الفصل الرابع

لمَ تكون لاأدريًّا؟

الاختبار الحاسم

من علامات الفرضية العلمية الجيدة أنها تخضع لاختباراتٍ قد تؤكد نتائجها الفرضية أو تنفيها. وفي بعض الحالات، يكون العالِم في الموقف السعيد الذي يسمح له برصد ملاحظة مباشرة نسبيًّا تؤكد الفرضية بشكلٍ حاسم. لا شك أنَّ النتيجة الإيجابية مناسَبة سعيدة حقًّا. وفيما يلي بعض الأمثلة عليها.

في عام ١٦٣٩، كان عالِم فلك شاب يُدعى جيريمي هوروكس يدرس وصفًا لحركات الكواكب كتبه عالم الفلك العظيم يوهانس كيبلر. تنبأ كيبلر أن مدار كوكب الزُّهرة سيأخذه بين الحين والآخر ليمُر في خط مباشر بين الأرض والشمس. من حيث المبدأ، ينبغي أن يكون عبور الكوكب من أمام الشمس قابلًا للملاحظة، على الرغم من أن أحدًا لم يرصُده بعد. ثمَّة فرضيات تشير إلى أن العبور الأخير قد حدث في عام ١٦٣١. توقَّع كيبلر أن كوكب الزُّهرة سيُقدم على عبور آخر في عام ١٦٣٩، لكنَّ العبور لن يتم. لم يتفق هوروكس مع هذا الرأي، ورأى أن شيئًا ما لم يكن صحيحًا تمامًا في حسابات كيبلر، وأنَّ عبورًا آخر سيقع في الرابع والعشرين من نوفمبر من ذلك العام. في ذلك اليوم، أَعَدَّ هوروكس تِلِسكوبه بحيث يُسْقِط صورة الشمس على قطعة من الورق الأبيض. غير أنَّ الظروف لم تكن مثالية في ذلك اليوم؛ إذ كانت السماء مُلبَّدة بالغيوم. لكن بحلول الساعة الثالثة والربع مساءً، كانت السُّحب قد تفرقت بدرجة كافية لتُمكَّن هوروكس من رؤية نقطة سوداء واضحة على صورة الشمس. كانت هذه النقطة هي الصورة الظلية لكوكب الزهرة؛ لقد كان محقًّا.

ننتقل إلى التاسع عشر من أبريل عام ١٨٩٤، عندما كان الكيميائي الاسكتلندي ويليام رامزي يحضر محاضرة للورد رايلي حول تكوين الهواء. ذكر رايلي أن النيتروجين الجوي (المعزول عن طريق إزالة كلٍّ من الأكسجين وثاني أكسيد الكربون من الهواء بالوسائل الكيميائية) كان أكثف قليلًا من النيتروجين الناتج عن تسخين نترات الأمونيوم. فما الذي يمكن أن يفسِّر هذا؟ كان رايلي نفسه يعتقد أنه لا بد من وجود شائبة في النيتروجين الناتج بالطريقة الكيميائية: غاز أخف كان يؤثِّر على القياس. لكن رامزي بعد أن قرأ مؤخرًا تجاربَ سابقة على النيتروجين أجراها هِنْري كافِنديش، شكَّ في وجود غاز أكثرَ كثافةً في النيتروجين الجوي. تراسل مع رايلي، واتفقا على متابعة كلٍّ منهما لفرضيته الخاصة بدرجةٍ أكبر. بعد أن قام رامزي بعزل الغاز الأكثر كثافةً في النيتروجين الجوي، مثلما كان يأمل، أخضعه للتحليل الطَّيفي. كان المطياف آنذاك أداةً جديدة نسبيًّا من الأدوات المستخدمة في ترسانة علماء الكيمياء التحليلية. يُجرى التحليل الطيفي بتمرير تيار كهربائي عَبْر غاز (أو مادة متبخِّرة)، مما يُنتِج ضوءًا يُقسَّم بعد ذلك بمنشور. تَكَوَّن الطيف الناتج من سلسلة من الخطوط على خلفية سوداء. ولكل عنصرٍ طيفٌ مميز يُناظره. وعندما فحص رامزي الطيفَ الناتج عن الغاز الذي عزله، وجد مجموعاتٍ من الخطوط الخضراء والحمراء لا تنتمي إلى أي عنصر معروف، وكان هذا دليلًا قاطعًا على وجود عنصر جديد. نشر رامزي ورايلي نتائجهما معًا، وأطلقا على الغاز الجديد اسم «الأرجون» (من الكلمة اليونانية التي تعني خاملًا؛ إذ تبيَّن أن الأرجون غازٌ غير نشط تمامًا تقريبًا).

تمكَّن كلٌّ من هوروكس ورامزي من تقديم ملاحظات بسيطة نسبيًّا أثبتت صحةَ فرضيتهما. رأى هوروكس النقطةَ السوداء أمام صورة الشمس، ورأى رامزي خطوطَ الضوء غير المألوفة. عرَف كلاهما على الفور أنهما كانا على حق. فهل مثل هذا الاختبار مُتاحٌ في المجال اللاهوتي؟ يخبرنا العهد القديم عن اختبارٍ كهذا. في أيام النبي إيليا كان الكثير من بني إسرائيل يعبدون إلهًا اسمه «بعل». جمع إيليا كهنةَ بعل على جبل الكرمل، واقترح الاختبار التالي. أن تُجمَع كَومَتان من الحطب، استعدادًا لتقديم قُربان مَحرَقة. يُقدَّم قربانٌ إلى بعل، وآخر إلى الرب، إله إيليا. يوضع قُربان على كل كومة، ولكن دون إشعال الحطب. ثم يُدعى الكهنة إلى الصلاة لبعل ليُرسل نارًا لإشعال كومتهم. وهو ما يفعلونه. ولكن لا يحدث شيء. فيدعوهم إيليا إلى الصلاة لبعل بصوتٍ أعلى، في حال لم يسمع. فيفعلون، ومرةً أخرى لا يحدث شيء. والآن حان دور إيليا. ولِيجعل الاختبار أكثرَ جديَّة وصرامة، يأمر بسكب الماء على الحطب كي يصير رطبًا ويُصبح إشعاله أصعب. ثم يتضرَّع بدُعائه قائلًا:

«أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَإِسْرَائِيلَ، لِيُعْلَمِ الْيَوْمَ أَنَّكَ أَنْتَ اللهُ فِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنِّي أَنَا عَبْدُكَ، وَبِأَمْرِكَ قَدْ فَعَلْتُ كُلَّ هذِهِ الأُمُورِ. اسْتَجِبْنِي يَا رَبُّ اسْتَجِبْنِي، لِيَعْلَمَ هذَا الشَّعْبُ أَنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ الإِلهُ، وَأَنَّكَ أَنْتَ حَوَّلْتَ قُلُوبَهُمْ رُجُوعًا.» فَسَقَطَتْ نَارُ الرَّبِّ وَأَكَلَتِ الْمحْرَقَةَ وَالْحَطَبَ وَالْحِجَارَةَ وَالتُّرَابَ، وَلَحَسَتِ الْمِيَاهَ الَّتِي فِي الْقَنَاةِ. فَلَمَّا رَأَى جَمِيعُ الشَّعْبِ ذلِكَ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَقَالُوا: «الرَّبُّ هُوَ اللهُ! الرَّبُّ هُوَ اللهُ!»

لا بد أن نتفق على أن نتيجة هذا الاختبار كانت بالغة الأهمية، وأنها كانت سيئة لكهنة بعل، الذين لاقوا نهايةً مؤلمة بعد هذه الواقعة مباشرة. لكن هل من الممكن أن يقترح أيُّ شخص في الوقت الحاضر اختبارًا كهذا لفرضية الإله؟ وهل من المحتمل أن تكون هناك نتيجةٌ إيجابية إن نُفِّذ هذا الاختبار؟ أعتقد أننا يجب أن نعترف بأنه — خلافًا للتنبؤ بعبور كوكب الزهرة، أو بعنصر غير مكتشف حتى الآن في الغلاف الجوي — لا يمكن ابتكار اختبار محدَّد من شأنه أن يؤديَ إلى نتيجةٍ إيجابية يمكن تأكيدها علنًا، ومن الممكن أن تُرضي المتشككين. ما لدينا بدلًا من ذلك هو سلسلة من الملاحظات الغامضة للغاية في مضمونها، وإن كانت تشير إلى شيءٍ ما. وفيما يلي سنتناول بعضًا منها. إنني لا أقترح دراسةً منهجية للحُجج المؤيدة لفرضية الإله والمعارضة لها، بل أقترح إلقاء نظرة مختصَرة على مجموعة مختارة من دراسات الحالة، التي توضح غموض الأدلة الذي لا يمكن تجنُّبُه.

دراسة الحالة رقم ١: الذكاء

توجد ملاحظة واحدة مُذهِلة يمكننا تقديمها دون استخدام أيٍّ من حواسنا حتى — سنجدها ملاحظةً مذهلةً عندما نتوقَّف لنتأملها — وهي أنَّ الذكاء موجود في العالم. أي إنَّ ظاهرةً مثل التفكير موجودة بالفعل، وهذا التفكير قادرٌ بطريقة أو بأخرى على تمثيل ما تكون عليه الأشياء في الواقع في العالم الخارجي، والتكهُّن بما يمكن أن يكون، والمبادرة لتحقيق ما هو مرغوب فيه. عِلاوة على ذلك، فهذا التفكير التمثيلي «واعٍ»؛ إذ يجلب معه إحساسًا غامضًا تمامًا بالوعي الذاتي (أي الوعي بالتفكير، والوعي بالمفكر أيضًا، وإن لم يكن بالضرورة).

في إحدى مراحل تاريخ الفكر، كانت هذه الملاحظة الجاهزة كافيةً لإثبات أن الطبيعة قد خلقتها العنايةُ الإلهية. وإلا فكيف يمكن للسلوك العشوائي للذَّرَّات أن يؤديَ إلى شيء ذي مغزًى وعلى هذه الدرجة من التعقيد؟ فعند المقارنة بين اختيار الذكاء بوصفه نتيجةَ مصادفةٍ لحركاتٍ عشوائية في مقابل اختيار الذكاء بوصفه نتيجةً حتميةً لتدخُّلٍ خَيِّرٍ من الله، ستبدو محاسن الخيار الأخير لا تُقاوم. وعلى الرغم من التقدُّم المذهِل الذي أحرزه العلم، لم تفقد هذه الملاحظة كلَّ قوَّتها حتى يومنا هذا. غير أنَّ ثُنائية هل الكون «عشوائي أم مُصمَّم؟» ثنائيةٌ زائفة، مثلما يوضح دوكينز. فقد توصَّلنا الآن إلى تفسير طبيعي تمامًا للذكاء («طبيعي» بمعنى أنه لا يلجأ إلى قوًى خارقة للطبيعة)، فهو محض استراتيجية تطوُّرية أخرى فحسب. ذلك أنَّ الذكاء لا يظهر فجأةً في مرحلة معينة من التاريخ بشكل إعجازي، بل يظهر تدريجيًّا من خلال سلسلة من الخطوات الصغيرة؛ فهو زيادة تدريجية في تعقيد الأنظمة الحية وقدرتها على التكيف والبقاء.

إنَّ الكائن الحي الذي يفتقر إلى الذكاء لن يبقى على قيد الحياة إلا بمقدارِ ما تَظل القدرات التي منحه إياها التطوُّر البَيولوجي ملائمةً لبيئته. وإذا تغيَّرت تلك البيئة تغيُّرًا جذريًّا، فلن يكون لدى هذا الكائن مواردُ أخرى يمكنه الاعتماد عليها. يسمح الذكاء بدرجةٍ أكبر من المرونة، وما من مثال أكثرَ إقناعًا على هذا من البشر. فمن الناحية البيولوجية، يُعدُّ الإنسان الحديث غيرَ متكيِّف نسبيًّا مع بيئته. ولكن التطور النفسي والاجتماعي عوَّض عن هذا النقص من خلال عزل الكائن البيولوجي جُزئيًّا عن ويلات الطبيعة؛ فالتكنولوجيا والتعاون الاجتماعي يُزوِّداننا بمجموعة من الأشياء التي سيكون من الصعب الحصول عليها بجهودنا الخاصة؛ مثل الطعام، والملبس، والمسكن، والنقل.

يبدو إذن أن الانتقاء الطبيعي يجعل الإيمان بالله غيرَ ضروري في تفسير الذكاء. ولكنَّ الملحِدين يستطيعون أن يفعلوا ما هو أكثر من مجرد إظهار أن الإله غير ضروري. يمكنهم مثلًا المبادرة بالهجوم. وهذا ما يفعله دوكينز بقوله إن الحجَّة التي تستند إلى ظاهرة الذكاء في إثبات الله تأتي بنتائجَ عكسية؛ لأن فرضيَّتها القائمة على أن الذكاء غير المصمَّم غير محتمَل إلى حدٍّ كبير تجعل وجود «الله» غير محتمَل إلى حدٍّ كبير أيضًا. إن نوع التعقيد الذي يتطلبه الذكاء لا يتجنَّب إلا أدنى تصنيف احتمالي، سواءٌ أكان مُصممًا بواسطة كيان ذكي في حد ذاته، أو ظهر نتيجةَ تغيُّرات تدريجية ترجع إلى الطفرات والانتقاء الطبيعي على مدى آلاف السنين. لكن الإله نفسه (وفقًا للإيمان) ليس نتيجةَ تصميم ذكي، ولا الانتقاء الطبيعي، فهو الخالق. وعلينا إذن أن نستنتج أن وجود إلهٍ غيرُ محتمَل إلى حد كبير. وسيكون لهذا عواقبه على مناقشتنا السابقة بشأن مبدأ افتراض الإلحاد. إذا كان عبء تقديم أدلة مُقنِعة يقع على عاتق مَن يتبنَّون فرضيةً قيمةُ احتماليَّتها الأولية منخفضة، وكان الإيمان فرضية أولية غير محتمَلة، إذن فلا بد في البداية من افتراض الإلحاد.

يبدو أن الذكاء شاهد متقلِّب؛ فهو في البداية يقدِّم دعمًا ساحقًا على ما يبدو للإيمان بالله، لكنه (بمساعدة نظرية علمية قوية) يُقدِّم بدلًا من ذلك حُجَّة ساحقة ضده.

لكن هذه ليست نهاية الأمر. إن نوع الذكاء الذي نعرفه، والذي ينشأ كما يبدو من دماغ معقَّد للغاية، هو في الواقع شيء ذو احتمالية أولية منخفضة. لكن، أيلزم أن يكون الذكاء على هذا النحو؟ الفكرة الأساسية هنا هي أن الخاصية الواحدة نفسها يمكن تحقيقها بعِدة طُرق، بعضها يتضمَّن من التعقيد وعدم الاحتمالية أقلَّ مما يتضمنه البعض الآخر. لنأخذ مثالًا من خاصية كون الشيء كُرَوي الشكل. إنها ليست خاصيةً غير محتمَلة كما يظهر في فقاعة الصابون؛ أي إنَّ هذا المثال المحدَّد للكروية ليس بالمثال غير المحتمَل الوقوع. فالقُوى الموجودة داخل الفقاعة تجعل هذا الشكل طبيعيًّا بدرجة أكبرَ بكثير من شكل المكعب، على سبيل المثال، أو من المجسم الاثني عَشري. لكن تخيَّل الآن سربًا من الطيور يحلِّق فوق رءوسنا ليُشكل للحظةٍ شكلًا كُرويًّا. ومع أن مَيل هذه الطيور إلى الطيران معًا يجعل وجودَ شكلٍ ما لتحليقها الجماعي أمرًا لا مفرَّ منه (وغالبًا ما تُولِّد فينا بعض التكوينات انطباعًا غريبًا بأن السرب مخلوقٌ واحد يتحرك في الهواء)، فإنَّ هذا الشكل بالذات غير محتمَل إلى حد كبير. نستنتج من هذا أنَّ الخصائص يمكن أن تتحقق بطرق مختلفة، وتعتمد احتمالية تحقُّق خاصيةٍ ما على «كيفية» تحقُّقها. وليس من غير المعقول تطبيق ذلك على الذكاء. فرُبما يتوقَّف مدى تعقيد الذكاء غير المسبَّب وعدم احتمالية ظهوره على كيفية تحقيقه. ونحن لا نتخيَّل هنا مجردَ مخلوقات ذات كيمياء مختلفة عنَّا فحسب؛ إذ ربما تنطوي أدمغتُها على الدرجة نفسها التي نمتلكها من التعقيد. نحن هنا نتخيل شيئًا مختلفًا جذريًّا؛ شيئًا قد لا يتضمن الإدراك المادي على الإطلاق. لا شك أننا نصبح في غاية الحيرة عند هذه النقطة، لكن هذا يجب أن يجعلنا أكثرَ حذَرًا بشأن تخصيص أي احتمال أوَّلي لوجود الذكاء.

وبصرف النظر عن هذا، هل من الواضح أن الانتقاء الطبيعي يُظهِر أن الإيمان بالله لا لزوم له، في هذا النطاق على الأقل؟ ذلك أنَّ الوعي من أبرز سمات الذكاء مثلما ذكرنا. لكن أمِن اللازم أن ينطويَ الذكاء على الوعي، حتى وإن كان هذا الذكاء من النوع الأكثر تعقيدًا؟ ربما نكون مستعدِّين للحديث عن الذكاء الاصطناعي وسيلةً لوصف قدرات أجهزة الكمبيوتر المذهِلة حقًّا في معالجة المعلومات. ولكن هل سنكون مستعدين للحديث عن الوعي الاصطناعي؟ وهذا يقودنا إلى الفكرة التالية: إذا كان الذكاء والوعي منفصلَين من حيث المبدأ، فربما أدَّى الانتقاء الطبيعي إلى ظهور جنس من الزُّومبي خارقي الذكاء، وقد استخدموا ذكاءهم للبقاء على قيد الحياة والتكيُّف مع البيئات المتغيرة. ولكنهم لن يكونوا «واعين». فأيٌّ من خصائص الانتقاء الطبيعي إذن يُفسِّر هذا الجانب الإضافي الواضح لحياتنا العقلية؟

هذا سؤال فحسب. إنه ليس ضربةً حاسمة ضد الإلحاد. على الرغم من ذلك، يجب أن يَزرع هذا السؤال بذرةً أخرى من الشك في ذهن أي شخص قد يستخدم حالةَ الذكاء لتعزيز قضية الملحِد.

دراسة الحالة الثانية: الحياة وقوانين الطبيعة

توجد ظاهرةٌ أكثر انتشارًا من الذكاء وهي الحياة نفسها؛ فالعالم يعجُّ بها؛ على الأرض، وفي الماء، وفي الهواء. ربما تقتصر الحياة على هذا الكوكب فقط، وربما لا. إنَّ مدى هذه الحياة نفسه ليس مُهمًّا لأهدافنا. فلا تزال الحقيقة أنَّ الحياة موجودة. هل يجب أن نُفاجأ بذلك؟ من ناحيةٍ ما، ليس ذلك مُفاجِئًا على الإطلاق؛ لأن كل تجربةٍ مررنا بها منذ ولادتنا تجعلنا على اتصال بالحياة (بحياتنا على الأقل، إن لم يكن بحياة شيء آخر). على الرغم من ذلك، فهو أمرٌ مثير للدهشة من جانب آخر، وتزداد هذه الدهشة عندما نتأمل ما استلزم الأمر حدوثه لكي تظهر الحياة من حساء المواد العضوية الذي ظل يتدفَّق على مدار مليارات السنين.

سنذكر فيما يلي بعض الشروط التي كان لا بد من تحقُّقها. كان من الضروري أولًا أن تتوفر المكوِّنات الأوَّلية للحياة، ومنها الكربون والهيدروجين؛ حيث إن هذَين العنصرين يُشكلان أساسَ المواد العضوية التي تتكوَّن منها الكائنات الحية. ثانيًا، كان لا بد من أن تسمح الظروف بتشكُّل البروتينات المعقَّدة من الجُزيئات البسيطة المتاحة؛ لأن مثل هذه المواد المعقَّدة فقط هي التي يمكنها تشكيل الهياكل اللازمة للأجسام الحية. ثالثًا، كان لا بد من وجود مصدر للحرارة يوفر الطاقةَ اللازمة للتفاعُلات ووسطًا يُمكن أن تحدُث فيه؛ فأرضٌ متجمِّدة تمامًا لم تكن لتسمح بحدوث أي تفاعلات على الإطلاق. رابعًا، كان لا بد من وجود مصدرِ الحرارة هذا مُدةً كافية؛ لأن ظهور الحياة وتطوُّرها استغرق عدةَ مليارات من السنين. خامسًا، من أجل وجود أجسام مادية كبيرة مثل كوكب الأرض لتوفير سطحٍ كبير بما يكفي كي يمكن للحياة أن تتشكَّل عليه، كان يلزم ألا يكون التمدُّد الناتج عن الانفجار الكبير سريعًا جدًّا ولا بطيئًا جدًّا؛ لو كان سريعًا جدًّا لما كانت المادة تجمَّعت لتشكيل أجسام أكبر؛ ولو كان بطيئًا جدًّا لأدَّت قُوى الجذب بين الأجسام المادية إلى الانهيار مرة أخرى قبل أن تتشكل المجرَّات. سادسًا، لكي يحدُث كل هذا، كان لا بد أن يكون الكون نفسه مستقرًّا نسبيًّا؛ أي أن يكون محكومًا بقوانين الطبيعة، وليس فوضويًّا تمامًا.

قد يبدو كل هذا واضحًا بما فيه الكفاية، لكن الأمر الأقل وضوحًا هو أن بعض هذه الشروط (حقيقة أن النجوم تعيش طويلًا، وأن الكربون والهيدروجين متوفران بكميات كبيرة) تعتمد على ما يُعرف بالثوابت الأساسية. وتشمل هذه الثوابت القيمَ الدقيقة لقُوًى معيَّنة داخل الذَّرَّات. إنها ثوابت من حيث إنها لا تختلف من مكان إلى آخر ولا من وقت لآخر، وهي أساسية من حيث إنها لا تبدو مُشتقة من خصائصَ أخرى جوهرية بدرجةٍ أكبر. وما هو أقل وضوحًا حتى من ذلك، وهو أمرٌ يُمثِّل مفاجأةً كبيرة للعلماء الذين يتأمَّلونه، هو أن قيم كل ثابت من هذه الثوابت الأساسية يقع ضمن نطاق ضيق للغاية. وخارج هذا النطاق، لم يكن من الممكن للحياة — كما نعرفها — أن تنشأ. وإذا افترضنا أنَّ وقوع قيم الثوابت ضمن النطاقات المطلوبة كان من قبيل المصادفة تمامًا، فإنَّ هذا يعني أنَّ نشأة الحياة كان حدثًا غير محتمَل للغاية. يبدو أن الكون، كما يُقال أحيانًا، «مضبوط بدِقة» بما يسمح بنشأة الحياة. فما الذي يمكن أن يُفسِّر ذلك؟

أحدُ التفسيرات هو أن الإله هو مَن ضبطه بدِقة. حدَّد الإله القيمَ بهذا الشكل بالضبط ليسمح بظهور الحياة، وكان هذا هو هدفه الأسمى. لولا تدخُّله، لكانت الحياة غير محتمَلة على الإطلاق. وهذا، بحسب بعض المفكِّرين (ومنهم عدد من العلماء) يُغيِّر الاحتمالات تغييرًا حاسمًا لصالح فرضية الإله.

ومع ذلك، يوجد اعتراضان على هذه الطريقة في التفكير. قد يبدو للوهلة الأولى أنه لا يمكن أن يكون هناك تفسيرٌ علمي بحت للثوابت الأساسية، ولا لحقيقة أنَّ الكون ينطوي على ما يشبه القوانين. ذلك أنَّ الثوابت «أساسية» على وجه التحديد، ولا يمكن تفسيرها في ضوء شيء أبسط. كما أنَّ التفسير العلمي يتضمَّن الافتراض المسبَق بوجود قوانين. قد يستمد بعض القوانين من قوانين أخرى، ولكنه لا يستطيع تفسيرَ سبب وجود أيٍّ منها. غير أنَّ ثمة تفسيرًا طبيعيًّا بحتًا للضبط الدقيق الواضح للكون، وهو أن هذا الكون ليس سوى كون واحد من أكوان عديدة، ولكلٍّ منها قوانينه الخاصة. ربما بعض هذه الأكوان ليس لها أي قوانين على الإطلاق، وفوضوية تمامًا. لكن كلما زاد عدد الأكوان التي نفترض وجودها، زاد عدد التبديلات التي يمكن تحقيقها، وزاد احتمال أن يكون أحدُ هذه الأكوان هو الذي تكون فيه ظروف نشأة الحياة مناسبة تمامًا. وسوف نجد أنفسنا في مثل هذا الكون بطبيعة الحال. هذا ما يُسمَّى بفرضية «الأكوان المتعدِّدة». إنه تفسير علمي بمعنى أنه لا يفترض شيئًا لا يمكن وصفه على أُسُسٍ علمية. هل يمكننا اختبار فرضية الأكوان المتعددة؟ لا يمكننا ذلك بصورة مباشرة. فنحن لا نستطيع رصدَ هذه الأكوان الأخرى؛ لأنها معزولة عنا على نحوٍ خاص جدًّا. لا يوجد طريق يمكننا نحن أو أي شيء آخر، مثل شعاع الضوء، أن نسلكه من كون إلى آخر؛ لأن كل كون يقع في فضائه الخاص، ولا يوجد طريق يصل بين هذه الأكوان. إنها «عوالِمُ مُتوازية»، لا تلتقي أبدًا. وليس هذا الافتراض بالانفصال المكاني للأكوان مجردَ وسيلة مريحة تمنعنا من التساؤل عن السبب في عدم قدرتنا على اكتشافها، بل جزء ضروري من القول بأن هذه الأكوان لها قوانينها الخاصة؛ لأن القوانين يجب أن تحكم الفضاءَ بأكمله، وليس جزءًا منه فحسب. لكن على الرغم من عدم قدرتنا على التحقُّق مباشرةً من وجودها، يمكننا استخدام حقيقة أنها تُفسِّر حقيقة محيِّرة للغاية بشأن كوننا هذا، وهي أنه يدعم الحياة، لنقول إن احتمالية وجود هذه الأكوان أكبر من احتمالية عدم وجودها.

ولهذا، يمكن للملحِد أن يُقدِّم تفسيرًا بديلًا للضبط الدقيق. فما الفرضية الأكثر مصداقيةً، الإله أم الأكوان المتعدِّدة؟ سيتوقف ذلك على وجهة نظرك. فمن ناحيةٍ ما، قد يبدو افتراض وجود شيء واحد فقط (استثنائي للغاية) وهو الإله؛ أقلَّ تعقيدًا من افتراض وجود عدد هائل من الأشياء؛ أي الأكوان. من ناحية أخرى، فهذا الشيء مختلف تمامًا عن أي شيء آخر نعرفه، في حين أن الأكوان المتعدِّدة لا تتضمَّن سوى الكثير من الأكوان التي تشبه الكون الذي نعرف أنه موجود (أو ربما لا تشبهه تمامًا). لذا فإننا أمام ما يُشبه طريقًا مسدودًا بين المؤمن والملحِد.

يوجد اعتراضٌ آخر على استخدام فكرة الضبط الدقيق للبرهَنة على وجود الله — الحق أنه أقرب إلى هجوم مباشر — وهو أنه ليس من الواضح أن الله سيختار خَلْقَ كون يتطلب ضبطًا دقيقًا حتى تنشأ الحياة. فبحسبِ ما نعرفه، كان يمكن للإله خَلْقُ كون له نوع من القوانين التي لا تتطلب ضبطًا دقيقًا حتى تنشأ الحياة. وإذا كان يمكنه ذلك، فمن المحيِّر أنه لم يختَر هذه الطريقة. لذلك، فحتى نعرف ما إذا كان مثل هذا العالم ممكنًا أم لا، لا يمكننا استخدام فكرة الضبط الدقيق للكون بوصفها دليلًا على وجود الله. ومن سوء الحظ أنه لم يَعُد أمامنا فيما يتعلَّق بهذه المسألة سوى التخمين؛ فليس من الواضح ما قد يُثبت إمكانية تحقُّق هذه القوانين أو استحالتها.

دراسة الحالة الثالثة: الضمير الأخلاقي

نعلم جميعًا ما يعنيه أن يكون لدينا ضمير، وهذا يجعلنا نمرُّ بوقت عصيب في بعض الأحيان. ولكن ما هو مصدر هذا الشيء الذي يدفعنا نحو أفعالٍ مُعينة، ويجعلنا نمتنع عن غيرها، والذي يُولِّد مشاعرَ الذنب أو الرضا؟ لا شك أنَّ هذه المشاعر تتولَّد في بعض الأحيان استجابةً لموافقة أشخاص آخرين على أفعالنا أو رفضهم لها. على الرغم من ذلك، توجد هذه المشاعر لدينا في كثيرٍ من الأحيان أيضًا «قبل» أن يُحكَم علينا بهذه الطريقة. علاوة على ذلك، حتى التفكير في فعلٍ معيَّن يمكن أن يكون كافيًا لإثارة هذه المشاعر. يرى جون هِنْري نيومان (١٨٠١–١٨٩٠)، وهو رجل دين إنجليزي ترك كنيسة إنجلترا في عام ١٨٤٥ لينضم إلى الكنيسة الكاثوليكية؛ أنَّ الضمير الأخلاقي يدُل على مصدر إلهي:

يبدو أنَّ هذه المشاعر الموجودة لدينا تحتاج إلى كائنٍ عاقل ليُثيرها فينا؛ فنحن لا نشعر بالعاطفة تجاه حَجَر، ولا نشعر بالخِزي من حصان أو كلب؛ إننا لا نشعر بأي ندم أو تأنيب ضمير تجاه خرق مجرد قانون بشري، غير أنَّ الضمير يُثير كلَّ هذه المشاعر المؤلمة من الارتباك، والتوجُّس، وإدانة الذات؛ ومن ناحية أخرى، فهو يلقي في قلوبنا سلامًا عميقًا، وشعورًا بالأمان والتسليم والأمل، لا يمكن لأي شيء أرضي أن يثيره. «يَهْرُبُ الشِّرِّيرُ وَلَيْسَ مَنْ يُطَارِدُهُ»؛ لماذا يهرب إذن؟ ما هو مصدر رُعبه؟ مَن ذا الذي يراه في الوحدة، في الظلام، في ثنايا قلبه الخفية؟ إذا كان سبب هذه المشاعر لا ينتمي إلى هذا العالم المرئي، فلا بد أنَّ الشيء الذي يتوجَّه إليه إدراكه خارقٌ للطبيعة وإلهيٌّ.

ولهذا، فحتى إذا لم يكن هناك أي إنسان يراقبنا ونحن نتصرف، سواء أكان ذلك تصرفًا يجدُر بنا فِعله أو آخر لا يجدُر بنا فِعله، أو حتى ونحن نفكر في التصرف، فإننا نشعر «كما لو» كنا مراقَبِين ومحكومًا علينا، ونشعر بما يرتبط بذلك من الفخر أو الخزي. لماذا قد نفعل هذا ما لم يكن هناك بالفعل كيانٌ يراقبنا ويحكم علينا، وينقل لنا هذا الحكم؟ يرى نيومان أن الله هو النتيجة التي لا مفرَّ منها. ولكن دعونا نطرح هذه النقطةَ بدرجة أكبر من التواضع بالقول إن ظاهرة الضمير تُغيِّر الاحتمالات إلى حدٍّ ما لصالح الإيمان بالله.

ولكن هل هذا صحيح فعلًا؟ يوجد تفسيرٌ بديل لمصدر الضمير، وهو أنه نتيجةُ الارتباط الشرطي الإيجابي الذي يتمثل في المكافأة على الأفعال الجيدة، والارتباط الشرطي المتمثل في العقاب على الأفعال السيئة، مما يجعلنا قلِقين أو خائفين من مجرد التفكير في فعلٍ ما أو تجنُّب تصرفات بعَينها. إننا نختبر الاستحسان والاستنكار في سنٍّ شديدة الصِّغَر نكون سريعي التأثر فيها ونستبطن هذه الأحكام. ولهذا يبدو الأمر عندما نتصرف كما لو كنا تحت مراقبة أحد الوالدين أو شخص له سلطة علينا، فتلك بالضبط هي الظروف التي اتخذنا في ظلِّها خطواتنا الأولى نحو فهم الصواب والخطأ. توجد علاقة متأصِّلة بين الفعل والحكم، ولهذا فإنَّ أداء الفعل أو التفكير فيه يؤدي حتمًا إلى توقُّع الحكم. وقد يُقال إنه ما من حاجةٍ لاستدعاء الإله في هذا الأمر.

ربما يبدو هذا منطقيًّا إلى حدٍّ ما، لكنه لا يمكن أن يفسِّر كلَّ شيء. إن التجارب الفعلية التي مررنا بها عندما كنا صغارًا لا تبدو كافية لتفسير انتشار الضمير وتأثيره في كل جوانب الحياة. في بعض الأحيان كنا نفعل أشياءَ سيئة ونُفلِت من العقاب؛ وفي أحيان أخرى فعلنا أشياءَ جيدة ولم يعلم بها أحد. في بعض الأحيان كنا نُعاقَب ظُلمًا أو نُكافأ دون وجه حق. وربما كان مَن يُصدرون الأحكام هم أنفسهم معيبين أخلاقيًّا. ويتأثر ضميرنا بأفعالٍ نقوم بها، نحن البالغين، دون أن يكون لها نظيرٌ في تجربة طفولتنا، فكيف أمكن تعميم الارتباطات العمياء في هذه الحالة؟ فضلًا عن ذلك، فإن نهج «استجابة الخوف الشرطية» فيما يتعلق بالضمير لا يُفسِّر المعنى «الأخلاقي» الفريد. إننا نشعر بالحرج والخزي إزاء العديد من الأشياء التي نقوم بها، والتي ليس لها أيُّ محتوًى أخلاقي محدَّد؛ ربما أدى أداؤنا الضَّعيف في اليوم الرياضي في المدرسة إلى صيحاتِ اشمئزاز جعلتنا نشعر بالخزي سنواتٍ عديدة بعد ذلك. ولكن هذا لا يرقى إلى مستوى تأنيب الضمير. وقد تُثير فكرة التحدُّث أمام الجمهور أو الظهور في أشكال مُعيَّنة من الملابس مشاعرَ قلق أو إحراج قوية، لكنها لا تُثير مشاعرَ أخلاقية. فأيُّ جانب من جوانب الارتباط الشرطي يُفسِّر البُعد الأخلاقي لمشاعرنا؟

يمكننا أن نحاول استكمالَ تفسير الارتباط الشرطي الاجتماعي بتفسير آخر يرى الضمير بوصفه إرثًا للتطوُّر البَيولوجي والاجتماعي على مدى آلاف السنين؛ حيث يجري اختيار الميول لأنواع معينة من السلوك — تلك التي تُسهِم في قدرٍ أكبر من التماسك الاجتماعي بوجه عام — على حساب الميول التي تضرُّ جماعات المجتمع. معنى هذا أنَّ مَن يتمتعون بقدرة مُتأصِّلة للضمير الأخلاقي، تزداد احتمالية توريث جِيناتهم مقارنةً بمَن لا يمتلكون تلك القدرة، إذا تساوت جميع الظروف الأخرى. والمجتمعات التي يتطوَّر فيها الضمير الأخلاقي الجماعي تزداد احتمالية بقائها مقارنةً بالمجتمعات التي لا يحدث فيها ذلك.

ماذا إذن عن اقتراح نيومان بأن مشاعرنا الأخلاقية تشير إلى وجود كيان إلهي يحكم علينا، وأن نوعية المشاعر التي لدينا هي تلك التي نشعر بها أمام النظرة الفاحصة لكيان أخلاقي؟ يمكننا القول إن هذا مجرد نِتاج للتطوُّر، أي إنَّ هذه الأنواع من المشاعر ستُنتَقى على الأرجح بدرجة أكبرَ من تلك التي لا تنطوي على الإحساس بوجود كيان يحكم علينا. أو يمكننا القول إن تأمُّلات نيومان بشأن سيكولوجية الضمير مُصطبِغة بمعتقَداته الدينية. فلأنه يؤمن بالله، يُفسِّر مشاعره في ظل إيمانه بوجود كيان إلهي. ولا شك أنَّ الملحدين مُهيَّئون بالقدرِ نفسه للشعور بمشاعر أخلاقية، لكنهم لن يفسروها على الأرجح بشعورهم بأنَّ ثمة مُشرِّعًا إلهيًّا يحكم عليهم.

على الرغم من ذلك، ثمَّة شيء لا يتناوله التفسير العلماني البحت للضمير. فالضمير يُوجِّهنا إلى الخصائص الأخلاقية للأفعال نفسها: الفعل (القتل أو السرقة أو الخداع أو الإحسان أو العطف أو التضحية) هو في حد ذاته إما خَيِّر أو شرير. ولا يبدو أن هذه الخاصية موجودة في العقل وحده. وقد يكون من الضروري أن يكون الفعل قد نشأ من فكرة شريرة حتى يُعَد سيئًا، ولكن سوء الفعل لا يتساوى مع سوء الفكرة. هكذا تبدو الأمور لنا على الأقل؛ أن أحكامنا الأخلاقية تهدف إلى انتقاء الخصائص الأخلاقية للأفعال. هذه هي الموضوعية (الحقيقية أو الظاهرة) لأحكامنا الأخلاقية. والآن، إذا كان الضمير الذي تؤدي إيحاءاته إلى إثارة هذه الأحكام هو نتيجة لمزيج من الانتقاء البَيولوجي والاجتماعي بالإضافة إلى التكييف النفسي، فمن أين يأتي هذا الشعور بالموضوعية؟ ربما تكون الآلية شيئًا من هذا القبيل: نشهد أفعالًا معينة أو نفكِّر فيها، مثل الخداع المتعمَّد، وهي تثير فينا مشاعرَ محدَّدة، كالاستياء منها مثلًا. وبعد ذلك يُسقَط هذا الشعور بطريقة أو بأخرى على الفعل نفسه، مما يؤدي إلى ما يبدو أنه إدراك لسوء الفعل.

لكن هذا الإسقاط — إن كان هذا هو ما يحدُث فعلًا — محيِّر للغاية. فعلى سبيل المثال، لا يحدُث ذلك عندما تُسبِّب لنا الأشياء الألم. قد تكون تجربة شيءٍ ما مصحوبةً بألم؛ ربما يكون ساخنًا جدًّا، أو حادًّا، أو ثقيلًا، أو صاخبًا. غير أننا لا نُسقط الألم على الشيء الذي يُسببه. قد ندرك أن إحدى الخواص الموجودة في الشيء هي التي تُسبِّب الألم، لكن الألم يظل مرتبطًا بالتجربة نفسها فحَسب. ليست الأمور مؤلمة في حد ذاتها، إنما يتوقف ذلك على الكيفية التي تُقدَّم بها إلينا. فلماذا إذن عندما تُحفِّز الأفعال فينا مشاعرَ أخلاقية، لا يظل الجانب الأخلاقي للتجربة مرتبطًا بالتجربة نفسها فحسب، بدلًا من إسقاطه على الفعل مما يؤدي إلى اعتباره فعلًا جيدًا في حد ذاته أو سيئًا، بصرف النظر عن الكيفية التي يُقدَّم بها إلينا؟ ليس من الواضح على الإطلاق أنه يوجد تفسير لهذا في ضوء الانتقاء الطبيعي. توجد بالتأكيد علاقةٌ وثيقة بين المشاعر الأخلاقية ومشاعر الألم والمتعة؛ الذنب هو نوع من أنواع الألم العقلي، والرضا الأخلاقي نوعٌ من أنواع المتعة العقلية. وتُعَد شدة هذه المشاعر كافيةً لتفسير الدور الذي تلعبه في التعزيز الإيجابي أو السلبي لأنواع معيَّنة من السلوك، دون الحاجة إلى اعتبارها وسيلةً للكشف عن خصائص أخلاقية موضوعية في العالم. غير أنها تُعَد وسيلةً لذلك بالفعل. فلماذا؟ ربما يتعيَّن علينا قبول أن تلك هي طبيعة الأمور فحسب، وأنها حدثت نتيجةَ مصادفة طبيعية. لكنها تصبح أكثر وضوحًا في ضوء فرضية الإله؛ مثل هذه المشاعر هي في الحقيقة إدراك الخير أو الشر، وهذا الإدراك مستقل تمامًا عن أي معتقَدات أو ممارسات إنسانية، مما يشير في النهاية إلى مصدر إلهي. إنَّ هذا الاستنتاج ليس مفروضًا علينا. إنما يظل خيارًا للتفكير في الموضوعية الظاهرة للأحكام الأخلاقية النابعة من الضمير باعتباره وهمًا عرَضيًّا. ولكنها تدل على أن نظرية الانتقاء الطبيعي لا تجعل من فرضية الإله غير مجدية تمامًا.

دراسة الحالة الرابعة: حضور الله

إنها ليلة الثاني من نوفمبر عام ١٨٢٩، وكان الشاب ستيفن برادلي مُستلقيًا على سريره في منزله في ولاية كونيتيكت. في وقت سابق من ذلك اليوم، كان قد حضر في الكنيسة عِظةً عن أهوال يوم الدَّينونة كانت تزلزل المشاعر وتثير الرهبة، لكنه — ولسبب غريب — لم يتأثَّر بها. غير أنه، وقد صار الآن يجلس وحيدًا مع أفكاره في الظلام، بدأ يشعر بحدوث شيء غريب:

في البداية، بدأت أشعر بقلبي ينبض بسرعة كبيرة فجأة، مما جعلني أعتقد في البداية أنَّ مرضًا ما سيحل بي، لكنني لم أشعر بالانزعاج؛ لأنني لم أشعر بأي ألم. وازداد خفقان قلبي، وسرعان ما أقنعني ما أشعر به بأنَّ ذلك هو الروح القدس. بدأت أشعر بسعادة وتواضُع شديدَين، وبشعور بعدم الجدارة لم أشعر به من قبل. لم أستطِع مَنْع نفسي من التحدث جَهرًا، وهو ما فعلته، وقلت: يا رب، أنا لا أستحق هذه السعادة — أو كلمات من هذا القبيل — بينما كان هناك تيار (يشبه الهواء في الإحساس به) يدخل إلى فمي وقلبي بطريقةٍ أوضح وأكثر تفرُّدًا مما لو كنت أشرب شيئًا، واستمرَّ ذلك خمس دقائق أو أكثرَ بحسبِ ما يمكنني الحكم، وهو ما بدا أنه سببُ خفقان قلبي. لقد استحوذ على روحي بالكامل، وأنا على يقين من أنني في وسط ذلك، كنت أرغب ألا يمنحني الرب المزيدَ من السعادة؛ إذ بدا كما لو أنني لا أستطيع احتواءَ ما حصلت عليه. بدا وكأنَّ قلبي سينفجر، لكنه لم يتوقَّف حتى شعرت كما لو كنت مُمتلئًا بمحبة الله ونِعمته على نحوٍ لا يُوصف. وفي خضم كلِّ ما كان يحدُث لي، خطرت في ذهني فكرة: ما الذي يعنيه ما يحدث؟ وفجأةً، وكأنها إجابة عن السؤال، أصبحَتْ ذاكرتي واضحة للغاية، وبدا لي كما لو أن العهد الجديد قد وُضِع مفتوحًا أمامي، على الإصحاح الثامن من رسالة بولس الرسول إلى أهل رُومِيَّة، ومُضاءً كما لو أن شمعة أُمسِكت من أجلي لقراءة الآيتين ٢٦ و٢٧ من ذلك الإصحاح، وقرأت هذه الكلمات: «وَكَذَلِكَ الرُّوحُ أَيْضًا يُعِينُ ضَعَفَاتِنَا، لأَنَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي. وَلكِنَّ الرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لَا يُنْطَقُ بِهَا.»

في صباح اليوم التالي، نهض وقرأ المقطع الذي طرأ على ذهنه في الليلة السابقة، «وكانت كل آية تقريبًا وكأنها تتكلَّم وتؤكد أنها كلمة الرب حقًّا». وعندما أخبر والدَيه عن تجربته، بدا له وكأنه لا يتحدث بصوته، فقال عن ذلك: «بدا كلامي تحت سيطرة «الروح» التي بداخلي بالكامل.»

فما الذي يمكن أن نفهمه من هذا؟ إن الأحاسيس والعواطف حقيقية بما فيه الكفاية، لكن هل تُقنعنا أن هذا كان لقاءً حقيقيًّا مع الله؟ من الواضح أن هذا شخص قد اتبع طريقًا دينيًّا بالفعل، حتى وإن كان قد انحرف عنه، وهو على دراية كافية بالكتاب المقدس للتعرُّف بالفقرة التي خطرت على ذهنه. ماذا قد يكون أكثر تلقائية بالنسبة إليه من تفسير ما كان تجربة مكثَّفة بلا شك في ضوء الأفكار التي عاش معها فترةً طويلة، والتي تشير إلى إمكانية حدوث مثل هذه التجربة؟ لو أنَّ هذه الأفكار نفسها خطرت لشخصٍ لا يعرف هذا الشكل المحدَّد من الدِّين على الإطلاق، لانبهرنا بدرجة أكبرَ من ذلك كثيرًا. وحتى إذا كنا على حق في التشكيك في الاقتراح القائل بأن التجارب الدينية تقدِّم دليلًا على وجود الله، ينبغي أن نُلقي نظرة نقدية على الأسباب المقدَّمة لرفض مثل هذه التجارب بعدِّها وهمية:
  • (١)

    لا يمر الجميع بهذه التجارب.

    ينبع جزء من الشك الموجَّه نحو قصص التجارب الدينية من حقيقةِ أن مثل هذه التجارب بعيدة كلَّ البعد عن كونها عالمية. من المؤكد أنها تتقاطع مع الأزمنة والثقافات، لكنها لا تُحَل إلا بأقلية من الأشخاص فيما يبدو. ولا شك أنَّ كون نوع معين من الخبرات نادرًا لا يجعله وهميًّا بالطبع. لنتأمل ظاهرة «الرؤية العمياء» على سبيل المثال، وهي ظاهرة شديدة الغرابة تتمثل في أنَّ الأشخاص المكفوفين تمامًا يتمكنون، كما يبدو، من معرفةِ ما إذا كان أحد الأجسام موجودًا عن يمينهم أم عن يسارهم، رغم أنه كان يبدو لهم أنهم يخمِّنون فحسب. غير أنَّ الندرة النسبية لإدراك الله يجب أن تكون بمثابة لغز بالنسبة إلى المؤمنين. إذا كان الله يعلن عن نفسه بهذه الطريقة، فلماذا يكون انتقائيًّا بشأنها؟ إحدى الإجابات عن هذا السؤال هي أنَّ الاتصال بالله بهذه الطريقة يتطلب أن يكون الشخص مُستعدًّا للتقرب من الله وراغبًا في ذلك. ومن هذه الناحية، قد يكون القرب من الله شبيهًا بالتنويم المغناطيسي. لا يتأثَّر الجميع بالتنويم المغناطيسي. وربما يتعيَّن على مَن يتأثَّرون به أن يسمحوا لأنفسهم بذلك؛ أما مَن يقاومون فلا يقعون تحت تأثيره.

  • (٢)

    لا يوجد عضو حسي لإدراك الله.

    ربما يكون هذا اعتراضًا غريبًا بعض الشيء، لكنه بالتأكيد يستحق النظر فيه. نحن ندرك الأشياء لأنها تؤثِّر في أعضائنا الحسية. نرى شجرة، ونسمع حفيف الريح بأوراقها، ونشم زهورها، ونحس بلحائها الخشن. ولكن الله (كما قيل لنا) ليس شيئًا يمكن رؤيته، أو سماعه، أو شمُّه، أو لمسه. فكيف إذن ندركه؟ من المفترض أن يكون ذلك من خلال عضو آخر، لكننا لم نتمكن من اكتشاف وجود مثل هذا العضو. على الرغم من ذلك، فقبل أن نقفز إلى استنتاج أن الله لا يمكن إدراكه أبدًا، لا بد أن نفكِّر في الاحتمالات المتبقية. الأول هو أن الله يتواصل مع عقولنا مباشرةً، دون وساطة الجسد. والثاني هو أنه على الرغم من عدم وجود عضو محدَّد مخصَّص لاكتشاف الله، فربما ندركه من خلال إدراك الأشياء الأخرى عَبْر الحواس الخمس. ويمكننا تشبيه ذلك بإدراكنا للوقت. لا يوجد عضو محدَّد لإدراك الزمن، ولكننا ما زلنا نشعر بأشياءَ مثل مرور الوقت ومُدة الأحداث من خلالِ ما نراه ونسمعه (وما نشمُّه ونلمسه أيضًا، وإن كان ذلك بدرجة أقل).

  • (٣)

    يمكننا تحفيز التجارب «الدينية» اصطناعيًّا عن طريق تحفيز الفصوص الصُّدغية في الدماغ.

    في ثمانينيات القرن العشرين، كان عالِم الأعصاب الأمريكي مايكل بيرسِنجر يُجري تجاربَ بشأن تأثير المجالات المغناطيسية على الدماغ، ولا سيما الفصوص الصُّدغية. أصبح الجهاز الذي طوَّره يُعرَف باسم «خوذة الرب»، وربما كان ذلك من قبيل الطرافة إلى حدٍّ ما. تحتوي الخوذة على عدد من الملفات اللولبية التي تُعرِّض أجزاءً مختارة من الدماغ لمجالات مغناطيسية ضعيفة. عبَّر العديد ممن كانوا يرتدون الخوذةَ عن شعورهم بأحاسيس غريبة، غالبًا ما كانت تتمثل في وجود شيء آخر حاضر معهم في الغرفة، وفي بعض الحالات، كان هذا الحضور يشير إلى الله. الاستنتاج المغري الذي يمكن استخلاصه من هذا هو أن التجارب الدينية هي نتيجةٌ لنوباتٍ غير عادية من نشاط الفص الصُّدغي، وبعض الناس أكثرُ عرضةً لهذه النوبات من غيرهم. وثمَّة استنتاج آخر يتمثل في أن هذا هو كل ما هنالك فيما يتعلق بالتجارب الدينية، وأنه لا يوجد كيان خارق للطبيعة يكمُن وراءها. ولكن هذا الاستنتاج الآخر ليس له ما يبرِّره. لنفترض أنه من الممكن إدراك الله، فلا يوجد سبب للاعتقاد بأن ذلك لن يتم من خلال وساطة الدماغ، وربما من خلال الفص الصدغي على وجه التحديد. وحقيقة أن بعض التجارب يمكن تحفيزها اصطناعيًّا لا تعني أن هذه التجارب وهمية في العموم. ونحن نرى ذلك مُتجسِّدًا في ظاهرةِ ألمِ الأطراف الوهمية؛ فقد يشعر مبتورو الأطراف بألمٍ في أحد الأطراف التي بُتِرَت، كالساق مثلًا. الألم حقيقي، ولكن مكانه الظاهري وهمي. وهذا لا يعطينا أيَّ سبب للشك في أن لدينا أرجُلًا، أو للاعتقاد بأن إدراكنا الواضح لها عندما نصاب بالتشنُّج العضلي أو الشعور بالوَخز لا بد أن يكون مخطئًا.

  • (٤)

    لدينا نزعة متأصِّلة لتفسير الأشياء نتيجةً لوجود قوة فاعلة.

    هذا هو ما يسمَّى ﺑ «النزعة المفرِطة النشاط للكشف عن القوى الفاعلة». من المهم أن تكون الحيوانات قادرة على اكتشاف القوة الفاعلة عندما يكون لديها دليلٌ على ذلك؛ قد تكون أصوات حفيف الأوراق حيوانًا مفترسًا يقبع في الشجيرات، وقد تكون تلك الحركة في الماء سمكة من شأنها أن توفِّر تغذية مفيدة، وقد تكون تلك الأصوات المميَّزة نداءً لشريك تزاوُج محتمَل، وما إلى ذلك. ومن الواضح أن عملية التطور ستُفضل تطوير مثل هذه القدرة. لكن هذه القدرة تُستثار أحيانًا في مواقفَ لا توجد فيها قوة فاعلة. وهذا لا يضعنا في موقفِ ضَعف؛ لأنه من الأفضل في سياق البقاء في البرية وعلى مستوًى أكثر تقدُّمًا كذلك، أن نكتشف القوة الفاعلة غير الموجودة بدلًا من أن نعجز عن اكتشافها من الأساس، وذلك لضمان الأداء الجيد لمجموعةٍ اجتماعيةٍ ما. ومن ثَم، ففرط النشاط في هذه الحالة أفضلُ من نقص النشاط. هل يمكن للتجارب الدينية، والمعتقَد الديني عمومًا، أن تكون مجرد دوافعَ مفرِطة في الحماسة للكشف عن القوة الفاعلة؟ ربما نكون مُبرمَجين بالفطرة على رؤية القوة الفاعلة في آليات عمل الكون بينما لا توجد أيُّ قوة فاعلة. سيكون الرد على هذا هو نفس الرد الذي أوردناه للاعتراض السابق: إن احتمالية خطأ النظام الحسي أو نظام معالجة معلومات في بعض الأحيان ليست سببًا لعدم الثقة به تمامًا، بل ينبغي التعامل معه ببعض الحذر.

  • (٥)

    لا يبدو أنَّ التجارب الدينية تُشكل مصدرًا لأفكارٍ أو مفاهيمَ جديدة تمامًا لمَن يختبرونها؛ وإنما تُؤوَّل في ضوء معتقَدات مُعتَنَقَة أو مُتَأمَّلة بالفعل.

    لا شك أنَّ رواية ستيفن إتش برادلي لتجربته التي ذكرناها فيما سبق تؤكد هذا الاعتراض. ولكن ماذا عن المعتقَدات أو الأفكار الدينية الموجودة بالفعل في ذهن الشخص، هل يمكن أن تُعَد التجارب المعنية تجاربَ متعلِّقة بالإله بأي وجه من الوجوه في الأساس؟ لا يبدو هذا محتمَلًا، لكننا لا نستطيع استبعاده. غير أنَّ هذا ليس حِكرًا على المعتقَدات الدينية وحدَها. إنه مثالٌ لظاهرةٍ أوسعَ، وهي أنَّ ملاحظاتنا للعالم ولأنفسنا، مهما بدت بسيطة ومباشرة، تتلوَّن بما لدينا من أفكار وافتراضات. يمكننا أن نرى شجرةً بمجرد الوقوف أمامها في ظروف إضاءة جيدة مع فتح أعيننا والنظر في الاتجاه الصحيح. لكننا لن نراها شجرة إلا إذا كان لدينا بالفعل مفهوم الشجرة، الذي يُبْنَى تدريجيًّا من رؤية الأشجار والإشارات إليها. يمكن رؤيةُ الرسومات الغامضة في البداية شيئًا، ثم شيئًا آخر: هل هذا شمعدان أسود، أم وجهان أبيضان؟ هل نحن فوق الدَّرج وننظر إلى الأسفل، أم إننا أسفل الدَّرج وننظر إلى الأعلى؟ في بعض الأحيان تكون الآليات التفسيرية متأصلةً فينا وليست مكتَسَبة. في بعض الأحيان، يؤدي تغيُّر صورة جسمٍ ما بشبكيَّة العين إلى جعلنا نرى هذا الجسم وكأنه يتحرك، وفي أحيان أخرى لا يحدث ذلك، وهذا اعتمادًا على المعلومات الأخرى التي تصل إلى الدماغ. إذا كانت الصورة الشبكية تتغير لأننا ندير رءوسنا، على سبيل المثال، فلن نرى الحركة في المعتاد. وعلى مستوًى أعلى بكثير من التعقيد، فإن أنواع الملاحظات التي يُعتقد أنها تؤكد النظريات العلمية أو تنفيها ستتضمن في حد ذاتها قدرًا كبيرًا من العلوم. إنَّ عبارة على غرار: «تغيُّر لون السائل إلى لون يشبه الحليب» ربما لا تكون كافية لتأكيد فرضيةٍ ما، لكنَّ تقريرًا مُثقلًا بالنظريات للملاحظة نفسها («نتج راسب أبيض من كربونات الكالسيوم») قد يكون كافيًا. إنَّ إزالة كل المحتوى العلمي من التقارير التي نقدِّمها عن التجارب والملاحظات سيجعل اختبارَ النظرية العلمية مستحيلًا عمليًّا. ولكن هذا لا يُعَد تقويضًا لادعاءات العلم بأنه يكشف عن جزء من طبيعة الواقع.

إنَّ كلًّا من هذه الاعتراضات التي ذكرناها على استخدام الروايات عن التجارب الدينية لدعم فرضية الإله يجب أن تجعلنا حذِرين من قَبول تلك الروايات على عواهِنها. ولكننا لا نستطيع أن نَعُدَّها تكذيبًا تامًّا لتلك الروايات إلا إذا كنا مستعدِّين لقبول درجة غير مريحة من الشك حول معتقَداتنا غير الدينية.

دراسة الحالة الخامسة: غياب الله

إذا كان بعض الناس يشعرون بحضور الله، فإن كثيرين آخرين مصدومون من غيابه. فالأمر لا يقتصر على أنهم لا يرون شيئًا في الطبيعة وفي الوجود البشري يشير إلى الخَلق الإلهي؛ بل هم يرون أشياءَ تتعارض تعارضًا حقيقيًّا مع ذلك. كثيرة هي الحالات التي يمكن أن يتدخَّل فيها إله رحيم لإحداث تأثير جيد، وتخفيفِ المعاناة الشديدة الناتجة عن المجاعات، والفيضانات، والأمراض، والزلازل، والحرب، والإرهاب، وعدم الاستقرار السياسي، والتعصُّب الديني … غير أنه لا يفعل. فلماذا؟ ربما يكون هذا هو الاعتراض الأصعب الذي يجب على المؤمن أن يقدم ردًّا عليه. فالملحِد يُحاجِج بأن الحقيقة الواضحة المتمثِّلة في المعاناة وعجزنا عن عيش نوع الحياة التي نفترض أن الله يريدنا أن نعيشها، تُقوِّض فرضيةَ وجود الإله؛ لأن وجود إله يجب أن يجعل احتمالية المعاناة والشر وعدم الكمال أقلَّ انتشارًا وتدميرًا وليس أكثرَ كما هو حاصل بكل وضوح. ومن ثمَّ فإن احتمالية صحة هذه الفرضية تتضاءل في ضوء الأدلة. وعلى النقيض من ذلك، فالفرضية القائلة بأن العالَم كما نعرفه نتاجُ قُوًى عمياءَ وغير مبالية أخلاقيًّا لا قُوًى فاعِلة مُتأنِّية، وأن الطبيعة البشرية هي نتيجةُ الكفاح من أجل البقاء عَبْر آلاف السنين من التطور، ستجعل من انتشار المعاناة والشر أمرًا مُرجَّحًا للغاية. وبهذا تزداد احتمالية هذه الفرضية في ضوء الأدلة.

إن حقيقة أن العالَم يبدو إلى حدٍّ كبير كما لو أن الله لا يوجهه، وأن هناك نقصًا ملحوظًا في الأدلة التي تُثبت آثار عمل يده، أمرٌ يعترف به واحد من أكثر المؤمنين التزامًا، الكاردينال نيومان. وما من أحد صاغ الأمر بأسلوب أكثرَ وضوحًا أو حِدَّة كما فعل:

إن النظر إلى العالَم على طوله وعرضه وتاريخه المتنوع، وأجناسه المتعددة من البشر وبداياتهم ومصائرهم واغترابهم المتبادل بعضهم عن بعض وصراعاتهم، والنظر كذلك إلى طرقهم وعاداتهم وحكوماتهم ومظاهر عبادتهم ومؤسساتهم، ومساراتهم التي تفتقر إلى الهدف، وإنجازاتهم ومكاسبهم العشوائية، والاستنتاج العقيم لحقائقَ قائمةٍ منذ أَمَد بعيد، والعلامات الضعيفة والمعطوبة على وجود تصميم مُتعمَّد، والتطور الأعمى لما يتبين أنها قوًى أو حقائقُ عظمى، وتقدُّم الأشياء كما لو كانت تنبثق من عناصرَ غير عقلانية، ولا تتجه نحو غايات نهائية، وعظمة الإنسان وضآلته، وأهدافه البعيدة المدى، وقِصَر عمره، والستار المجهول المسدَل على مستقبله، وخيبات حياته، وهزيمة الخير، وانتصار الشر، والألم الجسدي، والمعاناة النفسية، وانتشار الخطيئة وشدَّتها … كل هذا رؤية لمشهد مُشوَّش ومفزع يُنْزِل بالعقل إحساسًا بالغموض العميق الذي يتجاوز قُدرةَ البشر على حله.

وعلى الرغم من إعلانه أن الأمر يستعصي على الحل، فإن نيومان يستخلص استنتاجًا مُحدَّدًا: «إما أنه لا يوجد خالق، أو أنَّ هذا المجتمع الحي من البشر محروم من حضوره بالمعنى الحقيقي». الاستنتاج الأول محالٌ بالنسبة إلى نيومان بالطبع؛ لأن ضميره يجعله متأكدًا من وجود الله بقدرِ ما هو متأكد من وجوده نفسه. وهذا يتركنا مع الاستنتاج الثاني، الذي لا يقل عنه كآبة، وهو أن الله، كما يبدو، غائبٌ لأنه انسحب وتركنا لطرائقنا الخاصة.

ليس هذا تفسيرًا مُرضيًا تمامًا. فإذا كان الله قد انسحب، فلماذا فعل ذلك؟ السبب المفتَرَض هو أن الجنس البشري خرج عن المسار الصحيح بدرجة كبيرة. لكن لماذا فعلوا ذلك؟ إذا كانت الحالة الحالية المتردِّية للبشرية ترجع إلى غياب يد الله المرشدة، فلماذا، عندما كانت حاضرة، لم تمنع تلك اليدُ الفسادَ قبل أن يسيطر على مجريات الأمور؟ ثمة أمرٌ آخر يدعو إلى القلق في هذه المسألة. عند أي نقطة انسحب الله؟ ليس قبل خلق العالم نفسه بالتأكيد. ومع ذلك، يبدو أن العالَم كان في أيدي قوًى عمياءَ منذ البداية. إذا كان غرض الوجود، في نهاية المطاف، هو خلْقَ حياة واعية قادرة على الحب والخير والتفاهُم، فلماذا نسلك هذا الطريق غير المباشر والمدمر إلى حد غير عاديٍّ؟ لماذا تطلَّب الأمر الكثير من البدايات الخاطئة، وكل هذا الدمار، وكل هذه الفترة الطويلة من الجمود؟ ولماذا، عندما ظهرت يدُ الله، كانت متركزة في جزء صغير جدًّا من كونٍ شاسع وفارغ إلى حدٍّ كبير؟ المشكلة التي تواجه المؤمنين إذن لا تقتصر ببساطة على سبب وجود كل هذا القدرِ من المعاناة، رغم أنها مشكلة صعبة بما فيه الكفاية؛ بل إنها أيضًا سببُ اختيار الله لهذه الطريقة المحدَّدة لتحقيق غاياته، «مشكلة الوفرة الزائدة عن الحاجة»، كما يمكننا أن نطلِق عليها.

وفيما يتعلق بمسألة المعاناة على وجه التحديد، يعترف بعض المؤمنين صراحةً أنهم لا يعرفون لماذا يرضى الله بمثل هذه الأشياء، لكنهم يثقون في أن لديه سببًا. ويرى آخرون أن المعاناة نتيجةً للشر البشري هي نتيجةٌ حتمية لهِبة الإرادة الحرة. إن الإله المحب حقًّا لن يهتم بخلقِ إنسان آلي يختار دائمًا مسار التصرف الصحيح. فقد خلقنا مستقلِّين، وهذا يعني أننا في بعض الأحيان نخطئ في الاختيار. وإذا تدخَّل الإله لإبطال أي عواقب سيئة عند اتخاذ قرارات خاطئة، فسيُعرقل هذا من تلك الحرية. ومن ثَم، لن تعود هناك أهميةٌ لما اخترناه. وهذا، بطبيعة الحال، لا يُفسِّر المعاناة الناجمة عن الكوارث الطبيعية. هنا، قد يُقترح أن المعاناة، سواء كانت نتيجةً لكارثة طبيعية أو شر بشري، ضروريةٌ لكي نصبح كائنات أخلاقية حقًّا لديها القدرة على مع التعاطُف مع الآخرين وعلى تقديم مصلحتهم على مصلحتنا.

هل يمكن لهذا الحل لمشكلة المعاناة، الذي يُمكن أن نسميه «بناء الشخصية» — إن كان الاسم لا يبدو ساخرًا — أن يُقدِّم أيضًا إجابةً لمشكلة الوفرة الزائدة عن الحاجة؟ من الممكن صياغة التبرير المنطقي لهذا على النحو التالي. ما دام العالم وسُكانه نتاجَ قوًى عمياءَ (وإن لم تكن عشوائية)، فالأمر متروك لنا لتشكيلها على النحو الذي نراه مناسبًا. وأيُّ خير موجود، فنحن مصدره دون شك. فأي إشارة إلى أنه سيأتي من مكانٍ آخرَ قد تقودنا إلى الركون إلى سلبية خطيرة. وَفقًا لهذه السردية، يبدو الأمر كما لو أن الله يريدنا أن ننظرَ إلى العالَم ونشعر أننا بمفردنا في هذا العالَم، فعندها فقط سنُدرك أن الأمر متروك لنا لصنع الجنة على الأرض.

ما مدى وجاهة هذه القصة؟ إنها وجيهةٌ بما يكفي لأن يجعلنا نتردَّد قبل أن نعتبر الغياب الواضح لله نقطةً لصالح الإلحاد.

إنَّ ما يهدف إليه هذا العَرْض المختصَر للغاية لخمسة من الأدلة هو توضيح مدى غموض هذه الأدلة. فكلما وجدنا سببًا للاعتقاد بأن الدليل المعني يُحوِّل الاحتمالات نحو اتجاه واحد محدَّد، سواء نحو الإيمان أو الإلحاد، نجد اعتبارًا آخرَ يجذبنا في الاتجاه المعاكس. وبناءً على هذا، تتمثَّل الحجَّة المؤيدة للاأدرية فيما يلي: لا يوجد أساس ثابت يمكننا الحكم من خلاله على أن الاحتمالية الجوهرية للإلحاد أكبرُ من الاحتمالية الجوهرية للإيمان. فكلاهما بدآ السباق من نفس الخط تمامًا، ولم يُحرِز أيٌّ منهما تقدُّمًا على الآخر. كما أنَّ الأدلة التي درسناها فيما بعدُ غامضة بدرجة كافية لئلَّا نتمكن في أي وقت لاحق من أن نقرِّر أن إحدى الفرضيتين لها احتمالٌ إجمالي أكبر من الأخرى.

على الرغم من ذلك، يظل لدى الملحد هجومٌ آخر على اللاأدرية. إذ يتساءل: «ألا تحمل اللاأدرية بُذورَ هزيمتها في طيَّاتها؟ لا شك أنَّ إلهًا خَيِّرًا لن يجعل معرفةَ وجوده من خلال الأدلة الموجودة أمامنا أمرًا صعبًا للغاية. لماذا لا يمنح خلْقَه هديَّة اليقين بدلًا من عبء الشك؟ إنَّ أسباب اللاأدرية نفسها تجعل الإلحاد أرجحَ، ومن ثَم يجب علينا اختيار الإلحاد بعقلانية بدلًا من أن نظل لاأدريين تمامًا». وإذا كان لدى المؤمن إجابة مُرضية لمشكلة غياب الله الواضح، فإنَّ اللاأدري لديه ردٌّ على هذا الاعتراض الأخير للمُلحد. فحقيقة أننا لا نستطيع التخلُّص من الشك وعدم اليقين لا تجعل الإيمان بالله أقل احتمالًا. قد يكون جزء من خطة الله أن نصنع أنفسنا بأنفسنا، وأن نصبح كائنات مستقلة. إن عدم اليقين هذا هو ما يجعلنا ما نحن عليه، ونحن أعظم بسببه. فربما يكون الأمر، كما يقول توماس مور في مسرحية روبرت بولت «رجل لكل الفصول»، «أما الإنسان فقد خلقه الله ليخدمَه بذكائه، وبعقله المعقَّد».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤