الرسالة

في البدء كان الخوف.

حلق الشارب واللحية. استبدل بالجلباب والجبة بدلةً. سمى شخصه الجديد «سالم عبد التواب» بدلًا من عليش الباجوري الذي عُرِف به دهرًا. ابتاع أرضًا وبنى بيتًا فأقام في شقة وأجَّر تسعًا. تجنَّب الاختلاط بالناس ما وسعه التجنُّب. عاوده الخوف من الزوايا والأركان، من الظلمة والضوء، من الهواء المشحون بأنفاس الخلق. يحذر نفسه من القضاء والمصادفة وسوء الحظ، فعند ذاك يستقر سهم الموت في قلبه، وتتلاشى الحياة في غيبوبة المجهول. قوة القانون الصلدة قضت عليه بالإعدام، وكلفت الجلادين بالتنفيذ، فلم تبقَ إلا الضربة القاضية. في سبيل النجاة اقتلع شخصه من جذوره، من الماء والحيوان والشجر. وتعز عليه الطمأنينة إلا في غيبة الأحلام والكوابيس. هكذا تتواصل المطاردة جيلًا بعد جيل، تدفعها قوة عمياء مقدسة.

•••

– اذهب والله معك.

– والغربة في بلاد الغربة؟!

في كل مكان ثمة حياة تتدفق وهي مقدسة مثل الموت!

•••

في البدء كان الخوف.

ولكن لا دوام لحال. الشروق والغروب، تلاحم المعاملات وتبادل التحيات، والتنفس والخفقان، أحلام اليقظة وأحلام المنام، كل أولئك من شأنه أن يلطف التوتر، ويستأنس الشوارد، ويُحِلُّ عادة في محل عادة، يوهم بأن الأمور ستمضي غدًا كما مضيت أمس. ثم أليس لكل أجل كتاب؟ وأن تستسلم للمقادر أخف من أن تشقى دومًا بعذاب الخوف، وأن تعيش يومك خير من أن تعاني هولًا لم يجئ بعد؟ لذلك مضى يختلف إلى المقهى ويجالس الجيران ويلاطف السكان. مَن يخطر له أن ينعطف إلى هذه الحارة المنزوية؟ من ينقِّب في صحراء عن حبة رمل مضرَّجة بالدماء؟ ويفكر جادًّا في المشاركة في المقهى، أن يحظى بنعمة الحب والزواج والإنجاب. أن يمارس الحياة بما يليق بالحياة، وأن يطالبهما بما هو حق للإنسان.

وتتم المشاركة، وتقوى أسس المعيشة، ثم يتقدَّم إلى الشيخ الحلبي طالبًا يد كريمته.

– مَن هو سالم عبد التواب؟ مَن هو عبد التواب؟!

– لا غبار عليه كرجل عرفناه أعوامًا.

– إنه مقطوع من شجرة!

– أي مخلوق يتسلسل في النهاية إلى آدم وحواء.

– ألا تخشى أن يظهر لأحفادك ذات يوم أعمام من الليمان؟

– في كل سلالة مجرمون وما يهمني إلا الرجل نفسه!

•••

اقترن سالم عبد التواب من عظيمة كريمة الشيخ الحلبي، وراح ينجب البنين والبنات. استقرَّ قلبه في أمان شامل أو شبه أمان، فهو يمارس الحياة، والأعمار بيد الله وحده.

أجل تناوشه أحيانًا أفكار معتمة، يخاف ما تفرضه حياته الزوجية من اتساع، سيلزم مرات بمغادرة الحارة، سيمضي إلى السوق أو المدرسة، ولكن ألا يجيء الموت مع السلامة كما يجيء مع الخطر؟!

•••

وتلقَّى ذات يوم رسالة.

«جاء الأجل!»

غُفْل من الإمضاء وليس بها إلا هذه الجملة. واردة من حي السيدة كما يقر بذلك خاتم البريد. اقشعرَّ بدنه برعدة خوف شاملة. وتفجر الرعب من مكامنه. جاء الأجل، هل عُرِف في النهاية مخبؤه بين البيت والمقهى والأولاد؟ ولكن مهلًا، لِمَ أراد المجهول أن ينذره؟ لِمَ لَمْ ينقض عليه وهو غافل في نعمة العسل؟ لماذا يعرض انتقامه للفشل؟ لماذا يعرِّض نفسه وهدفه إلى يقظة قاتلة؟ لماذا يهبه فرصة للنجاة؟ أم يريد وقد تمكن منه أن يعذبه؟

جاء الأجل.

ما العمل؟ ما الطريق؟ هل يفشي السر القديم إلى أهله فينفخ فيهم حياة جديدة مليئة بالفوضى والشغب؟ هل يلجأ إلى الشرطة وإن جرَّه ذلك إلى الاعتراف بجريمة أكبر؟ أم يكتفي بالحذر وبالمسدس الذي لا يفارقه؟ وأيًّا ما كان الأمر فقد تعكَّر صفو الحياة، واربدَّ ماء البحيرة الرائق بقنبلة أعماق متفجرة.

رجع الخوف كما كان في البدء. إنه لا يغادر البيت إلا لضرورة ملحة. يتفحص الوجوه بريبة دائمًا، يراقب الرائح والغادي، يتحسس بكوعه مسدسه، يختلس نظرات الحنان والأسى من زوجته وأبنائه.

•••

مرة قال له شريكه في المقهى وهو يشير بذقنه إلى رجل جالس غير بعيد: كلَّفني أن أسألك إن كان عندك شقة خالية.

رأى رجلًا بدينًا غليظ الأشداق ذا جبهة متحدية يستقر في عباءة فضفاضة، فقال بقلق: ليس من حارتنا!

– بيَّاع فراريج ومستعد لدفع الخلو.

– واضح أن البيت مسكون.

– ترامى إليه أن شقة ستخلو قريبًا.

– كيف عرف ذلك؟

– من أدراني أنا؟!

– لقد اتفقت مع ساكن جديد، أتعرف الرجل؟

– عرفته في سهرة عند السمرائي ثم جر الكلام بعضه بعضًا.

وذهب الشريك يخبر الرجل بنتيجة مسعاه، ومضى هو يقيسه طولًا وعرضًا. توقَّع أن يصرف النظر عن موضوعه، ولكنَّه قام بخفة لا تناسب بدانته وقدم نحوه فجلس وهو يقول: الطيبون للطيبات.

فجعل ينظر إليه ببلاهة فقال الرجل: محسوبك كريم البرجواني، تحت الأمر فاطلب ما تشاء.

فقال بحسم: العفو، سبق مني وعد شرف.

– جميل أن يحافظ الإنسان على عهده.

تجنَّب سالم تشجيعه ولو بابتسامة ولكن الرجل قال: ما قيمة النقود؟ ما هي إلا عصافير!

ونهض الرجل وهو يقول: لكننا على أي حال أصبحنا صديقين.

وأتبعه عينيه وهو يمضي عن الحارة، وراح يتساءل ترى هل يعرف الكتابة؟ أهو كاتب الجملة أم إنه وحش مجهول رابض وراءه!

ودُعي يومًا إلى شهود ذكر ببيت جار. فراعه أن يرى كريم البرجواني جالسًا بين المدعوين. ماذا أقحمه على الحارة بهذه القوة. ورآه وهو ينضم إلى حلقة الذكر فيغوص في موجاتها المتلاطمة الراقصة ويسبح حتى بُحَّ صوته، ثم تهاوى في الختام فوق الحصيرة فاقد الوعي مثل ثور ذبيح. قال لنفسه إن خوفه من هذا الرجل غباء مطلق، فما هو من قريته، ولا هو من الصعاليك الذين يُؤجَّرون للقتل. ولكن الرسالة نذير جاد وخطير، ليست دعاية مازح!

•••

وعندما كان مدعوًّا للعشاء على مائدة حميه قال له الشيخ: رجل يريد الشقة التي ستخلو أول الشهر.

– مَن يا مولاي؟

– يدعى كريم البرجواني.

– فارتعد سالم وسأل حماه: تعرفه؟

– كلا … استشفع بي دون معرفة سابقة.

– سبق أن رفضت طلبه.

– لِمَ؟

– منظره لا يوحي بالثقة!

– أنت وشأنك ولكني وجدته شهمًا وطيبًا!

الرجل يتعقبه. إنه يريده هو لا الشقة، ولكن لمَ حذره بالرسالة؟ أيوجد وراءه مطارده القديم؟! كلا. ما الأمر إلا دعابة. له منافسون وكارهون، فالحياة لا تخلو من ذلك أبدًا. أحدهم يبغي إزعاجه أو السخرية من أحمق. أراد أن يلقي نظرة جديدة على الرسالة ولكنه لم يجدها في جيبه الداخلي، فتش عنها في مظانها جميعًا ولكنه لم يعثر لها على أثر. ذهب إلى الكوَّاء وفتَّش جيوب البدلة يظن أنه نسيها فيها ولكنه لم يعثر لها على أثر. أين اختفت؟ هل امتدت لها يد خفية؟ وتحرَّى الأمر مع عظيمة زوجته ولكنها قالت: لم يطرق ساعي البريد بابنا قط.

ولكنه تسلم الرسالة منه في الخارج. ولا بأس من أن يتوكد منه بنفسه. ولكن الرجل لا يتذكر شيئًا على الإطلاق. إنه يقرأ ويوزع ولا يتذكر. هل كان حلمًا مما يرى النائم؟ أم هل جاء دور عقله ليشك فيه! مرة وحيدة توهم أنه ابتاع صفيحة سمن، ثم سرعان ما كشف توهمه! وأرجعه إلى حلم رآه ونسيه في جملة مشاغله. ذاك وهم سرعان ما كشفه أما الرسالة فكأنما يشعر بمسها ويقرأ حروفها، كانت حقيقة لا شك فيها. وما اختفاؤها الغريب إلا نذير جديد.

•••

وكان يغادر بيته ليؤدي صلاة العيد، فتح الباب فرأى شبحًا. عرف وجه كريم البرجواني على الضوء الخافت المتسرب من ألق النجوم في ظلمة الفجر. تراجع خطوة … أخرج مسدسه. شعر بألم حاد. أطلق الرصاص وهو يغوص في الغيبوبة.

ما عرف — بالإضافة إلى ما سبق — إنما جاء على لسان كريم البرجواني في التحقيق، قال ذهبت لأداء صلاة العيد في الزاوية، ولمَّا مررت ببيت المرحوم سالم عبد التواب فتح الباب وظهر الرجل، أردت أن أحييه فإذا به يصوب نحوي مسدسه، خفت على حياتي، وبدفعة غير إرادية ركلته بسرعة فأصابت منه مقتلًا على حين انطلقت رصاصة قتلت صبي الفرَّان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤