الفصل السابع

كيف ينبغي تدريس اللاأدرية؟

معركة الحافلات

في أواخر عام ٢٠٠٨، ظهر في لندن عدد من الحافلات التي تحمل شعار «لا يوجد إله على الأرجح. فتوقف عن القلق واستمتع بحياتك». وبحلول بداية عام ٢٠٠٩، ظهرت «حافلات إلحادية» مماثلة في مدن أخرى في المملكة المتحدة. كان هذا نتيجةً لحملة ناجحة، بدعم من «الجمعية الإنسانية البريطانية»، جمعت أكثر من ١٤٠ ألف جنيه إسترليني لتمويل الإعلانات. وفي نهاية المطاف، بلغ عدد هذه الحافلات ما لا يقل عن ثمانمائة، وكانت نظيراتها تظهر في إسبانيا وروسيا. وأوضح المنظِّمون أن ذلك كان بمثابة الترياق لما عَدُّوه دعايةً مسيحية بأشكال مختلفة، كانت تصل في بعض الأحيان — كما زعموا — إلى الإيحاء المقلِق بأن غير المؤمنين تنتظرهم لعنة أبدية. كان الهدف من الإعلانات الإلحادية طمأنةَ الملحدين واللاأدريين أنه من المقبول تمامًا عدم الإيمان بالله. وكما كان متوقَّعًا، كان هناك ردُّ فعل ديني، وبحلول شهر فبراير، كانت مائة وخمس وسبعون حافلة في لندن تحمل شعار «يوجد إله بالتأكيد. لذا، انضم إلى «الحزب المسيحي» واستمتع بحياتك». في هذه الأثناء، تلقَّت «هيئة معايير الإعلان» البريطانية العديدَ من الشكاوى من المسيحيين الذين يعترضون على الإعلانات الإلحادية، لكن الهيئة حكمت بأن الإعلانات كانت «تعبيرًا عن رأي المُعْلِن … وأنَّ الادعاءات الواردة فيها لا يمكن البرهنة عليها بأُسسٍ موضوعية». ومن المثير للاهتمام أن نجد إعلاناتٍ إلحادية (وبالتبعية، أخرى إيمانية) يُتغاضى عنها على أُسسٍ لاأدرية.

هل موقفُ مَن تقدموا بالشكاوى مبرَّر؟ هل هذه طريقة مقبولة لنشر مثل هذه الرسائل؟ لا تبدو الشعارات على الحافلات مختلفة من حيث المبدأ عن الخُطَب التي تُلقَى على المِنَصَّات، أو البرامج السياسية الحزبية، أو الملصَقات الموضوعة خارج الكنائس الإنجيلية. إنها تعظُ المؤمنين، أما غير المؤمنين فسوف ينظرون إليها بحذرٍ كافٍ. إن الإعلانات تعبيرٌ عن الرأي، وهي محمَّلة بالقيمة، وفي كثير من الأحيان — كما تعترف هيئة معايير الإعلان — لا يمكن التحقُّق من صحَّتها بسهولة. الحق أنَّ بعضها يدعو المرء إلى «عدم» أخذها على محملِ الجِد، مثل الإعلانات التليفزيونية لسجائر «ستراند» في الخمسينيات من القرن الماضي، التي يظهر فيها رجلٌ من الواضح أنه وحيد، يرتدي مِعطفًا واقيًا من المطر، ويشعل سيجارةً في شارع مهجور، بينما يقول التعليق الصوتي المصاحب «مع سيجارة ستراند، أنت لست وحدك أبدًا». لنفترض أننا أخذنا هذا الإعلان على محملِ الجِد. لنفكر في التبِعات المحتملة: أنه مع سيجارة ستراند، ستكون دائمًا بصحبة إنسان آخر (حقيقة زائفة)، أو أنك دائمًا بصحبة سيجارة (حقيقة تافهة)، أو أنك دائمًا بصحبة شيء غير مرئي وغير ملموس (حقيقة غريبة ومقلِقة). من الواضح أن قوة الإعلان تكمن في عدم أخذه على محملِ الجِد. (ولكن من سوء الحظ أنَّ الجمهور كان يميل إلى الربط بين سجائر ستراند والرجالِ الوحيدين، وسُحِبت العلامة التجارية في غضون سنوات قليلة.) ومن ثَم، فمن غير المرجَّح، أيًّا كان الجانب الذي يؤيده المرء، أن يكون أيُّ شخص عُرضة لخطر التضليل بصورة شديدة إما عن طريق إعلانات الحافلات المؤيدة للإلحاد أو المؤيدة للإيمان.

fig11
شكل ٧-١: نقل الرسالة إلى شوارع لندن: ريتشارد دوكينز وحملة «الحافلة الإلحادية».

ما سيكون غير مرغوب فيه هو إغراق الجمهور بسيل من الرسائل الموحَّدة تمامًا، مثل تلك التي كانت تُعرض على شاشات التليفزيون في رواية «١٩٨٤» لجورج أورويل. إن حقيقة أننا نواجه صورًا ورسائلَ متضاربة هي التي تجبرنا على التفكير المستقل، وإدراك أن هناك بعضَ الأمور التي لا يمكننا فيها الاعتماد على حكمِ شخص آخر. وتلك إحدى الإجابات على المعلِّق الذي أعرب عن قلقه بشأن التأثير الذي قد تُحدِثه شعارات الحافلات الإلحادية على الأطفال (الذين يبدون مع ذلك أقوياء بما يكفي لتحمُّل المجموعة المتنوعة والمذهِلة من الرسائل التي تقدِّمها وسائل الإعلام التي يقضون معها الكثير من الوقت).

هل يجب أن يكون هناك شعار لاأدري على الحافلات أيضًا؟ إن شعار «لا يمكننا معرفة ما إذا كان هناك إله أم لا» يفتقر إلى قوة منافسيه بعض الشيء. إن القيمة الحقيقية للاأدرية لا تكمُن في الاستنتاج اللاأدري بقدرِ ما تكمن في الطريق الذي يُسْلَك للوصول إليه، وهذا يعتمد على قبول المبدأ اللاأدري: لا تتظاهر بالمعرفة بينما يتضح أن أساس اعتقادك غير كافٍ. وهذا مبدأ تربوي مهم. إذن، ما هي الصورة التي ينبغي تقديم اللاأدرية بها في التعليم؟

عدم اليقين والإبداع

ربما يكون الشعار اللاأدري الأفضل هو «عدم اليقين مفيد لك!» لأن اللاأدرية هي مجرد مثال واحد على ظاهرة عدم اليقين الأوسع. عادةً ما ينظر الناس إلى عدم اليقين بوصفه أمرًا سيئًا علينا أن نسعى إلى التخلُّص منه أو تقليله. فقد يكون عدم امتلاك معلومة ضرورية مصدرًا للقلق. لأننا عندما لا نعرف ما الذي ينبغي علينا أن نُصدقه، نتقيد باللافعل. ولكن هل الأمر كذلك فعلًا؟ فقد يتبين أن عدم اليقين هو أحد مصادر الإبداع. ففي بعض الأحيان، يمكننا تحسين وضعنا «دون» التخلص من حالة عدم اليقين.

توضع عملة معدِنية تحت كوب من ثلاثة أكواب دون أن تراها. عليك أن تخمِّن أي من الأكواب يُخفي العملة، وستحصل على العملة إذا أصاب تخمينك. لذا، تشرع في الاختيار. ودون مزيد من المعلومات، فإن احتمالات اختيارك للكوب الصحيح هي واحد من ثلاثة. الآن يُزال أحد الكوبين اللذين لا يخفيان العملة المعدنية، ويتبقى كوبان فقط، ومنهما الكوب الذي اخترته. أنت مدعو بعد ذلك لاتخاذ قرار آخر؛ إما أن تتمسَّك باختيارك الأصلي، أو تختار الكوب الآخر. قد يبدو أن ما ستُقرره لا يُهم؛ لأن كلا الخيارين قد يكون خطأً. على الرغم من ذلك، ففي حين أنَّ التمسك باختيارك الأصلي لن يُغيِّر فرصتك الأصلية في النجاح (نظرًا لأن الكوب أُزيلَ بعد أن اخترت بالفعل)، فإنَّ تغيير اختيارك الآن يمنحك فرصةً أفضل لأن تكون على صواب؛ حيث إنه لم يتبقَّ الآن سوى كوبين. قد يبدو هذا وكأنه شيء من السفسطة الإحصائية، لكن ما لدينا من نتائجَ على سلسلة كبيرة بما يكفي من الاختيارات يُثبِت صحةَ ذلك. يمكننا على الرغم من كل شيء أن نستجيب بإيجابية لحالة عدم اليقين دون التخلُّص منها.

إليك مثالًا آخرَ أكثرَ غرابة. في كتابه «سؤال الهوية»، يصف طبيب الأعصاب أوليفر ساكس محادثةً مع مريض يُعاني مُتلازمةَ كورساكوف، مما حرمه من القدرة على تكوين ذكريات طويلة الأمد. يمكن للمريض، الذي أطلق عليه ساكس اسم ويليام طومسون، أن يتذكَّر عمله السابق بقَّالًا، لكنه لا يتذكر شيئًا عما أدى إلى دخوله إحدى المصحَّات. في البداية، يرحِّب طومسون بساكس على أنه زبون، ثم بعد ذلك على أنه صديق قديم له يُدعى توم بيتكين. عندما يخبره ساكس أنه ليس توم بيتكين، يشير طومسون (عندما يرى المعطف الأبيض) إلى أنه جزار الحي، ثم الطبيب، ثم الطبيب النفسي …

لم يتذكر أيَّ شيء لأكثر من بضع ثوانٍ. وكان مُشوَّشًا باستمرار. كانت هاوية فقدان الذاكرة تُفتَح لابتلاعه باستمرار، ولكنه كان يرأبها بخفة من خلال جميع أنواع السرديات والخيالات السلسة. بالنسبة إليه لم تكن خيالات، بل رؤيته للعالم أو تفسيره في التو واللحظة … لم يكن نسيجًا من الأوهام والضلالات الدائمة التغيُّر السريعة الزَّوال، بل كان عالَمًا طبيعيًّا ومستقرًّا وواقعيًّا تمامًا. بالنسبة إليه، لم يكن هناك أي مشكلة.

في مواجهة الخسارة الهائلة في المعلومات، التي من شأنها أن تهدِّد بجعل الحياة لا تُطاق، فإن اختلاقات طومسون الإبداعية التي لا نهاية لها، هي في الواقع استراتيجية بقاء، ومحاولة لفرض الحالة الطبيعية. وعلى الرغم من أن حالة طومسون مَرَضِية بوضوح، فهي تخبرنا شيئًا عن قدرتنا المتأصلة في التعامل مع عدم اليقين، والقدرة على توليد سلسلة كاملة من الفرضيات المتنافسة حول العالم، فرضياتٍ تُختار أو تُرفَض في الظروف العادية على أساس المعلومات اللاحقة. كلما زادت قدرتنا على التعامل مع عدم اليقين، زادت فعاليتنا. فثمَّة سببٌ وجيه لتضمين أسئلة مصمَّمة لقياس درجة عدم تحمُّل الشخص لعدم اليقين في بعض الاختبارات النفسية.

يمكن أن يؤدي عدم اليقين أيضًا إلى التقدم النظري، وليس ذلك بسبب الحاجة إلى تقليل عدم اليقين من خلال تطوير نظرياتٍ أفضل والحصول على المزيد من المعلومات فحسب، ولكن لأن عدم اليقين في حد ذاته يمكن أن يصبح موضوعًا للنظرية، مما يساعدنا على تقريرِ ما يجب القيام به في مواجهة تلك الشكوك. لنأخذ، على سبيل المثال، اللغزَ الشهير المتمثل في مُعضلة السجين. أُدينَ سجينان بارتكاب جريمةٍ ما معًا. يقال لكلٍّ منهما إنه إذا اعترف، وبقي الآخر صامتًا، فسيُطلَق سراح المُعْتَرِف فورًا وسيُسجن الآخر عشر سنوات. إذا ظل كلاهما صامتَين، فسيُسجنان ستة أشهر. وإذا اعترف كلاهما، فسيُسجنان خمس سنوات. ماذا يجب أن يفعل كلٌّ منهما؟ لا يمكنهما الاجتماع للتشاور؛ لذا يجب على كلٍّ منهما التوصُّل إلى قرار دون معرفةِ ما قرره الآخر. عند اتخاذ قرار بشأنِ ما يجب فعله، لا يكفي أن يفكر كل سجين في النتيجة الأفضل بالنسبة إليه، بل ينبغي أن يفكر أيضًا في الكيفية التي سيتصرف بها السجين الآخر. قد تكون المشكلة مفتعَلة، ولكنها تعكس مواقفَ من الحياة الواقعية تتنافس فيها المصالح، ولا يكون لدى أحد فيها معلومات كاملة حول ما ينوي كلُّ طرف معنيٍّ القيامَ به. ومن الأمثلة الواقعية على مثل هذا الوضع الحقيقي سباقُ التسلُّح النووي في الخمسينيات. بحلول بداية ذلك العَقد، أدركت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيِيتي أن كليهما لديه القدرة على شن هجوم نووي مُدمِّر على الآخر، لكن لم يعرف أيٌّ منهما نوايا الجانب الآخر. وقد اقترح بعض المعلقين البارزين أنه يجب على أمريكا أن تشن ضربة استباقية غير مبرَّرة، كي لا تصبح الضحية. ومن حُسن الحظ أن هذه الحجة لم تكن هي السائدة. ومن الأمثلة الأحدث، التي لا تزال تثير الجدل، الغزو الإنجليزي الأمريكي للعراق في عام ٢٠٠٣، لكن عدم اليقين بشأن النوايا في هذه الحالة كان (كما أصبح واضحًا) متفاقِمًا لدى أحد الجانبين بسبب عدم وجود معلومات كافية بشأن قدرة الجانب الآخر على الانخراط في الأنشطة النووية والحرب البيولوجية.

أدَّت الحاجة إلى صياغة صنع القرار في ظل ظروف عدم اليقين على أساس عقلاني إلى تطوير «نظرية الألعاب»، التي بدأها عالِم الرياضيات الفرنسي إميل بوريل في ورقة بحثية عام ١٩٢١ تحمل هذا الاسم، ولكن كان جون فون نويمان (أحد أنصار شن الولايات المتحدة ضربةً وقائية على الاتحاد السوفييتي) هو مَن أضاف إليها معالجة رياضية متطورة بين عام ١٩٢٨ ووفاته المبكِّرة في عام ١٩٥٧. أدرك نويمان أنه يمكن تطبيق النظرية على مجموعة متنوعة من المجالات، بما في ذلك الاستراتيجية العسكرية والاقتصاد، وفي عام ١٩٤١ نشر، مع أوسكار مورجنستيرن، النظريةَ المؤثِّرة «نظرية الألعاب والسلوك الاقتصادي».

إن الاقتصاد هو أحد الأمثلة على استجابتنا الإبداعية لحالة عدم اليقين؛ إذ لا نسعى فيه إلى التخلص منها فحسب، بل إلى تعلُّم كيفية التعايُش معها أيضًا، والاستفادة منها لصالحنا. والدِّين مثال آخر على ذلك. إنَّ عدم معرفتنا لكيفية نشأة العالم، والهدف النهائي للحياة، ومصدر إحساسنا بالخير، أدَّى إلى إنتاج قصص مذهلة الثراء على مدار العصور والثقافات المختلفة، وهي قصص تضم هذه الألغاز في كلٍّ موحَّد، وتعطي الحياة شكلًا ومعنًى. هذا لا يعني أنها «ليست أكثر من» مجرد قصص، بل إننا لا نعرف أيٌّ من جوانبها يخترق جوهر الواقع. هذا هو الاستنتاج اللاأدري. إنه ليس نقدًا للدِّين، بل اعتراف بطبيعته الحقيقية: استجابة معزِّزة للحياة وإبداعية لعدم اليقين.

عدم اليقين والتسامح: التعليم اللاأدري

في ضوء ما قيل للتو، أقترح أن تُقَدَّم اللاأدرية على أنها شيء إيجابيٌّ، وليس مجرد لامبالاة، بل اعتراف صادق بعدم اليقين، ويُقدَّم عدم اليقين نفسه على أنه مفيد: التكيف مع عدم اليقين يجعلنا أكثرَ إبداعًا، وأكثر مرونة، ويؤدي إلى تقدُّم فكري حقيقي. كما أنها تجعلنا أكثر تسامحًا، وهذا هو المفتاح لفهم التأثير الذي يجب أن تُحدِثه اللاأدرية على التعليم الديني.

لنتناول هذه القضيةَ من خلال التساؤل عن مشكلة التعليم المدرسي الكئيب الموجَّه نحو الحقائق، الذي سخِر منه دِيكِنز في رواية «أوقات صعبة»:

الآن، ما أريده هو الحقائق. لا تُعلِّم هؤلاء الأولاد والبنات سوى الحقائق. الحقائق وحدَها هي ما نحتاج إليه في الحياة. لا تغرس فيهم سوى الحقائق، واقتلع كلَّ ما سواها. لا يمكنك تشكيل عقول الحيوانات العاقلة إلا على أساس الحقائق؛ لن يفيدها أيُّ شيء آخر على الإطلاق. هذا هو المبدأ الذي أُربِّي عليه أطفالي، وهذا هو المبدأ الذي أُربِّي عليه هؤلاء الأطفال. التزم بالحقائق يا سيدي!»

بهذا ينصح توماس جرادجرَيند مديرَ المدرسة متشوكَمتشيلد، الذي نشأ على نفس المبدأ، ومن ثمَّ فهو يلتزم بذلك بسهولة. إن الأمر لا يقتصر على عدم وجود أي اهتمام إنساني بتعريف الحصان على أنه «حيوان آكل للنباتات ذو حوافر صلبة، وما إلى ذلك.» وهو ما يوضِّح عُقم هذا النهج، ولكن فكرة أن التعليم هو ببساطة مسألة تتعلق بتعلُّم الأشياء المعروف أنها حقيقية. يمكن تدريس التاريخ (لتسليط الضوء على مثال معيَّن) بهذه الطريقة في المدارس — وكثيرًا ما كان يُدرَّس على هذا النحو — ولكن الأسلوب الأكثر استنارةً والسائد الآن لحسن الحظ، يُعلِّمنا أن نكون واعين بأن رؤيتنا للماضي تستند على تأويل محدود بالضرورة وأحيانًا على مصادرَ مُتحيزة في حالة السجلات المكتوبة. وهذه هي الطريقة التي يدرك بها الطلاب قابليةَ الخطأ في المعتقَدات المتعلِّقة بالماضي، ويتعلمون الانفتاح على التفسيرات الأخرى.

وبتطبيق ذلك على التعليم الديني، سيكون التناقض بين تدريس مجموعة واحدة من العقائد الدينية بطريقةٍ لا تدعو إلى التشكيك فيها، وبين توضيح كيفية نشأة المعتقَدات الدينية في الثقافات المختلفة من مصادر متنوعة، والأُسُس التي تَستمد منها هذه المعتقَدات قوَّتها. إن تبنِّي هذا النهج الثاني لا يعني تدريسَ اللاأدرية إلى جانب أنظمة المعتقَدات الدينية فحسب، بل هو في الواقع اتباع نهج لاأدري تجاه تدريس تلك الأنظمة.

سيؤدي ذلك إلى استنتاجين لا ينبغي قبولهما. الأول هو أن اللاأدرية لا بد أن تكون معادية ﻟ «المدارس الدينية»؛ أي تلك المدارس التي يتلقى أطفالها تعليمًا واضحًا ضمن إطار دِين معين. فاللاأدري ليس مُعاديًا للدِّين بالضرورة. على العكس تمامًا؛ يمكننا — كما أوضحت — أن نفهم تمامًا اعتناقَ الخطاب والممارسات الدينية حتى من منظور لاأدري. إن جوهر الدِّين لا يتمثل في ترديد العقائد الدينية وكأنها حقائقُ لا تتزعزع ويقينية دون أدنى تشكيك، ولن يكون من المحبَّذ للمدارس الدينية أن تسلك هذا الاتجاه. وسيكون من غير المرغوب فيه أيضًا إن تجاهلوا وجهات النظر الدينية أو الإنسانية الأخرى أو انتقدوها. إن التعليم الديني الحقيقي يعلِّم التسامح الديني.

الاستنتاج الثاني الذي يجِب معارضته هو أنه إذا كانوا يرغبون حقًّا في تعليمٍ منفتح الذهن لأطفالهم، فيجب على اللاأدريين الانضمامُ إلى تلك الجماعات الدينية التي تُطالب بتدريس نظرية الخَلْق في فصول علم الأحياء بوصفها منافسًا لنظرية التطور. فلا يلزم أن يكون اللاأدريون بشأن وجود الله لاأدريين بنفس القَدْر بشأن كل جدل يتعلق بالله. يعتمد ذلك على مدى خصوصية الجدل. ربما يظنون، على سبيل المثال، أن تأكيد المؤمنين بنظرية الخلق «لنظرية خلقية الأرض الفتية» القائلة بأن جميع أنواع الحياة التي تسكن الكوكب حاليًّا قد خُلقت كما هي، بكل تعقيداتها، منذ قرابة ستة آلاف عام، هو، في ضوء الأدلة، أمرٌ أقلُّ احتمالًا من تأكيد أنصار التطور أن أشكال الحياة المعقَّدة تطوَّرت تدريجيًّا من أشكال أبسطَ بكثير نتيجة للطفرات الجِينية والانتقاء الطبيعي. وربما يعتقدون أيضًا أن اللجوء إلى نص ديني بوصفه أساسًا لتأكيد نظرية الخلق هو أمرٌ غير علمي بوضوح. وفي المقابل أيضًا، قد يعتقدون أن الفرضية الأكثر عمومية، القائلة بأن الكون نشأ نتيجةً لتصميم ذكي، تتساوى احتمالية صحتِها واحتمالية خطئها، ولكنهم يعتقدون أيضًا أن هذه الفرضية العامة ليس لها مكان في دروس العلوم. لا يتعين عليك وصف فرضية التصميم الذكي بأنها «ليست علمًا» لاستبعادها من فصول علم الأحياء. فكثيرًا ما قُدمت حجَّة طرح التصميم الذكي بوصفها ردَّ فعلٍ على الأدلة التي تنبثق من البحث العلمي (مثل اعتبارات «الضبط الدقيق» التي نوقشت في الفصل الرابع). فمثل هذه الفرضية العامة جدًّا، التي يصعب للغاية (كما سيلاحظ اللاأدري) توليدُ تنبؤات محدَّدة منها قابلة للاختبار، لن تكون نموذجًا لأنواع التفسيرات التي يُتَعامَل معها في علم الأحياء. ما يجب أن يرغب فيه اللاأدري هو أن تُناقَش هذه القضايا في مكانٍ ما في المنهج الدراسي.

بيانٌ لاأدريٌّ

دعونا نختم بتلخيص النظرة اللاأدرية. ربما لن يقبل جميع اللاأدريين صورَتِي بكل تفاصيلها، لكنني أقترح ما يلي بوصفه «بيانًا لاأدريًّا»، يجسِّد الاستنتاجات المتَوصَّل إليها في نقاط مختلِفة في هذه الدراسة الموجَزة:
  • (١)

    بخصوص عبء الإثبات، فإن المؤمن والملحد في نفس الموقف تمامًا؛ ليس لدى أي منهما واجبٌ أكبر من الآخر لتبرير موقفه. لا ينبغي أن يكون هناك افتراض تلقائي للإلحاد، بل يجب أن يكون هناك افتراض أولي باللاأدرية.

  • (٢)

    الإيمان بالله ليس «علمًا سيئًا»؛ إنها فرضيةٌ عامة للغاية مُفادها أنَّ فكرة وجود كيان ذكي ما، توفِّر تفسيرًا موحدًا حقيقيًّا للعالم، ولأنفسنا، ووعينا، وقدرتنا على الخير. إن الاحتمال الأوَّلي لافتراض وجود مثل هذا التفسير (على عكس محاولة تقديم تفسير تفصيلي) ليس أصغر من الاحتمال الأوَّلي لافتراض عدم وجوده.

  • (٣)

    المبدأ اللاأدري: ابحث دائمًا عن أسباب المعتقَدات، ولا تدَّعِ معرفةً لا تدعمها الأدلة دعمًا كافيًا. إن عبارة كليفورد عن هذا المبدأ: «من الخطأ دائمًا وفي كل مكان ولأي شخص، تصديق أي شيء بناءً على أدلة غير كافية»، عبارةٌ قوية للغاية. لا يسمح كليفورد بدرجات من الإيمان: يجب أن نحدِّد مدى مَيلنا إلى تصديق شيءٍ ما بما يتناسب مع وزن الأدلة.

  • (٤)

    الأدلة التي يُشار إليها في كثير من الأحيان على أنها تدعم الإيمان بالله أو تُقوِّضه، هي أدلة غامضة: يمكن إثبات أنها تتَّسق مع كلٍّ من الإيمان بالله والإلحاد دون اللجوء إلى مناورات مخصَّصة أو غير منطقية.

  • (٥)

    بما أن الأدلة غامضة، فإن الالتزام بالإيمان أو الإلحاد استجابةٌ عاطفية للعالم لا استجابة عقلانية بحتة، وإن كان ذلك جزئيًّا على الأقل. لكن هذا لا يجعل من الإيمان أو الإلحاد استجابةً غير عقلانية. يرى المؤمنون أن الموقف الديني طبيعي ومُتأصِّل وذو قيمة ويجب تشجيعه وتطويره. أما الملحدون، فرغم أنهم يدركون في كثير من الأحيان أن الاستجابة الدينية طبيعية، فإنهم يرَون أنها قد تخدعنا، ومن ثمَّ فهي شيء يجب التخلُّص منه. والحق أنَّ الفرق يعود إلى المزاج الفردي لكل شخص بدرجةٍ أكبرَ مما يعترف به أيٌّ من الجانبين عادة.

  • (٦)

    لا ينبغي النظر إلى اللاأدرية على أنها موقف نهائي، بل مؤقت؛ بحيث يكون مصحوبًا بموقف منفَتح، واستعداد للنظر في أدلةٍ وحجج جديدة.

  • (٧)

    توجد درجات مختلفة من اللاأدرية، تعكس وجهات نظر مختلفة بشأن مدى رُجحان فرضية الإيمان بالله أو مدى عدم رجحانها. إن الاعتراف بأن المرء لا يعرف ما إذا كان الله موجودًا أم لا، يتوافق تمامًا مع وجهتَي النظر المختلفتين: المؤمنة أو الملحدة. وقد يكون هناك إيمان دون معرفة.

  • (٨)

    حتى هذا النوع من اللاأدرية الذي يجعل الإيمان بالله والإلحاد متساويَين في الاحتمال يتوافق مع الالتزام العملي والعاطفي بأسلوب الحياة الديني. رأى جيمس أن مثل هذا الالتزام يتطلب إيمانًا حقيقيًّا، لكن المشاركة اللاأدرية في الدِّين أقرب إلى المشاركة في لعبة تخيُّل.

  • (٩)

    اللاأدرية هي جزء من ظاهرةٍ أوسع من عدم اليقين، وعدم اليقين شيء إيجابي فيما يتعلق بتعزيز الإبداع والتقدُّم النظري والتسامح الاجتماعي. ومن ثَم فإن اللاأدرية تُعزِّز التعدُّدية الدينية: التعايش السلمي بين مختلف المعتقَدات الدينية، وبين الجماعات الدينية والإنسانية. إنها لا تُروِّج أو تُلمِّح إلى وجهة نظر نسبية للحقيقة: «الإسلام حقٌّ بالنسبة إليَّ، ولكنه باطل بالنسبة إليك»، وما إلى ذلك.

وبالنظر إلى الفوائد المذكورة في البند رقم ٩، فإن التعليم المبني على المبادئ المذكورة أعلاه سيكون تعليمًا إنسانيًّا حقيقيًّا.

لقد بدأنا هذه الدراسة بأول فعل مسجَّل لآدم في جنة عَدْن، ألا وهو تسمية الكائنات الحية. وسنختتمها بآخرِ ما فعله، ألا وهو قبول حواء ثمرةَ «شجرة المعرفة» بعد أن فتنَتْها الأفعى: «فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ». ولهذا طُرِدا من الجنة. ربما كان أكل الفاكهة المحرَّمة قد جلب إليهما معرفة الخير والشر، ولكن بالنظر إلى تاريخ البشرية، فقد جلب إليهما أيضًا عدم اليقين والشك. ألا يمكن أن يكون عدم اليقين والشك، في نهاية المطاف، هما الهبة الإلهية للبشرية؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤