مقدمة

من أول الامتيازات التي مُنِحت لآدم هو تسمية جميع الحيوانات في جنة عَدْن:

وجبلَ الربُّ الإله من الأرض كلَّ حيوانات البرِّية وكل طيور السماء، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكلُّ ما دعا به آدم ذات نفس حيَّة فهو اسمها.

لا يرمز هذا الامتياز إلى سيادته على غيره من سُكَّان الجنة فحسب، بل يمنحه أيضًا القدرةَ على التحدُّث عنهم والتفكير فيهم بوصفهم أفرادًا ومجموعاتٍ أيضًا مقسَّمة بطبيعة الحال. التسمية مهمَّة. فالاسم يوفر الفرصةَ في التركيز على الفكر والشعور. وفي الحياة السياسية والتجارية، يُشَار إلى عملية التسمية ﺑ «تكوين الهُوِيَّة». ثمة قدرٌ هائل من التفكير يُبذَل في سبيل تكوين هُوية منتَج جديد، أو شركة جديدة، أو حزب سياسي جديد. إنه أمرٌ في غاية الأهمية، حتى إنه يُعتقَد في بعض الأحيان أنه من الضروري «استحداث هُوية» شيء ما ليس بجديد على الإطلاق، لكن يجب تقديمه للجمهور بطريقة جديدة. لا شك أن هناك شيئًا مختلفًا: مكوَّنًا جديدًا، وشكلًا جديدًا، وتوجُّهًا جديدًا، وتركيزًا أيديولوجيًّا جديدًا، وجيلًا جديدًا من القادة الشباب النشِطين، وما إلى ذلك. لكن صياغة الاسم في حد ذاتها قادرةٌ في كثير من الأحيان على تغيير المواقف.

من حيث الموقف، فاللاأدرية قديمةٌ جدًّا في واقع الأمر، والأرجح أنها بِقِدَمِ أُولى التكهُّنات بشأن طبيعة الكون، ومكاننا وهدفنا في إطار وجودنا فيه. لكن من حيث الاسم، توجد «اللاأدرية» منذ مائة وخمسين عامًا على الأكثر فحسب. وقد كان لهذه التسمية الخاصة كل التأثيرات التي كان يمكن أن يكون مرغوبًا فيها؛ صارت محطَّ اهتمام ونقاش. تشكَّلت تحالُفات حول هذه التسمية. وأدَّت أيضًا إلى ظهور دورية جديدة: «اللاأدرية السنوية». وهي الآن عنصر أساسي في التعليم الديني في المدارس؛ إذ يتعلم التلاميذ وجودَ اعتقادات مختلفة؛ كالإيمان بوجود إله، والإلحاد، واللاأدرية.

من سوء الحظ أنَّ التسمية قد تأتي بنتائجَ عكسية. فقد تكون المشاعر التي تُثيرها عدائية. ولا شك أن اللاأدرية قد حَظِيت بدعاية سيئة، ولا تزال. ففي البداية، كان يُنظر إلى أوائل مَن وصفوا أنفسهم بأنهم لاأدريين بارتيابٍ كبير. كانوا يوصَفون بأنهم ليسوا سوى مُلحِدين تحت مسمًّى مختلف. وفي الأزمنة الحديثة، تعرَّض اللاأدريون للسخرية بسبب تردُّدهم. انظر، على سبيل المثال، إلى المواقف التي ذكرها ريتشارد دوكينز في كتابه «وهم الإله»:

اعترف المسيحي القوي البنية الذي كان يخطب فينا مِن فوق منبر كنيسة مدرستي القديمة باحترامه الخفي للمُلحِدين. فبالنسبة إليه، كانوا يتمتعون على الأقل بشجاعة اعتناق قناعاتهم الضالة. الفئة التي لم يكن هذا الواعظ يستطيع أن يتحمَّلها هم اللاأدريون الذين وصفهم بأنهم ضِعافُ الشخصية، وجُبناء غير حاسمين، ومُخيِّبون للآمال، وضعاف الإرادة يقفون على الحياد … وفي السياق نفسه، وَفقًا لكوينتين دي لا بيدويير، فإن المؤرِّخ الكاثوليكي هيو روس ويليامسون كان «يحترم المؤمن المتديِّن الملتزم وكذلك الملحِد الملتزِم. واحتفظ باحتقاره لمَن يتأرجحون في المنتصف من الوسطيِّين الضَّحْلين الضعفاء الواهني العَزم.»

دوكينز نفسه عالِم أحياء، ملحِد ملتزم، ومن المروِّجين للعلوم الأكثر تأثيرًا في الحديث عما تنطوي عليه من تناقضاتٍ مع الدِّين وتداعياته التي تتناقض في ظاهرها مع الدِّين. وبما أن هذه الفقرة تظهر في بداية قسمٍ بعنوان «فقر اللاأدرية»، فمن الواضح أن دوكينز متعاطفٌ إلى حدٍّ ما مع مثل هذه المواقف. غير أنَّ تعقيبه على ذلك أكثرُ اتِّزانًا مثلما سنرى.

fig1
شكل ١: التسمية الفيكتورية: صفحة الغلاف لعدد عام ١٨٩٧ من دورية «اللاأدرية السنوية».

إذن ما هي اللاأدرية حتى تثير مثل هذا الازدراء؟ وجهة النظر الشائعة هي أن الأمر ليس أكثرَ من مجرد اختيار في خانة «لا أعرف» فيما يخص مسألة وجود إله. إذا كان هذا هو كلَّ ما في الأمر، فليس من المستغرَب أنها لا تحظى دائمًا باحترام أصحاب الآراء الأكثر حسمًا. ومن الآراء الشائعة عنها أيضًا أنها نوعٌ من أنواع الحلول الوسط بين الإيمان بوجود إله والإلحاد — بين الاعتقاد بوجود إله والاعتقاد بعدم وجوده — وهي وجهة نظر تحاول إرضاءَ طرفَي الجدال، ومثل معظم الحلول الوسط، فهي لا تُرضي أيًّا من الطرفين في النهاية. يبدو أنها تُمثِّل عدمَ وجود قناعة محدَّدة أو عدم الالتزام، والتردُّد، وعدم المشاركة.

إذا كانت هذه هي اللاأدرية فحسب، فلماذا نخصِّص لها كتابًا، حتى وإن كان كتابًا قصيرًا مثل هذا؟ يبدو الأمر كما لو أن أحدهم ألَّف كتابًا بعنوان «نظريَّتي عن الكون» وأعلَن في الصفحة الأولى أنه ليس لديه نظرية. فما الذي سيتضمَّنه باقي الكتاب؟ وفي هذه السلسلة من «المقدمات القصيرة جدًّا»، يبدو كتابٌ يتناول اللاأدرية شاذًّا عن البقية. فالكتب الأخرى تتناول موضوعاتٍ إيجابية، مثل المعتقَدات التي حدَّدت ثقافة بعينها، والأحداث التي شكَّلت الأمم، والأفكار والاكتشافات التي غيَّرت الفكر والوجود الإنساني. وعلى العكس من ذلك، تبدو اللاأدرية سلبيةً بشدة؛ تبدو غيابًا للفكرة وعَدَمًا فحسب. ثم إنَّ اللاأدرية لا تحثُّ على الفعل بقدرِ ما تمنعه، وهذا لأن التردُّد يؤدي إلى الجمود. إذا كانت اللاأدرية تستحق الكتابة عنها أصلًا، فلن يكون ذلك إلا لتناولها بوصفها ظاهرةً اجتماعية، وعاملًا في تراجُع الدِّين.

أو ربما هذا ما يرغب منتقدوها في دفعنا لاعتقاده. لكي نرى طبيعةَ الموضوع الذي قد يصبح لدينا لتناوُله بالمزيد من الدراسة — إن اتَّضح أنَّ لدينا موضوعًا أصلًا — دعونا نُلقِ نظرةً أولية سريعة على مدى عدالة هذه المواقف الشائعة تجاه اللاأدرية.

هل اللاأدرية مجرَّد اعتراف لا يُدركه المرء؟ لا شك أن الكثير من الناس الذين يصفون أنفسهم باللاأدريين يقصِدون هذا وليس أكثر من ذلك. ولكن أوائل مَن أطلقوا على أنفسهم اسم اللاأدريين كانوا يقصِدون شيئًا أكثر من ذلك؛ شيئًا يتضمن الاحتكامَ «لمبدأ» ما. وقد تضمَّن ذلك التفكيرَ في طبيعة المعرفة نفسها، وفي الطرق التي نكتسبها بها. كانت اللاأدرية بالنسبة إليهم، نتيجةَ صراعٍ فكري، وليس عدم رغبة في الانخراط في هذا الصراع.

لننظر بعد ذلك في فكرة أنَّ اللاأدرية تمثِّل الاستسلام، وأنها ملاذٌ للمتردِّدين فكريًّا وأخلاقيًّا وﻟ «الواقفين على الحياد من الباهتي الطبع، الواهني العزم». ومن الغريب أن يُعَد الوقوف على الحياد فترةً طويلة وضعًا ملائمًا لمَن يتَّسمون بالضَّعف والهشاشة؛ فالحق أنَّ تَبَنِّي هذا الموقف لأي فترة من الزمن غيرُ مريح على الإطلاق. ولماذا لا يكون مُحفِّزًا على الفعل، واعترافًا بالحاجة إلى مزيد من البحث، وليس مكانًا للراحة؟ وإذا كانت اللاأدرية نتيجةَ تفكير متواصل، وتعني تحدِّي تيار المواقف المقبولة اجتماعيًّا — كما هو الحال مع اللاأدريين في القرن التاسع عشر — فإنَّ هذا يتطلب كُلًّا من الصدق والشجاعة.

على الرغم من ذلك، فإنَّ هذه الصورة عن اللاأدرية نتيجةً للتفكير الدقيق، وليس العجز عن التفكير، تؤدي إلى مزيدٍ من الانتقادات مُفادها أن اللاأدريين ببساطة ليسوا عقلانيين. إنَّ ادعاءهم عدمَ المعرفة، إذا كان يستند بالفعل إلى مبدأ، فلا بد أنه يستنِد إلى معيارٍ صارم للغاية للمعرفة. لا بد أنهم يبحثون عن اليقين المطلَق، وهو ما لا يمكن الوصول إليه في أي مسألة تقريبًا. ولهذا، إذا كنا مضطرِّين إلى أن نكون لاأدريين بشأن وجود إله، فيجب أيضًا أن نكون لاأدريين بشأن الجنِّيات، والأشباح، والجانِّ، والرجُل في القمر، والسِّحر، والتأثير الفلكي، ووحش بُحيرة لوخ نيس، إلى آخرِ ذلك. تُعَد اللاأدرية عرضةً للانتشار على غرار الفيروسات. سيؤدي عدم الالتزام في أحد المجالات إلى نقل العَدوى إلى معتقَداتٍ أخرى، وسنجد أنفسنا نعتنق اللاأدرية بشأن وجود الجنِّيات الصغيرة التي تجعل العُشب ينمو في أثناء الليل. لكنَّ أغلبنا ليسوا لاأدريين فيما يخص مثل هذه الأمور، ولا ينبغي لنا أن نكون كذلك. حتى إذا كنا غير قادرين على معتقَداتنا، فإننا نعتقد أن لدينا أُسُسًا جيدة لإثبات العديد منها، وهذا يكفي في معظم الحالات لندَّعي المعرفة. لذا، لكي يؤخَذ اللاأدريون على محمل الجِد، عليهم إثبات أنهم لا يضعون معاييرَ عالية جدًّا للمعرفة، وأن الأسباب التي دفعتهم إلى إنكار المعرفة في مسألةٍ ما لن تنطبق بالتساوي على مسائلَ أخرى.

وحتى منتقدوها يعترفون بأن اللاأدرية موقفٌ منطقي في بعض الظروف وفي بعض المواضيع. ومثلما يُعبِّر عن ذلك دوكينز، «ليس من الخطأ أن نكون لاأدريين في المسائل التي نفتقر فيها إلى الأدلة بطريقةٍ أو بأخرى. إنما هو الموقف العقلاني». فمن المنطِقي حاليًّا أن نكون لاأدريين بشأن وجود حياة خارج كوكب الأرض، على سبيل المثال. وهذا يذكِّرنا بأن اللاأدرية بوصفها ظاهرةً، لا تقتصر على المجال الديني. فيُوجد ما يمكن أن نُسمِّيه اللاأدرية العلمية، أو تعليق الاعتقاد أو الالتزام فيما يتعلَّق بموضوع العلم. وعندما تكون مركَّزة على ظواهرَ ونظريات معينة، فهي جزء مناسب من الموقف العلمي. وهي أيضًا استجابةٌ مناسبة لانهيار البنى الفكرية التي كانت راسخة فيما سبق وتبدو منيعة. ففي عام ١٩٧٣، عندما دعت هيئةُ الإذاعة البريطانية (بي بي سي) جيه كيه جالبريث، الاقتصاديَّ بجامعة هارفارد، لتقديم مسلسل تليفزيوني عن التاريخ الاقتصادي، اختار لهذا المسلسل عنوان «عصر الشك»، وتمثَّلت فكرته فيما يلي:

المقارنة بين كبرى يقينيَّات الفكر الاقتصادي في القرن الماضي والشك الضخم الذي نواجه به المشاكلَ في عصرنا. ففي القرن الماضي كان الرأسماليون متأكدين من نجاح الرأسمالية، والاشتراكيون من نجاح الاشتراكية، والإمبرياليون من نجاح الاستعمار، وكانت الطبقات الحاكمة تعرف أنه مقدَّرٌ لها أن تحكم. ولم يبقَ الآن سوى القليل من هذا اليقين. ونظرًا للتعقيد المفزِع الذي تتَّسم به المشاكل التي تواجهها البشرية الآن، فمن المؤكَّد أنه سيكون من الغريب وجودُ قدرٍ أكبر من اليقين.

لم تتضاءل حالة الشك منذ عام ١٩٧٣. وإنما زادت بالفعل في خِضَم الأزمة الاقتصادية العالمية التي ميَّزت وقت كتابة هذا التقرير (٢٠٠٩). وقد أسهمَت الاضطرابات السياسية والاقتصادية — الثورة، والحرب، والتضخُّم، والكساد، وانهيار سوق الأوراق المالية — في خلق هذه الحالة. وبالمِثل، ظهرت اللاأدرية بشأن المعتقَدات الدينية في القرن التاسع عشر في سياق الاضطرابات الفكرية: المناهج الجديدة لنقد الكتاب المقدس، ونظرية داروين حول أصل الأنواع، والهجوم الفلسفي على «الميتافيزيقا».

يمكننا وصفُ اللاأدرية بأنها تلك الحالة الذهنية التي نُدرك فيها أن الشكوك المتعلِّقة بمعتقَداتٍ لم تكن موضعَ شك من قبل لن تختفي، بل سيحل محلَّها إما إعادة تأكيد تلك المعتقَدات بثقة، أو رفضها بالقدرِ نفسه من الثقة.

على الرغم من ذلك، يرى دوكينز أنه في تلك الحالات التي تكون فيها النظريات قابلةً للاختبار، فإن النوع الوجيه من اللاأدرية هو أن تكون موقفًا مؤقتًا فحسب؛ تعليقًا مؤقتًا للاعتقاد بينما ننتظر وصولَ الدليل. وفور وجود الدليل، لا يعود الحِياد مُبرَّرًا. ربما كانت اللاأدرية بشأن وجود خالقٍ خيِّر، خلَق الإنسان على صورته، وسمح للكائنات الحية بالازدهار على الأرض، منطقيةً في منتصف القرن التاسع عشر. لكننا صِرنا الآن نفهم عمليات تطوُّر الأنواع، وتكيُّف الكائنات الحية مع بيئتها، ومفهوم البقاء للأصلح، وما إلى ذلك، ومن ثمَّ لم تَعُد اللاأدرية خيارًا منطقيًّا. الإلحاد في الوقت الحالي هو الموقف الأكثر منطقية. ربما كان ما عزَّز من اللاأدرية بشأن الدِّين هو التحديات المشروعة للاعتقاد، لكن ما يُبقيها مستمرةً هو مطلب غير معقول يتمثَّل في وجود دليل قاطع، في حين أن الأدلة تحدق في وجهنا. وذلك تَحَدٍّ لا بد لِلاأدري أن يجيب عنه.

إن هذا التناوُل الموجَز للمواقف المناهضة للاأدرية يترك لنا الكثير من الأسئلة. وسأحاول في الصفحات التالية أن أناقش بعضًا منها. أولًا، سننظر في الماهية الفعلية للاأدرية: أهي اعتقادٌ أم غياب اعتقاد؟ وبعد ذلك، نلقي نظرة على تاريخها. مَن هم أولُ مَن أطلقوا على أنفسهم اسم اللاأدريين؟ وإلى أي مدًى كانت وجهات نظرهم متوقَّعة في الفكر السابق؟ ونتساءل بعدها عمَّا إذا كنا حقًّا بحاجة إلى اللاأدرية. إذا لم نتمكَّن من إثبات وجود إله، ألا يجب أن يكون هناك افتراضٌ بالإلحاد؟ وفيما يلي ذلك سندرُس قضية اللاأدرية. هل توجد حجج إيجابية تؤيدها؟ ونطرح أيضًا السؤال عمَّا إذا كانت اللاأدرية مبنية على خطأ أم لا. ألا يبدو — فور أن نكون واضحين بشأن الطبيعة الحقيقية لأشياء مثل الإيمان الدِّيني، والمواقف الأخلاقية، والنظرية العلمية — أن اللاأدرية مبنية على مفهوم خاطئ لمثل هذه الأشياء؟ ونتناول أيضًا بعض القضايا التي تتَّسم بدرجة أكبر من العملية. منها على سبيل المثال: كيف ينبغي للاأدريين أن يعيشوا وَفقًا للاأدريتهم؟ أيمكن أن يكون من المنطقي أن نعيش حياةً دينية بينما نكون لاأدريين تمامًا بشأن حقيقة المعتقَد الديني؟ وأخيرًا سننتقل إلى التعليم. كيف ينبغي تدريس اللاأدرية؟ هل يجب على المدارس تدريسُ الأديان صراحةً من منظورٍ لاأدريٍّ؟

لا شك أنَّ هذا الموضوع خلافيٌّ إلى حدٍّ كبير. فثمة ادعاءات وحجج يجب على اللاأدريين معالجتها والرد، لكن الشيء نفسه ينطبق على خصومهم أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤