الفصل الخامس

هل ترتكز اللاأدرية على أساس خاطئ؟

ثلاثة افتراضات

إنَّ تَبنِّي موقف اللاأدرية يعني افتراضَ أشياء معينة بشأن الإيمان بالله، ومع أن هذه الافتراضات قد تبدو للوهلة الأولى معقولة تمامًا، لا يزال ثمة احتمالٌ بأنها خاطئة في واقع الأمر أو عُرضة لاعتراضات جادَّة على الأقل. لذا يجب علينا أن نُسلِّط الضوءَ على تلك الافتراضات. هل يمكن الدفاع عنها؟

دعونا نختَر أربعة افتراضات جوهرية عن فرضية الإله:
  • (١)

    إما أن تكون الفرضية صحيحة أو خاطئة

  • (٢)

    يجب أن تُفْهَم حرفيًّا

  • (٣)

    لا يكون الإيمان بحقيقتها عقلانيًّا إلا إذا كان مبنيًّا على أسبابٍ لا تفترض وجود الله فحسب

  • (٤)

    يجب أن تعتمد هذه الأسباب على أدلةٍ كافية تدعم الفرضية

إن أول هذه الافتراضات هو افتراض اللاأدرية، وهو أمرٌ واضح بما فيه الكفاية: إذا كان هناك شيء لا تعرفه، فهذا يعني أن هناك شيئًا صحيحًا (على سبيل المثال، أن الله موجود، أو أنه غير موجود) ولكنك لا تعرف أنه صحيح. من غير المنطقي أن تقول إنك لا تعرف ما إذا كان «مقبض الباب يخترق شيئًا كما لو كان ينعطف عائدًا إلى الخلف» صحيحًا، لأن عبارة «مقبض الباب يخترق شيئًا كما لو كان ينعطف عائدًا إلى الخلف» ليست شيئًا يمكن أن يكون صحيحًا أو خاطئًا. وتنطبق ملاحظات مماثلة على عبارات ذات معنًى بدرجة أكبر من المثال السابق، مثل «دعونا نحافظ على هدوئنا إلى حدٍّ ما».

ماذا عن الافتراض الثاني؟ تصل حدةُ الجدل بين الملحِدين والمؤمنين إلى ذروتها عندما تُفَسَّر فرضية الإله حرفيًّا، ومعظم الملحدين يفسرونها بهذه الطريقة في حقيقة الأمر. يتمثَّل هذا الافتراض في السؤال عما إذا كان ثمة كيانٌ متجاوز للطبيعة مسئول عن الكون أم لا؛ وهو ما يجيب عنه الملحدون بالنفي، وهو بعينه السؤال الذي يقول اللاأدريون إنه لا يمكن الإجابة عنه. وبخصوص الافتراض الثالث، يبدو من العدل ألا نسمح بحججٍ تُصادر على المطلوب بافتراضِ ما تحاول إثباته فيما يتعلق بوجود الله، ما دُمنا سنطبق هذا المبدأ على حججٍ أخرى. فما كان سيصبح موقفًا فيزيائيًّا تجاه حجَّة تتعلق بالثقوب السوداء افترضت في حد ذاتها، في مرحلةٍ ما، أن الثقوب السوداء موجودة فعلًا؟ وأما الافتراض الرابع، فيتمثل في أن اللاأدريين يتبنَّون هذا الموقف تحديدًا لأنهم يعتقدون أنَّ ما لدينا من أدلة بشأن وجود الإله، أدلةٌ غير مؤكَّدة. ولو اعتقدوا أنها أدلة وافية لصاروا مؤمنين.

إن هذه الافتراضات تبدو حميدةً للغاية لدرجةِ أنها لا تُلاحَظ في أغلب الأحيان. على الرغم من ذلك، فثمة اعتراضاتٌ قد قُدِّمَت عليها.

ثورة في فيِينا

في عام ١٩٢٩، نُشر في فيِينا بيانٌ بعنوان «المفهوم العلمي للعالم». وكان مؤلفوه مجموعة من الفلاسفة على رأسهم موريتز شليك الذي كان أستاذ التاريخ وفلسفة العلوم الاستقرائية في الجامعة. في صفحة العنوان لهذا البيان، وصفت هذه المجموعة نفسها باسم «حلقة فيِينا»، وكان هذا هو بيانهم الرسمي. اقترح هذا البيان مبادئَ يُمكن من خلالها تقييم مدى جدوى تأكيدات معينة بشأن العالم وصلاحيتها. كانت الحلقة في بدايتها مجموعة مناقشة، وكان اسمها في الأصل «جمعية إرنست ماخ»، سُمِّيت على اسم سلف شليك المباشر. غير أنَّ أنشطتها قد وُقِفَت بعد وقت قصير من وصول الحزب الاشتراكي الوطني، أو الحزب النازي، إلى السلطة في ألمانيا في عام ١٩٣٣. ومع تزايد خضوع النمسا للسيطرة النازية، غادر البلاد عددٌ من أعضاء هذه الحلقة. شليك نفسه تعرَّض للاغتيال في عام ١٩٣٦ على يد طالب متعاطِف مع القضية النازية.

أصبحت النظرة الفلسفية التي انبثقت من كتابات حلقة فيِينا تُعرف باسم «الوضعية المنطقية»، ورُوِّج لها في العالم الناطق باللغة الإنجليزية على يد الشاب إيه جي آيَر في عام ١٩٣٦. كان آير، وهو واحد من فلاسفة أُكسفورد، قد أقنع الناشر فيكتور جولانكز بالتعاقد معه على تأليف كتاب عن الفلسفة الجديدة. وكانت النتيجة هي الكتاب المثير للجَدَل: «اللغة والحقيقة والمنطق»، الذي لا يزال يُعَدُّ البيان الكلاسيكي لوجهة النظر المعروفة باسم مبدأ إمكانية التحقُّق التي تناقش المعنى. وفقًا لهذا المبدأ، فإن جملةً (جملة تقريرية بتعبير أدق: مثل «الشمس مشرقة»، أو «الأوراق تتساقط»، على خلاف السؤال أو الرغبة أو الطلب) ليست ذات معنًى إلا بقدرِ ما يُوجَد من طُرق محدَّدة يمكننا اختبارها من خلالها، والتي ستُمكننا نتائجها من تحديدِ ما إذا كانت جملة صحيحة أم خاطئة. ولكن السؤال الذي يجب أن نطرحه هو: «هل يمكن التحقق منها» (عن طريق الملاحظة، أو التجربة، أو البرهان الرياضي أو المنطقي) أم لا، وإذا كانت الإجابة عن هذا السؤال هي «لا؛ فما من شيء يمكننا القيام به سيساعدنا على معرفةِ ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة»، ومن ثمَّ تُعَد الجملة مفتقرةً إلى المعنى تمامًا بعدِّها جملة تأكيدية. من الجلي أنَّ هذه النظرة للمعنى مُستَوحاة من العلم؛ إذ تستخدم الاستقصاء العلمي وأساليبه نموذجًا يجب أن تتوافق معه اللغة.

قد لا يبدو معيار التحقُّق مُدهشًا للغاية، وهو ليس ثوريًّا بالتأكيد، لكنه أدى إلى ما يُمكن أن نصفه دون مبالغة بالثورة الفِكرية. كيف؟ لأنه، وَفقًا لمن أيَّدوه، كشف عن مجالات كاملة من الخطاب التي «لا معنى لها»، وألزم بإعادة تقييم المعنى الحقيقي لمجالات أخرى. استخدمه آير، على سبيل المثال، لرفضِ العديد من المناقشات التقليدية حول الميتافيزيقا، ذلك الجزء من الفلسفة الذي يهتم بالطبيعة المطلَقة للواقع. إنَّ النظريات الميتافيزيقية تهدف إلى وصف العالم؛ فهي ليست مجرَّد تعريفات لمصطلحات مثل «الوجود»، و«السبب»، وما إلى ذلك. لكن نظرًا لكونها ميتافيزيقية وليست علمية، فهي تتجاوز أيَّ شيء يمكن إثباته بالملاحظة. لذا، يخلُص آير إلى أنها عديمة المعنى. وقد سبقه في هذا (كما اعترف هو نفسه) ديفيد هيوم قبل قرنَين من الزمان. لكن آير طبَّق المعيار أيضًا على الخطاب الأخلاقي — الحديث عن الصواب والخطأ — ليس لاستبعاده بعدِّه عديم المعنى؛ لأن الحديث عن الأخلاق شيء لا يمكننا الاستغناء عنه، ولكن لتوضيح أنه خطاب ليس معنيًّا على الإطلاق بتقرير الحقائق. لاحقًا، استخدم كارل بوبر، الذي كان ينتقد الوضعية المنطقية، معيارًا وثيقَ الصلة، هو معيار «القابلية للتكذيب» ليُجادل بأن نظرية التحليل النفسي لفرويد كانت خالية من المضمون.

fig8
شكل ٥-١: إيه جي آيَر، الرجل الذي قدَّم فلسفة الوضعية المنطقية إلى العالم الناطق باللغة الإنجليزية.

من المجالات التي أثَّرت فيها الفلسفة الجديدة تأثيرًا كبيرًا، التوجُّهات بشأن الخطاب اللاهوتي. فمن المفترض أن تكون المزاعم بشأن الله متعلقة بالعالم أيضًا، وليست مجرد تعريفات، على أن تتجاوز أيضًا أيَّ تجربة بشرية محتملة. وقد يُشير المؤمنون بالطبع إلى أن طبيعة الله المتجاوزة تعني أنه لا يمكن دحض فرضية الإيمان بالله أو التحقُّق منها بسهولة بعدِّها فرضيةً علمية. لكن هذه الطريقة في الدفاع عن الإيمان بالله ستأتي بنتائجَ عكسية على الأرجح. لقد عبَّر آيَر عن وجهة نظره الخاصة بهذه المسألة بعبارات قاطعة قُرب نهاية كتاب «اللغة والحقيقة والمنطق»:

… إذا كان «الإله» مصطلَحًا ميتافيزيقيًّا، فلا يمكن أن يكون وجود إله أمرًا محتملًا أصلًا. فالقول بأن «الله موجود» هو قولٌ ميتافيزيقي لا يمكن أن يكون صادقًا أو كاذبًا …

ومن المهم عدم الخلط بين هذا الرأي بشأن التأكيدات الدينية وبين وجهة النظر التي يتبنَّاها الملحدون أو اللاأدريون. فمن سِمات الموقف اللاأدري الاعتقاد بأن وجودَ إله هو احتمال لا يوجد سبب وجيه لتصديقه أو عدم تصديقه؛ ومن سِمات الموقف الإلحادي الاعتقاد بأن عدم وجود إله أمرٌ غير محتمَل على الأقل. أما وجهة النظر التي أناقشها هنا، والتي تتمثل في أنَّ جميع المزاعم بشأن طبيعة الله لا معنى لها، فهي بعيدة للغاية عن أن تكون متطابقة مع أيٍّ من هذين الموقفين المألوفَين، أو أن تدعم أيًّا منهما، هي غير متوافِقة مع أيٍّ منهما في واقع الأمر.

ومع ذلك، إذا اتفق الجميع على أن الإيمان بالله إما خاطئ أو لا معنى له، فالمرجَّح أنَّ مَن يتبنَّى موقف الإلحاد لن يعترض على هذا ولا ذاك، وسيكتفي بأن يترك الأمر للفلاسفة ليتجادلوا بشأنه. النقطة المهمة هي أن الإيمان بالله يبدو مستبعَدًا بالتأكيد. إضافةً إلى ذلك، يبدو أنَّ لدينا الآن حجة بأن اللاأدرية تحمل بذور هزيمتها. لأن اللاأدرية مبنية على فكرة أن ما لدينا من الأدلة لا يؤيد أيًّا من موقفَي الإيمان أو الإلحاد على نحوٍ لا لبس فيه. ولكن إذا اتضح أنه لا يوجد دليل «محتمَل» من شأنه أن يساعدنا على اتخاذ القرار، فسيكون موقف الإيمان بالله غيرَ قابل للتحقق منه، ومن ثمَّ لا معنى له وفقًا لمعيار إمكانية التحقق. وإذا كان لا معنى له، فلا يمكن القول بأننا لا نعرف ما إن كان خطأ أم صوابًا. وبناءً على هذا، نجد أنَّ أسباب اللاأدرية هي ذاتها ما يُهدِّد بجعلها بلا جدوى.

على الرغم من ذلك، لا ينبغي لنا أن نشعر بأن معيار قابلية التحقق يُلزمنا برفض فرضية الإيمان بالله بعدِّها بلا معنى. فأولًا، يبدو من المنطقي أن نتساءل عما إذا كان المعيار ينطبق على نفسه أم لا: هل هناك أي طريقة للتحقق من صحة هذا المبدأ؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فوفقًا لمعياره الخاص، يبدو أنه يجب استبعادُ نفسه بعَدِّه لا معنى له. فلنفترض أننا نحاول التحقُّق منه من خلال النظر في حالات الجُمل التي نميل فيها (قبل تطبيق أي مبدأ) إلى الاعتقاد بأنها ذات معنًى. ما دمنا نلتزم بالعبارات العادية مثل «توجد علبة طماطم غير مفتوحة في الجانب الأيسر من الخزانة»، فإن المعيار آمن؛ فعبارات مثل هذه تستوفيه بوضوح. ولكن ماذا لو واجهنا عبارات أكثرَ إثارةً للجدل مثل «يوجد خالق متجاوز للطبيعة»؟ فهل نقول إنَّ هذه العبارة ليس لها معنًى أصلًا بما أن المعيار لا ينطبق عليها؟ أم نقول إنه لا بد أن يكون هناك خطأ ما في المعيار بما أن هذه الجملة ذات معنًى؟ إذا كنا سنهتم باختبار المعيار، بدلًا من افتراض حقيقته فحسب، ستظل الإجابة الأخيرة محتمَلة.

على أي حال، يمكن القول إن الصيغة القوية من المعيار هي فقط التي تُهدِّد الإيمان التقليدي بالله. إذا كنا مُلزمين بالتوصل إلى اختبارٍ قاطع لحقيقةِ عبارةٍ ما قبل أن نَعُدَّها ذات معنًى، فلن تكون فكرة الإيمان بالله وحدَها هي ما يتعرض للتهديد، بل معظم العلوم. لقد تقدَّم العلم من خلال الاستعاضة عن نظريات دُحِضَت، بنظريات أخرى ستُدحَض بدورها. ولم يترسَّخ منها رسوخًا قاطعًا سوى عدد قليل للغاية. فحتى العبارات التي تبدو بسيطة وأكيدة مثل عبارة «يوجد إلكترونات» ليست محصَّنة ضد تقلبات الاستقصاء العلمي. أما النسخة الأكثر تواضعًا من مبدأ التحقق، ومن ثمَّ النسخة التي يمكن الدفاع عنها بدرجة أكبر، لا تستلزم سوى أن تكون للعبارات ذات المعنى حول العالم، إذا كانت صحيحة، عواقبُ على ما يمكننا ملاحظته من حيث المبدأ. ويمكننا أن نشكل الكثير من الفرضيات حول الله قد يكون لها مثل هذه العواقب، مثل أنه يخاطبنا من خلال ضميرنا الأخلاقي. لا يمكن القول بأن الإيمان بالله «ليس ذا صلة» بما نلاحظه من حولنا وداخلنا على حد سواء. ولو كان كذلك، لما اهتمَّ به أحد. تكمن الصعوبة، كما يدرك اللاأدري، في أن هذه النتائج القابلة للملاحظة متوافقة مع فرضية مختلفة تمامًا، وهي الفرضية الإلحادية.

من المحتمَل أننا الآن قد أضعفنا هذا المبدأ أكثرَ من اللازم. فمن المعقول بالطبع أن نتوقع أن الفرق بين الإيمان والإلحاد يجب أن يظهر في «منطقةٍ ما» في نطاق التجربة المحتمَلة. ولهذا، في نسخة متوسطة القوة من مبدأ قابلية التحقق، ستكون العبارة ذات معنًى إلى الحد الذي يمكننا فيه تخيُّل تجربة أو ملاحظة محتملة من شأنها أن تُحوِّل الاحتمالات لصالح اعتبار تلك العبارة صحيحة (أو خاطئة في الواقع). والآن، إذا جادل اللاأدري بأنه لن تؤدي أي ملاحظة إلى تغيير الاحتمالات، سواء لصالح فرضية وجود إله أو ضدها، فيبدو كما لو أن النتيجة هي أن الفرضية بلا معنًى وفقًا لهذا المعيار، ومن ثمَّ فلن يكون للَّاأدرية أي جدوى على الإطلاق.

وهنا يأتي دور الفرق بين نُسَخ المواقف اللاأدرية المختلفة في القوة. إذا كان اللاأدري لا يقول إلا إنه ما من ملاحظة مسجَّلة حتى الآن تُغيِّر الاحتمالات، ولكن توجد ملاحظات محتملة من شأنها أن تُغيِّر الاحتمالات، ومن ثمَّ فلا داعي للخوف من المعيار. إذا اتخذ اللاأدري موقفًا أقوى يتمثل في أنه لا يمكن «لأي ملاحظة محتملة» أن تُغيِّر الاحتمالات — وبهذا تكون المسألة غيرَ قابلة للحسم من حيث المبدأ — فهنا يكمُن التحدي. وثمة طريقة يمكننا تلبية المعيار من خلالها، وهي القول إن فرضية الإله تظل ذات معنًى؛ لأنه يمكن تفسيرها عن طريق عبارات من النوع الذي يظهر في سياقات أخرى، سياقات يكون من الواضح فيها كيف سنشرع في اختبار تلك العبارات بحثًا عن الحقيقة.

اللاهوتيون الجُدد

لا ينطبق معيار آيَر بالطبع إلا على الجُمل التي تُستخدَم للتأكيد أو يُقصَد بها ذلك. ولا ينطبق على الأسئلة («هل ترغب في المزيد من الشاي؟») أو الأوامر («أغلق هذا الباب!») أو الرغبات («كم أتمنى أن أكون في فيرجينيا في الربيع!») أو كلمات التعبير عن المشاعر («آااااخ!») أو العبارات المستخدَمة في الروايات الخيالية («في يوم مُشمِس، كان ألفريد سمولوود عائدًا إلى منزله من زيارة جَدته عندما دخل إلى البُعد الرابع وهو ينعطف عند زاوية الشارع.») فلا يوجد أيٌّ من هذه العبارات يهدف إلى التعبير عن الحقيقة أو الباطل. ولهذا السبب تُفلت التصريحات الأخلاقية من نقد مؤدي معيار التحقق؛ فهي ليست تأكيداتٍ من وجهة نظر آير، بل تعبيرات عن المشاعر، أو الاستحسان أو الاشمئزاز. وكما أدرك مؤيدو معيار التحقُّق، فالعبارات التي قد تكون هراءً «بعدِّها تأكيدات» يمكن أن يكون لها وجه من أوجه المعنى في سياق آخرَ على أي حال.

ولهذا، يبقى الاحتمال قائمًا بأن تنتمي الجُمل اللاهوتية أيضًا إلى واحدة أو أكثر من هذه الفئات: إما أنها مُعبِّرة عن المشاعر أو الرغبات، أو أنها خيالية وتُستخدم لبناء لعبة الادِّعاء. وإذا كان الأمر كذلك، فمُحال أن يمسَّها معيار التحقق. يمكن التعبير عن الفكرة بهذه الطريقة. الحديث «عن الله» «ليس» مسألة «تأكيدات» حول حقيقة متجاوزة، عالم يتجاوز التجربة العادية بطريقةٍ ما. فالقول بأن الله موجود لا يعني قولَ شيء صحيح أو خاطئ. إنه بالأحرى تعبيرٌ عن الالتزام بقيَمٍ معيَّنة، والرغبة في عيش نوع معين من الحياة، والرغبة في رؤية الأشياء من منظور معين. ويمكن بعد ذلك تقديم معنى العبارات الدينية من منظور الميول والسلوكيات التي تُصاحبها. ارتبط هذا المفهوم المتعلِّق بالدين بالفيلسوف النمساوي لودفيج فيتجِنشتاين (١٨٨٩–١٩٥١) الذي قضى معظم حياته المهنية في كامبريدج، والذي غالبًا ما كانت لكتاباته الغامضة والحكيمة (كان معظمُها مُدوَّنًا في دفاتر ملاحظات لا ينوي نشرها) تأثيرٌ عميق على مجموعة واسعة جدًّا من المناقشات الفلسفية. وسواء كان فيتجنشتاين نفسه يقصد هذا التفسير أم لا، فهو وجهة نظر للخطاب الديني لاقت تأييدًا صريحًا ممَّن كانوا يرغبون في التوفيق بين اللاهوت والوضعية المنطقية.

لماذا لم يفكِّر آير في هذا الاحتمال؟ ربما لأنه شعر أن العبارات الأخلاقية ضرورية ولا غنَى عنها، لكن العبارات اللاهوتية ليست كذلك.

يوجد احتمال آخر: صحيحٌ أن جُمل اللاهوت أو الدِّين هي في الواقع تأكيدات، لكنها مكتوبة بشفرة. إنها لا تقول ما «يبدو» أنها تقوله. يبدو أنها تتعلَّق بكائن متجاوز للطبيعة، خالق العالم كُلِّي المعرفة والقُدرة. غير أنَّ ما تتعلَّق به هذه الجُمل في الواقع هو شيء مختلف تمامًا؛ إنها تدور حولنا، وحول مُثُلنا العُليا وتطلعاتنا، وقدرتنا على الحب غير الأناني، وما إلى ذلك. بمجرد فك شفرة هذه الجمل، يمكن التحقق من صحة العبارات الدينية من خلال دراسة تركيبتنا النفسية.

على مدار جزء كبير من القرن العشرين، أعاد كلٌّ من الفلاسفة واللاهوتيين تفسيرَ اللغة الدينية أو أعادوا بناءها بطُرق متنوعة، لكنهم لم يفعلوا ذلك استجابةً لمتطلبات معيار التحقق في المقام الأول. على سبيل المثال، قدَّم اللاهوتيان الألمانيان رودولف بولتمان (١٨٨٤–١٩٧٦) وباول تيليش (١٨٨٦–١٩٦٥) تفسيراتٍ «خالية من الميثولوجيا» للكتاب المقدس والعقيدة المسيحية، حيث تُترجَم اللغة التي تدور حول الماورائي المتجاوز إلى حقائق بشأن استجابة الإنسان للعالم، وللآخرين، وللضمير الأخلاقي. تبنَّى أفكارهم في إنجلترا جون روبِنسون (١٩١٩–١٩٨٣) الذي أثار ضجةً كبيرة بصفته أسقُف وولويتش، عندما نشر في عام ١٩٦٣ كتاب «صدقًا بالرب». كان الكتاب محاولة من روبنسون ليقدم لعامة الناس أفكاره المؤيدة لرؤية تيليش للإله باعتباره أساسَ الوجود. كان عنوان «صورتنا عن الله يجب أن تزول» هو العنوان الناري لمقالٍ كتبه روبنسون لصحيفة «أوبزرفر» قبل يومين من نشر الكتاب. وكانت الصورة التي كان لا بد أن تختفي هي صورة الشخصية الإلهية، التي توزِّع العدالة والمكافآت العرَضية، وكأنها، وَفقًا لتشبيه روبنسون، عَمَّة بعيدة الصلة عن أقاربها. عوضًا عن ذلك، لا ينبغي النظر إلى الله على أنه شخص على الإطلاق، بل كالأساس الشخصي للوجود، أو الحقيقة المطلَقة، أو ما له أهمية أساسية في حياتنا. ووفقًا للقراءة «غير الميتافيزيقية» لهذا الرأي، فإن «الله» هو مجرد اسم للدوافع والمُثُل البشرية، وهو شيء يكمُن داخلنا بالكامل، ولكنه يُسْقَط بطريقة ما على ما هو خارجنا.

أيًّا كانت التفاصيل الدقيقة لهذه المناهج في التعامل مع اللغة الدينية — سواء قُدِّمَت هذه اللغة على أنها مَجازية، أو تعبيرية، أو خيالية (ولن يكون من الحكمة افتراض أن اللاهوتيين الجدد كانوا جميعًا يقولون الشيء نفسه) — يبدو من هذا المنظور كما لو أنَّ فرضية الإله ليست فرضيةً على الإطلاق. أي ليس المقصود منها أن تكون نظرية بشأن أصل العالم، ومصدر دوافعنا الأخلاقية والروحية. يمكننا تجميع هذه الأفكار معًا تحت اسم «اللاواقعية الدينية» («الواقعية» هنا هي وجهة النظر القائلة بأن الدِّين معنيٌّ بحقيقة فائقة). ويبدو أيضًا أنه بمجرد التوضيح التام لما يلتزم به اللاواقعيون الدينيون، فإن هناك القليل جدًّا مما لا يمكن للمُلحِد أيضًا الالتزام به، بخلاف الاستخدام المستمر للغة اللاهوتية. فلا عجب أن العديد من المؤمنين شعروا بأن الأسقف والمفكِّرين الذين ألهموه، كانوا في الحقيقة مجرد ملحِدين مُتَخَفِّين.

لِنُنحِّ الآن السؤالَ المهم للغاية بشأنِ ما الذي يفصل بين اللاواقعي الديني والملحد — بخلاف شكل محدَّد من الكلمات — ألا تكون اللاأدرية غير مناسبة فحسب إذا أُعيد بناء الإيمان بالله بهذه الطرق؟ لأنه لا يعود هناك سببٌ للاعتقاد بأن أيًّا كان ما تُشير إليه عبارة «الله موجود» هو شيء لن نتمكَّن من إثبات صحته (أو خطئه)، بمجرد النظر إلى أنفسنا وإلى إخواننا من البشر. حسنًا، ربما لا ينبغي أن نكون لاأدريين بشأن جوانب من طبيعتنا، أو ربما ينبغي أن نكون كذلك. لكن ذلك لا يُلغي اللاأدرية على النحو الذي عُرضَت عليه في صفحات هذا الكتاب، وهي أنها حالة من عدم اليقين بشأن وجود كائن مستقل تمامًا عن أي فكر أو نشاط بشري أو عدم وجوده؛ كائن، إذا فهمنا طبيعته، سيُقدِّم لنا تفسيرًا واحدًا موحدًا لسبب وجود العالم، وما الذي نفعله فيه، وكيف ينبغي لنا أن نعيش. لن تختفي هذه القضية، حتى لو قرَّر كل اللاهوتيين تجاهلها.

ربما لم «تختفِ» حجة اللاأدرية، سيجيب اللاواقعي الديني، بمعنى أنه لا يزال من الممكن مناقشة هذه القضية، ولكنها تافهة دينيًّا. ما يهم هو استجابتنا البشرية للحالة الإنسانية، وليس ما إذا كان يوجد بالفعل شخصية أبوية ستجعل كل شيء يسير على ما يُرام مهما أفسدنا الأمور. قد يكون الانشغال بمثل هذه الشخصية مُبَررًا لدى الأطفال، لكن لا ينبغي أن يكون لها مكان في تفكيرنا فور أن نصل إلى مرحلة النضج؛ لأنها تُشتِّتنا عن إدراك أننا «نحن» مَن يجب علينا تصحيح الأمور، «نحن» من يجب علينا تشكيل العالم وَفقًا لأسمى المُثل العُليا.

مرة أخرى، سيتَّفق الملحد مع هذه الكلمات، لكنه سيُحار للغاية من أن اللاواقعي لا يزال يجد مكانًا للغة والصور الدينية التقليدية بعد أن وصل إلى هذه الرؤية. إذا كان الإيمان بكيان متجاوز يمنعنا من أن نصبح أفرادًا بالغين مستقلين ومسئولين، ألن يعوقنا الحديث عن مثل هذا الكيان بالمثل (حتى لو أدركنا، على مستوًى ما، أنه مجرد صورة أو استعارة؟). ومع ذلك، يبدو أن اللاواقعي يشير إلى أن الاستمرار في الانخراط في مثل هذا الحديث يساعدنا في الواقع على أن نصبح الأشخاص الذين يجب أن نكونهم. كيف يمكن تحقيق هذا؟ سنعود إلى تناول هذه المسألة في وقت لاحق. وفي الوقت نفسه، تظل النقطة المهمة هي أن اللاواقعي لا يمكن أن يكون لا مُباليًا باللاأدرية التقليدية. وهذا لأن الإدراك اللاأدري بأن الجدل حول فرضية الإله لم يُحَلَّ، وربما لا يمكن حله، هو على وجه التحديد أحد القوى الدافعة وراء حركة اللاهوتية الجديدة.

بنية الاعتقاد

كنت، في ذلك الوقت، في ألمانيا التي استدعتني؛ إذ كانت الحرب هناك لم تنتهِ بعد؛ وفي أثناء عودتي من تتويج الإمبراطور للانضمام إلى الجيش، بدأ فصل الشتاء، فاحتُجِزت في سكنٍ بلا صُحبة تُشتِّت انتباهي، ولم يكن لدي أيضًا — لحسن الحظ — اهتمامات تُزعجني ولا رغبات، ومن ثَم كنت أقضي اليوم بأكمله في الغرفة التي يُدَفِّئُها موقد، حيث كان لدي وقت فراغ تام للتأمل في أفكاري.

بهذا يبدأ الرجل الذي كان يُطلق عليه أبو الفلسفة الحديثة، رينيه ديكارت (١٥٩٦–١٦٥٠)، روايته لسلسلة من التأمُّلات التي أدَّت إلى إعادة هيكلة كاملة للفكر. كان السؤال الإرشادي لديكارت هو: كيف يمكن للمعرفة الإنسانية تحقيق اليقين المطلق؟ كان مفتونًا بقُدرة الرياضيات على استخدام سلسلة من الخطوات الآمنة للوصول إلى استنتاجٍ لا يعتمد إلا على الحقائق البديهية. لو أنَّ هناك أداة تشبه الإثبات الرياضي تفيد فيما يتعلق بمعرفة أنفسنا والعالم! أيكون هذا ممكنًا؟ تكمُن الصعوبة في أن الكثير من مُعتقَدنا عن العالم، على عكس الاعتقاد الرياضي، يأتي من الحواس، والحواس قادرة على خداعنا. بدأ ديكارت بالفكرة الراديكالية بأنه بحاجة إلى التخلي عن كل اعتقاد كان قادرًا على الشك فيه، ومن ثمَّ لا يتبقى سوى المعتقَدات البديهية تمامًا. وهكذا توصل إلى المبدأ الشهير Cogito ergo sum: «أنا أُفكِّر، إذن أنا موجود». مهما كان ما يمكن أن يُضللني، فلا يمكن أن أكون مُضلَّلًا عندما أتأمل في أنني أفكر، لأنه من دون تفكير (أو مُفكِّر يفكر في تلك الأفكار) لا يمكن أن يوجد التضليل! من هذه الفكرة الشديدة الأهمية، والمحدودية في آنٍ واحد، يبني ديكارت تدريجيًّا نظام المعرفة الخاص به، الذي يعتمد بصورة أساسية على إثباته لوجود الله.

ما يُقدِّمه لنا ديكارت هو صورة للمعرفة بعدِّها شيئًا مبنيًّا على «أُسُس»: معتقَدات من الواضح جدًّا أنها صحيحة في حد ذاتها؛ لدرجةِ أنها لا تحتاج إلى أن تُسْتَنتَج من أي اعتقاد آخر. نبني على هذه المعتقَدات المزيد من المعتقَدات التي تعتمد على المعتقَدات البديهية. ونبني على هذه الطبقة الثانية من الاعتقاد المزيدَ والمزيد، إلى آخره. يمكن مقارنة النتيجة بهرم؛ حيث تقع كل طبقة من الحَجر، باستثناء الأساس، على طبقة أسفلها. وتعتمد صلابة البناء بأكمله على صحة الأساس.

إذا كانت هذه هي الطريقة الصحيحة لتصور المعرفة، فما نوع الاعتقاد الذي يجب أن نضعه أساسًا لهذا البناء؟ كان ديكارت واضحًا بشأن هذه المسألة: فقط تلك المعتقَدات التي ندركها من خلال ضوء العقل الواضح على أنها بديهية. على الرغم من ذلك، فليست هذه هي الإجابة الوحيدة التي يمكن أن نقدِّمها. قد نفضِّل أن تتكون طبقة الأساس السُّفلية من معتقَدات حسية عادية («الهواء دافئ، لا توجد سحابة واحدة في السماء، والطيور تُغرد وهي تُحلِّق فوقنا»، وهكذا). ولكن، هل هذه الطبقة السفلية هي المكان المناسب لوضع المعتقَدات المتعلقة بالله، بصرف النظر عن نوع المعتقَدات الأخرى التي نضعها فيها أيضًا؟ أحد الافتراضات المميزة للموقف اللاأدري هو أن المعتقَدات المتعلقة بالله لا ينبغي أن تُعامل على أنها أساسية بهذا المعنى. وإنما يجب استنتاجها وتسويغها على أساس معتقَدات أخرى أساسية بدرجة أكبر، معتقَدات لا تتعلق بالله صراحة. من أمثلة هذه المعتقَدات الجوهرية: نظامية الكون، ووجود الذكاء، وقدرتنا على الحب، وما إلى ذلك. وحتى وقت قريب نسبيًّا، كان هذا الافتراض القائل بأن المعتقَدات المتعلقة بالله يجب ألا تُعَد معتقَدات أساسية، افتراضًا مشتركًا بين الكثيرين من كِلا طرفَي نقاش الإيمان/الإلحاد. ولكن منذ حوالي ثلاثين عامًا، بدأ الفلاسفة في التشكيك في هذا الافتراض. لماذا لا ينبغي أن يُعامل الإيمان بالله على أنه شيء يمكن أن ينتمي على نحو سليم إلى «أساس» نظام الاعتقاد لشخصٍ ما؟ حينها ستُعامل المعتقَدات المتعلقة بالله باعتبارها معتقَدات يمكن بناءً عليها تسويغُ المعتقَدات الأخرى. وبهذا، لن يمكن الاعتراض على المعتقَد الديني بحجة أن المعتقَدات الأخرى لا تَدعمه دعمًا كافيًا. وهو لن يحتاج إلى مثل هذا الدعم. وإنما سيوفر الدعم للمعتقَدات الأخرى.

هذا ليس ترخيصًا بالطبع لوضع أي معتقَد قديم في أساس نظام المعتقَدات الخاص بالفرد. ربما يكون اعتقاد ستانلي بأن كلَّ أفكاره وأفعاله تخضع لسيطرة سكان كوكب الزُّهرة أمرًا أساسيًّا بالنسبة إليه؛ فهو اعتقاد يؤثِّر في كل معتقَد من معتقَداته الأخرى. ولكن ستانلي غير منطقي. لا ينبغي التعامل مع هذا الاعتقاد باعتباره أساسيًّا؛ فهو يحتاج إلى الكثير من التبريرات المعقَّدة. فحتى الاعتقاد الأساسي ينبغي أن يرتكز على شيءٍ ما. ولا يمكن أن يكون شيئًا يختاره الشخص عشوائيًّا ويجعله مُترسخًا في نظرته للحياة، نظرًا لفشله الكبير في نقد المعتقَد بنفسه. ولهذا فإن مَن يقولون إن الإيمان بالله معتقَد أساسي على نحو سليم ويمكن أن يشكِّل الأساس لنظام التفكير، يؤكدون أن مثل هذا الاعتقاد يستند على أُسس: لا يُستنتَج من التجربة، ولكن بعض جوانب التجربة تسبِّبه وتضمن حقيقته أيضًا. المقارنة هنا مع الاعتقاد الحسي العادي. أُومن بوجود شجرة أمامي، ليس لأنني أستنتج وجود الشجرة من معتقَد آخر أساسي بدرجة أكبر. أنا فقط أجد نفسي، نتيجةً للتجربة (التي هي ليست في حد ذاتها اعتقادًا، بل حالة)، لدي اعتقاد بأن هناك شجرة أمامي. إن وجود شجرة أمامي حقًّا يُسبِّب اعتقادي ويجعله حقيقةً في الوقت نفسه، ونتيجةً لذلك فإن اعتقادي له أساس ومبرر.

فهل هذه المقارنة بين المعتقَد الديني والمعتقَد الحسي صالحة؟ على الرغم من أنها مقارنة جذَّابة، فهي عُرضة للاعتراض التالي. في حالة الإدراك الحسي العادي، فإن أفضل تفسير لمعتقَداتنا هو أنها نتيجة لمواقفَ تعكس تلك المعتقَدات بدِقة إلى حدٍّ ما. سيُفضِّل الانتقاءُ الطبيعي تلك الكائنات التي نجحت في إدراك السِّمات المهمة في بيئتها (الطعام، المفترسات، شريك التزاوج، العائق، الخطر، مكان الاختباء، وما إلى ذلك). عِلاوة على ذلك، بعد دراسة كيفية عمل الحواس، وبنيتها، ووظائف الأعضاء المرتبطة بها، يمكننا أن ندرك الآلية التي تجعلها حساسة لخصائص البيئة. وهذا الوضع لا ينطبق فيما يتعلق بالتجربة الدينية. ربما تعكس تلك التجارب أصلًا إلهيًّا بالفعل. على الرغم من ذلك، توجد تفسيرات أخرى لتلك التجارب، وهي تفسيرات معقولة تمامًا وليست إلهية على الإطلاق. ولهذا، لا يوجد افتراض يؤيد تلك التجارب يعكس بدقةٍ ما يبدو أنها تشير إليه. وما دام عدم اليقين موجودًا، فلا يمكن اعتبار المعتقَدات المتعلقة بالإله جزءًا من المستوى التأسيسي لأي نظام للاعتقاد العقلاني، لن يكون هذا صحيحًا على أي حال.

يمكن الاعتراض على هذا بحُجة أن شكوكًا مماثلة تنطبق على الخبرة الحسِّية العادية. من المؤكد أنه توجد تفسيرات أخرى لتجاربنا يتبيَّن على أساسها أنها وهمية بطريقة منهجية. هل يمكننا التأكد من أن تلك الفرضيات ليست صحيحة؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فهل تُعدُّ المعتقَدات الحسية أساسية، ويمكن وضعها في أساس نظام معتقَداتنا؟ لا شك أن هناك فرضياتٍ أخرى، وربما لا نستطيع إثبات خطئها. لكن المشكلة أنها «غريبة» تمامًا؛ إذ تتضمن، على سبيل المثال، الاقتراح بأن أدمغتنا تُحَفَّز تحفيزًا مصطنَعًا في مُختبر، وذلك لتحفيز سلسلة من التجارب المتماسكة ولكنها وهمية تمامًا. من المؤكد أن مثل هذه الفرضية، بكل تفاصيلها الغريبة، أقلُّ احتمالًا من أن تجاربنا الحسِّية، في معظم الأحيان، تعكس الأشياء كما هي إلى حدٍّ كبير. في المقابل، لا يوجد شيء غريب في الاقتراح القائل بأنه لا يوجد إله، وثمة مزيج من النزعة البشرية القوية لتمييز وجود قوة فاعلة، والخيال الخصب، والتأثيرات الثقافية، تتضافر معًا لتؤدي إلى ظهور تجارب تُفَسَّر على أنها تجارب دينية.

ويليام جيمس: العاطفة والسذاجة

في إحدى أُمسيات عام ١٨٩٦، عُقد اجتماع للأندية الفلسفية في جامعتَي براون وَيِيل. وقد ألقى خطاب الاجتماع الفيلسوف وعالِم النفس العظيم في جامعة هارفارد ويليام جيمس (١٨٤٢–١٩١٠). إذا كان ديكارت هو أبا الفلسفة الحديثة، فمن المؤكد أن جيمس له بعض الحق في أن يكون أبا علم النفس الحديث. لقد شغل واحدًا من أولى المناصب في هذا المجال بجامعة هارفارد بين عامي ١٨٨٩ و١٨٩٧؛ عندما عُيِّن أستاذًا للفلسفة، وهو المنصب الذي شغَله حتى عام ١٩٠٧. وكان عنوان محاضرته في ذلك المساء «إرادة الاعتقاد»، التي قدَّمها مبرِّرًا للإيمان الديني. قد يبدو هذا موضوعًا طموحًا للغاية، لكن جيمس كان يقصد هدفًا محددًا: المبدأ اللاأدري. الحق أنه كان ينوي تفنيد نُسخة صارمة من هذا المبدأ. وكان هذا بسببِ ما قاله عالم الرياضيات ويليام كينجدون كليفورد، الذي كتب في مقالته «أخلاقيات الاعتقاد» أنه «من الخطأ دائمًا، وفي كل مكان، ولأي شخص، أن يصدِّق أيَّ شيء بناءً على أدلة غير كافية». شرَع جيمس في الدفاع عن المعتقَد الديني، بطريقة غير مباشرة، من خلال مهاجمة هذا المبدأ.

كم من معتقَداتنا تُلبِّي المعايير العالية التي يفرضها مبدأ كليفورد فعلًا؟ عدد قليل جدًّا مثلما يشير إلى ذلك جيمس في قوله:

هنا، في هذه القاعة، جميعُنا يؤمن بالجزيئات والحفاظ على الطاقة، وبالديمقراطية والتقدُّم الضروري، وبالمسيحية البروتستانتية وواجب النضال من أجل «مبدأ مونرو الخالد»، كل هذا دون أي سبب جدير بذلك.

fig9
شكل ٥-٢: عالِم الرياضيات ويليام كينجدون كليفورد: اشتهر بنسخته الصارمة من المبدأ اللاأدري.

ولكن كيف يمكننا أن نؤمن وألا نكون مخطئين، إذا لم يكن لدينا أدلة كافية؟ قد نؤمن بسببِ ما قاله لنا الآخرون: «إيماننا هو إيمان بإيمان شخص آخر». إن العديد من معتقَداتنا العلمية هي معتقَدات سنعجز عن تبريرها من خلال مصادرنا الخاصة، لكننا نضع ثقتنا في أشخاصٍ نفترض أنهم في مكان أفضل لتقييمها. غير أننا نتأثَّر أيضًا بما يسميه جيمس «طبيعتنا العاطفية». حين لا يعود العقل كافيًا للإيمان، تؤثِّر فينا عواطفنا ورغباتنا. تعتقد روز أن جاك مُعجَب بها، على الرغم من أن الدليل الموضوعي على ذلك ليس قاطعًا تمامًا حتى الآن (ربما يُخفي مشاعره)، وما يدفعها لهذا الاعتقاد هو إعجابها هي به. ومن حسن الحظ أنَّ إدراك جاك لإعجاب روز به هو ما يؤكد إعجابه بها. في هذه الحالة، نجد أنَّ الاعتقاد يجلِب بدرجةٍ ما الشيءَ نفسه الذي يبرره. فهل يمكن انتقاد الاعتقاد بهذا الخصوص؟

لكنَّ أيًّا من هذه الملاحظات الوجيهة لا تُسهم كثيرًا في تعزيز قضية الإيمان الديني. فأولًا: إذا كنا نؤمن بالله لأن الآخرين يؤمنون به، فقد تكون ثقتنا في غير محلِّها. هل هم في وضعٍ أفضل منَّا من حيث المعرفة؟ ربما فكروا في الأمر فترةً أطول، وبعمق أكبر، وتوصلوا إلى استنتاجٍ مُفاده أن هناك إلهًا. أو ربما شهدوا تجربة لم يَعُد عدم الإيمان خيارًا في ظلها. لكن ثمَّة مجال للشك سيظل موجودًا على الدوام؛ فربما لا تصمد أسبابهم أمام التدقيق العام. ثانيًا: في حالة روز وجاك، فإن اعتقاد روز بأن جاك معجَب بها هو جزء من سبب إعجاب جاك بها فعليًّا؛ يمكن أن يُسهم الاعتقاد في هذه الحالة في تحقيق الظروف نفسها التي تجعل هذا الاعتقاد صحيحًا. لكن هذا ببساطة لا ينطبق على حالة الإيمان بالله: كيف يمكن للإيمان إثبات أنَّ الله موجود بالفعل؟ الله ليس شخصيةَ تينكربيل، التي تظل حيةً من خلال الإيمان بوجود الجنِّيَّات.

لكن جيمس يُقدِّم حجةً أخرى. عندما يتعلَّق الأمر بالإيمان، يوجد نهجان يمكن اتباعهما. الأول، هو تجنُّب الخطأ بأي ثَمن، وهو النهج الذي يتبنَّاه كليفورد. والثاني، هو السعي وراء الحقيقة. والآن قد نأمل في اتباع المنهجَين: تجنُّب الخطأ والسعي وراء الحقيقة. لكن من الناحية العملية، علينا أن نعطيَ أولويةً لنهج على الآخر؛ لأن كُلًّا منهما يسير في اتجاه مختلف. إذا كان همُّنا الأساسي هو تجنُّب التعرض للخداع، سنتطلب أكثر الاختبارات دقةً قبل أن نَقبل شيئًا ما على أنه صحيح. لكن النتيجة هي أننا لن ندرك الحقيقة في بعض الأحيان؛ فثمة احتمال أننا تبنَّينا معتقَدات حقيقية وعلينا الآن أن نتخلَّى عنها. في المقابل، إذا كان اهتمامنا الأساسي هو ألا تفوتنا أيُّ حقيقة موجودة، أو ألا يفوتنا أهمها على الأقل، فسيتعيَّن علينا أن نكون أقلَّ تطلُّبًا في اختباراتنا، أو أن نُخفض معيار القبول إلى حدٍّ ما. والثَّمن هو أننا قد ننجرف إلى الخطأ أحيانًا. الآن، يرى جيمس أنَّ الاختيار بين هذين النهجين هو في حد ذاته اختيارٌ عاطفي؛ إن عواطفنا هي التي تجذبنا نحو نهج بدلًا من الآخر؛ من الواضح أن كليفورد يشعر بالرعب من التعرض للخداع. على النقيض من ذلك، فإن جيمس لا يهتم بالتعرض للخداع (فنحن بشرٌ مَعِيبون، في نهاية المطاف، وسنتعرض للخداع أحيانًا، مهما كنا دقيقين) بقدرِ ما يهتم بألا تفوته حقيقة مهمة.

وليس هذا النهج الذي يحثُّنا عليه جيمس بترخيص للسذاجة دون تمحيص؛ فلا ينبغي لنا أن نتسرع في تبني أي فكرة مثيرة تأتي في طريقنا، ويتعيَّن علينا أن نستمر في تطبيق قدراتنا النقدية. ولا ينبغي لنا أن نسعى إلى تكوين وجهة نظر بشأن كل شيء وأي شيء. بعض الأمور إما تافهة للغاية (هل هناك بالضبط ٣٤٧٨٦ ورقة على هذه الشجرة؟)، أو أنها لن تُحدِث فرقًا بالنسبة إلينا على وجه الخصوص، على الرغم من أنها قد تُحدِث فرقًا للآخرين (كم عدد السفن التي غادرت مع كولومبوس في رحلته إلى العالم الجديد؟). وعند هذه النقطة، يمكننا أن ننتظر بأمانٍ حتى نحصل على أدلة قاطعة قبل أن نُلزم أنفُسنا بتبنِّي معتقَدٍ ما، إذا كان لدينا أي اهتمام بالأمر. لكن بعض الأمور بالغة الأهمية لدرجةِ أننا قد نُضطرُّ إلى المخاطرة بإلزام أنفسنا بها قبل ظهور كل الأدلة؛ لأننا قد ننتظر إلى الأبد إذا لم نفعل. بالإضافة إلى ذلك، فإن بعض الاختيارات بين المعتقَدات المتنافسة تكون «إلزامية»، كما يصفُها جيمس. أي إنه لا يوجد احتمال ثالث. إن الاختيار بين الاعتقاد بأنها ستُمطِر بعد ظهر اليوم وبين الاعتقاد بأن الثلوج ستتساقط ليس مفروضًا علينا؛ إذ يبقى الاحتمال ألا يحدث هذا ولا ذاك. لذا، عندما تكون خياراتنا ليست إلزامية ولا جوهرية مُلِحَّة، فقد تكون اللاأدرية نهجًا معقولًا للغاية. لكن الاختيار بين الإيمان بالله والإلحاد هو أمرٌ إلزامي (إما أن الله موجود أو غير موجود) وجوهري في آنٍ واحد.

fig10
شكل ٥-٣: عالِم نفس يكتب ببلاغة الروائيين: ويليام جيمس، البلاغي البارع.

وبخصوص حجة جيمس الثالثة، فهي قوية ويمكن أن تصبح أقوى: لنفترض أننا أعدنا صياغةَ كلٍّ من النهجين («اسعَ وراء الحقيقة!» و«تجنَّب الخطأ!») في صورة تأكيد. يصبح التنبيه بتجنُّب الخطأ بأي ثَمن حُكمًا بأنه من الأفضل — حيثما يكون هناك تعارُض بين النهجين — اعتمادُ نهج «تجنُّب الخطأ» على حساب نهج «السعي وراء الحقيقة». كيف نعرف أن هذا صحيح؟ إن نهج «تجنُّب الخطأ» سيُجبرنا على الاعتراف بأننا لا نعرف صحته. في المقابل، فإن نهج «السعي وراء الحقيقة» سيمثل عقبةً أسهل بكثير أمام قبولنا أن السعي وراء الحقيقة أفضل من تجنُّب الخطأ. وبهذا يبدو أن مبدأ كليفورد اللاأدري في ورطة.

ومع ذلك، ينبغي ملاحظة أن مبدأ كليفورد لا يُخبرنا بما يمكن اعتباره دليلًا «كافيًا». هل هي أدلة دامغة لدرجةِ أنها لا تترك مجالًا للشك؟ من الواضح أن هذا هو ما يعنيه جيمس. أم إنها أدلة كافية لدفع الاحتمالات في اتجاه واحد بدلًا من الآخر، بحيث يبدو قبول الفرضية مُبررًا أكثرَ من إنكارها؟ من المؤكد أن هذا يتوافق مع نهج جيمس في السعي وراء الحقيقة مع عدم تعليق قدرات التفكير النقدي لدى المرء. وسيأتي الاختبار حيث تبدو الاحتمالات متطابقةً بالتساوي. وبما أن العقل لا يستطيع أن يُقرِّر حقيقةَ الأمر، فلماذا لا تتخذ مشاعرنا القرارَ النهائي؟ قد تكون اللاأدرية عقلانية، لكنها — كما يشير جيمس — ليست مستدامة من الجانب العاطفي. فكيف يجب على اللاأدري أن يواجه هذا التحدي؟ لقد انتقلنا الآن من الاعتبارات النظرية البحتة إلى الاعتبارات الأكثر عملية، وهذا هو موضوع الفصل التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤