الفصل الثالث

هل اللاأدرية ضرورية؟

التنين وبرَّاد الشاي

في كتابه «عالَم تسكُنه الشياطين»، يتخيل عالِم الكَونيات والكاتب الأمريكي كارل ساجان (١٩٣٤–١٩٩٦) المحادثةَ التالية بينه وبين القارئ بعد إعلانه أن تِنينًا ينفُث النار يعيش في مرأب منزله:

ستقول: «أرِني». فأقودك إلى مرأبي. تنظر إلى الداخل وترى سُلَّمًا، وعُلَبَ طِلاء فارغة، ودراجة ثلاثية العجلات قديمة، لكن لا يوجد تنينٌ.
تسألني: «أين التِّنين؟»
أُجيب مُلَوِّحًا على نحو غامض: «إنه هنا. آه، لقد نسيت أن أخبرك أنه تنين غير مرئي».
تقترح نثر الدقيق على أرضية المرأب لتحديد آثار أقدام التنين.
أقول: «فكرة جيدة، ولكن هذا التنين يطير في الهواء».
ستقترح استخدام مُستشعِر الأشعة تحت الحمراء للكشف عن النار غير المرئية. فأقول: «فكرة جيدة، ولكن النار غير المرئية عديمةُ الحرارة أيضًا».
وحيها تقترح رشَّ التنين بالطلاء لكي يصبح مرئيًّا.
«فكرة جيدة، باستثناء أنه تنينٌ غير مادي، والطلاء لن يلتصق به».

أيًّا كان ما سيُقْتَرَح لاختبار وجود التنين، يوجد سببٌ لفشله في تحقيق نتيجة إيجابية. فهل من الوجاهة الاعتقاد بوجود تِنين في المرأب؟ لن يكون هذا الاعتقاد وجيهًا بالطبع في غياب أي أسباب مقنِعة. غير أنَّ ساجان يتخيَّل بعد ذلك أشخاصًا آخرين يُبلِغون عن وجود تنانين في مرائبهم، ويذكرون أنَّ اختبار الدقيق يكشف عن آثار أقدام، وإن كانت هذه الآثار لا تظهر مع الأسف في وجود أي مُتشكِّك. تُقَدَّم بعض الأدلة الأخرى، لكنها إشكالية دائمًا؛ فالنتائج الإيجابية تتوفَّر لها تفسيراتٌ أخرى بسهولة. يقول ساجان: «إن النهج المعقول الوحيد هو أن نرفض فرضية التنين مَبدئيًّا، وأن نكون مُستعدِّين لتقبُّل البيانات المادية التي قد تظهر في المستقبل، والتساؤل عما قد يجعل العديد من الأشخاص الذين يَبدون عُقلاء ورصينين يتشاركون في تصديق الوهم الغريب نفسه.»

إنَّ ساجان لا يقصد من هذه الفقرة أن يُشبِّه الإيمان بالله بالاعتقاد بوجود تنين، كما قد يشك في ذلك البعض. وإنما كان هدفه في هذا الكتاب هو مجابهة التأثير الخفي والمغري للخرافات والعلم الزائف، وتوضيح الفارق بينه وبين ما يُقدِّمه العلم الحقيقي من إسهامات تنويرية وكاشفة بحقٍّ تُثري تجربتنا الإنسانية. غير أنَّ الفيلسوف الملحِد بِرتراند راسل (١٨٧٢–١٩٧٠) يشير إلى الدِّين بالفعل عندما يطرح فكرةَ الشيء الذي لا يُوجَد دليل إيجابي على وجوده. ففي مقالته، «هل يوجد إله؟» يقول:

يتحدَّث العديد من المتديِّنين التقليديين كما لو كان دحض العقائد الدُّوجمائية يقع على عاتق المتشككين، وليس أنَّ العقائديين هم مَن ينبغي عليهم إثبات هذه العقائد. وهذا بالطبع خطأ. لو أنني اقترحتُ وجودَ إبريق شاي من البورسلين يدور حول الشمس في مدار بيضاوي بين الأرض والمريخ، فلن يتمكن أحدٌ من دحض ادعائي إن حرصتُ على إضافة أنه إبريق صغير جدًّا لا يمكن حتى لأقوى تلسكوباتنا الكشفُ عنه. لكنني إذا زعمت بعد ذلك، أنَّ الشك في ادعائي غير منطقي لأنه افتراضٌ لا يمكن دحضه، فلا بد أن يُنظر إلى ما أقوله على أنه محض هراء.

ما الدروس التي يجب أن نستخلصها من التنين وإبريق الشاي؟ فيما يلي ثلاثة دروس عادية:
  • (١)

    حقيقة أننا لا نستطيع إثباتَ عدم وجود تنين أو إبريق شاي لا تجعل افتراضَ وجودهما أمرًا منطقيًّا.

  • (٢)

    حقيقة أننا لا نستطيع إثباتَ عدم وجود تنين أو إبريق شاي لا تجعل افتراض عدم وجودهما أمرًا غير منطقي.

  • (٣)

    عدم قدرتنا على إثبات عدم وجود تنين ولا إبريق شاي لا يجعل احتمال وجودهما مُساويًا لاحتمال عدم وجودهما.

هذا الدرس الثالث هو أحد الدروس التي استخلصها دوكينز من إبريق شاي راسل. يستنتج دوكينز أيضًا درسًا أقوى، هو كما يلي:
  • (٤)

    صحيحٌ أننا لا نستطيع أن نستبعد وجودَ إبريق الشاي (ويمكننا أن نضيف التنين) إيجابيًّا بيقين نسبته ١٠٠٪، لكن من المنطقي أن نفترض أن احتمال وجوده ضئيل جدًّا، أو أقل كثيرًا من احتمال وجوده، على أقل تقدير.

وهذا أيضًا يبدو أمرًا غير استثنائي، غير أنه يجب علينا أن نتوقَّف قليلًا لننظر في المنطق الذي يستند إليه. بالنسبة إلى راسل، يتمثل الموقف الصحيح تجاه إبريق الشاي فيما يلي:
  • (٥)

    المدافعون عن إبريق الشاي (التنين) هم مَن يقع عليهم عبء إثبات موقفهم. فالافتراض الأولي الذي لا يحتاج إلى تبرير، هو أنه غير موجود، ونحن بحاجة إلى أسباب إيجابية تُبعِدنا عن هذا الافتراض.

إذن فالقيمة الأولية لاحتمالية وجود إبريق الشاي/التنين هي صفر، أو على الأقل ضئيلة جدًّا. فلماذا قد يكتفي أيُّ شخص بافتراض وجود شيء من هذا القبيل؟ قد يتغير هذا الموقف مع ظهور المزيد من الأدلة، لكنها يجب أن تكون أدلةً مُذهلة إلى حدٍّ بعيد كي يتفوق هذا الاحتمال على احتمال عدم وجود إبريق شاي/تنين.

وبجمع هذه الأفكار المتنوِّعة معًا، نصل إلى الدرس العام الذي يستمدُّه دوكينز من راسل:
  • (٦)

    الإيمان بوجود إله في موقفٍ مماثل للإيمان بوجود إبريق الشاي (التنين). إن حقيقة أننا لا نستطيع إثباتَ عدم وجود إله هي حجَّة ضعيفة جدًّا لمصلحة اللاأدرية التي تَعُدُّ احتماليةَ وجود إلهٍ مساويةً لاحتمالية عدم وجوده. وإذا كان السماح بأكثر من ٠٪ لاحتمال وجود إله يُعَد موقفًا لاأدريًّا (لأنه يترك مجالًا للشك، ولو قليلًا)، فيجب علينا أن نكون لاأدريين فيما يخص وجود إبريق الشاي أيضًا.

fig7
شكل ٣-١: خفيٌّ وغيرُ مُكتشَف: إبريق شاي راسل السماوي

يحق لنا الاعتقادُ بالطبع بعدم وجود إبريق الشاي أو التنين، ولسنا مُضطرين إلى تقديم أي أسباب مقنِعة لاعتقادنا سوى أنه لم تُقدَّم إلينا أيُّ أسباب وجيهة للاعتقاد بوجودهما «فعلًا». وإذا كان تشبيه وجود إبريق الشاي أو التنين هذا بوجود إلهٍ تشبيهًا عادلًا، فلن نحتاج بعد الآن إلى إفساح المجال للاأدرية بشأن وجود إله أكثر مما نحتاج إلى إفساح المجال لها بشأن وجود التنانين وأباريق الشاي غير المرئية.

وهنا يتعين علينا أن نطرح سؤالَين: «هل» هذا التشبيه عادل؟ وهل يقع عبء الإثبات فعلًا على عاتق المدافعين عن وجود الله، مثلما أنه يقع على عاتق المدافعين عن وجود تنانين في المرائب وأباريق شاي في الفضاء؟

هل التشبيه عادل؟

أول ما يجب ملاحظته هو أن كلًّا من إبريق الشاي والتنين (في البداية) موصوفان على أنهما لا يُحدِثان أيَّ فرق في أي شيء على الإطلاق. إنهما شديدا البساطة. ولا يقتصر الأمر على أنهما لا يُعلنان عن وجودهما فحسب، بل يبدو أنه ما من شيء يعتمد على ما إذا كانا موجودين أم لا. أما الإله فيختلف عن ذلك تمامًا، وإن كان ذلك في تصوُّر الديانات التوحيدية الكُبرى على الأقل. وتهدُف فرضية وجود إله إلى إلقاء الضوء على بعضٍ من الأسئلة الأكثر جوهريةً التي يمكن أن نطرحها:

إذا وُجِد الكون من العدم، فكيف فُعل ذلك؟
وإذا لم يُوجَد من العدم، بل كان موجودًا دائمًا، فهل هناك أيُّ تفسير لوجوده؟
ما الهدف من الحياة، إن كان لها أيُّ هدف؟
لماذا لدينا ضميرٌ أخلاقي؟
كيف يمكن لهذا الضمير أن يخبرنا بما هو صواب؟

لاحظ مدى قلة الافتراضات التي تطرحها هذه الأسئلة. يمكننا طرحُ هذه الأسئلة أيًّا كان منظورنا، سواء أكان دينيًّا أم غير ديني. فهي لا تفترض مُسبقًا أن الكون «يجب» أن يكون له تفسير، وأن الحياة لها هدف «بالفعل»، وأن ضميرنا الأخلاقي يُرشدنا في عملية التمييز بين الصواب والخطأ المستقلة تمامًا عن الفكر والمشاعر الإنسانية. وهي ليست أسئلة ملغومة. ربما تكون الإجابات الصحيحة عنها لا تتعلق بالله على الإطلاق. لكن ما يعنينا أنه توجد فيما يبدو إجاباتٌ مفيدة لهذه الأسئلة «تتعلق» بالله. وسواء أكانت هذه الإجابات هي الإجابات الصحيحة أم لا، فحقيقة توفُّرها تُظهِر أن فرضية وجود الإله ليست زائدة تمامًا بالضرورة، كما هو الحال بوضوح مع فرضيَّتَي إبريق الشاي والتنين.

الآن، ربما يُعتقد أننا نستطيع تعديل تلك القصص الأخرى بسهولة لجعلها وثيقةَ الصلة بالأسئلة الجوهرية المذكورة أعلاه. القصتان تستلزمان الدمجَ فحسب؛ لذا فلنفعل ذلك. إبريق الشاي هو في الواقع مصدرُ كل الوجود. وعليه كُتِبت جميع القوانين الأخلاقية. يُمكن للتنين، بإدراكه الفائق الحواس، رؤيةُ المكتوب على إبريق الشاي وهو يوصل تلك المعلومات عَبْر نوع من التخاطُر إلى البشر الذين يحتل مرائبهم. (ربما كان من الأفضل لنا أن نتخيل وجودَ تنين لكل أسرة، أو كل فرد.) ولمزيد من الإثارة، سنضيف إلى القصة مستوًى من الغموض الميتافيزيقي بالإعلان المفاجئ عن أن التنين (أو التنانين) هو (هم) إبريق الشاي. إن إبريق الشاي، بكل جماله البِلَّوري البعيد، هو نفسه التنين الحي القابع في المرأب. يصبح إبريق الشاي هو نفسه التنين. والآن لدينا فرضية تُقدِّم حلولًا لأعمق الألغاز. لكنها لا تبدو بديلًا لفرضية وجود إله بقدرِ ما تبدو تنويعة غريبة منها. التنين-إبريق الشاي هو الإله المتجسِّد. ويصبح السؤال هنا إذن هو ما يضيفه كلٌّ من إبريق الشاي والتنين من صفاتهما إلى القصة. هذه الجوانب تبدو زائدة عن الحاجة حتى لو كان لدينا هنا «شيء» ضروري غير زائد.

ثمَّة فرقٌ آخر بين فرضية الإله وفرضية التنين وإبريق الشاي (غير المعدَّلة). هذا الفرق هو أنَّ الوجود الفعلي للإله — بافتراض أن لديه اهتمامًا خاصًّا بصالح الإنسان — له عواقبُ علينا، بينما لن يكون لوجود الكيانات الأخرى مثل تلك العواقب. فربما توجد احتمالية للتدخُّل الإلهي، ولبعض التجارب الجذرية، ولمنحنا الحياة الأبدية. وصحيحٌ أن هذا يجعل فرضيةَ الإله أكثرَ أهميةً بالنسبة إلينا بالطبع، لكنه لا يزيد من احتمالية صحتها. يوجد العديد من الأشياء غير الصحيحة، التي كانت ستؤثر فينا بأهم العواقب لو أنها كانت صحيحة. ومع ذلك، فهذا يجعل اللاأدرية بشأن وجود إله مَوقفًا أكثرَ تأثيرًا من اللاأدرية المتعلقة بإبريق الشاي، كما وصفها راسل.

دعونا نطرح هذه النقطة في إطار تقييم المخاطر. عندما تضع الشركات تقييماتِ المخاطر للأنشطة المختلفة التي تقترح المشاركة فيها، فإنها تصف النتائجَ المحتملة لتلك الأنشطة، أو الأحداث الخارجية التي قد تؤثِّر فيها، تحت عنوانين: «الاحتمالية» و«التأثير». فعلى سبيل المثال، قد يكون تعطُّل جهاز الكمبيوتر من حين لآخر أمرًا محتملًا جدًّا، لكن تأثير هذا على المدى الطويل ضئيل جدًّا (إذا لم يحدُث كثيرًا). وعلى النقيض من ذلك، فإن غزو كائنات فضائية من مَجرَّة أخرى للكوكب سيكون له تأثير كبير وربما دائم، لكن احتمالية وقوعه لا تُذكر تقريبًا (الواقع أنه من غير المرجَّح حتى أن يرِد هذا الاحتمال في وثائقِ تقييم المخاطر، إلا أن يكون المقيِّم يتمتع بحِسٍّ فُكاهي لا يستطيع التحكُّم فيه). ولا شك أن معظم المناقشة سترتكز على الحالات ذات الاحتمالية المتوسطة والتأثير المتوسط.

وبتطبيق هذه المبادئ على التشبيه المَعْني، فإن تقييمَ المخاطر على إبريق شاي راسل الذي يدور حول كوكب الأرض، وتنين ساجان القابع في المرأب سيُصنِّفهما في فئة التأثير المنخفِض (تأثير صفري في الواقع) والاحتمالية المنخفضة. إنهما لا يستحقان القلق بشأنهما؛ فسواءٌ أكانا موجودَين أم لا، سيستمر كل شيء على حاله. الأمر ليس كذلك مع فرضية وجود إله. لنفترض، كما يُحاجِج دوكينز، أن احتمالية الفرضية منخفضة جدًّا، منخفضة بما يكفي، وفقًا له، لئلَّا نتردَّد في تبنِّي موقف اللاأدرية بشأن حقيقتها، إلا إذا كنا مُستعدِّين لأن نكون لاأدريين بشأن مجموعة كاملة من الكيانات الغريبة. غير أنَّ تأثير هذه الفرضية ليس ضئيلًا بأي حال من الأحوال. الحق أنه قد يكون ضخمًا للغاية، في مرحلةٍ ما على الأقل، بعد الموت على سبيل المثال. وهذا يُمثِّل فرقًا كبيرًا جدًّا بين الإله والإبريق/التنين. ومن المنطقي أن نلتزم الحذرَ عندما يتعلق الأمر بأحداثٍ بالغة الأهمية، حتى ولو كانت غير محتملة. لذا فاللاأدرية تجاه وجود إله ليست موقفًا عقيمًا وغير مُجدٍ مثل اللاأدرية المتعلقة بإبريق الشاي/التنين.

مبدأ افتراض الإلحاد

من المزايا الكبيرة للإلحاد أنَّ الكثيرين يَعُدونه الموقفَ التلقائي. تتمثل هذه النظرة التي تكاد أن تكون تقليدية تقريبًا فيما يلي. الإلحاد لا يحتاج إلى دفاع. وإنما يتعيَّن على المؤمنين إقناعنا بوجود إله. وما داموا لم يتمكنوا من ذلك، فيمكننا أن نظل مُرتاحين في عدم إيماننا بالإله. إذا قدموا حجَّة مقنِعة حقًّا تؤيد موقفهم، حينها فقط نكون مُلزَمين بالخروج عن راحتنا لتوضيح أوجه قصور هذه الحجة. لكن إذا كان هناك مجال للشك (ودائمًا ما يكون هناك مجال للشك في الحجج المؤيدة لوجود إله) فالأمر العقلاني هو تبنِّي موقف الإلحاد. وهذا، بالطبع، يجعل اللاأدرية غير ضرورية تمامًا. لأن اللاأدرية تعترف بوجود مجال للشك عندما يتعلَّق الأمر بالحجج المؤيدة لوجود إله، بل إن ذلك جزء لا يتجزأ من الموقف بالفعل. ربما يوجد شيءٌ ما من الصحة في بعضٍ منها، مَن يدري؟ لكن إذا أعادنا الشك إلى الموقف التلقائي، فهذا يقودنا إلى الإلحاد، لا إلى اللاأدرية. وهذا هو «مبدأ افتراض الإلحاد».

يجب على أي شخص يتبنَّى موقفَ اللاأدرية أن يكون لديه ردٌّ على هذه الحجة. والرد أن الإلحاد ليس هو الموقف التلقائي في حقيقة الأمر، أو هو ليس كذلك دائمًا. لا يصبح الإلحاد هو الموقف التلقائي إلا إذا كان لدينا مبدأ عام صحيح بدرجة واضحة ينص على أنه الموقف التلقائي. فما هو المبدأ الذي يمكن أن يكون المبدأ العام؟ لننظر في الاحتمالات.

  • (١)

    الموقف التلقائي في أي نقاش هو «ما يمكن لطرفي المناقشة الاتفاق عليه»؛ أي أنه الأرضية المشتركة، بعبارة أخرى. وفي الجدال بين المؤمن والملحِد، ستكون الأرضية المشتركة هي كلُّ ما يبدو لكلٍّ منهما أنه حقيقي، مثل وجود الكون المادي. ولا ينطوي الإلحاد على ما هو أكثر من هذه الأرضية المشتركة. لكن المؤمن هو الذي يريد الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك، ويفترض وجود كيان أعلى. إذن فالموقف التلقائي هو الإلحاد.

    «الرد»: قد يكون هذا التوجُّه في التفكير مُغريًا في البداية، لكنه خاطئ بكل تأكيد. ليس الإيمان وحدَه هو الذي يتجاوز الأرضية المشتركة. فالإلحاد أيضًا يفعل ذلك؛ إذ يقول إنه لا يوجد في العالم «أكثر» مما يمكن أن يَتفق على وجوده كلٌّ من الملحد والمؤمن. ومن ثَم لا يُعفى الملحدون، استنادًا إلى هذه الأُسُس، من تقديم أسبابٍ تُبرِّر موقفهم.
  • (٢)

    الموقف التلقائي في أي جدال هو «الموقف السلبي»، الذي يقول إن كذا وكذا «ليس» كذلك، أو إن كذا وكذا «غير» موجود. فالتأكيدات الإيجابية تحتاج دائمًا إلى تبرير. في النقاش حول وجود إله، الإيمان هو الاعتقاد الإيجابي (الله موجود فعلًا)، والإلحاد هو الاعتقاد السلبي (الله غير موجود). لذا فالإلحاد هو الموقف التلقائي.

    «الرد»: سيكون هذا المبدأ خطيرًا جدًّا إن طُبِّق! فالحياة اليومية تستلزم أن يكون لدينا عددٌ لا يُحصى من المعتقَدات الإيجابية بشأن العالم، وبعضُها واضح للغاية؛ لدرجةِ أننا لا نفكر فيها على الإطلاق تقريبًا، منها مثلًا: أن لدينا أجسادًا تسمح لنا بالتحرك، وأن كلَّ ما نراه أمامنا موجود، وأن هناك أشخاصًا آخرين يعيشون أوضاعًا مشابهة يمكننا التواصُل معهم، وما إلى ذلك. ولكن الفيلسوف المتشكِّك يُبيِّن لنا أنه حتى هذه المعتقَدات يمكن تحديها. يدعونا المتشكِّك إلى التأمُّل فيما يلي: على الرغم مما تبدو عليه الأمور، فإن دماغك لا يستقرُّ في جسدٍ على الإطلاق، بل محفوظ على قيد الحياة اصطناعيًّا في مختبر أحد علماء الأعصاب المُختلِّين، الذي يحفز دماغك ببراعة على نحوٍ يجعلك تمر بسلسلة متواصلة من التجارب الوهمية تمامًا، التي تجعلك تعتقد أن لديك جسدًا، وأنك تستطيع التحرك، وأن ما يبدو أنك تراه أمامك هو أمامك فعلًا، وما إلى ذلك. الفكرة سخيفة بالطبع. ولكن هل يمكنك التفكير في سببٍ يُمكِّنك من استبعاد هذه الفكرة تمامًا؟ لا يمكنك اللجوء إلى أي شيء في تجربتك الحسية والاعتماد عليه؛ لأن هذا يتوافق تمامًا مع فرضية المتشكِّك. فهل هناك أيُّ شيء آخر يمكنك اللجوء إليه؟ ليس من الواضح أن هناك شيئًا. وفي هذه الحالة، عليك الاعتراف بأنك لا تعرف على وجه اليقين أن فرضيةَ المتشكك ليست هي الحقيقة الفعلية. لكن إذا كنت لا تعرف أنك مجرد دماغ محفوظ على قيد الحياة اصطناعيًّا في مختبرٍ ما، فأنت لا تعرف أي شيء يمكن أن يتبيَّن أنه خاطئ على أساس مثل هذه الفرضية؛ أنَّ لديك ذراعين ورِجلَين، على سبيل المثال. الآن فكِّر مرةً أخرى في الاقتراح القائل بأن جميعَ المعتقَدات الإيجابية يجب أن تكون مُبرَّرة، وفي غياب مُبرِّر مقنِع تمامًا، فإن الاعتقاد السلبي هو الموقف التلقائي. وبما أننا لا نستطيع أن نهزم المتشكك هزيمة قاطعة، يجب أن نعترف بأننا لا بد أن نتخلَّى عن اعتقادنا بأن لدينا أجسادًا يمكنها التحرك، وما إلى ذلك. ونحن لا نريد أن نفعل ذلك؛ لذا ينبغي علينا ألا نقبل هذا المبدأ.
  • (٣)

    الموقف التلقائي في أي نقاش هو «أي اعتقاد تعتنقه الأغلبية». معتقَدات الأغلبية لا تحتاج إلى تبرير. في الوقت الحاضر، الإيمان بالله هو معتقَد الأقلية؛ لذا فالمؤمنون هم الذين يحتاجون إلى إثبات موقفهم، وليس الملحِدين.

    «الرد»: هل الإيمان هو موقف الأقلية في الوقت الحاضر؟ ربما يعتمد الأمر على مدى ضيق تفسيرنا للإيمان بالله أو اتساعه. المعتقَد التوحيدي منتشر للغاية بالطبع، وتوجد مجموعاتٌ ومجتمعات وثقافات يُعَدُّ فيها هذا المعتقَد هو رأي «الأغلبية» بالفعل. لذا فإن الاستجداء بهذا المبدأ من شأنه أن يضع عبءَ الإثبات على مجموعات مختلفة، بحسب السياق؛ أي وفقًا للمجموعة التي تدور فيها المناقشة. في بعض السياقات، سيكون العبء على الملحِد. ولكن بصرف النظر عن مسألةِ ما إذا كان الإيمان بالله هو رأي الأغلبية أم لا، يظل المبدأ موضعَ شكٍّ بالتأكيد. وإذا طُبِّق عالميًّا فإنه سيؤدي إلى الجمود الفكري. فسوف يظل الرأي السائد كما هو عليه في معظم الأحيان؛ إذ يُعتقَد أنه لا يحتاج إلى تبرير. ولا شك أنَّ خضوع المعتقَدات الشائعة للمراجعة المنتظمة أمرٌ جيد. فمن المبادئ الأساسية للتعليم أنه لا ينبغي التعامُل مع أي شيء بعَدِّه من المسلَّمات. كما أنه موضع ريبة من الناحية السياسية؛ لأنه يُهمِّش المجموعات الصغيرة. صحيح أن بعض المعتقَدات تكون غريبة جدًّا بحيث لا يعتنِقها سوى عدد قليل جدًّا من الأشخاص، ومن الواضح أنها تحتاج إلى تبرير، لكنَّ سببَ تبريرها على وجه التحديد هو أنها غريبة، وليس لأن عددًا قليلًا من الناس هم مَن يعتنقونها.
  • (٤)

    الموقف التلقائي في أي جدال هو «أي وجهة نظر احتمالية صحتها هي الأقل». كلما كانت الفرضية غيرَ محتمَلة، زادت الحاجة إلى تبريرها. الإيمان بالله في جوهره أقلُّ احتمالًا من الإلحاد؛ لذلك فهو في حاجةٍ أكبر إلى التبرير.

    «الرد»: (ردٌّ مطوَّل هذه المرة!) يبدو هذا المبدأ أكثرَ منطقيةً من المبدأين الثاني والثالث. لاحظ أنه لا يضع عبء الإثبات بالكامل على عاتِق المؤمن، إلا إذا اقْتُرِح أن الإلحاد هو الموقف الأكثر احتمالًا بأغلبية ساحقة، مع تخصيصِ أقلِّ احتمالية للإيمان. لكننا نحتاج إلى بعض الوسائل لتحديد احتمالية فرضية قبل أن نتمكَّن من تطبيق المبدأ العام على حالة معينة. ما يُهمُّنا هو الاحتمال الجوهري أو «المسبق» للفرضية: احتمالية الفرضية «قبل» أن يبدأ الدليل في الظهور. والمقصود ﺑ «الاحتمال» في هذا السياق، هو مدى مَيلنا إلى تصديق الفرضية، وليس درجة تحديد قُوًى خارجية حقيقتَها. في بعض الحالات، تُقَرَّر الاحتمالية بالوسائل الإحصائية. قد أُشكِّل فرضية مُفادها أنني سأرمي الرقم ستة عند رمية النَّرد التالية. احتمال حدوث ذلك هو واحد من ستة فقط؛ إذ توجد ستة احتمالات أخرى إجمالًا، ورمي الرقم ستة هو احتمال واحد منها فقط. غير أنَّ معظم الحالات المثيرة للاهتمام أقلُّ وضوحًا من هذا المثال؛ إذ لا يكون عدد الاحتمالات الموجودة واضحًا. لكن ربما يمكننا قياسُ قيمة الاحتمال القَبْلي لفرضيةٍ ما من خلال «مقدارِ ما تستبعده من الاحتمالات الأخرى». كلما زاد استبعادها للاحتمالات الأخرى، قلَّت قيمة الاحتمال القَبْلي. وكلما قلَّ استبعادها للاحتمالات الأخرى، زادت قيمة الاحتمال القَبْلي. فيما يلي مثالان متطرفان على هذا. لنأخذ هذه الفرضية على سبيل المثال: «إما ستشرق الشمس في نيويورك اليوم أو أنها لن تشرق». هذا المثال لا يستبعِد أيَّ احتمالات على الإطلاق؛ لأن عبارة «لن تشرق» تغطي كلَّ الاحتمالات الأخرى ذات الصلة، والفرضية لا تتعارض مع أي احتمالات لا صلة لها بالموضوع، مثل حدوث عاصفة ممطرة غزيرة في مكانٍ ما في المحيط الهادئ. ولما كانت لا تستبعد أيَّ احتمالات، فإنَّ قيمة الاحتمال القَبلي لها تبلغ ١٠٠٪ (وسنلاحظ أنه ما من دليل سيأتي لاحقًا يمكن أن يغيِّر هذا). بعبارة أخرى، فهي فرضية مؤكَّدة تمامًا. قارن هذا بعبارة «ستشرق الشمس في نيويورك اليوم، ولن تشرق الشمس في نيويورك اليوم». تستبعد هذه الفرضية «كل» الاحتمالات ذات الصلة. لا يوجد شيء يمكن للشمس أن تفعله، أو تعجز عن فعله، مما يجعل الفرضيةَ صحيحة. ولا يوجد شيء آخر يمكن أن يجعلها صحيحة أيضًا. لكن بما أنه لا يوجد احتمال سيجعل الفرضية صحيحة إن تحقَّق، فإنَّ قيمة الاحتمال القبلي للفرضية ٠٪ (ولن يغير أي دليل سيأتي لاحقًا من هذا أيضًا). وبعبارة أخرى، فهي فرضية خاطئة تمامًا.
ستقع جميع الفرضيات المثيرة للاهتمام في مكانٍ ما بين هذين النقيضين بالطبع. فهي تستبعد بعضَ الاحتمالات، لكن ليس كلها. لذلك لديها احتمال متوسط. وعلى الرغم من أننا قد لا نكون قادرين على تحديد العدد الدقيق للاحتمالات الموجودة التي قد تكون ذات صلة بفرضية معينة، فلا يزال بإمكاننا معرفةُ ما إذا كانت صحة الفرضية هي ما يَستبعِد المزيد من الاحتمالات أم بطلانها. وإحدى الطرق التي تُمكِّننا من معرفة ذلك هي النظر في الدرجة التي تقع عليها الفرضية من «التحديد». بعض الفرضيات محدَّدة للغاية، على سبيل المثال: تستند مِظلَّتي المبلَّلة بزاوية ٣٠ درجة إلى الحائط الواقع خارج المطبخ مباشرةً، مما يؤدي إلى تكوين بِركة من الماء تبلغ مساحتها ١٠٠سم٢ على الأرض. فالطرق التي قد تثبت صحة هذه الفرضية قليلةٌ نسبيًّا، وعلى العكس من ذلك يوجد عدد كبير من الطرق التي قد تثبت خطأ الفرضية؛ كأن تكون الزاوية ٢٥ درجة في واقع الأمر، أو أن تكون المظلة موضوعة في مُنظِّم المظلات في الشُّرفة، أو أنَّ مساحة المنطقة التي تكوَّنت فيها بركة الماء تبلغ ٦٠سم٢ فقط، أو أن تكون المظلة غير مبلَّلة أصلًا، أو الكثير من الطرق الأخرى. ولهذا فقيمة الاحتمال القَبلي للفرضية (مع تنحية أي دليل، مثل ذاكرتي للمكان الذي وضعتها فيه، أو حقيقة أنني رأيتها للتَّو، أو أن شاهدًا، أثبت بوجهٍ عام أنه يمكن الاعتماد عليه في مثل هذه الأمور، قد أبلغني بمكانها وحالتها الحالية، وما إلى ذلك) منخفضة إلى حدٍّ بعيد، بل منخفضة جدًّا بالفعل.

والآن، مع مراعاة ما تناولناه في الفقرة السابقة، دعونا نُلقِ نظرة مرة أخرى على فرضيتَي إبريق الشاي والتنين. كلاهما محدَّد جدًّا، فيما يتعلَّق بالأشياء المعنِية، وموقعها، والأسباب التي تجعلنا لا نملك دليلًا مباشرًا على وجودها. ولذا فإنَّ قيمة الاحتمال القَبلي لكلٍّ منهما منخفضة؛ إذ يوجد عدد كبير نسبيًّا من الطرق التي يمكن بها أن يكون كلٌّ من الفرضيتَين خاطئًا. ماذا إذن عن فرضية وجود إله؟ إلى أي مدًى تُعَد هذه الفرضية محدَّدة؟ هذا أمرٌ صعب؛ لأنه لا توجد إجابة واحدة عن هذا السؤال. بعض نُسخ الإجابة أكثرُ تحديدًا من غيرها. لكن هذا مجال لا يمكن للمرء أن يكون محددًا فيه للغاية. سيكون من العبث أن نفترض مثلًا أن الإله يرتدي ربطة عنق حمراء منقَّطة باللون الأبيض. والأهم من ذلك، أنه على الرغم من أننا قد نكون واضِحين نسبيًّا بشأن الدور الذي يتحتَّم على الإله أن يؤديه في الكون حتى يستحق لقب «إله» فمن الحكمة ألا نكون محددين تمامًا بشأن الطريقة التي يتحقق بها هذا الدور.

لقد اقترح الفيلسوف اللاأدري (والكاهن الكاثوليكي السابق) أنتوني كيني أن الإلحاد موقف أقلُّ تأكيدًا من الإيمان بالله؛ لأنه موقف يستبعد المزيد من الاحتمالات:

يمكن تقديم العديد من التعريفات المختلفة لكلمة «إله». وفي ظل هذه الحقيقة، نجد أنَّ الإلحاد يُقدِّم ادِّعاءً أقوى بكثير من الإيمان. يقول الملحِد إنه بغض النظر عن التعريف الذي ستختاره، ستظل الفرضية: «الله موجود» خاطئةً دائمًا. أما المؤمن فلا يزعم إلا أنه يوجد تعريفٌ ما يجعل فرضية «الله موجود» صحيحةً.

على الرغم من ذلك، غالبًا ما يعترض الملحِدون على اختطاف نوع معيَّن من المؤمنين لأفكارٍ غير ضارة تمامًا وادِّعاء أنها تمثل «الإله». من هذه المناورات على سبيل المثال، اعتبار أن «الإله» هو مُسمًّى آخر لقوانين الطبيعة. لكن إذا سمحنا بكل هذه الأشكال غير القياسية من الإيمان دون التمييز بينها، فلن يكون نطاق الجدال بين الملحِدين والمؤمنين واضحًا على الإطلاق. وبناءً على هذا، فلأغراض هذه المناقشة، سيقتصر تعريفنا «للإيمان» على أنه الفرضية القائلة بوجود كيان يقوم بالأدوار التالية:
  • (١)

    السبب الأساسي والمتعمَّد لوجود الكون

  • (٢)

    المصدر الأساسي للحب

  • (٣)

    المصدر الأساسي للمعرفة الأخلاقية

قد يكون النهج البديل لذلك هو ذكر الخصائص الجوهرية التي يجب أن يتمتع بها الكيان لكي يكون إلهًا، مثل أن يكون كُلِّي المعرفة، وكُلِّي القُدرة، وما إلى ذلك. لكن مثل هذه القائمة ستكون مثيرة للجَدل. فمن الأفضل تعريفُ الإله من حيث الدورُ الذي يؤديه، ثم الجدال بشأن الخصائص التي يجب أن يتمتَّع بها الكيان من أجل تحقيق هذا الدور. على سبيل المثال، من المنطقي استنتاجُ أن أيَّ كيان يؤدي الأدوار المحددة أعلاه في النقاط من ١ إلى ٣ يجب أن يكون لديه شيء مشابه على الأقل للذكاء البشري؛ بمعنًى آخر، أن يكون قادرًا على التفكير. فالسبب المتعمَّد لوجود الكون لا بد أن يكون كيانًا قادرًا على التفكير، أو على شيء يشبهه.

إذا عرَّفْنا الإله على هذا النحو؛ أي من حيث الدور الذي يؤديه، يُمكننا تعريفُ النزاع بين الإيمان والإلحاد بالعبارات التالية: يؤكد المؤمنون وجودَ كيان يؤدي الأدوار من ١ إلى ٣. ويُنكر الملحدون وجودَ شيء واحد يقوم بهذه الأدوار، بل ينكرون في الواقع وجودَ أي كيان على الإطلاق يؤدي الدور الأول. وَفقًا لهم، لا يحتاج الكون إلى سبب على الإطلاق؛ ربما كان موجودًا دائمًا، ويمتد إلى الماضي اللامتناهي؛ أو ربما جاء إلى الوجود حدثًا عشوائيًّا تمامًا، أو نتيجةَ موتِ كونٍ سابق. وسواءٌ أكان لوجود الكون سبب أم لا، فهذا السبب (في رأي الملحِدين) لن يكون سببًا مقصودًا؛ لأن النشاط العقلي لم يتطوَّر إلا في وقت متأخر جدًّا من تاريخ الكون. وبالنسبة للدور الثاني والدور الثالث، فلا شك أنَّ ثمَّة شيئًا يؤدي ذلك الدور في كلٍّ من الحالتين، لكن لا ينبغي لنا أن نتوقَّع أنه نفس الشيء الذي يُفسِّر كليهما، أو أنه «شيء» فعلي محدَّد، أي إنَّ هذا الشيء ليس شجرة مثلًا ولا إلهًا. فقد يكون المصدر الأساسي للحب، على سبيل المثال، هو الدافع البَيولوجي للتكاثر. وقد يكون المصدر الأساسي للمعرفة الأخلاقية هو تكويننا النفسي. التفاصيل لا تُهِم. الأمر الفاصل أنه بينما يبحث المؤمن عن شيء يفسِّر الأدوار الثلاثة دفعةً واحدة، لا يبحث الملحِد عن ذلك.

هل تصبح قيمة الاحتمال الأوَّلي للإيمان — وفقًا لهذه الطريقة في التفكير — أقلَّ بكثير مما هي عليه في حالة الإلحاد؟ ليس من الواضح على الإطلاق أنَّ الأمر كذلك. على الرغم من ذلك، فعند البدء في ملء التفاصيل، وتجاوز الدور الأساسي الذي نفترض أن الإله يؤديه، ووصف الكيفية المحدَّدة التي يؤدي بها هذه الأدوار، تزداد درجة تحديد الفرضية، ومن ثمَّ تنخفض قيمة الاحتمال الأوَّلي. وينطبق الشيء نفسه على الإلحاد. ففَور أن نتجاوز إنكارَ وجود كيان يؤدي الأدوار المعنية، ونبدأ في تقديم تفسيرات بديلة، تنخفض قيمة الاحتمال الأوَّلي.

يبدو إذن أنَّ الإيمان بالله والإلحاد يكونان على قدم المساواة في البداية. لا ينبغي أن يكون هناك افتراض بالإلحاد، ولا افتراض بالإيمان أيضًا. يجب أن يكون الموقف الأوَّلي لاأدريًّا، مما يعني أن المؤمنين والملحِدين يتقاسمون عبء الإثبات. ليست اللاأدرية إذن فائضة عن الحاجة.

كلُّ هذا لا يعني على الإطلاق إنكار أن اللاأدرية، بوصفها موقفًا مدروسًا، يجب أن ترتكز على ما هو أكثر من النقطة الضعيفة (أو كما يُسميها دوكينز، «المُخزِية») القائلة بأننا لا نستطيع إثبات وجود الإله أو إثبات عدم وجوده. فحقيقة أننا لا نستطيع إثبات وجود الأشجار بطريقةٍ تُرضي المتشكك الفلسفي، لا تجعل الاستمرار في الإيمان بوجود الأشجار أمرًا غير منطقي، وحقيقة أننا لا نستطيع إثباتَ أن إبريق شاي راسل غير موجود لا تجعل أيضًا الاستمرار في الاعتقاد بوجود مثل هذا الإبريق أمرًا غير منطقي على الإطلاق. إننا لا نستطيع أن ندعم معظم معتقَداتنا بأكثر من أُسُسٍ معقولة في غالبية الأحوال، وحتى ذلك نعجز عنه أحيانًا. وبناءً على هذا، سيتعيَّن على اللاأدري أن يثبت أننا لا نستطيع حتى إيجادَ أُسُسٍ معقولة من شأنها أن تُغيِّر الاحتمالات بطريقة أو بأخرى — سواء نحو الإيمان أو نحو الإلحاد — أو يثبت أن الأسباب التي نقدِّمها لكِلا الجانبَين يُلغي أحدها الآخر. وسيقودنا هذا إلى اللاأدرية التي لن تمثل في هذه الحالة موقفنا المبدئي فحسب، بل النهائي أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤