الرجل الثاني

١

جذبني مقهى النجف في سن المراهقة. كانت سنًّا يستهجن فيها غشيان المقاهي. الحق لم يجذبني المقهى نفسه؛ ولكن شدني بقوة سحرية صاحبُه موجود الديناري الأسطورة الباقية. إنه آخر الفتوات غير أنه بالقياس إليَّ أول الفتوات وآخرهم. ذهبت لأحظى بمشاهدته فوق أريكة الإدارة في شيخوخته المجللة بالمهابة والقوة والجمال. اخترت مجلسًا بعيدًا عن مجلسه، منعني الإكبار، وجاء بي دومًا ما استقر في قلبي من حكايات فتونته، سحرتني أكثر نوادره الغامضة التي تضاربت حولها التفاسير. طالما شعرت وأنا أحتسي قرفته المخلوطة بالمكسرات بأنني أعيش أبهج ما في الماضي والحاضر والمستقبل.

•••

يحكى أن …

يُحكَى أنه ألقى على أتباعه ذات يومٍ تحديًا. عند الفجر من سهرة في غرزة المنارة المسقوفة بالسماء. قلَّب عينيه في وجوه الرجال فلم يبرح أحد مكانه. تبدت وجوههم غامضة على ضوء النجوم. تبدت وجوههم ذابلة من شدة السطول. تبدت وجوههم مخضلة بالندى. في فصل صيف شهد له الآباء بالغلظ، قال لهم: لن ترجعوا إلى بيوتكم قبل أن تسمعوا.

تطلعوا إليه باهتمام. جاهدوا نعاس الخدر. توقعوا نبأً عن معركة. موجود الديناري قهقه حتى سعل. قال بتؤدة أضفت على بنيانه القوي وملامحه الواضحة جدية مثيرة: إنكم تتساءلون …

اشتعلت اللهفة ونفد الصبر فواصل الرجل: ما من جماعة مثلنا إلا وفيها رجل ثانٍ، على ذلك جرى عرف من غبر … ندت عن «طباع الديك» حركة عفوية داراها بسعلة مصطنعة. لم تغب عن عين الرجال ولا عين الرجل. كان أقوى الأتباع وأشجعهم وإن لم يجهر بذلك أحد، وطالما اعتقد أن المنزلة الثانية بمثابة حقه المعتبر. تساءل المعلم: ما رأيكم؟

أكثر من صوت أجاب: الرأي ما ترى يا معلم.

– كلكم أقوياء، كلكم شجعان، ولكن الفتونة الحقة لا تستند إلى القوة والشجاعة وحدهما!

عند ذلك قال طباع الديك: منك تعلمنا أيضًا مكارم الأخلاق …

فابتسم المعلم ابتسامة غامضة وقال: دعونا من الكلام، عندي مهمة، فمن منكم يقبل القيام بها؟

فبادروا قائلين: نحن رهن الإشارة!

وتساءل طباع الديك: ما هي المهمة يا معلمي؟

فقال الديناري باسمًا: إنها سر من الأسرار.

همدت ألسنتهم. تذاكروا ما عُرف عنه من غرابة الأطوار. تذكروا الغموض الذي يخالط وضوحه. حذروا بغريزتهم أن يقعوا في شرك لا قبل لأحدهم به. وسُرَّ الديناري بصمتهم فقال: إنها تتطلب أول ما تتطلب الطاعة العمياء!

وضح القلق في حركات طباع الديك المتوترة ولكنه تجاهله قائلًا: قد يحيق الهلاك بمن يتصدى لها، لا يجوز إخفاء ذلك عنكم، فإذا وُفق فاز بالمكانة اللائقة، وإن هلك تعهَّدت أهله بالعناية.

وخرج طباع الديك من صمته فقال: يا معلمي، لقد خدمتك منذ …

ولكن المعلم قاطعه متسائلًا: من منكم يقبل المهمة؟

من غشاء الصمت الثقيل انطلق صوت يقول: خدامك يا معلم!

تحولت الأبصار بذهول نحو شطا الحجري. فتًى جاوز العشرين بعام أو عامين. أحدث من انضم إلى العصابة، لم يشترك بعد في معركة، قُبِل بناءً على تزكية من طباع الديك نفسه. وجزع الديك. إنه في الحلقة الرابعة من عمره ويصغر معلمه بعام واحد. ورغم سوء ظنه بالمهمة وحذره من مقالب معلمه فقد خاف أن تفلت منه فرصة العمر؛ لذلك هتف: لا أحد لها سواي.

فقال المعلم بهدوء: إنه شطا الحجري.

– ولكنه …

فقاطعه المعلم: لقد سبق، ولا حيلة لك.

غشيت الصمت كآبة، أيصير شطا الحجري الرجل الثاني إذا لم يهلك؟ تُرى ما هي المهمة؟ هل أنقذهم الخوف أو ضيَّعهم؟ أيهلك شطا أم يفوز؟ وماذا لو تكشفت المهمة عن تكليف يسير لا يشق على أحد؟ لقد تمنَّوا في أعماقهم أن يتقرر الهلاك مصيرًا لشطا. وتلهَّفوا على معرفة المهمة فتساءلوا: لم يعد محظورًا أن تكشف لنا عن سر المهمة يا معلم.

فقال المعلم بمرح: كل شيء مرهون بوقته.

وقام الرجل نافضًا عن عباءته ذرات الرماد ومضى نحو الحارة وهو يقول: تناسوا ما دار بيننا في هذه الليلة الحارة، فلا شأن لكم به!

٢

توارى المعلم عن الأعين. لزم الرجال أماكنهم من شدة الذهول. وجد شطا الحجري نفسه في بؤرة منصهرة بحرارة الأبصار والصيف. أراد أن يخرج من الحرج بكلمة اعتذار فقال: أعترف بأنني ما زلت أحبو في الذيل، ولكنها إرادة الله.

فقال رجل مغلفًا قوله بنبرة نذير: بل اخترت بإرادتك يا شطا!

فقال في استسلام: إنما يجري كل شيء بمشيئة الله.

فقال آخر بخشونة: للشيطان أيضًا دور في رحاب الفتونة.

فتغير مزاج شطا وقال بعناد: لقد أعددت كفني يوم انضممت إليكم.

فتلاطمت أصوات في سخرية: عفارم! عفارم! الطموح مهلكة، ولكنه حلم الفتوات!

ضاق شطا بصمت طباع الديك أكثر مما ضاق بسخريات الرجال. استأذن ناهضًا ثم غاص في الظلمة.

استقبلته أمه في بدروم عمارة الجبلي، سِتهم الشهيرة بالغجرية تستيقظ عادة مع الفجر لتتهيأ ليوم عمل كادح. قال: حدث الليلة أمر عجيب.

وقصَّ عليها ما جرى. عكس وجهها المتجعد الكالح انفعالات متضاربة، تفكَّرت حتى وجمت ثم قالت: يا لك من متعجل!

فتحامى الجدل، فقالت: إنك لمجنون يتحدى الجميع بلا تدبر.

فاتجه نحو منامة فوق الكنبة صامتًا، فقالت: لم يبقَ لي من ذَكَر سواك، أخواتك في بيوت أزواجهن، لعنة الله على شيطانك.

فتمتم بامتعاض: لا تتوقعين إلا الشر!

– أتحسب أن الفتونة لهوٌ؟!

رغم قلقه واضطرام أفكاره فقد أسلمه الإرهاق إلى نوم عميق.

٣

استيقظ شطا الحجري عند الضحى. اجتاحته ضوضاء الحياة. ما زال الصيف يزفر نارًا. استيقظت معه ذكريات الليل. لم يُلقِ إليه المعلم بأية إرشادات. هل ينتظر حتى تجيئه إشارة؟ كلا، عليه أن يتحرك. ليتحرك حتى لا تنفرد به الأفكار. قرر أن يذهب إلى دار الديناري. أول مرة يعبر البوابة العملاقة. اخترق فناءً واسعًا. إلى اليمين مجمع نخلات مثقلة بالبلح الأحمر وإلى اليسار إصطبل. سمح له بالانتظار في منظرة. طالعته في الجدار الأوسط بسملة مذهبة تشرف على الأرائك والبساط السنجابي. حتى أذان الظهر انتظر ثم جاء الرجل. خُيِّل إليه أنه يرى رجلًا آخر. لأول مرة يرى شعر رأسه الأسود، ولأول مرة يخطر أمامه في جلباب فضفاض أبيض، أما رائحة المسك فهي دائمًا تنتشر منه. تربع فوق الكنبة الوسطى ثم أشار إلى الأرض قائلًا: اجلس.

فتربع على مبعدة قصيرة من موطئ قدميه، ثم قال كالمعتذر: جئت بلا دعوة.

قال ووجهه لا ينم عن شيء: لو لم تفعل لاعتبرت الأمر كأن لم يكن.

فحمد الله في سره على أول توفيق يصيبه. وسأله الرجل: ماذا قال الرجال أمسِ عقب ذهابي؟

– اتهموني بتجاوز الحد.

– هي الحقيقة بالقياس إليهم هم.

فحمد الله في سره مرة أخرى، على حين رجع المعلم يسأل: ماذا عن أمك الغجرية؟

– قلقة وخائفة.

– لو لم تقدم لاتهمتُك بالجبن!

انقطع الكلام قليلًا حتى قال شطا: إني رهن إشارتك.

فمد ساقيه قائلًا: دلِّك ساقي.

فشمَّر شطا عن ساعديه وراح يدلِّك الساقين المدمجتين بارتياح وفخار. تواصل الصمت حتى تساءل المعلم: ما الذي دفعك إلى القبول؟

فبادره شطا بحماس: أن أحظى برضاك.

– كاذب، أو نصف كاذب، إنه الطموح، ولكن لا فتونة بلا جنون.

لم يدرِ ماذا يقول. ترامت من بُعْدٍ صيحات الغلمان ونداءات الباعة وحوار النساء، ثم تساءل المعلم: مستعد؟

– رهن الإشارة.

فقال الرجل بوضوح: اغتسل، ارتدِ ملابس جميلة، اعثر على أجمل بنت في الحارة، ثم اذكرها لي!

ثقلت يداه وأوشكتا أن تتوقفا عن التدليك. ما سمعه لم يتوقعه قط. ظن المهمة مغامرة لا يطيقها إلا الأفذاذ. ما تصور أن تكون مهمة خاطبة، بل الخاطبة أشرف. لا يمكن أن تقتصر المهمة على ذلك. ما هي إلا مقدمة لاختبار الطاعة. الحذر الحذر من التردد، الطاعة أو الضياع. ما يُعرَف من قسوته مثلما يُعرَف من مكارمه. إنه ولا شك لم يقل كل شيء، فلينتظر. لكن وجهه لا يعد بمزيد! أخيرًا تساءل: أهذه هي المهمة بلا زيادة؟

قال المعلم ببرود: لا أسمح بأي سؤال.

تركه يدلك ساقيه في صمت، ثم سحبهما قائلًا: مع السلامة.

٤

وهو يغادر الدار شعر بالندم، بل بالغضب. ربما ضُرِب يومًا مثلًا للحماقة والسخرية. الفتى الذي طمح إلى السيادة فعمل خاطبة، أو قوَّادًا ذا قرنين، وسيكون نادرة أخرى إذا هرب. ولكنه وعده بالمكانة الثانية إذا نجح. وهو الوفاء إذا وعد. فكيف يشك في جدارة العمل؟! إنه لأحمق إذا تهاون مع سوء الظن. إنها محنة حقًّا ولكن وراءها ما وراءها، فليصمد وليصمد وليمحق الريب.

وسألته أمُّه ستهم الغجرية بلهفة: خبِّرني ما هي المهمة؟

أجل، إن المعلم لم يكلفه بالكتمان، ولكنه شعر بأن الأمان في الكتمان، والكرامة أيضًا تلزمه به. فليذعه المعلم إن شاء أن يبلوه؛ لذلك قال: الأسف والمعذرة.

فصرخت المرأة: من يُخفِ عن أمِّه سرًّا فهو ابن حرام.

وهتفت أيضًا: أنت وشأنك ولتتجرَّعنَّ الندم.

وقال لنفسه: «تقدم بلا تردد». ذهب إلى حمَّام الأمير وأسلم جسده إلى المغطس. ارتدى جلبابًا جديدًا ولاثة منمنمة ومركوبًا أخضر ومضى منوَّر الشباب كالبدر. استحال عينينِ حذرتينِ، تسعيانِ وراء الجمال حيث يكون؛ في النوافذ، عند صنبور المياه، في سوق الخردوات والحلي. كلما لمح حسنًا سجله في ذاكرته وواصل السعي. وصادف في سعيه رجالًا من العصابة يراقبون ويتساءلون. ضاعف من حذره مطمئنًّا إلى أنهم لم يقفوا على سرِّه بعد. تمنَّى أن يحافظ المعلم على السر كما يحافظ عليه هو. تمنَّى أن يعثر على ضالته حتى تنجلي الحقيقة عارية. أجل ستنكشف مهمة الخاطبة عن المجد لا الندم.

وكان يستريح في مقهى النجف عندما جلس إلى جانبه طباع الديك. انقبض صدره ولكنه ابتسم. هو الذي زكَّاه عند المعلم يومَ قبلُ. صديق أسرته الذي يعتبر ستهم الغجرية أمًّا له. قدَّم له الشاي حبًّا وكرامة. ابتسم الرجل وقال: أصبح لك مظهر الوجيه لا الفتوة!

إنه يستدرجه ولكن هيهات. وتمتم الرجل: لا تستقر في مكان!

بادله الابتسام دون أن ينبس، فقال طباع الديك: لا أريد إحراجك، هذا أول ما تطالبني به علاقتنا الطيبة.

فتمتم شطا بأسف: معذرة يا صاحب الفضل.

– إني عاذرك، ومقدر لحالك، ولكن واجبي كصديق للأسرة يطالبني بأن أحذِّرك.

– تحذرني؟

– معاذ الله أن أحرضك على إفشاء سرٍّ؛ ولكنك حديث عهدٍ بنا، فلا تعرف فتوتنا كما أعرفه.

فقال شطا بصدق: الحارة كلها تعرفه!

– لعلها لا تعرف مثلي حبه الدعابة والعبث.

ارتعد قلبه، ولكنه قال بقوة يغطي بها على ارتعاده: الدعابة لا العبث، إنه جاد كل الجد.

– لمَ صفح عن زميلنا الأعجر؟ ولمَ أصر على عقاب شعراوي القفا؟

ارتعد قلبه مرة أخرى، ولكنه قال: ثمة سبب يعلمه ونجهله، إنه أبعد ما يكون عن العبث.

– إذا أردت الاستشهاد بالأدلة، فستجد ما يؤيد جديته وستجد ما يؤيد عبثه.

– لا، لا تقِسْ ما يقع في حارتنا بما يحدث أحيانًا في الغرزة.

– ولكن المغامرة التي تقدمت لها حدثت في الغرزة.

فقال مجاهدًا غيوم القلق: لكن نتيجتها ستطبق على الحارة!

– صدقني يا شطا، لِمَ لَم أقدم على المهمة رغم أنني أجدر الرجال بها؟! حدثني قلبي بأنه يهيئ للعبث مقلبًا!

هز شطا رأسه نفيًا واحتجاجًا، فقال طباع الديك: ثم إنه لا يتأثر بالعواطف، وهو قوي كما نعلم جميعًا، فمن ذا يضمن وفاءه؟ بل هبك هلكت — لا سمح الله — فلم يُعِن أمك، فمن ذا يحاسبه؟!

لزم شطا الصمت بنظرة رافضة، فنهض طباع الديك قائلًا: الله معك!

فقال شطا: هيهات أن تتزعزع ثقتي به.

وأتبعه ناظريه وهو يلعنه.

٥

الوساوس والهواجس تخامره. طباع الديك لا يذكر العبث بلا دليل. أجل إنه مغرض وحاقد وخائف، ولكنه لا يهذي. على ذلك فهو يصر على جدية معلمه. رغم غرابة ما كُلِّف به. رغم الغموض المتعمد من الآخر. رباه! ما العمل لو كان يعبث به حقًّا؟! ما العمل لو تبدد الجهد نظير لا شيء؟ ما العمل لو تناثرت قوائم حياته فيما يشبه المزاح؟!

وهو يحاور نفسه طالعه فجأةً وجه يمرق من الملاءة السوداء كالضوء. وجه نفاذ الحلاوة بهيج الأثر. ما تمالك أن قال لنفسه وهو ينتفض بانتعاش غامر: «لعلها هي!» في الحال تناسى وساوسه وهواجسه وحلَّ بقلبه الظفر. لعله رآها قبل ذلك ولكنها عبرت في غفلته بلا أثر. سرعان ما تبعها عن بُعْد على إيقاع تموجاتها الراقصة، حتى عطفة البرادة وحتى غيابها في عمارة ريحان المتهالكة. هي هي ضالته المنشودة، فمن تكون؟ عليه أن يجمع المعلومات الكافية. الناجح من يحافظ على السر ويجمع المعلومات الوافية. أفعم قلبه بالإلهام والثقة. وحلم بالمكانة الرفيعة الثانية. ودعا الله أن يتم المهمة دون مساس بكرامته. ومن حظه السعيد لاحت في النافذة، لمحها ولمحته أيضًا بنظرة خاطفة. في العطفة كوَّاء بلدي وبيَّاع طعمية ولكنه تجنب سؤال الأنفس المتطفلة. استدرج غلامًا يلعب، فسأله: يا شاطر، من يسكن في الدور الثاني؟

فأجاب الولد: عم طناحي بيَّاع الطعمية.

آه! ثمة شبه بين الكهل والبنت الفاتنة. رجع إلى بيته مستوصيًا بالحذر. ورغم ما بينه وبين أمه من جفاء سألها: هل تعرفين أسرة عم طناحي بياع الطعمية؟

فتجاهلته حتى كرر السؤال، فسألته بدورها: لماذا تسأل؟

– حديث دار في المقهى حول بنت جميلة له.

– زوَّجت له بنتين وبقيت الصغرى وداد، صغيرة ولكنها أجمل البنات.

فقال مخفيًا انفعاله: ذاك ما قيل عنها.

– قل لمن يتحدث إن الطائر قد حلق في السماء.

– السماء؟!

– ما زال الأمر سرًّا، ولكني الوحيدة من غير الأسرة التي تعرف أن معلمك الديناري خطبها منذ أسبوع!

– حقًّا؟!

– حظها السعيد، لا أهمية للسن ولا لكثرة الزوجات! ابعد إن كنت فكرت في القرب.

إذن قد خطبها الرجل قبل أن يكلفه بالبحث عنها. ولكن هل يغير ذلك من موقعه من المهمة؟ عليه ألا يُضيِّع وقته وأن ينسى ما سمع.

٦

قبع في مجلسه عند قدمي المعلم وراح يدلك ساقيه. الرجل يرتاح لذلك وهو يجيده. مهما يكن من أمر العاقبة فهو اليوم ألصق الجميع به. غير أنه لا يستطيع أن يقرأ وجهه. ألا ما أكبر الفارق بينه وبين البنت، في العمر والحجم وكل شيء. والرجل صامت يضن بالسؤال، فعليه هو أن يتكلم. قال: عثرت على البنت المنشودة يا معلم.

بعد هنيهة صمت، قال الرجل: انطق.

– الاسم وداد، كريمة عم طناحي، بالدور الثاني من عمارة ريحان القديمة.

– ألم تَفُتْك فرصة؟

– نعم.

– هل فطن أحد إلى مسعاك؟

– كلا.

– الكتمان في صالحك أنت.

– حرصت عليه، بحسن تقديري.

– إنك معجب بنفسك.

– فتورَّد وجهه الأسمر حياءً، تفاءل بالصمت، ثم تساءل: انتهت المهمة يا معلمي؟

فقال الرجل بلا مبالاة: الآن عليك بمغازلتها!

كأنما تلقَّى ضربة على نافوخه. هتف: مغازلتها؟!

قال الرجل ببرود: مع السلامة.

في الخارج لم يسمع صوتًا رغم الضوضاء، لم يرَ أحدًا رغم الزحام، لم يلقِ بالًا إلى متربص. المهمة تتعقد والمخاوف تتجسد والأشباح تتخايل. ها هو يحمل أمرًا من معلمه بمغازلة خطيبة معلمه. وهو مطالب بإبلاغه بالنتيجة. هيهات أن تؤاتيه الشجاعة على الكذب. أهي طريقة لاختيار الرجل الثاني حقًّا أم الأمر عبث في عبث؟ الليل تتكاثف ظلمته وتتوارى نجومه وراء السحب.

٧

وجد نفسَه بعد ذلك بين اثنتَين؛ الهرب أو الصمود. قرَّر أن يصمد. ليس وراء الهرب إلَّا السخرية والضَّياع، أمَّا الصمود فإنه يمارِس فيه رجولتَه، وَلْيكُن بعد ذلك ما يكون. ربما انتهى به الصمود إلى شماتة الحاسدين، ولكن الهرب يُنذِر بما هو أفظع. وكلما تَعقَّدت الأمور وانبَهَم المغزى على إدراكه، قال لنفسه مستهينًا: ليست السلامة بالغاية المُفضَّلة في هذه الدنيا.

وانطلق في أثرها يخط بالقدم مصيره ومصيرها. تعرَّض لها في نافذتها، تبعها إلى دكان الخردوات وهي بصحبة أمها، وهبها عينين حادتين وهي تمر أمام مقهى النجف. تطايرت نظراته الموشاة بالبسمات الخفية معلنة عن عاطفة لا وجود لها. وفي فرح شهده وكانت وداد بين المدعوات قاربت بينهما نظرة طويلة، فغمز لها بعينه ملقيًا بنفسه في فم القدر. إنها الآن تعرفه تمامًا وتخمن مقصده، فليتها تغضب، ليتها تشي به عند والديها فتنقذه من المجهول، وتنقذ نفسها. لكنها لم تغضب. بل مرحت في دلال معلنة محاسنها كاشفة عن استجابة واضحة. قال لنفسه بحزن إنها لا تهمها الفتونة، إنها تؤثر الحب على الجاه، إنها حلم الشباب المثالي، وا أسفاه!

ومضى في الطريق مستسلمًا، لاغيًا عقلَه. حتى ضمهما يومًا زحام يحدق بالحاوي. تزحزح خفية حتى استقر جنبها. ولما التفتت نحوه همس: يا جميلة.

فالتفتت عنه في دلال مشجعة على المزيد، فهمس: أقول إن جمالك …

ولكنها قاطعته هامسة ومعلنة استجابتها في الوقت نفسه: الناس! الناس!

– صدق من قال إن العاشق مجنون.

– أنت لا تعرف كل شيء.

فهمس متخطيًا أشباحه: أعرف أنك مخطوبة للديناري.

فرمقته بدهشة وإكبار وهمست: إنه سر.

– لكني أعرفه.

– لن تحظى بأحد يقبلك.

– المهم رضاكِ أنتِ.

فتساءلت متظاهرة بالتركيز على يد الحاوي وهو يلاعب الحية: أي فائدة تُرجى؟

– لنتقابل على انفراد.

– أمر عسير.

– الشمس تقترب من المغيب، زاوية الدرمللي مكان آمن.

– ولكن …

– سأسبقك، لا تضيعي فرصتنا الوحيدة.

ومضى نحو الميدان ثم انعطف إلى الزاوية. اضطرب خافق القلب. ثمة أمل ضعيف في أن يستردها العقل في آخر لحظة. أن تثوب إلى رشدها وتندم.

لكنه رآها مقبلة في شجاعة تثير الدهشة.

٨

استغرق اللقاء الخفي دقائق معدودة في الركن المتواري المعتبر مأوًى للمجاذيب. سألها: لديك فكرة عن الخطر الذي يتهددنا؟

فأجابت بثبات أكبر من سنها بكثير: نعم.

– لا سبيل أمامنا إلا الهرب إلى الأبد.

فتمتمت: ليكن.

وبانتهاء اللقاء الأول انعقدت سحب التعاسة فوق رأسه. وقع في حفرة لم يقدر مدى عمقها من قبل. غزاه صدقها وشجاعتها وبراءتها. صدقته تمامًا، وهبته قلبها النابض، وضعت مصيرها بين يديه. دهمته أيضًا استجابتها غير المتوقعة. هاله الدور القذر الذي يمثله بمهارة فائقة. ألم يخشَ لحظات من جانب معلمه العبث؟ ها هو يعبث بالطهارة والبراءة! لماذا؟ من أجل أن يعتلي الموقع الرفيع الثاني في جماعته. أيهون عليه حقًّا أن يتم مهمته فيدفع بالبنت إلى الهاوية؟ كلا! لم يكن يومًا من أهل ذاك المنحدر. وما أغراه بالانضمام إلى جماعة المعلم إلا استزادة من الشرف، وهيهات أن ينسى نظراتها المحبة الواثقة. ولا صوتها العذب وهي تتمتم: ليكن.

هل يبيع ذلك كله من أجل مهمة غامضة كلَّفه بها رجل عظيم حقًّا، ولكنه معروف بأطواره المحيرة؟! كلا، فليقدم على ذلك وغد من الأوغاد لا رجل يهيم بالحياة السامية.

هكذا جلس عند قدمي معلمه وقد قرر أن شرفه أعلى من المهمة الغامضة.

٩

قال واعيًا بإقدامه على ما هو أخطر من قبول المهمة نفسها: البنت عاقلة لا سبيل إليها!

فقال موجود الديناري بهدوء: أنت كذاب.

تطلَّع إليه بذهول مؤمنًا بأنه قد انتهى. السر افتضح، وفاته أن يفترض ذلك. إنه لم يخنه فقط، ولكنه أساء الظن أيضًا بقدرته، وانقلب أتفه من لا شيء. وراحت يداه تدلكان ساقي الرجل بآلية في صمت ثقيل، حتى قال الرجل بجفاء: انطق.

فقال باستسلام: الصدق ما قلت يا معلمي.

– كيف غفلت عن أنني أمتحنك أنت لا هي!

فقال بأسًى: إني غبي ولكنني لم أستطع أن أكون وغدًا.

– فلتهنأ بالشهامة والعصيان!

فقال بيأس: أعترف بأنني أخفقت في القيام بالمهمة.

فتساءل المعلم بسخرية: ما هي المهمة؟

– ما كلفتني به يا معلمي.

فصمت الرجل قليلًا ثم قال: أقول لك يا أعمى استمر!

فتمتم شطا بذهول: أستمر؟!

– وأبلغني عن كل خطوة في حينها.

فاشتد الذهول بشطا وتساءل: أيعني ذلك أنني ما زلت مكلفًا بالمهمة؟

فندت عن يد المعلم حركة تدل على ضيقه وقال بحزم: اذهب.

١٠

إنه يغوص في الظلمات بلا مرشد. خلا إلى نفسه في البدروم الذي تهجره أمه طيلة النهار سعيًا وراء الرزق. تجرد من ثيابه دفعًا لحر ذاك الصيف. فليفكر وليفهم. لقد أخفق في المهمة واستحق غضب الرجل. كان عليه أن يدرك أن للمعلم عيونه أيضًا. لماذا إذن يأمره بالاستمرار عوضًا عن أن يعلن فشله أو يُنزِل به عقابه؟ أيمنحه فرصة جديدة؟ كلا، لا تمنِّ نفسك بالأوهام. هل المهمة شيء آخر غير ما وضح له؟ أيريد أن يخفف من عقوبته بعد أن خسر الثمرة؟ هل يسوقه إلى العقوبة من حيث لا يدري؟! ثمة أمر يقيني وهو أنه يتعمد إلقاءه في الحيرة. ما أعجزه عن الإدراك المطمئن، ولكن لا مفر من الاستمرار. إنه يفهم الآن مغزى تردد طباع الديك رغم قوته وشجاعته. أما هو فما أشبهه بلاعب السيرك الذي يترصده الهلاك عند الخطأ. فليذهب إلى الموعد المرتقب. لن يخفى شيءٌ عن الرجل. عليه أن يهتدي إلى ما ينبغي له فعله قبل أن تتبدد حياته هباءً.

•••

وعندما أقبلت نحوه قبيل المغيب، عندما منحته ابتسامة اللقاء، نسي مخاوفه، استهان بالعواقب، محق شكوكه، غمره رضًا وسلامٌ، خفق قلبه بعمق، اكتشف أنه يحبها. أجل إنه يحبها كما تحبه وأكثر. لعله أحبها من بادئ اللعبة وهو لا يدري. وفي ظل الحب حظي باليقين. ومهما يكن من غموض معلمه أو عبثه فقد هداه إلى الحب. عليه أن يدمجه في مصيره ويحملهما معًا. لقد محاها مرضاة لضميره وها هو الحب يلحق بالضمير ويجاوزه. لا أهمية الآن للمهمة ولا للدفاع عن النفس ولا للبقاء في الحارة. الهرب! الهرب! إنه الحقيقة الباقية. تلقاها بحرارة وسط ضوضاء المجاذيب. يوجد حتمًا من يراقبهما ولكنه سيلوذ بالمفاجأة.

– أهلًا بك يا وداد.

ثم بجدية بالغة: ليس لدينا وقت نضيعه.

تساءلت بنظرة من عينيها السوداوين فقال: الآن وجب الهرب.

فاضطربت متمتمة: الآن؟!

– قبل أن تفلت الفرصة إلى الأبد.

فتفكَّرت وهي تعبث بأناملها بقلق ثم تساءلت: أأنت مستعد؟

– معي من النقود ما يكفي في البداية.

– إلى أين؟

– أقرب وآمن مكان، الدرب الأحمر.

– لا صديق لنا فيه.

– جميع الدروب معادية، ولكن فتوته الشبلي خير من غيره.

– وإذا أبى حمايتنا؟

– لا أظن، سأجعل نفسي في خدمته، وإلا ولَّينا وجهة أخرى.

فوجمت كالمترددة، فقال: لا اختيار منا وثمة أعين ترقبنا!

فقلقلت عيناها من الخوف، فقال: سنمضي من توِّنا وسوف تكون مفاجأة لم يتوقعها أحد، هذه هي فرصتنا.

– إني معك، ولكن فلنؤجل التنفيذ حتى أستعد.

– إنها فرصتنا الوحيدة.

هكذا مضيا في الطريق الجديد مضطربين مصممين سعيدين، يموتان ويولدان من جديد.

١١

مضى شطا الحجري من فوره إلى مقابلة المعلم الشبلي في داره القديمة. صدمه الفارق الشاسع بين دار الديناري الباهرة وهذه الدار الهرمة، بين هيكل معلمه المترامي وجسم هذا الرجل النحيل الذي تأهَّل للفتونة بخفة النمر ودهاء الثعلب. قال شطا: جئتك مقدمًا الولاء وطالبًا الحماية.

سُرَّ الفتوة للجوء أحد أتباع الديناري إليه، ولكنه قال: حدثني عما ألجأك إليَّ.

ولم يجد شطا بدًّا من الاعتراف الكامل بحكايته ليسوِّغ ما أقدم عليه من سلوك غريب. وضحك الشبلي طويلًا وقال: معلمك يحيط نفسه بالغموض، في الظاهر استجلابًا للاهتمام، وفي الحقيقة ليداري جنونه المؤكد.

فأحنى شطا رأسه ليخفي ضيقه ولاذ بالصمت، فقال الشبلي: لك الحماية والإقامة، ماذا تريد أيضًا؟

– أن تقبلني في جماعتك.

فقال الفتوة بصراحة جارحة: أما هذا فلا، لا أمان لرجل خان معلمه!

أصابت الطعنة مقتلًا، فقال بحرارة: أردت ألا أكون وغدًا!

– نحن نفضل الوغد المطيع على الشهم المتمرد.

– لك ما تشاء وعليَّ الرضا بالمقدور.

– ألك حرفة؟

– كنت نجَّارًا قبل أن ألتحق بالجماعة.

– مارس حرفتك واحذر أن تلعب بذيلك.

فقال بانكسار: إني أنشد السلامة يا معلم!

رجع شطا إلى وداد وقد خسر أشياء لا تعوض. ومن نقود الديناري المدخرة لديه تزوج واكترى حجرة وأثاثًا بسيطًا. استقر في مسكن وعمل كما استقر الحزن في أعماق نفسه. لقد اعتُبر في الدرب آية على تفوق فتوة الدرب، ولكنه عومل كغريب. وأراد أن يهتك ستار الغربة فقال في المقهى: كان أحد أجدادي من الدرب الأحمر.

فسأله شيخ الحارة متحديًا: أجئت من أجل ذلك؟

فبادره وقد فطن إلى ما وراء السؤال: بل جئت طلبًا لحماية فتوة معروف بشهامته!

وتساءل في نفسه: تُرَى كم من زمن سيجري قبل أن ينهضم مقامه ويألف ويؤلف ثم يتناسى أحزان الماضي كله؟!

وقال لوداد: دفعنا إلى المر ما هو أمر منه.

فقبَّلته قائلة: إني غير نادمة.

– لقد اعترفت للشبلي بحكايتي، والآن آن لي أن أعترف لكِ.

وقصَّ عليها قصة علاقته بها منذ خرج للبحث عنها حتى وقع في حبها. وأصغت وداد واجمة، وصمتت مليًّا، ثم قالت: قصة جميلة، ولكنها لا تخلو من رعب.

فقال بحرارة: لم يبقَ لنا إلا أن نسعد.

ولكن حتى الليلة الأولى لم تخلُ من تنغيص ومن حزن. لقد حظي بالحماية ولكنه باء بسوء الظن والاتهام كما ثبت أنه غير أهل للثقة. وتساءل أناس هل يرجع الديناري إلى المعارك غضبًا لكرامته خارقًا ما التزم به من تعهدات سلمية — هو والشبلي — أمام الشرطة؟! هل يثبت شطا الحجري أنه شؤم على المكان الذي وفر له الحماية، كما كان عارًا على المهد الذي وُلِد ونشأ فيه؟!

وانعكس ذلك كله على شطا وتسرب إلى حنايا وداد، فلم تخلُ الليلة الأولى من شهر العسل من تنغيص ومن حزن.

١٢

في صباح اليوم التالي ترامت إليهما أنباء عما لحق بأهلهما من تحرش وتضييق في الرزق، وتعرض لشتى ألوان الإهانات والقهر. في السوق أيضًا سمعت وداد اللعنات تُصَبُّ على جمالها الذي يهدد الحارة والدرب. رجعت إلى مسكنها شاحبة الوجه منهزمة وهتفت بعين دامعة: أبي وأمي وأخواتي!

فتمتم شطا بنبرة حزينة: أمي وأخواتي أيضًا!

تبادلا نظرة طويلة حائرة. أفصحت النظرة عن أشياء انحبست وراء معانيهما. قالت النظرة إنهما اندفعا مع عاطفة طاغية دون تفكير في العواقب. الحق أنهما لم يشعرا بصفاء السعادة إلا في رحاب الاندفاعة المذهلة. الآن يعترضهما جدار سميك من الحقائق المرة بأنيابها الحادة. وكالغريق الذي يتعلق بقشة قال شطا: وراءنا طريق مسدود، وعلينا أن نستخلص من القمامة جوهرة السعادة المفقودة.

فتأوهت قائلة: اللعنات تطاردني في الطريق.

– علينا أن نجعل من الحاضر ماضيًا.

فنكَّست وجهها صامتة فرجع يقول: فعلنا ما هو صواب ومشرف.

– ولكننا نسينا العواقب، دعنا نبحث عن رزقنا في مكان آخر.

– لن يخفف ذلك البلاء عن أهلنا.

– والعمل؟

– لا مفر من مواصلة الحياة.

– لكنها مليئة بالمرارة!

فقال بضيق: لا مفر ولا حيلة!

١٣

في مساء اليوم الثالث استبقاه الشيخ ضرغام إمام الزاوية عقب صلاة العشاء، وقال له: عندي رسالة إليك من الشيخ عقلة إمام حارتكم.

أصغى شطا بفتور وتشاؤم، فقال الشيخ: إنه يخبرك بأن ما يعانيه أهلك وأهل زوجك فوق ما يحتمل البشر.

فتقبض وجه شطا وهو يقول: الحزن يمزق قلبي!

– أيكفي ذلك؟ الناس هنا يتساءلون كيف تنعمان بالحب على حين يؤدي أهلكما عنكما ضريبة العذاب؟

– أهل الدرب هنا يكرهوننا يا مولاي.

– إنهم معذورون.

– فقال شطا متنهدًا: من الأوفق أن نذهب.

– إلى أين؟

– إلى أي مكان.

– والمعذبون وراءكم؟

– فقال شطا باستياء: كأنما تدعونا إلى الموت!

– إني أخاطب ضميرك.

– ضميري هو ما ساقنا إلى هنا، والمسألة أننا ضحية عبث.

– عبث؟!

– أجل، عبث لا معنى له.

– ولكن، انظر، ما من فعل إلا وله سببه وله هدفه أيضًا.

– لقد خُدعت فكُلِّفت بمهمة عابثة.

– ألم تكن تطمح إلى أن تكون فتوة حارتكم ذات يوم؟

– أيعني ذلك أن أكون ألعوبة في يد الغير؟

– من أجبرك؟

– عظيم، لقد اخترت بعد ذلك أن أفعل ما رأيته صوابًا.

– وها هو يتكشف عن أخطاء فمن ذا يصلحها؟

– وإذا سرت إلى الهلاك بقدمي فهل تدافع عني أنت؟

فقال الشيخ ببرود: الهلاك نهاية كل حي، ولكن يوجد الخطأ كما يوجد الصواب أيضًا.

شكره بجفاء وقام ماضيًا نحو مسكنه. شعر بأنه يمضي إليه كارهًا، فتعجب من ذلك غاية العجب.

١٤

وجد في الحجرة غشاوة صفراء — مشبعة بحرارة الصيف — لا تستطاب فيها لقمة ولا يخفق قلب بالحب.

تبادلا النظرات في صمت مشحون بالكآبة. أعاد على مسمعها حديث الشيخ. وتبادلا النظر أيضًا. كأنما تقول له «أنت السبب». إنهما تعيسان وما بينهما يتدهور كلبنات البنيان الآيل للسقوط. تنهد قائلًا: الحياة لا تطاق.

فأمَّنت قائلة: هي كذلك.

اعتراف ينذر بالمأساة. تساءل كمن يتحسس ضرسًا مريضًا: هل نهجر الدرب ونعيش بلا مبالاة؟

– تقول ذلك بلسانك لا بقلبك.

فتساءل متحديًا: ما عسى أن نفعل؟

– أرشدني فإنك أنت الرجل.

استشف في قولها سخرية أثارت غضبه، فقال غاضبًا: ما من شقاء إلا وراءه امرأة.

– فليسامحك الله، ولا تنسَ أنك بدأت بخداعي.

– ستصبين الأخطاء فوق رأسي.

– كنتَ القائد وكنتُ التابعة.

– هذا هو الظاهر. اللعنة!

فهتفت محتجة: ما دمت قد أحببت فإني أستحق أكثر من ذلك.

– ما أعجب أن نذكر الحب في مثل حالنا!

– لكِ عليَّ ألا أذكره.

وندم على ما فرط منه. ما جدوى الغضب؟ وكبح نفسه قائلًا وهو يجفف عرقه: نحن نهرب في الغضب من مواجهة أنفسنا.

– طيب أن تذكِّر نفسك بذلك.

فقال كالمعتذر: وداد، إنك امرأة ناضجة رغم صغر سنك، لك مزايا عظيمة، الفتونة لم تخلب لبك فأخلصت لنداء قلبك، تحديت الحارة وهربت معي، ناضجة ومحترمة، عظيم، اقترحي عليَّ.

فقالت متأثرة بندمه: اقترح أنت.

فتفكَّر قليلًا ثم قال: الشك يمزق قلبي، أأنا ضحية عبث؟ أم العبث من خلق تعاستي؟ في مثل حالي هذه لا يحسن بي أن أتخذ قرارًا!

– تستطيع أن تتخذ قرارًا في جميع الأحوال.

فتنهد قائلًا: سأُحمِّل الشيخ ضرغام رسالة إلى معلمي القديم موجود الديناري أسأله عن شروطه لكي يعفو عنا.

فصمتت غير قليل ثم تمتمت: افعل، لا حيلة لنا، لا أتوقع خيرًا.

١٥

جاءها بالرد مساء اليوم التالي أو اليوم الرابع في مقامها الجديد. قال لها بوجه ناطق بحيرته: كما توقعت.

فقال بأسًى: لم أتوقع خيرًا.

– إنه أفظع من ذلك، لقد قال للرسول: «قل للأعمى أن يستمر.»

فانتقلت الحيرة إلى وجه وداد وغمغمت: أن تستمر؟!

– هذا ما ردده في آخر لقاء لي معه.

– تستمر في ماذا؟

– لم يزد عما قلت ولم ينقص.

– أهذا هو شرطه ليعفو عنا؟!

– لم يجرِ للعفو ذكر في جوابه.

– لا شك أنك تفهمه خيرًا مني.

– إنه يتعمد إبقائي في الحيرة حتى أجن!

– ليته يقنع بذلك ويعفو عن أهلنا.

فضحك ضحكة جنونية وقال: لن يكف يده عنهم قبل أن أصدع بأمره وأستمر.

– إذن فعليك أن تستمر.

– في ماذا؟

– لمَ لا تستوضحه؟

– فعل الرسول ولكنه لم يرد. الشيخ ضرغام نفسه قال عنه إنه يتعذر التفاهم معه، بيد أنه نصحني بأن أفعل ما يمليه عليَّ ضميري.

– رجعنا إلى ما قبل السؤال.

– توهمت مرة أنه يعني أن أستمر في المهمة!

– ولكنك أخفقت من أول خطوة.

– لا أستطيع أن أحكم لأنني لم أطلع على كل ما يدور في رأسه.

فتساءلت نافدة الصبر: أهلنا هل ينتظرون حتى نحل هذه الألغاز؟

فقال متجاهلًا مقاطعتها العصبية: توهمت مرة أخرى أنه يدعوني إلى إصلاح الخطأ.

– هل يقبل الحل الذي ترتئيه؟

– لا أدري البتة!

فهتفت: ثمة مهمة عاجلة، وهي أن نرفع العذاب عن أهلنا وأن نبعد عن هذا الجو المعادي لنا.

– بل يعني أن نرجع إلى الحارة.

– لا يمكن أن نرجع ونحن زوجان وإلا عد ذلك تحديًا له.

– يجب أن نرجع.

– قال بأسًى: وداد، إنك تفكرين في التخلي عني.

فشهقت بالبكاء ولم تدرِ ما تقول، فقال: هبنا انفصلنا فهل يعفو عنا؟

– ثمة أمر مؤكد وهو أنه سيكف عن أهلنا وسننجو من هذا الدرب البغيض.

فتمتم كالمتردد: من يدري؟

فقالت بوضوح: إني راجعة.

– يلزمنا مزيد من التفكير.

– نحن نزيدهم عذابًا، ونتعذب أيضًا، فلنقدم ولنكل أمرنا إلى الله.

١٦

عليه أن يستأذن المعلم الشبلي صاحب الفضل والحماية. إنه حريص على النزاهة بقدر ما هو متهم بالخيانة. شعر مرة أخرى بالفارق الكبير بين الدارين، دار الشبلي ودار الديناري. هنا فناء واسع ولكنه موحش ولا زرع فيه، والإصطبل تفوح منه روائح أليمة. وتجري الأبراص بين عُمَد الأسقف البارزة. الشبلي نفسه لا ينعم جسده بالنظافة إلا حين انطلاقه إلى المقهى. أجل إنه — بخلاف الديناري — واضح، ولكنه وضوح الابتذال والتفاهة. والحق أنه رغم كل ما كان لم يحب الشبلي ولم يبغض الديناري. وقد مهد لمطلبه قائلًا: لن أنسى فضلك ولا ما وجدته في دربك من أمن.

فقال المعلم ببرود: لعله يثمر معك.

فقال متصبرًا على اللطمة: لن أنسى فضلك أبدًا.

– ماذا تريد؟ أراهن على أنك لم تحضر للسؤال عن صحتي!

– صحتك دائمًا عين المراد، المسألة أننا لم نعد نطيق البقاء مع ما بلغنا عن انتقام الديناري من أهلنا.

فتساءل الرجل في سخرية: أجئت تطالبني بحماية أهلكم؟!

– ما إلى هذا قصدت، ولكننا قررنا الرجوع إلى حارتنا، وليفعل الله ما يشاء.

– هل ترجع بخطيبة معلمك وهي على ذمتك؟

– سيكون الطلاق ضمن ما نقدم من تضحية.

فتهلل وجه الرجل وقال: هو الصواب ولا لوم عليك.

– لذلك جئتك مستأذنًا في العودة.

– لك ما تشاء، ولكن يجب أن يتم الطلاق هنا!

– لكن حدوثه في الحارة خير لنا.

فقال بإصرار: أرى أن يتم هنا.

فتساءل شطا في ارتباك: وما وجه الحكمة في ذلك؟

– لترجع زوجتك إذا رجعت بمشيئتها لا بحكم كونها زوجتك.

– ولكنها صاحبة الاقتراح.

– ولو، قد تُغيِّر رأيها وتؤثر البقاء وحدها!

قالها بوضوح غليظ، فأدرك شطا من فوره أن الرجل يريدها لنفسه، فقال بقلق: هيهات أن أنال العفو عن الأهل إذا رجعت وحدي.

فقال بقحة ونبرة منذرة: لا يهمني ذلك!

فقال متوسلًا: معلمي …

ولكنه قاطعه قائلًا بخشونة: لقد قدمت لك خدمة لا توزن بثمن، وجاءت نوبتك لترد إليَّ بعض الجميل.

تردد شطا، فواصل الرجل غاضبًا: اذهب وطلِّق!

١٧

اهتز عودها الرشيق من الغضب وهتفت: لن يكون هذا أبدًا.

فرمقها شطا بحزن ويأس مدركًا عمق المأزق الذي وقع فيه، فهتفت: فلنهرب!

فقال بذهول: هيهات أن يتيسر لنا ذلك.

فحدجته بنظرة غاضبة وقالت: لقد أخطأت بذهابك إليه.

– فعلت ما يقتضيه الواجب.

– دائمًا يقودك تصرفك إلى مشكلات لا حل لها.

– إني أفعل ما يمليه عليَّ ضميري!

فقالت بحنق: لا شك أنه يطالبك بأن تحمي أيضًا زوجتك.

فهتف بغضب: أجل، ولكن ما حيلتي؟

– هل يمكن أن تتركني له ثم تذهب؟

فتمتم شاردًا: غير ممكن.

– ماذا تنوي أن تفعل؟

– لا أدري.

– إنه يتوقع أن تصدع بأمره.

– أجل.

– هل تصدع بأمره؟

– كلا!

– ماذا تنوي أن تفعل؟

– لا أدري.

– أكاد أن أجن.

– ما أنا إلا رجل مفرد أمام عصابة في درب لا صديق لنا فيه.

– إنك تفكر في التسليم.

– إنك لا تفكرين إلا في ذاتك.

فقالت محذرة: شر ما نفعله في موقفنا الحرج أن نتشاجر معًا.

– من الخير أن نذكِّر أنفسنا بذلك.

عند ذاك دق الباب، فنهض شطا إليه يفتحه، فدخل الشبلي يتبعه مأذون الحي ونفر من رجال العصابة.

١٨

ابتسم الشبلي عن ثنيتين ذهبيتين وقال: جئنا لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه!

تراجعت وداد إلى ركن الحجرة وهي تحبك جلبابها حول جسدها متسائلة: أي اتفاق؟

ردد الشبلي عينيه بينهما ثم قال بهدوء منذر: ها هو المأذون، واختر من الرجال شاهدين.

فغلى دم شطا في عروقه وملكته نشوة كالتي دفعته إلى قبول المهمة في غرزة المنارة، فقال: لا اتفاق بيننا يا معلم.

فاربد وجه الشبلي وتساءل: ألا تريد أن تطلق؟

فقال شطا وهو يفتح صدره على مصراعيه للمجهول: نعم.

فرنا إليه مليًّا بين رجال متوثبين في صمت يشل الخواطر، ثم التفت نحو المأذون قائلًا: اذهب فلا حاجة بنا إليك.

ولما أغلق الباب وراءه قال: لي طريقتي، ولكل شيخ طريقة، ولديَّ دائمًا ما هو أفتك من القتل!

وتنحى جانبًا وشطا يتابعه بعينيه أما الرجال فاتجهوا نحوه متحفزين، فصرخ به شطا: تقدم أنت يا جبان.

انقضوا عليه فدارت معركة حامية. كال لهم ضربات صادقة، وتلقى ضربات مجنونة. صارع بقوة وشجاعة ولكن اختل توازنه فهوى. ارتمى عليه الرجال فأشبعوه حتى نزف الدم من بين أسنانه وأنفه. وأوثقوا يديه وقدميه وجلس أثقلهم فوقه. مضى الشبلي نحو وداد وهو يقول مخاطبًا شطا: فلترَ بعينيك عاقبة عنادك!

١٩

أخيرًا خلت الحجرة لهما. تحطمت قوائم الكنبة الوحيدة وتفزر حشوها، وتغطت الحصيرة بالطين والتراب، وفاحت رائحة العرق. ذهب الرجال مخلفين روائحهم والجريمة. تكوَّمت وداد ممزقة الملابس وطرح شطا على الأرض ملوثًا بالدم معذبًا بالوعي. حجز بينهما صمت وشعور عميق بالحرج. أما الحزن والغضب فقد استقر في أعماق الروح. وتملص من الصمت فقال: لا تحزني، أنت بريئة وطاهرة.

تحجرت نظرتها أكثر، فقال متأسفًا: بذلت المستحيل!

تحركت من مرقدها. سوت ثوبها، مضت مترنحة إلى الدهليز عادت قابضة على سكين. تمنى لو تغمدها في قلبه. راحت تقطع وثاقه. تحرك متأوهًا وراح يجفف دمه بطرف جلبابه. أخذ راحتها بين يديه مغمغمًا: يا للتعاسة!

فقالت بصوت غريب: لنذهب.

فقال متوعدًا: لأقتلنَّه ذات يوم!

– قد تُقتَل قبل ذلك، فلنذهب!

– لا شك أن الحكاية تتردد الآن في سوق الدرب.

فقالت بكآبة: ستسبقنا إلى الحارة أيضًا.

ثم رفعت منكبيها استهانة وتساءلت: أين يتم الطلاق؟

فصرخ: لن أطلق أبدًا!

فاتسعت عيناها في ذهول، فقال بإصرار: أبدًا! أبدًا!

– وعذاب الآخرين؟!

– إني ماضٍ إلى مقابلة الديناري ومواجهة المستحيل.

٢٠

غادر شطا الحجري ووداد مسكنهما فيما يشبه الزفة. أحدق بهما الرجال، فتبعوهما حتى عبرا بوابة المتولي مخلفَين وراءهما الدرب الأحمر وذكرياته الدامية.

قال شطا: لم يبقَ لنا إلا أن نواجه مصيرنا بشجاعة.

فتمتمت وداد: من يصدق أننا لم نلبث في الجحيم إلا خمسة أيام!

– ساعة واحدة كافية إذا حُمَّ القدر.

ونفخ غاضبًا ثم استدرك: ليت في الوقت متسعًا للصبر حتى يزول الورم عن أنفي وشفتي لأرجع إلى الحارة على الحال التي تركتها عليها.

– هيهات أن ترجع تلك الحال!

– فقال متوعدًا: لي رجعة إلى الدرب الأحمر!

– فلنفكر فيما نحن مقبلون عليه.

– لن أعرف الجبن والتردد بعد اليوم.

وقبيل مدخل الحارة بخطوات وشمس الظهيرة تصب على الميدان نارًا، رأى طباع الديك يدخن نارجيلة أمام دكان النجار. انقبض صدره، وانقبض أكثر عندما نهض الرجل طارحًا خرطوم النارجيلة على المقعد مقبلًا نحوه في ترحاب ظاهر: أهلًا، لم تُخلق الغربة لنا.

صافحهما ثم وقف يردد عينيه بينهما ثم قال: قلبي معكما، إنها لمأساة حقًّا!

فتساءل شطا نافد الصبر: أتنوي الشماتة بنا؟

فقال مستفظعًا: الشماتة! أنسيت أني أعتبر أمك أمًّا لي؟ أنسيت تزكيتي لك عند المعلم؟ أنسيت تحذيري لك في الوقت المناسب؟ أنسيت أيضًا أنني أعتبر الاعتداء على عِرضك اعتداء على عِرضي أنا؟!

آه، إذن وصلت الحكاية مع أشعة الشمس! وهتفت وداد محتدة: إني شريفة رغم أنف الجاحدين.

فقال طباع الديك: وجه زوجك يشهد بشجاعته في الدفاع عنك.

فهتف شطا: لن ينجو المجرم من العقاب.

– شهم ابن شهم، ما عليك الآن إلا أن تنال عفو المعلم.

– هذا ما جئت من أجله.

– الأمور معقدة، ولكن متى كانت الدنيا يسيرة؟ وكلما ازداد الرجل همة ازدادت الدنيا له تعقيدًا، ولكن لن ينسى أبدًا أنك كنت السابق إلى قبول المهمة!

فقال شطا بعصبية: لن يخدعني كلامك المعسول، لقد علمتني المصائب في أيام ما لم أتعلمه في عشرين عامًا، وهيأتني لمواجهة المصير أيًّا يكون.

– عفارم، لا يعيبك إلا سوء ظنك بالناس، وشر سوء الظن ما حاق بالأصدقاء، وكان يجب أن تعلم أن الشماتة ليست من شيم الفتوات!

٢١

قال شطا لوداد وهما يمضيان نحو الحارة: إني لا أصدقه ولا أثق به.

فقالت وداد بعدم اكتراث: ولا أنا.

وهما يدخلان الحارة همست وداد بخوف لأول مرة: ما أفظع لقاء الناس.

فقال شطا بتحدٍّ: ليكن ما يكون.

انتبه لهما قليلون راوحت نظراتهم بين الشماتة والازدراء. همس شطا: فلنسرع نحو دار المعلم.

ترامت إلى أذنيهما تعليقات: الهاربان.

– الخائنان.

– المهتوكان.

أخيرًا طالعتهما البوابة العملاقة.

٢٢

ها هو موجود الديناري. ها هو وجهه الذي لا يفصح عن شيء. مثلا أمامه في ذل واستسلام. ولما لم يتكلم أو يوحِ برغبة في الكلام قال شطا: ليس في نيتي الاعتذار، ذنبي أكبر من ذلك، ولكني جئت مسلمًا نفسي لتقضي بما تشاء.

لزم المعلم الصمت. ترى أيخفي وراء الصمت غضبًا؟ أم سخرية أم عبثًا؟ ونفد صبر وداد فقالت: لن نسألك شيئًا لأنفسنا، ولكننا نطلب الرحمة لأهلنا الأبرياء.

– لم يتغير مظهره ولكنه تساءل بهدوء: ماذا يشكو أهلكم؟

– إنهم يعانون العقاب الذي استحققناه نحن.

– هل تحريتم ذلك عند أهلكم؟

– كانت دارك مقصدنا الأول، ولكن ذلك ما بلغنا في مهجرنا.

– كذب ما بلغكم!

فذهل شطا كما ذهلت وداد، أما المعلم فقال: إني فتوة الحارة وحاميها وليس من مذهبي أن آخذ البريء بالمذنب.

فقال شطا بحماس: هذا هو المأثور عن شهامتك.

– ولكنكما صدقتما ما بلغكما مما يقطع بسوء ظنكما بي.

فتمتم شطا استحياءً: الغربة أفسدت عقلنا.

– ما دام هذا التصور الخاطئ هو ما دفعكما إلى المجيء، فلكما أن ترجعا ولن يتعرض لكما أحد.

فهتف شطا الحجري: لا حياة لنا إلا أن تقضي في أمرنا بما أنت قاضٍ.

– لا أصدقك فقد عهدتك تقول قولًا وتفعل نقيضه.

– كان الحرص على الشرف وراء كل فعل فعلته.

– إذن أنت تتهمني بأنني أكلفك بما يناقض الشرف!

فقال شطا بحماس: معاذ الله يا معلمي، ولكنك تضن عليَّ بإدراك مطالبك.

– إما أنني عاجز عن التعبير وإما أنك عاجز عن الإدراك.

فقال شطا وهو يعاني مرارة القهر: أعترف بعجزي، ولكن ما حيلتي؟ لقد أرسلت إليك من يسألك عن شروطك للعفو عني فكان الجواب «قل للأعمى أن يستمر.» أستمر في ماذا؟ فكرت في إصلاح الخطأ فماذا كانت النتيجة؟!

عند ذلك قالت وداد وكأنما تجيبه عما يسأل: كانت المأساة الدامية والفضيحة التي سبقتنا إلى الحارة.

– لعلكما تتصوران أنني المتهم!

فهتف شطا: معاذ الله، حسبنا الآن أن نتلقى حكمك.

فأشار المعلم إلى وداد وهو يسأل شطا: ما زالت على ذمتك؟

– اتخذنا قرارًا بالطلاق والرجوع، ثم كان اعتداء الأثيم، فأقلعت عن فكرة الطلاق إلى الأبد.

– وإذا أمرت بتطليقها؟

فأحنى شطا رأسه صامتًا ويائسًا، فقال المعلم: في الصمت جواب.

فقال شطا: إني أنحدر من خطأ إلى خطأ، ولن ينتشلني من العذاب إلا أن تقضي فيَّ بما ترى.

فقال المعلم مخاطبًا وداد: إني أقرأ في عينيك فكرة أخرى، ما هي؟

فقالت وداد بجرأة غير متوقعة: أن تعفو عنه وأن تعيده إلى جماعتك!

– حقًّا إنك أنسب شريكة لمن كان مثله.

فقالت ثملة بجرأتها: حسبنا ما ذقنا من عذاب، وحسبه ما أبدى من شجاعة.

فالتفت المعلم نحو شطا متسائلًا: أهذا رأيك أيضًا؟

فقال شطا بانكسار: إني منتظرٌ قضاءك!

– يا لك من ماكر.

– مثولي بين يديك يقطع بصدقي.

– بل أنت تريد أن تتوسل بالحكم إلى إدراك ما غمض عليك.

فقال مغلوبًا على أمره: أروم حياة مطمئنة.

أمسك الرجل عن الكلام حتى تشبع الصمت باللهفة والأشواق، ثم قال: استمر!

فتطلع إليه شطا في حيرة بل في فزع، فقال الرجل: هذا هو الحكم، استمر!

فقال شطا بحرارة: أريد كلمة واضحة محددة.

فقال المعلم: لقد أضجرتني فاذهب.

٢٣

مضى بزوجه إلى بدروم عمارة الجبلي. كانت أمه — ستهم الغجرية — في الخارج فجلسا وحيدَين. اجتاحته الحيرة والتشاؤم بخلاف وداد التي راحت تقول: كان بوسعه أن يضربك أو يطردك من الحارة أو يصر على طلاقنا، الحق أنه عفا عنا. فتساءل: ماذا منعه من النطق بالعفو؟

– لعله عز عليه أن ينطق به بعد ما كان منك، ولكن ألا ترى أنك حر، لم ينلك أذًى، وأنك ستواصل الحياة مثل بقية الناس؟

– لم يتركني حرًّا، أمرني أن أستمر، ثبتني في أعماق الحيرة، لم يطردني من العصابة ولم يرجعني إليها، لم يعاقبني ولم يعفُ عني، لم تند عنه كلمة واحدة تدل على الرضا ولا على الرفض!

فقالت بحرارة: عش حياتك ولا تشغل بالك بألغاز لا حل لها.

– ولكن كيف؟ ألا يجوز أن أحاسب فجأة على أنني «لم أستمر»، ما زلت أشعر بأنني مكلف بأمر ما، غير أنني أجهله هذه المرة جهلًا تامًّا.

– يخيل إلى أن محور همك يدور حول إيمانك بجديته المطلقة، أليس هو في النهاية رجلًا يجد حينًا ويلهو حينًا آخر؟ أليس من المحتمل أنه يميل إلى العبث وأنه وجد فيك مادة صالحة لعبثه؟ أبعده عن ذهنك وعش حياتك ولن تلقى مكروهًا أبدًا.

– لو افترضت به العبث لانقشعت الحيرة من أساسها، ولكنه رجل أقوى من الطاحونة وأدق من الساعة.

ثم رماها بنظرة مقطبة وتساءل: أيرضيك أن ترجعي ما حل بنا من شقاء وتضحية إلى اللهو والعبث؟!

•••

ولما رجعت ستهم فرحت بعودته، ولكنها رحبت بفتور بوداد. وقبل مضي يوم راحت تعاتبه على ما جرَّ على نفسه من سوء السمعة. والحق أن أقرانه لم يداروا عنه احتقارهم، وكاد أهل الحارة يقاطعونه مقاطعة كاملة. اضطر إلى أن يبحث عن رزقه بعيدًا عن الحارة، وتجرع الغربة وهو بين الأهل والجيران.

وتساءلت وداد بمرارة: متى تُنسى حكايتنا؟

فقال لها: إنه عقابه الذي لم يعلنه.

فصرخت: بل إنهم أوغاد ولا رحمة في قلوبهم.

فغمغم شطا وكأنه يهامس نفسه: استمر! استمر! ما معنى هذا؟!

٢٤

مضت الحياة بمرها الكثير وحلوها القليل. ظل شطا يسعى خارج الحارة ويعيش فيها بلا صاحب، وقبل أن ينقضي الصيف الثقيل وقع الشبلي فتوة الدرب الأحمر في خطأ لا يغتفر. راح يتباهى بأنه اغتصب وداد خطيبة الديناري على مرأًى من شطا الحجري «رجله الثاني». ترامت الأنباء إلى الحارة مصحوبة بأغانٍ داعرة صاغت الحادثة في قالب مزاح ساخر، وإذا بالحارة تشهد تعبئة لم تشهدها من قبل. تسلح الرجال بالنبابيت والخناجر، وشحنت عربات بالزلط والقوارير وخردة الحديد. وانضم شطا الحجري إلى الرجال دون أن يدعى إلى ذلك وهو يقول لنفسه: «جاء اليوم الذي أحلم به.» وكانت غزوة مفاجئة وفي رابعة النهار. نشبت معركة حامية ما زالت ذكرياتها حية في رءُوس الكهول ودوائر الأمن. وحقق شطا حلمه، فطعن الشبلي طعنة قاتلة متلقيًا في الوقت ذاته عشرات الضربات القاتلة. وكان من جراء ذلك أن ثار غضب المحافظة فاتخذت قرارها الحاسم!

٢٥

عندما درجت في مدارج الوعي كانت حكاية الديناري قد انطوت في أعطاف التاريخ، ولكنها كانت ما تزال حية في القلوب. لقد قُضِي على المعلم بالسجن عشرة أعوام، ولما أُفرج عنه فُرضت عليه رقابة دائمة، فابتاع مقهى النجف ومارس حياة مواطن كسائر المواطنين. جلس على كرسي الإدارة مجللًا بالشيخوخة والمهابة والذكريات الباقية. وقد قُتل شطا الحجري في مواجهة بطولية محت العار عن سمعته وكفَّرت عن زلته، فنشأ ابنه الوحيد رضوان محوطًا بالاحترام. وقيل إن الديناري تكفل بدفنه، فأُوِّل ذلك بأنه تقدير أخير له، وبولغ في التأويل حتى قيل إنه اعتُبر رجله الثاني. وقد رأيت بعيني وداد وهي امرأة تجاوز الأربعين، وكانت تبيع الخوص والريحان في مواسم زيارة المقابر. وأدركت موجود الديناري وهو يدير النجف وقد مضى عهد الفتوات والفتونة. اختفى الرجال وبطلت الشعائر، فأصبح الرجل في نظر القانون صاحب مقهى وتحت المراقبة الدائمة، ولكنه ظل في نظر العباد فتوة الحارة وحاميها، حتى الشرطي وشيخ الحارة لم ينجوا من دفقة الشعور العام، فكانا يختصانه بالاحترام وحسن المعاملة. أجل زالت عنه تقاليد الفتونة، ولكن بقي له السحر الخفي الذي لا يبالي بالقوانين والأوامر الإدارية، بقي له التاريخ والمهابة والأثر الحي.

هكذا جذبني مقهى النجف قبل أن أبلغ سن الشباب. وكنت أجلس في ركني المنعزل أسترق إليه النظر بشغف المعجبين وخيال العاشقين.

وكان يتجلى بهاؤه في الأعياد، فكأنها لم تخلق إلا له. كان يجلس على الأريكة متلفعًا بعباءة جديدة، ممشطًا اللحية والشارب، وتمر أمامه عربات الكارو محملة بالنساء والرجال والأطفال في أثوابهم الجديدة الملونة في هالة رائعة من الطبل والزمر والرقص:

يا فتوتنا
يا ديناري
يا حبيبنا
يا ديناري
يا حامينا
يا ديناري

ثم تدوي الهتافات والزغاريد، ويثمل العاشقون بكئوس المجد والعشق والحنين العارم إلى النصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤