لوضع الألحان والموسيقى، وحسين جمعة شعلة من نشاط. وأذكُر أنني كنتُ مع سمير سرحان في منزلي وحدنا، حين جاءتني مكالمةٌ تليفونية منه يطلب فيها حضوري فورًا إلى منزل جمال سلامة في الزمالك، وكنتُ مشغولًا مع سمير في ضبط جهاز التليفزيون الملون الذي دخل منزلنا لأول مرة، فاعتذرتُ لسمير وتركتُه «يلعب» مع الجهاز وأُهرِعتُ إلى الزمالك.

وجلس ثلاثتنا حول النص نرى ما يصلُح فيه للغناء الفردي، وما يصلُح للإلقاء مع خلفيةٍ موسيقية (روستاتيف)، فانتهينا إلى أن عشرين مقطوعة تصلُح للغناء بعد تعديل النظم في بعضها حتى تصبح كوبليهات ليسهل تلحينها، وترك الباقي للإلقاء الروستاتيف. وسألني جمال عن ألوان الأنغام التي أتصوَّرها وألوان الإيقاعات، وكان يعرف أنني درستُ الموسيقى، فتناقشنا وشربنا الشاي وأكلنا الحلوى (فجمال مغرم بالحلويات، ولا يكاد يتناول سواها في عمله أو فراغه)، حتى انتصف الليل أو كاد، وكان حسين جمعة لا يكُف عن الكلام حتى أثناء دندنتنا بالألحان! وجمال عبقريةٌ نادرة، يتفجر ألحانًا ويتحدث بالعبارات الموسيقية مثلما نتحدث نحن باللغة! وتفاءلتُ ونحن خارجان، ولكننا كنا ما نزال ننتظر بناء المسرح الذي سوف يُقدَّم عليه النص!

ولكن تفاؤلي أسلمني إلى «العذاب»، وهو صحبة حسين جمعة؛ فكلما طرأ طارئ في إعداد المسرح، أو تأخَّر أحد المقاولين في عمله، حادثَني بالتليفون، ونسب التعطيل إلى مؤامرات «الشيوعيين». والمشكلة هي أنه لم يكن يستطيع التوقف أثناء الحديث لالتقاط النفس (ولا يزال)؛ فهو يسرق النفس، كما نقول في مجال الغناء أثناء الحديث، ويواصل ربط العبارات بأسلوبٍ جدير بالتحليل اللغوي الحديث. ولم أكن أستطيع أن أنهي المكالمة بسهولة، فكان وجع الرأس الذي استمر طيلة شهر مايو، حتى بعد أن اكتملَت لديه الموسيقى، وبدأ بروفات الحركة، وانتهى تصميم الملابس، فتوقَّعتُ افتتاح المسرحية في يوليو، أو في أغسطس على أقصى تقدير، وشغَلتُ نفسي بإعداد دراسة بالإنجليزية عن التورية الساخرة أو المفارقة الدرامية (irony) في الشعر الإنجليزي الحديث، وحاولتُ عبثًا أن أنسى عذاب حسين جمعة!

وجاء الفرج عندما اتصلوا بي في روما ودَعَوني للعمل في الصيف. وكان سمير سرحان قد قرَّر الانتقال إلى هيئة الكتاب وترك رئاسة القسم للدكتور فخري، الذي كان قد تقدَّم للترقية، في اللحظة الأخيرة؛ فهو من مواليد عام ١٩٢٥م؛ أي إنه كان لا بد من الترقية حالًا قبل بلوغه سن التقاعد (المعاش) وكان عبد العزيز حمودة قد انتُخب عميدًا للكلية. وسافرنا أنا ونهاد وسارة إلى روما، وقضَينا الصيف في حوارٍ مسرحي. وكانت الدكتورة سمحة الخولي، رئيسة أكاديمية الفنون، قد وافقَت أخيرًا على تعيينها في هيئة التدريس بالمعهد العالي للنقد الفني بعد حصولها على الدكتوراه. وكان حديثي يدور دائمًا عن الغربان، وإن كنتُ أقضي الوقت في التسرية بقراءة روايات جراهام جرين، التي اشتريتُها من مكتبة الأمم المتحدة. وعُدنا في أول أغسطس لنجد أن حسين جمعة ما زال يُجري التجارب المسرحية في المسرح الجديد!

وعندما كنتُ أتعجل حسين جمعة كان يقول لي «أنا لا أخسر شيئًا! فأنا من مواطني الإسكندرية، وأتقاضى يوميًّا بدل سفر قدره ثلاثون جنيهًا! ولا يضيرني إذا تأخر افتتاح العرض!» وكنتُ متخوفًا من التأخر لأن الخريف على الأبواب، وشاطئ النهر بارد لا يشجِّع الجمهور على الصمود، خصوصًا بسبب طول النص، وكان هذا هو العيب الأساسي الذي أعُد نفسي مسئولًا عنه في المقام الأول!

طول النص؟ الحق أنني أخطأت — على نحو ما ذكر عبد العزيز حمودة في تحليله للعرض في برنامج المسرح التليفزيوني، الذي تقدِّمه سميحة غالب (أرملة صلاح عبد الصبور — رحمهما الله). أخطأتُ حين قدَّمتُ مسرحيةً غنائية ومسرحيةً درامية في آنٍ واحد! كان عليَّ إذا اخترتُ الصورة الأولى أن أحذف الكثير من تفاصيل الحبكة، بل وأن أضغط النص ضغطًا لا يسمح بالتفريعات أو الحبكات الثانوية. وأما إذا اخترتُ الصورة الثانية فلا بأس من تقديم كل شيء دون موسيقى وغناء! كانت التجربة مفيدة؛ فالكاتب لا يتعلم إلا من واقع العرض المسرحي، وهذا هو ما أفادني فيما كتبتُه بعد ذلك من مسرحيات (الغربان، وجاسوس في قصر السلطان، والدرويش والغازية).

وحلَّ سبتمبر، واستعد الناس لدخول المدارس، وبدأَت الرطوبة تشيع في المساء على شاطئ النهر، وحسين جمعة يُجري تجاربه المسرحية. وكنتُ في أثناء ذلك ألحُّ على سمير سرحان في أن يسمح بإصدار (أو إعادة إصدار) مجلة المسرح من هيئة الكتاب. وكنتُ عندما عرضتُ الفكرة على الدكتور عز الدين إسماعيل اقترح إصدارها بالمشاركة مع هيئة المسرح، ولكننا كنا الآن نحاول تحقيق أحلام أكبر؛ إذ عادت فكرة نشر الأدب العربي المترجم إلى الإنجليزية تُلحُّ على ذهني، وكان سمير متحمسًا لها، بل كان قد طلب من نهاد صليحة ترجمة محاكمة في منتصف الليل للروائي محمد جلال، وانتهت منها فعلًا، وكتب لها المقدمة الإنجليزية بنفسه! كنتُ طموحًا في حركةٍ أدبية شاملة لا مسرحية فقط، ولكن سمير كان لا يزال يدرس أحوال الهيئة، بما اكتسبه من خبرة في الإدارة في الثقافة الجماهيرية. وكان أهم ما اكتشفه أن مدير الشئون المالية والإدارية يتحكم مع أعوانه في مسار الهيئة ونشاطها؛ إما بحبس المال عنها بطرائقَ ملتوية تخصَّص فيها، أو بتقديم المال بشروط، وهو ما لم يكن غير سمير قادرًا على اكتشافه؛ ذلك أنه أغرق نفسه في دراسة هذه «الشئون» حتى يعرف كل شيء، وهو عملٌ مُضنٍ شاق، وانتهى به الأمر إلى أن تخلص من ذلك الموظف الكبير بعد كشف حيَله. وهكذا لم يبدأ عام ١٩٨٦م إلا وسمير يعرف ماذا يجري من أمامه ومن ورائه!

ولم تُرفع الستار عن روميو وجولييت إلا في يوم الخميس ١٩ سبتمبر ١٩٨٥م والخريف على مبعدة يومَين، ومع ذلك فقد امتلأ المسرح يوم الافتتاح، وكان الدكتور أحمد هيكل وزير الثقافة حاضرًا مع نخبة من الأدباء والفنانين، كان من بينهم أنيس منصور وفاروق جويدة الذي قال لسمير سرحان: «محمد عامل شغل كويس رغم أن الشعر لا يُترجم!» وجلستُ وبجواري عبلة الرويني، ناقدة الأخبار، التي كتبَت مقالًا جميلًا عن العرض اختصره حسن عبد الرسول. كما كتبت آمال بكير مقالًا مطولًا. وسرعان ما جاء التليفزيون لتصوير المسرحية، وقامت بإخراجها للتليفزيون إقبال الشاروني (زوجة سمير عوض). وكانت آلات التصوير تتعطل أحيانًا فيُضطَر الممثلون إلى إعادة المشهد. وسهرنا ليلتها حتى الرابعة صباحًا! وكان من بين الذين واظبوا على الحضور — فحضَرَت أكثر من مرة — طالبةٌ مجتهدة لدينا في قسم اللغة الإنجليزية خضراء العينَين، عرفتُ فيما بعدُ أنها لميس النقاش ابنة رجاء. وذات مساءٍ في أواخر سبتمبر لمحتُ فريقًا من لابسي الجلابيب البيضاء والغترة (وهي لباس الرأس السعودي)، وعجبتُ من إقبالهم على مشاهدة عرضٍ بالفصحى، ولكن أحدهم تعرَّف عليَّ وجاءني متهللًا وقال لي إنه أحد طلابي السابقين! وانتهى العرض في ٢١ أكتوبر!

وصدر العدد الأول أو الكتاب الأول في سلسلة الأدب العربي المعاصر بالإنجليزية في يناير ١٩٨٦م، وهو ترجمة رواية محاكمة في منتصف الليل لمحمد جلال. وجاءنا خطاب من المستشار الثقافي في المجلس البريطاني يُثني على الرواية وعلى الترجمة، ويعترض على حجم الكتاب؛ إذ كان من القطع الكبير. ودعاني جمال الغيطاني إلى مكتبه بعد أن تولى الإشراف على الصفحة الأدبية في جريدة الأخبار، وأعطاني صورةً تصلح لغلاف روايته وقائع حارة الزعفراني، التي كان قد ترجمها أمريكي يُدعى «بيتر أُو دانييل» في نحو عشر سنوات، وكتبتُ لها مقدمةً طويلة بعد أن راجعتُ النص وعدَّلتُ ما تعذَّر عليه فهمه من عباراتٍ كُتبَت بالفصحى وإن كانت أصولها عامية مثل «ممكن خمسة؟» فقد حيَّره هذا التعبير ولم يعرف الخمسة «المقصودين»، بل أشار إلى ذلك في الهامش. وصدرت الترجمة في أبريل، فتشجَّعتُ وأعددتُ مجموعة الشعر العربي المعاصر التي ترجمتُها، وقدَّمتُ لها بمقدمةٍ طويلة تتضمَّن مقارناتٍ مستفيضة بين الشعر العربي الجديد في مصر والشعر الإنجليزي الحديث. وصدر الكتاب، وهو الثالث في السلسلة، في يونيو ١٩٨٦م.

وفي الصيف سافرتُ إلى روما، وكان قد صدر لي كتاب Varieties of Irony أي أنواع من التورية الساخرة. كما صدر لي عن دار غريب للنشر كتاب دراسات في الشعر والمسرح، والجزء الثاني من الفردوس المفقود بحواشيه الضافية، فاجتمع لديَّ من الدراسات والترجمات بالعربية والإنجليزية ما يكفي للتقدم للترقية، فتقدَّمتُ بالطلب مشفوعًا بما يُسمى النشاط الثقافي، وسافرت مطمئنًّا. واستطعتُ التركيز في روما على الغربان، وكان إسماعيل أبو زيد يقرأ ما أكتبه أولًا بأول، فما انتهى الصيف حتى كنتُ قد رُقِّيت أستاذًا. وكتبتُ المسرحية في صورتها الأولى، وعرضتُها على نهاد فأبدت اعتراضاتٍ كثيرةً دفعتني إلى إجراء ما اقترحَتْه من تعديلات. وأعدَدتُ النص بالآلة الكاتبة، وقرأتُه على ماهر شفيق فريد والأستاذ أحمد السودة فأبدَيا عدة ملاحظات قرَّرتُ تأجيل النظر فيها.

ونشرت المسرحية في هذه الصورة الأولى بمجلة إبداع (فبراير ١٩٨٦م)، وتقبَّلها النقاد بقبول حسن، وهو ما شجَّعني على تقديمها إلى المسرح الحديث. وقرأها محمود الحديني وناقشها معي، وكان يرى أن كفَّة الشعر فيها ترجحُ كفَّة الدراما، وجلسنا نبحث ذلك تفصيلًا. ووجدتُ كلامه مقنعًا، فعُدتُ إلى النص حتى أزيد فيه من هوَّة التصادم بين الفلاحين وبين السلطة المملوكية، وأكاد أعيد صياغة النص طلبًا لتعميق الصراع الذي هو جوهر الدراما، ولكن القالب التجريبي الذي يتضمَّن الراوي كان لا يزال قائمًا، مما جعلَني أقدِّمها إلى سمير العصفوري في مسرح الطليعة، وقرأها ورحَّب بها، واختطفها من يده مخرجٌ نابه هو ماهر عبد الحميد، ووجدتُه يتصل بي تليفونيًّا ويقول لي: «إيه البونبوناية دي؟!» وكان يقصد بذلك أنها «صغيرة وحلوة». وقال سمير العصفوري إنه موافقٌ على تقديمها في الموسم الجديد، ولكنَّ ماهرًا حصل في تلك الآونة على عقد للعمل بإحدى دول الخليج، وسافر فجأةً وربيع ١٩٨٧م لم يكد يبدأ.

كنا في مارس، وكان والدي قد أصابه ارتفاع ضغط الدم بالفالج؛ إذ كان لا يؤمن بالأطباء ولا بالأدوية، وكانت تلك هي المرة الثالثة، وكانت الأولى في ١٩٧٢م والثانية في ١٩٧٧م. وكان عنيدًا لا يصغي لنصح أحد، وبدا أنه ملَّ الحياة بعد تقلُّبات الدهر التي تحدَّثتُ عنها من قبل، وكنتُ آنذاك في الكويت أعمل في إحدى دورات منظمة المؤتمر الإسلامي، وعندما عُدتُ فوجئتُ بحالته المؤسفة. وأحضرنا له أنا وأخي مصطفى بعض الأطباء الذين بيَّنوا له خطورة الحالة، ووصفوا له بعض الأدوية. وكانت والدتي تؤدي فريضة الحج للمرة الثالثة، وعندما عادت لم يكن ثَم بُدٌّ من نقله إلى المستشفى، ولكن حالته تدهورَت بسرعة، وتُوفي في ٢٧ مارس ١٩٧٨م. وكنت ما زلت أكتب في الأهرام ولكن في عدد الجمعة في عمود أسبوعيات، وكتبتُ له رثاءً بعنوان عاد إلى الطيور.

وعندما كنتُ في الكويت احتفل بنا أنا والدكتورة سامية أسعد (من القسم الفرنسي) أعضاءُ هيئة التدريس في كلية الآداب. واتفق معي الدكتور سامي أنور، رئيس قسم اللغة الإنجليزية، على الالتحاق بالقسم في العام التالي. وقدَّمني الدكتور جابر عصفور، الذي كان وكيلًا للكلية لشئون الدراسات العليا والبحوث، إلى العميد الدكتور خلدون النقيب، وبات في حكم المؤكَّد أن أغادر القاهرة في العام الدراسي التالي. ولا زلتُ أذكر مائدة الغداء التي أقامتها الكلية احتفالًا بنا (أنا وسامية) وأحاديثنا مع الأساتذة. وكان أكثر ما راعنا هو كثرة الأساتذة المصريين الذين لا نعرف عنهم شيئًا في مصر، بعضهم تقدم به العمر وبعضهم ما زال في ريعانه، ولكنهم جميعًا مجهولون لنا؛ فهم لا يكتبون ولا يترجمون، ولكن يعيشون قانعين بالحياة الرخية، بعيدًا عن أعين الحسَّاد والطامعين! ودعانا الدكتور سامي أنور أنا والدكتور زكي عبد الله إلى الخروج إلى وسط البلد لشراء مستلزماتنا، ثم إلى منزله. كما دعانا (أنا وسامية) الدكتور عزت عبد الموجود إلى منزله، وهو طباخٌ ماهر، فقضينا معه سهرةً ممتعة، وقال لنا جابر عصفور في تلك السهرة إن جامعة الكويت منحَت جائزة التفوق العلمي للدكتور فؤاد زكريا؛ لأنه ترجم ٢٥ كتابًا.

كانت أصداء رحلة الكويت لا تزال ترنُّ في أذني ونحن في رحلة العودة من رشيد؛ حيث دفن والدي رحمه الله في مقابر الأسرة. وكنتُ أتأمل مصر طيلة الرحلة، وأنظر في حسرة إلى يد الخراب التي امتدت إلى حديقة والدي، فأحالتها باسم العمران إلى أرض للبناء. وتطلَّعتُ دامع العينَين إلى أطلال ذلك البستان الذي بذل فيه والدي جهدًا جهيدًا، فغرس الأشجار حتى أصبح قبلة أنظار الطيور الأوروبية المهاجرة. وعُدتُ كأنني دفنتُ حياةً أو قل دنيا كاملة. عالمٌ كامل كان يتوارى وأنا أنظر كسير القلب عاجزًا عن فعل شيء. وأحسستُ آنذاك أننا جميعًا لا نملك من أمرنا شيئًا فكأن الغربة قدَر، وكأن التغيُّر يُحدِث من الغربة في الداخل ما تتجاوز آثارُه غربة البدن.

وعُدتُ إلى المسرحية أحاول أن أجد في تقديمها السلوى، وكنتُ أطمع في أن يقدِّمها أحد المخرجين الشبان ممن أثق في قدراتهم، مثل عصام السيد أو مراد منير، ولكن الجميع كانوا مشغولين بمشروعاتهم الخاصة. وفي مطلع الصيف اتصل بي الدكتور هاني مطاوع، وقابلتُه وأعطيتُه النَّص. وقابلتُه في محل الويمبي في المهندسين، وقال لي إنها «ليبرتو» رائع (أي مسرحية شعرية غنائية) وهو على استعداد لإخراجها، بشرط إيجاد المسرح المناسب. وقرَّرتُ أن أذهب إلى سمير العصفوري، وأُقنِعه بهاني مطاوع، ولكن سميرًا كان كعهدي به ماكرًا، فلم يقدِّم لي إجابةً نهائية، وجعل يتكلم ويتكلم دون أن أدري مقصده. وكنتُ إذ ذاك ما زلتُ في الأربعينيات، وأتناول دواء ضغط الدم يوميًّا، فتحمَّلتُ حديثه الذي طال فأمعن في الطول، وانصرفتُ دون إجابةٍ حاسمة.

وعند باب المسرح قابلتُ صديقي الجوال «حسن»!

٤

تحدَّث حسن طويلًا عن حياته في الخليج قائلًا إن الحرب قد خلقَت روابط متينة بين عرب الخليج؛ إذ شعروا — ربما لأول مرة — أنهم يواجهون خطرًا مشتركًا، وإن العراق، رغم ظروف الحرب، تعيش أيامًا مجيدة؛ فالأموال متوافرة، والعمل المسرحي والدراما الإذاعية في أوج الازدهار، وإنه يحاول إنشاء معهد للفنون المسرحية في إحدى دول الخليج، وهو الآن يدرس — على الطبيعة — إمكان الاستعانة بالأساتذة المصريين من داخل الأكاديمية وخارجها. وأدركتُ ما يرمي إليه، فقلتُ له إنني أكثر اطمئنانًا إلى اللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي، وإن ثَم احتمالًا هو ذهابي إلى الكويت! فقال بسرعة: «وما العراق والكويت؟ إنهما واحد!» وقلتُ له إنه واهم؛ فالفارق شاسع، فجعل يحدِّثني عن تحرُّر المجتمع العراقي قائلًا إنه مثل قاهرة الخمسينيات والستينيات، وإن حب العراقيين للمصريين لا يماثله حُب شعبٍ آخر. وكنتُ في غمار ذلك أتحيَّن لحظة صمتٍ لعرض الغربان عليه، ووجدتُ الفرصة سانحةً عندما وصلنا إلى سيارتَينا، فوضعتُ في يده النص، وقلتُ له أن يقرأه ويقول لي رأيه. وافترقنا.

وفي أبريل اتصل بي المستشار الثقافي في المجلس البريطاني، وعرض عليَّ المشاركة في مؤتمر الأدب الحديث في كيمبريدج بإنجلترا، في يوليو. ووافقتُ وذهبتُ إليه وقابلتُه وشرحتُ له أنني فقير، ولا أستطيع تحمل ثمن تذكرة الطائرة، فوافق على أن يتحملها المجلس. وأحضرتُ إليه بعد ذلك جواز السفر حتى يتولى المجلس استخراج التأشيرة لي. وشُغلتُ بعد ذلك بالامتحانات وبالشئون الجامعية؛ إذ كان الدكتور فخري قد تولى رئاسة القسم عامًا واحدًا. وتولَّت بعده الدكتورة هدى جندي، صديقتي القديمة، ولم تكن قد تسلمت الرئاسة رسميًّا؛ لأننا كنا ما نزال نعيش في ظل العام المنصرم، ولكن التغيير المحتوم كان يتطلب الحضور المنتظم إلى الجامعة. وذات يوم أثناء درس الترجمة الأدبية لطلاب الدبلوم — وكانت آخر محاضرة — أتى إليَّ طالب بترجمة لفقرة من مسرحية تاجر البندقية لشيكسبير أبدعها الشاعر الكبير خليل مطران، فقرَّرتُ أن أجعلها موضوع الدرس، مثلما كان شكري عياد يفعل عندما كنا نخصِّص بعض الدروس (في عام ١٩٥٧م) لدراسة ترجمات لويس عوض لمسرحيات الشاعر الإنجليزي الأشهر. وعندما عُدتُ إلى المنزل في ذلك المساء كنتُ قرَّرتُ أن أترجم ذلك النص نظمًا.

كانت ترجمة شيكسبير (شعرًا أو نثرًا) تتطلب ما يُسمَّى بمعايشة النص معايشةً كاملة ومقارنةَ الشروح والتعليقات في الطبعات المختلفة بعضها بالبعض. وقد وجدتُ في ذلك متعة أي متعة، وانكببتُ على العمل بحماس، حتى انتهيتُ أو كدتُ أنتهي من النص قبل السفر إلى كيمبريدج! كان إيقاع النظم ساحرًا، خصوصًا حين يتغيَّر البحر بصورةٍ شبه تلقائية بتغيُّر الموقف ونبرة المتحدث وشخصيته. وسرني سرورًا عظيمًا أن أستطيع استخدام البحور المركَّبة (كالخفيف مثلًا)، وعدم الاقتصار على البحور الصافية، مثل الكامل والرجز (والرمل والهزج) والمتقارب والخبب. وكنت أذعن تمامًا لموسيقى الشعر بعد أن أيقظَت تجربة الفردوس المفقود وروميو وجولييت ما كان قد أغفى، أو ضرب الله على آذانه في كهف نفسي من كَلِم العرب سنين عددًا. وكانت متعة العمل بترجمة الشعر تفوق كل ما عداها ولو كان التأليف المسرحي نفسه.

أما مؤتمر كيمبريدج فكان مناسبةً فريدة للالتقاء ببعض كبار الأساتذة والأدباء الإنجليز مثل جورج شتاينر، ودافيد لودج، وداميان جرانت، وكريستوفر بيجسبي، ومارجريت درابل، وتيرنس هوكس، وأنتوني ثويت، وفان ويلدون، وجاياتري سبيفاك، وبعض أساتذة اللغة الإنجليزية الأجانب (من إيطاليا واليونان وبولندا … إلخ)، ولكن أهم ملامحه كان تعرُّفي بأستاذٍ عراقي في اللغويات، وأستاذٍ سعودي في الأدب، هو الدكتور عزت خطاب، خريج جامعة القاهرة، الذي كان ملازمًا لي كظلي؛ فقد كنتُ المتحدث باسم العرب في المؤتمر. وقرَّرَت إدارة المؤتمر عقد جلسةٍ خاصةٍ قرأتُ فيها ترجماتي للشعراء العرب من الكتاب الذي سبقَت الإشارة إليه. وكان الحفل الختامي قد سبقَتْه جلسة حول تقديم شيكسبير باللغات المختلفة، فقلتُ ما فتح الله به عليَّ، وقدَّمتُ لهم نماذج من إيقاع الشعر العربي، فكانوا به فرحين. وقد كتبتُ أربعة مقالات في عمود أسبوعيات بالأهرام عن هذا المؤتمر بعد عودتي، جمعتُها في كتابٍ صدر عام ١٩٩٣م، بعنوان مقالات في الأدب والحياة؛ ولذلك فلن أفيض في الحديث عنه.

وصل في الصيف إلى القاهرة الدكتور فاروق عبد الوهاب، صديق الصبا وزميلنا القديم، واستأجر شقةً مفروشة في شارع أحمد عرابي، لا تبعُد إلا دقائق بالسيارة عن منزلنا في المهندسين، وكان قد حصل على مهمةٍ علمية من جامعة شيكاغو لجمع ونشر الأعمال المسرحية الكاملة لميخائيل رومان، وكان قد أنجز إنجازًا باهرًا هو ترجمة الزيني بركات لجمال الغيطاني إلى اللغة الإنجليزية. وبدأنا نتزاور ونكثر من الخروج إلى المسرح، وسرعان ما حل الخريف وأطلعتُه على نشاطنا في الترجمة، ولكنه رفض الاطلاع على ترجمة جمال الغيطاني (الزعفراني)؛ لأنه كان قد ترجمَها ولم تُنشر بعدُ ويريد أن يُقسِم أنه لم يطَّلع على ترجمتنا لها، ودهشتُ لذلك. وكنتُ قد بدأتُ تشجيع بعض أعضاء هيئة التدريس في القسم لدينا على المشاركة في هذا المشروع، فترجمَت الدكتورة ماري تيريز عبد المسيح رواية أخبار من عزبة المنيسي ليوسف القعيد، وكتبت لها مقدمة، وهي الآن أستاذة في القسم لدينا. وترجمَت الدكتورة هدى عياد (ابنة الدكتور شكري عياد رحمه الله) رواية حادث النصف متر لصبري موسى. كما دعوتُ المترجمين من خارج قسمنا، أجانب وعربًا، إلى المشاركة في الترجمة، على الرغم من ضآلة المكافأة؛ إذ كنا ولا نزال مقيدين بالقرار الجمهوري الذي أشرتُ إليه لعام ١٩٧٨م، وهو ستة مليمات للكلمة، وبحد أقصى هو ألف جنيه للكتاب الواحد مهما يبلغ حجمه، فنشرت ترجمة بعد أن يموت الملك، لصلاح عبد الصبور، التي أبدعَتْها نهاد زوجتي، وكتب عنها الدكتور فاروق عبد الوهاب مقالًا يمتدحها فيه ويؤكد روعة الترجمة في الأهرام. كما نشرت ترجمات لبعض المستشرقين، مثل ترجمة رواية أيام الإنسان السبعة، لعبد الحكيم قاسم، التي ترجمها أحد المستشرقين (وهو Joseph Norment Bell)، ومسرحية كوبري الناموس، لسعد الدين وهبة، التي ترجمتها شارلوت شبراوي، الأستاذة بالجامعة الأمريكية (وزوجة الدكتور صبري شبراوي)، وكتبتُ لها المقدمة بنفسي. وبدأ الناس يشعرون بأهمية المشروع دون أن يدركوا الصعوبات التي نكابدها في سبيله. كما أتى لي مجيد طوبيا بقصصٍ قصيرة ترجمَتْها ابنة يوسف جوهر التي تقيم في أمريكا، وعنوانها هوستوك يصل إلى القمر. وأحسستُ بجدوى المشروع حين أرسلَت الدكتورة نازك الدفراوي (المصرية)، الأستاذة بكلية كورنيل في أمريكا، طلبًا لإرسال مجموعةٍ من كُتب السلسلة لتدريسها في أمريكا للأمريكيين، وكلما أرسلنا إليها مجموعة طلبَت المزيد. وذات مساء دعانا الملحق الثقافي الأمريكي جون شيرمان إلى سهرة في منزله مع بعض كبار المثقفين الأمريكيين والأجانب الدارسين والمدرسين بالجامعة الأمريكية، لمناقشة رواية محمد جلال، محاكمة في منتصف الليل، وأثنى الحاضرون على الرواية والترجمة جميعًا. وكانت زوجتُه نانسي من أشد المعجبين باللغة الإنجليزية (البريطانية) التي تستخدمها نهاد صليحة.

كان تصوُّرنا الأول للمشروع هو ترجمة الأدب العربي بعد نجيب محفوظ؛ أي تقديم الجيل أو الجيلَين من الكُتاب الذين نشروا إبداعهم في الربع الأخير من القرن العشرين، ولكنَّنا قدَّمنا أيضًا أعمالًا لمحمود تيمور ويوسف إدريس وألفريد فرج، وغيرهم ممن لمع نجمهم وسطع قبل عام ١٩٧٥م؛ أي إننا فتحنا الباب بعد نجاح المشروع استجابةً لطلب زبائننا في الغرب. وفي العام نفسه، كانت مجلة المسرح الفصلية قد حقَّقَت نجاحًا كبيرًا منذ أن عادت للظهور عام ١٩٨٦م؛ إذ رحَّب بها جميع العاملين بالحقل المسرحي، فكانت وما زالت مجلة المسرح الأولى في العالم العربي؛ فغيرها يظهر ويختفي، أو هو إصداراتٌ غير دورية، ولكنَّنا عمَّقنا من «التغطية» التحليلية النقدية، ووسَّعنا نطاقها، فأصبحت تنشر للعرب من شرق الوطن العربي وغربه. وكما يقولون فإن النشاط يزيد من النشاط والنوم يزيد من النوم! ويصدُق هذا المثل العامي على أعمالنا في تلك الفترة. وكان من المحتوم أن يكون ثَم ردُّ فعل، ولم أدرك مدى ردِّ الفعل المذكور إلا في يناير ١٩٨٨م.

كنتُ قد وطَّنتُ النفس على عدم الرحيل من مصر في إعارةٍ جديدة بعد أن جاءني رفض الطلب في أكتوبر ١٩٨٧م. وكانت لجنة التعاقد الكويتية قد زارت مصر آنذاك، ووافقَت على إعارة الدكتورة عفاف المنوفي (رحمها الله) وذلك — وفقًا لما قالَته — لأنهم يريدون المتخصص في اللغة لا في الأدب. ومنذ ظهور اللغويات، أصبحَت الجامعات العربية تطلب المتخصصين في علم اللغة. وكان المفترض أن مثل ذلك المتخصص يتخصص في اللغة الإنجليزية. ولا يدري الكثيرون أن معظم هؤلاء المتخصصين في اللغة يكتبون رسائلهم للماجستير والدكتوراه في اللغة العربية العامية أو اللهجة المحلية للغة العربية! فالدراسة تتمثل في تطبيق إحدى النظريات اللغوية مثل بناء الجملة أو استعمال الأفعال وما إلى ذلك على اللغة العربية المحلية لا على اللغة الإنجليزية. ولذلك جذور ترجع إلى أوائل الستينيات حينما أنشأ الأمريكيون مدرسة (أي كلية) اللغويات في تكساس، وكان القصد منها تعليم اللهجات المحلية في كل بلدان العالم للأمريكيين الذين يقومون بمهام خاصة بوزارة الخارجية الأمريكية (أو يعملون بها)، أو بوزارة الدفاع، أو بالاستخبارات الأمريكية. وتوطيدًا لمكانتها كان الأمريكيون يَدْعون أبناء البلدان المختلفة من أقصى الأرض إلى أقصاها لتدريس لغاتهم المحلية إلى الأمريكيين، في مقابل الحصول على الماجستير أو الدكتوراه إذا توافرت للدارس/المدرس معرفةٌ لا بأس بها بالإنجليزية. وأما الدراسات في اللغة الإنجليزية فلا يتولَّاها إلا أهل الإنجليزية وأبناؤها بأنفسهم، ولكن الشهادة التي يحصل عليها الأجنبي كانت تحمل عنوان «اللغويات» وحسب، فازدهر السوق وراجت البضاعة!

ولذلك كان الخطاب الذي يتضمَّن رفض طلبي من الكويت يقول إنهم ليسوا في حاجة إلى تخصُّصي (وهو الشعر) وإن كنتُ علمتُ من الدكتور داود السيد، مدَّ الله في عمره؛ فهو شاهد في قيد الحياة، أن مجلس القسم رفض الطلب بناءً على ما قاله شخصٌ يُدعى نايف خرما من أن تعيين أستاذٍ نشيط مثلي لن يأتي بعواقبَ مستحبة للقسم، ولم يستطع جابر عصفور أن يقنع العميد بخطل ذلك الرأي. وعندما جاء العميد إلى القاهرة غداة الغزو العراقي مع الدكتور عصفور لنشر كتاب في هيئة الكتاب، وأنهيتُ له الإجراءات اللازمة في دقائق، صارحَني بما أكَّد قول الدكتور داود. وكذلك كان الخطاب الذي أتاني من السعودية يحمل رفض الدكتور عزت خطاب (والقسم) لطلبي — التخصص غير مطلوب! وقد يكونون على حقٍّ في رفض تخصُّصي في الشعر، ولكن اللغة الإنجليزية لا تقوى بدراسة اللهجات العربية المحلية، ولا حياة لها دون استيعاب النصوص الإنجليزية الحية، أدبيةً كانت أم غير أدبية!

ولم أحاول بعد ذلك أن أترك مصر، بل زدتُ من إخلاصي في العمل وإفناء نفسي فيه. وما زلتُ أذكُر تعليقًا كتبه ضياء الدين بيبرس في مجلة الكواكب عام ١٩٨٥م تعليقًا على ترجمة روميو وجولييت بعنوان «الاستمرار أهم من العبقرية» يقول فيه إنه أجدى لنا أن نواصل السعي برغم العقبات من أن نركن إلى عبقريةٍ فردية فنستظل بظلها ونهنأ بنعيمها! «العمل يا سونيا» كما يقول فوينتسكي (فانيا) في ختام مسرحية الخال فانيا لتشيكوف! لقد مضى عهد الارتكان إلى الموهبة، وبدأ عصر الجِد والاجتهاد في عالمٍ أصبح فيه أبرزُ الأدباء من أعلم العلماء! وكتبتُ عن ذلك مقالًا في أسبوعيات الأهرام رحَّب به الزملاء والطلاب.

واتصل بي سمير العصفوري ذات يوم، وقال لي إنه يقترح أن يتولى مسرحيتي مخرجٌ جديد هو كمال الدين حسين، وهو طبيب أسنان درس في معاهد الأكاديمية (وحصل أخيرًا على الدكتوراه). وتحضرني هنا فكاهة: قال المريض وهو على مائدة التخدير للجرَّاح «دي أول عملية باعملها يا دكتور.» فردَّ الجرَّاح قائلًا: «وانا كمان!» ماذا كان عساي أن أقول له؟ إننا في مطلع عام ١٩٨٨م، وقد يستغرق إعداد المسرحية للعرض شهورًا، بفضل البيروقراطية والتعطيل المعهود، فلا ترى النور إلا في نهاية الموسم، والطلاب يستعدون للامتحانات، والبيوت المصرية مشغولة بالدروس الخصوصية! وصحَّ ما توقَّعتُه من المخرج ومن الإدارة؛ إذ جعل المخرج يقترح أسماء نجوم والإدارة تعترض بسبب قيود الميزانية. وانتهى الأمر بإسناد البطولة إلى وجهٍ جديد هي «لبنى الشيخ» ابنة أحد الفنانين، وأعضاء فرقة الطليعة. ولم تُفتح الستار عنها إلا في آخر الموسم، فكان الإقبال الجماهيري شبه معدوم!

وعلى الرغم من الحملة الدعائية في الصحف والمجلات كانت المقاعد خالية. ورفض سمير العصفوري (بصورةٍ غير مباشرة) أن تشارك فيها سهير طه حسين بالغناء، وأتى لي بمطربةٍ مغمورة اسمها إجلال، ومنحها هو لقب «المنيلاوي»، وكانت ذات صوتٍ عريض رائع، ولكن اسمها لم يكن في عِداد أسماء النجوم. وكان الأبطال هم عثمان محمد علي (والد سلوى) وأحمد عقل ورشوان سعيد وعادل خلف ولبنى الشيخ. وكان مجدي عبد الرازق هو الملحِّن الذي وضع الألحان، وأتى بفرقة من الموسيقيين لا يزيد عددها عن ثلاثة، ومعهم مغنٍّ كان ماهرًا في عزف العود اسمه سامي شريف وكان طالبًا منتسبًا بقسم التاريخ في كليتنا! وتضافرَت نهاية الموسم ودخول شهر رمضان على إقصاء المتفرجين تمامًا على المسرح، بل إن المسارح كلها أغلقَت أبوابها. وأذكُر ليلةً من تلك الليالي وقفتُ فيها على باب المسرح الذي غمَره الظلام والصمت (على عكس أيام المجاذيب؛ حيث غمَر محمود الألفي باب المسرح بالضياء، وأدار شريطًا موسيقيًّا صاخبًا)، وجعلتُ أتأمل الناس وهي تتجمع في محطة الأتوبيس في ميدان الخازندار، والحشود وهي تتجمع حول باعة الملابس الشعبية والمشروبات المثلَّجة وحمص الشام، وجعلتُ أتساءل تساؤلًا ما يزال يُلحُّ على ذهني حتى الآن: ما الذي يأتي بالناس إلى المسرح؟

كان من وراء ذلك السؤال سؤالٌ أكبر وأعرض عن طبيعة العلاقة بين الكاتب والجمهور — ما الذي يربط الكاتب بجمهوره؟ ما أيسَرَ الإجابة على ذلك إذا كنا نتحدث عن كتابة الرواية والشعر مثلًا، وما أعسَرَها إذا كنا نتحدث عن المسرح! قد يكتب الكاتب كتابًا يمس فيه عصبًا عاريًا لدى الجمهور فيقبل الناس على شراء الكتاب، وقد يكتب كتابًا عميقًا أو متخصصًا فلا يشتريه أحد، ثم يظل هذا الكتاب مرجعًا معتمدًا في تخصُّصه، بل قد يُكتب له الخلود! أما في المسرح فلا بد من الوجود المادي للبشر في القاعة، ولا بد من التفاعل المباشر بين الممثلين وبين المتفرجين، وذلك ما كان كمال يس يعنيه بعبارته الشهيرة إن المخرج الناجح لا بد أن تكون «يده في الصالة»؛ أي إن عليه أن يحسب حسابًا لكل إنسان، وأن يوجِّه كل شيء إلى البشر الذين يشاهدون النص، وقد لا يجمع بينهم سوى أنهم بشر؛ أي قد تختلف مشاربهم وأذواقهم وثقافتهم ومستويات تعليمهم، بل وأعمارهم، وهم مع ذلك حشدٌ يبدو واحدًا وهو شتَّى! قد يتفق الجمهور في الغاية التي أتى من أجلها إلى المسرح — للتسرية، أو لمشاهدة نجومه المفضلة، أو للتفريج عن شحنة غضب من الأحوال، أو للاستمتاع بالفن الراقي — ولكن هذه الغاية لا تكون أبدًا واحدة. ولا بد للمخرج أن يلجأ إلى تقديم شيء عن طريق شيء، كأن يتوسل في تقديم الفن الراقي بنجم شباك يجتذب الجمهور أولًا، وهو ما يقولونه عن «تلبيس طاقية هذا لذاك»، وقد يتوسل في سبيل ذلك بفنون التسرية من موسيقى (جميلة) أو رقصات (محكمة) أو فكاهات (محسوبة) أو مواقف محبوكة تشد المتفرجين شدًّا، ولكنه يجب أن يحدِّد لنفسه أولًا ما يريده والجمهور الذي يتوجَّه إليه بالعمل.

وهذه من الموضوعات التي ندرسها في مجال الثقافة الجماهيرية (mass culture)، لا الهيئة بل العلم، وهو من أهم علوم الاتصال (communication sciences)؛ فأسرع وسيلة للتواصل هي الإمساك بالقواسم المشتركة للجمهور؛ فالقاسم المشترك الأعظم للجميع هو العلاقة بين الجنسَين، والمواجهة بين الرجل والمرأة تضمن لك أكبر مشاركة، سواء كانت مواجهةً معقدة تتضمن أعماقًا فكرية أو نفسية أو اجتماعية (سترندبرج/تشيكوف/إبسن)، أو مواجهةً ساذجة أو فجَّة مثلما يحدث في مسلسلات التليفزيون. وقد يكون الجنس عنصرًا من هذه العناصر، سواء كان من المستوى الرفيع أو الفظ. وتأتي بعد هذا القاسم المشترك الأعظم قواسمُ مشتركة كثيرة؛ منها الفردي ومنها الاجتماعي، مثل تيمات الضحية البريئة، أو الشرير الصريح، أو الحاكم الظالم، وما إلى ذلك من تيماتٍ يسهُل رصدها في الأدب العالمي، ولكن تقديم مسرحية تصوِّر كفاح الفلاحين وانتصارهم عن طريق الخداع والمكر — شعرًا — فلا يكاد يتضمن تيمةً من هذه التيمات!

والقاعدة في العرض المسرحي هو التبسيط عن طريق التحليل والتركيب؛ فالمتفرج لا يملك الوقت اللازم للغوص في أعماق فكرة قد تتضمَّنها رواية. وعلى المؤلف أن يُحلِّل الفكرة إلى عناصرها، ثم يضُم بعضها إلى بعض تدريجيًّا، مع «تلبيس طاقية هذا لذاك». وكان هذا درسًا جديدًا لي، شغلني فيما شغلني من أسباب الفشل الجماهيري للغربان. كانت في حلقي غُصَّة بعد أن ذُقتُ حلاوة النجاح. وكنتُ أعجَب لكثرة المقالات النقدية التي كُتبَت عن الغربان تمتدحها كيف لم تجتذب إليها الجمهور، بل ولم تجتذب النقاد! ومع ذلك فقد وافقَت رقابة التليفزيون على النص، وتم التصوير، ووُعِدنا بإذاعتها يومًا ما في القناة الثانية! وفي يوم العيد، أضيئَت أضواء المسرح، وحضر جمهورٌ كبير ينشُد التسرية، وجاءت أربع فتيات وكنتُ واقفًا لدى الشباك أتمنى امتلاء الصالة، فقطعن التذاكر، وبعد لحظات عادت إحداهن بالتذاكر إلى الشباك وهي تقول: «لا نريد هذه المسرحية … سمعنا أنها ﺑ «العربي!».» ولمحتُ شابًّا خبيثًا يقف عند الشباك ويقول للمقبلين عليه إنها بالفصحى، فيهرب الناس. واتجهتُ إليه شبه غاضبٍ ففَر مسرعًا وقد أحسَّ بالذنب! ثم عجبتُ في نفسي هل أصبحَت اللغة العربية طاردةً للجمهور؟

ولكن فشل الغربان لم يَثْنِني عما اعتزمتُه من كتابة المسرح الشعري؛ فلقد عُدتُ إلى الفصحى وعادت لي. وكانت ترجمة تاجر البندقية هي الترجمة التي قالت صفحة الأدب في الأخبار إنها أفضل ترجمة لعام ١٩٨٨م، رغم الحملة المنظَّمة التي أُجريَت لانتخاب ترجمة سونيتات شيكسبير نثرًا بقلم الشاعر بدر توفيق؛ ومن ثَم شرعتُ في كتابة جاسوس في قصر السلطان.

٥

في يوم ١٣ أكتوبر ١٩٨٨م، وكان يوم الخميس، رنَّ جرس التليفون في نحو الواحدة ظهرًا، وكان المتحدث هو صديقي الروائي البارز مجيد طوبيا، الذي قال عبارةً واحدة، مبروك … نجيب محفوظ فاز بجائزة نوبل! وانتهت المكالمة! ولم أتمالك نفسي من الفرحة، فاتصلت تليفونيًّا بمن أعرفهم. وعندما حل المساء كان الجميع قد سمعوا وفرحوا! وفي يوم السبت التالي عقدنا اجتماعا لمجلس قسم اللغة الإنجليزية، واقترحتُ نشر كتابٍ بالإنجليزية يتضمَّن آراء النقاد المصريين في هذا الكتاب الذي أصبح عالميًّا. واقترحَت الدكتورة ملك هاشم الاستعانة بما نُشر عنه في المجلات والكتب المصرية، وكان لديها عددٌ خاص من مجلة الهلال يدور حول نجيب محفوظ. كما كانت هناك دراساتٌ بأقلام بعض زملائنا في القسم، مثل رسالة الدكتوراه التي كتبَتْها الدكتورة نيفين غراب عن المؤثِّرات الأجنبية في أدبه. وبدأنا العمل على الفور، فوزَّعتُ المقالات على المتطوعين للعمل، وعرَضتُ الفكرة على سمير سرحان فوافق على نشر الكتاب، واقترح عنوانًا له هو:

Naguib Mahfouz: Nobel 1988: Egyptian Perspectives.

وأسهمَت الدكتورة سلوى كامل، الأستاذة بالقسم، بمقال عن أسلوب نجيب محفوظ، ونهاد صليحة بدراسة عن مسرحياته القصيرة، وملك هاشم بمقالٍ نقدي، وكانت هذه هي الدراسات التي كُتبَت خصيصًا للكتاب. أما الباقي فكان يتكوَّن من ترجماتٍ لمقالات ودراسات تولَّيتُ مراجعتَها بنفسي، ومراجعةَ تجاربها الطباعية. وصدر الكتاب مع تصدير بقلم سمير سرحان وببليوغرافيا كاملة عن كل ما تُرجِم من نجيب محفوظ أو كُتب عنه بالإنجليزية أعدها الدكتور ماهر شفيق فريد إعدادًا علميًّا فذًّا، في يناير ١٩٨٩م، فكان إنجازًا غير مسبوق. وأصابت الدهشة زوَّار معرض القاهرة الدولي من ثراء المادة، والمستوى اللغوي الرفيع الذي كُتبَت به، والسرعة التي صدر بها الكتاب.

كان فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل نقطة تحول في مسيرة الأدب العربي، وقرَّرنا تنويع الأنواع الأدبية المنشورة في السلسلة، فنشرنا قصصا قصيرة لمحمود السعدني مع مقدمةٍ كتبتُها بنفسي (وقد أعاد طباعتها كما هي في لندن بعد ذلك)، وعلمت أن إحدى تلميذاتي السابقات في دبلوم الترجمة ترجمَت يوميات صائم لأحمد بهجت، وهي نيرمين عبد الفتاح حسن (أخت الصحفية مها عبد الفتاح بدار أخبار اليوم، وأخت نيرفانا عبد الفتاح المترجمة الفورية، وزوجة عمر صبري المترجم الضليع الذي سبق أن أشرتُ إليه)، فسعيتُ إليها في منزلها، وحصَلتُ على النسخة، وراجعتُها على الأصل، وكتبتُ لها مقدمةً بنفسي ونشرتُها. كما قرَّرتُ العودة إلى ترجمة الشعر فترجمتُ مختاراتٍ من ديوان فاروق شوشة، بعنوان لغة من دم العاشقين، وكتبتُ لها مقدمة. وشرعَت ملك هاشم في ترجمة رواية يوم قتل الزعيم لنجيب محفوظ. وترجمت الدكتورة أنجيل بطرس سمعان مسرحيتَين قصيرتَين لنهاد جاد بعنوان محطة الأتوبيس وعديلة. وأقبل دارسو الأدب المقارن على السلسلة يدرسونها في إطار دراساتهم الإنجليزية. وازدادت طلبات شراء السلسلة من الجامعات والمعاهد في الخارج. وقد أنساني ذلك تمامًا مأساة الغربان!

ولكن الحزن كان يُخيِّم — إلى حدٍّ ما — على حياة دائرتنا الضيقة بسبب اكتشاف إصابة نهاد جاد — زوجة سمير سرحان — بالمرض اللعين. وكنا نتابع جهوده الجبارة في توفير العلاج لها، في مصر وفي الخارج، وإن كان الأطباء البريطانيون لا يُخفون عنه أن الأمل ضعيف، ولكنه كان يكافح بكل ما أوتي من قوة لقهر ذلك الشيطان اللعين، الذي انتصر آخر الأمر، فترك في حياتنا هوَّةً تفغر فاها حتى اليوم.

وقرَّرنا في قسم اللغة الإنجليزية أن نعقد مؤتمرًا دوليًّا عن الأدب المقارن، مرة كل عامَين. وكان الموضوع الذي اخترناه لمؤتمر ١٩٨٩م هو صورة مصر في الأدب الحديث، عالميًّا وعربيًّا. واجتهد الجميع في الدرس والبحث، وجاءتنا دراساتٌ من إنجلترا وأمريكا. وشُغلَت الدكتورة هدى جندي بالإعداد للمؤتمر، وكنت أعمل بالتعاون الوثيق معها، فكان كلانا في الخمسين ويعمل بروح الشباب الأول! وعندما سافرتُ للترجمة في قبرص، اصطحبتُ معي مسوَّدات جاسوس في قصر السلطان، وعلى امتداد المؤتمر الذي استمر أسبوعَين كتبتُ معظم المشاهد الرئيسية شعرًا. وكان معي من المترجمين الدكتور عبد الفتاح عوض، رئيس قسم اللغة الإسبانية حاليًّا، وكان يقرأ ما أكتب أولًا بأول ويناقشني فيه. وما إن عُدتُ إلى مصر حتى كانت المسرحية قد اكتملَت.

كانت المسرحية تقوم على حادثة أوردَتْها كتب التاريخ عن العلاقات بين التتار الذين كانوا يحتلون فلسطين وأحد السلاطين في مصر، ورأيتُ تشابهًا مزعجًا بين أحداث الماضي وأحداث الحاضر، فجمعتُ كل ما استطعتُ من المادة التاريخية المناسبة، وأعددتُ حبكةً يقبلها الجمهور. وكنت أكتب لا وفقًا لأحداث التاريخ وحدها بل وفقًا لمعناها في حياتنا الحاضرة؛ فالتتار لا يؤمنون إلا بالقوة والبطش. وكان المماليك حكامًا عسكريين لا يقلون عنهم عسفًا وبطشًا، يعيشون حياةً عسكريةً منعزلة عن الشعب المصري تمامًا، ولكنني وجدتُ في كتب التاريخ حادثة تجسُّس طريفة استندتُ إليها في إعداد توليفةٍ مسرحية أجمعُ فيها بين تراث العصور الوسطى وبين ما يجري في القرن العشرين، فكتبتُ المشاهد الرئيسية، وتركتُ الروابط والنقلات لوقتٍ لاحق.

وعندما عُدتُ إلى مصر تفرَّغتُ تمامًا لوضع المسرحية في صورتها النهائية، وما إن حلَّ عام ١٩٩٠م حتى كانت المسرحية شبه جاهزة. وبدأتُ أفكر في تقديمها على المسرح، وكنتُ أنتوي اتخاذ تلك الخطوة بكل ما تتطلبه من جهد، حين اتصل بي سناء شافع المخرج، وطلب مني ترجمة يوليوس قيصر، لشيكسبير! وكان متحمسًا لإخراجها إلى درجة تحديد موعدٍ نهائي لتسلُّم النص مني، وكان يلاحقني تليفونيًّا، ويجعل الممثلين الذين وعدهم بالعمل فيها يستنهضون همتي، فتركتُ الجاسوس وتوفَّرتُ على نص شيكسبير، فانتهيت منه قبل بداية العام الدراسي، ونسختُه على الآلة الكاتبة، وتركتُه له في المعهد! وبعد أحد عشر عامًا كان النص لا يزال في درج مكتبه، ولا يزال سناء يُقسِم أنه سوف يقدِّمه على المسرح! (وقد قدمت صورة مختصرة من الترجمة في مسرح الطليعة، بعد ذلك بنحو تسع سنوات، من إخراج الفنان محمد جابر).

وكان مما تعلمتُه في الكتابة وفي الترجمة وجود اللغة الجديدة التي أسميتُها العربية المعاصرة الموحَّدة. وكانت كتاباتي في أسبوعيات الأهرام منذ ١٩٨٦م وحتى ١٩٩٠م تدريبًا كافيًا على مخاطبة الجمهور بلغةٍ مبسَّطة. وحفزني نجاح روميو وجولييت فنيًّا على إعادة النظر في ترجمتها القديمة (١٩٦٥م) المنثورة، وفي ترجمة حُلم ليلة صيف (١٩٦٤م) المنثورة، وأن أعيد صياغة كلٍّ منهما شعرًا مبسَّطًا معاصرًا حتى يُتاح إخراج أيهما لمن يريد. وبدأتُ بالأخيرة فنظَمتُ ما فيها من أغانٍ وأناشيد، ثم نظمتُ أجزاءً أطول، وتركتُ بعض مقاطع الحوار منثورة؛ فهي مكتوبة باللغة الإنجليزية الدارجة وغير المنظومة، ونشرتُ النص في مجلة المسرح، فأقبل الفنانون عليه مثلما كانوا قد أقبلوا على الصورة النثرية؛ ومن ثَم قرَّرتُ البدء في ترجمة روميو وجولييت ترجمةً جديدة.

واقترح عليَّ الدكتور ماهر شفيق فريد أن أنشُر ما كتبتُه وترجمتُه دون انتظار لتقديمه على المسرح، فدفعتُ إلى المطبعة بجاسوس في قصر السلطان وبحُلم ليلة صيف وبيوليوس قيصر، فصدَرَت الواحدة بعد الأخرى، وقد تضاءل الأمل في تقديم أيها على المسرح.

وكنتُ أواصل كتاباتي في أسبوعيات الأهرام يوم الجمعة، حتى حلَّ يوم ٢ أغسطس ١٩٩٠م، وكان يوم خميسٍ حار، حين فتحتُ عيني في السادسة إلا دقائق، وأدرتُ مؤشر الراديو لأستمع إلى الإذاعة البريطانية، وكانت الموجة نفسها تذيع بالإنجليزية بعض الفترات وبالعربية فتراتٍ أخرى، فسمعتُ الموسيقى المعتادة في النشرة العربية، وقبل أن أتعجَّب للتغيير سمعت المذيع «علي أسعد» يقول في عناوين الأخبار: «غزت العراق أراضيَ الكويت.» وهببتُ فزعًا، وركَّزتُ كل حواسي في تفاصيل النبأ العجيب. كنا آنذاك نحضُر مؤتمرًا من مؤتمرات وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي بالقاهرة، في قاعة المؤتمرات بمدينة نصر، وبعد أن انتهيتُ من واجباتي الصباحية خرجتُ إلى العمل قبل «الواردية»؛ فقد كانت التفاصيل قليلة، والغموض يحيط بكل شيء. وحادثَتْني نهاد زوجتي من تونس أثناء حضورها مهرجانًا مسرحيًّا كأنما لتستوثق من تصديق ما لا يُصدَّق! يا لله! أوروبا تتحد، وألمانيا أصبحَت دولةً واحدة، والاتحاد السوفييتي في تصالُح مع أمريكا، والعالم في «وفاق» غير مسبوق، والعرب يقتلون بعضهم بعضًا! لقد انتهت الحرب العراقية الإيرانية قبل عامَين، وتُوفي الخميني بعد ذلك بشهور، وآن للعرب أن ينفقوا أموالهم الطائلة في تحقيق النهضة — إن لم يكن في الاستعداد لاسترجاع الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني الذي وهب أرواح أبنائه في الانتفاضة الباسلة! والآن تاريخ الجاهلية قد عاد ليُكشِّر عن أنيابه. ووجدتُ أن الانفصال عما يجري حولنا من أحداث مستحيل، ولكن الصدمة كانت أكبر مما أحتمل، فتوقَّفتُ عن الكتابة في الأهرام — بل وعن التأليف — وأفرغتُ طاقتي في الترجمة.

وفي خضم الصدمة قابلت آخر من كنتُ أتوقع أن أراه — «حسن» المخرج! لقد ظهر فجأةً مثلما اختفى فجأةً آخر مرة، ولم أصدِّق عيني؛ إذ كان واقفًا على باب هيئة الكتاب يقدِّم العزاء لسمير سرحان في وفاة زوجته نهاد جاد. وكان سمير لا يحب العزاء، ولا يحب التذكير بالمصائب، فتقبل كلامه باقتضاب، وأهرِع داخلًا إلى الهيئة، وتركني على السلم مع «حسن». كان «حسن» قد عاد من العراق بعد غزو الكويت بأيامٍ معدودة، خشية أن يرتبط اسمه بالعدوان. ودعاني إلى الجلوس على شاطئ النيل في مقهى الشجرة (الذي كان كازينو الشجرة القديم)، فقبلتُ، بل كنتُ متلهفًا على سماع الأنباء من مصدرها الأساسي، فاتخذنا أماكننا، وانطلق يتحدث عن تفاصيل عمله بالعراق، فقال إنهم عرضوا عليه الجنسية العراقية ولكنه رفض، فاستفسرتُ عن مزايا تلك الجنسية، فقال لي إن مزاياها لا تُعدُّ ولا تُحصى! ولما قلتُ له إن المال ليس غاية الحياة قال إن المزايا قد تنتهي بالمال، ولكنها لا تبدأ به، ولم أدرِك مرماه، فبدأ يلخِّص المزايا قائلًا إنهم عندما أقنعوا جبرا إبراهيم جبرا بقبول الجنسية العراقية، وهو ما نرفض أن نفعله في مصر مع الفلسطينيين، كانوا يفتحون له طريق المجد؛ إذ أنشَئوا له مؤسسةً كاملة يعيِّن فيها من يشاء ويفصل من يشاء، وهي دار المترجم للنشر، وسمحوا له بإصدار مجلةٍ خاصة يفعل بها ما يشاء. وأموال العراقيين كثيرة — صدِّقني — ولديهم من الإباء العربي الأصيل والشهامة البدوية ما يستعصي على أفهامنا؛ فلقد تعوَّدنا في مصر على التحايل والتلاعب بإزاء الحكم الأجنبي، الذي لم نكد نتخلص منه حتى رُزئنا بكوارثَ وأهوال! ولله درُّ يوسف إدريس الذي أرجع الطابع الراهن للشخصية المصرية إلى «القهر» الذي جعلنا نتقبل ما لا نرضاه باعتباره قدَرًا لا فكاك منه، فسلَّمنا أمرنا إلى الله، ونعَينا مصائبنا، وضحكنا من كوارثنا في فنوننا الشعبية، فاختلطَت لدينا الدموع بالضحكات، وأصبحنا نتصور أن سنة الحياة ألَّا يملك الإنسان من أمر نفسه شيئًا. واعترضتُ قائلًا إن العصر الحديث قد شهد ثوراتٍ شعبية تدل على حيوية وحساسية، وتنطق برفض الضيم وبالإباء والشمم، وانظر إلى عرابي زعيم الفلاحين! وكان ذلك عنوان مسرحية عبد الرحمن الشرقاوي المعروفة، فإذا به يضحك ويقول: «ذلك تزييف للتاريخ من أجل بث الروح الوطنية. وأما الواقع فهو أن أحمد عرابي كان رجلًا عسكريًّا — ألم يكن وزيرًا للدفاع؟ — وكان يطمع في الحكم، ولا تقل لي إنه كان يحاول تحرير مصر من الاحتلال؛ فلم يكن الاحتلال قد حدث، بل ربما يكون هو السبب فيه. ولا تقل: إنه كان يحاول تخليص مصر من الحكم التركي؛ فلم تكن الدولة العثمانية تمثِّل إلا سلطة الخلافة منذ استقلال مصر وفقًا لمعاهدة لندن في عهد محمد علي عام ١٨٤٠م؛ أي إنها كانت تمثِّل القدَر والمكتوب من وجهة نظرٍ دينية. وأما ما يكتبه الكُتاب من أعمالٍ أدبية تمثِّل البطولات الشعبية فهو أدبٌ خيالي يدخل في نطاق التصوُّر والتخيُّل!»

واعترضتُ بشدة على هذا المفهوم الذي رأيتُه خاطئًا ومجحفًا، وقلتُ له ما ذكرتُه بعد ذلك في مقدمة الغربان عن الثورات الشعبية. وكرَّرتُ ما ذكَره عبد الرحمن الرافعي، وفصَّل القول فيه محمد رفعت من بعده عن الحركة الوطنية والروح القومية، ولكنه كان كأنما تنكَّر لمصريته، مما ساءني وأفزعني، فضربتُ له مثلًا أخيرًا من مسرحية الغربان نفسها فصمت لحظة ثم قال: إنها تؤكد ما أقول؛ فالفلاحون يتحايلون على الواقع المُر من أجل البقاء، ولكنهم لا يتحدَّوْن سلطة الحاكم، لا بل ولا سلطة الوالي إلا في حدود ما يهدِّد بقاءهم! فقلتُ له ولكن روح الثورة حيةٌ في نفس كلٍّ منهم، تدفعهم إلى المواجهة والمجالدة، فأسرع يقول: فيما يمس بقاءهم! ثم اعتدل في جلسته وطلب كوبًا آخر من الشاي وقال: «إننا ما زلنا نعيش في مصر في ظل العالم الآخر، ونُعلي من فضيلة الصبر حتى يُبرر لنا تقاعسنا! وسوف أضرب لك مثلًا مما يحدث الآن في الساحة العربية على امتدادها. لقد رحل في يوم من الأيام — من نحو عشر سنوات — عددٌ كبير من الفلاحين المصريين قيل إنهم ٥٠٠ أسرة، وكانوا في الواقع آلافًا مؤلفة، للعمل في الحقول العراقية؛ أي بالزراعة التي يهملها العراقيون إهمالًا شبه تام، ورحلَت من بعدهم آلافٌ أخرى، فماذا حدث لهم؟ لقد ذابوا في خِضَم العاملين الفقراء، وانقطعَت صلتهم أو كادت بالوطن الأصلي، ولم يعُد يُحسُّ أحدٌ لهم وجودًا! صدِّقني! لقد قابلتُ الكثيرين منهم ممن اقتضت أعمالهم الوجود في المدن، سواء منها المدن الريفية أو الحضرية، ورأيتُ انعزالهم التام عن مجريات الأمور!»

وقلتُ له إن هؤلاء مغتربون، مثل المعارين في بلدان الخليج الأخرى، وفي السعودية بصفة خاصة، وهم ممنوعون بحكم الغربة عن الانشغال بأمور الدولة المضيفة! فردَّ بسرعة قائلًا: «ولكن الكثيرين يرجعون إلى مصر وقد رسخ في نفوسهم مبدأ عدم الانشغال الذي تحكي عنه؛ أي إن قوانين الإعارة ومبادئها تصبح عادة تقترب من الطبيعة الثانية! ولقد تكاثَرَت أعداد هؤلاء وازدادت، ولم يعُد أحدٌ منهم يتكلم إلا في المال، على نحو ما كنتَ تفعل منذ هنيهة! أنا لا أقلِّل من شأن المال أو أستهين به، ولكن هذا الاهتمام الزائد بتكوين الثروات، وهو الذي بدأ في عهد السادات، ما زال قائمًا، وأدى إلى نشأة مجتمعٍ استهلاكي يستغل الناس فيه بعضهم بعضًا وتُطحن فيه الطبقات الفقيرة طحنًا.»

وتحوَّلتُ من الدفاع إلى الهجوم فقلتُ له أنت إذن توافق على إيجابية صدام حسين؟ هل توافق على هجوم العرب على العرب بدلًا من إسرائيل؟ وقال بنبرةٍ خفيفة: إنها مغامرةٌ محسوبة؛ فجيشه عاطل منذ عامَين (أي منذ توقُّف الحرب العراقية الإيرانية)، وقد فتح له باب العمل وشغله بشيء! فقلتُ له أنت إذن تدين العراق مثلما تدين الشعب المصري؟ فقال أنا عائد إلى العراق، سواء نجحَت المغامرة أم فشلَت؛ إذ لم يعُد لي مستقبل في مصر! هل تتصوَّر أن أقضي بقية عمري أكتب الدراما العائلية للتليفزيون أو أخرِجها أو أمثِّل فيها؟ إنني أتمتع بموقعٍ فريد لأنني فنان، ولن أشارك في الهروب من الواقع أو من التاريخ على نحو ما تفعل في مسرحياتك، أو في تزييف هذا أو ذاك! ووجدتُها فرصةً سانحة لذكر مسرحيتي الجديدة جاسوس في قصر السلطان، وطلبتُ منه أن يقرأها، فوافق ولو أنه أردف قائلًا: «قطعًا ستحاول إبراز بطولةٍ زائفة للشعب المصري!» فقلتُ له أن يقرأها أولًا، ونهضنا خارجَين وقد حان أذان العصر، فوجدتُني أسأله بصورةٍ تلقائية: وهل تترك أسرتك هنا؟ فردَّ قائلًا: هذه غيبيات! وافترقنا.

٦

صدرَت ترجمتي ليوليوس قيصر ولمسرحيةٍ شيكسبيرية أخرى مزجتُ الشعر فيها بالنثر هي حُلم ليلة صيف، بعد الترجمة الشعرية الكاملة لتاجر البندقية، فأحسستُ أنني يجب أن أنتهي من روميو وجولييت بأقصى سرعة. وكان عملي بالترجمة يتضمن قدْرًا من الهروب؛ فالتأليف يتضمن الاشتباك مع القضايا الاجتماعية والسياسية، مهما حاول المؤلِّف إبعاد نفسه عنها. وأما الترجمة فتتضمن ابتعادًا ثلاثيًّا في الزمن، وهو ما تتحدث عنه مدرسة التاريخية الجديدة؛ أي ما تُبيِّن مثالبه وضرورة الوعي به. وأقصد بالابتعاد الثلاثي هو أن المسرحية الشيكسبيرية عادةً ما تتناول فترةً زمنيةً سابقة لعصر الشاعر؛ فهو يبتعد عن الحاضر فيها بمسافةٍ تتفاوت قِصرًا وطُولًا من مسرحية إلى مسرحية. وهذا هو البعد الأول. وأنا حين أترجمها أقدِّمها إلى القارئ العربي في القرن العشرين الذي يدرك أنها تتناول موضوعًا سابقًا للعصر الذي كُتبَت فيه، فهو يُدرك ابتعاده عن الزمنَين — زمن الأحداث وزمن العرض — وهذا هو البُعد الثاني. وأنا أترجمها إلى الفصحى التي لا يتكلمها الناس، فأقيم مسافةً بين الحاضر — حاضر اللغة المحلية — وحاضر الفصحى التي تنتمي إلى زمانٍ سالف، وهذا هو البعد الثالث. وكنتُ حاولتُ مضاهاة عامية شيكسبير بالعامية المصرية في ترجمة مشهد من حُلم ليلة صيف، وهو مشهد العمال الذين يمثِّلون أو يُحاوِلون تمثيل مسرحيةٍ كلاسيكية، وترجمتُ المشهد بالعامية فعلًا، ففشل فشلًا ذريعًا! كنتُ أشعر أن الكلام «سايط»، لا طعم له ولا لون، ولم أكن أدرك سر ذلك إلا عندما قرأتُ بعض كتب التاريخية الجديدة والمادية الثقافية، واكتشفتُ أن تذوُّق عالم شيكسبير يقتضي هذا «الإبعاد» الزمني، أساسًا عن طريق الفصحى!

وبدأ عام ١٩٩١م بدايةً ملتهبة؛ ففي صباح يوم الأحد ١٧ يناير صحَونا على أنباء الهجوم الشامل على العراق، بقيادة الولايات المتحدة، ومشاركة بعض الدول الغربية والعربية، فيما عُرف باسم حرب الصحراء أو عاصفة الصحراء، وأطلقنا عليها نحن حرب تحرير الكويت. وبحثتُ عن «حسن» في كل مكان فلم أجده، وخفتُ أن يكون قد عاد إلى العراق. وكان أخي الأصغر «حسن» (عاشت الأسامي!) يعمل قنصلًا عامًّا في سفارة مصر في بغداد حين وقع الغزو، وقد عاد أفراد السفارة كلهم، وأتى لي أخي بمجموعةٍ نادرة من كتب التراث العربي، أصبحَت من عمد مكتبتي، إلى جانب ما ورثتُه عن والدي — رحمه الله، وأذكر أن «الضرب» بدأ أثناء معرض الكتاب، وأنني قابلت سامي خشبة، الناقد والمفكر العظيم، في المعرض في نحو الحادية عشرة من صباح الإثنين، فقصَّ عليَّ ما تقوله وكالات الأنباء وحَيْرة الصحف فيما تنشره بسبب كثرته! وروى لي سمير سرحان قصة الكاتبة الكويتية (…) التي تعرَّضَت لحادثةٍ فريدة أثناء الغزو، أُحِب أن أوجزها نقلًا عن روايته عنها: قالت له إنها فوجئَت صبيحة الغزو في أغسطس بجنديٍّ عراقي يطرق بابها صباحًا وبيده بندقية (وربما كانت مدفعًا رشَّاشًا)، وكان شابًّا يتطلع بشوق إلى ما يبدو أنه قد حُرم منه، فكانت عينه تنتقل بشراهة بين السيارة الأمريكية الفارهة الواقفة خارج المنزل (الفيلا) وبين ابنة الكاتبة، التي لم تكن قد تعدَّت الثامنة عشرة، وبين قطع الأثاث والطنافس في المنزل. وأدركَت الأم بفطنة المرأة وحس الكاتبة ما يمكن أن تصبو إليه نفس الشاب، وأصابها الذعر والفزع، ولكنها تمالكَت نفسها واستجمعَت شجاعتها ورحَّبَت به مؤكدة أننا جميعًا عرب وإخوة. وتدريجيًّا تمكَّنَت من تهدئته وسألته عما يريد، ولا بد أن مهارتها في الحديث وموهبتها القصصية ساعداها (إلى جانب غريزة الأم التي تدافع عن شرف الأسرة) في إدارة حوارٍ ودود امتص غضب الجندي. ولاحظَت أنه قد انفصل عن فرقته مثل الكثيرين الذين توغلوا في المناطق السكنية ينهبون ما تصل إليه أيديهم، فقدَّمَت إليه طعامًا وشرابًا؛ إذ كان الجوع قد هدَّه، وكان يبدو عليه الإرهاق منذ أن دخل الجيش الكويت في الرابعة صباحًا. وبعد أن شبع قال إنه يريد ابنتها! وانخلع قلب الأم، ولكنها قرَّرَت في لحظة إلهام أن تلعب دور الأم الحانية، فتظاهَرَت بالتعاطف مع رغبته، وأبدت الشفقة عليه، وقالت له إن ذلك — وإن كان من حق الغالب — ليس من خلق العربي، والقوة ليست السبيل للظفر بقلب المرأة، وعرَضَت عليه ببسمات ونبراتٍ حانية إحلال الود محل العنف، وعندها لن يتعذر عليه نوال مراده. واقترحت عليه أن يستولي مبدئيًّا على السيارة الفخمة، وأن يعود بها إلى أهله، إلى جانب ما يريد من كل ما خفَّ حمله وغلا ثمنه، وأن يحفظ عنوان المنزل، ثم يعود للزيارة وقتما يشاء (فنحن أهل وبابنا مفتوح)، وعندها سوف تقدِّر له هذا الصنيع، فينال بالودِّ ما هو أهل لنواله، وما هو جدير بالنخوة والشهامة العربية الأصيلة.

لم تكن تتصور أنه سوف يصدِّق ما تقول. وربما كان إغراء السيارة وحده هو الذي أقنعه بالعدول عما كان يعتزمه. وربما لم يكن قد خاض مثل تلك التجربة من قبلُ ويفتقر إلى الخبرة، بل ربما كان في قرارة نفسه كريمًا وكان يجرِّب حظه فحسب، ولكن الذي حدث هو أنه كتب العنوان لديه، وأخذ بعض الأشياء (التافهة في الواقع)، وانطلق بالسيارة يسابق الريح. وفي الحال انطلقَت الأم مع ابنتها إلى بغداد، تسابق الريح هي الأخرى في سيارة الأسرة القديمة (اليابانية)، وأهرِعَت إلى القنصلية المصرية؛ حيث أظهرَت وثائقَ شخصية تثبت أنها متزوجة من مصري. وهناك استخرج لها المسئول بالقنصلية وثيقة سفر باسم زوجها المصري وزوجته وابنته. واستطاعت بالوثيقة أن تعبر الحدود إلى الأردن، ولم تتوقف في الطريق إلا لتملأ خزان السيارة بالبنزين حتى دخلَت الحدود المصرية!

كان أخطر ما هزَّني آنذاك — وطيلة أيام الغزو العراقي، بل وأثناء القصف الجوي الذي استمر ستة أسابيع تقريبًا، والعمليات العسكرية البرية التي لم تستغرق سوى أربعة أيام (مائة ساعة كما يقولون) — أن الدماء العربية كانت تسيل أنهارًا، وأننا كنا نشهد شماتة الغرب في مَذلَّة الجنود العرب ومهانتهم. ولم أكن من الذين يُنحون باللائمة على هؤلاء الجنود؛ فما هم إلا قطع شطرنج في أيدي قوًى أكبر منهم، سواء أكانت قوى النظم الحاكمة أم قوًى عالمية لا نستطيع إدراك كُنهِها، وإن كثُرت التفسيرات وتعدَّدت التحليلات، وما هم إلا ضحايا — مثلهم في ذلك مثل الجندي الذي حاول أن يلعب دور المغتصب، فانتهى به الأمر إلى أن ظفر بسيارة ربما كانت حُلم حياته (وما أتفهَه من حُلم!)، وقنع من الحرب بالغنائم! كنتُ أبكي انتصار العراق على إيران الذي ضاع، وأتى بجيوش المستعمر سافرة إلى المياه العربية. وتذكَّرتُ قول «حسن» المخرج عن سلبية المصريين. وقلتُ في نفسي ما أصعبَ أن يواجه الشعب الأعزل حكامًا يملكون ما يُسمِّيه أنتوني جیدنز Anthony Giddens بوسائل العنف means of violence (الجيش والشرطة)، ولو أن أحداث العالم في أواخر القرن جعلَتني أعيد النظر في هذه النظرية، وكان أولدوس هكسلي هو أول من وضعَها في بواكير القرن!

ما عسى أن يكتب الكاتب إزاء هذا العالم الذي يتلاعب فيه الكبار بأقدار الصغار؟ وما عساه أن يكون من شأن مسرحيتي جاسوس في قصر السلطان في هذه السماء الملبَّدة بالغيوم؟ وفوجئنا ذات يومٍ بتقديم مسرحية ماكبث لشيكسبير على خشبة المسرح القومي، وكان بعض القائمين بها ممن نزحوا إلى مصر في أعقاب الغزو؛ فالمخرج أحمد عبد الحليم كان قد عاد من الكويت مرغمًا، وفاروق الدمرداش — المخرج والممثل وصديقي القديم — جاء من لندن خصوصًا. وسَرَت في الوسط الفني شائعةٌ مفادُها أن ماكبث يرمز إلى الرئيس العراقي صدام حسين، وأن تقديم المسرحية في تلك الآونة بالذات مقصود، بل إن بعثةً من التليفزيون البريطاني جاءت لتصوير مشاهدَ منها، وسألَتْنا فيمن سألَت عن دلالة تقديم هذا العرض، وتكلَّم الجميع، وأذيع البرنامج!

كان الأهرام قد بدأ في عام ١٩٩٠م في نشر صحيفةٍ أسبوعية بالإنجليزية هي الأهرام ويكلي، ودعانا أحد المسئولين أنا ونهاد والدكتور سعد جمال إلى لقاء في الهيلتون لمناقشة احتمال المساهمة بمقالاتٍ أسبوعية، وكان معنا تلميذي القديم أشرف كمال، الذي يعمل مترجمًا فوريًّا بالأمم المتحدة في نيويورك. وتكلم الأستاذ بهجت بديع طويلًا عن فكرة هذه الصحيفة، وكيف أنها ستعتمد اعتمادًا شبه كامل على الترجمة؛ أي ترجمة ما يكتبه كُتاب الأهرام إلى الإنجليزية. وانفَضَّ الاجتماع، ووجدَت نهاد في صفحة الثقافة مجالًا لكتابة النقد المسرحي، لا الترجمة، وسرعان ما أصبحت الناقدة المسرحية للصحيفة. أما أنا فلم أكن أكتب إلا لمامًا، وبناءً على ما يطلبه «نايجيل رايان» محرر الصفحات الثقافية. وكنتُ أريد أن أنشر ترجمات للشعر العربي، بناءً على طلب الدكتور مرسي سعد الدين، ولكن إصراره على نشر النص العربي إلى جانب الإنجليزي جعلني أُحجِم؛ فأنا لا أحب أن تخضع ترجمة الشعر للترجمة الوثائقية، وإن كان غيري قد نشَر ترجماته، ولم تَلقَ التجربة نجاحًا فتوقَّفت.

وكانت سارة ابنتي طالبة في قسم اللغة الإنجليزية لدينا، ولكنها كانت تعشق الغناء الأوبرالي عشقًا، فالتحقَت بالكونسرفاتوار؛ أي معهد الموسيقى والغناء الغربي بأكاديمية الفنون، وانتهت من المرحلة الأولى (٣ سنوات) وانتقلَت إلى المرحلة العالية. وكانت تتلقى دروسًا خاصة في مادة البيانو على يد فاروق المصري، وهو أستاذ في الأكاديمية وزميلي في كلية الآداب (قسم اللغة الفرنسية)، وكان ذلك هو السبب الذي حدا بي إلى تغيير البيانو القديم الذي كنتُ اشتريتُه قبل سنواتٍ عديدة من صلاح رجب، وشراء بيانو قائم (upright) من أحد المعارف وهو الفنان عادل حنا، وأصبح منزلنا يجمع بين العود الذي أعزفه والبيانو الذي تعزفه ابنتي. وعندما سافرتُ في الصيف للعمل في منظمة الأغذية والزراعة (الأمم المتحدة) لحقَت بي سارة، واصطحبتُها لمشاهدة أوبرا إيطالية ذات ليلةٍ مقمرةٍ كانت من أمتع سهرات حياتي.

وجاءني نبأٌ محزن وأنا في إيطاليا، وهو وفاة يوسف إدريس في أغسطس ١٩٩١م، فكتبتُ رثاء قصيرًا بالإنجليزية، وأرسلتُه بالفاكس إلى الأهرام ويكلي بناءً على طلب الإنجليزي نايجيل رايان، وكنتُ ما أزال أجتَر أحزاني لوفاة محمد عبد الوهاب (في أبريل)، وكان ذلك يوازي فقد الشباب أو فقد الأمل؛ لأنه كان رمز الجِد في الفن والحياة، وأنا أومن بكفاحه وجِدِّه إيماني بعبقريته وفنه. وجاءت صدمة وفاة يوسف إدريس فدارت بي الأرض. وأذكُر أنني خرجتُ ذات يوم من العمل بالمنظمة في روما وأنا شارد اللبِّ، وسرتُ في الحديقة المقابلة لمبنى المنظمة وأنا أتأمل شمس الأصيل وحَرَّ ذلك اليوم الخانق، وإن كانت قد انكسرَت حدَّته بعد أن تجاوزَت الساعة الخامسة والنصف، وتردَّدتُ في ركوب الترام، مُفضِّلًا السير إلى الفندق، ولم أكَد أعبُر الطريق حتى وجدتُ من ينادي عليَّ، وكان محمود يونس، صديقي القديم.

وفرحتُ بالصحبة، إذ كان يريد السير هو أيضًا، فسألني عن همي فقصصتُ عليه القصص، فقال لا تحزن؛ فالعالم يتغير رغم أنفك. وسألني عن أخباري، فرويتُ له ما أفعل في مصر، وقلتُ له إنني أتولى الترجمة لبعض الهيئات الدولية مقابل مكافآتٍ مادية مجزية، وذلك منذ أول ١٩٩٠م وفي ١٩٩١م، وحتى الآن، إلى جانب العمل في المؤتمرات الدولية، فقال إن ذلك تبديدٌ للجهد، والأفضل أن أعمل شهرَين أو ثلاثة في العام في إحدى وكالات الأمم المتحدة المتخصصة، أو في مقر الأمم المتحدة نفسها في جنيف حيث يقيم، وقال إنه يعمل بصفةٍ شبه دائمة في المنظمة العالمية للأرصاد الجوية وإن أجورها مجزية، ثم قصَّ عليَّ طرفًا من حياته العائلية، فعرفتُ أن لديه ابنًا يكتب الشعر الموزون المقفَّى اسمه ياسر، وأنه مقيم مع أخيه هشام في الإسكندرية، وأما حاتم الابن الأصغر فيقيم معهما هو وزوجته زينب في جنيف، ثم انطلق يقص عليَّ كيف كافح كفاح المستميت حتى يحقِّق لنفسه ما كان يصبو إليه من الحياة بصفةٍ دائمة في أوروبا. وكانت قصصه نماذجَ رائعة لكفاح المصري الطموح وكثيرًا ما كنتُ أتذكَّر كلمات المخرج «حسن»، وأتمنى لو كان معنا يسمع ويرى. وشغلَتني قصصه عن أحزاني، حتى وجدتُ أننا قد طوينا الطريق طيًّا، ووصلنا إلى الفندق، ولكنني كنتُ أريد أن أسمع المزيد، فجلسنا في مقهى على الرصيف، وظل يتكلم وأنا أجرع كلماته كأنها الزُّلال الصافي حتى غربَت الشمس، وهبَّت نسائم المساء، فهبَّ واقفًا وقال إن زوجته معه الآن هي وحاتم في روما وهما ينتظرانه. وقبل أن ينصرف عرض عليَّ أن أعمل معه في جنيف فأحسستُ كأن حُلمًا قديمًا أوشك أن يتحقق — سويسرا! جنة الله في أرضه! تُرى هل هي أحلى من زيمبابوي؟

كنتُ قد زرت هراري عاصمة زيمبابوي لأول مرة قبل عامَين — في عام ١٩٨٩م — في فريق الترجمة التابع لوزارة الخارجية برئاسة السفير عصمت نجيب، وكانت تجربةً لا تُنسى. كنتُ عندما تسلَّمتُ تذكرة الطائرة من منى هنداوي، سكرتيرة إدارة المؤتمرات بوزارة الخارجية، أتصور أن التاريخ المكتوب عليها يشير إلى يوم الجمعة ٢٨؛ لأنها كانت تقول (أي التذكرة): إن الموعد هو (٢٨ – ٠٠.٣٠)، فتصوَّرتُ أنه يوم الجمعة، ولكن المقصود كان الثانية عشرة والنصف صباحًا؛ أي بعد منتصف ليلة الخميس ٢٧ من الشهر! ولم أنتبه لذلك إلا صباح الجمعة، فانطلقتُ إلى شركة مصر للطيران، ولكن الرحلة التالية كانت يوم الأحد، وعندما وصلت وجدت أننا في الجنَّة! حديقة غنَّاء شاسعة، جوُّها معتدل طول العام. وكان يرافقني في الرحلة الطويلة زميلي المترجم زين الجعفري البسطويسي، وكانت طائرة الجمعة (أو الخميس!) قد فاتَتْه بسبب حادثة سيارة. وهناك نزلنا في فندق يُسمَّى بيت الحديقة The Garden House بعد خلاف مع المترجمين الفوريين، بقيادة محمد عبد العظيم، جعلني أكره الحرفة ومحترفيها. وكان معنا في ذلك الفندق صديق من فريق الترجمة التحريري هو زين سليط (رافقَني بعد ذلك بشهور إلى واشنطن ونيويورك، في مهمةٍ تابعة لمنظمة الوحدة الأفريقية)، وعشنا في ذلك الفندق أيامًا رائعة، ولا أذكُر أننا ركبنا أي سيارة طيلة الأسابيع الثلاثة؛ فالبلد كلها حديقةٌ غنَّاء، والسير فيها يعدل السير في بستان، وأهلها طيبون فقراء، وما زالت الأقلية البيضاء تتمتع بامتيازاتها دون إعلان عنها، وكل ما فيها جميل، ولكن الأستاذ أسعد حليم الذي كان يسافر بانتظام إلى جنيف للعمل بالأمم المتحدة كان يقول إن جنيف «رقم واحد!» ولذلك كدتُ أطير فرحًا عندما عرض عليَّ محمود يونس ذلك العرض.

كان ذهني مشغولًا آنذاك بالعرض المسرحي الذي كنتُ كتبتُه أنا وسمير سرحان قبل عام تقريبًا، بعنوان رحلة التنوير، وذلك بتكليف من وزارة الثقافة لإحياء ذكرى أربعة من كبار أعلامنا، وهم طه حسين والعقاد والمازني وعبد الرحمن الرافعي. وكان التكليف قد صدر متأخرًا — في آخر عام ١٩٨٩م — عام الذكرى المئوية لمولد الأربعة. وقدم لنا الأستاذ سامح كريم مجموعة مقالاتٍ عنهم باعتبارها المادة العلمية، وقد استقينا منها بعض المعلومات إلى جانب ما نعرفه عن هؤلاء، وما استعنت به شخصيًّا من شعر العقاد والمازني، وما كان سمير سرحان قد قرأه عن طه حسين قبل عشر سنوات، فوضعنا الخطوط الرئيسية للعرض المسرحي. وكان كلٌّ منا يقترح شيئًا فيعترض عليه الآخر، حتى استقر الأمر على إعداد عرضٍ موسيقي يتناول بعض القضايا الراهنة التي تدُل على أهمية تياراتهم الفكرية لأحوالنا المعاصرة. وظلت مشكلة الربط بين الأربعة الكبار مشكلةً تشغلنا في الشتاء حتى كان صيف ١٩٩٠م. وتمكن سمير سرحان، إلى حدٍّ ما، من التغلب على صدمة فقدان زوجته نهاد جاد في أواخر ١٩٨٩م، بعد أن هدَّها المرض رحمها الله، وعانت على مدى عامَين من المعاناة، وكنا نعاني معها ونكابد العجز عن فعل شيء حتى نفذَت إرادة الله. أقول عندما جاء صيف ١٩٩٠م كان لدى كلٍّ منا مشاهدُ متفرقة، لكلٍّ منها منطقه الدرامي، وبكلٍّ منها نقاط انطلاقٍ إلى مشاهدَ أخرى. وكان لا بد من أن نتفرغ نحن الاثنَين للعمل، وألا تنشغل بأي شيء حتى يخرج النص متكاملًا، لا يركِّز على أحد الأربعة تركيزًا يُخل بالوحدة الفنية للعرض المسرحي، فاقترحَت نهاد زوجتي أن نسافر أنا وسمير إلى الإسكندرية، فنتفرَّغ لذلك العمل أيامًا أو أسابيع. وفعلًا، سافرنا إلى منزله في العجمي، وجعلنا نعمل طول النهار وشطرًا من الليل، ومناقشاتُنا لا تنتهي، حتى اكتملَت صورة النص، وتسلَّمه حسين جمعة.

وكتب الأغاني شاعرٌ شاب موهوب هو محمد بهجت (ابن الكاتب أحمد بهجت). وبدأَت البروفات، ولكن حسين جمعة — كعهدنا به — لا ينتهي من أي عمل في موعده، فاستمرَّت البروفات حتى وقع الغزو العراقي، فتوقَّفت البروفات، ثم استُؤنفَت بعد تحرير الكويت. وتحدَّد أكتوبر ١٩٩١م موعدًا للعرض المسرحي، ولكن حسين جمعة عاد فأجل الموعد، ولم تُفتح الستار عنه إلا في نوفمبر ١٩٩١م. وكتب عنه ألفريد فرج مقالًا رائعًا في مجلة المصور، وكذلك فعل أحمد عبد المعطي حجازي في الأهرام. وتدفَّق الجمهور، وخصوصًا طلابي السابقين في الجامعة، وبعض الفرق الدراسية من كلية الإعلام، التي كانت تدرس الدراما الوثائقية، ولكن سامح كريم الذي كتب المادة العلمية نشر مقالًا موجزًا في الأهرام يقول فيه إن كاتب المادة العلمية هو المؤلف الحقيقي، وإن الذي يتولى تحويلها إلى عرض مسرحي هو دراماتورج، أو حِرْفيٌّ مسرحي، وحسب، فردَّ عليه سمير في العدد التالي قائلًا إن «المادة العلمية» لا تصنع نصًّا مسرحيًّا؛ فهي معلوماتٌ متاحة لمن يطلبها في الكتب، والعِبْرة في المسرح بالتشكيل الدرامي لتلك المادة.

وكنتُ عندما عُدتُ إلى القاهرة في سبتمبر ١٩٩١م قد فُجعتُ بنبأ وفاة صديقي، ورفيق أحلام الصبا وأنغامه، بليغ حمدي، وهو أخو الدكتور مرسي سعد الدين، فكتبتُ عنه مقالًا في الأهرام ويكلي بعنوان (Major Music, Minor Keys) كما أصدَرَت مجلة شموع (لوتس عبد الكريم) عددًا خاصًّا عنه. وكتبتُ فيه مقالًا أو قل دراسة لمنهجه في التأليف الموسيقي. وما زلتُ أشعر أنني مقصر في حقه، وأن المجتمع العربي لم يُوفِّه حقه من التكريم. وكانت الصدمات المتوالية كفيلةً بزعزعة كياني لولا أنني علمتُ بتعيين كرم مطاوع رئيسًا لهيئة المسرح، ومحمود الحديني مديرًا للمسرح القومي، فتشجَّعتُ وذهبتُ يومًا (وكان يوم السبت) إلى مكتب كرم، وقدَّمتُ له نسخةً من النص المطبوع لجاسوس في قصر السلطان.

كنا في أكتوبر ١٩٩١م، والموسم المسرحي لم يكَد يبدأ، وكنتُ أعرف عن كرم أنه مُغرَم بتعديل نص المؤلف؛ أي يطلب تعديلاتٍ كثيرة من المؤلف فقلتٌ في نفسي: «فليكن!» لقد صبرنا وسوف نصبر؛ فالمسرح يحتاج لطول الباع (ولكنني تلقيتُ اتصالًا تليفونيًّا في اليوم التالي من صفوت شعلان، مدير مكتب كرم مطاوع، يقول لي: «موعد البروفة يوم الثلاثاء.»)

٧

لم أصدِّق أذني، واستفسرتُ منه — عن أي بروفة يتكلم؟ وأكد لي أنه يتكلم عن بروفات الجاسوس! وتساءلتُ: هكذا؟ دون تعديلات؟ ما الذي حدث لكرم؟ وقلتُ في نفسي لقد اقترب موعد تحقيق حُلمٍ آخر، وهو العرض في المسرح القومي، وكان قد سبقني إليه سمير سرحان وفوزي فهمي وعبد العزيز حمودة! وذهبتُ إلى ما يُسمَّى بالبروفة، وكانت اجتماعًا مع أعضاء الفرقة، حضره مدير المسرح محمود الحديني ومعظم الأعضاء. وذكَر الحديني عرض ميت حلاوة الناجح، وكيف تجمعني به الظروف (وقد جمعَتْنا للمرة الثالثة في عام ٢٠٠٠م، عند تقديم الدرويش والغازية بعد أن أصبح رئيسًا للهيئة). وقال كرم إنه سوف يلتزم تمامًا بلوائح الدولة، ولن يستعين بنجوم من خارج الفرقة؛ فالفرقة هي — أو المفروض أن تكون — أفضل الفرق العاملة، وبها جميع العناصر إلى آخر ما قال. وكان كرم مطاوع يتمتع إلى جانب طاقته الفنية النادرة بمزيج من الزهو والثقة والاحترام العميق لفن المسرح، مما أكسبه هيبةً لم يسبقه إليها — في تجربتي الشخصية — سوى يوسف وهبي (وكنتُ قد حضرتُ بعض الاجتماعات معه في لجنة المسرح القديمة بوزارة الثقافة).

وقام كرم مطاوع بتوزيع الأدوار، وكان النص قد طُبع (أي نسخ على الآلة الكاتبة) في الهيئة في غضون الأربع والعشرين ساعةً المنصرمة، وأرسِلَت النسخ الثلاث إلى الرقابة. وكان أحمد الشابوري، الملحن، يجلس إلى جوار كرم، فعرفت أنه سيعهد إليه بوضع الموسيقى وتلحين بعض أجزاء النص الشعري. واختتم كرم حديثه بأن طلب من الممثلين قراءة النص كله، وعدم الاكتفاء بأدوارهم الفردية، مما أدى إلى تململٍ واضح حول المنضدة التي جلسنا إليها؛ إذ قال أحدهم: «طبيعي طبيعي!» وتذمَّر الآخر مما اعتبره سوء ظن بالفنانين، ولكنَّ كرمًا كان يعرف أفضل من غيره أن الممثل لا يعرف إلا دوره، وهو ينقله في مفكرةٍ صغيرة، وقد يحفظه إذا كان لديه الوقت، وإن كان الغالبية ممن يشتد الطلب عليهم وتكثُر أعمالهم لا يحفظون أدوارهم إلا أثناء التجارب المسرحية، ويقرءون وهم على المسرح أثناءها من «النوتة». وقال لي شكري عبد الوهاب، الذي حصل على الماجستير في فنون الإضاءة المسرحية (وعرفتُه على مدى ما يقرب من أربعين عامًا منذ مطلع الستينيات) إن أعظم الممثلين هم من يحفَظون بسرعة وينسَون بسرعة! وكانت المسلسلات قد ازدهَرَت في التليفزيون، وأصبح سوقها رائجًا، خصوصًا بعد عودة العلاقات الكاملة مع مصر، رغم مسيرة السلام وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، فأصبح وقت الممثل من ذهب. وكان شكري عبد الوهاب يضرب المثل بالفنان صلاح السعدني في سرعة الحفظ؛ إذ تكفيه نظرةٌ واحدة إلى النوتة لاستيعاب كلماته، ودخول الأستوديو أو البلاتوه أو خشبة المسرح!

انفَضَّ الاجتماع، وتحدد يوم الخميس التالي ﻟ «بروفات الترابيزة»، وكنتُ أجلس إلى جانب كرم مطاوع، ومعي نسختي الخاصة من النص، أدوِّن فيها ما يَعِنُّ له من ملاحظات. وكانت فردوس عبد الحميد سعيدةً بالدور كل السعادة، وكنتُ إذا قابلتُها وحدها همسَت لي بأنها تريد أن تشارك في الغناء، وقصَّت عليَّ قصة دراستها الموسيقية فاستبشرتُ خيرًا، ولكنني كنتُ قلقًا من موقف «جمال الشيخ» الممثل المغمور؛ إذ كان يتهامس طول الوقت مع حمزة الشيمي، الذي كان من زملاء دراستي الثانوية في مدرسة الأورمان، ولم أكن أعرف ما يدبِّر لي في الخفاء. وأما أشد أعضاء الفرقة التزامًا فكان أشرف عبد الغفور؛ فلغتُه العربية رفيعةٌ نقية، ولا يكاد يخطئ مطلقًا في النحو، وإلقاؤه مؤثِّر، فهو يقوم بواجبه في دراسة ما يؤديه، ولا يحتاج إلى الملقِّن أثناء العرض المسرحي، لا بل ولا أثناء البروفات. وكان محمد أبو العينين باهرًا في تقمُّصه لدور السلطان، فكان يضفي على الكلمات ظلالًا تجعلها تنطق بمعانٍ تؤكِّد حركات جسمه. وكانت مديحة حمدي (التي مثَّلَت أول مسرحيةٍ نكتبها أنا وسمير سرحان عام ١٩٦٢م) قد نضجَت فوصلَت القمة.

وعندما بدأَت بروفات الحركة كان من الواضح أن طموحات كرم مطاوع لن تتحقق باليسر الذي كان يتوقعه؛ فهو يضع منهاجًا مبتكرًا للإخراج يتطلب الدقة في التزامن (synchronization) بين الحركة الجسدية والألفاظ المنطوقة، وتداخُل الألفاظ مع الحركات بحيث تتفاوت معانيها طبقًا للحركة. ولم يكن الممثلون سعداء بهذا بعدما اعتادوه في المسلسلات التليفزيونية؛ حيث يُلقي كل ممثل كلماته «على بعضها» واقفًا أو جالسًا، دون أن تتداخل الحركة الجسدية المسرحية مع الإلقاء، فبدأ كرم يتنازل عن بعض طموحاته ولكن دون الإخلال بالتصوُّر الأساسي لكل موقف أو كل «لوحة مسرحية».

وكان كرم يطلب مني إضافة أغنيةٍ هنا، أو إطالة مشهدٍ هناك، فكنتُ آتيه بما يطلب في غضون ٤٨ ساعة، وكان دائمًا يعتزُّ بهذه القدرة على الإنجاز كما كان يُسمِّيها. وعلى امتداد نوفمبر بدا أن العرض قد اكتمل، وخلا المسرح (أي خشبة المسرح) في آخر نوفمبر لبروفات الحركة؛ ومن ثَم قال كرم إنه يستطيع أن يعرض في مطلع العام الجديد.

في أول ديسمبر ١٩٩١م سافرتُ مع بعض المترجمين إلى داكار، عاصمة السنغال، للعمل في مؤتمر وزراء الخارجية للدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي. وكان النظام المعمول به أن يأتي الأستاذ أحمد هيكل (ابن محمد حسين هيكل الكاتب) بفريق من المترجمين والمراجعين يضم عددًا من المصريين، هم غالبية المترجمين وكتاب الاختزال والناسخين على الآلة الكاتبة العربية، وعددًا من غير المصريين هم ناسخو الآلة الكاتبة الإنجليزية من الباكستان، والفرنسية، من الجزائر، وبعض المترجمين والمراجعين من تونس والمغرب خصوصًا من الفرنسية وإليها، فكان فريق الترجمة ضخم العدد. وكانت المملكة العربية السعودية تستضيف المؤتمر إذا لم تعرض إحدى الدول استضافة الدورة. وكان مقر أمانة المنظمة في جدة يضم عددًا من الأفريقيين الذين أحسُّوا أن البلاد العربية تستأثر بالعمل في تلك المؤتمرات. وكان الأمين العام للمنظمة آنذاك أفريقيًّا، فوجدوا الفرصة سانحة «للتغيير»، وقاموا بتدبير ما اعتُبر انقلابًا صامتًا تزعَّمه مترجمٌ سنغالي يُدعى «مالك سي»، وأقنعوا الأمين العام بتشكيل فريقٍ جديد يضم المزيد من العناصر الأفريقية، مع الاحتفاظ ببعض الأسماء القديمة. وكان «الشرط السري» والذي لم أعلم به إلا بعد رجوعي هو استبعاد أحمد هيكل من مهمة المنسق العام لفريق الترجمة!

وعندما ذهبنا أنا وزملائي إلى المطار لم نكن نعرف ما حدث، وأحسسنا بوجودٍ أفريقي، ظاهر (بل مهيمن) في الأمانة عندما وصلنا، ولكنني (وأنا أتكلم عن نفسي أساسًا) لم أكن أتصوَّر أن انقلابًا ما قد وقع، وحِرتُ في تفسير عدم مشاركة أحمد هيكل ونهى بدوي وعمر صبري! وبحثتُ عن بعض المترجمين الفوريين المصريين فوجدتُ إخوانًا لنا من بلدانٍ عربية أخرى قد حلُّوا محلهم! كانت الحَيْرة هي إحساسي الأول، ولكنها أفضَت إلى انغماس في مسرحيتي الجديدة الدرويش والغازية!

كانت الخطوط الأولى لتلك المسرحية قد وُضعَت في روما أثناء مقامي أسبوعًا أو عشرة أيام في الأكاديمية المصرية. وكان عملي في وزارة الثقافة مشرفًا على إدارة النشر بهيئة الكتاب شافعًا لي على النزول ضيفًا هناك، وكان ذلك قبل عامٍ كامل (قبيل الغزو العراقي للكويت)، وكنتُ مشغولًا آنذاك بتيار السلفية الذي يوشك أن يجرف كل فكرٍ متقدم في بلادنا، وكنتُ مشحونًا بالأفكار التي قرأتُها عن روَّاد التنوير (بعد الانتهاء من رحلة التنوير مع سمير سرحان)، وخصوصًا المشهد الذي كتبتُه لسهير طه حسين عن تحرير المرأة، والأغنية التي كتبها لها محمد بهجت. وكنتُ بدأتُ في روما أقلِّب في ذهني ما ينشُده هؤلاء السلفيون، وأحلِّل ما يُسمَّى ﺑ «الخطاب السلفي» الذي بدأ يغزو أجهزة إعلامنا، بل وكتاباتنا بصفةٍ عامة. وأدَّى بي تحليل ذلك الخطاب (بالمعنى الذي يستخدمه فيه فوكوه) إلى أن محور الفكر السلفي ينصَب على المرأة، وهو يستخدم ألفاظًا عامة مجردة يمكن تفسيرها وَفْق هوى المتحدث، على جاذبيتها وسحرها، وهو ما أدى إلى ظهور إشكاليات problematics — وهذه تختلف عن المشكلات في أن المشكلة (problem) شيء يُشكِل عليك، أي إنه عقبةٌ تنشأ بسبب الاختلاط أو الالتباس، فإذا انتهى الالتباس زالت العقبة وحُلَّت المشكلة، ولو أنها تُستخدم في حياتنا اليومية بمعنى الصعوبة وحسب، فتسمع من يقول إن هناك مشكلةً مالية بمعنى ضائقة وهكذا — أما الإشكالية فهي الفكرة أو العبارة التي تبدو مقبولةً وهي تتضمن تناقُضًا يصعُب قَبوله. والخطاب السلفي يستند إلى هذه الإشكاليات، وسأضرب لها عدة أمثلة، ولنبدأ بالمقولة الذائعة «الحلال بيِّن والحرام بيِّن» — إنها عبارة منطقية وتكاد تكون ذات قداسة، ولكنك إذا حاولتَ تفسيرها وجدتَ أن «الوضوح» المُفترَض في الحلال والحرام أبعدُ ما يكون عن الحقيقة؛ فالإسلام دينٌ خلافي — فإذا أردتَ الرجوع إلى الأصول، وقلتَ إن الحلال هو ما أحله الله في القرآن والحديث مثلًا، والحرام ما حرَّمه الله فيهما، وجدتَ من المجتهدين من يوسِّع دائرة هذا أو ذاك أو يضيِّقها. وكلما توغَّلتَ في تحديد ما هو الحلال وما هو الحرام عن طريق القياس، وهو مبدأ مُعترَف به في الفقه، وجدتَ من تضارب الآراء ما يجعل الوضوح صفةً غير محقَّقة! ولنأخذ مثلًا ثانيًا من العبارات التي شاعت في كلام السلفيين مثل الإسلام هو الحل — إنها عبارةٌ جميلة، ولا يستطيع أن يعارضها مسلم! ولكنكَ إذا أنعمتَ النظر فيها ظهر أنها إشكالية؛ فما المقصود بالحل؟ هل هو حلٌّ من نوع «حل العقال؟» أم هو حلٌّ لمشكلاتنا المعاصرة، مثل نظم الاستيراد والتصدير، وطرائق إصلاح الأراضي واستزراعها، ورفع مستوى الصناعة وتحديثها، وما إلى ذلك بسبيل؟ ولنُلاحِظ أن تعبير «حل المشكلة» لا يعني أكثر من التغلب على «الصعوبات»، ولكن الحل كلمةٌ قد تعني السبيل القويم، أو الأخلاق الفاضلة، أو الإيمان الذي يُنجي من عذاب النار، وقد تعني المنهج الذي يتبعه كل مفكر (يطلق على نفسه لقب مفكِّر إسلامي) في التصدي لظواهر العصر الحديث التي يكرهها، وفي خِضَم ذلك كله تبرز قضية المرأة!

ومما يؤكد هاتَين الإشكاليتين إشكاليةٌ أخرى هي الرجوع إلى النص، أو ما يُسمَّى بالنص الصريح؛ فالذين ينادون بإرجاع المرأة إلى المنزل؛ أي منعها من العمل خارج المنزل والاختلاط بالرجال (والعياذ بالله!) لديهم نصٌّ صريح أو نصوصٌ صريحة، والذين ينادون بعكس ذلك لديهم أيضًا مثلها. وقد تكون هذه النصوص مقدسة؛ أي من القرآن والسنة، وقد تكون من تفسيرات النصوص المقدسة؛ فالقرآن حمَّال أوجه كما يقول على بن أبي طالب، والسنة تفسِّره وتؤكِّده وتبيِّن الوجه الذي يجب أن يُفهَم عليه، والسنة تدعمها الأحاديث، والأحاديث المروية ليست كلها صحيحة؛ ففيها الحسن والضعيف والموضوع، ولكنها جميعًا مَرْوية. وهكذا نشأت قضية النص لا كما تعالجها المدرسة النقدية الحديثة، أو ما يُسمَّى بالنظرية الحديثة، بل من حيث اعتبار أي كلام نصًّا، ومن ثم النزوع إلى الإطلاق؛ أي إضفاء صفة المطلق على كل نصٍّ بعُد به العهد، فاكتسب جلال الزمن. وهكذا فُتح باب التراشق بالنصوص، خصوصًا النصوص الجذَّابة المقتطعة من نصوص كبرى، بغَض النظر عن مصدرها. وانتشَرَت الظاهرة واستفحلَت، فأصبحتَ تسمع الصغار ممن لم يتبحَّروا في العلم، بل ممن لم يكادوا يتخطَّون أعتاب الاجتهاد، وهم يتبارَوْن في اقتباس النصوص، والإشارة إلى ما قاله فلان وما قاله علَّان. وعلا الضجيج واستعر أُواره، والمرأة — صلب القضية — لا تجد سبيلًا للنجاة سوى أن تخضع للمد الذي ما فتئ يرتفع حتى اجتاح شواطئنا وغطَّاها. وانتهى الأمر بحل وسط يشهد بذكاء المصري وقدرته على الابتكار؛ إذ أصبح الموضوع محصورًا في ارتداء الطرحة بأشكالها المختلفة، من عباءة كاملة، إلى توربان (أي عِمَّة بكسر العين)، أو برنيطةٍ شرقية لا يلزم أن تغطي الشعر كله، بل يمكن أن تُظهِر بعض الخصلات التي تبيِّن «نوع» البضاعة المغطَّاة للعريس المتوقَّع، وبحيث لا تُخفي كل شيء، بل تُصبِح كالإطار الذي يُبرِز جمال الوجه!

ولكن انحصار «الموضوع» فيما أصبح يُسمَّى ﺑ «الحجاب» (والحجاب لغةً وتاريخًا معناه الاحتجاب؛ أي الاختفاء، لا الظهور ومزاحمة الرجال في كل مكان) لم يكن معناه انحسار الخطاب الديني؛ إذ ظهر «الدعاة» وتكاثروا، ونُصْب أعينهم الموضوع ذاته؛ أي المرأة. وكان ما يدعون إليه غامضًا في البداية، ولكن عدم وجود ضوابط للانضمام إلى صفوفهم جعل الكثيرين ممن ضاقت بهم سبل العيش ينضمون إليهم. وكان أهم ما لفَت نظري في هذه الموجة الجديدة هو ما أسميتُه في أحد مقالاتي في أسبوعيات الأهرام باليقين! إن الجميع موقنون بصحة أفكارهم، على ما تستند إليه من إشكاليات، وما يَعتوِرها من نقص في العلم، وفي الاستدلال المنطقي، بل وفي الصياغة نفسها. وشَدَّ انتباهي من بين هؤلاء شابٌّ قرأ (وهذه فضيلةٌ نادرة) بعض أعمال السلف، فراعه ما كان أسلافُه يتمتَّعون به من نساء، من باب الزواج الشرعي أو ملك اليمين أو غير ذلك، فجاءني (واسمه أسامة) وتحدَّث عن العصر الذهبي، الذي كان للرجل أن يتمتع فيه بكل شيء، وأمطرني بنصوصٍ مقدَّسة وغير مقدَّسة، وكان ذلك ردًّا على مقال أو حديث أدليتُ به لمجلة الكواكب، وقلتُ فيه إني لا أختار بديلًا عن العصر الحديث! وكان ردي على مقولة «العصر الذهبي» (وهو لم يحدِّد أي العصور يقصد تاريخيًّا) أن سألتُه إن كان يريد العودة إلى الماضي، فقال أنَّى لي ذلك وأنا حبيس العصر الفاسد، فقلتُ له ما عليك من الفساد؛ فكل عصر يرى أنه فاسد، وقديمًا قالت المرأة لعمر بن الخطاب: «فسد الزمانُ يا عمر!» ولكن قل لي أي عصرٍ تريد أن تعود إليه؟ فبدَت عليه الحيرة وتطلَّع إلى النافذة — من غرفة مكتبي المتواضعة في الجامعة — وقال: عصر الجواري! وفرحتُ بصراحة أسامة، وكنتُ أحبه لأنه يقرأ، وضحكتُ ثم قلت له مداعبًا: والعبيد؟ فانزعَج وما لبث أن استجمع بعض «معلوماته»، وقال: هؤلاء كانوا من الأسرى! قلتُ نعم، فهل كنتُ تقبل أن تُولَد في الرق أو تُؤسر، فيُكتب عليك أن تكون رقيقًا إذا لم يسرع أحد بافتدائك، أو إذا لم يكن لك من يفتديك؟ فقال أسامة في ثقة: سيكون لي عبيد ممن يأسرهم الجيش! ولماذا تفترض يا دكتور عناني أنني سأكون عبدًا؟ أنا أتصوَّر أنه سيكون لي عبيد والكثير الكثير من الجواري! وضحكنا، وافترقنا؛ فلم يكن أسامة ساذجًا، وكان يعرف جيدًا ما أرمي إليه!

كانت مشكلة الرق هي العقبة التي توقف عندها طه حسين، في مناقشته للإمبراطورية الرومانية، في كتابه مستقبل الثقافة في مصر. كما بيَّن بهاء طاهر في كتاب له لا أذكر عنوانه، ولكن أصدقائي من الذين ركبوا موجة «الخطاب السلفي» كانوا لا يرون فيها أي عقبة؛ فهم في أعماقهم يحلُمون بالنساء طول الوقت، وعندما يجتمعون — وقد حضرتُ أحد اجتماعاتهم ذات ليلة في رمضان — يتذاكرون «أحكام الجواري» و«السراري» وحكم «أم الولد»، وكيف تتحول الخليلة إلى حليلة وحكم الدين في ذلك. وكان حديثهم ينضح بما تمجُّه النفس من شهوة ومن لهفة على الوصال، فأدركتُ أن أحد جوانب سحر الماضي لديهم هو الرغبة المشبوبة، وقد تكون قائمةً عند الشباب على الحرمان. وأذكُر أنني خرجتُ عن الدور المرسوم لي ذات يوم حين قلتُ لأحدهم بعد انفضاض ذلك الاجتماع ما قاله العقاد من أن الإسلام دين العتق لا دين الرق، وأنني أدين نظام الجواري الذي ساد في العصور السالفة؛ لأنه كان مرتبطًا بنظام الرق الذي لا يقبله الإسلام، فنظر إليَّ شَزْرًا وحاول الاحتجاج بأحد النصوص، ولكنني حاربتُه بالسلاح نفسه، وقلتُ له إن القرآن يحدِّد العقبة التي يجب أن يقهَرها المؤمن حتى يصدُق إيمانه وهي تحرير العبيد؛ قال تعالى:فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ صدق الله العظيم.

كنتُ أشارك دون أن أدري في الخطاب الديني، الذي اختلط بالخطاب السلفي، بل أصبح رافدًا له، ولكن هذه الذكريات بعثَت في نفسي صورةً لشخص من هؤلاء يريد أن يرجع إلى الماضي حتى يمتلك الجواري، ولكنه يجد أنه أصبح من الرقيق! وكتبتُ ذلك كله ذات ليلة وأنا في الأكاديمية في روما، وأطلعتُ عليه قريبي السفير محمود شكري، الذي كان قنصلًا عامًّا لمصر في إيطاليا، وحكيتُه ذات ليلة للدكتورة عزة حسين رزق، الأستاذة في كلية الهندسة بجامعة القاهرة، فوجدتُ ترحيبًا بوجهة النظر الجديدة، فحملتُ أوراقي، وعندما خلوتُ إلى نفسي بعد عامٍ كامل في داكار، بدأتُ أكتب مشاهد الدرويش والغازية. وكنتُ أقرأ كل مشهد على بعض زملائي، مثل زين سليط وأحمد عبد الجواد، فأجد استحسانًا، فيطمئن قلبي. وكان منهجي مبتكرًا، وإن لم يكن جديدًا كل الجدَّة في المسرح العالمي، ألا وهو الانتقال بالحدث من الحاضر إلى الماضي، ليس بأسلوب الاسترجاع أو الفلاش باك (flashback)، بل بإيجاد أحداث يتخيَّلها البطل، وتحدُث في الماضي، بحيث تسير جنبًا إلى جنب مع أحداث المسرحية في الزمن الحاضر، على ما في ذلك من صعوبة.

والغريب أنني لم أكن بقادرٍ على كتابة المسرحية الجديدة، وإن تبلورَت صورتها وأحداثها في ذهني قبل أن أرى مسرحيتي الأخيرة على المسرح! وأعتقد أن تلك عادةٌ شائعة بين كُتاب المسرح؛ فالمسرحية لا تصبح «مسرحية» إلا عندما تتجسَّد على المسرح في أشخاص وحركة وأضواء وألوان وموسيقى وجمهور! وعندما كتبتُ المشاهد الأولى من الدرويش والغازية كنتُ أراها على المسرح بعين خيالي، وأتصور الأشخاص وهم يتكلمون ويمثِّلون ويَضحكون ويُضحكون. وكذلك تصوَّرتُ الأغاني التي كتبتُها بالفصحى والعامية وهي تُغنَّى، وتصوَّرتُ لها ألحانًا ما زالت ترنُّ أصداؤها في رأسي حتى اليوم!

وعندما انتهى المؤتمر ورجعنا إلى مصر قابلتُ لأول مرة عقبةً لا تزال تواجهني عند كل وصول حتى اليوم، وهي احتجاز ضابط الجوازات لي للاشتباه في أن أكون من المطلوبين (أي المطلوب القبض عليهم!) وعلى مدى السنوات العشر الماضية كنتُ أنتظر كل مرة أصل فيها من الخارج حتى ينتهي موظف الكمبيوتر من «الفحص»؛ أي التأكد من أنني بريء أو غير مطلوب! وأحيانًا ما أتساءل عن سميِّي الذي يتسبَّب في تعكير صفو لحظة الوصول إلى أرض الوطن، تُرى من يكون وأين يقيم وماذا فعل؟ وهل ثَم تطابُقٌ كامل بين اسمي واسمه إلى ذلك الحد؟ وذكرتُ قصةً ليحيى حقي بعنوان «في المرآة» تتناول هذا الموضوع، وخطر لي أن أتناول تلك الفكرة في مسرحيةٍ مقبلة، مثل كيلو بودرة، التي انتهيتُ من كتابتها، ولكنَّني عدَلتُ عن ذلك. وعُدتُ إلى القاهرة لأجد أهوالًا في الجاسوس!

٨

كنا في منتصف ديسمبر ١٩٩١م، وقيل لي إن المخرج يبحث عني، وما انفَكَّ يسأل عن موعد عودتي، فذهبتُ إليه يوم الإثنين ١٦ ديسمبر في المسرح، فاستقبلني ببسمةٍ ساخرة معاتبة، قائلًا: «أين كنت؟» وسألتُه ما الخبر، فلم يُجب، وقال: «بعدين.» فصعدتُ إلى غرفة مدير المسرح محمود الحديني لأسأله، فقال إن حمزة الشيمي أرسل خطاب اعتذارٍ عن المشاركة في مسرحية تعرِّض المشارك فيها للخطر، وكان الخطاب في صورة برقية تذكِّر محمود الحديني بسوابق ذلك «المؤلف»، الذي يُعادي النظام ويُعارض التطبيع! وكان الخطاب ذا لهجةٍ استفزازية أدهشَتني؛ فحمزة صديقٌ قديم، وسألتُ محمودًا عن سر الاعتذار فقال: إن جمال الشيخ يشيع بين الممثلين أن التتار هم أو يرمزون لليهود، وأن السلطان يرمز للسادات، وأن الخوف ممَّا لدى التتار من أسلحة يُقصَد به الخوف من الأسلحة النووية، وأن نشدان السلطان للسلم يعني موافقة السادات على السلام والتصالح مع إسرائيل! وقبل أن أدافع أو أحاول الشرح قال محمود الحديني: «والأدهى من ذلك اعتذار فردوس عبد الحميد عن أداء دور البطولة!» وسادت لحظات صمتٍ قطعها هو قائلًا: لقد حدثَت مشادَّةٌ عنيفة بينها وبين كرم مطاوع؛ إذ وقفت أثناء البروفة على المسرح تقول له أفصِح عن مراميك يا كرم! هل تُعارِض التطبيع؟ (تقصد تطبيع العلاقات مع إسرائيل) فردَّ كرم بثبات: إن موقفي من إسرائيل واضح، وهذه مسرحيةٌ تاريخية!

وقال لي الفنان مدحت مرسي إن صافيناز كاظم كتبَت مقالًا في المصور تُهاجِم فيه كل مَن يُحاوِل التقليل من شأن المماليك، مدافعة عن دورهم التاريخي في حماية الإسلام من التتار، قائلة إن الغربيين مثل اليهودي برنارد لويس، المؤرخ المشهور، هم الذين ابتدَعوا هذا الهجوم وشجَّعوه حتى يُلقوا بالظلال الكثيفة على العصر المملوكي المجيد، ويبدو — قال مدحت مرسي — أن بعض أفراد الفرقة قد أبلغوها بما يحدُث في المسرحية، في عصرٍ يتعرَّض فيه الإسلام لهجمةٍ ضارية! وقلتُ لمدحت إنني أصوِّر حالة رجل من عامة الشعب وجد نفسه، رغم أنفه، متورطًا في أحابيل السياسة ومكائد الحرب، وأحاول إبراز الهوَّة الشاسعة التي تفصل أبناء الشعب عن الحكام في ذلك العصر، وفي كل عصر، مهما تكن مساحة المشاركة الشعبية التي يسمح بها الحكام! وأما الحادثة التي تصوِّرها المسرحية فهي ثابتةٌ تاريخيًّا، «ولا تنسَ يا مدحت أن المماليك كانوا حكامًا عسكريين، وكانوا أيضًا من الأجانب!» فضحك وقال: هذه هي المشكلة!

وذهبتُ لأستفسر من كرم مطاوع ولكنه كان صموتًا، ثم خرج عن صمته حين أرسل إلى الأهرام خبرًا يعلن فيه اعتذار أحد الممثلين عن المشاركة في المسرحية، ولم يلبث بعد فترة أن أرسل خبرًا آخر، وتأجل افتتاح العرض عدة مرات بسبب تغيير الممثلين وتغيُّبهم عن البروفات؛ إذ كانوا — جميعًا تقريبًا — مشغولين بتصوير مسلسلات رمضان، فاجتمع كرم بهم، واختار موعدًا يناسب انتهاء الجميع من أعمالهم الخاصة، وهو الثانية عشرة ليلًا! وكنتُ أحضُر هذه البروفات الليلية، فأجد الإرهاق باديًا على وجوه الجميع، والنوم يداعب جفونهم، كما يقول أحمد رامي، فتوقَّفتُ عن حضورها.

وذهبتُ ذات يوم إلى المسرح، إثر مكالمةٍ تليفونية عاجلة من محمود الحديني، يقول فيها إن مديحة حمدي في حالة هياج بعد أن قدَّمَت اعتذارًا هي الأخرى. وقابلتُ مايسة زكي، سكرتير تحرير مجلة المسرح وصديقة الأسرة، والتي أعتبرها بمثابة ابنتي، فاصطحبتُها معي إلى غرفة محمود حيث جلسَت مديحة صامتةً متوترة، ومحمود لا يجد ما يقوله لها. وسألتُها عن سبب غضبها، فقالت إنها قبلَت ذلك الدور الصغير (دور الأميرة الحالمة) احترامًا لوجود فردوس عبد الحميد وكرم مطاوع، ولكنها سمعَت أن فردوس قد اعتذَرَت بسبب المسلسل، وإنها لا بد أن تحلَّ محلَّها الآن في الدور الرئيسي؛ فهي نجمةٌ ساطعة وممثلةٌ قديرة، ولكن السيد كرم قرَّر إبدال فردوس بممثلةٍ ناشئة تُدعى سلوى خطاب! وهذا — قالت مديحة — غير مقبول على الإطلاق!

وأدركتُ الخطر الذي تتعرض له المسرحية، فرجوتُ من محمود الحديني أن يطلب الشاي، وبدأتُ أتكلم، فشرحتُ لمديحة دورها، مؤكدًا أنه ليس صغيرًا وإن كانت كلماتُه أقل من كلمات الدور الآخر. ولما كنت أحفظ معظمه فقد ركَّزتُ على مواطن الإبداع في أدائه وصعوبة أدائه، وأنه لن يستطيع أحد أن يؤديه إذا تركَتْه — فالفتاة خاتون (وهو الدور الذي تقوم به) رمزٌ حافل بالدلالات — ولكنها قاطعتني: «ولكنه دور صغير!» فوعدتُها بأن أزيد من عدد الكلمات حتى تتناسب مع أهمية الدور، قائلًا إنني بدأتُ ذلك فعلًا، وأخرجتُ لها من حقيبة يدي بعض الأوراق التي كنتُ كتبتُها، ثم ألغيتُها أثناء إعداد المسرحية في صورتها النهائية، وقلتُ لها إن دورك سوف يصبح بهذه الكلمات أطول من الدور الآخر، وسوف يكون حقًّا دور البطولة!

وكان للشاي الساخن في يناير مفعول السحر، فهدأَت مديحة، وكانت مايسة على وشك أن تنفجر ضاحكةً حين أشرتُ إليها بضبط أعصابها. وفرح محمود الحديني قائلًا إنه سوف يتفق مع كرم مطاوع على بَرْوَزة دور مديحة حتى يجلجل الدور ويطغى على كل ما عداه، فبدا عليها الرضى، وابتسمَت أخيرًا، وعدلت عن الاعتذار. وخرجنا جميعًا أنا وهي ومايسة وتمتمَت ونحن خارجون في ضحكةٍ عصبية: «إلا سلوى دي! مين سلوى دي كمان؟!»

ورأيتُ سلوى خطاب لأول مرة يوم السبت ١٨ يناير ومدحت مرسي يقوم بتحفيظها الدور. وكان موعد الافتتاح قد تأجل مرتَين — الأولى من الخميس ٤ يناير (وكان قد وقع الاختيار عليه من مدة حتى يتفق وعطلة نصف العام) إلى ١٦ ثم إلى ٢٣ — فلم تكن أمام سلوى إلا أيامٌ معدودة حتى تنتهي من حفظ الكلمات والحركة. وكان حمزة الشيمي قد عدَل عن اعتذاره، وبدأَت البروفات شبه الكاملة بالموسيقى. وقد فُجعتُ بالألحان التي وضعها أحمد الشابوري، حتى إن ابنتي سارة قالت لي: «ألحانك أحسن!» (وكنتُ قد وضعت بعض الألحان ودوَّنتُها بالنوتة للمشهد الافتتاحي). وبدأ حلم الوصول إلى المسرح القومي يقترب يومًا بعد يوم. وكنتُ أحاول أن أحشد أكبر عدد من النقاد والأصدقاء لحضور حفل الافتتاح، حين سمعتُ من كرم مطاوع أن تسجيلات الموسيقى فاسدة! ولم أعرف ما يعني بكلمة «بايظة» — وهو اللفظ الذي استخدمه في الإشارة إلى الشرائط — إلا حين ذهبتُ إلى عاصم البدوي، المهندس الذي يتولى إدارة الشرائط، فاكتشفتُ الخلط الذي وقع بين الموسيقى التصويرية المصاحبة لبعض المشاهد وبين موسيقى الأغاني التي تُغنَّى مباشرة؛ أي بأصوات الممثلين على المسرح، وتأجل الافتتاح من جديد إلى يوم ٣٠ يناير!

كان يوم الافتتاح يوم تحقيق الحُلم، وكان العرض باهرًا، وأمطر النقاد عبارات الثناء على المسرحية. وأذكُر أنني كنتُ أسير في دهاليز مسرح الأزبكية في الأسبوع الأول، فأتأمل الطريق الطويل الذي قطعتُه منذ احترفتُ الكتابة مع سمير سرحان عام ١٩٦٢م — ثلاثون عامًا مررتُ فيها بالمسرح الحديث ومسرح الحكيم ومسرح الطليعة ثم المسرح القومي! وقلت في نفسي المسرح حياةٌ كاملة، وهو يبتلع الإنسان تمامًا بهمومه ومباهجه، ولا تُوجد في الدنيا لحظة تعدل تقديم النص على المسرح، وسماع كلماتك وهي ترنُّ في الصالة فيصفِّق لها الجمهور!

كان التفسير الذي قدَّمتُه للفنان مدحت مرسي من بنات أفكار زوجتي نهاد؛ إذ كتبت تلخيصًا لفكرة المسرحية أدرجته في النبذة التي طُبعَت في برنامج العرض المسرحي الذي يُسمُّونه في مصر «البامفلت» (بعد تعريب الكلمة وإكسابها النطق المصري الصميم)، كما حرصتُ على ذكر المصدر التاريخي في تلك النبذة، ولكن ذلك لم ينقذني من تأويلات النقاد؛ إذ وقفت صافيناز كاظم في ساحة مسرح الأزبكية بعد العرض تُكرِّر ما قالته عن هجومي عن المماليك، حماة الإسلام، وكان كرم مطاوع واقفًا معنا، فذكرتُ لها تاريخ الحادثة والمصدر، فقالت: «ولماذا اخترتَ هذه الحادثة دون غيرها؟» فردَّ كرم قائلًا: هذه حرية الكاتب! فقالت: «ولكن للاختيار معنًى!» وتوالت بعد ذلك الأقاويل، وتردَّد في الوسط الفني أن كرم مطاوع مغضوب عليه. وجاءتني فيروز إسماعيل تلميذتي السابقة في معهد الفنون المسرحية وهي مهتاجة، وكانت تعمل مساعدة في الإخراج، وكان عمرو دواره هو المخرج المساعد لكرم، وقالت لي: «حيشيلوا كرم؟» وقلت لها إن ذلك مُستبعَد، وإنه لا يمكن أن يحدث حتى ينتهي العرض على الأقل! وكان الوسط الفني يزخر بالقصص عن تصدي كرم مطاوع للفساد، وعن المؤتمرات التي تُحاك حوله، وكان أي إجراء يتخذه للانضباط يفسَّر بأنه «خلافٌ فني»، من ذلك أنه غضب حينما قام مدير أحد فرق الهيئة بصرف مكافآت حوافز إضافية لنفسه أثناء وجوده في إعارة لأحد البلدان العربية الشقيقة؛ فالقانون ينص على عدم صرف هذه الحوافز إلا مقابل عملٍ فعلي، وأصرَّ كرم على إعادة المبلغ الذي صُرف، فتوسَّط المدير المذكور لدى سمير سرحان، وقد شهدتُ بنفسي أثناء إحدى البروفات «الليلية» للمسرحية مخاطبة سمير لكرم في هذا الموضوع، وإصرار كرم على موقفه. وقد لخص لي رشاد عثمان موقف كرم مطاوع قائلًا «إنه لا يُحب الحرامية!»

كانت الشكاوى من كرم مطاوع تركِّز على أسلوبه الشخصي في التعامل مع الآخرين، ولا تطعن فيما يفعله، ولكن كثرة الشكاوي وتكدُّس الشائعات جعلها تبدو حقيقية، حتى إنني بدأتُ أعجب من الخلط الدائم في الوسط الفني بين الحقيقة والخيال؛ فالفنانون يسهرون — بطبيعة عملهم — وفي آخر الليل تُولد الشائعة، ولا تلبث في الصباح حتى تُصبح من الحقائق. وهكذا تردَّد التليفزيون في تصوير المسرحية، ثم تقاعس، ثم حدَّد موعدًا وأخلَفه. وكان أول مارس (الأحد)، موعد سفري إلى جنيف لأول مرة، يقترب حثيثًا، وكنتُ أخشى أن يقع ما أخشاه (لكرم مطاوع) فينتهي العرض دون تصويرٍ تليفزيوني. وحاولتُ من جانبي أن أتصل بمن أعرفهم، وذهبتُ إلى مبنى التليفزيون، وقابلتُ أحد المسئولين فوعدني خيرًا. وعندما خرجتُ مستبشرًا قابلَني شخصٌ يطلق لحيته السوداء، ويبتسم بسمةً عريضة مادًّا يده بالسلام، فسلمتُ قبل أن أتبيَّن أنه «حسن»، المخرج.

كنا يوم الإثنين ٢٤ فبراير، وكنتُ في طريقي إلى هيئة الكتاب للاطمئنان على عدد مارس من مجلة المسرح بعد أن أصبحَت شهرية، فعرضتُ عليه أن يصاحبني، فقال بل سألحق بك في سيارتي. وفي الهيئة جلستُ معه نتجاذب أطراف الحديث عن مسرحيتي، وعن النقد المنشور عنها في الصحف، ومنها مقالٌ كتبه سامح مهران (الدكتور) بعنوان «مسرحية تريك تراك» في روز اليوسف. وسألني من هو سامح مهران فقلت له مؤلِّف وناقد، ثم تطرَّقنا إلى عمله، فقال إنه أنشأ شركة للإنتاج التليفزيوني الإسلامي. ولم أفهم. وقلتُ له تقصد المسلسلات الإسلامية (التاريخية) أم غيرها فقال: أنا أعني ما أقول. لقد تخصَّصتُ في البرامج الإسلامية، سواء كانت درامية أم غير درامية! ودهِشتُ من التحوُّل الذي طرأ على من حصل على الدكتوراه من الاتحاد السوفييتي، وكان يتغنَّى بالاشتراكية. وأردتُ أن أعرف المزيد، وكان حسن كعهدي به صريحًا، فقال ما سوف أوجزه:

«لقد انهار الاتحاد السوفييتي، وبدأ تمزُّق الكتلة الشيوعية في أوروبا الشرقية، وقريبًا يملكُ الغرب زمام القوة، وينفرد بزعامة العالم، والغرب يسير في طريق الحداثة الرافض للدين، ولكنه يشجِّعنا على التمسك بديننا؛ ففي ذلك صلاح أمرنا واستقرار أوضاعنا، وهو ما يخدم مصالحه! وأنا مسلم، والحمد لله على نعمة الإسلام، خصوصًا في هذا العصر؛ ومن ثَم قرَّرتُ أن أستخدم فنون الأداء في خدمة دين الله. وهناك من يدفعون، بل ويدفعون كثيرًا في مقابل خدماتي! ولذلك فأنا أنتج برامجَ تثقيفيةً دينية، بعضها موجَّه للكبار وبعضها موجَّه للصغار، بعضها درامي وبعضها حواري، ولكنها جميعًا تستخدم الأسلوب غير المباشر — أي تتجنب الوعظ المباشر، بل تقدِّم القيم الإسلامية في ثوب حركةٍ درامية جذَّابة — وهناك برامج في الطريق عن كبرى الشخصيات الإسلامية، وكبرى القبائل العربية، وهكذا.»

وانتهى حسن بأن ألمح إليَّ إمكان مشاركتي فيما يفعل بالنصوص التي أريدها، وسألتُه عن عنوان شركته حتى أستطيع الاتصال به فمال عليَّ كأنما يريد أن يهمس بسرٍّ وتلفَّت في الغرفة فلم يجد سوى محمد، الذي يعمل في مجلة الفنون الشعبية، وكان مشغولًا بتصحيح إحدى التجارب الطباعية، فاطمأنَّ قلبه وقال: «ليس لي مقَرٌّ ثابت؛ إذ لو فعلت لأهلكتني الضرائب! ولكنني شركةٌ متجولة عنوانها هو البنك الذي يحوِّل عملائي إليه النقود!» ولما بدا أنني لم أفهم، اعتدل في جلسته وقال: «أنا أنتج بالمقاولة؛ أي بالقطعة، وأغيِّر أماكن التصوير باستمرار، وأستأجر استوديوهاتٍ مختلفة في بلدانٍ عربية مختلفة، بل وأغيِّر الطاقم الذي يعمل معي من الفنيين طول الوقت! الحرص واجب يا عناني يا خويا!»

وبعد أن أدرك أنني لا شك مهتم بهذا العمل المربح، نهض قائلًا: «خلينا على اتصال! كلمني في البيت — ما بين تمانية وتسعة صباحًا! وعلى فكرة …» — وكنا نسير في اتجاه المطبعة؛ حيث أردتُ الاطمئنان على العمل في المجلة — «أنا سوف أنتج برامج بالإنجليزية لتليفزيون السعودية — عن الشخصيات العربية البارزة! بس دي مقابلات وأحاديث، لكن أنا اقترحتُ عليهم تقديم برامجَ كاملة بالإنجليزية عن الوطن العربي بدءًا بالجزيرة العربية، لتسويقها في دول أفريقيا وآسيا الناطقة بالإنجليزية … وما زلت في انتظار الرد!» وبعد جولة المطبعة معي خرج واختفى، ولم أسمع صوتَه إلا في العام التالي، بعد الزلزال الذي هزَّ حياتي هزًّا.

وفي أول مارس سافرتُ إلى جنيف، فشاهدتُ جنةً أخرى من جنان الله الوارفة الظلال حوَّلها أهلها إلى ساعةٍ دقيقةٍ مضبوطة دائمًا، يدور فيها كل ترسٍ بحساب لا يخطئ في أعشار الثانية!

٩

تركتُ مصر ورائي، وهبطَت بي الطائرة في مطار جنيف، فوجدت محمود يونس مع زوجته وابنه حاتم في استقبالي. وكان محمود قد استأجر لي استوديو تملكه سويسريةٌ ظريفة اسمها مدام مرسييه، وكانت في منتصف السبعينيات ومع ذلك فهي في نشاطٍ مستمر؛ إذ لديها عقارات وشقق تؤجِّرها وتشرف بنفسها على نظافتها (باكتراء عاملات نظافة إسبانيات)، ولكنها تقيم في منزل الأسرة فوق الجبل مع والدتها. وبعد أن حطَطْنا الرحال بدأنا إجراءات الاستقرار شهرًا كاملًا، وفي المساء تنزَّهنا على شاطئ البحيرة، وتناولنا الطعام في مطعمٍ ريفي، وفي صباح اليوم التالي بدأتُ العمل.

كم كنتُ في حاجة إلى الابتعاد عن مشاكل المسرح! وحصَرتُ همِّي في القراءة في المساء بعد العمل وفي عطلة نهاية الأسبوع. وكان العمل يقتضي الإلمام بمصطلحات الفيزياء فانكببتُ عليها، وتعلَّمتُ كل ما يمكن للطالب المُجِد أن يتعلمه في شهرٍ واحد من الدراسة المكثَّفة؛ فالأرصاد الجوية علمٌ جديد، وكان أول مدير عام للمنظمة (يسمُّونه الأمين العام) مصريًّا، وهو المرحوم فتحي طه، وكان أحد تلاميذه النجباء (الأستاذ العاملي) قد تقاعد، ولكن الأمين العام الجديد استبقاه للاستفادة بخبرته، وكان مصريًّا أصيلًا، وقد قابلتُ أسرته بعد ذلك، وبُهرتُ بمدى العلم والجِد وحسن الخلق عند الجميع. وسمعتُ، وإن لم أكن قد تعرَّفتُ بعدُ، على السيدة شادية عبد اللطيف وأختها سوسن، وكانت شادية زوجة طارق شرف المترجم الفوري، وهو أخو سامي شرف، سكرتير الرئيس عبد الناصر. وتدريجيًّا بدأتُ أستجلي محاسن سويسرا.

وقبل أن أعود إلى مصر كنتُ قد وقَّعتُ عقدًا بالعمل في يونيو وبعض أيام يوليو. وقابلتُ رفعت لطفي، رئيس القسم العربي، بالمقر الأوروبي للأمم المتحدة، ودعاني للعمل لديه في يناير ١٩٩٣م، وكان متزوجًا من زميلتي السابقة، والمترجمة الفورية حاليًّا، ماجدة دوس، وقضيتُ معه وقتًا ممتعًا. كما قابلتُ عز الدين اللواتي، وهو تونسي يعمل رئيسًا للقسم العربي بمنظمة الصحة العالمية، وكان يعزف العود ويُحب الموسيقي حبًّا جمًّا، ولكنه تدروش، وأطلق لحيته، ووعدَني بالعمل معه في المستقبل.

وعندما عدت إلى مصر كان كرم مطاوع قد فُصل من رئاسة الهيئة، وتوقَّف عرض المسرحية دون أن تُصوَّر تليفزيونيًّا، وبدأَت عروض الصيف في القطاع الخاص. وكنتُ أشعر أن في أوروبا مَهْربًا من كل دواعي الهموم من حولي. وكان عبد العزيز حمودة على وشك العودة إلى مصر من عمله في واشنطن مستشارًا ثقافيًّا، فإذا استقر في مصر تولى رئاسة القسم بعد هدى جندي، وإذا لم يستقر كنتُ أنا أقدم المرشَّحين. وكنتُ أخضع لعلاج أسناني آنذاك عند طبيب أسنانٍ قريب من منزلنا، وأُحِسُّ أن ضرسًا ذا سنٍّ حاد يجرح لساني، ولكن الطبيب رفض خلع الضرس. وفي غمرة فرحتي بانفتاح أبواب جنيف، وتحقيق حلم المسرح القومي لم أُولِ الأمر ما هو جدير به، فلم أستشِر طبيبًا آخر، وعلَّلتُ ما أشعر به بأنه مرضٌ جسدي، فأجريتُ تحليلًا كاملًا للدم أثبت عدم وجود ما يوجب القلق. وفي منتصف يونيو ذهبتُ مع أسرتي نهاد وسارة إلى جنيف، فأنزلَتنا مدام مرسييه في شقتها الخاصة. واكتشفَت نهاد أن الاسم الأصلي لمضيفتنا هو «جولييت»، فكان ذلك مصدر تندُّر وتفكُّه. والحق أن جولييت كانت مولعة بمصر، ولكنها — فيما قالت — لم تكن قد زارَتْها منذ عام ١٩٣٧م.

وقضينا أسابيعَ رائعةً في جنيف، تعرَّفنا فيها على أسرة طارق شرف، وعرفنا قصة هذا المنفى الأوروبي له؛ إذ إنه كان ضابطًا صغيرًا في الجيش (برتبة ملازم) حين تزعَّم مؤامرة للإطاحة بعبد الناصر، واكتشف سامي شرف (أخوه) هذه المؤامرة، واقترح على عبد الناصر إعدام المتآمرين، ولكن عبد الناصر أبعدَهم عن الجيش وعن مصر. وكان طارق قارئًا نهمًا عميق الثقافة، يقرأ باللغتَين الإنجليزية والفرنسية، وأهدى نهاد زوجتي كتابًا عنوانه The True Believer يضم تحليلًا شائقًا وعميقًا لنفسية الزعيم — أي زعيم — ونفسية أتباع العقيدة — أي عقيدة. وكانت سهرتُنا في منزل طارق تتكون من محاوراتٍ ثقافية لم أكن أتوقَّع سماعها أو المشاركة فيها في جنيف! وقد قابلتُه للمرة الأخيرة في كافيتريا الأمم المتحدة في صيف ١٩٩٥م، بعد إجراء عملية في القلب. وقالت لي شادية التي كانت ترافقه ساعتها إن قلبه يعمل بنسبة ١٩٪ فقط، فدعوتُ الله له بالشفاء، وفي العام الماضي أخبرني أحد الأصدقاء أنه قد توفي.

وفي يوليو ١٩٩٢م وصل من الإسكندرية ياسر يونس، ابن محمود، ومعه زوجته، وكان كلاهما في العشرينيات، وقدَّم طلبًا للدراسة في جامعة جنيف للحصول على الدكتوراه من قسم اللغة العربية، فاستشارني، فأشرتُ عليه بدراسة تأثير فكر الأفلاطونية الجديدة في شعر أبي العلاء المعري، وأهديته الطبعة التي ورثتُها من والدي لرسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، والكتاب المكتوب عن الرسائل، والذي كتبه الأستاذ الإنجليزي إيان نيتون (الذي أصبح الآن رئيسًا لقسم الدراسات العربية في جامعة إكستر). وقضينا وقتًا طويلًا في إعداد خطة الرسالة، وكتبتُها أنا بالإنجليزية وترجمها الدكتور محمود مراد، الأستاذ بجامعة جنيف، إلى الفرنسية، وقَبِلها المشرف. وبدأ ياسر الدراسة فعلًا، ولكنه لاحظ تحيزا ضد الإسلام من جانب المشرف. ولم يرُقْ له جو العَداء للإسلام، فتوقَّف عن الدراسة، وتوجَّه إلى العمل بالترجمة فيما بعدُ. وقد نُشر له ديوانان بالعربية في مصر؛ أحدهما من شعره بعنوان رسالة إلى امرأة، والآخر هو ترجمة أزهار الشر لبودلير شعرًا.

عندما عُدتُ إلى القاهرة عاودَتْني آلام الأسنان، ولكن الطبيب لم يَرَ ما يدعو إلى القلق. وكنتُ في زيارة للطبيب (الجراح الكبير) الدكتور محمود نجيب، والد سعاد المترجمة، بصحبة صديقي المستشار أحمد السودة، وذكرتُ له الألم الذي أحِسُّه في أذني فقال إنه referred pain؛ أي إنه ألم من موقعٍ آخر «بيسمَّع في الودن»، ونصحني بالاهتمام بالأسنان لأن السن الحادة sharp tooth يمكن أن تجرح اللسان و«تُسبِّب أورامًا و…» وفزعتُ عندما سمعتُ ذلك، وعُدتُ لطبيب الأسنان الذي بَرَد السن الحادة حتى لا تجرح اللسان، ولكنه كان مجروحًا بالفعل، ولو أن ذلك لم يؤثِّر على نشاطي، فذهبتُ إلى جنيف للمرة الثالثة ذلك العام في سبتمبر، وكان ذلك لفترةٍ قصيرة (مؤتمر قصير). وعندما عُدتُ إلى مصر بدأنا العام الدراسي.

كان الدكتور حمودة قد عاد من أمريكا وتولى رئاسة القسم، وكانت وفاة الدكتور مجدي وهبة قد تركَت فراغًا كبيرًا في الحياة الثقافية والجامعية، بعد أن وافق رحمه الله على العودة إلى التدريس. وبدأنا العام الدراسي، وكان العبء الملقى على عاتقي كبيرًا، ولكنني كنتُ — رغم المرض الذي لم أكن أعلمه ولا أريد أن أعلمه — أمارس حياتي اليومية دون تغيير يُذكر، كل ما هناك هو أنني أشعر بجفافٍ شديد في الحلق، وبالألم حين أتناول الطعام بسبب جرح اللسان. وابتدأ بعض الطلاب يَشْكون من أنهم لا يسمعون صوتي، على ما عُرفتُ به من صوتٍ رنَّان مُدوٍّ وواضح. وكنتُ على وشك العودة إلى طبيب الأسنان حين وقع زلزال القاهرة، يوم الإثنين ١٢ أكتوبر ١٩٩٢م.

وتوقَّفنا عن التدريس حتى آخر أكتوبر، وعندما استُؤنفَت الدراسة كان الجميع يقولون إنني مريض! وذهبتُ إلى الطبيب فأحالني إلى طبيب أنف وأذن وحنجرة، وصف لي علاجًا لم يأتِ بنتيجة، وكنتُ إذ ذاك أشغل نفسي بترجمة روميو وجولييت شعرًا، مما كان ينسيني آلامي. وصرخَت في وجهي نهاد زوجتي ذات يوم تستحثُّني على استشارة طبيبٍ آخر، وعندما زرتُ الدكتور سامي الصادق في الروضة قال لي إن هناك deviation مما يرجِّح وجود شيءٍ خبيث! كان ذلك يوم الأحد ٢٢ نوفمبر ١٩٩٢م. وفي يوم الإثنين ذهبتُ مع الدكتور (الجراح) نبيل شديد، صهر أخي مصطفى، إلى جراح الأورام الدكتور حسن عبد المجيد، ولم يتردَّد في التشخيص، بل قال بلهجةٍ قاطعة: «أنت عندك قرحة خبيثة في اللسان.» وأصابني الدوار وأحسستُ كالمغشي عليه. وبعد ثوانٍ تمالكتُ فيها نفسي سألتُه ما العمل، فقال لا بد من جراحة، وسوف تفقد بعض الأسنان والأضراس والغُدد، ولكن العملية محتومة، ثم نصحني بالعلاج في الخارج إذا كان ذلك ممكنًا، وكتب تشخيصًا بالإنجليزية يُوصي فيه بالجراحة في المستشفى الأمريكي الذي تخرَّج فيه. وفي اليوم التالي ذهبتُ إليه في معهد الأورام؛ حيث قابلَتني زوجته الدكتورة مرفت النجار، ابنة خالة زوجتي، وفحصَني الأطباء، ثم جاء الدكتور حسن واقتطَع عينةً لتحليلها، وانصرَفْت.

أذكُر ليلة انصرافي من عيادة الدكتور سامي الصادق؛ إذ أوصاني بإجراء ذلك التحليل، وطلب مني الذهاب إلى عيادة الدكتور نبيل البلقيني. وتركت سيارتي عند سينما ريفولي، وذهبتُ أبحث عن تليفون، وكان الجو عاصفًا باردًا، فسرتُ والريح تلفَح وجهي كأنها بوادر النهاية، وأنا أقول في نفسي: الآن؟ وتذكَّرتُ أنني رأيتُ فيما يرى النائم من نحو شهر رسول الله — — وقمتُ في حالة من النشوة لا تُوصف. وفسَّرت في تلك الليلة الباردة تلك الرؤيا بأنها استدعاءٌ إلى العالم الآخر، واطمأنَّت نفسي؛ لأن من دعاني هو المصطفى — فما وجه القلق؟ لقد كان إنذارًا بقرب النهاية وأنا بعدُ في الثالثة والخمسين، ومن ذا الذي يدري متى يحين الحين؟

وفي مساء الثلاثاء كلَّمَت نهاد زوجتي ابنة خالتها، وحاولت التشكيك في التشخيص، ولكن الدكتورة مرفت كانت قاطعة. وحادثني سمير سرحان محادثةً اجتماعية، فقصصتُ عليه الخبر فلم يصدِّق، وبعد دقائقَ لا أظنها زادت على العشرين وجدتُه عند باب شقتنا بملابس المنزل، ومن فوقها معطف، وقرأ الخطاب الذي كتبه الدكتور حسن عبد المجيد، وتناولنا العَشاء، وانصرف.

وفي صباح الأربعاء ذهبتُ إلى الجامعة، وقابلتُ الدكتورة عفاف المنوفي التي شُفيَت من المرض ذاته، وكان قد ألَمَّ بها قبلي بعامٍ واحد، ولم تصدِّق ما قلتُه، ثم مررتُ على معهد الأورام لأستطلع نتيجة التحليل فقيل إنها ستظهر في الغد! وعُدتُ إلى المنزل لا أدري ما أفعل. كان سمير عندما زارني قد اتصل تليفونيًّا بالدكتور محمود شريف (الذي كان وزيرًا، ولكنه متخصص في هذا المرض وهذه الحالة تحديدًا)، فقال له عليك بلندن، واتصل بالدكتورة ليلى موسى (أخت الدكتورة فاطمة) في الإسكندرية فقالت له إن الحالة (treatable)؛ أي يمكن علاجها، ونصحَتْه بفرنسا؛ فلها صديق في معهد جوستاف روسي يُدعى الطبيب شاساني (Chassagne). وقالت مرفت، ابنة خالة نهاد، إن فرنسا «أحسن فرصة» (best chance).

وفي يوم الأربعاء ٢٥ نوفمبر كنتُ وحدي في المنزل حين رنَّ التليفون في نحو السابعة إلا الربع، وكان سمير سرحان على الخط وقال لي: «أنا قادم.» وعندما وصل كان قد استصدر قرارًا من رئيس الوزراء بعلاجي في الخارج على نفقة الدولة، بناءً على القرار الصادر من وزير الثقافة في الصباح، استنادًا على تقرير الدكتور حسن، والقرار يقضي بمصاحبة مرافق، ولكننا لم نكن لنترك سارة وحدها، فتطوَّعتُ أنا بشراء تذكرتها، وحوَّلتُ بعض النقود إلى فرنكاتٍ فرنسية، وبدأتُ الإجراءات يوم الخميس ٢٦ نوفمبر. وكان ظني هو أنني سوف أعالَج بالإشعاع الذري (كوبالت) فقط، وهي عملية ابتكرها أستاذٌ فرنسي، وتتضمن غرس سلكٍ معدني مشع في المنطقة المصابة، حتى تقتل الخلايا السرطانية وما حولها أيضًا، وهي عمليةٌ جراحية سهلة، ولا يستغرق شفاء المريض إلا أيامًا معدودة، وكان الذي يقوم بالعملية تلميذ الأستاذ الذي ابتكرها، واسمه المسيو جيربوليه.

لو وصفتُ مشاعري لخرجت عن الحيِّز المتاح للكتاب؛ ولذلك سأكتفي بالإشارة إلى ما أحسستُه من سخرية القدَر (irony of fate)، التي تمثَّلَت في إصابتي في لساني، وهو مصدر رزقي (أكل عيشي)، وما عملتُ طيلة عمري على «تنميته»! قالت لي عفاف المنوفي — رحمها الله — إن حالات سرطان اللسان لا تمثِّل إلا واحدًا في المائة من جميع حالات الإصابة بالسرطان، ولكنها أصابتني! والحق أنني لم أكن خائفًا من الموت؛ فلقد درَجتُ منذ الصبا على تقبله في إطار الإيمان الفطري، وأصدَق ألوان الإيمان هو الذي ينبع من أعماق النفس، من مناطق يتجاوزها الوعي ولا يتساءل عنها، سواء شبهناها بأعماق المحيط أم بحُلْكة الليل الدامس في مجاهل السموات، ثم يبزُغ فيعم نوره في الوعي، ويؤكِّد للإنسان ما قد يصل إليه الوعي من إدراكٍ لحياته الباطنة؛ ولذلك كنتُ ولا أزال أعتقدُ أن لون الإيمان البسيط، وهو الإيمان غير المتسائل، أو ما يُسمَّى في تراثنا ﺑ «إيمان العوام»، أصدق من إيمان الفلاسفة الذين يستخدمون شواهد الحواسِّ فيما يُسمَّى بالاستدلال المنطقي وصولًا إلى حقيقة الروح؛ فالإيمان غير المتسائل يأتي بيسر لمن درجوا على تدريب أرواحهم على التسليم باللغز الأكبر، لغز الوجود والروح معًا، فظفروا بالسكينة، واطمأنوا إلى المصير، وتجلَّى ذلك كله في سلوكهم، وإنك لترى في سلوك مثل هذا المؤمن قناعةً ورضًا وابتعادًا عن الأذى وابتسامًا في وجه المحن، وصبرًا عليها ومكابدةً لها؛ فلديه ما يمكن أن أسمِّيه ﺑ «الروح الحية»، وذلك ما كنتُ أحِس بضياعه من مجتمعنا الجديد، وإن كنتُ أراه ماثلًا حيًّا في بعض من عرفتُ وأحببتُ ممن يقولون الحمد لله على كل حال، ويمسكون عن الخوض في الغيب، ويُخلِصون في العمل، ويُقبلون على مساعدة الغير؛ فالروح التي بثها الله فيهم تمتد فيما بثَّه من روحه في الآخرين.

وذهبتُ يوم الخميس ٢٦ نوفمبر إلى حفل زفاف سحر الخطيب، ابنة ابن خالتي، مع أميرة وعزة عناني، ابنتي أخي، وجلسنا إلى مائدة جمعَت بيننا وبين محمد الخطيب، ابن خالتي، والدكتورة أميرة عجمية، ابنة خالتي الأخرى، ولم يكن أحد يعلم بسر مرضي. وكانت المفارقة بين حفل الزفاف أو «الفرح»، وبين حزني الدفين تشيع في نفسي تأكيدًا لما أسميتُه التسليم باللغز؛ فها أنا ذا أقف على أعتاب الحياة الأخرى، ومن حولي تُوشِك حياة جديدة أن تُولد! لم يكن يُحزنني غير ترك ابنتي؛ فهي في السنة الرابعة في كليتنا. ووجدتُني — رغمًا عني — أتذكَّر وفاة فهيمة، ابنة خالتي، قبل أعوام بالمرض نفسه، ووفاة مجدي وهبة في العام الماضي بالمرض اللعين، ثم توقَّفتُ وانتابَتْني رعشة، فانسحبتُ مع الفتاتَين، وعُدنا إلى منازلنا.

وانتهت إجراءات سفرنا بسرعة، فاتصلتُ بالأستاذ أحمد السودة، صديق عمري، وطلبتُ مقابلته بصفةٍ عاجلة. وقابلته في مساء السبت ٢٩ نوفمبر، وقلتُ له في السيارة إنني راحلٌ بعد غد، وقصصتُ عليه تفاصيل ما فعلَه سمير من أجلي، وكان لا بد لي أن أفضي بالسر إلى أقرب الناس إليَّ. وعُدتُ إلى المنزل — بعد أن ودَّعتُ والدتي دون أن أطلعها على الحقيقة.

كان سمير سرحان قد اتصل من مكتبه بالمستشار الطبي (الدكتور مصطفى) في باريس، وأرسل إليه تفاصيل الحالة. كما كلَّمتُ رفعت لطفي في الأمم المتحدة، واعتذرتُ له عن المجيء في يناير إلى جنيف، وقلتُ له الحقيقة، فأجابني بكلمات كالبلسم الشافي، وهو من القلائل الذين يعرفون معنى الإيمان، وقال إن شاء الله تخرج من باريس إلى جنيف! وعندما ذهبتُ في صباح الأحد إلى مكتب سمير لأخذ التذاكر وجوازات السفر كانت الدموع في أعين الجميع، ودهِشتُ لهذا الوداع الصامت، وتجاهلتُ أحزانهن (فالجميع نسوة وفتيات) وعُدتُ إلى المنزل. وفي الصباح أغلقنا الشقة، واتجهنا في سيارة سمير سرحان إلى المطار، وكان ذلك أول ديسمبر.

وعندما وصلنا كان الدكتور مصطفى عند باب الطائرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤