الفصل الرابع

١

كنت أزور باريس لأول مرة، ولكن العواصم الأوروبية تتشابه في الكثير، فلم أشعر بغربةٍ كبيرة والسيارة تنتهي بنا إلى بيت مصر، وهو بيت ضيافة (يتقاضى أسعارًا أقل من أسعار الفنادق) في أطراف باريس، حططنا فيه الرحال، وكان موعد مقابلة الطبيب يوم ٣ ديسمبر. وسوف أوجز ما حدث في الأشهر الخمسة التي قضيناها في المستشفى، فأُلمح إلى أهم أحداثها إلماحًا. كان المفترض أن أعالَج بالإشعاع فقط، ولكن الأطباء اكتشفوا أن المرض قد استشرى في اللسان، ولا بد من عمليةٍ جراحية لإزالته، وكان من بينهم طبيب يقول بإمكان الاكتفاء بالإشعاع، فتعلقتُ بأهداب الأمل الذي برز لي، ولكن مسيو شاساني أكَّد لي ضرورة العملية؛ فالمرض لم ينتشر، والأفضل أن نتخلص من الخلايا الفاسدة. وأذكُر أنني كنتُ أردِّد له محمومًا لا أريد أن أفقد صوتي! وكان يؤكِّد لي أنني سوف أستطيع الكلام وإن كنتُ سوف أجد صعوبة في إخراج بعض الحروف الساكنة (الصامتة). كانت العملية الأولى استكشافية (يوم ٧) والثانية جراحية (يوم ١٥). وأذكُر أنني أفقتُ آخر النهار لأجد جسمي موصلًا بأنابيبَ وأسلاك، وهناك أبخرةٌ تتصاعد في آخر القاعة؛ حيث رقد الآخرون، وشاهدتُ فتاةً باهرة الجمال تبتسم كأنها ملاك وسط الأبخرة!

وجاءتني الفتاة بورقةٍ كتبَتْها نهاد وسارة قبل انصرافهما، وفي الصباح وصلتا، وكانت سارة تعمل «ترجمانًا» لي مع الفرنسيين. وكنتُ مشفقًا من وجودها معي وهي في الليسانس، ولكنها قالت إنها تستذكر دروسها. والحمد لله على أن نظام العمل بالفصلَين الدراسيَّين لم يكن قد بدأ تطبيقه. وفي غداة يوم العملية كانت ممرضتان تتحدثان معًا عن بعض المحاليل والأنابيب، وشجَّعتاني على النزول من الفراش، والوقوف على قدمي، وسمعتهما تتحادثان بلغةٍ تصوَّرتُها عربية، وربما كان تأثير المخدر لم يزُل بعدُ، ولكنني أقسم إنني سمعتُ حوارًا بالعامية المصرية، بل إنني تعجَّبتُ من حديث الفرنسيات بلغتنا. وبعد نحو أسبوع أزالت إحداهما غُرز الجرح من صدري (إذ كان الجراح، المسيو راجي Ragué) قد اقتطع عضلة من الصدر ووضعها في مكان الأنسجة التي أزالها من اللسان لاستكماله (reconstruction)، ثم أزالت غُرز الجرح من فمي. وما إن حلَّ الكريسماس حتى أصبحتُ قادرًا على الحركة والسير في دروب المستشفى، حاملًا معي أنابيب التغذية.

ولن أُفيض في النكسات المعتادة؛ إذ اكتشف كبير الجراحين وجود خُرَّاج في مكان العملية دون أن يكون هناك تلوُّث، بل ارتفاعٌ مفاجئ في درجة الحرارة، فأجرى لي عمليةً أخرى، ولكن الله سلَّم، وانقضى عام ١٩٩٢م وأنا بعدُ في قيد الحياة، وإن كان التقدم بطيئًا؛ فالخُرَّاج كان لا يزال قائمًا، والجرح كبير لم يلتئم، والورم في مكان العملية ضخم، وأنا محروم من الكلام؛ لأن آلة الكلام معطلة! كنتُ أتفاهم مع الأطباء والممرضات كتابة؛ إذ جيء لي بلوح وطباشير خاص أكتب عليه ما أريد — بالفرنسية طبعًا — فأخطئ؛ لأن السماع غير الكتابة. وكان جهاز التليفزيون في الغرفة لا يذيع شيئًا بغير الفرنسية! وكان من الطبيعي أن أتأمل معنى الكلام والنطق وصلة ذلك بالفكر. وسرعان ما شعرتُ برغبة في الكتابة، فأتتني نهاد بكراساتٍ وأقلام، وعُدتُ إلى الكتابة!

وفي أوائل يناير أزال الجراح جهاز التنفس من القصبة الهوائية، وسمح لي بالكلام، حتى أدرب لساني بعد التئام الجرح على الحركة وإخراج الأصوات التي أستطيعها. وكانت أصوات العربية سهلة لأنها في معظمها تقع في النصف الخلفي من الفم. وأما الفرنسية والإنجليزية فكانت تتطلب استخدام مُقدَّم الفم، وهو ما كان معطلًا إلى حدٍّ ما. ولن أنسى فرحة نهاد حين جاءتني بعد إزالة الجهاز المذكور، وسألَتني عن حالي فقلتُ لها بالعربية: «الحمد لله.» كانت تكاد تتواثب فرحًا … «إنت بتتكلم! إنت بتتكلم!» وبعد ثلاثة أيام بدأ علاجٌ تكميلي بالإشعاع لمدة خمسة أسابيع تنتهي في ٢١ فبراير. وكانت نهاد سوف تسافر إلى أمريكا في ٢١ مارس وأبريل، فعادت إلى مصر في فبراير للاستعداد للسفر. وكان على سارة أن تعود إلى مصر للدراسة، فعادت، وكانت تقيم مع منى سامي صديقتها، فأصبحتُ وحيدًا.

وفي عزلتي تلك كتبتُ ثماني مسرحيات من فصلٍ واحد ومسرحيةً طويلة هي السادة الرعاع (وعندما عادت نهاد من أمريكا قرأَتها معي واقترحَت تعديلاتٍ أجريتُها). وكنتُ في مطلع عام ١٩٩٣م منكبًّا على الكتابة انكبابًا نادرًا، إلى جانب الرد على خطابات الأصدقاء. وقد اكتشفتُ في تلك الأزمة الطاحنة حب الناس، وهي مزيةٌ أثمنُ من جميع ما يهبه الله لعباده؛ إذ زارني ذات يوم ودون موعد الأستاذ سمير عفيفي، رئيسي السابق في منظمة الأغذية والزراعة بروما، وكان قد سمع بمرضي، وكثير من المصريين الذين لم أكن أعرفهم، بعضهم أطباء وبعضهم عاملون في باريس. ولم تكن غرفتي تخلو في الصباح من الزوار، كما كان الأصدقاء يحادثونني من مصر بالتليفون كل يوم، كما كنتُ أتصل تليفونيًّا بأصدقائي في مصر. وكان من عادتي أنا وسمير وزوجتَينا أن نزور الدكتور جرجس الرشيدي (أستاذي القديم) وزوجته الدكتورة أنجيل يوم ٧ يناير ﻟ «التعييد»، وفق العادة المصرية. وعندما حل الموعد اتصلتُ بالدكتورة أنجيل للتعييد ولو تليفونيًّا، فذهلَت لسماع صوتي بعدما تردَّد عن مرضي، وصاحت: «يعني أزغرت؟!» وكانت تلك الفرحة تعدل الدنيا وما فيها.

وبعد انتهاء العلاج بالإشعاع كان المفترض أن يلتئم الجرح وأخرج من المستشفى، ولكن الأطباء اكتشفوا أن سبب التأخر هو موت جزء من عظم الفك نتيجة جرعة الأشعة الزائدة، وهو ما يُسمَّى (osteonecrosis) فقرَّروا إجراء عمليةٍ أخرى يوم ١٥ مارس لقطع جزء من عظم الفك، أجراها الجراح نفسه. وإذ ذاك سمعتُ نصيحة ابنتي سارة، وصرتُ أتناول مقاديرَ ضخمة من فيتامين سي لتحفيز الالتئام. وما إن حلَّ أول مايو حتى عادت نهاد من أمريكا، وبعد عشرة أيام التأم الجرح، وسُمح لي بالخروج، فخرجتُ يوم ١١ مايو ١٩٩٣م.

وأذكُر يوم الخروج بوضوح ودقة؛ فقد حزمتُ حقائبي، وأسرعتُ دون أن يكترث بي أحد، وناديتُ التاكسي الواقف بجوار المستشفى، وأسعدني أن أتفاهم معه بالكلام (لا بالكتابة)، وسرعان ما كنتُ في بيت المصريين في شارع جورج بومبيدو! وفُوجئَت نهاد بخروجي، وبأنني والحمد لله قادرٌ على الحركة والكلام، فحجَزنا في طائرة يوم ١٣، وقضينا يوم ١٢ كله في التجوال في باريس، فكان من أسعد أيام حياتي؛ إذ زرنا المكتبات، واشترينا العديد من الكتب، وسرنا الهوينى في الشوارع التي كنتُ أحلُم بالسير فيها. وجلسنا في مقهًى شربنا فيه العصير بعد أن أصبحتُ قادرًا على تناول السوائل، بل والآيس كريم أيضًا!

ووجدنا الترحيب في المطار. وكان الجرح — رغم التئامه — ما زال ينزف، فاشتريتُ من الصيدلية بعض الضمادات، وحادثتُ الأصدقاء بالتليفون، وزارني الكثيرون، وأحسستُ كأنما عدت إلى الحياة من جديد! وعندما قلتُ لسمير سرحان في منزلنا: «ولكن وداعًا للتليفزيون!» قال لي: «ولكن مرحبًا بالكتابة!» وكانت تلك الكلمات هي شعار سنواتي اللاحقة!

٢

لا يُحب أحدٌ أن يتكلم أو يسمع عن المرض؛ فهو بمثابة تعطيل للحياة، ولا يكاد يُعتبر جزءًا منها، ولكن المرض حقيقةً تتفاوت حدة تأثيره من شخصٍ لآخر. وأما من يزعم أنه في تمام الصحة والعافية، ولا يأبه للمرض، فهو في الحقيقة يولي صحته الرعاية الكاملة، بل أحيانًا ما تشغله هذه «الرعاية» عن عمله! وكان الدرس الذي خرجتُ به من تجربة المرض والعمليات الجراحية المتوالية هو أنني قد أصبحت في الرابعة والخمسين ولم أحقِّق ما أصبو إليه من أحلام، فشغَلتُ نفسي بالترجمة لكسب المال (الأمم المتحدة مثلًا)، أو بالتدريس وإرهاق البدن والعقل في نشاط لا يريده الطلاب؛ فهم ليسوا طلاب علم بل طلاب شهادة، أو بمشروعات ترجمةٍ مبتسرة (الفردوس المفقود ومسرحيات شكسبير)، أو بالترجمة إلى الإنجليزية وهي لا تفيد إلا الأجانب، أو بكتابة المسرح دون الوصول إلى مكانةٍ مرموقة في مناخ يتطلب التفرُّغ له كل التفرغ، أو بكتابة مقالاتٍ في الصحف لا يقرؤها إلا أقل القليل! التشتيت! هذه هي آفة العمل في مجالنا؛ ومن ثَم اتخذتُ عدة قراراتٍ رسمَت لي طريقَ عملٍ أوضح فيما بقي لي من عمر.

كنتُ بعد العودة أتطلع أولًا إلى إعلان العودة والشفاء، وكانت وسيلة ذلك هي الكتابة في الصحف، فبدأتُ أكتب مقالات عن التيارات المعاصرة في الثقافة الغربية في صفحة الثقافة بالأهرام. ولم أكَد أنشر المقالة الأولى حتى جاءني طلب من جنيف، للمشاركة في المؤتمر السنوي للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية. وحاولتُ الاعتذار ولكن ميشيل الحيني، المشرفة على قسم الترجمة، أصرَّت في التليفون على حضوري، وكان ذلك في يونيو ١٩٩٣م وجرحي ما زال بضماداته! وتلقاني الزملاء في جنيف بترحابٍ شديد، وكان محمود يونس من وراء استدعائي للعمل، ورحَّب بي هو وأسرته ترحيبًا شديدًا. وفكرت أن أشكر رفعت لطفي على كلماته اللطيفة، فأرسلت إليه ورقة أشكره فيها، مع لطفي عبيد، زميلنا المترجم، وإذا به يدخل علينا الغرفة قادمًا من مقر منظمة الأمم المتحدة بعد أقل من نصف ساعة! واصطحَبني إلى البوفيه حيث شربنا القهوة، وحكيتُ له عن مرضي وشفائي، فدعاني لمشاهدة عرضٍ موسيقي (وهو من هواة الغناء الأوبرالي، ويمارسه في أوقات الفراغ)، وسهرنا، أنا وهو وزوجتُه ماجدة دوس، زميلتي القديمة، وتبادلنا أطراف الحديث، ثم تناولنا العَشاء معًا.

وفي الصيف تماثلتُ للشفاء تمامًا، فوضعتُ برنامج العمل الحقيقي، وهو ترجمة شيكسبير، فبدأتُ باستكمال الترجمة الشعرية لروميو وجولييت، وانتهيتُ منها في سبتمبر، ودفعتُ بها إلى المطبعة، ونشرتُ مسرحياتي القصيرة الثمانية مع المسرحية الطويلة التي كتبتُها في باريس (في المستشفى). ووضعتُ لنفسي مهمةً تالية، وهي استكمال ترجمة الفردوس المفقود؛ فالوقت وقت العمل، ولم أعُد قادرًا على ضياع المزيد منه! كانت مقالاتي في الأهرام (في صفحة الثقافة) تقول إنني شُفيت، وكان الورم قد خفَّ، ولكن تجربة مواجهة الموت في تلك العزلة في باريس جعلتني عزوفًا عن الحياة الاجتماعية، فأمسيتُ أرى فيها ضياعًا وإهدارًا مؤسفًا للوقت. ولم يكن لساني قد تدرب التدريب الكافي على الكلام، فوجدتُني ميالًا إلى الانفراد بنفسي. وكان عبد العزيز حمودة يحاول إخراجي من عزلتي، ويشجِّعني على العودة إلى الحياة، مؤكدًا لي أنه ينتوي السفر في إعارةٍ جديدة، وأنني يجب أن أتولى رئاسة القسم؛ فهذا من حقي لأنني أقدم الأساتذة؛ إذ لم يعُد بالقسم إلا أستاذان عاملان، وكنتُ أستمع إليه وأحاول تطويع نفسي لمثل ذلك الاحتمال. وذات يوم جمعة وقد بدأ العام الدراسي، جاءني اتصالٌ تليفوني من رفعت لطفي، رئيس القسم العربي بالمقر الأوروبي للأمم المتحدة في جنيف، وقال لي إنه يريدني للعمل لديه ستة أسابيع، من ١٨ أكتوبر حتى آخر نوفمبر! كانت مفاجأةً مذهلة، فقلت له إنني لا بد أن أستأذن العميد، واتفقنا على أن أردَّ عليه يوم الإثنين. وفعلًا كان العميد، زميلي وصديقي العزيز الدكتور حمدي إبراهيم — العلامة النحرير — أكثر من «متفاهم»، فوافق على سفري، وبدأتُ الإجراءات، وحمودة غاضب لأنه لا يريد أن يترك القسم لأحدٍ غيري!

وسافرتُ إلى جنيف يوم الأحد ١٧ أكتوبر ١٩٩٣م، وكان محمود يونس قد اتَّفق مع زميلنا المترجم لطفي عبيد على أن أقيم في شقته أثناء سفره، وأن أدفع أنا الإيجار وتكاليف التليفون بالطبع. وهكذا وجدتُ مكانًا دافئًا في شارع متفرع من شارع «لوزان»، بوسط جنيف، يتيح لي حرية الحركة بدلًا من الفنادق. واصطحبتُ معي نص الفردوس المفقود، وما إن حطَطتُ الرحال وبدأتُ العمل في الأمم المتحدة حتى بدأتُ ترجمة الكتاب السابع من تلك الملحمة نظمًا، بعد أن ذقتُ حلاوة النظم في ترجمات شيكسبير السابقة! ولم أكَد أترجم «المدخل» أو الديباجة (بلغة القانون) أي the preamble حتى اكتشفتُ أن النظم كان يقتضي من الحرية في ترتيب الكلمات وتركيب الجُمل ما يخرج بي أحيانًا عما ارتضيتُه لنفسي من دقة في نقل ملتون، فوضعتُ الكتاب جانبًا، وربما كان جهد الترجمة المنظومة أكبر مما كنتُ أتحمل، فاكتفيتُ بقراءة الكتب الجديدة التي اشتريتُها عن نظرية النقد الحديثة، واستطعتُ في شهرٍ واحد أن أقرأ أكثر من عشرة كتب — كانت تمثِّل لي جوهر ما قيل في هذه النظرية.

وكان أهم ما لفَت انتباهي في تيار هذه النظرية هو ما يعتبره الغربيون والشرقيون، على حدٍّ سواء، تحرُّرًا أو تحريرًا للإنسان من «ثوابت» الماضي، وعلى رأسها الدين. وكانت جاذبية ذلك التحرُّر لا تُقاوم أو لا تكاد تُقاوم عقلانيًّا؛ فالفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، الجزائري المولد، يُحاوِل أن يهدم أسس الفكر الإنساني كله استنادًا إلى أنه قائمٌ على الإحالة إلى ثوابت (وهو يُسمِّيها «مراكز») تتنافى مع المنطق ومعطيات العلم الطبيعي، مثل ما يقوله عن افتراض وجود «حقيقة» أو «إله واحد» أو «روح»، وما إلى ذلك مما بناه الفكر الإنساني على مَرِّ القرون، وقد جرَّتْه محاولة الهدم (أو التقويض أو التفكيك) إلى رفض جميع المدارس النقدية القائمة، باعتبارها تستند ضمنًا إلى ما يسميه الإحالة إلى ثوابت خارج النص، أو خارج اللغة. ووجدتُ أن ما يقوله يتناقض مع ما أحسستُه وما رأيتُه بعين البصيرة في باريس، وأنا سهران أتأمل المدينة النائمة مع ليل الشتاء الطويل، وما أدركتُه عن حقيقة الدين الذي لا يدركه الإنسان إلا بمنطق الروح، لا بمنطق الحواس؛ فللإنسان روح — قد يُطلق عليها «الوعي» أو «النفس»، بل قد يُطلق عليها «العقل» — على نحو ما يفعل زكي نجيب محمود، ولكنها روحٌ تختلف عن الحياة البيولوجية؛ لأنها تتعلق بالطاقة الإبداعية والفردية التي يتميز بها الإنسان عن سائر الحيوان. ومهما كانت التسمية التي نطلقها على الروح فنحن نتعرَّف عليها بالاستبطان — وهو مذهب كارل جوستاف يونج — أو بمظاهر السلوك، وهو مذهب جلبرت رايل، أو بحياة الفكر الحافلة، وهو المذهب الذي نشأ عند ديكارت، وتطوَّر عند الكثيرين ممن طوَّروا نظرية الربط بين الفكر والوجود.

ومصدر الخلط في مفهوم الدين يرجع، كما تُبيِّن كارين أرمسترونج، إلى الخلط بين منطق العقل (الذي يعتمد على الحواس) ومنطق الروح الذي يتجاوَز الحواس. وأهم ما يتجلَّى فيه هذا الخلط هو عدم دقة النظر إلى الشعائر الدينية؛ إذ يراها العامة مرادفةً للدين، ولكنها لا تعدو كونها تعبيرًا رمزيًّا عن التسليم بمنطق الروح، وهو المنطق الذي اهتدى إليه الإنسان بفطرته منذ الأزل؛ أي قبل الأديان السماوية التي فصَّلَت القول فيه تفصيلًا، وهو منطقٌ يحتاج إلى جهدٍ واعٍ لتنميته، فإذا مارسها الفرد دون نشاطٍ روحي عميق يكون قد أفرغها من معناها. وآفة مجتمعنا إذن ذات شقَّين؛ الأول هو الخلط بين منطق العقل ومنطق الروح، بمعنى قياس ما ينتمي إلى أحدهما بمقياس الآخر. والثاني هو حصر الدين في الطقوس والشعائر، دون «تنشيط» لمنطق الروح فيها.

وانتهيتُ من دراستي لتلك الفلسفة الحديثة إلى أنها تمثِّل اتجاهًا بالغ الخطورة؛ فالعلم الطبيعي الحديث منذ نشأته في القرن السابع عشر في أوروبا، وبالصورة التي انتهى إليها في القرن التاسع عشر، كان يمثِّل اكتشافًا لمنطق العقل دون أن يُلغي أو يُبطل أو ينفي منطق الروح. وأما هؤلاء فيريدون ذلك والاكتفاء بمنطق العقل من الاستقراء والاستدلال والبحث والتجريب الذي لا يتجاوز الحواس، فكأنما بلغ العلم الطبيعي ذروتَه ولم يعُد فيه مجال للتقدُّم! ولكننا حتى إذا افترضنا الوصول إلى الذروة فلن يكون معناها نقض منطق الروح؛ فالإنسان ليس كيانًا ماديًّا يخضع لقوانين منطق العقل القائم على شهادة الحواسِّ فقط، بل يجمع إلى منطق الشهادة منطقَ الغيب، وما أكثر المغيَّبات في النفوس والأرواح مهما اجتهد علماء النفس في حل ألغازها!

كان من أخطاء أصحاب الفكر الفلسفي الحديث (وخصوصًا الفيلسوف البريطاني إير Ayer) النظر إلى الإنسان باعتباره ظاهرةً طبيعية، وإلى تحليل سلوكه وفكره من وجهة نظر الحواسِّ وحدها. وهم يخطئون بذلك خطأً منطقيًّا لا يُقبل حتى من وجهة نظر منطق العقل، قائلين إنه ما دام الوجود حادثًا فلا بد أن ينتهي إلى فناء. والعلم الحديث — منذ أينشتاين — ينكر أن الوجود حادث، بل هو قديم، حتى إذا اقتصرنا على صورته المادية المُدرَكة، بل هو يؤكِّد أن هذه الصورة شكل من أشكال الطاقة التي لا تفنى ولا تستحدث، فإذا تجاوزنا مساواة الإنسان بكيانه المادي؛ أي إذا أقرَرْنا بوجود «نفس» أو «روح» أو «وعي»، بل «ولا وعي» — وهو ما أصبح العلماء على امتداد القرن العشرين يُقِرُّون به — فسوف يصعب اعتبار الإنسان ظاهرةً مادية؛ أي ظاهرة لا تخضع إلا لقوانين الحياة البيولوجية التي تخضع لها سائر الكائنات الحية، ناهيك بالجماد! وهذا ما جعل بعض أرباب الفلسفات الشرقية في آسيا يفترضون قدوم الروح من عالمٍ آخر؛ فالإنسان بفطرته يعرف أنه غير حادث، وإن كان وجوده الأرضي حادث. وأما الأديان السماوية فتقول إن الروح «نفخة» من روح الله، فهي أزلية وأبدية معًا، ومن تتفتح بصيرته على إدراك الروح لا بد أن يُسلِّم بأن لها منطقها الخاص، وهو وحدَه الذي يهديه إلى أن وجوده الروحي غيرُ حادث، وإن فني الجسد المادي وتلاشى.
وكنتُ اشتريت من جنيف شرائط فيديو للبرنامج التليفزيوني الشهير عن الحيوانات والنباتات (٣٢ حلقة) الذي يقدِّمه العلامة ديفيد أتنبره (David Attenborough) أخو المخرج السينمائي ريتشارد، والذي يفسِّر فيه حياة الكائنات على الأرض تفسيرًا ماديًّا محضًا، يقوم على النظريات البيولوجية المعروفة من توافُق الكائنات مع بيئتها، وتفسير كل ظاهرةٍ حيوية في ضوء الحاجة أو الضرورة. وقد تابعتُ الحلقاتِ كلها وخصوصا شريطًا خاصًّا عنوانه الحياة على الأرض (Life on Earth) طوله ساعتان، يشرح فيه نشأة الحياة كما يتخيلها على الأرض استنادًا إلى مبدأ المصادفة، قائلًا إن عددًا معيَّنًا من العوامل تصادف اجتماعُه على وجه الأرض في الماء أولًا، ثم على اليابسة ثانيًا، أدى إلى نشأة الكائنات الدقيقة الحية، ولكنه يعجز عن تفسير التحول من حالة الجماد في العناصر الكيميائية التي اجتمعَت لتشكيل الكائن الحي الأول إلى حالة الحياة بمظاهرها المعروفة من تعَضوُن (أي تكوين أعضاءٍ متعاضدة) وتكاثُر بالانقسام، وتنفُّس وغذاء وتفاعُل مع البيئة؛ فهو لا يقدِّم إلا عبارة موجزة لشرح ذلك قائلًا: (Somehow there was life)؛ أي «جاءت الحياة على نحوٍ ما» — وهي عبارةٌ تشي بالعجز عن تفسير ما حدَث حين دبَّت الحياة — وإن تكن الحياة البيولوجية وحدها في الجماد! وفي هذا العجز يكمن التسليم باللغز! هناك لحظة في التفسير المادي لنشأة الحياة يتحوَّل الجماد فيها — وفقًا لنظرية التطور — إلى كائنٍ حي! ونحن إذا سلَّمنا بصدق هذه النظرية فيجب علينا، طبقًا للمنهج العلمي الحديث، أن نُسلِّم بإمكان تكرار تلك اللحظة، فالمنهج العلمي الحديث ينص على أن النظرية العلمية لا تكون صحيحة إلا إذا أمكن تطبيقها في كل حالة؛ فنظرية تمدد المعادن بالحرارة نظريةٌ صحيحة لأننا نستطيع تطبيقها في كل حالة، ولكن تلك اللحظة المفترضة لم تتكرر، ولا يمكن تكرارها؛ ومن ثَم فهي تظل قائمة في مجال الافتراض الذي لا يمكن إثبات صحته؛ فهي لم تتكرر في الطبيعة ولا يستطيع الإنسان أن يرصُد تكرارها أو أن يُحدِثها في المختبر (المعمل) أو في الطبيعة! فالعلم الطبيعي يقول إن الحياة لا تأتى إلا من حياة، وأما الحياة الأولى فممن المحال القطع فيها بمعطيات العلم الطبيعي الحديث، بل إن أقصى ما يستطيعه العالم هو افتراض أن الحياة قد دبَّت على نحوٍ ما في الجماد — وهو افتراضٌ لا ينفي وجود قوةٍ عُليا وهبَت الجماد حياته، ما دامت الطبيعة عاجزةً عن تكرار تلك المعجزة، وما دام الإنسان حائرًا في تفسير حدوثها — ناهيك بتكرارها!
وفي الشرائط الأخرى التي يقدِّم فيها «أتنبره» ما يُسمِّيه بصعوبات الحياة (The Trials of Life) يُحاول جاهدًا تفسير ظواهر حياة الكائنات الحية، في ضوء «محاولات» تلك الكائنات أن تبقى في قَيد الحياة وأن تتكاثر؛ أي الجهود التي تبذلها للتغلُّب على صعوبات العيش، وهي كائناتٌ لا عقل لها بالمعنى المفهوم عند الإنسان؛ فبعضُها دقيقٌ (ميكروسكوبي) لا رأس له، ولا مخ، وبعضُها لا رأس له يُذكر، مثل النمل الأبيض (termites) الذي يبني بيوتًا ضخمة، تشترك في بنائها الملايين من الحشرات، ولا يزيد حجم مخ هذه النملة عن حجم حبة الرمل الواحدة، ويقيم بعض أنواع النمل نظمًا زراعية (agricultural systems) — على حد تعبير «أتنبره» — تعجز عن بنائها عقول أذكى البشر! وتتعاون الحشرات في العمل والتنظيم بدقة يُسلِّم «أتنبره» باستحالة تفسيرها تفسيرًا علميًّا قائلًا:
But how they do it, we have not even begun to understand.

أي «أما كيف تفعل ذلك، فلم نَخْطُ ولو خطوةً أولى في طريق تفهُّمها»، وهو يقف عاجزًا أيضًا عن تفسير ما أسمِّيه بالجمال في الطبيعة، وتلك قضيةٌ كبرى، بل القضية التي شغلَتني وتشغلُني حتى الآن!

العلماء يقولون إن الجمال صفةٌ ذاتية ونسبية؛ أي إن الجمال هو ما نُحِس أنه جميل، وإنه يتفاوت وفقًا لنظرة الرائي؛ فما يراه البعض جميلًا قد يراه البعض قبيحًا، وما يراه البعض فائق الجمال قد يراه البعض الآخر متوسط الجمال. ومحاولة بعض العلماء وضعَ قواعدَ أو مبادئَ لتحديد عناصر الجمال، مثل التناسق والتجانس والتناسُب والتناغُم وما إلى ذلك بسبيل، محاولةٌ فيها نظر؛ فلقد نشأَت مدارسُ نقدية حديثة تطعن في هذه الأسس والمبادئ، ووجدنا بعض المذاهب تُدافع عن مبادئَ أخرى تتناقض مع ما ورثناه كله وتكاد تُنكِره. وما إلى هذا الحديث قصدتُ، ولكني أعني أن «أتنبره» يعجِز عن إقامة أي علاقةٍ بين نظريته القائمة على ضرورات الحياة والبقاء والتكاثُر وبين وجود هذا التنوُّع البديع في ألوان الكائنات الحية، وفي أشكالها وأحجامها وحركاتها؛ فهو يقف أمامه حائرًا، مستشهدًا بآراء الفلاسفة والعلماء الذين ينسبون كل شيء إلى الطبيعة، كأنما هي القوة العليا التي يُواجهها الإنسان ويُحاول سبر أغوارها، فينجح أحيانًا ويفشل في معظم الأحيان.

ولكن البقاء والتكاثُر لا يتطلب بالضرورة كل ذلك التنوُّع البديع وكل هذه الألغاز — قطعًا — على نحو ما تشهد به حياة بعض الكائنات البسيطة العاطلة من الرونق والزخرف (بمعنى التعقيد والانسجام). ولا تتطلب الحياة البيولوجية تلك الدرامات الدائبة في حياة الكائنات الحية. ولا أستطيع أن أجد في علم العلماء ما يبرِّر وجود الآلاف المؤلَّفة من أنواع السمك بألوانه الزاهية المنمَّقة. ولا أجد في فلسفة الفلاسفة الغائيين ما يفسِّر الروعة والبهاء الذي تكتسيه الطيور من حولنا بأنواعها التي لا تكاد تُحصى. وأما افتراض نسبة ذلك كله إلى الطبيعة فهو افتراض يقوِّضه التسليم بوجود اللغز الأكبر، وهو اللغز الذي يشهد بوجوده عجزُ العلماء عن تفسير نشأة الحياة.

لا مناص من التسليم بوجود قوةٍ كبرى تتحكم في هذه الكائنات، فتجعل النباتات قادرةً على التهام بعضها البعض، أو التهام الحشرات. وهي نباتاتٌ لا عقل لها (تعريفًا). وهي قادرة على التحلي بألوانٍ رائعة تجذب الحشرات حتى تنقل حبوب اللقاح إلى غيرها، على نحو ما يُبيِّن «أتنبره» في سلسلةٍ أخرى من الحلقات بعنوان الحياة السرية للنبات، The Secret Life of Plants لا مناص من نسبة هذه القوة الكبرى إلى ما يتجاوز الطبيعة التي تتعامل معها حواسُّنا، وندرُسها في المختبرات، ولا مناص من التسليم بمشاركتنا في هذه القوة الكبرى بما لدينا من وعي؛ فالوعي هو في نظري ما يميِّز الإنسان عن سائر الكائنات، وفي ظني أنه الأمانة التي حُمِّلناها، وأبَت الأرض والسموات والجبال أن يحملنها وأشفقن منها.
لقد سبقَنا فلاسفة الأديان إلى طرح هذا الموضوع وأفاضوا فيه. واشتريتُ من جنيف كتابًا ضخمًا يقع في عدة مجلدات عن تاريخ الفلسفة، وعكفتُ عليه وإن لم أنتهِ من قراءته إلا بعد سنوات، فوجدتُ الجميع قد عجزوا عن مواجهة اللغز. وأقرب من عالجه هو أفلوطين وأتباعه ممن يُسمَّون بأنصار الأفلاطونية الجديدة. وتأثيره في رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء واضح، خصوصًا فيما يُسمَّى بنظرية «العقل الكُلي» (أو the universal mind). وهي النظرية التي تفترض وجود عقلٍ واحد للعالم بشتى صوره، ولكن هذا الافتراض لن يصح إلا إذا افترضنا أيضًا تجاوُز هذا العقل للصور المادية للحياة؛ لأن نسبة العقل إلى المادة عسيرة المأخذ؛ ومن ثَم فلا بد من افتراض «العلوية» أو «التعالي» (transcendentalism)؛ أي وجود ما يتجاوز معطيات الحواس، وما تعجِز الحواسُّ إذن عن إدراكه، وإن كان الوعي الباطن يُدرِكه. وأهم ما في هذا الإدراك التسليم بأنه لغز، بل بأنه لغز الوجود الأكبر، فإذا كان منهج العلم الطبيعي عاجزًا عن تبيان حقيقته؛ لأنه منهج لا يعترف إلا بالحواس، فلا بد من التوسُّل بوسائلَ معرفيةٍ أخرى. والمعرفة — كما يقول الفلاسفة — لا تتوسل بمنهج العلم الطبيعي وحده؛ فلها وسائلُ أخرى وأساليبُ متعددة، يشهد بها تُراث الإنسانية الزاخر.
وهكذا رفضتُ دريدا ومذهبه؛ فهو يُحاول أن يُخضع دراسة الأدب والنقد لمنطق العلم الطبيعي، وفي هذا خطأٌ منهجي؛ لأن الفن لا يخاطب العقل وحده، بل يخاطب المشاعر والحس الجمالي أيضًا، وهي مجالات لا ينطبق عليها قانون العلوم الطبيعية؛ فالدراسات الإنسانية تدرُس الإنسان باعتباره كائنًا حيًّا، لا باعتباره من الجماد، والجماد هو مجال دراسة الفيزياء والكيمياء. ومعنى استعارة قوانين العلوم الطبيعية لتطبيقها في الدراسات الإنسانية المزجُ خطأً بين منهجَين متفاوتَين، ومحاولة إرجاع أسباب المشاعر إلى عناصرَ ماديةٍ معناها إنكار الحياة الإنسانية بمعنى الوعي. ولقد كان ذلك من وراء نشأة علم «الظاهراتية» (phenomenology) الذي يجعل مجال عمله وعي الإنسان؛ أي إنه يدرس الحقائق القائمة في وعي الإنسان باعتبارها الحقائق الوحيدة. وإذا كان في هذا إحياء لمذهب الذاتية عند كانط، فلقد أُسيء فهمُه بالعربية بسبب اختلاط الترجمة العربية بمذهبٍ آخر هو الظاهرية (phenomenalism)؛ أي الاقتصار على دراسة الظواهر التي تُدرِكها الحواسُّ وحدها. وللأسف فقد شاع تيار الدعوة إلى تطبيق منهاج العلوم الطبيعية في العلوم الإنسانية بدعوى الاتجاه العلمي أو العلمية، على نحو ما شهدنا في الجامعة من كثرة ترديد كلمة المنهج العلمي بمعنى منهاج العلوم الطبيعية.
إننا نقف حائرين أمام لغز الوجود، وكلما أنعمنا النظر فيه ازدادت حَيْرتنا؛ لأن عقلنا تدرَّب منذ الطفولة على «التعامُل» مع معطيات الحواس. وعندما انخرط الدكتور صمويل، جونسون — الناقد الإنجليزي العظيم ابن القرن الثامن عشر — في حوارٍ مع أحد من يتعاطَون الفلسفة، وادَّعى الأخير أن الوجود نفسه أمرٌ مشكوك فيه؛ لأن إثباته عسير بالمنطق، وتحدَّى الدكتور جونسون قائلًا: «كيف تثبت أنك موجود؟» نهض الدكتور جونسون من مقعده، وركل حجرًا بالقرب من المائدة التي كان يجلس إليها مع أصدقائه، وكانت ركلةً شديدة مدوِّية، قائلًا: «أُثبِته هكذا» (I prove it thus) فأفحم الجميع، ولكنه في الواقع كان يؤكِّد النظرية العلمية المادية التي وُلدَت في القرن السابع عشر، وترعْرعَت في القرن التالي، ووصلَت إلى ذروتها في أواخر القرن التاسع عشر عندما أصبح التفسير المادي لجميع الظواهر مهما تكن هو المنهج العلمي الوحيد، أو قل المنهج العلمي المقبول. وكانت أوجه التقدُّم في العلوم الطبيعية، ومن بينها، أو قل وعلى رأسها الطب، إلى جانب المكتشفات والمخترعات الحديثة، خير سند ودعم لذلك المنهج، ولكن مولد علم النفس، وخصوصًا مولد التحليل النفسي الذي أحكم صناعتَه سيجموند فرويد، كان جرس إنذار نبَّه العلماء والفلاسفة إلى وجود مناهجَ أخرى — أو على الأقل — إلى احتمال ألا يكون ذلك هو المنهج العلمي الوحيد.
وقرأتُ في جنيف كتابًا كاملًا عن حياة فرويد بعنوان فرويد: حياة لهذا العصر (Freud: A Life for Our Time) كان قد صدَر عام ١٩٨٩م، من تأليف بیتر جاي Peter Gay، ويقع في أكثر من ثمانمائة صفحة. وتوقَّفتُ طويلًا عند مفهومه للَّاوعي (The unconscious) الذي كان يُسمَّى العقل الباطن (The subconscious) وكيف طوَّر نظرية أستاذه برویر Breuer ثم انفصل عنه، مُفضِّلًا وضع نظرياته الخاصة. ودهِشتُ لأن ما كان فرويد يرمي إليه من إنكار الدين قد أدَّى في الواقع إلى إثباته بلغة العصر؛ أي بلغة منهج العلوم الإنسانية الجديد، وهو منهج الاستقراء والتأمُّل والتحليل، لا بمنهج العلوم الطبيعية، وهو منهج التجريب المعملي والمحاولة والخطأ، وصولًا إلى إثبات صحة الفروض، وتحويلها إلى نظرية عامة قابلة للتطبيق في جميع الأحوال.
لقد نشأ التحليل النفسي في كنف التنويم المغناطيسي، وقد أدركت سر التسمية العربية التي ترجع نشأتها إلى العالم النمسوي مِزْمر Mesmer المتوفَّى عام ١٨١٥م؛ إذ كان يُسمِّي القوة الباطنة في النفس قوة الانجذاب الحيوي (animal magnetism) وقد ترجمَها آباؤنا بالمغناطيسية الروحية أو الحيوية. وعندما سادت مصطلحات التنويم hypnosis أو النوم، وضع المعرِّبون مصطلحًا جديدًا يجمع بين كلمة التنويم وكلمة المغناطيس القديمة، ولهم العذر في ذلك؛ إذ كان مِزْمر يجهل طبيعة تلك القوة التي استعملها في علاج المرضى، ويظن أن لها علاقةً بظاهرة المغناطيسية، بل كان يضع في غرفة الكشف الطبي وقاعة العلاج مغناطيسًا كبيرًا مزودًا بقضبانٍ حديدية يتصوَّر أنها تساعد في التغلغل إلى النفوس، ولكن فرويد توصَّل بعد جهودٍ دائبة إلى حقيقة وجود تلك الأصقاع الخفية في النفس (أو العقل mind) وكان يُسمِّيها the hinter land أي البقاع الخلفية. وخرجتُ من دراستي لكتابٍ آخر عن التنويم المغناطيسي (بهذا العنوان نفسه) إلى أن بحوث فرويد، على ما بها من مظاهر المنهج العلمي الحديث، أدَّت إلى الإتيان بما يستعصي على هذا المنهج نفسه، وهو إثبات وجود مستوياتٍ للوعي تَدِقُّ وتبتعد عنه حتى يمكن القول بأنها (لاوعي) أو بأنها تُمثِّل وعيًا من نوعٍ آخر لا يمكننا أن ننسبه إلا إلى الروح، وهي طاقةٌ غير بيولوجية، لا يشاركنا فيها غيرُنا من الكائنات الحية.
ولقد تأكد وجود هذه المستويات الباطنة، وتعدَّدَت أسماء العلماء الذين بحثوها فأفاضوا في بحثها، وطبَّقها ف. ل. لوكاس F. L. Lucas في كتابه عن تدهور المثل الأعلى الرومانسي وسقوطه (The Decline and Fall of the Romantic Ideal) فأثبت أن الشعراء الرومانسيين يستقون إلهامهم من أعماق الوعي. كما طوَّر العلامة كارل جوستاف يونج (Carl Gustav Jung) هذا المفهوم بحيث أصبح لا يقتصر على الفرد بل يشمل الجماعة. وكان أن وضع نظرية الوعي الجماعي واللاوعي الجماعي، ثم نظرية الأنماط الفطرية (archetypes) المعروفة. وانتهى من بحوثه إلى أن وجود الروح يقطع بوجود الله، وهو ما جعل «العلماء» يتهمونه بالتصوف بالمعنى العام؛ أي بما يُسمَّى (mysticism) ومعناه الحرفي الإيمان بوجود قوةٍ روحية خفية. وأما المعنى الاصطلاحي فهو يقترب من التصوف الديني؛ ومن ثَم أصبح منبوذًا في عصر سادَتْه مناهج العلوم المادية.
وخرجتُ من ذلك كله وغيره إلى أننا أصبحنا نواجه أكثر من منهجٍ علمي واحد، وأن المنهج المادي القديم الذي لم يكن يعترف إلا بقوانين المادة التي «تتعامل» الحواس معها بأسلوب الدكتور جونسون، لم يعُد المنهج الأوحد، وأنه قد أصبح علينا أن نثق في قدرة الفرد على التأمل الداخلي وصولًا إلى الحقائق التي يصعب على المنهج العلمي المادي أن يصل إليها، وقد يتخذ هذا التأمل صورة «الاستبطان»؛ أي introspection ولكن الاستبطان وسيلة من وسائلَ عديدة، منها تأمُّل الفن، فلماذا تُرانا نُسَرُّ أو نهتزُّ لسماع الموسيقى، ولماذا نبتهج لمرأى المناظر الطبيعية أو اللوحات الجميلة، ولماذا نطرَبُ للشعر الرائع، ولماذا نسعد برؤية الرقص والمحاكاة في الفنون التمثيلية؟ إن تحليل الأعمال الفنية يقف عند خواص فن الصنعة، ولكنه يفشل دائمًا في تفسير علاقة فنون الصنعة بالسرور أو الطرب! أي: لماذا نسعَد بالاستعارة والتشبيه؟ لماذا نُسَرُّ عندما نقرأ أن الربيع الطلق يختال ضاحكًا؟! لن تفلح شتى أساليب التحليل في بيان أسباب السرور، مهما يكن من حذق «المحلِّل» المحترف! وعندما حاولَت كارولين سبيرجون (Spurgeon) إرجاع السرور الذي ينتاب الإنسان عند سماع التعبير الاستعاري إلى إحساسه بالقوة الواحدة التي تجمع بين الكائنات جميعًا، على مستوًى بالغ العمق من مستويات الوعي، كانت في الحقيقة تقدِّم نظرة فلسفية قديمة عن أسلوب أو منهج من مناهج النفس (أو العقل) الإنساني، وهو ذلك المستوى الذي لا نجد له في اللغة إلا لفظ «الروح».
ونحن لا سبيل لنا إلى معرفة الروح، بل إن الروح نفسها استعارة من الريح، وهي استعارة في العربية مثلما هي استعارة في جميع لغات العالم القديمة والحديثة، ونحن لا ندرك إلا آثارها أو ظواهرها — كما يشي بذلك عنوان كتاب هيجيل (Hegel) الشهير الذي يركَز فيه تركيزًا شديدًا على الاستعارة — والعنوان هو ما تُرجم بالعربية إلى ظاهريات العقل أو (Phänomenologie des Geistes)، ويخرج منه بما يُسمِّيه المطلق (The Absolute)؛ أي ذلك الذي يمنح التوحُّد أو الوحدة ويُبرِز الحقيقة، وهو في ذاته الوحدة والحقيقة. وإذا كان المعنى المباشر للمضاف إليه في العنوان هو العقل، فإن من المعاني المتصلة به والمُوحَى بها معنى النفس أو الروح. والاستعارة هنا أساسية؛ فنحن لا نستطيع التعبير بلغة تُحيلنا دائمًا إلى المادة إلا عن طريق إطلاقها على سبيل الاستعارة على ما لا نستطيع أن ندركه أو أن نفهمه، ومن ذلك الروح بطبيعة الحال.
ولكن الحس الجمالي أو الفني منهج من مناهج، وهو — رغم أنه طاقةٌ فطرية يتميَّز بها الإنسان عن سائر الكائنات — يحتاج إلى ما يُسمَّى بالتنمية باللغة العربية المعاصرة. وقد تتفاوت حظوظ البشر من هذه الطاقة، ولكنها في حاجة دائمًا إلى الدربة والمران. وكذلك الروح، حيث تتفاوت حظوظ البشر من النشاط الروحي؛ فهم دائمًا في حاجة إلى تنمية هذا النشاط سواء كان ذلك عن طريق ممارسة الشعائر الدينية وذلك هو طريق العامة؛ إذ تنهض هذه الشعائر — كما تقول كارين أرمسترونج في كتابها معارك في سبيل الإله (The Battle for God) — بمهمة تنشيط الإحساس بروح الوجود ووجود القوة العليا أو العلوية، أو كان ذلك عن طريق التعمُّق في معنى الروح والوجود الروحي الذي يختلف فيه الإنسان عن سائر الكائنات. وقد يتوسل الفرد في سبيل ذلك بمنطق العقل والنفس منا، وهو الأفضل، أو يزاول التأمُّل بأحد المناهج المتاحة له، فيزداد نشاطه الروحي، بمعنى يقظة النفس التي تهَب الوجود معنًى، وتربط الموجود بسائر الموجودات.

لقد كانت الأسابيع التي قضيتُها في جنيف مع هذه الكتب وهذه التأملات فرصةً أولى (تكرَّرَت فيما بعدُ) لتأمل ما أسمِّيه «المعنى»، وقد يُسمِّيه البعض «الدلالة» أو «المغزى»، ولكنني أفضِّل الكلمة الأولى على غموضها؛ لأنها أقدَر على إقامة الصلة بين الوجود المادي والوجود المعنوي، وأقدَر على إيضاح مرامي الإنسان في سعيه الدائب لتحقيق غاياتٍ بعضها زائل وبعضها باقٍ، وما يبقى منه إلا المعنى؛ أي قيمة ما علَّمه للناس ولنفسه، ومدى جهده في تنمية الطاقة الفطرية التي وُلِد بها، وهي الطاقة التي اختُص بها من دون الكائنات كلها حيةً وجامدة.

٣

وفي منتصف نوفمبر اتصل بي الدكتور محمد حمدي إبراهيم، عميد الكلية، وأنا في جنيف، وسألني عن موعد عودتي، وقال إن الدكتور حمودة قد سافر في إعارة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة ولم يعُد للقسم رئيس، وهو يتعرَّض لضغوط، وعليه تعيين رئيسٍ جديد، وأكَّدتُ له أنني قادم في آخر الشهر. وعندما وصلتُ وجدت قرار رئيس الجامعة آنذاك، الدكتور مفيد شهاب في انتظاري! كان تعييني رئيسًا للقسم معناه الانشغال بالأعمال الإدارية، ولكن الدكتور حمودة كان قد انتهى من كل شيء في الشهرَين السابقَين، ولم يكن أمامي سوى التصدي للطوارئ! ولما كنتُ لا أشارك في التدريس، فقد خصَّصتُ كل وقتي للقراءة. وصَحَّ عزمي على إعداد مُعجَمٍ موجز للمصطلحات النقدية الحديثة، فأعدَدتُ البطاقات اللازمة، والمقتطفات التي ترجمتُها من أقوال النقاد. كما عُدتُ إلى معجم المختصرات الذي كنتُ بدأتُه قبل أزمة المرض، فأكملتُه أو حاولتُ استكماله. وكنتُ أستعين في المراجعة والنسخ بالزملاء وطلاب الدراسات العليا. وفي يناير ١٩٩٤م فازت ترجمتي الشعرية لروميو وجولييت في معرض القاهرة الدولي للكتاب بجائزة أفضل كتابٍ مُترجَم لعام ١٩٩٣م، وبتكريم السيد الرئيس للمرة الثانية (وكانت الأولى عام ١٩٨٦م، عندما أنعم عليَّ بوسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى).

قلت في نفسي لقد عُدتُ إلى الحياة، وما إن انتهى المعرض حتى جاءني سمير سرحان باقتراح مشاركته في كتابة عرضٍ مسرحي عن علي باشا مبارك، فأتيت بكتاب الدكتور محمد عمارة عنه، وببعض ما كتبه المؤرخون الراسخون، مثل الدكتور رءوف عباس، وقرأتُ وقرأت، وفي غضون شهرَين اكتملَت المسرحية! وتعدَّدَت لقاءاتي مع سمير للتعديل والإضافة والحذف، ثم جاءني عرضٌ للسفر في يونيو للعمل في جنيف، فطِرتُ فرحًا، واصطحبتُ معي هذه المرة مسوَّدات مسرحية الدرويش والغازية، وعندما عُدتُ إلى مصر كانت المسرحية قد اكتملَت.

وكانت في صورتها الأولى تستوحي خيطًا فكريًّا واحدًا هو الاحتيال (وكان النموذج الحي له هو شركات توظيف الأموال والنصب على المواطنين)، وما شاع في المجتمع من خداع — بصفةٍ عامة — باسم الدين، فإذا كان قد ظهر في الستينيات مزايدون على الاشتراكية، وكانت مواجهتُهم يسيرة لأنهم — من منطق مزايداتهم نفسها — يقعون في أخطاءٍ علمية يسهُل دحضُها وكشفُها، فإن التصدي للمزايدين على الدين كان عسيرًا (ولا يزال) لأن المواجهة تأتي لصاحبها بتهمة الكفر، وما أيسر أن ترمي بها خصومك، فتتسبَّب في إهدار دمك! والأخطر من ذلك أن يتحول الكلام والفكر إلى مناقشة مسائلَ دينيةٍ يندُر أن يُحيط المزايدون بدقائقها، ويصعُب حتى على من يتصدَّى لها أن يدحضَها بالمنطق العقلاني! فالتفسيرات تتكاثر بلا نهاية، والنصوص المقتبَسة فيما يُسمَّى بالخطاب الديني يصعُب إثبات صحتها أو نسبتها إلى قائليها، بل وتفسيرها إذا كانت صحيحة! وعندما ذهبتُ إلى عبد الرحمن الشافعي، المخرج العبقري، في المسرح العائم بالجيزة (الذي أصبح اسمه مسرح النيل) وعرضتُها عليه، أعجَبه النص وقرَّر إخراجه فورًا، واطمأن قلبي إلى أن النص سوف يُقدَّم حتى أتفرغ لنصٍّ جديد. وتلك — كما سبق أن ذكرتُ — من آفات الكتابة المسرحية؛ أي إن الكاتب لا يستطيع التركيز في نصٍّ جديد حتى ينتهي مما في يده، كأنما كان النص الذي لم «يتحقَّق» على خشبة المسرح شبحًا يقُضُّ مضجعه ليلًا ونهارًا.

وسرعان ما تردَّد في الوسط الفني، وجود مسرحيةٍ جديدة لي في الثقافة الجماهيرية، وبدأَت التساؤلات والاتصالات والمقابلات. وكنتُ آنذاك قد بدأتُ الخروج إلى المسارح ولو على نطاقٍ ضيق خشية حدوث نكسةٍ صحية، وما كان أشدَّ دهشتي حين ذهبتُ إلى قاعة منف القريبة من منزلنا لأشهد عرضًا لمسرحيتي المجاذيب تقدِّمه إحدى فرق الثقافة الجماهيرية، وكانت معي زوجتي نهاد، فوجدتُ «حسن» المخرج بين المتفرِّجين! وتبادلنا التحية المقتضبة بالأيادي، ثم جاءني بعد العرض، وأعطاني رقم تليفونه، وطلب مني الاتصال لأمرٍ هام! وقابلتُه في اليوم التالي، فقَصَّ عليَّ قصة لم أكن أتوقعها!

قال حسن إنه كان قد استقر للعمل مدرسًا في معهد للفنون المسرحية بإحدى البلدان العربية بعد ازدهار شركته، وحاجته إلى «عنوان ثابت» — و«مكانةٍ اجتماعيةٍ رفيعة» — وكان ذلك «المعهد» لا يزيد عن كونه قسمًا للإلقاء في إحدى كليات الجامعة، ولم يكن له مكانٌ ثابت؛ فهو — مثل مراكز اللغات والترجمة في الجامعة — كيانٌ معنوي فحسب! ولكنه عمل على اجتذاب طلابٍ كثيرين من الذين يريدون العمل بالإذاعة والتليفزيون في مسلسلاته وبرامجه الدينية، وساعدَه منهجه الإسلامي (على حدِّ وصفه له) في ترسيخ ما يسعى إلى إنشائه مما يُسمِّيه بالمسرح الإسلامي، فاستطاع في أقلَّ من عام أن يثير ضجةً إعلامية وإن كنا لم نسمع بها في مصر.

واستمَر حسن يحكي لي عن تفاصيل عمله وحياته، فقال إنه قدَّم ذات يوم برنامجًا إسلاميًّا بالإنجليزية في تليفزيون ذلك البلد العربي، وبعد أيام جاءته مكالمةٌ تليفونية من امرأة تتحدث الإنجليزية بلهجةٍ أجنبية، وظنها من أهل البلد فالتزم الحرص في حديثه، وأكثر من الحوقلة والبسملة، ولكنها سألَتْه سؤالًا محددًا: ما تَحِلَّة أيمانٍ حُلفَت وحُنِث بها؟ فأجابها، فقالت: فأنا لا أستطيع إطعام المساكين لفقري، ولا أستطيع الصوم بسبب ضعف صحتي، فقال لها إذن لا تحنثي بيمينٍ حَلَفتيه! فقالت ولكني لا بد أن أحنِث! فتعجَّب وسألها عن السبب فقالت إنها صومالية مليحة الوجه ولكنها سمراء قائمة السواد، وتُحب شابًّا لبنانيًّا أزرق العينَين من المحال مقاومة سحره، وقد أرغمها رئيسها في العمل (وهو عربي) على أن تُقسِم على الانفصال عنه! فأقسمَت، ومن تلك اللحظة لا تستطيع النوم، وأصابها الهُزال، وتريد أن تعود لحبيبها! قال حسن: «نصحتها بأن تقاوم نزعات النفس الأمَّارة بالسوء، ومثَّلتُ أروع أدواري بالتليفون وأنا أقدم المواعظ وآيات الرشاد، ولكن صوتها كان ساحرًا، ودافئًا عميقًا، يخلو من «سرسعة» بنات جنسها، فأطلتُ المكالمة عامدًا، فكشفَت عن المزيد من تفاصيل حياتها، وقالت لي في النهاية إن رئيسها هدَّدها إذا لم تترك اللبناني فسوف يفصلها من العمل هي وزوجها! وصُعقتُ! وقلتُ لها أنت تريدين التكفير عن يمين حَلَفتيه وأنت ترتكبين الفاحشة! فأنكَرَت وقالت إنما هو حبٌّ مثالي (idealist) وربما كانت تقصد «حبًّا بريئًا»، ولكنني أصررتُ على أن تترك حبيبها، وقلتُ لها إنكِ على شفا حفرة من النار، ووضعتُ السماعة.»

وقال حسن إنه تصور أنه قد أرضى ضميره، وقدَّم أثمن نصيحة، ولم يكن يدري ما يُخبِّئه القدر؛ إذ استدعاه عميد الكلية، وقال له إنه سمع عن علاقته بإحدى الفتيات، وليس ذلك بمستحب، وإنه لم يصدِّق ما سمع ولكنه يحذِّره من مخاطبة أي أنثى وإلا … وخرج حسن وهو يعجَب من الشائعة وكيف ظهَرَت ومن وراءها؛ فليس تليفونه مُراقَبًا، ولا همَّ له في الواقع إلا العمل وجمع المال، فإذا كانت الصومالية هي مصدر الشائعة فلا بد أن ينتقم منها، وجعل يكيل الشتائم لها في خياله، ويلعن الساعة التي ردَّ فيها على التليفون. وبعد أسبوعَين كاد أن ينسى «الواقعة» فيهما، جاءه طالبٌ أزرقُ العينَين، وقال إنه يريده في أمرٍ هام، ولم يجُل بخاطر حسن أن يكون ذلك الطالب «الصغير» هو حبيب الصومالية! ولكن الطالب تحدَّث فأطال، وقال له ما معناه إن الصومالية مُغرَمة به (أي بحسن) وإنها اتخذَت من حادثة الحِنث باليمين ذريعةً لمحادثته لا أكثر، وإنها باختصارٍ تريد أن تراه، وإنها اتصلَت بالكلية لتسأل عنه بعد أن لاحظَت عدم ردِّه على التليفونات. وانتهى الطالب إلى تبرئة نفسه من أي تكدير يكون قد تعرَّض حسن له؛ فهو أستاذه الذي يُحبه ويحترمه.

وقال حسن في نبراتٍ تفيض أسًى وألمًا: «وهكذا وجدتُ نفسي رغم أنفي في حبائل امرأةٍ أجنبية، قد تكون صالحة وقد تكون غير ذلك، وكان البرنامج التليفزيوني فيما يبدو هو السبب! أحسستُ أنني معزول عن الدنيا دون ذنبٍ جنَيتُه، ولم أعُد أستطيع التمييز بين الحقيقة والخيال، وغدوتُ أتساءل إذا كانت القصة التي روَتْها الصومالية صحيحة، بل إذا كان ما رواه الطالب صحيحًا، وشعرتُ — وربما كنتُ مخطئًا — أن هناك رقابةً مفروضة عليَّ من طرفٍ خفي. ولما كنتُ لم أشاهد تلك الفتاة في حياتي، فقد أصبحتُ أستريب بكل امرأةٍ تنظر إليَّ خصوصًا إذا كانت سمراء قائمة السواد، وأما إذا كانت تخفي وجهها الأبنوسي بلثامٍ أو بما يوازيه فكان يُخيَّل إلى أنها إذا رفعَت النقاب فسوف أواجه مصيرًا أسود، وكثيرًا ما كانت السيارات تقف إلى جوار سيارتي — على نحو ما يحدث في زحام المرور — فألتفت لأتبين فجأةً وجهًا أسود كأنه وجه القدَر المتربص بي، فأُشيح بوجهي خشية أن ألمح بسمةً أو أسمع كلمة، رغم الزجاج المغلَق والرجل الجالس إلى جوارها!

ولم أحتمل أن ألقى مصير دافيد — وهو مدرس بريطاني (من ويلز) لمادة إلقاء اللغة الإنجليزية (elocution) بالمعهد — الذي تلقى إنذارًا بالطرد في غضون أربع وعشرين ساعة، بعد أن ثبَت للسلطات الجامعية أنه ذو ميولٍ جنسيةٍ مثلية، وأنه كان يتقاضى نقودًا في مقابل خدماته. والحق إنني كنتُ أشك فيه، ولكن انشغالي بالعمل وكثرة تنقلاتي لم يتيحا لي أن ألحظ سوى بوادر وظواهر، وكنتُ أردِّد في نفسي ما نقوله في مصر خلق الله في ملك الله، ولكن وجود الطالب اللبناني كان يذكِّرني بالصومالية، وكثيرًا ما كنتُ أرسم لها صورةً في ذهني. ولم يمضِ أسبوع حتى قدَّمتُ استقالتي من المعهد.»

وسألتُ حسن إن كان قد عاد إلى مصر قبل عام، ولماذا لم يتصل بي، فقال إنه كان يُحِس بالذنب تجاه زوجته السابقة وابنته التي كبِرَت، فعاد إلى مصر ليجد أن زوجته قد أصيبَت بمرضٍ مزمن، فقضى شهورًا طويلة في علاجها حتى تحسَّنَت حالتها ولكنها لم تعُد قادرة على العمل؛ إذ كست وجهها الغضون وجحظَت عيناها، واقتصَرَت على المشاركة في التمثيليات الإذاعية حتى تكفل لنفسها ولابنتها العيش الكريم، فاشترى لهما شقةً في وسط البلد حتى تكون زوجتُه قريبة من عيادة الطبيب الذي يُشرِف على علاجها، وأدخل ابنتَه مدرسةً أجنبية مصاريفها باهظة، كأنما ليُكفِّر عن إهماله لها طيلة تلك السنوات.

وعاتبتُه لعدم السؤال عني، فقال إنه سأل بالفعل عني، وقيل له إنني في جنيف، ولكن هموم حياة الأسرة ابتلعَتْه، ثم أطرق لحظة قبل أن يقول: «نحن بخير الآن والحمد لله، ولكن بريق الحياة انطفأ! ولك أن تتصور ما يفعله المرض في نفس الإنسان ونفس ذويه! ولقد تابعتُ نشاطكَ وشاهدتُك أكثر من مرة في مسرح الطليعة، ولكنني كنتُ كمن يمنعه الألم لما أصابك من الحديث إليك! ولولا أنك رفعتَ يدك إليَّ بالتحية أولًا لتردَّدتُ في الحديث إليك بالأمس!»

كنا نجلس في غرفتي بالكلية، وقد أغلقتُ الباب، وأعلنتُ أن لديَّ اجتماعًا خاصًّا، ولم يكن يُسمَح بفتح الباب إلا للفراش «نجاح» الذي كان يحضر الشاي والقهوة، أو يخبرني عمن يريد مقابلتي. ولم أكن أريد مفارقة حسن ذلك الصباح، لكنه نهض ووعدني بالاتصال في وقتٍ قريب، قائلًا إنه ربما سافر في مطلع العام إلى أمريكا مع أسرته لعرض زوجته على أحد الأطباء، وإنه لا بد أن يقابلني مرةً ثانية ليعرف أخباري، وما صار إليه أمر الدرويش والغازية. وخرج حسن ولم أسمع أخباره إلا بعد سنوات.

كنا في موسم الامتحانات والصيف حار، والطلاب يتعجَّلون إعلان النتائج، وكنتُ مشغولًا بمشروعٍ جديد تنهض به هيئة الكتاب هو مكتبة الأسرة؛ إذ كلفني سمير سرحان بإعداد مختارات لشوقي وحافظ، فذهبتُ إليه بها، وقضَينا ليلتَين في الانتقاء والمفاضلة. وكانت سميرة عرابي، مديرة المطابع — رحمها الله — عنيدة؛ إذ حدَّدَت عدد الصفحات بما لا يزيد على ١٢٠ صفحة. وكنتُ أحاول التوسع وسمير يقول إننا محكومون بالميزانية، ثم صدرَت مختارات شوقي ونفدَت في أيام، وصدَرَت مختارات حافظ، لكنها لم تنفَد إلا في آخر الصيف!

٤

في خريف ١٩٩٤ عُرضَت مسرحية صباح الخير يا وطن عن علي مبارك، وكتَب عنها النقَّاد كلامًا طيبًا باعتبارها مسرحيةً تعليمية، ولكن الجمهور لم يعرف الطريق إليها. وكان فهمي الخولي، المخرج المبدع، الذي أخرجها، في أسوأ حالاته. وقالت لي نهاد صليحة — بصفتها ناقدةً محترفة — قولةً أعتز بها «الأفضل أن تنسى هذا العمل تمامًا؟» قالت ذلك بالإنجليزية، فوجدتُ في قولها حُكمًا رحيمًا بالعرض، وحاولتُ أن أنساه، ولكن ذكرى كتابته وإخراجه جعلَتني أثبته في الواحات! وأنا لا أنسى بسرعه، وذاكرتي ليست انتقائيةً مثل ذاكرة نهاد، بل هي تختزن الكلام والصور وتصنِّفها وتُبوِّبها، ثم تُعيد التصنيف والتبويب! وهذا هو ما كنتُ أفعله بالمادة العلمية عن المصطلحات الأدبية الحديثة، التي وضعتُها في البطاقات، وعكفتُ عليها تصنيفًا وتبويبًا، في نزوة من نزوات العمر، في ديسمبر ١٩٩٤م ويناير ١٩٩٥م! كنتُ أعمل طول اليوم، لا أدري من أين آتي بالطاقة، بل ولا أدري إن كنتُ على صواب أم خطأ، ولكنني كنتُ أعمل فحسب، من الصباح الباكر حتى الظهيرة، ثم في المساء حتى يغلبني النُّعاس. وفي غضون شهرَين كانت المادة قد قاربَت الاكتمال، وأنا أكتب بالقلم على الورق، لا على الآلة الكاتبة أو الكمبيوتر. وعندما اكتمل النص عرضتُه على نهاد فاقترحَت إضافة فصلَين، ففعلتُ ذلك. وفي مارس ١٩٩٥م حمَلتُ النص إلى مكتب الكمبيوتر، فانتهى منه في أسبوع، وفي أبريل حملتُه للشركة المصرية العالمية للنشر — لونجمان!

كانت تلك الشركة قد طبعَت لي كتاب فن الترجمة عام ١٩٩٣م، وصدَرَت الطبعة الثانية منه في عام ١٩٩٥م، وكان في مصر بيار صايغ، ابن أخت صاحب الشركة خليل صايغ، والمدير المالي، الذي رحَّب بالكتاب. وبدأ الأستاذ وجدي رزق غالي، رئيس تحرير المطبوعات العربية بالشركة، في تحرير النص. كانت المادة التي جمعتُها تنقسم إلى قسمَين؛ القسم الأول يضُم المصطلحات نفسها، وهي لا تمثِّل إلا معجمًا محدودًا يتبع نظام المقالات أو التعريفات لا الترجمة النهائية؛ إذ لم أكن من أنصار فرض ترجمةٍ ما، مهما تكن جذَّابة، على الدارسين، بل كنتُ ولا أزال أحبِّذ مناقشة الترجمات المتاحة وتفضيل بعضها على بعض، فإذا كانت جميعُها لا تفي بالغرض في نظري اقترحتُ ترجمةً أو ترجماتٍ أخرى. وأما القسم الثاني فهو يمثل مقدِّمة أتناول فيها المدارس الحديثة التي أتت بتلك المصطلحات. وكنتُ أعجب للحماس الذي دفعَني إلى جمع تلك المادة وتنظيمها وتبويبها بتلك السرعة، وأخشى أن أكون قد أخطأتُ هنا أو هناك؛ فمراجعي كلها إنجليزية، والمادة لها أصولٌ ألمانية وفرنسية كثيرة، ولكن الحماس جرفَني، وكنتُ أُطلِق على الكتاب وصف النزوة. وكان صديقي ماهر شفيق فريد يضحك من التسمية، ويقول ما أحوجَنا إلى هذه النزوات!

وفي الصيف اتصل بي المخرج اللامع فاروق الدمرداش، صديقي منذ الستينيات، وطلب مني نسخةً من ترجمة يوليوس قيصر لتسجيلها لمحطة الإذاعة البريطانية، وقال إنه سيحاسبني بأسعار الإذاعة المصرية (البرنامج الثاني الذي أصبح البرنامج الثقافي)، فأكَّدتُ له أنني لا أكترث للحساب! وضرب لي موعدًا في الإسكندرية في مدخل مسرح سيد درويش، فذهبتُ أنا ونهاد وسارة، وقابلناه، وأخذتُ له النص المطبوع ليوليوس قيصر، إلى جانب ترجماتي لحُلم ليلة صيف وروميو وجولييت وتاجر البندقية، ولكنه قال إنه يريد الأولى فقط، وقال إنه سينظر في الثلاثة الأخيرة، وقدَّم فاروق الدمرداش نص يوليوس قيصر مسجلًا بأصوات المصريين في اﻟ B.B.C فلاقى الاستحسان، مما دفعه إلى تسجيل النصَّين الثاني والثالث. وأما تاجر البندقية فلا يجرؤ أحدٌ حتى الآن على تقديمها في العالم العربي بسبب حساسيتها السياسية.

فعندما صدرَت الترجمة عام ١٩٨٨م، وكِدتُ أطير بها فرحًا، تحمَّس لإخراجها المخرج عبد الغفار عودة، وحاول تقديمها على أي مسرح في مصر، ولكنه كان يُقابَل بكلماتٍ معسولة، ثم ينتهي الأمر إلى لا شيء. وعندما تولَّت الدكتورة هدى وصفي إدارة المسرح القومي تحمَّسَت لإخراج المسرحية، وكاد العمل أن يبدأ فيها، ثم رأى المخرج المبدع فهمي الخولي تحويل النص إلى اللغة العامية وكلَّف السيناريست الشهير رفيق الصبان بتحويله إلى العامية، ثم تعثَّرَت المسرحية ولم تَرَ النور لأسبابٍ غامضة. وفي مطلع التسعينيات كان الباحث السوري حيان الساعي يعمل في رسالة الدكتوراه في إنجلترا عن ترجمات شيكسبير، وانتهى إلى أن تاجر البندقية التي ترجمتُها أفضل الترجمات، مما دفع بعض أبناء سوريا إلى محاولة تقديمها على المسرح — ثم توقف المشروع! وعندما زارت إحدى الفرق الإنجليزية مصر، وحادثت مساعد المخرج «دونالد يورك» عن جرأة لورانس أوليفيه في إخراجها ضحك، وقال: «ولكن السير لورانس تدخَّل في النص … إنه غشَّاش!»

تُرى هل يتمتع المسرح بكل هذه القوة؟ ولنفرض أن شيكسبير يسخر من يهوديٍّ مُرابٍ أثيم، فهل يعني هذا أنه يهاجم اليهود كلهم أو الدين اليهودي؟ لقد ذهب بعض النقاد إلى أن السخرية تتضمن في الواقع إشفاقًا عليه، أو استثارةً للإشفاق على مصيره؛ إذ أُرغم على اعتناق النصرانية وصُودرَت جميع أملاكه! ومهما يكن من أمر أفلا يمكن اعتبار ذلك كله حدثًا مسرحيًّا يدور في عالم بعُد به العهد، واختلفَت أحواله عن عالمنا؟ هل من المحتوم في المسرح «إسقاط» أحداث النص على وقائع الحياة المعاصرة؟

وسافرتُ في الصيف إلى جنيف، وجاءَتْني مكالمة من باريس، وكان المتحدث هو محمود القيعي، رئيس القسم العربي في اليونسكو، الذي دعاني للعمل بالترجمة في المؤتمر العام للمنظمة في نوفمبر! العودة إلى باريس إذن! لكنني كنتُ هذه المرة صحيح البدن، فسِرتُ في الشوارع أنشقُ هواء الخريف الجميل، وزُرتُ جميع الأماكن التي كنتُ أحلُم بزيارتها. وذات ليلةٍ مقمرة هبَبْتُ من نومي مفزوعًا؛ إذ تذكرت عمر نجم — صديقي الشاعر الذي اختطَفه الموت وهو في ريعانه! وكتبتُ دون تردُّد قصيدةً بالعامية المصرية وغفَوْت. وكان التليفزيون ذا صوتٍ خفيض ساعدني على النوم، وفي نحو الثالثة صباحًا سمعتُ المذيع يقول إن إسحاق رابين، رئيس وزراء إسرائيل وصانع السلام مع عرفات، قد قُتل!

وضاع النوم من عيني، ومكثتُ في الغرفة أنظر من الشباك حتى عادت الحياة تدبُّ في الطريق، وكان الرذاذ يضفي على ضوء الصبح مسحةً حزينة كأنه عبراتُ ثاكل. وذهبت إلى العمل قبل موعد «الواردية»، وأنا ممزَّق النفس مهتاجًا، أحاول التسرية بالعمل فيأبى العمل تسريتي. وعندما انتهى النهار انطلقتُ أسير وأسير حتى غربَت الشمس، ذاهلًا عن كل ما حولي؛ فمدينة باريس — كما يعرف كل من زارها — عالمٌ كامل، لا يطلب المرء فيه شيئًا إلا وجده! واتجهتُ إلى الفرع الباريسي لمكتبة W. H. Smith الإنجليزية، فاشتريتُ المزيد من كتب النظرية الحديثة في النقد، الصادرة في ذلك العام أو أوائل التسعينيات. ووجدتُ مغالاة في أسعار الكتب فأخبرتُهم أني عضو في اتحاد كتاب مصر، وفعلًا خصموا ٢٠٪ من الفاتورة الكلية، فلم أدفع سوى أربعة آلاف فرنك.

ووجدتُ في الكتب الجديدة ما يقتضي بعض التعديل في كتاب المصطلحات، وأردتُ إضافتها فسمح لي الأستاذ وجدي، وهو علَّامة نحرير، له من المعاجم ما يشرِّف أي مصري. وانقضى عام ١٩٩٥م وقد انتهيتُ أيضًا من إصدار كتابٍ ضخم بالعربية، بعنوان من قضايا الأدب الحديث، يضم مقالاتي المتفرِّقة التي نشرتُها منذ الستينيات، إلى جانب ما وجدتُه في مكتبي من دراسات لم يُكتَب لها أن تُنشر من قبلُ. وفي شتاء عام ١٩٩٥-١٩٩٦م طلَب مني انتصار عبد الفتاح (المخرج والموسيقي النابه) إعداد نصٍّ مسرحي مُوجَز لمسرحية الملك لير لشيكسبير، ففرحتُ بالتكليف، وأحضرتُ كشأني دائمًا شتى طبعات المسرحية، حتى أسترشد بالشروح وآراء النقَّاد، وانهمكت في العمل. وعندما انتهيتُ من الترجمة المنظومة للنص، كانت بوادر الصيف قد حلَّت. وبدأ انتصار يستعد لتقديم عملٍ مسرحي موسيقي، تحاشيتُ فيه أخطاء العمل الموسيقي القائم على روميو وجولييت قبل أكثر من عشر سنوات، بل ركَّزتُ على التيمة الرئيسية في النص، فقرأ المخرج ما كتبتُه، وطلب الاطلاع على العمل الكامل حتى يكتمل لديه التصور، وبدأ تجاربه المسرحية.

ولكن عام ١٩٩٥م لم ينقضِ دون أن تعود الحياة «بقدرة قادر» إلى مسرحية الدرويش والغازية؛ إذ اتصل بي المخرج حافظ أحمد حافظ من الثقافة الجماهيرية، وقال إنه شديد الإعجاب بالنص، وقد حدَّد أسماء الممثلين والعاملين، ويريد مقابلتي للانتهاء من بعض الاستفسارات. واجتمعنا فعلًا مع بعض الفنانين والعاملين بالثقافة الجماهيرية، كان على رأسهم ضياء الميرغني، المرشح للبطولة، والفنانة التشكيلية شادية عرفي، وكان حافظ قد اتفق مع فنانةٍ مغربيةٍ على القيام بدور الغازية، علمتُ فيما بعدُ أنها تزوَّجَت الفنان عمر الحريري، ولكنها — بعد عددٍ محدود من البروفات — انسحبَت بسبب صعوبة اللهجة المصرية. واستمرَّت البروفات، وقامت بدور الغازية فتاةٌ واعدة اسمها منى حسين، فرقصَت وغنَّت ومثَّلَت فأبدعَت، ولكن العرض تأخر — كالعادة — فلم يُفتتَح إلا بعد أن انتهى عام ١٩٩٥م وبدأنا عام ١٩٩٦م.

كان العرض يقدَّم على المسرح العائم بالجيزة (مسرح النيل حاليًّا) وكان يناير وفبراير كالعادة أبرد شهور العام، ولكن إقبال الجمهور كان مذهلًا. وكنتُ أذهب كثيرًا إلى العرض مما أصابني بإنفلونزا عانيتُ منها مُرَّ المعاناة، ولكن فرحة مشاهدة العرض كانت لا تَعدِلها فرحة، بل كانت مكافأةً أكثر من مجزية على تعب الكتابة ومشاكل الإخراج والممثلين. وما فتئ عرض الدرويش والغازية أن أصبح من عروض الريبيرتوار في الثقافة الجماهيرية (إلى جانب المجاذيب) فقدَّمه المخرج إميل جرجس بعد ذلك في قصر ثقافة بنها، وقدَّمه آخرون في بقاعٍ شتى من مصر. وعندما عاد الربيع عاد الأمل! وكان الأمل يقترن دائمًا بالعمل.

كانت عودتي إلى العمل أو الإنتاج — بتعبير الدكتور سيد البحراوي — عودةً إلى الحياة! ولم أعُد أخشى عودة المرض (أي recurrence)؛ فلقد واجهتُ الموت مرة، وأصبحتُ أتوقَّعه في كل لحظة. وذكرتُ ذلك ذات يوم للدكتور شكري عياد — وكنتُ أحادثه كثيرًا وطويلًا بالتليفون في كل شيء — فقال لي: «الواحد بس عنده كلام عايز يقوله … لناس ما يستاهلوش.» وقد ذكَّرتُه بذلك بعد سنوات فقال لي إنه قالها في لحظة غضب، ولكنه يقصد «بغَض النظر عن استفادة الناس منه». وكان ذلك دأبي ولا يزال، وكنتُ أجد الجزاء العادل فيمن يتعلم على يدي ويحصل على الدكتوراه في الشعر الإنجليزي، ثم في تخصُّص دراسات الترجمة التي تعمَّقَت وانتشَرَت وأصبحَت علمًا جديدًا من العلوم البينية — أي المشتركة بين التخصُّصات!
وصدر معجم المصطلحات في يونيو ١٩٩٦م، فاحتفل به المجتمع الأدبي، وكنتُ قد جمعت المقدمات التي كتبتُها للكتب الصادرة في سلسلة الأدب العربي المعاصر بالإنجليزية، ونشرتُها بعنوان مقدمات في الأدب العربي Prefaces to Arabic Literature بالاشتراك مع الدكتور ماهر شفيق فريد، الذي ساهم بترجماتٍ إنجليزية لبعض الشعراء العرب من المعاصرين، إلى جانب كتابٍ آخر أبيِّن فيه الوشائج التي تربط بين الترجمة وبين الأدب المقارن، وأشرح تفصيلًا كيف يتلقى الدارس العربي للغة الإنجليزية مفاهيم تلك اللغة وأدبها. وبنيتُ نظرية كاملة تؤكِّد صحة الإحالة إلى أدب اللغة الأم (اللغة العربية)، وأنتهي من ذلك إلى أن كل ترجمةٍ أدبية تتضمَّن قدْرًا من نشاط الأدب المقارن، وذلك قبل أن تنشر «سوزان باسنیت» كتابها في الأدب المقارن — الذي تقول فيه ذلك — بعامٍ كامل، واشترك معي في الكتاب الجديد الدكتور ماهر شفيق فريد أيضًا؛ إذ أعدَّ ببليوغرافيا كاملة عن ترجمة الأدب العربي إلى الإنجليزية، وكان اسم الكتاب The Comparative Tone.
وفي يوليو ١٩٩٦م قدَّمتُ مسرحية سيمفونية لير على مسرح الغد، ونجح المزج الدقيق بين الدراما والموسيقى والغناء الأوبرالي، فانتهيتُ من إعداد الترجمة الجديدة (المنظومة) بمقدمتها وهوامشها، ودفعتُ بها إلى المطبعة. واتصل بي في أغسطس الدكتور نبيل الزهيري، رئيس القسم العربي باللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) وكان مقرُّها المؤقَّت هو عمَّان، بعد أن انتقلَت من مقرها الدائم في بيروت، وقال إنه يعرض عليَّ العمل شهرَين لديه، وكان لا بد من اجتياز الاختبار الطبي وإرسال النتيجة إلى نيويورك، فذهبتُ إلى كايرو كلينيك (أو مستشفى القاهرة)، ومكثتُ يومًا كاملًا في تحاليلَ وكشوف وأشعة، وكانت النتيجة مرضيةً والحمد لله، ولكن الدكتور محمد صادق — رئيس المستشفى — قال لي: «هناك بوادر مياه بيضاء (cataract) في العين اليسرى، وهناك ظواهر خلَل في القلب — ولكنها طفيفة.» وكان يعني القصور في الشريان التاجي، وعلَّل ذلك بأنه أمرٌ طبيعي لأنني كنتُ في أواخر الخمسينيات. ولم أكن أخشى هذا أو ذاك، بل لم أكن أخشى إلا مرضًا واحدًا!

وتأمَّلتُ نفسي في أغسطس ١٩٩٦م، فوجدتُني أسابق الزمن لنشر كُتبٍ جديدة أو إعادة نشر ما نفِدَت طبعاته، مثل إعادة نشر فن الكوميديا والأدب وفنونه، بل والنقد التحليلي، الذي كانت تُعاد طباعته منذ عام ١٩٦٣م، ولكن أهم إنجاز لي كان العودة إلى الكلام! صحيح أن مخارج ألفاظي أصبحَت معيبة، ولكن المتعلمين يفهمونني، وغير المتعلمين يُجهِدون أنفسهم في فهمي، فاقتصرتُ على التدريس للدراسات العليا، والإشراف على الرسائل الجامعية ومناقشتها، فأعدَدتُ ما أعتبره جيلًا جديدًا من الدارسين المتخصِّصين.

٥

في أكتوبر ١٩٩٦م اتصل بي الدكتور طه وادي، وقال لي إن الدكتور شوقي ضيف يبحث عنك؛ لأن مجمع اللغة العربية قرَّر أن تنضم إليه خبيرًا بلجنة اللغة والأدب! وكِدتُ أطير فرحًا؛ فالمجمع حُلم كل دارسٍ للأدب، والانضمامُ إليه بأي صفة شهادةٌ على استواء اللغة العربية. وكان معجم المصطلحات هو أهم بند في أوراق اعتمادي بالمجمع، وإن كان أحد الدراعمة قد اعترض على اختياري — حسبما أخبرني طه وادي — وهكذا أقبلتُ على حضور جلسات اللجنة. وقال لي الدكتور بدوي طبانة في أول جلسة إنني زكَّيْتُ ترشيحك عضوًا في المجمع، وأيَّده الدكتور محمود علي مكي.

ولكن كان عليَّ أن أزور عمان لأول مرة في نوفمبر، وأنا لا أستطيع بسبب ارتباطاتي في مصر أن أغيب عنها أكثر من خمسة أسابيع. وعندما عُدتُ في أوائل ديسمبر، موعد التجديد لرئاستي للقسم، لاحظتُ جوًّا غريبًا، وقد عرفتُ فيما بعدُ أن بعض الزملاء تقدَّموا بشكاوى من إدارتي للقسم. ولم يأخذ العميد بشكاواهم وأصدر الدكتور مفيد شهاب، رئيس الجامعة، قراره بتجديد رئاستي، وعندما قابلَني هاشًّا باشًّا قال لي: «كنا منتظرين رجوعك!»

وتبيَّن لي بعد ذلك أنهم يُشيعون عني كلما سافرتُ أنني مريض، وأن النهاية وشيكة، ولم يكن ذلك مقصورًا على الجامعة، بل كان يتعدَّاها إلى الوسط الأدبي. وكان ذلك الإحساس يُحزنني ويدفعني إلى المزيد من العزلة والإنتاج، وأصبح شعاري هو هاؤم اقرءوا كتابيه! وبدأتُ في الشتاء أجمع ما كتبتُه عن الترجمة الأدبية باللغة العربية، فوجدتُ يصلح كتابًا مستقلًّا، سمَّيتُه الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق، وقدَّمتُه إلى شركة لونجمان. وكان كتاب المصطلحات الأدبية قد فاز بجائزة أحسن كتاب عن عام ١٩٩٦م في النقد الأدبي، في معرض القاهرة الدولي للكتاب (يناير ١٩٩٧م) ففرحَت شركة لونجمان. وعندما قابلنا الأستاذ عبد العزيز أبو الليل مدير مكتبة أبو الهول (وهي أيضًا تابعة للأستاذ خليل صايغ) في حفلٍ موسيقي بدار الأوبرا، وكان معي الأستاذ المستشار أحمد السودة، قال إن كتاب المصطلحات قد نَفِد، وإن الطبعة الثانية وشيكة الظهور.

وكان قسم اللغة الإنجليزية قد عقد مؤتمره الدولي عن الأدب المقارن، وهو الذي يُعقد مرةً كل عامَين، في ديسمبر ١٩٩٦م، وشارك العديد من الأساتذة الأجانب والعرب فيه. وتجمَّع لديَّ أنا والدكتور ماهر شفيق فريد مجموعة من الدراسات، كان بعضها قد نُشر فقرَّرنا إعادة نشره، وكان البعض الآخر جديدًا، فضممنا هذا إلى ذاك، وأعددنا كتابًا إنجليزيًّا جديدًا يضم ترجماتي لأربعين قصيدةً تمثل أربعين شاعرًا عربيًّا معاصرًا (إلى الإنجليزية طبعًا). ونشرتُ الكتاب باسم Comparative Moments في عام ١٩٩٧م. ولم يلبث أن احتلَّ كتابنا هذا مكانه بين كتب الأدب المقارن، التي تتناول الأدبَين العربي والإنجليزي ومناهج الدراسة المقارنة.

كان شيطان الشعر يعتادني فلا يلقى ترحيبًا صادقًا؛ فالقصيدة حين تُلِح على الذهن تطرد كل ما يزاحمها، وتقتطع الكثير من وقت القراءة ومن وقت الترجمة وكتابة المسرح. وكنتُ أحيل هذا الشيطان حين يزورني إلى نصوصٍ أدبية — عربية أو أجنبية — فبعد أن استعنتُ به في ترجمة الملك لير أحلتُه إلى دواوين المعاصرين، فترجمتُ ثلاثة دواوين هي ألف وجه للقمر لفاروق جويدة، وأغصان الليل عليك لمحمد الفيتوري، ووقت لاقتناص الوقت لفاروق شوشة، وصدرت جميعها تباعًا في ذلك العام! ولكن الشيطان كان لحوحًا أكثر مما ينبغي آنذاك، فدفعَني إلى نشر مجموعةٍ شعرية بعنوان أصداء الصمت، جمعتُ فيها شذراتٍ مما كتبتُه قديمًا وحديثًا، كان أهمها قصيدة «القصة» التي تصوِّر حالي بعد تشويه وجهي بسبب المرض اللعين.

وكنتُ أقضى الربيع من كل عام، منذ أن بدأَت مكتبة الأسرة، في قراءة شعر المعاصرين من أبناء القرن العشرين، وكانت قراءاتي مكثَّفة كأنها قراءة من يستعد للامتحان. ولم أكن أبخل على هذه الدواوين بالمال، فاكتنزَت مكتبتي، وأصبحَت تضُم المعاصرين إلى جانب ما ورثتُه من والدي رحمه الله من دواوين القدماء. وعادت لي لذة العربية التراثية فكنتُ ولا أزال أطرب للألفاظ طربًا لا يقل عن تذوقي للصور والمعاني، وبدا أن الهوة التي كانت شاسعة بين القديم والجديد قد تقلَّصَت، أو قُل كانت آخذةٍ في التقلص، فبدأتُ أحِسُّ بالجسور أو بحلقات الوصل التي تربط القديم بالجديد. وكانت الساعة التي أقضيها في لجنة الأدب واللغة بمجمع اللغة العربية درسًا أسبوعيًّا أحرص عليه. واكتشفتُ في غضون ذلك كله أن اللغة ملكةٌ واحدة (أو قوةٌ واحدة بتعبير الجاحظ)، وأن من يتمتع بهذه الملكة وينمِّيها تستوي لديه لغات الأرض، فكأنني آمنتُ بتشومسكي بعد طول تردُّد، وتأكَّد لي ما كنتُ أحِسُّه فطريًّا من أن الذي يُجيد لغته الأم إجادةً إبداعية (أي من يكتبها باليسر الذي يقرؤها ويتكلمها به) لا بد أن يُجيد أي لغةٍ أخرى يتعلمها، وهذا ما أثبتَه جيل آبائنا من كُتاب القرن العشرين، وجيل أساتذتنا في القرن نفسه، والكثيرون من أبناء جيلنا الحالي. ويكفي أن ألمح إلى أفرادٍ من هذه الأجيال الثلاثة المتعاقبة للدلالة على صحة ما أقول، يكفي أن أذكر طه حسين وهيكل والحكيم، والعقاد والمازني وشكري (من اللاتينيين والسكسونيين على الترتيب) من الجيل الأول، وزكي نجيب محمود ولويس عوض ومحمد مندور وشكري عياد ومجدي وهبة، (وأنا أقتصر على الراحلين) من الجيل الثاني. وأما الجيل الحالي فسوف أكتفي من أساتذة العربية بجابر عصفور، ومن أساتذة الإنجليزية بماهر شفيق فريد. ولا شك أن القائمة طويلة، والحصر مُحال، ولكن ما أقلَّ الذين يعرفون نصاعة أسلوب شكري عياد بالإنجليزية! وأنا أتكلم فقط عمن أعرفهم ومن قرأتُ لهم، ولكنني أعرف الكثيرين من أبناء دار العلوم الذين يُثبِتون صدق دعواي، وإن اختلفَت اللغة الأجنبية عن اللغة التي درستُها؛ فقد تكون الفرنسية أو الإسبانية؛ ولذلك قرَّرتُ في ذلك العام — ووافقني مجلس الكلية على قراري — بألا نقبل في قسم اللغة الإنجليزية إلا من يحصل على تقدير «جيد» على الأقل في اللغة العربية، ولم أعبأ بشكاوى أولياء أمور الطلاب من هذا «الظلم»! لقد خلَّف لنا آباؤنا منهاجًا ما أحرانا أن نتبعه! وما زلتُ أذكُر يوم أن تُوفي شكري عياد في ٢٣ يوليو ١٩٩٩م، وكنتُ أجلس إلى جوار جابر عصفور ومحمود فهمي حجازي نتقبل فيه العزاء بعد ذلك بيومَين، حين مال عليَّ جابر عصفور وقال:

ذهب الذين يُعاش في أكنافهم
وبقيتُ في خلَفٍ كجِلْد الأجرب

وأظنه نسبه إلى لبيد، ولم أجهِد نفسي بالتحقُّق من قائله؛ فالبيت يعبِّر تعبيرًا صادقًا عمَّا أحسسناه نحن جميعًا، تلاميذ شكري عياد، من خواء بفقده.

وكان عام ١٩٩٧م عام تحوُّل في حياتي من ناحيةٍ أخرى؛ إذ كان إصدار مجلة سطور قد بدأ في ديسمبر ١٩٩٦م. وكانت صاحبتها ورئيسة مجلس إدارتها الدكتورة فاطمة نصر، ولا تزال، ذات طموحاتٍ ثقافية بدَت غريبةً آنذاك في الأوساط الأدبية؛ فهي أصلًا أستاذة للأدب الإنجليزي — مثلي — ولكنها قارئةٌ موسوعية تشغلها هموم الثقافة في الوطن العربي، وتشغل نفسها (مع قلة من مثقَّفي الأمة العربية) بالفكر المعاصر، وتجلياته الأدبية والاجتماعية والسياسية، ويُخامِرها قلقٌ حقيقي وعميق على المسار المتخبِّط لثقافتنا بين التيارات العالمية المتلاطمة. وكانت قد استعانت في الأعداد الأولى من المجلة بمن تعرفهم من الكُتاب والمثقَّفين، ولكن العمل لم يكن يسير على ما يُرام، فاتصلَت بي تليفونيًّا في شتاء ١٩٩٧م (والربيع لم تلُح بوادره بعدُ) وعرضَت عليَّ تولي رئاسة تحرير المجلة. كنتُ قد شاركت بالكتابة منذ العدد الأول، وكان اسمي بين مستشاري التحرير، وكنا نعقدُ اجتماعاتٍ ذات مستوًى رفيع؛ فهم نخبة من كبار مثقَّفي مصر، ولكن العمل بالصحافة الثقافية كان يقتضي اندماجًا أكبر، وكانت لديَّ مجلة المسرح الشهرية التي تُصدِرها ولا تزال هيئة الكتاب، ولكن المجلة المتخصِّصة تختلف عن المجلة الثقافية العامة، ومع ذلك فلم أتردَّد في القبول، ووجدتُ في المجلة تحقيقًا لحُلم التواصل — على مستوى الأمة العربية كلها — مع التيارات الثقافية العالمية المعاصرة.

وفي الصيف عرضَت الدكتورة فاطمة نصر عليَّ أن أشاركها في ترجمة كتاب سيرة النبي محمد، من تأليف كارين أرمسترونج، الأستاذة البريطانية المتخصصة في تاريخ الأديان، ووافقتُ دون تردُّد. ونظَّمنا العمل بحيث أترجم الفصول ذات الأرقام الفردية، وأن تترجم هي الفصول الأخرى، ثم نتبادل ما ترجمناه لتبادُل النظرات والتعليقات. واكتمل الكتاب في أكتوبر (ولكنه لم ينزل إلى السوق إلا في ديسمبر)، ولم يفطن أحدٌ من النقاد لنظام تقسيم الفصول في الترجمة، بل شعروا بأنه نسيجٌ واحد لا اختلاف فيه، مما شجعنا في عام ١٩٩٨م على ترجمة كتابٍ آخر لنفس الكاتبة، وإن كان أضخم وأكثر ثراءً في مادته وهو كتاب القدس: مدينةٌ واحدة وعقائدُ ثلاث. وفي خريف عام ١٩٩٧م قرَّرَت هيئة المسرح تكريمي مع عدد من الكُتاب والفنانين، وذلك بمنحي شهادةً تقديرية أعتزُّ بها وأفخر.

وكنتُ في غمار انشغالي بالقراءة المتعمِّقة في التراث العربي، وما اقتضَته مكتبة الأسرة من تقديم مختاراتٍ من عيون الأدب العربي إلى القارئ الشاب، قد نسيتُ أو تناسيتُ الكتابة المسرحية. وكانت المهام الملقاة على عاتقي في الجامعة في المقام الأول تتطلب الإلمام بما جاء في علم الترجمة (translatology) الجديد، وملاحقة ما يصدُر من كُتب في هذا التخصُّص، وقد أحصيتُ منها نحوًا من ثلاثمائة منذ منتصف الثمانينيات، ولم أكن أقرأ إلا ما تقع عليه يداي، وهي لا تزيد عن عشرين، فكانت القراءة هي عملي الأول. وسرعان ما وجدتُني مضطرًّا إلى تقديم خُلاصة بعضِ ما قرأتُ عندما بدأ برنامج التعليم المفتوح بجامعة القاهرة في عام ١٩٩٧م، وكلية الآداب تشارك فيه ببرنامجٍ خاص عن الترجمة الإنجليزية. كنتُ أقرأ عن الترجمة، وأترجم فأرى ضرورة المطابقة بين النظرية والممارسة. وانتهى الأمر بأن وضعتُ منهاجًا كاملًا لتعليم الترجمة لدارسي اللغات الأجنبية، وهو ما يُدرَّس الآن في القاهرة، واعتبارًا من سبتمبر ٢٠٠١م في عدد من الجامعات السورية أيضًا، وجميع كتب الترجمة فيه تحمل اسمي.

٦

كنتُ مؤمنًا ولا أزال بأن مهمة أقسام اللغات الأجنبية هي إفادة أبناء العربية بما يطَّلع الدارسون عليه وما يتخصَّصون فيه من فكر وفن (ولغة بطبيعة الحال)، لا تخريج باحثين في اللغات الأجنبية متفرغين لها لمنافسة أبنائها؛ فذلك مطلبٌ عسير المنال يقتضي الحياة في البلدان الأجنبية، والاندماج التام في ثقافتها، وتقبُّل أبنائها للدارس الأجنبي إلى حد اعتباره من أهلها، والنماذج القليلة القائمة تؤكِّد ما أذهب إليه؛ ولهذا حاولتُ في فترة رئاستي الثانية لقسم اللغة الإنجليزية إقامة الجسور مع اللغة القومية والفكر القومي. وحاولتُ التركيز على الترجمة والأدب المقارن، وهو ما لم يكن يلقى القبول من بعض أعضاء مجلس القسم، الذين لم يكونوا يعرفون العربية الفصحى بالدرجة الكافية. وكان بعضهم لم يصل إلى ما وصل إليه من مركزٍ علمي مرموق إلا بفضل الإحاطة باللغة الإنجليزية وحدها. ولكنني كنتُ أرى أن اللغة الأجنبية جناحٌ واحد، والطير لا يُحلِّق إلا بجناحَين، فإذا انحصر دور أقسام هذه اللغات في تعليم اللغة أصبحَت أقرب إلى مراكز اللغات أو معاهد تعليم اللغة منها إلى الأقسام العلمية في الجامعات.

وكان من حسنات الدكتورة هدى جندي — زميلتي وصديقتي التي سبقَتني في رئاسة القسم — أنها أرست تقليدَ عقد مؤتمر الأدب المقارن مرةً كل عامَين. وكان المؤتمر — كما سبق أن ذكرتُ — ذا طابعٍ دولي يؤكِّد وظيفة قسم اللغة الإنجليزية باعتباره جسرًا يربط بين مصر والعالم، وبين الأدبَين العربي والإنجليزي. وكان من حسناتها، بل ومن أياديها البيضاء، أن أحيت المجلة العلمية المتخصصة في الأدب الإنجليزي، التي كان الدكتور مجدي وهبة قد أنشأها في الخمسينيات، بعد تمصير القسم، وخروج الإنجليز عام ١٩٥١م، وكان ينفق عليها من ماله الخاص. وكان أن وجدتُ القسم، من ناحية ما يُسمَّى بالآليات، مستعدًّا للسير في الطريق الذي تصوَّرتُه، على الرغم من معارضة البعض، كما ذكَرْتُ. وكانت مشكلة العثور على أساتذة للترجمة يعرفون اللغتَين معرفةً تؤهلهم لتدريسها مشكلةً كبيرة، خصوصًا بعد استشراء ما يُسمَّى باللغويات، وهي العلم الذي يدرس طبيعة اللغة ووظائفها وأشكالها تطبيقًا على العامية المصرية. ولم يكن مما يدعو للخجل (بل أحيانًا مما يدعو للفخر) أن يقول عضو هيئة التدريس المصري في الجامعة: «أنا ضعيف في العربية.» والمقصود هو الفصحى. وأما من يُحبها ويكتب بها مثلي ومثل ماهر شفيق فريد، فقد يُوصف بأنه «بلدي» — خصوصًا وأن معظم (بل الغالبية العظمى) من أعضاء هيئة التدريس كانوا وما زالوا من الإناث اللاتي تعلَّمن تعليمًا أجنبيًّا.

وأعتبر أنني نجحتُ في مسعاي منذ عودتي حين بعثتُ حب العربية والانشغال بقضايا الأدب والفكر العربي في جيلٍ كامل من أعضاء قسمنا الذين وصلوا إلى مرحلة النضج، على اختلاف اهتماماتهم الأكاديمية. وقد يكون من المفيد أن أذكُر أسماء عدد من تلاميذي الذين يؤمنون بما أومن به، ممن أصبحوا أعضاء في هيئة التدريس بالكلية، وقد رتَّبتُها ترتيبًا أبجديًّا: أحمد هاني عبد الحكيم الشامي، أميمة أبو بكر، راندا خلف، سحر الموجي، شيرين أبو النجا، لبنى عبد التواب يوسف، محمد عبد السلام، محمد عبد العاطي، منى إبراهيم، مها السعيد، هدى الصدة، وهم جميعًا — على اختلاف سنوات تخرُّجهم وتعيينهم — ممن تخصَّصوا في الشعر، وأشرفتُ على رسائل معظمهم، إلى جانب من أعدُّوا رسائلهم في الترجمة مثل هدى شكري عياد، وأمية خليفة، ونجلاء رشدي، وقد أشرفتُ على الأخيرتَين، وإلى جانب من يدرسون الآن للدكتوراه في الترجمة تحت إشرافي مثل هبة عارف وخالد توفيق، ومن هم على وشك ذلك بعد الحصول على الماجستير في الترجمة مثل علياء الجندي، كما أشرفتُ على رسالتَي الدكتور صلاح شبكة والدكتور سعيد العليمي في الترجمة، وهما من جامعة طنطا.

وكنتُ إبَّان رئاستي للقسم أشجِّع خريجي المدارس المصرية، وأقصد بها المدارس العادية لا ما يُسمَّى بمدارس اللغات أو المدارس الأجنبية، على الالتحاق بقسم اللغة الإنجليزية، وخصوصًا من الذكور؛ إذ إن الاتجاه إلى غلبة الإناث على أقسام اللغات ليس — لأسبابٍ اجتماعيةٍ محضة — في صالح هذه الأقسام؛ فقد تكون الأنثى أذكى وأعلم وأنشط من الذكَر، ولكن أولويات الحياة الأسرية قد تفرض عليها ما يقلِّل من نشاطها الأكاديمي، ناهيك بالنشاط الثقافي، كأن تُرافِق زوجها في الخارج، أو تتفرَّغ للوضع وإنجاب الأطفال، وما إلى ذلك بسبيل. وكنتُ أتمنى تحقيق المساواة بين الجنسَين في قسمنا على الأقل، وبذلتُ في ذلك جهدًا لا بأس به، فازداد عدد الذكور نسبيًّا بين الشباب، وإن كانوا ما زالوا أقليةً ضئيلة في القسم.

وكان من المنغِّصات المعتادة لرئيس القسم إيمان الطلاب الذي يستمدونه من المجتمع بالوساطة والرأفة والتساهل؛ فأما الوساطة فكانت الكلمة التي تتردَّد عند بدء القبول بالقسم؛ فالطالب يسمع من أبيه أنه إذا كان يعرف أحد المهمين في الدولة فسوف يساعده على خرق القانون، والالتحاق بالقسم بصفةٍ استثنائية. وكان أولياء الأمور يزورونني في المكتب طلبًا للاستثناء، وعبثًا أحاول أن أشرح لهم صعوبة ذلك؛ فالإلحاح من سمات المجتمع الجديد، استنادًا إلى إيمانٍ عميق بإمكان خرق القانون، وكنتُ حين ينفد صبري أحيل الأمر إلى الوكيل، وحين ينفَد صبره يُحيله إلى العميد!

وأما الرأفة فقد كانت تتخذ صورًا غريبة، جاءتني امرأة يومًا ما، كان يبدو عليها الإجهاد وضيق الحال، وقصَّت عليَّ قصةً طويلةً مؤسفة مبكية، وتذرَّعتُ بكل ما لديَّ من صبر حتى انتهت، وبناءً على ذلك طلبَت السماح بقبول ابنها (استثناء) في القسم. وعندما قلتُ لها إنه حاصل على ٥٥٪ في اللغة الإنجليزية (بعد عامَين في الثانوية العامة) ونحن نطلب ٩٠٪، فأين هذا من ذاك، قالت والدموع في عينيَها، ونحن على باب الغرفة: «بقى أنا جيت لك بنفسي … وخرجت من بيتنا وقصدتك … تقوم تقول لي كده؟»

وكان طلب الرأفة يتبدَّى أيضًا عند إعلان النتائج، فإذا رسب طالب في أربع مواد (من عشر موادَّ هي مجموع ما يُدرس) جاء ليقول لك إنني أحتاج إلى درجةٍ واحدة حتى أنجح! فإذا سألتَه كيف؟ قال لكَ إنه لو نجح (دون وجه حق) في إحدى المواد الأربعة، فسوف يتمتع بدرجات الرأفة في مادةٍ أخرى، وينتقل إلى السنة التالية بمادتَين (تخلُّف). وعبثًا تُحاوِل إقناعه بأنه راسب في أربعِ مواد، وعادةً ما تكون تلك من مواد التخصص، ومعنى ذلك أنه ضعيفٌ في اللغة، وعليه أن يبذل مجهودًا أكبر!

كانت هذه المشاغل التعليمية هي الضريبة التي دفعتُها راضيًا مقابل تحقيق غايةٍ أنشدها للجيل الجديد. وكان عليَّ أن أعيد تنظيم وقتي منذ أن توليتُ رئاسة القسم حتى أتمكن من تحمُّل تلك المشاغل دون أن تؤثِّر في نشاطي اليومي، فكنتُ ولا أزال أنهض قبل شروق الشمس، وأعمل حتى الضحى في غرفة مكتبي، ثم أذهب إلى الكلية حتى بُعيد الظهر، وأعود للغداء والقيلولة، ثم أنهض للعمل في المساء إلى ما شاء الله، فإذا كان عليَّ أن أذهب إلى المجلة ذهبتُ قبل الجامعة، وكذلك إلى هيئة الكتاب أو غير ذلك من «المشاوير». وأما المساء فلا أضيِّعه في ندوة أو حفلة؛ إذ تعلمتُ من مواجهة الموت أنه لن يبقى من الإنسان إلا عمله، وهو في حالتي كتابٌ أُفيد به الجيل الجديد، أو من يرى فيه فائدةً من غير الجيل الجديد، وكلامٌ أوجِّه به من يحتاج إلى توجيه، وعلمٌ أكتسبه حتى لا يُبعَث الإنسان حمارًا يوم القيامة — كما يقول سمير سرحان! وهكذا كان المرض الذي أفسد مخارج ألفاظي نعمةً في ثوب نقمة؛ فالكتابة تغني عن الكلام، ولكم تكلَّمتُ في شبابي فأطلتُ فما أغنى ذلك أحدًا! وكنتُ لا أزال أراود المسرح ويراودني، وأكاد أنتظر ما يُرغِمني على كتابته إرغامًا، ولو أن عام ١٩٩٨م قد شهد تقديم مسرحيتي السجين والسجان في مسرح الطليعة، مع مسرحية الوافد لسمير سرحان في عرضٍ واحدٍ باسم وجهًا لوجه من إخراج جمال منصور، حظي بترحيب النقاد.

٧

كثيرًا ما يُقال إن القصيدة تكتُب نفسها حين يجد الشاعر الأبيات تنتظم في خاطره انتظامًا قد يدهَش له هو نفسه. وأحيانًا ما يُقال إن الرواية أو المسرحية تفرض نفسها فرضًا على الكاتب حين يجد أن أحداث الحياة قد تشكَّلَت أمامه ولم يعُد عليه سوى التكثيف والصياغة اللغوية، وذلك هو ما حدث لي في أواخر يونيو عام ١٩٩٨م، وكان يوم جمعة، وأنا في طريقي إلى مقابلة صديقي المستشار أحمد السودة، للحصول منه على نسخة من رسائل الجاحظ.

كانت الشمس قد غربَت، وأصداء أذان المغرب ما تزال ترنُّ في المدينة الساكنة، ولم تكن الساعة قد تجاوزَت الثامنة (بالتوقيت الصيفي) حين انطلقتُ بالسيارة المرسيديس القديمة (التي كنتُ اشتريتُها مستعملة) وأنا أمنِّي النفس بسهرة مع الجاحظ؛ فأنا من عشَّاقه وطلابه في كل حين. وسلكتُ الطريق الخلفي من مدينة المهندسين مارًّا من شارع شهاب، الذي ينحني على شكل هلال فيصب في شارع وادي النيل، أمام قرية ميت عقبة، وهي قريةٌ ما زالت تحمل كل سمات القرية الريفية، وتُجاوِر منطقة المهندسين الحديثة مجاورةً تمثِّل مفارقةً عمرانيةً عجيبة. وفي مفترق إحدى الطرق الصغيرة التي تعترض شارع شهاب، حيث يتسرَّب الأطفال وسكان القرية إلى الشارع الرئيسي، أوقفتُ السيارة أو خفضتُ سرعتها ترقبًا للمفاجآت، وكانت على يميني ثُلة من الأطفال الذين يرتدون ملابسَ رثَّة، وتتراوح أعمارهم بين الرابعة والسابعة، يُحاوِلون عبور الطريق، فتوقَّفوا حين توقفتُ أو كِدت، وأطمان قلبي إلى توقُّفهم فعُدتُ للمسير. وفي تلك اللحظة نفسها اندفعَت صُغراهم بأقصى سرعة أمام السيارة، فدُستُ بكل قوتي على الفرملة (الكابحة) فتوقَّفَت السيارة، ولكنها صدمَت الطفلة، فوقعَت على الأرض، واصطدمَت بالرصيف.

وخرجْتُ من السيارة وأنا أولول في أعماقي، فها أنا ذا أحكم على نفسي بالضياع بسبب نزَق طفلةٍ لا تعي ما تفعل. وكان همي الأول إنقاذها فأهرِعتُ إليها أحملها بين يديَّ، فوجدت دمًا في فمها، فانخلع قلبي، وقلتُ في نفسي من المحال أن تكون الصدمة الطفيفة قد قتلَتها! ولكنها كانت ساكنةً سكونًا كاملًا، دافئة ولكن لا حَراك بها، وعُدتُ بها بين يديَّ إلى السيارة، وقبل أن أدخلها تجمَّع حشدٌ لا أدري من أين أتى، وبدأَت طفلة في نحو العاشرة تصرخ وتُولوِل صُراخ النواح على الموتى (تصوِّت)، وبرز من الحشد رجل قدَّم نفسه على أنه «محمد» كاتب محامٍ معروف، وتطوَّع بحملها نيابةً عني، والذهاب بها إلى المستشفى (مستشفى إمبابة).

وجاء الطبيب النبطشي (النوبتجي) ففحصَها، وأعطاها حقنة فتقيَّأَت ثم بدأَت تبكي، وقال لي إن الدم في فمها نتيجة كسر إحدى أسنانها عندما اصطدمَت بالرصيف، وطمأنني، ولكنه قال إنها لا بد أن تقضي الليلة في المستشفى حتى يتأكد الأطباء من عدم حدوث ارتجاج في المخ. وهدأَت أعصابي؛ فهي حية على الأقل. وكانت ضئيلة الجرم نحيلة، تلبس جلبابًا ممزقًا بالغ القذارة، وتعلو جسمَها بُقَع الطين أو التراب، فقلتُ له أفلا يجب أن تغتسل قبل وضعها في الفراش، فابتسم ابتسامةً مقتضبة، وقال إنهم سوف يفعلون ذلك بعد أن تُفيق تمامًا.

ولم تمضِ دقائقُ حتى سمعتُ في الطابق الأرضي (وكنا في الطابق الأول حيث وُضعَت الطفلة في السرير) صُراخًا وعويلًا يُصِم الآذان، ولم أكن أتصور أن له علاقةً بالحادثة، ولكن سرعان ما اقترب الصُّراخ، وكان يصدُر من مجموعة من النساء تقودهن امرأة في ريعان الصبا، مكتنزة الجسم، تلبس جلبابًا وطرحةً سقطَت من رأسها على كتفَيها، وهي تقول «بنتي! بنتي! أشوف مرفت! مرفت يا حبيبتي!» والنساء من خلفها يبكين ويولولن، فطمأنها الطبيب إلى أن ابنتها بخير، ولكنها قالت «لا! بنتي ماتت! يا حسرة قلبك على مرفت ياختي!» وقالت لها ممرضةٌ عابسة «بس يا ولية عيب! الدكتور قال إنها بخير!» ولكن الحشد واصل الولولة، فهبطتُ إلى الطابق الأول للانتهاء من المحضر الرسمي عند أمين الشرطة.

وعند أسفل السلم وجدتُ الرجال يتوافدون، وكان من بينهم «مكاوي» والد «مرفت»، وكان يعرُج في مشيته، ولا يزيد طوله عن ١٦٠ سنتيمترًا، ويرتدي جلبابًا أبيض، ويبدو في منتصف الثلاثينيات. وكان يبرز من وسط الحشد رجلٌ طويل فارع الطول، بشرتُه داكنة وله شاربٌ كث، وكان يرتدي جلبابًا فضفاضًا ويمسك في يده هراوةً غليظة، ويقول إنه خال مرفت، ويبحث عن الفاعل حتى ينتقم منه. وأسرعتُ بالدخول إلى غرفة أمين الشرطة، ولا أنكر أن الخوف قد تلاعب بي؛ فقد يضربني أحدهم بالنبُّوت فتضيع أحلام قراءة الجاحظ، ويضيع غيرها من الأحلام!

وبدأ أمين الشرطة بملء البيانات بعد أن أعطيتُه رخصة القيادة وكل ما طلب من أوراق وبيانات، ثم سأل الوالد عن سن ابنته، فقال إنها في الرابعة، ثم سأله عن عدد أطفاله، فتردد وتلعثم ونظر حائرًا إلى زوجته، فأجابت هي بعد تفكير «خمستين» وسألها أمين الشرطة «يعني عشرة؟» فقالت «خمسة وخمسة». وضحك الرجل ضحكة تفهُّم لأنه أدرك أنها تخشى الحسد، ثم سألها: ماذا كانت ابنتك تفعل خارج البيت؟ فقالت كانت تصلي الجمعة! وبعد دقائق بدت لي سنواتٍ طويلة قال مكاوي باسمًا إنه قد اطمأن على ابنته، ولكن كاتب المحامي الذي كان حاضرًا لكزه مومئًا إليه بأن يسكت، ثم قال لا … المسألة لم تنتهِ بعدُ، لا بد من إحالة المحضر إلى النيابة! وقال أمين الشرطة: الصلح خير يا أستاذ! فوجدتُ كاتب المحامي ينهض ويصيح: «هي أرواح الناس لعبة؟! الراجل غلبان وموش لاقي ياكل!» فإذا بمكاوي يصيح كأنما يرجع صداه «يا بيه أنا خالي شغل من مدة! والولية دي …» وأشار إلى زوجته التي نهرته قائلة «اسكت انت … إنت حمار!»

وتكهرب الجو، فعاد كاتب المحامي يقول: ممكن تسيب لي أنا الموضوع ده … أنا حاتولاه … وقال أمين الشرطة «طيب … نقفل المحضر بالصلح!» فأردف كاتب المحامي قائلًا: «والأستاذ حيرضي الجماعة … دول غلابة! دول موش لاقيين اللضى!»

وبدا الرضى على وجوه الجميع لسماع كلمة «يرضي»، وتصوَّرتُ أن المسألة قد انتهت عند هذا الحد، فنهضتُ ونهض الجميع، واستعدتُ الرخصة والبطاقة، وخرجنا، وأنا أحاول تهدئة الوالدَين الثائرَين. واتفقتُ مع كاتب المحامي على أن يتجه إلى المكتب حيث يتم الإرضاء! ولكنني فوجئتُ عند باب الخروج بحشد من النساء يرتدين الملابس السوداء، وتساءلَت إحداهن في لهفة «ماتت؟» وكأنما كانت الأخريات يتجهَّزن للصراخ، فهبَبْن من مجلسهن على الأرض، ولكنَّ الوالدَين لم يرُدَّا، وقلت أنا لهنَّ لا تقلقن … «مرفت بخير!» فتساءلَت من ظننتُها رئيسة الحشد: ما ماتتشي؟ وكأنما خيَّبتُ ظنها، ظلت تردِّد كلماتٍ متقطعة عن الأعمار والآجال، ولكن سيدة ضخمة (كانت تقبع على الأرض كأنها جبل) نهرَتْها، وقالت لها: سيدنا رسول الله نهى عن الصُّوات! فسكت الجميع. وكنتُ على وشك فتح باب السيارة عندما برز من الظلام (وكانت الساعة قد جاوزَت العاشرة) شخصٌ يصيح: كسروا العربية! وسَرَت الهمهمة بين الجميع، وتعلَّقَت أنظارهم بالسيدة «الجبل» فحدَستُ أنها هي الرئيسة الحقيقية للحشد، وأن الصائحة الأولى كانت «ندَّابة» وحسب، وبعد ثوانٍ قالت الجبل: «ربنا بيقول اعتدوا بمثل ما اعتدوا عليكم! لكن الراجل ما اعتداش! ده غلط وحيصلح غلطته! إياك حد يمد إيده ع العربية!» وتنفَّستُ الصعداء.

ونهضَت الجبل، وكان اسمها أم ياسين، بصعوبة، وإن كانت لم تتجاوز منتصف العمر، وفي وجهها آثار ملاحةٍ قديمة لا تخطئها العين، ودخلَت السيارة غير مدعوة، والجميع يساعدونها، ودخل إلى جوارها مكاوي (والد مرفت) في المقعد الخلفي، وجلس كاتب المحامي إلى جواري، واتجهنا إلى المكتب حيث هبط الجميع بسلام، وقالت أم ياسين لمكاوي قبل أن تفارقنا: «ابقى عدي عليَّ بعدين … فاهم؟» ومضت إلى داخل القرية، واتجهنا نحن إلى المكتب؛ حيث فاوضَني المحامي حول المبلغ المطلوب لإرضاء الأب، وتعويضه عما أصاب ابنته. وكان معي والحمد لله ما يكفي فدفعتُه له، ووعدتُ الاثنَين بالمرور على العزيزة مرفت في الصباح للاطمئنان على صحتها.

وعُدتُ إلى المنزل فلم أجد نهاد، ولا سارة، فحدَستُ أنهما في منزل أصهاري في شبرا، فقصصتُ عليهما في التليفون ما حدث، ثم كلَّمتُ صديقي المستشار أحمد السودة، واعتذرتُ له عن عدم الحضور، وقلت له إن كاتب المحامي يريد أن يحيل المسألة إلى قضيةٍ كبرى، فطمأنَني، وشرح لي الوضع القانوني. وظلِلتُ حتى ساعةٍ متأخرة من الليل أتمثل أحداث المساء، ظانًّا أن علاقتي بالحادث قد انتهت إلى الأبد!

وفي الصباح ذهبتُ إلى المستشفى، فرأيتُ مرفت تشرب عصير برتقال فتفاءَلْت، ولكنَّ طبيبًا يلبس جهاز سمعٍ في أذنه قال لي إنه لا يستطيع إخراجها من المستشفى الآن حتى تصبح — على حد تعبيره — «مائة في المائة.» وقابلَني والدها، وقد زال عنه العرج فسألته عن سر العرَج المؤقَّت بالأمس، فقال إنه يعاني من مرضٍ عصبي يصيبه بالعرَج حين يتوتر، ولكن العرج يزول بزوال التوتر! وقال لي إن كاتب المحامي تقاسم معه مبلغ الترضية، وإنه ينتوي طلب المزيد، بل وحضَّه على عدم إخراج ابنته من المستشفى حتى يرى ما يمكن عملُه، وقال له بالحرف الواحد: «كبر مخك واسمع كلامي … واهو خير لي ولك.» وسألته إن كان قد وافقه على ذلك فقال إنه يعمل نجارًا (نجار مسلح) وإن حركة البناء ليست مزدهرة، وكلما حصل على عمل وبدأ ممارسته اعتاده التوتُّر والعرَج فطَردَه المقاول! ورجاني أن أبحث له عن عمل عند مقاول «يعرف ربنا»، ولا يفصله بسبب عرجه، فوعدتُه خيرًا وتركتُه وانصرَفْت.

وعندما ذهبتُ إلى الكلية قصصت القصة بتفاصيلها للمرة الثالثة على الدكتورة سلوى كامل، فقالت لي إن القانون لا يسائلك إذا كان الطفل يقل سنُّه عن سبع سنين، ولا يستطيع أحد أن ينالك بأذًى. ودخلَت الغرفة الدكتورة مها فتحي السعيد، تلميذتي العزيزة، فلخَّصتُ لها القصة من جديد فقالت إن للأسرة صديقًا يعمل رئيس أطباء في تلك المستشفى، وإنها سوف تسأله أن يخبرها بحقيقة الحالة في بداية «وارديته» في الثانية ظهرًا. وفي الثالثة رنَّ جرس التليفون وقالت لي مها إن الطبيب قال إن مرفت قد تماثلَت تمامًا للشفاء، وإنه صرَّح بخروجها، ولكن الطبيب رجاه استبقاءها يومًا آخر بناءً على توسُّلات الأسرة وكاتب المحامي! وفرحتُ بشفاء الطفلة وتأكَّدتُ من النجاة، وقرَّرتُ تجاهل كاتب المحامي. وعندما عُدتُ في المساء وجدتُ رسالةً مسجلة على جهاز تسجيل المكالمات التليفونية يقول فيها ذلك الكاتب إنه يستطيع «تحريك القضية، والأفضل لي أن أمرَّ عليه حسب الاتفاق!»

وفضَّلتُ ألا أمرَّ عليه حتى تخرج مرفت من المستشفى، فذهبتُ في الصباح، وانتظرتُ حتى خرجَت ماشيةً تريد أن تجري وتلعب. وودَّعتُ أباها، وطلبتُ منه أن يمرَّ عليَّ حتى أجيبه إلى مطلبه، وافترقنا، ثم ذهبتُ إلى كاتب المحامي، ولم يكن موجودًا بالمكتب، فسألتُ عنه فقيل له إنه في المحكمة. وسألني كاتبٌ آخر عما أريد فقلتُ إنني أريد مقابلة المحامي — وكان موجودًا — ففتح لي الباب ودخلتُ وسلَّمت، وقصصتُ عليه القصة، فضحك، وسألني عن المبلغ الذي دفعتُه، فلم أشأ أن أفصِح، فبدا عليه الحزن، وقال إن تلك آفةٌ من آفات المهنة، وطلب مني أن أنسى الموضوع وخرجتُ.

وبعد نحو أسبوع مرَّ عليَّ «مكاوي»، وقال إن أم ياسين تريد أن تقابلني، فقلتُ له إنني سوف أبلغ الشرطة إذا لجأ إلى الابتزاز، وإنني لن أدفع له أو لها أي مليمٍ بعد الآن، وكنتُ حاد اللهجة بعد أن استشرت الجميع وتبيَّن لي أن الرقة أحيانًا (في غير موضعها — كما يقول المتنبي —) مُضِرة، فتراجع عن مطلبه، ومضى لحال سبيله.

وانتهى الصيف وكدتُ أنسى الحادثة، حتى جاء يومٌ تعطَّلَت فيه السيارة بسبب نفاد الهواء من إحدى عجلاتها أمام القرية. فنزلتُ وطلبتُ من أصحاب محل «عجلاتي» هناك تغيير الإطار وإصلاح الإطار القديم، وكنا في نحو العاشرة صباحًا، ووقفتُ أنتظر الانتهاء من المهمة، حين وجدتُني وجهًا لوجه أمام «أم ياسين!» ووجدتُ ترحابًا لم أتوقعه، وجوًّا من المودة والألفة يتناقَض كل التناقُض مع ما شهدتُه في المستشفى منذ شهور! وأصرَّت أم ياسين على أن أشرب الشاي، وقبل أن أعترض كان الشاي قد حضَر، ووُضِع كرسيان في مدخل الحارة. ولم أجد بُدًّا من شرب الشاي، وانطلقَت أم ياسين تتكلم، وكان حديثها زاخرًا بالقصص المسلية، والاقتباسات الحافلة بالأخطاء النحوية من الأحاديث النبوية (والآيات القرآنية أحيانًا). وبعد ساعةٍ تقريبًا تمكَّنتُ من الرحيل، وكان عليَّ أن أسجل في مفكِّرتي بعض ما قصَّته عليَّ، وما أصبح مادةً لمسرحيتي التالية كيلو بودرة.

وكان من عادة أم ياسين أن تجلس في صباح كل يوم، مهما تكن حالة الطقس، أمام منزلها داخل الحارة، وأن تخرج إلى بعض محلات ميكانيكية السيارات، والسمكرية، والمجلاتية، وتُحادِث هذا وذاك. وكنتُ عندما حادثتُها في أكتوبر ذكرتُ لها الكتب التي ننشُرها، وكان من بينها موجز سيرة ابن هشام، فطلبَت الكتاب مني، وكان ذلك بدايةً لعادتي في إهدائها سلسلة الكتب الدينية التي تُصدِرها مكتبة الأسرة، والاستماع إلى قصصها. واستمرَّت هذه العادة حتى وقتٍ قريب، حين علمت أنها سافرَت إلى بلدٍ عربي شقيق يعمل فيه أحد أبنائها، وإن كنتُ لا أدري هل هو ياسين أم سواه، فتوقَّفتُ عن زيارة القرية، وإن كانت قصص أم ياسين، والألفاظ التي استخدمَتْها في روايتها، لا تزال تمثِّل رصيدًا حافلًا من المادة الإنسانية الحقيقية.

٨

«المادة الإنسانية؟» تراها ما تكون؟ إنها المادة الأولية الصادقة التي يستمد منها كل أديبٍ عناصر أدبه، وهي أوليَّة بمعنى أنها الأصل الذي قد يكون كامل التشكيل ولا يحتاج إلى إعادة تشكيل في العمل الفني. وكانت أم ياسين مادةً جاهزة؛ فهي امرأة تستطيع القراءة والكتابة، في قرية تتكون في معظمها من الأميين، أو ممن تركوا الدراسة لأسبابٍ اجتماعية محضة؛ فالكل يعمل من سنٍّ مبكرة، والكل يؤمن بما تقوله أم ياسين؛ فهي بتعبير علماء الاجتماع، من زعماء المجتمع المحلي، وهي ذات فكرٍ فردي مستقل يحسُدها عليه أقطاب دعاة الفردية في الغرب.

وتصادف أن أُعْلِنَ فوزي بجائزة بن تركي (السعودية) للترجمة الإنجليزية، وكان المحكمون (في اللجنة التي عقدَت جلساتها في عمان) خليطًا من العرب والأجانب؛ لأن النصوص التي قدَّمتُها كانت إنجليزية، في الوقت الذي توثقَت فيه علاقاتي بمحروس، كهربائي السيارات، الذي يعمل في ورشةٍ مجاورة لمنزل أم ياسين، فوجدتُه متهللًا عندما زرتُه كأنما علم بفوزي بالجائزة (نوفمبر ١٩٩٨م)، وأرسل أحد العاملين من الأطفال لديه لاستدعاء الرئيسة. وكنا في الصباح الباكر نسبيًّا ولكنها جاءت على الفور، وجلسنا نشرب الشاي، وسرعان ما انتقل الحديث من الجائزة السعودية إلى السعودية نفسها التي أصبحَت حُلمًا لكل المصريين، ثم انتقل إلى نقد المجتمع الحديث الذي عقَّد العلاقات الإنسانية بالنظم المدنية، وأنا أترجم أقاصيص أم ياسين هنا إلى لغة «المثقَّفين»؛ أي إنني ألخِّص الفكر الكامن في تلك الأقاصيص وأشرحُه؛ فهو الفكر الجديد الذي ساد، وأصبح يمثِّل قوةً لا يُستهان بها في مجتمعنا.

كانت أم ياسين تؤمن تمامًا بالحرية، وهي الحرية التي يتيحها — كما تقول — شرع الله، الذي يأمرنا بالزواج في سنٍّ مبكرة؛ لأن تأخير الزواج معناه إهدار الطاقة البشرية، وكبتٌ لقوى الإنسان الإبداعية؛ ولذلك فإن الزواج عندها واجب يتمتع بالأولوية القصوى؛ فهو تحقيق لذات الأنثى في الأمومة وللرجل في «المتعة». وأما العمل فالكل يعمل منذ الصغر، وعمل المنزل لا يقل أهميةً عن عمل الدكان أو الورشة أو التجارة. وأما المساواة التي يتحدَّثون عنها فهي — في نظرها — مفارقةٌ من مفارقات العصر الحديث؛ فما دمنا نتحدث عن اختلاف الجنسَين ونُقِرُّ بتفاوتهما، فمن العبث أن نُلغي أو نُعارض «خلقة ربنا»، فنعطي عمل هذا لتلك، وعمل تلك لهذا؛ فالجنسان يعملان وهما يكملان بعضهما بعضًا.

كنتُ أحِس أنني أستمع إلى حُججٍ سلفية تخطاها المجتمع الحديث، ولكن ما أُورِده هنا هو ملخصٌ مجرَّد، تجرَّد من الحقائق الواقعية في قصصها، وهو لذلك غير جذاب. أما حين يكتسي تلك الحقائق — على نحو ما يحدُث في قصة محسن (ابنها) وزبيدة زوجته — فإن الأفكار فيه تكتسي طرافةً وسحرًا، قالت أم ياسين: «الناس يختلف بعضها عن بعض، وفحولة الرجال تتفاوت، فإذا كانت زائدة عند البعض، كما هي عند «محسن» ابني الثاني، كان لا بد له من زوجةٍ ثانية، وهو سروجي سيارات «كسيب»، والحديث يقول «الكاسب حبيب الرحمن»؛ ولذلك أحسستُ بأن «زبيدة» مرهقة، فاخترتُ له زوجةً ثانية، وسرعان ما نشأَت الصداقة بين الزوجتَين، حتى لكأن زبيدة أخت هدى! وقد أنجب منهما ذريةً صالحة، وهم يعيشون جميعًا تحت سقفٍ واحد، فإذا سافر إلى ليبيا مثلًا أخذهما معًا؛ فهو يحبهما حبًّا جمًّا، ولا يستطيع البعد عنهما يومًا واحدًا! وسوف أريك «محسن» ولك أن تسأله بنفسك! أما الغَيرة فهي تنشأ من حب الامتلاك أو مدِّ النظر إلى ما متَّعنا به أزواج غيرك — كما يقول ربنا — وهذا حرام! والأبناء من الزوجتَين كالأشقاء تمامًا؛ فهم يتركون المدرسة في سن الثانية عشرة، ويبدءون العمل، وإن هي إلا سنوات حتى يصلوا إلى سن الزواج.»

وتذكَّرت ما تقوله الأمم المتحدة عن عمالة الأطفال وتحريمها بل وتجريمها، ولكنني كنتُ أطَّلع على عالمٍ قديم يعيش حيًّا نابضًا ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين. وذكرتُ قصص حسن المخرج، وبدأتُ أناقش ما درجتُ عليه من أفكار. وذات يوم في ديسمبر جلستُ أستمع إلى أم ياسين من جديد، وكان رمضان على الأبواب، وكانت القرية تستعد له، وكان بعض العمال يجلسون ومعهم أدواتهم (أدوات النجارة) عند تقاطع شارع وادي النيل مع شارع ٢٦ يوليو، في انتظار مقاولي الأنفار الذين يصطحبونهم إلى العمل باليومية، وهم من كان جمال عبد الناصر يشغل نفسه بهم في الزمن الغابر (عمال التراحيل). وكانت سيارتي تتطلب عملًا كثيرًا، فجلستُ ومعي «هدية رمضان لها». وكنتُ أعتزم السفر إلى الولايات المتحدة في الشتاء وفي الربيع، ولم أشأ أن أترك سيارتي عاطلة، فجلستُ جلسة أخرى سمعتُ فيها قصة محمود.

كان محمود من أبناء القرية وكان نابهًا متفوقًا في دراسته فتخرج في كلية الطب، بعد سنوات من تعاون أهل القرية في تحمُّل نفقات تعليمه. ولم يشأ أن يعمل في الحكومة، بل أنشأ لنفسه «عيادة» تولى تجهيزها من دخله الخاص بأحدث المُعدَّات. وكان مخلصًا لمن ساعدوه وآزروه طيلة أيام «كفاحه»، فلم يكن يتقاضى أجرًا عن علاج أيهم، بل إنه ردَّ لهم ما أنفقوه أضعافًا مضاعفة. ولمع نجمه وبدأ الجمهور يتزاحم على عيادته؛ فهو أمهر طبيب أطفال في المنطقة، وكثيرًا ما كان يسافر إلى الإسكندرية للحديث مع بعض الأساتذة هناك؛ فهم — في زعمه — أمهر من أساتذة القاهرة، ولكنه في خِضَم النجاح اكتسب عادات الطبقة الوسطى، وأراد الزواج من فتاةٍ مثقفة (ألافرانكة) وكانت في ذلك — كما تقول أم ياسين — سقطتُه! فسرعان ما أدركَت إحدى المتردِّدات على عيادته أنه يديم النظر إلى ابنتها التي وصفَتها بأنها دبلوماسية المظهر؛ أي تلبس الملابس الإفرنجية، وتضع منظارًا على عينَيها، وتتكلم لغة تختلط فيها العبارات العربية بالكلمات الإنجليزية. وفي غضون شهرٍ واحد كان الزواج قد تم، فاشترى لنفسه شقةً في المبنى الذي تقع فيه العيادة، ودفع مقدمًا لصاحبها مبلغ مائة ألف جنيه!

وسهِرَت القرية كلها في ليلة الفرح، وكان الجميع فرحين مستبشرين، إلا أم ياسين فهي — كما تقول — لم تكن سعيدة بتلك الزيجة، وكأن قلبها يحدثها بأنها لن تنجح، وكانت تعرف أن فتاةً أخرى من فتيات القرية تريد محمودًا ﺑ «دليل أنها رفضت الزواج أكثر من مرة» ولم تكن تتحدث إلا عنه! وقالت أم ياسين إنها تؤمن بالقدَر، «ومن ذا الذي يُنكِر القدَر؟» وبأن العالم الذي نعيش فيه تتحكم فيه قوًى أخرى لا نعرفها، قد تكون قوى الجن، وقد تكون قوًى أخرى، ولكن تلك الفتاة التي اتهمَها الكثيرون بالبلاهة، كانت في الحقيقة شيخة (وفهمتُ من ذلك ما هو معروف عن المجاذيب) وبعد عامٍ كامل طلبَت الزوجة الدبلوماسية الطلاق من زوجها.

وتعدَّدَت الشائعات — تقول أم ياسين — عن أسباب الطلاق، ولكن السبب كان واضحًا لها، وهو أن الدكتور لم يستطع «إتمامه». ولم تمضِ أيام حتى عرف أهل الشيخة أنها حامل، وأن والد الطفل هو محمود (وتذكَّرتُ فيلم أنطونيو الجميل الإيطالي — بطولة مارسيلُّو ماسترویاني وكلوديا كاردينالي). وكان معنى ذلك — تقول أم ياسين — أنه تزوَّجها!

وسألتُها: تزوَّجها قبل الحمل؟ فقالت طبعًا! فقلتُ: كيف ذلك دون أن يدري أحد؟ فانطلقت تقول إنني مثل سائر الأفندية أتصور أن الزواج لا يقع إلا بعقدٍ مكتوب، وهذه خرافة — على نحو ما أثبتَت تجربة زواج الدكتور بالدبلوماسية! «إنكم تعبدون الأوراق! وهذا كفر! الزواج هو الرضا والإعلان! وقلتُ لها: وهل حدث الإعلان؟ فقالت بلهجة استنكار: وهل هناك إعلان أكثر من الحمل؟ لقد نجح محمود معها في حين أنه أخفق مع «الدبلوماسية» التي كان زواجها ورقًا في ورق!

وتصوَّرتُ أنها ستقص عليَّ المزيد من جرعات السعادة التي جرَعَها محمود، ولم أكن سألتها عن تواريخ تلك الأحداث؛ إذ كانت تقصها كأنما هي آنية، فسألتُها إن كانا يعيشان الآن في هناء، فقالت في أسًى وهي تمصمص بشفتَيها: «حسرة على محمود واللي جراله!» ثم انطلقَت تحكي:

«كانت «الشيخة» تنتابها نوباتٌ خاصة، ولم نكن نعرف إن كانت تخاوي الجن أم لا، ولكنها كانت تطلب منه طلباتٍ خاصة في تلك النوبات فيأتي لها بها، وانتهى الأمر بأن بدأ يعطيها حبوبًا خاصة، وكانت تتميَّز بالكرم، فكانت تعطيها لمن يطلبها، ولم ينقضِ عامٌ واحد على مولد الطفل، وهي بنت كالقمر عيناها خضراوان، حتى ألقت الشرطة القبض على محمود، ولفَّقَت له تهمة الاتجار في الحبوب المخدِّرة، وحكموا عليه بالسجن!»

فسألتُها ومتى كان ذلك؟ فقالت من عشر سنوات! وأضافت: «سمعنا أنه خرج من السجن في العيد، ولكننا لم نسمع عنه أخبارًا مؤكدة، والمرجَّح أنه سافر إلى أوروبا؛ إذ كان دائم الحديث عن أصدقائه في بلاده برَّه!»

وقلتُ في نفسي إنها قصةٌ من قصص الحياة التي تنشرها الأهرام يوم الجمعة عند عبد الوهاب مطاوع، ولكن فيها مغاليق لا تزال تستعصي على الفهم، فقلتُ أستزيدها: وأين الفتاة؟ فقالت: «بسم الله ما شاء الله! فلقة قمر! الأولى في المدرسة! لكن عريسها مستني! ما فيش جامعة ولا كلام من ده؟ فسألتُ: وأمها؟ فضحكَت وقالت: «جالها السعد يا خويا! اتجوزت مهندس وراحت السعودية! ربنا يهنِّيها زي ما ملت عيشته هنا!» ورأت أنني لا أشاركها الضحك فقالت: «الجن بتوعها مؤمنين! تاني يوم اتجوزته جاله عقد عمل، وفي شهر كانوا مسافرين!» فعُدتُ أستفسر: «الجن بتوعها؟» فقالت بلهجة جادة: «حضرتك متعلم وعارف إن فيهم مؤمنين وبيعرفوا ربنا! أهم وقفوا معاها للآخر! وده جزاة ما عملت … كل خير!» ثم همسَت في نبرة إعزاز «تحب تشوف نوران؟ دي يا أرض احفظي ما عليكي!» واعتذَرَت ونهضَت. وكان عام ١٩٩٨م ما زال يُخفي مفاجآت أخرى!

كان الدكتور عبد العزيز حمودة قد نشر كتابه المرايا المحدَّبة، وهو الذي هاجم فيه النظرية النقدية الحديثة هجومًا ضاريًا، مثلما هاجمها الكثيرون من أبناء أوروبا، ولكننا كنا للأسف ولا نزال نقدِّس كل ما هو مستورد، فتبنَّاها بعض العرب وتصوَّروا أنها السبيل الأقوم لفهم الأدب والكتابة، بل والفكر الإنساني، غافلين عما تُبطِنه من ارتباطٍ عميق بفلسفات الغرب الحديثة التي عميَت عن منطق الروح تمامًا، ولم تعُد تتوسل إلا بمنطق الحواس. وكان ما شغلني شخصيًّا في كتاب المصطلحات الأدبية الحديثة (١٩٩٦م) هو سوء فهم الشباب، بل وبعض المشتغلين بالنقد من الكبار أيضًا، لبعض مصطلحات هذه النظرية، وتداوُلها بالحق وبالباطل؛ ولذلك حاولتُ — كما قلتُ في فصلٍ سابق — شرح هذه المصطلحات، وإلقاء الضوء عليها في سياق المدارس المختلفة المنبثقة عن النظرية الحديثة، ولكن الدكتور حمودة لم يكتفِ بالشرح والإيضاح، بل انقض على النظرية الحديثة انقضاض العُقاب، فمزَّقها تمزيقًا، وتعرَّض في غضون ذلك لدعاتها، وللدكتور جابر عصفور وهو من هو، فوقعَت معركةٌ أدبية وفكرية شابَتْها لمساتٌ شخصية (أعافها) في مجلة أخبار الأدب، وفرح جمال الغيطاني بالمعركة لأنها أنعشَت توزيع المجلة، فلا أَحبَّ للقراء — في كل زمان ومكان — من التراشُق بالاتهامات بين الكُتاب مهما تكن مستوياتها، ولكن المعركة أحدثَت شرخًا لا شك فيه في حياتنا الأدبية. وعندما عقدنا مؤتمرنا الدولي للأدب المقارن في ديسمبر ١٩٩٨م، لم يحضره حمودة ولا عصفور.

واتسع الشرخ فأصبح يشبه الشق الواضح، وإن كان ذلك لا يعبِّر عن حقيقة الواقع الأدبي، كما بيَّن ذلك الدكتور شكري عياد في كتابه عن المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين؛ فنحن مهما نقلنا ومهما تظاهرنا بالقطيعة مع التراث لا نزال نرتبط به أشد ارتباط. ولا أستطيع أن أجد عربيًّا، مهما كانت درجة الحداثة التي يدَّعيها، لا يحمل في أعماقه تاريخنا الطويل، وتراث اللغة العربية الذي هو تراث ثقافتنا، ومحور هُويَّتنا القومية.

وصدر لي، في عام ١٩٩٨م، الجزء الأول من سيرتي الذاتية الأدبية واحات العمر، فتقبله القُراء بقبول حسن. وكان صدوره بداية انشغالي برحلة الحياة الحافلة التي عشتها في رشيد ولندن والقاهرة. وكان لا بد أن يتلوه جزءٌ ثانٍ، بدأتُ أكتبه على الفور وأنا في الولايات المتحدة، أتولى تدريس الشعر البريطاني والعربي للطلاب، وكان ذلك في فبراير ١٩٩٩م، وهو آخر عام لي في رئاستي القسم؛ لأنه كان عام التقاعد عن المناصب الرسمية، (سن المعاش)، واجتهدتُ في إتمامه حتى صدر بعنوان واحات الغربة في غضون ١٩٩٩م أيضًا، وفاز بجائزة أحسن كتاب في السيرة الذاتية في معرض القاهرة الدولي للكتاب في يناير عام ٢٠٠٠م!

ولكن عام ١٩٩٨م كان أيضًا عام اكتشاف الشعراء الشبان، وقصيدة النثر، والعام الذي ترجمتُ فيه المزيد من مسرحيات شيكسبير، فصدرت لي هنري الثامن وريتشارد الثاني. كما شاركتُ الدكتورة فاطمة نصر في ترجمة الكتاب الثاني لكارين أرمسترونج بعنوان القدس مدينةٌ واحدة وعقائدُ ثلاث، فكان عام عملٍ متواصل، وكان في ذهني طول الوقت ما سمعتُه وعرفتُه من أم ياسين! لم تكن «المادة الإنسانية» قد اتخذَت بعدُ شكلًا فنيًّا، بل كانت تتحوَّل وتتشكَّل في أعماقي!

٩

لم أكن أتصوَّر أن من بين الأمريكيين من يعشق الشعر العربي المعاصر إلى هذه الدرجة، وقد اكتشفتُ مدى هذا الحب حين بدأ العمل في جامعة بتسبيرج مع حفنة من دارسي الأدب المقارن، فقدَّمتُ لهم بعض الدواوين التي كنتُ ترجمتُها للمعاصرين، إلى جانب الذي كانوا يعرفونه عن الأدب العربي (من خلال المستشرقين)، ثم قدَّمني البروفسور ريتشارد توبياس إلى الزملاء من أعضاء هيئة التدريس، الذين تخاطفوا ما كنتُ أحملُه معي من كُتب عن الأدب العربي بالإنجليزية. وبعد أسبوعَين في فبراير ١٩٩٩م عُدتُ إلى مصر بثروة من الكتب وحصادٍ وفير من الأفكار، أهمُّها هو أن الغربيين لا يتعاطفون مع العرب سياسيًّا لأن العرب يتقاعسون، على ما في أيديهم من أسباب القوة، عن تغيير صورتهم في الغرب بأنجع الأساليب المتاحة وهو الحضور أو الوجود الثقافي. وأما أيسر سُبله فهو الأدب الحديث؛ فهو المرآة الصادقة لحياة المجتمع وفكره الحي.

وعندما سافرتُ للمرة الثانية عام ١٩٩٩م عُدتُ بأفكارٍ أشد وضوحًا عن تسويق الأدب العربي في الخارج. معظم دور النشر الكبرى في أوروبا وأمريكا لا تُقبِل على نشر كتبٍ قد تكبِّدها خسائرَ مادية، إلا إذا كانت كتبًا علميةً جديرة بالتضحية، بمعنى أن تكون كتبًا تصنع التاريخ؛ ولذلك فقد تُحجِم دور النشر الكبرى عن نشر الأدب العربي المترجَم إلا إذا تعهَّدَت دار نشرٍ عربية بتغطية بعض التكاليف، وبشرط أن يُجيز محرِّرو الدار النصوصَ المقترح نشرها. وقد تكون «التغطية» في صورة شراء ألف نسخة مثلًا لتوزيعها محليًّا، كما حدث في حالة ترجمة رواية اليد السفلى، للكاتب السعودي عبده يماني، التي اشتركتُ أنا ونهاد زوجتي في ترجمتها في أواخر السبعينيات، وصدَرَت بعنوان A Boy from Mecca عن دار نشر ماكميلان الإنجليزية. وكما حدث في ترجمة بعض عيون الأدب العربي الصادرة قبلها عن دار لونجمان البريطانية؛ ولذلك تصوَّرتُ أن تخصِّص جامعة الدول العربية بعض المال لنشر المترجَمات إلى اللغات الأوروبية بأقلام أبناء العربية، دون انتظار للمستشرقين، وما أقلَّ من يعرف منهم كنوز الأدب العربي المعاصر! والذي يحدُث حاليًّا هو أن الترجمة تعتمد على جهودٍ فردية، وأكاد أقول «شخصية»، فتجد في أسواق الغرب كُتبًا لكُتاب ليسوا من بين طليعة كُتاب العالم العربي، وقد يكون اختيارهم على أسسٍ سياسية أو اجتماعية؛ أي إن الاختيار قد لا يقع على من يتميَّز أدبيًّا من كُتاب جيله.

وقد تأكَّد لي ذلك عند صدور موسوعة الترجمة الأدبية إلى الإنجليزية عام ٢٠٠٠م، وهي تتكون من مجلَّدَين بالغَي الضخامة، لا يحتل الأدب العربي فيها إلا مكانًا هامشيًّا بين آداب العالم. وكنت ذات يومٍ قد فزعتُ من كتابٍ أصدرته سلسلة بنجوين البريطانية، بعنوان الشعر العربي المعاصر، مترجمًا بقلم يَمَني هو عبد الله العذري، ولا يتضمَّن قصيدةً مصرية واحدة! وفي غضون عام ١٩٩٩م خطر لي أن أقدِّم الجيل الجديد من الشعراء الشبان المتمردين على كل شيء، وكانوا يطلقون على أنفسهم ألقابًا مُستفزَّة مثل «الجراد» أو إضاءة كذا، وما إلى ذلك؛ إذ وجدتُ أنهم يمثلون تيارًا لا يمكن تجاهله في الأدب العربي الحديث. وطلبتُ من محمد متولي — زوج ابنتي — أن يختار لي عددًا من القصائد ففعل، وترجمتُها، ولكن الكتاب لم يُنشَر إلا بعد عامَين! كما ترجمتُ ديوانًا صغيرًا لفاروق جويدة بعنوان لو أننا لم نفترق، ونُشر في العام التالي.

في صيف ١٩٩٩م حضر البروفسور ريتشارد توبياس لمناقشة رسالة دكتوراه أُشرِف عليها عن شاعرٍ بريطاني معاصر هو أنتوني ثويت، وشارك في المناقشة من مصر صديقي ماهر شفيق فريد والدكتور شبل الكومي، أستاذ الشعر العظيم الذي كان وكيلًا لكلية الألسن، ثم أصبح عميدًا لكلية الألسن بجامعة مصر الدولية. وكان الطالب محمد سعيد أحمد علي تلميذًا لي في الماجستير أيضًا، وناقشتُه في قنا قبل عدة أعوام، فدعانا بعد مناقشة الدكتوراه إلى العَشاء في مطعم في شارع النيل بالجيزة، وتطرَّق الحديث للمجال الذي يعمل فيه الأستاذ، فقال البروفسور إنه أدرج دراستي عن ماثيو أرنولد ونظرته إلى أسلوب وردزورث في قائمة المراجع الخاصة بالعصر الفكتوري. وتشعَّب الحديث، واتفَقنا على أن أعود إلى أمريكا في العام التالي.

كان عام ١٩٩٩ — كما قلت — آخر عام أقضيه رئيسًا للقسم، وبدأتُ أشعر كيف يتحول الناس عني بعد أن «هلَك عني سُلطانِيَه». وكنت أعرف أن ذلك احتمالٌ قائم، ولكن بلوغ سن المعاش (التقاعد) لم يكن يعني شيئًا لي؛ فلا أزال قادرًا على العمل. وكانت بعض مشروعاتي ما زالت تنتظر الاستكمال، مثل مُعجَم مختصرات اللغة الإنجليزية (مُعجَم المُترجِم) والمُعجَم الآخر الذي أعمل فيه بجد عن الكلمات الجديدة التي دخلَت اللغة الإنجليزية في الربع الأخير من القرن العشرين. ولم أكن قد انتهيتُ من ترجمة الفردوس المفقود ولا من ترجمة روائع شيكسبير. وكانت الشهور التي أقضيها في إعداد بعض سلاسل مكتبة الأسرة تبتلعني تمامًا، وكان أول من يدرك ذلك هو صديقي المستشار أحمد السودة، وصديقي ماهر، وزوجتي نهاد التي كانت كثيرًا ما تحثُّني على الخروج مساءً لارتياد المسارح معها.

كان لديَّ ما يشغلني حقًّا، ولكنني مع ذلك شعرتُ بوخزة ألمٍ دفينٍ حين تكأكأَت بعض عضوات هيئة التدريس في قسمنا لتأكيد زوال السلطان. وتبدَّى ذلك ذات أثناء مناقشة يوم الموضوع الذي كنا اتفقنا عليه للمؤتمر التالي (عام ٢٠٠٠م) للأدب المقارن، وهو الحداثية وما بعدها؛ إذ اكتشفتُ أنهن كن قد عقدن اجتماعًا لم أُدعَ إليه، واتفقن على أن يكون الموضوع خطاب السلطة (discourse of power) وعجبتُ لذلك الانقلاب! وكان ماهر شفيق فريد حاضرًا أثناء تلك المناقشة فدهِش، ولكنه لم يكتم دهشتَه تلك المرة، بل دافع عن الموضوع المتفق عليه سلفًا، ونبَّههنَّ إلى ضرورة احترام قرارات مجلس القسم حتى بعد تغيير رئيسه. وتصوَّرتُ أن الأمور قد عادت إلى نصابها، ولكنَّ تياراتٍ أخرى كانت ما تزال تجري في الظلام!

وقرَّرتُ الإقلاع عن محاولة التغيير؛ فالأفضل أن أترك القسم لمن خلَفَني، وكانت سيدةً فاضلةً طيبة القلب، دمثة الخُلق هي الدكتور جليلة آن عبد المنعم راغب. وقال لي عبد العزيز حمودة، الذي كان قد أصبح عميدًا لكلية الآداب ونائبًا لرئيس جامعة ٦ أكتوبر، إنه ذكر لها ضرورة التصدي للتيارات الخفية وإنها يجب أن تتحلى بالقوة «مثل محمد عناني». وابتسمتُ في أعماقي؛ فالقوة ليست حليةً يُتحلى بها. وإذا كنتُ قويًّا، كما يقول، فقد كان مَرَد هذه الصفة، التي لا أزعمها لنفسي، إصراري على إجابة مطالب الجميع، وإتاحة الفرصة للجيل الجديد كي يشارك في الحياة الثقافية خارج الجامعة، ولم يكن الكثيرون من أعضاء الجيل القديم بقادرين على ذلك. وفي يونيو ١٩٩٩م فزتُ بجائزة الدولة للتفوق في الآداب.

احتجبتُ عمدًا حتى يجد القسم طريقًا جديدًا. وكانت المياه البيضاء في عيني اليمني قد بدأت تحدُّ من قراءاتي، فقرَّرتُ إجراء العملية، وأجريتُ العملية فعلًا في أوائل نوفمبر ١٩٩٩م. وقد أجراها لي طبيبٌ عبقري هو الدكتور ممتاز حجازي، في مستشفى قصر العيني الجديد (الذي يُسمَّى الفرنساوي). ولم يمضِ أسبوعان حتى تماثلتُ للشفاء، ولكنني التزمتُ بنصائح الطبيب. وكان رمضان قد أتى، فاعتكفتُ وعُدتُ إلى القراءة بعيني اليسرى طوال رمضان. وما إن حلَّ العيد حتى كنتُ قد استعدتُ بصري بأحدَّ مما كان عليه قبل الاستعانة بالنظارة الطبية!

وفي يناير ٢٠٠٠م كان محمود الألفي، المخرج الفذ، قد انتهى من الاستعداد لتقديم الدرويش والغازية على مسرح السلام، كأول إنتاج في الموسم لفرقة المسرح الحديث. وأصرَّت البطلة فريدة سيف النصر على أن يكون العنوان هو الغازية والدرويش، بتقديم البطلة على البطل، ولم أمانع، وكان الذي يشاركها البطولة سامي العدل، فلم يمانع أيضًا. ووضع الموسيقى محمد عزت، وهو ملحِّنٌ موهوب، وكانت الأغاني هي التي كتبتُها في النص. وكانت تلك هي المرة الخامسة (بعد زوجات مرحات والمجاذيب والغربان، وجاسوس في قصر السلطان) التي لا يستعين فيها المخرج بشاعرٍ محترف لإضافة أغانٍ إلى النص؛ ففي معظم العروض المسرحية المعاصرة، يقوم المخرج — بصورةٍ أوتوماتيكية — باستدعاء زجَّالٍ محترف لكتابة الأغاني. وأذكُر أن المرة الأولى كانت في مسرحيتي البر الغربي عام ١٩٦٤م، وكان الشاعر هو الفنان الكبير عبد الفتاح مصطفى، والمرة الأخيرة في إخراج الثقافة الجماهيرية (حافظ أحمد حافظ) للمسرحية نفسها عام ١٩٩٦م، وإن كنتُ لا أذكُر اسم الشاعر المغمور الذي استدعاه حافظ!

حاولتُ بعد شفائي من العملية أن أعود إلى أداء واجباتي في التعليم المفتوح، وكان أهمها إعداد الكتب الدراسية اللازمة للطلاب، فشُغلتُ بذلك في مطلع العام، واجتهدتُ في أن أقدِّم المادة العلمية بأسلوبٍ سلسٍ يسير المأخذ. وكانت المادة تحمل اسم نصوص أدبية بالإنجليزية، ولكنني رأيتُ أن تقديم النصوص وحدها لن يزيد من خبرة دارس الترجمة، وربما كان يمثِّل انقطاعًا في مسيرة اكتساب الخبرات اللازمة، فأحببتُ أن أضيف إلى العنوان عبارة «للمترجم». ووُوفق على ذلك، فاستعنتُ بالدكتور ماهر شفيق فريد، الذي أتى لي بنماذجَ منوَّعة من ترجمات ثلاثة أجيالٍ من مترجمينا العرب، على امتداد القرن العشرين كله، وبدأت العمل المضني الشاق في تحليل النصوص الأصلية، ووضع الأسئلة التي تُعين الطالب على استيعابها، ومن بعد ذلك تأتي مرحلةٌ أخطر وهي اختيار منهج الترجمة المناسب لها وشرحه. وبعد ذلك أدرجتُ الترجمات العربية في ذيل الكتاب للاسترشاد بها، ومقارنة أداء الطلاب بأداء كبار مترجمي القرن، ولكنني لم أنشُر الكتاب بعدُ، وهو لا يعدو كونه من الوسائل التعليمية حاليًّا، وأتمنى أن أنشره، بجزأَيه مع الكتاب الجديد الذي أنجزتُه عام ٢٠٠١م، عن الترجمة الأدبية (بالإنجليزية).

كنتُ في عام ١٩٩٩م قد أعدَدتُ كتابًا عن المعاجم اللازمة للمترجم، وفي غضون ذلك كتبتُ دراسة (بالإنجليزية) عن مفهوم الترجمة الأدبية استنادًا إلى نظرية الترجمة الوظيفية، وهي أحدث النظريات قاطبة، أقول فيها إنه لا يُوجد نصٌّ مطلق؛ أي إنه من المُحال القول بأن نصًّا ما، بلغةٍ ما، يقابله نصٌّ أوحدُ ثابت بلغةٍ أخرى؛ فلا الكلمات تتطابق تطابقًا تامًّا (وهذا ما اهتدى إليه علم الدلالة الحديث)، ولا التراكيب (وهذا ما يؤكده علم اللغة)، ولا الثقافة الخاصة لكلٍّ من اللغتَين، وهو ما أكَّدتُه في دراستي، مُبينًا البعد الزمني الذي يجعل للعربية مستوياتها الثلاثة التي سبق أن المحتُ إليها.

وكان صديقي العزيز ماهر البطوطي في زيارة لمصر في صيف ١٩٩٩م، وقد نزل مع أسرته في شقة بالعمارة التي نقيم بها، فعرضتُ عليه الفكرة، وهو أديب ومترجمٌ ضليع، وتناقشنا ساعاتٍ طويلة، وتولَّد من مناقشاتنا لكتاب المعاجم والدراسة التي كتبتُها بعنوانٍ مقتبس من قول فتجنشتاين — الفيلسوف الشهير — أن ثَمَّة تشابهًا بين المعاني المختلفة للكلمة يشبه التقارب في السحنة بين أفراد الأسرة الواحدة. أقول تولَّدَت عن مناقشاتنا أفكارٌ جديدة، وطبَّقناها معًا على ترجمة خمسة أحاديثَ نبوية كان الأستاذ وجدي رزق غالي قد طلب مني ترجمتَها لإدراجها في مُعجَم النفيس لمجدي وهبة. وكان ذلك يرتبط أيضًا بما ترسَّب في أعماقي من رفضٍ للمنهج الشكلي الذي اتبعَتْه الباحثة نجوى الزيني (الدكتورة) في رسالتها التي تقدَّمَت بها للحصول على الدكتوراه بإشراف الدكتور سعد جمال، وشاركتُ في مناقشتها. وهذا المنهج، مثل سائر مناهج علم اللغة، يُحاوِل وضع القواعد (to formalize) والتعميم (to universalize) فالقاعدة (rule) (كيف اشتُقَّت في العربية من الفعل قعد؟) إذا لم تكن مطردة؛ أي قابلة للتطبيق في جميع الأحوال، فقدَت قيمتَها باعتبارها مبدأً يُسترشد به؛ ولذلك فإن الباحثين في علم اللغة يفترضون أن جميع اللغات متساوية في قواعدها، وفقًا لما قال به تشومسكي أولًا ثم عدل عنه في عام ١٩٩٥م، وأنها ترتكز إلى مفاهيمَ أوليةٍ primes وعالميةٍ عامة (universals)، وأن شتى الفروق فيما بينها يمكن إما التغاضي عنها باعتبارها عارضة (incidental)؛ أي غير جوهرية في البناء اللغوي، أو باعتبارها خاصة بالثقافة، وهو مجال لا يتطرق إليه علم اللغة.
وقد وجدتُ من ممارسة الترجمة الإنجليزية إلى العربية ومن العربية إلى الإنجليزية أن ذلك الاتجاه قد أوحت به دراسات اللغات الأوروبية التي تتفق في جوهرها وعارضها بل وفي ثقافتها ولكنه لا يصلُح أو لا يصدُق على العربية عند المضاهاة بالإنجليزية؛ لأن العناصر العارضة وعناصر الثقافة تشغل مكان القلب في العربية التراثية. وتجاهُل العربية التراثية (بل والفصحي المعاصرة) في دراسات علم اللغة الحالية، وتركيز الباحثين على اللهجات العامية (العربية المصرية، والعربية الشامية … إلخ)، باعتبارها اللغات الحية الجديرة بالبحث وفقًا لمفاهيم علم اللغة الحديث، قد أحدَث خللًا لا بد من التصدي له، وهو خللٌ في صلب المنهج نفسه وفي صلب النظرية؛ ولذلك شرعتُ أستقي من الممارسة مبادئَ جديدةً أهتدي بها. وانتهيتُ إلى أن المنهج الشكلي لا يكفي لتحليل الترجمة، بل لا بد أن يصاحبه منهجٌ دلالي، يأخذ في اعتباره تغير معنى الكلمة العربية أو التعبير العربي عَبْر العصور، وهو ما أسمِّيه بالمنهج الزمني (diachronic) الذي يختلف عما يستند إليه الباحثون المعاصرون جميعًا من مناهجَ آنيَّة (synchronic)؛ أي مناهج لا تأبه لمعاني الكلمة المتوالية على مر الزمن، وإن كان ذلك لازمًا في حالة اللغة العربية.

وانتهيتُ أيضًا إلى أن من شأن المنهج الزمني أن يجعل المترجم واعيًا بالسياق الثقافي للكلام، لا السياق اللغوي أو التعبيري فقط. واكتشفت أننا نحتاج إلى ذلك السياق حاجةً شديدة؛ إذ ابتعد العهد باللغة التراثية، وأصبحَت معانيها غامضة، وربما لم تكن كذلك عند أهل زمانها؛ فكثير من الكلمات التي نصادفها في شعر القدماء مختلَف على معناها، خصوصًا أسماء الحيوان والطير والنبات، وكثيرٌ من الألفاظ الأصلية في العربية ذات معانٍ «واسعة» يكتنفها الغموض، وتكفي قراءة مادة أو مادتَين من لسان العرب لإدراك ذلك بسهولة. وقد ضربتُ في دراستي المذكورة أمثلةً كثيرة على ذلك.

وأما جوهر المقال (أو الدراسة) فهو أن اختلاف المترجمين في فهم النص العربي لا بد أن يؤدي إلى اختلاف الترجمات الإنجليزية له، وقد قسَّمتُ درجات الاختلاف إلى فئتَين رئيسيتَين؛ الفئة الأولى هي فئة المترجم من الذين يقرءون النص باعتباره نصًّا تراثيًّا، ولو كان مكتوبًا في القرن العشرين، ويشجِّعهم على ذلك ميل بعض أساتذة العربية وغيرهم إلى استخدام اللغة التراثية في كتاباتهم. والفئة الثانية هي فئة المترجمين الذين يعتبرون النص نصًّا معاصرًا، ولو كان قد كُتب منذ ألف سنة أو أكثر، يشجِّعهم على هذا كثرة تداول آيات كتاب الله العظيم وأحاديث نبيه الكريم، ويشجِّعهم على ذلك أيضًا استناد هذه اللغة التراثية إلى مفاهيمَ أوليةٍ وعامة (بالمعنى المبيَّن عاليه) تسمح بمثل ذلك التناول. وفيما بين هاتَين الفئتَين تقع فئاتٌ كثيرة يتفاوت حظُّها من إدراك المعاني القديمة ودرجة وجودها (أو الإيحاء بوجودها) في النصوص المعاصرة، ويتفاوت حظُّها من الإلمام بالتاريخ الثقافي للغة العربية.

ومع ذلك فقد ينتمي بعض المترجمين إلى فئةٍ واحدة من الفئتَين المذكورتَين ثم يُخرجون نصوصًا تختلف فيما بينها اختلافاتٍ واضحة دون أن يكون أحدها أصح من صاحبه، وذلك أساسًا بسبب اختلاف فهمهم — حتى في نطاق الفئة نفسها — للنص، واختلاف قدراتهم التعبيرية؛ ومن ثَم قلتُ في الدراسة إن الكثيرين من كل فئة يستطيعون إخراج ترجماتٍ صحيحة تختلف في ألفاظها، ولكنها تقع في مجموعتَين تمثِّلان الفئتَين السالفتَين، وهي على اختلافها تتشابَه تشابُه أفراد الأسرة الواحدة! ومن ثَم كان عنوان المقال Family Resembalances.

وكان صديقي ماهر شفيق فريد يتابع قراءاتي في علم اللغة الحديث، فيما اشتريتُه من كتبٍ أجنبية، ويكاد ينكره، وإن كان يقرؤه ويستمتع به، ويقول لي: «لقد اختلف حديثك واختلفت اهتماماتك!» كأنما كان يرجو ألا أنصرف عن الأدب إلى اللغة. وذات يومٍ كنا في مبنى مركز التجارة العالمي على شاطئ النيل، في مكتب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للسؤال عن شيكٍ أتوقَّعه من الأمم المتحدة، وكنا في انتظار فَض الرسالة البريدية التي كنتُ أرجو أن يكون الشيك فيها (ولم يكن) حين أخرجتُ له من حقيبتي نصَّ كتابٍ ترجمتُه من العربية إلى الإنجليزية بعنوان وقت في العراء للكاتبة الجزائرية حبيبة محمدي، وهو مجموعةٌ فريدة من الإبجرامات، وكنتُ حائرًا كيف أترجم «إبجرام» حتى قال لي جابر عصفور: «نحن نكتبها إبجرام وحسب.» فقُضي الأمر وحُسم. وكنتُ كتبتُ للترجمة مقدمةً عن ذلك الفن الشعري، فانطلق يقرأ المقدِّمة وبدا عليه السرور؛ إذ تيقَّن أن صديقه لم يخُن قضية الأدب!

ورأيتُ الاستفادة مما تجمَّع لديَّ من المادة المترجمة التي تُبيِّن كيف تختلف معاني الكلمات باختلاف السياق؛ لأنني ضقتُ ذرعًا بالأساتذة الذين لا يعرفون إلا معنًى واحدًا لكل كلمةٍ أجنبية، وللطلاب الذين يمارسون الترجمة فلا يقربون المعجم، ولا يُحاوِلون إدراك المعاني المختلفة للكلمة. وإذا كان الأساتذة لهم عُذرهم في ذلك؛ فالمعنى الذي يعرفونه هو المعنى الذي يعنيهم في تخصُّصهم، فلا عُذر للمُترجِم الذي يتصدى لنصوصٍ كثيرة، وعليه أن يُلِم بجميع معاني الكلمة إذا كان يريد احتراف تلك المهنة الشاقة. وقدَّمتُ لهذه النماذج بمقدمةٍ وافية من ثلاثة فصول، ثم جمعتُ الكلمات في مجموعات، وأرفقتُ بها معجمًا موجزًا أشرح فيه نظريات الترجمة الحديثة، في إطار ما أسميتُه بالترجمة الوظيفية. وأعدَدتُ الكتاب للطبع، ودفعتُ به إلى شركة لونجمان، فرحَّب به الأستاذ وجدي رزق غالي، وأسماه مرشد المترجم، وصدَر في عام ٢٠٠٠م.

إن الاهتمام باللغة لا ينفصل عن الاهتمام بالأدب، وكثيرًا ما أحزن حين يُحجم الأستاذ عن إجابة سؤالٍ في اللغة محتجًّا بأنه أستاذٌ للأدب لا للغة!

وكان من خيرات ترك رئاسة القسم أن أصبح لديَّ الوقت اللازم للانقطاع إلى القراءة. وكنتُ منذ أن انغمستُ في التراث العربي أستجلي غوامضه؛ فهو بحرٌ زاخر، لا يُمتطى ثبجُه، ولا تُخاض لججُه كما يقولون، قد اكتشفتُ ضرورة الاطلاع على أصول الكلمات العربية، وما أكثر ما تتجاهل المعاجم العربية هذه الأصول! وكان من فواتح الشهية كتاب قضية التعريب على ضوء اللغات السامية للدكتور محمد زعيمة، من قسم اللغات الشرقية عندنا؛ إذ كنتُ أقرأ كتب الدكتور إبراهيم السامرائي في هذا المجال، فأجد أنني ما زلت حائرًا، ولم يكن في كتاب السيد آدي شير من الكلمات الفارسية الدخيلة في العربية، إلا زيادة في حدَبي وإصراري على ولوج هذا الباب. وعندما انتهيتُ من المعرَّب للجواليقي وكتاب جامع التعريب بالطريق القريب، أيقنتُ أنني لا بد من أن أستزيد وأستزيد، وكان كل كتاب أقرؤه — مثل تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل للدكتور أحمد السعيد سليمان — حافزًا لي على إعادة النظر في المعجم العربي وكيف نفهم العربية، وهذا من أخصِّ خصائص المترجِم الذي يحترف هذه المهنة، ويتوفَّر على مزاولتها.

وكنتُ في ذلك أشعر أن العربية من أصعب لغات العالم؛ فها أنا ذا نشأتُ في الكُتَّاب، وبدأت حياتي بحفظ القرآن، وتقويم لساني به منذ الصغر، ثم شببتُ في كنَف والدٍ لا همَّ له إلا العربية، ومع ذلك أجد نفسي مثل المبتدئين كلما عنَّت لي صعوبة، فأُهرَع إلى التليفون أسال الدكتور عبد القادر القط ومن قبله — على امتداد سنوات — الدكتور شكري عياد، أو أقضي الساعات مع المعاجم التي أستنطقها فلا تفصح، وفي غضون ذلك يزداد إعجابي بأساتذتنا الذين دانت لهم العربية فأحكموا فهمها وصوغها. وأحيانًا ما كنتُ أقول لنفسي، هل كان عليَّ أن أتخصص في العربية؛ فربما حقَّقتُ أحلامي، بدلًا من تعلُّم لغةٍ أجنبيةٍ يزعم الجميع أنهم يعرفونها فلا حاجة بهم إليك؟

١٠

وكان من خيرات التفرُّغ أيضًا حرية السفر في ربوع مصر لمناقشة الرسائل في الجامعات الإقليمية. وكان صديقي الدكتور شبل الكومي يرشدني إلى الخبايا والأسرار، ويحثُّني على الترحال على ما للأسفار من مشقةٍ وإرهاق؛ إذ أتاح لي ذلك، الاطلاع على أحوال الدارسين في تخصُّصنا. وكم كانت دهشتي عندما أدركتُ أعدادهم الكبيرة، ومدى الهوَّة التي تفصلهم بل وتعزلهم عن حياة البحث العلمي والاستزادة من المعرفة. وكنت أستمع إلى القصص التي تبدو أغرب من الخيال، ثم يتحقَّق لي صدقها عندما يتقدم بعضهم إلى اللجنة العلمية الدائمة طالبًا الترقي إلى درجة أستاذٍ مساعد أو أستاذ!

وكنتُ خرجتُ أول مرة من القاهرة إلى الأقاليم في مطلع التسعينيات، عندما دعاني الدكتور فوزي مكاوي، عميد كلية الآداب بجامعة طنطا، إلى الإشراف على قسم اللغة الإنجليزية في الكلية، ولم يكن بالقسم أساتذة أو أساتذةٌ مساعدون. كنتُ أذهب بسيارتي الفيات القديمة (١٣٢)، وأحاول تطبيق ما نفعله في القاهرة هناك. وكان أقدمهم — الدكتور هاني عازر — يتولى الإشراف الفعلي مع الاحتفاظ للعميد بالإشراف الرسمي. ولن أنسى أول اجتماع أعقده لمجلس القسم حين قال لي الدكتور محمد الشاعر بصراحةٍ موجعة: «نحن لا نريدك … ولا نريد رئيسًا … ولا نطلب منك إلا تدريس الترجمة.» وعندما ذهبتُ إلى العميد جعل يقصُّ عليَّ طرفًا مما يفعلونه لكسب المال. وكنتُ أستمع (ما بين مصدق ومكذب) إلى أحابيل ابتزاز الطلاب وطرائق الإثراء السريع. وقال العميد مزهوًّا لقد قبلنا المئات هذا العام بشرط دفع تبرُّع للكلية واشتريتُ بالمال المتوافر عدة حافلاتٍ صغيرة تخدم الجامعة. وسألتُه إن كان يطبِّق شروط الالتحاق التي نطبِّقها في القاهرة، فقال: «إن لكل جامعة نظامها؛ فنحن نؤمن باستقلال الجامعات! وليست درجة اللغة الإنجليزية في الثانوية العامة مقياسًا يُعتد به.»

وجاءه من يخبره أثناء الحديث معي بأن مدرسًا في القسم يرفض بعضَ ما كلَّفه به، وكان ذلك المدرس هو الدكتور حسن البنا، فقال «استدعوه.» ولما جاء حسن أغلَظ العميد له القول. وذكَّرني هذا الموقف بما قاله الدكتور أحمد خليل، الذي كان منتدبًا من كلية العلوم لعمادة كلية التربية في الفيوم، في عامَي ١٩٧٥م و١٩٧٦م؛ إذ أتيتُ له ذات يوم في الرابعة مساءً أقول له إنني انتهيتُ من دروسي وأودُّ الاستئذان للرحيل إلى القاهرة (بعد عمل يومٍ شاق في التدريس من التاسعة صباحًا)، فنظر إليَّ باستعلاء، ثم تطلع إلى جدول المحاضرات، وقال بلهجة ناظر المدرسة: «ميعادك الساعة خامسة! روح فصلك يا أستاذ!» (فتركتُه إلى القاهرة، ولم أعُد بعدها إلى الفيوم أبدًا).

وحاولت مساعدة أعضاء القسم في طنطا على ممارسة البحث العلمي، وتشجيع الصغار على الانتهاء من دراساتهم العليا. ونجحتُ في مسعاي الأخير؛ إذ أشرف بعض أعضاء مجلس قسم الإنجليزية لدينا — مثل الدكتور أمين العيوطي (الروائي والمترجم القدير) على بعض رسائلهم. وكنا نشارك أنا والدكتور محمود فهمي حجازي (من قسم اللغة العربية) في الإشراف على الحياة العلمية بالقسم، ولكن سرعان ما اكتشفنا أن همَّ الجميع كان كسب المال لا اكتساب العلم؛ فبعضهم يسافر إلى بلدان قريبة أنشِئَت بها كليات تربية (مثل كفر الشيخ وشبين الكوم وبنها) للتدريس، حتى بلغ عدد الساعات التي يُدرِّسها بعضهم ٦٠ ساعة في الأسبوع! وكانت التجربة أليمة، خصوصًا بعد أن سمعتُ من الدكتور هاني عازر أن العميد يقول إنني، أنا والدكتور حمودة، الذي كان قد سبقني في الإشراف على قسم طنطا، نسعى لكسب المال! وغضبتُ، خصوصًا لأنني لم أتقاضَ مليمًا واحدًا مقابل عملي الأسبوعي هناك، على امتداد عامَين.

ذكَرتُ ذلك كله وأنا أنتقل بعد «التفرُّغ» في أرجاء الصعيد وأنحاء الوجه البحري وقناة السويس، وشهدتُ بعينَي رأسي مدى التدهور في العلم والتعليم. وكان أحد الزملاء قد أطلعني على ما يفعله هو في المنطقة الشرقية من مصر، منطلقًا من مكانه في جامعة المنصورة، حين ذكرتُ له أنني تقدَّمتُ بطلبٍ للإعارة إلى إحدى الدول العربية، فقال إنه لا حاجة له بالإعارة! فالكتب تكفي! وقال دون ذرة من خجل إنه يتفق مع إحدى مكتبات المنصورة على طبع النصوص الإنجليزية المقرَّرة (شيكسبير مثلًا) مع مقدمةٍ يأتي بها من بعض الكتب، ويكون ذلك كله عن طريق التصوير؛ أي إن النص لا يجمع في المطبعة من جديد خشية الأخطاء المطبعية، وتوفيرًا لجهد مراجعة التجارب الطباعية، ثم إنه يفرض الكتاب باعتباره أستاذ المادة (وهو مدرس لأن الكوادر معظمها من الشباب، ولا يُوجد بينهم أساتذة) على ألف طالب في المنصورة وفي الزقازيق وبنها مثلًا، ويحدِّد سعره بعشرة أضعاف التكاليف، فيكون له من كتابٍ واحد مرتب شهرَين أو ثلاثة في الكويت أو السعودية.

وقد أكَّد لي الدكتور عبد الرحيم الرفاعي — من جامعة المنصورة — أن ذلك ما زال يحدُث، وأن رئيس الجامعة يوافق عليه، وأن الشكاوى التي قدِّمَت كان مصيرها الرفض؛ إذ قال رئيس الجامعة: «لماذا يتحمل الطالب أسعار الكتب الأجنبية، وهي باهظة بل رهيبة، وهو يستطيع أن يدفع ربعها أو ثلثها لشراء الطبعات المصرية؟» ولكن الذي لم يقُله هذا أو ذاك هو أن «البائع» هنا يتقاضى أرباحًا «باهظة ورهيبة»، مقابل جهدٍ لا يُذكر، وأن الطالب يدفع عشرين أو ثلاثين جنيهًا ثمنًا لكتاب لم يتكلف طبعُه جنيهَين أو ثلاثة! وسألتُ الدكتور الرفاعي، وكان معي الدكتور ماهر شفيق فريد، قبل مناقشة إحدى الرسائل ذلك اليوم في المنصورة: «وكم عدد الطلاب الذين قبلتموهم في السنة الأولى بقسم اللغة الإنجليزية هذا العام؟» فقال: «ألف وخمسمائة!»

ومن يعي ذلك يدرك سر الضجة التي ثارت عند صدور قانون الجامعات الجديد! القضية ليست قضية الجامعات الرئيسية (القاهرة وعين شمس والإسكندرية) بل هي قضية الجامعات الإقليمية. وإذا كان من اليسير التحقُّق من ضعف مستوى التحصيل في اللغة الإنجليزية؛ إذ يكفي أن تُحادث أحدهم بالإنجليزية حتى تكتشف ذلك، فإنه من أعسر الأمور في التخصُّصات الأخرى؛ فمن ذا الذي يستطيع أن يتحقق من مستوى طالب الطب أو العلوم أو الزراعة؟! والغريب أن يجري ذلك كله تحت بصر المسئولين وسمعهم؛ فما إن يترقَّى أحد هؤلاء الإقليميين إلى درجة أستاذٍ مساعد، عادةً في علم اللغة، كأن يُجري بحثًا في كلمة «في» أو «فيه» بالعامية المصرية (فيه/في عندك) وأبحاثًا من هذا القبيل حتى يصبح أستاذًا مساعدًا للغة الإنجليزية، له حق الإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه، فلا تمضي سنوات حتى يكون القسم العلمي، قد امتلأ بالمدرسين والمدرسين المساعدين الجُدد ولا يعرف أحدٌ عنهم شيئًا حتى يتقدَّموا للترقية، وإن كان بعضهم يفضِّل عدم التقدُّم؛ فالقانون يضمن له الاستمرار في العمل في الجامعة بعد الستين باعتباره أستاذًا متفرغًا وبعد السبعين أستاذًا غير متفرغ.

وأذكُر أنني دُعيتُ ذات يوم لمناقشة رسالة تقدَّمَت بها صاحبتُها للحصول على درجة الماجستير من جامعة الزقازيق، وكان المشرف من المنصورة، والممتحن الآخر من الزقازيق، وكانت الطالبة قد انتهت من السنة التمهيدية للماجستير عام ١٩٨٥م، في جامعة القاهرة، وسجَّلَت في الزقازيق للدرجة، وتردَّدَت الشائعات بأنها تزوَّجَت العميد (وقد ذكَرَت لي ذلك بنفسها بلهجة من يريد أن يثبت ما ينفيه)، وزارتني في المنزل لتسليمي الرسالة، وكانت حاملًا على وشك الوضع. وبعد أن قرأت الفصل الأول راعني جمال الأسلوب واستواؤه، فقلتُ للمشرف إنني موافق على المناقشة، وشُغلتُ بأشياءَ كثيرة عن الرسالة، كما شُغلَت هي بالوضع ورعاية الطفل، ثم اتصل بي الدكتور طلعت حفني، وكان زميلًا قديمًا، ليدعوني إلى المناقشة؛ لأن الطالبة سوف تسافر مع زوجها إلى بلدٍ عربي شقيق. وتحدَّد الموعد بعد أسبوع، فعكفتُ على الرسالة، وإذا بي أُحِس بأنني قرأت ذلك الكلام قبل ذلك. تُرى أين قرأتُه؟ وجعَلتُ أحدُس حتى مرَّت بي عبارةٌ كنتُ واثقًا أن أصاحبها هو السير موريس باورا، مؤلف كتاب الخيال الرومانسي، فأتيتُ بالكتاب، ووجدتُ أن الطالبة قد نقلَت عنه فقراتٍ كاملة، مع تعديل في أماكن العبارات؛ فهي تبدأ الفقرة لديها بآخر جملة في الفقرة الإنجليزية، ثم تأتي بالجملة الثالثة، ومن ورائها الثانية وهكذا، فاتصلتُ بالدكتور حفني، وقلتُ له هذه الطالبة حرامية وإنني لا أستطيع مناقشتها، ولا بد أن تُعيد كتابة الرسالة، وأن تُورِد أسماء المراجع التي اقتبسَت منها هذا الكلام! وذهِل مما سمع، وقال إن الوقت ضيق، ولن يتسنَّى لنا الاستعانة بأستاذٍ (ممتحن) آخر؛ لأنها لا بد أن تسافر بعد أسبوع.

وقلتُ في نفسي: لقد أخطأتُ عندما اكتفيتُ بقراءة الفصل الأول، وربما يكون أحدٌ قد ساعدَها في كتابته، وكان الواجب أن أفحص الرسالة كلها قبل الموافقة! وها أنا ذا في حَيْصَ بَيْص! ولكنني قلت، من ناحيةٍ أخرى، إنني أستطيع معاقبة الطالبة وفضح سرقاتها بدلًا من إحضار أستاذٍ آخر يمنحها الدرجة بامتياز. وهكذا وافقتُ على المناقشة، وأعدَدتُ ما انتويتُ أن أقولَه، وقلتُه كلَّه. وكانت الطالبة تبكي بكاءً صامتًا، وطفلها الرضيع الذي تحمله أمها يبكي بصوتٍ مسموع! واختلَت اللجنة للمداولة، فقال الممتحنان لي إن أمامنا خيارًا واحدًا — طبقا للقانون — وهو منحُها الدرجة بتقديرٍ منخفض؛ لأننا ما دمنا وافقنا على المناقشة فقد أجزنا الرسالة! وحاولتُ التكفير عن خطئي (بعدم قراءة الرسالة كلها)، وأصررتُ على منحها الدرجة بتقدير مقبول، واعترض الممتحنان لأن ذلك معناه عدم تسجيلها للدكتوراه، فقلتُ لهما: في هذه الحالة وكما يقضي القانون، فإن من حقي الانسحاب؛ لأن أداء الطالبة في الشفوي غير مقنع! فوافق العضوان، وحصلَت الطالبة على الدرجة، وسافَرَت، واتصلَت والدتها بي بعد نحو عامٍ تشكرني على موقفي، وتقول إن ابنتها أصبحَت رئيسة القسم هناك، وهي تعرض عليَّ السفر في إعارة لديها!

وتجنَّبتُ الوقوع في ذلك الخطأ في العام التالي، عندما أرسل لي أستاذٌ من صعيد مصر رسالةً لطالبٍ كنتُ أظنها للماجستير؛ إذ فوجئتُ بضعف اللغة وعدم الإحاطة بموضوع يظنُّه الناس سهلًا؛ لأن فيه جانبًا عربيًّا، وهو صعبٌ ومعقَّد لذلك السبب نفسه، ألا وهو مقارنة مسرحيات صلاح عبد الصبور بمسرحيات ت. س. إليوت، وكنتُ قد شاركتُ قبل أعوام في مناقشة رسالة عن مسرح إليوت، كان يُشرِف عليها في جامعة الملك عبد العزيز، في جدة، الدكتور عبد الله الحافظ متولي، مما اقتضى تعمُّقي في دراسة الموضوع، وأما صلاح فكنتُ أكاد أحفظه حفظًا.

تجنَّبتُ الوقوع في ذلك الخطأ بأن قرأتُ الرسالة، واعتذرتُ للأستاذ بسبب سفري إلى إيطاليا، موضحًا له أن الرسالة في حاجة إلى تعديلات في المنهج وفي اللغة، فقال إنه لاحظ ذلك، وسوف يقوم الطالب بهذه التعديلات في الصيف، ورجاني ألا أنسحب من اللجنة بعد أن وضع اسمي في التشكيل الذي وافق عليه مجلس الكلية والجامعة! ولكنَّني أصررتُ على الانسحاب متعللًا بمشاغلَ كثيرة. وبعد أيام اتصلت بي الدكتورة منى أبو سنة وسألَتني عن رأيي في الرسالة بعد أن سمعَت أنني قبلتُها، وقلتُ لها الحقيقة، فقالت إنها قد اعتذَرَت هي الأخرى، للأسباب التي أبديتُها نفسها. وعندما عُدتُ من إيطاليا في سبتمبر قرأتُ خبرًا مفادُه حصول الباحث فلان على الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى! ولا يزال ذلك الباحث يتقدَّم إلى اللجنة العلمية، المرة بعد المرة، محاولًا الترقي إلى درجة أستاذٍ مساعد حتى يُشرِف على رسائلَ جامعية، ولا يزال يُخفِق في كل مرة، لكنه دءوب لا يكِل ولا يمَل!

وفي يوم ١٨ مايو ٢٠٠٠م ذهبتُ أنا والدكتور شبل الكومي لمناقشة رسالة في أسيوط، وكان يوم ثلاثاء؛ فالطائرة تقتصر على رحلةٍ واحدةٍ من مطار القاهرة في الأسبوع، وقُبيل المناقشة، وأنا مشغول بترجمة بعض أبيات من قصيدة على اسم مصر للشاعر صلاح جاهين، دخلَت الدكتورة فردوس عبد الحميد المشرفة، وقالت إنها تركَت اجتماع مجلس الكلية حتى ننتهي من مناقشة الرسالة، وكان المجلس يناقش تسجيل أحد الطلاب لموضوع في الترجمة، وهو ترجمة قصة موسى عليه السلام في القرآن الكريم، وكان ذلك هو نفس الموضوع الذي درسَتْه نجلاء رشدي، وحصلَت به على الدكتوراه من جامعة القاهرة قبل عامَين، بإشرافي، فقلت لها كيف لم يطَّلع المجلس على الرسائل التي سبقَت كتابتُها في هذا الموضوع؟ فقالت إنها اعترضَت في المجلس ولكن رئيس القسم (وكان أيضًا وكيل الكلية)، الدكتور أحمد المختار، أصَرَّ على رأيه! وعندما رأيتُ الدكتور المختار بعدها بقليلٍ ذكرت له ذلك فقال: «سوف يناقش الطالب الموضوع من زاويةٍ مختلفة — لغوية!» وقلتُ له أرجو أن يطَّلِع الطالب على دراسة نجلاء، ولكنه قال إن الزاوية مختلفة!

وفي عام ٢٠٠٠م اتصلت بي الدكتورة فاطمة نصر، وقالت لي إنها وُفِّقَت في الحصول على حق ترجمة كتاب أرمسترونج الجديد معارك في سبيل الإله، وليتنا نبدأ العمل على الفور! وانتهى العمل في آخر الصيف فعلًا، وصدَر الكتاب، ولاقى نجاحًا كبيرًا، وفاز بجائزة أحسن كتابٍ مترجَم عن عام ٢٠٠٠م، في معرض القاهرة الدولي للكتاب في يناير.

وفي عام ٢٠٠٠م بدأَت رحلاتي إلى جامعة جنوب الوادي — كلية الآداب في أسوان — للتدريس، لا لمناقشة الرسائل، فعلمتُ المزيد عن مصر وجامعاتها.

١١

وصلتُ الآن إلى الحد الزمني الذي وضعتُه لهذا الكتاب، وهو عام ٢٠٠٠م؛ أي عام نهاية القرن العشرين؛ فالعدد مائة يبدأ برقم ١ وينتهي برقم ١٠٠. ولم يبقَ سوى ربط بعض الخيوط التي سهوتُ عن ربطها في خِضَم الأحداث، ومنها مقابلة حسن المخرج في صيف ١٩٩٩م بعد عودتي مباشرةً من أمريكا، أثناء زيارة له للقاهرة، وقد استعاد نشاطه وحيويته، برغم الشيب الذي وخَط لحيته وشعر رأسه (وقد دبَّ إليه الصلع)، فطمأنَني على حال أسرته؛ إذ تزوَّجَت ابنته من ممثلٍ مشهور، وهما يعيشان في هناء. وشُفيَت زوجته من مرضها القديم، وإن كانا غير زوجَين بالمعنى الدقيق. وأما هو فهو فمقيم بصفةٍ دائمة في أمريكا؛ حيث افتتح مكتبًا للخدمات الإعلامية (الترجمة) ودعاني — كعادته — للعمل معه! وكنتُ كشأني مجاملًا فلم أرفض ولم أقبل، وافترقنا ولم أرَه بعد ذلك.

وأما مسرحيتي كيلو بودرة فلم أجرؤ بعدُ على تقديمها إلى أحد المخرجين، وليس في ذهني سوى محمود الألفي، حتى أضيف إليها اللمسات التي تحرِّرها بعض الشيء من المادة الحياتية (الحيوية) وتجعلها أكثر جاذبيةً للمشاهدة، ولكنني أعدَدتُ ديوانًا جديدًا كتبتُ جُل قصائده في شتاء ٢٠٠٠م، بعنوان حورية أطلس. ولم أغادر مصر في عام ٢٠٠٠م إلى الخارج إلا في رحلةٍ قصيرة إلى إمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، برفقة سمير سرحان. وفي ٣ ديسمبر من عام ٢٠٠٠م أجرى لي العبقري ممتاز حجازي عملية المياه البيضاء في عيني اليسرى، ولكنني رغم المضاعفات غير المتوقعة بسبب ارتفاع ضغط الدم المزمن لديَّ، تماثلتُ للشفاء، والحمد لله.

لقد التزمتُ بعددٍ محدَّد من الصفحات لا أزيد عليه، فنسيتُ الكثير وحذفتُ الكثير، ولكن همي الأول كان رصد ذلك التنوُّع الذي يقارب التشتُّت في النشاط العلمي والأدبي على امتداد ربع قرن. وكانت زيارة الماضي ممتعةً وأليمة، واستنفدَت مني جهدًا نفسيًّا يصعُب وصفُه. وأرجو أن أكون قد أخرجتُ صورةً صادقة لحياتي في هذه السنوات الخمس والعشرين، آخر مرحلة في العمر الرسمي، وبعد أن غدَوتُ أحِس أنني ضيفٌ على هذا الوجود، أنتظر الدعوة للرحيل في أي لحظة. وكلنا ضيوف، وكلنا راحلون، ولكن تجربة المرض اللعين قد عمَّقَت من هذا الإحساس الذي لا أظنُّه يُراوِد الكثيرين. وأنا أشكُر الله، سبحانه وتعالى، على المرض وعلى الشفاء منه؛ فلقد منحَني مهلةً للاستعداد للامتحان، كأنما أصبح هناك «دورٌ ثانٍ»، بلغة المدرسين، وعليَّ أن أستعدَّ له.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤