الشيطان يعظ

مسرحية في فصل واحد
مستوحاة من «مدينة النحاس»
ألف ليلة وليلة

١

(حجرة ذات أسلوب مغربي يتصدَّرها ديوان يجلس عليه موسى بن نصير.)

(يدخل حاجب، ينحني تحية.)

الحجاب : مولاي الأمير، قد وصل الأمير طالب بن سهل مندوب أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان.

(موسى يقف ثم يتجه نحو الباب. يدخل الأمير طالب بن سهل على حين ينسحب الحاجب. يلتقيان بالأحضان وسط الحجرة.)

موسى بن نصير : أهلًا وسهلًا ومرحبًا برسول أمير المؤمنين.
طالب بن سهل : أهلًا بكم أيها الأمير موسى بن نصير، وإليك أحمل سلام مولانا الخليفة.

(يجلسان على الديوان جنبًا لجنب.)

موسى بن نصير : أطال الله بقاء مولانا للإسلام والمسلمين.
طالب بن سهل : تبلغنا أنباء طيبة عن المغرب.
موسى بن نصير : إنه يقبس أنواره من المشرق بفضل الله العظيم وحكمة خليفتنا.
طالب بن سهل : إنك أمير حائز الرضا فليتم الله نعمته عليك.

(طالب بن سهل يصمت قليلًا ثم يواصل.)

طالب بن سهل : معي إليك رغبة لأمير المؤمنين.
موسى بن نصير : إني رهن إشارة مولانا الخليفة.
طالب بن سهل : إنه يريد قمقمًا من قماقم العفاريت!

(موسى بن نصير يُؤخَذ بما سمع فيتطلع إلى محدثه صامتًا.)

طالب بن سهل : في مجلس سمر جرى الحديث إلى ذكر العفاريت العصاة حبيسي القماقم فتاقت نفس مولانا إلى امتلاك أحدها ليرى بعينه ويسمع بأذنه ويقتنع بعقله.
موسى بن نصير : رغبة مولانا واجبة عليَّ، ولكن ماذا أملك لتحقيقها؟
طالب بن سهل : قيل من ضمن ما قيل إنه توجد قماقم من قديم الزمان في صحرائكم.
موسى بن نصير : أشهد الله على أنني لا أعلم عنها إلا السماع والظن. ولكن ثمة رجلًا طاعنًا في السن يُعد أخبر الناس بصحرائنا، حاضرها وماضيها، فضلًا عما حباه الله به من حكمة، فلنرسل في طلبه.

(موسى بن نصير يصفق يدًا على يد، يدخل الحاجب. على حين يهبط الظلام.)

٢

(إضاءة.)

(موسى بن نصير وطالب بن سهل. يدخل الحاجب.)

الحاجب : الشيخ عبد الصمد بن عبد القدوس الصمودي.

(ينسحب الحاجب. يدخل الشيخ. عجوز وقور. يرفع يديه تحية. يشير له ابن نصير بالجلوس فيجلس على وسادة بين أيديهما.)

موسى بن نصير : مرحبًا بالشيخ المبارك.
عبد الصمد (حانيًا رأسه) : عظَّم الله المرسل ورسوله.
موسى بن نصير : إنك يا شيخ عبد الصمد رجل الصحراء دون منازع.
عبد الصمد : هي حياتي ومماتي أيها الأمير.
موسى بن نصير : لك علم ولا شك بما يقال عن قماقم العفاريت بها!
عبد الصمد (باهتمام) : هذا ما توكِّده لنا الكتب القديمة.
طالب بن سهل : في أي موقع من مواقعها؟
عبد الصمد : يقال إنها مستقرة في قعر بحيرة بمدينة النحاس.
طالب بن سهل : وما مدينة النحاس؟
عبد الصمد : مدينة قديمة، يقال إنها ازدهرت قبل التاريخ المعروف بعشرين ألف سنة، لا يُعلَم عنها أكثر من ذلك، لم يذهب إليها أحد ولم يجئ منها أحد، قد تكون حقيقة وقد تكون خرافة.
طالب بن سهل : ألم يسعَ ساعٍ إلى اكتشافها؟
عبد الصمد : ذاك ما يفوق طاقات الفرد والجماعة.
موسى بن نصير : مولانا الخليفة يرغب في الحصول على قمقم من قماقمها!
عبد الصمد (يصمت متفكِّرًا ثم يقول) : رغبة مولانا على الرأس والعين، ولكن الله أمرنا بالشورى، ومَن يمد سلطانه بقوة القرآن فليس به حاجة إلى قوة العفاريت!
طالب بن سهل : اقتضت حكمته أن يسخِّرها في خدمة الإسلام والمسلمين.
عبد الصمد : إنها مهمة شاقة حقًّا أيها الأمير، فعلينا أولًا أن نكتشف موقع فارس من نحاس إذا فركت يده أشارت إلى مكان المدينة.
موسى بن نصير : ستجد مني كل عون.
عبد الصمد : نحتاج إلى قافلة كاملة ومؤن، وقوة وسلاح، وحذر ودهاء، فلعل المدينة، ما زالت على قيد الحياة، ولعلها تستطيع التصدي للغرباء، بل لعل حاكمها قد سخَّر عفريتًا لخدمته.

(موسى بن نصير وطالب بن سهل يتبادلان النظر برهة.)

طالب بن سهل : لو كان لديهم عفريت مسخر لتسلطوا به على العالم.
موسى بن نصير : سأشرع من فوري لإعداد الحملة وسأكون على رأسها.
طالب بن سهل : ولن أتخلَّف عنها.
عبد الصمد : فليسدد الله خطانا وليجنبنا الضلال.

(يهبط الظلام.)

٣

(إضاءة.)

(مدخل مدينة النحاس. موسى بن نصير، طالب بن سهل، عبد الصمد بن عبد القدوس الصمودي.)

(ينظرون إلى الداخل وقد لفه ظلام الفجر.)

موسى بن نصير : يا لها من رحلة خيالية في مشقتها، لقد أرهقت الجند والجِمال.
طالب بن سهل : لم يصادفنا حولها حي.
موسى بن نصير : اصبر، سوف ينقشع الظلام وتشرق الشمس.
طالب بن سهل : أليس غريبًا أنه لا يوجد حارس واحد في مدخل المدينة؟
عبد الصمد : لعل عزلتها الكاملة أغنتها عن الحرَّاس.
طالب بن سهل : لم أعرف صمتًا كهذا الصمت.
عبد الصمد : أهو صمت النوم؟
طالب بن سهل : ألا ينبح فيها كلب أو يصيح ديك؟
موسى بن نصير : ترى أين موقع البحيرة؟
عبد الصمد : ناحية المشرق غير بعيد من المدخل.

(يأخذ الظلام في الانقشاع ويتجلى رويدًا داخل المدينة. ميدان مكتظ بالناس، في عمقه قصر، تقوم على دائرة محيطة الحوانيت وتتفرع عنه الطرقات. الرجال الثلاثة يتراجعون في حذر.)

موسى بن نصير : متى جاءوا؟ هل نستدعي الجنود؟
طالب بن سهل : انظر جيدًا، إنهم لا يتحركون.
عبد الصمد : أجل.
طالب بن سهل : لا حركة، لا صوت، إنهم أصنام.
موسى بن نصير : هذه وجوه آدمية لا تماثيل.
طالب بن سهل : صدقت، هل يتحركون فجأة؟
موسى بن نصير : انظر إلى هيآتهم، كأنهم تجمدوا بغتة، توجد امرأة على عرش، حولها حرَّاس وحُجَّاب، الجمهور منه من تجمَّد وهو يرقص أو وهو يهتف، هذه المرأة تجمَّدت وهي تزغرد، هذا الرجل تجمَّد وهو يصفق.
عبد الصمد : ليس في وسع حي أن يتجمد بهذا الكمال، ألا تطرف له عين؟
موسى بن نصير : أترى أنه الموت؟
عبد الصمد : إني أشم رائحته.
موسى بن نصير : وكيف لميت ألَّا يتهاوى ويتغيَّر؟
طالب بن سهل : وأين بقية السكان؟ ألا يجيء شرطي أو عابر سبيل؟
عبد الصمد : سأقدم على مغامرة، بسم الله الرحمن الرحيم (ثم رافعًا صوته) … يا هوه … يا عباد الله …

(صمت.)

موسى بن نصير : لا استجابة على الإطلاق.
طالب بن سهل : نحن حيال لغز.
عبد الصمد : لله ملك السموات والأرض.
طالب بن سهل : لا بد من اكتشاف الحقيقة … اتبعاني …

(يتقدم، يتقدمون في حذر، يلمسون المتجمدين، يشقون طريقهم بينهم حتى عرش المرأة.)

موسى بن نصير : هؤلاء بشر وليسوا بتماثيل.
عبد الصمد : أموات، ولكن أي موت؟
طالب بن سهل (مركِّزًا بصره على المرأة) : يا لها من امرأة جميلة.
موسى بن نصير : قصر جميل وحوانيت ثرية، متى وكيف تخلت عنها الحياة؟
طالب بن سهل : كيف حافظت على أشكالها وتوازنها، ما أجمل هذه المرأة!
عبد الصمد : قد يطول بنا الموقف، وهيهات أن نجد لهذا اللغز حلًّا، وقد نعود فيما بعد إلى هنا، أما الآن فلا يجوز أن ننسى مهمتنا.
موسى بن نصير (متحركًا وراء عبد الصمد) : صدقت.

(ثم ينظر خلفه إلى طالب بن سهل.)

موسى بن نصير : هلم أيها الأمير، هلم إلى البحيرة، احذر أن تقع في شراك وهم.

(يهبط الظلام.)

٤

(إضاءة.)

(موسى بن نصير، طالب بن سهل، عبد الصمد، يرمون بالشباك في بحيرة ويسحبونها في دأب وصبر. تخرج شبكة عبد الصمد وفيها قمقم.)

موسى : الله أكبر.
طالب بن سهل : قادر على كل شيء.
عبد الصمد : يسبح له الإنس والجن وكل حي وجماد.
موسى : قمقم صغير لا يتصور الإنسان أنه يحبس في بطنه هذه القوة اللانهائية.
عبد الصمد : انظر إلى هذا المفتاح الصغير الملصق بعنقه، إذا دُعِك خرج العفريت وأصبح طوع أمرنا.
موسى بن نصير : هل نقدم على التجربة؟
عبد الصمد : لا أنصح بذلك ولكننا نحاول الاتصال به.
موسى بن نصير : على الأقل ليتوكد لنا وجوده.
عبد الصمد (يُقرِّب إلى فمه عنق القمقم) : أيها السجين، تكلَّم بحق الله المتعال.
صوت الجن : أخيرًا وبعد عشرين ألف سنة من عذاب السجن.
عبد الصمد : من قضى عليك به؟

(صمت.)

صوت الجن : ارتكبت معصية رآها ماسة بشرفه.
طالب بن سهل : ستُحمل إلى أحكم الناس طرًّا مولانا الخليفة.
صوت الجن : كفاني عذابًا، أخرجني من القمقم أحقق لك ما تشاء نظير وعد بإطلاق سراحي.
طالب بن سهل : سيقضي الخليفة في أمرك بما هو قاضٍ.
صوت الجن : أصغوا إليَّ، إذا أخرجتموني وجدتم في خدمتكم قوة لا يقف أمامها بشر، بوسعي أن أجعل الخليفة نفسه عبدًا لكم، لا تضيعوا فرصة لا تعوَّض لإنسان مرتين.
موسى بن نصير : عليك اللعنة، ما زلت عاكفًا على الشر.
صوت الجن : ألا تحبون أن تسودوا الدنيا ومَن فيها؟
موسى بن نصير : ملكك اللعين أخرج أبانا من الجنة فهيهات أن تخرجنا من الدين!
عبد الصمد : ألك علم سابق بمدينة النحاس؟
صوت الجن : كيف لا وأنا الذي قضيت عليها بالموت المسحور.
موسى بن نصير : إذن هي مدينة ميتة؟
صوت الجن : تلقت ميتتها المسحورة منذ حوالي عشرين ألف سنة.
طالب بن سهل : عشرون ألف سنة؟! كأنما ماتت لساعتها، ولكن لمَ قضيت عليها بما قضيت؟
صوت الجن : وقع قمقمي بين يدي الملكة ضمن صيد لها أصابه صيَّاد القصر، ولمست يدها مفتاح القمقم وهي تقلِّبه فخرجت لها، وسرعان ما أدركت مدى القوة التي أذعنت لها، ثم وعدتني بإطلاق سراحي إذا حققت لها ما تشاء، وإذا بها تتمادى في غيِّها حتى الكفر، ولما كنت عفريتًا مؤمنًا بالله رغم معصيتي فقد غضبت وأنزلت بها الميتة المسحورة التي تُبقِيها على حالها لا تتغير عبرة للمعتبرين، نابذًا وعدها لي بالتحرر، هكذا ماتت المدينة ورجعت رغم إرادتي إلى البحيرة.
عبد الصمد : سوف نخبر مولانا الخليفة بتضحيتك في سبيل الله وستكون خير تمهيدًا للإفراج عنك.
صوت الجن : طال انتظاري للعفو والرحمة.
طالب بن سهل : لكن من يثبت لنا صدقك؟
صوت الجن : بوسعي أن أجعل المدينة شاهدًا على صدقي.
طالب بن سهل : كيف؟
صوت الجن : بوسعي أن ألغي سحر الموت عنها نهارًا فتشهد بعينيك ساعاتها الأخيرة.
موسى بن نصير : ألا يصيبنا سوء إذا عثروا علينا؟
صوت الجن : كانت مدينة عظيمة تموج بألوان البشر من الوافدين.
موسى بن نصير : وكيف نفهم لغتها أو تفهم لغتنا؟
صوت الجن : هذا عليَّ هين.
طالب بن سهل (بحماس) : لا بد من خوض هذه التجربة المثيرة، افعل أيها العفريت.
صوت الجن : إليكم آخر نهار من حياة المدينة، من طلوع الشمس حتى مغيبها.

(يهبط الظلام.)

٥

(إضاءة.)

(موسى بن نصير، طالب بن سهل، عبد الصمد، يقفون ناحية من الميدان غير بعيد من مدخل المدينة. يتابعون ما يحدث هنا وهناك وقد يعلِّقون عليه. ومنظر النهار يبدأ والميدان خالٍ إلا من شرطي يتقلَّد سيفه، ويتفقد الحوانيت. يمر عابر ثم آخر. يقبل التجار فيفتحون حوانيتهم ثم يقبل الزبائن نساء ورجالًا وشبانًا وتدب الحياة وتتصاعد.)

موسى بن نصير (ذاهلًا) : أيها الأموات.
طالب بن سهل (متأمِّلًا) : كما كنتم وكما نحن تكونون.
عبد الصمد : أموات لا يخطر لهم الموت ببال.

(من حانوت قريب تترامى أصوات. فتاة تقلِّب بين يديها أقمشة، وشاب أيضًا يفعل مثلها.)

التاجر (للفتاة) : إنه فاخر ومناسب وسيكون عليك فتنة للناظرين.
الفتاة : سأشهد به حفل زفاف في الشهر القادم، أرني أجمل ما عندك.
التاجر : إليك هذا الثوب وهو بخمسمائة.
الفتاة : الأسعار ترتفع بجنون.
الشاب : لكي تغطي أرباح الجشعين من التجَّار والحاشية!
التاجر (للشاب) : من أجل طول ألسنتكم ضاقت عنكم السجون!
الشاب : لن يبقى خارج الأسوار إلا العبيد.
صوت الجن (للرجال الثلاثة) : لم يحظَ بالسيادة في المدينة سوى الملكة والحاشية ورجال الأمن والتجار، وقد استعبدوا الشعب واستغلوه، ولما سقط القمقم بين يدي الملكة قرَّرت أن تستعبد جميع قبائل الأرض.
موسى بن نصير : الحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام فأنقذ كرامة البشر.

(يقبل شاب فتعترض سبيله فتاة جميلة ثم تتبعه مغازِلة إياه وهو يمتنع ويتدلل.)

الفتاة : كيف تسير وحدك يا جميل؟
الشاب : هذا وقت عمل أليس لديك ما يشغلك؟
الفتاة : ما يشغلني شيء عنك، تعالَ إلى نزهة وكأس عند البحيرة.
الشاب (مسرعًا) : إن لم تنصرفي ناديت الشرطة!
عبد الصمد (للقمقم الذي أخفاه في عباءته) : ما معنى هذا؟
صوت الجن : كان للنساء المقام الأول في المدينة وبخاصة في عهد الملكة ترمزين وكانت الفتاة هي التي تخطب عريسها وهي التي تغازل الفتى وهي التي تتمتع بحريتها الجنسية بخلاف الشاب.
طالب بن سهل (ضاحكًا) : إذن لم تخلُ المدينة من طرائف مفيدة!
موسى بن نصير (باسمًا) : انتظر خيرًا أيها الأمير فأنت الذي تمثل الشباب بيننا!

(تقترب متسولة من الرجال الثلاثة في جلبابها الرث.)

المتسولة (للرجال الثلاثة) : أعطوني مما أعطاكم الإله، أريد مأوًى ورجلًا وعبدًا ومورد رزق ثابت.
طالب بن سهل : فليرزقك الذي خلقك.
المتسولة (غاضبة) : عليكم اللعنة.

(يُقبل رجل مريض يتوكَّأ على ذراع زوجه.)

المريض (للرجال الثلاثة) : أين الطريق إلى المستشفى؟
موسى بن نصير : نحن غرباء لمْ نعرف مدينتكم بعد، شفاك الإله.
المريض : غرباء! إنكم أصل المصائب، تجيئون إلينا من أطراف الأرض حاملين أمراضكم معكم، فتسرقون نقودنا وتعطوننا أمراضكم.

(يبصق ثم يذهب.)

•••

(يقدم موكب رجل غني. عبيد يحملون هودجه، وعبيد يتقدَّمون موكبه وهم يوسِّعون له طريقًا بين الناس بالعنف.)

شابة (لزميل يتأبَّط ذراعها) : هذا سلوكهم، ماذا يفعلون غدًا وقد سخَّروا العفريت لخدمتهم؟
صوت الجن (للرجال الثلاثة) : أعترف لكم بأن هذا القول وأشباهه أثرت فيَّ إذ إنني كنت أنتمي إلى شعب العفاريت المضطهدين.

(رجل عجوز يقف ناحية من الميدان.)

العجوز الضرير : من يسمع كلمة تنفعه؟ من يسمع كلمة تنفعه؟

(يُقبل عليه نساء ورجال ذوو مظهر حسن وهم يتغامزون.)

امرأة (للعجوز) : ماذا عندك مما ينفع الناس؟
العجوز الضرير : إني أعمى …
امرأة (مقاطعة) : هذا واضح.
العجوز الضرير : ولكني أرى خيرًا منكم.

(ضَحِك.)

العجوز الضرير : أرى أشياء جميلة غير الشراء والربح والفسق والسكر وامتلاك العبيد.
كهل وجيه : يا لك من أعمى!
العجوز الضرير : وأرى الموت أقرب إليكم من أجسادكم.
أصوات : عليك اللعنة.

(يقترب الشرطي فيضع يده على منكب الضرير.)

العجوز الضرير : من أنت؟
الشرطي : شرطي، ماذا تقول؟
العجوز الضرير (في خوف) : أقول لهم إن خدمة الملكة ترمزين أهم من الربح وامتلاك العبيد.
الشرطي (بخشونة) : اذهب لحال سبيلك، مولاتنا الملكة ليست في حاجة إلى أحد.

(يخرج حاجب من باب مكتوب أعلاه «العدل أساس الملك».)

الحاجب : محكمة!

(يتوجَّه كثيرون نحو المحكمة ويقفون على مبعدة. يخرج شرطي سائقًا أمامه رجلًا معصوب العينين يئن بصوت مسموع فيدفعه بعيدًا عنه ثم يخاطب الجمهور.)

الشرطي : ادَّعى هذا الرجل أنه توجد نجوم لا تُرى بالعين فحُكم عليه بفقأ عينيه.

(يدخل الشرطي ثم يجيء بشاب يسير مفرِّجًا الجمهور.)

الشرطي : هذا الشاب طالب بمساواة الرجال بالنساء فقُضي عليه بالإخصاء.

(ضَحِك.)

(يدخل الشرطي ثم يرجع بنعش محمول. ثم يخاطب الجمهور.)

الشرطي : هذه جثة مجرم، احتجَّ جهرًا على تسخير جلالة الملكة للعفريت.

(ثم يرجع وهو يقول.)

الشرطي : وفي الغد البقية فإلى الغد …
عبد الصمد (للقمقم) : أهلكت المدينة كلها؟
صوت الجن : نعم.
عبد الصمد : وما ذنب هذا الشعب التعيس؟
صوت الجن : قررت إهلاك الظالمين بظلمهم والآخرين بنفاقهم وجبنهم.
عبد الصمد : ألم توجد بينهم مقاومة؟
صوت الجن : بلى، منهم من قُتل، ومنهم مَن هاجر فنجا.

(صوت طبل يجيء من ناحية القصر الملكي، الأنظار تتجه نحو القصر. يخرج الحاجب الأكبر محوطًا بحرس ثم يمضي حتى يقف في وسط الميدان. يلتف الجمهور حوله. حتى التجَّار يغادرون حوانيتهم. يقترب من الجمع موسى بن نصير وطالب بن سهل وعبد الصمد.)

(صمت.)

الحاجب الأكبر : إعلان هام من حضرة صاحبة الجلالة الملكة ترمزين إلى شعبها الوفي الأمين.

(صمت.)

بناءً على ما تيسر لنا من قوة لا نهائية بفضل تسخيرنا لقوة الجن في خدمة شعبنا وتحقيق السيادة على الأرض.
وبناء على نيتنا الصادقة في ممارسة هذه القوة بالحكمة والعدل ومراعاة سعادة شعبنا بصفة خاصة وشعوب والأرض بصفة عامة، فقد تفضل الإله المعبود فأضفى رضاه عنَّا، وأصدر قراره بالنزول لنا عن عرشه فوق الأرض.

وإطاعة لقراره المقدَّس يتعين علينا أن نصبح المعبود الأوحد في الأرض، وحق على شعبنا أن يعبدنا وأن يقدم لنا القرابين في الأعياد الدينية.

وبهذه المناسبة المقدسة فإني أدعو شعبي لشهود حفل التتويج الإلهي في هذا الميدان عند غروب الشمس.

(صمت.)

الحاجب الأكبر (يهتف) : لتحيا الإلهة ترمزين.

(أصوات الحراس وبعض المتجمهرين: لتحيَ الإلهة ترمزين.)

(الحاجب الأكبر والحرَّاس يرجعون إلى القصر.)

موسى بن نصير : أعوذ بالله الواحد الأحد.
عبد الصمد : قُتل الإنسان ما أكفره.
طالب بن سهل : كيف اختبأ الفجر البشع وراء ذلك الوجه الجميل!

•••

وجيه (لزميل له) : كان الإله يتخذ من الأصنام رموزًا له وها هو أخيرًا يتخذ رمزًا حيًّا جميلًا.
الزميل : فلتحل بنا البركات.

•••

تاجر (لزميل له) : مَن يصدِّق أنني حلمت بهذه المعجزة ليلة أمس؟
الزميل : إنك رجل ذو قلب نقي.

(يتجمَّع نفر من الشباب نساءً ورجالًا على مبعدة يسيرة من الرجال الثلاثة.)

شاب : متى وكيف قرر الإله ألا يعبد في الأرض؟
شاب ثانٍ : ماذا يحدث لنا بعد موت المعبودة الجديدة؟
شابة : في الحق نحن مدعوون لعبادة العفريت المسخَّر.
موسى بن نصير (غير متمالك نفسه من الدخول في حوارهم) : أيها الناس إنه كفر وإنه لا إله إلا الله.
الشاب الأول (لموسى) : ماذا قلت أيها الغريب؟
موسى بن نصير (محتدًّا) : قلت إنه كفر ولا يجوز أن يضلكم عن إيمانكم.
الشاب الثاني (لموسى) : صه … لا يخلو المكان من آذان وعيون … هلم إلى الحقول لنستمع إليك في أمان.
طالب بن سهل (يمسك بذراع موسى بن نصير ويقول) : إياك أن تذهب معهم أيها الأمير.
موسى بن نصير : السكوت على الكفر كفر.
طالب بن سهل : لقد مضى على الحوار عشرون ألف سنة.
موسى بن نصير (يذهب قائلًا) : سأُغيِّر الماضي كما أُغيِّر المستقبل.

(يذهبون.)

طالب بن سهل : لقد زجَّ بنفسه في متاعب ماضٍ انقضى منذ عشرين ألف سنة.
عبد الصمد : نحن ملتحمون به الآن ولا ندري كيف يتعامل معنا.
طالب بن سهل : كأنني في حلم.
عبد الصمد : إنه حلم في باطن حلم!

(صوت موسيقى من ناحية القصر.)

(يخرج موسيقي ومنشد يتبعهما عبيد يحملون دنان الخمر.)

(يملئون الكئوس … يقدمونها للناس.)

خادم : نخب المعبودة.
خادم ثانٍ : اشرب واطرب وتمتع بحياتك.
خادم ثالث : الدنيا قُبْلة وكأس.

(أناس يقبلون على الشراب ويشيع الطرب.)

•••

(يذهب السقاة وهم يوزعون الخمر. تترامى أصوات موسيقى شعبية، يظهر فريق جديد من طريق جانبي يدل مظهره على أنه يمثل «سيرك» ويعلن عنه. يتقدمه منادٍ يتبعه بلياتشو ورجال أقوياء مصارعون وحاملو أثقال.)

المنادي : بشرى … بشرى.

(الناس يلتفتون نحو المنادي.)

المنادي : السيرك الكبير يشارك في أفراح الشعب لمناسبة تتويج معبوده الجديد بعرض خاص هذه الليلة، برنامج حافل لم يسبق له مثيل، إليكم بعض النِّمَر المختارة.
مصارعة حرة بين أسد جائع وبين رجل من أهل مدينتنا ثبتت خيانته في مطالبته بتحرير العبيد. عرض نماذج من مجانين ممتازين نساءً ورجالًا سبق أن تولوا مناصب هامة في الدولة.

حرق رجل وهو حي لاعتراضه على عبادة الملكة ترمزين.

رجل وامرأة يعرضان قواهما الجنسية العجيبة.

ساحر السيرك يتنبأ لأي زبون عن مستقبله.

نشيد جديد عن الأبطال الذين بنوا مدينتنا سيدة الدنيا.

(الناس تتابع الإعلان، وعند نهاية كل مقطع يتصاعد الهتاف.)

طالب بن سهل (ساخرًا) : واأسفاه … لن يسعدنا الحظ بمشاهدة هذا العرض الحافل.
عبد الصمد (باسمًا) : مَن يدري؟ قد ينجح الأمير موسى في تغيير الماضي!

(ضجة تجيء من طريق جانبي. تتقدم الجماعة المتمردة على رأسها موسى بن نصير وقد أحاط بهم جنود شاكو السلاح يسوقونهم نحو القصر.)

طالب بن سهل (بجزع) : اكتشفت السلطة أمرهم، ما العمل؟ أخاف أن يصيب أميرنا سوء؟
عبد الصمد (محاولًا تهدئته) : هل تستطيع يد هالكة منذ عشرين ألف سنة أن تؤذي إنسانًا من زماننا؟
طالب بن سهل : محتمل أن يؤثر سحر قديم في أحدنا، أليس كذلك؟
عبد الصمد (للقمقم) : أثمة خوف حقًّا على صاحبنا؟
صوت الجن : إني لا أعلم الغيب.
عبد الصمد : لكنهم أموات يعيدون تمثيل أحداث وقعت وبلا زيادة.
صوت الجن : أضاف صاحبكم بتدخله حدثًا جديدًا.
طالب بن سهل : أرجعهم إلى ما كانوا عليه قبل أن تمتد يد بسوء إلى الأمير.
صوت الجن : هذا ما أعجز عنه وهيهات أن يتكرر قراري قبل اللحظة التي وقع فيها.
طالب بن سهل : يا للفظاعة، لن أتردد عن التدخل لدى أول فرصة.
صوت الجن : إنها حياتك فافعل ما تشاء.
طالب بن سهل (لعبد الصمد) : لعلك تعرف قراءة الطالع؟

(تسمع السؤال امرأة مارة فتقف ثم تقترب من عبد الصمد.)

المرأة : أود أن تقرأ لي طالعي.

(سرعان ما يتجمهر أناس حوله مستطلعين.)

عبد الصمد : لست عرَّافًا.
المرأة : سمعتك تقرأ لصاحبك طالعه.
عبد الصمد : ما سمعت من ذلك شيئًا.
رجل : بل سمعتك. لماذا تضن علينا بقدرتك؟

(المتجمعون يلحون في غضب.)

طالب بن سهل : اقبل، قل ما يحلو لك، وأنقذنا من غضبهم.
عبد الصمد : عظيم … عمَّ تسألون؟
المرأة : الذي في بطني أنثى أم ذكر؟
عبد الصمد : ذكر … أبشري.
المرأة (بفزع) : أتسخر مني أيها الدجال؟!
عبد الصمد (هامسًا لطالب بن سهل) : نسيت ورب الكعبة.
شاب (لعبد الصمد) : ألا سبيل إلى مقاومة العفريت؟
عبد الصمد : لا تنسَ أنه يعمل في خدمة إنسان!
الشاب (بحماس) : بلى، سيظل الإنسان هو الأقوى.
كهل : ما علاج الخوف من الموت؟
عبد الصمد : الموت نفسه.

(غضب من الكهل وضحك من الجمهور.)

فتاة : متى يزول الظلم؟
عبد الصمد : بعد ساعات.
الفتاة : ماذا تعني؟
عبد الصمد : ليس عندي زيادة.
رجل : قضيتي هل أكسبها؟
عبد الصمد : لن يكسبها خصمك!
الرجل: إني أسأل عما يخصني.
عبد الصمد : ليس عندي زيادة.
امرأة هزيلة : متى أُشفى من مرضي؟
عبد الصمد : قبل حلول المساء.
المرأة : ما أحلى كلامك لو يتحقق.

(يمر الشرطي فيفترق الناس.)

طالب بن سهل : كاد يغلبني الضحك.
عبد الصمد : ما أعجب أن تحاور أمواتًا!
طالب بن سهل : من موقعنا هذا ينكشف لنا الغيب طيلة هذه التجربة الفريدة.
عبد الصمد : حتى ذلك لا نستطيع أن نجزم به.
طالب بن سهل : نحن أحياء وهم أموات.
عبد الصمد : حسن أن تقول ذلك لنطمئن على أميرنا لكن لا تنسَ أنهم الآن أحياء وأننا لم نولد بعد.
طالب بن سهل : أود أن أفعل شيئًا لإنقاذ موسى.

(من القصر يخرج رئيس الشرطة يتبعه حرس. تُنصَب منصة في الميدان.)

حاجب : الشرطة تحاكم المتمردين تمهيدًا لإحالتهم على المحكمة.

(الجمهور يهرع للمشاهدة.)

(رئيس الشرطة يجلس على المنصة. يقدم أمامه مجموعة المتمردين وعلى رأسهم موسى بن نصير.)

طالب بن سهل : ها هو الأمير، لن يمسه أحد بسوء وأنا حي.
عبدالصمد: تمهل … ولنتابع الماضي وهو يحاكم المستقبل.
رئيس الشرطة (للمتمردين) : إنكم شباب أرعن، لا إله لكم، وجهركم بالشر يغني عن مساءلتكم، ستمثلون غدًا صباحًا أمام القاضي في المحكمة.

(رئيس الشرطة يلتفت نحو موسى بن نصير ويقول):

رئيس الشرطة : ماذا أوجدك بين هؤلاء الشبان وأنت كهل، ما كنت أتصور أن الكهول قابلون للعدوى بأمراض الشباب، ما اسمك؟
موسى بن نصير : موسى بن نصير.
رئيس الشرطة : أي اسم هذا؟
موسى بن نصير : هذا اسمي وأدعى به في الشرق والغرب.
رئيس الشرطة : إنك تستحق بسببه السجن، أأنت غريب؟
موسى بن نصير : نعم.
رئيس الشرطة : من أي البلاد؟
موسي بن نصير : من بلاد المغرب.
رئيس الشرطة : لا علم لي بها. أنت كاذب، جاسوس وكاذب، ما عملك؟
موسى بن نصير : أمير المغرب.
رئيس الشرطة : لن ينفعك ادِّعاء الجنون.
موسى بن نصير : إني أعرف أكثر منك بعشرين ألف سنة.
رئيس الشرطة : لن ينفعك ادعاء الجنون، إنك متهم بترويج أفكار مستوردة لإفساد شبابنا.
موسى بن نصير : ما قلت لهم إلا الحق وهو أنه لا إله إلا الله.
رئيس الشرطة : ها أنت تعترف بكفرك على الملأ فما أنت إلا جاسوس يروِّج للكفر.
موسى بن نصير : سوف يحل بكم العقاب بعد ساعات ولا خلاص لكم إلا باتباع قولي.
رئيس الشرطة : سنرى من الذي سيحل به العقاب، سأفصل رأسك عن جسدك بيدي هذه صباح الغد. (للجنود) أعيدوهم إلى السجن.

(الجنود يسوقون المتهمين إلى القصر.)

•••

(يجيء رجلان وقوران، يقفان على مقربة من طالب بن سهل وعبد الصمد دون أن يفطنا إلى وجودهما.)

الأول : سيدي الأستاذ نحن في ورطة.
الثاني : لكل مشكلة مفتاح.
الأول : قضينا العمر ونحن ندرِّس لأجيال من طلاب العلم فلسفة تبجل الإله وقدرته، وتحلل الإنسان وفناءه، فكيف يكون موقفنا اليوم أيها الزميل؟
الثاني : نقول في ترمزين ما قلناه في الإله.
الأول : وكيف تفسر تناقضنا بين اليوم والأمس؟
الثاني : رأى الإله بقدرته اللانهائية أن يرفع الملكة إلى مرتبة الألوهية.
الأول : ولماذا ينزل الإله عن سلطانه لبشر فانٍ؟
الثاني : لم تعد فانية.
الأول : وإن أدركها الموت؟
الثاني : أعتقد أننا سنسبقها إليه.
الأول : ومحتمل أن تسبقنا هي.
الثاني : نقول إن حكمة الإله لا تُناقَش.
الأول : وإذا تمادوا في المناقشة؟
الثاني : نستعين بالشرطة فهي البرهان الأخير لمن لا يقتنع.
الأول (ضاحكًا) : الآن شرحت صدري، والآن نستطيع أن نُعدَّ الخطبة التي سنلقيها عند الغروب.

(يذهبان.)

طالب بن سهل (متعجبًا) : حتى أهل العلم!
عبد الصمد : يؤسفني أيها الأمير أن أذكِّرك بأن دار الإسلام لا تخلو من أمثالهم.
طالب بن سهل (دهِشًا) : أأنت من شيعة علي بن أبي طالب؟
عبد الصمد : إني من شيعة الحق ورزقي على الواحد الأحد.

•••

(يقترب نفر من الشرطة من موقف طالب بن سهل وعبد الصمد.)

الشرطي (لعبد الصمد) : أنت العرَّاف؟
عبد الصمد : ما أنا بعرَّاف.
الشرطي : ترامى خبرك إلى جلالة الملك فقررت أن تسمعك. أبشر بحظك السعيد واتبعني.

(يتردد عبد الصمد ولكن الجنود تدفعه صوب القصر.)

طالب بن سهل : لم يبقَ سواي، أصبحت وحيدًا في هذه المدينة الميتة، ترى بأي حالٍ تنتهي هذه المغامرة؟

•••

(ما يكاد يُتِمَّ قوله حتى تقترب منه امرأة كهلة حسنة المنظر.)

المرأة : أبشر أيها الشاب السعيد.
طالب بن سهل : ماذا وراءك يا سيدة؟
المرأة : اتبعني إلى حظك السعيد.
طالب بن سهل : أي حظ سعيد؟
المرأة : لقد رأتك الملكة ترمزين من نافذة قصرها!
طالب بن سهل (بذهول) : الملكة ترمزين!
المرأة : وهي تدعوك إلى حظك السعيد، اتبعني.

(تسير المرأة فيتبعها طالب بن سهل منفعلًا بصورة واضحة.)

(يهبط الظلام.)

٦

(إضاءة.)

(بهو العرش. الملكة ترمزين جالسة فوق العرش. حُجَّاب. حُرَّاس.)

(تدخل المرأة.)

المرأة (تنحني) : مولاتي، إنه ينتظر.
الملكة : أذنت له.

(الملكة تشير إلى الحجَّاب والحرَّاس فينسحبون. يدخل طالب بن سهل. ينحني تحية.)

(الملكة تبتسم. تشير إلى مقعد قريب فيجلس عليه تمعن فيه النظر بإعجاب لا تحاول إخفاءه. طالب يبادلها النظر بتأثُّر.)

ترمزين : العين أصدق رسول وأخلص دليل.
طالب بن سهل : هي كذلك يا مولاتي.
ترمزين : حدثني عن نفسك.
طالب بن سهل : اسمي طالب بن سهل.
ترمزين : غريب مثل صاحبيك؟
طالب بن سهل : ومن بلاد بعيدة.
ترمزين : ما كنت أتصور أنه يوجد غريب بصورتك وقوامك.
طالب بن سهل : الغرباء مثل رعاياك يسعون ويحبون ويموتون.
ترمزين : لا تجدِّف إنك استثناء، ما عملك؟
طالب بن سهل : تاجر.
ترمزين : تاجر وعرَّاف وجاسوس … ماذا جمعكم؟
طالب بن سهل : لقد تورط صاحبنا دون قصد سيئ.
ترمزين : لا تدافع عن مجرم، ولكن لندع هذا الحديث جانبًا، قلت إنك تاجر، التاجر شخص ممتاز ومفيد، ولكن موضعك الحقيقي بين الحجَّاب أو الحرَّاس.
طالب بن سهل : ما أنبل نواياك يا مولاتي!
ترمزين : نحن النساء ننتظر قدرنا منذ البلوغ، وصدقني فإنك أول رجل في حياتي.
طالب بن سهل : من السعادة يا مولاتي ما يعز على الأحلام.
ترمزين (باسمة) : فيك جرأة محببة، ما من شاب في موقفك إلا ويبدي الخجل والتمنع، أما أنت فتجاهر بسعادتك بلا تردد، أصارحك بأنه يعجبني الشاب المتحلي بأحوال النساء!
طالب بن سهل (مداريًا ابتسامة) : أخرجني الانبهار من الحياء.
ترمزين : بالصدق والصراحة هل تبادلني عواطفي؟
طالب بن سهل : أجل … أجل يا مولاتي، ومنذ قديم.
ترمزين : حقًّا؟ لعلك رأيتني في احتفال البحيرة؟
طالب بن سهل : رأيت جمالك في خلوده.
ترمزين : رأيتك من نافذتي، من نظرة عابرة، دلتني على أغنيتي المفضلة.
طالب بن سهل : ليهنأ كل محب بحبه إكرامًا لحبنا.
ترمزين : ولكن تجيء المتاعب في أعقاب الحب!
طالب بن سهل : المتاعب؟
ترمزين : اختيار غريب لرئاسة الحرس قرار مثير للاستياء.

(صمت.)

ترمزين : وزواجي من بشر عقب جلوسي على عرش الآلهة مستحيل، ولكنك ستكون أقرب إليَّ من أنفاسي المترددة.
طالب بن سهل (بنبرة غلبها الحزن) : ستصفو لنا الأيام.
ترمزين : وجهك ينطق بالأسى على حين يلهج لسانك بالسعادة.
طالب بن سهل : إني أتساءل هل يسعد إنسان حقًّا بحب إلهة؟
ترمزين : بين يديك سأظل امرأة!
طالب بن سهل : قلبي يتوجَّس خيفة.
ترمزين : يا له من قلب ساذج.
طالب بن سهل : لم يحدث ذلك لبشر من قبل.
ترمزين : كأنما يداخلك شك في قدرتي؟
طالب بن سهل : إني بشر وأتمنى ألا تتخلَّى حبيبتي عن بشريتها.
ترمزين : لديَّ من القوة ما أستطيع أن أطير به مدينة في الفضاء.
طالب بن سهل : قوة عفريت مذنب.
ترمزين : القوة هي القوة بصرف النظر عن مصدرها، ماذا يملك الإله أكثر من ذلك؟
طالب بن سهل : يملك القوة ومصدرها والمسيطر عليها.
ترمزين : إنك تذكرني بأقوال الخونة!
طالب بن سهل : ما أنا إلا محب يحب حبه ويحرص عليه.
ترمزين : ستجد أن لا أصل لمخاوفك وأوهامك.
طالب بن سهل : أتوسل إليك أن ترجعي عن قرارك قبل فوات الفرصة.
ترمزين : أرجع؟
طالب بن سهل : أتوسل إليك، من أجل حبنا، من أجل سعادتنا.
ترمزين : سنكون أقدر على الاستمتاع بها من جميع البشر.
طالب بن سهل : إنها تجربة تنذر بالهلاك.
ترمزين : الهلاك؟! ماذا قلت؟
طالب بن سهل : ارحمي قلبي وحبي.
ترمزين : ما أعجب الحب، لو نطق غيرك بما نطقت به لفصلت رأسه عن جسده.
طالب بن سهل : ابقي امرأة لا إلهة.
ترمزين : ستجدني امرأة وقتما تشاء.
طالب بن سهل (بحرارة) : أصغي إليَّ باسم الحب، صدقي قلبًا يهيم بحبك، فالحب يلهمه الصواب، أقول إن الهلاك معلق فوق رأسك فتجنَّبيه، خذي الحب ودعي الموت، استجيبي لي لعل معجزة تقع.
ترمزين (ضاحكة) : أيها الرعديد المحبوب، ستشهد التتويج بنفسك، ثم نرجع لنصنع من حبنا الأعاجيب.
طالب بن سهل (بأسًى) : لن نذوق من الحب قطرة واحدة.
ترمزين (بحدَّة) : إنك تحدث عن الموت كأنه حقيقة واقعة.
طالب بن سهل : لقد رأيته بعيني!
ترمزين (ساخرة) : أأنت عرَّاف أم تاجر؟
طالب بن سهل : أنا محب والمحب يرى ما لا يراه الآخرون.
ترمزين : كفى، لن ننتهي إلى اتفاق، تعلق بمخاوفك حتى تنقشع في ليلتنا السعيدة، حسبنا ما ضاع في نقاش عقيم، إني أنتظر صاحبك العراف الذي أجَّلت لقاءه لهفتي عليك، لنسمع صوت الغيب الصادق.

(تصفق. يدخل حاجب.)

ترمزين : إليَّ بالعراف.

(الحاجب يذهب. عبد الصمد يدخل. يرفع يديه تحية. يلمح طالب بن سهل ولكنه يتجاهله. يجلس عندما تشير إليه الملكة بالجلوس.)

ترمزين (لعبد الصمد) : أبلغتني عيوني المنتشرة في كل مكان عن قدرتك.
عبد الصمد : ما أنا إلا عبد.
ترمزين : لديَّ أسئلة عن الغيب قبل أن يسفر لي عن وجهه عند المغيب.
عبد الصمد : ما أنا إلا عبد.
ترمزين : تواضع محمود، أجبني يا رجل هل يوجد متمردون آخرون غير الذين قُبض عليهم اليوم؟
عبد الصمد : التمرد كامن في القلوب، جهر به البعض فقُبض عليهم، وأخفاه الآخرون وراء أقنعتهم الكاذبة.
ترمزين (بحدة) : ماذا قلت؟
عبد الصمد : أقول ما يخطر لي وإن شئت سكتُّ.
ترمزين : ألا يؤمن بي أحد؟
عبد الصمد : حتى الشيطان في قمقمه يعبد الإله.
ترمزين : خيبت ظني بك.
عبد الصمد : حذار من قرارك، سينفجر لعنة مدمرة على الأرض.
ترمزين : وما مصير ترمزين؟
عبد الصمد : مصيرك بيدك.
ترمزين : إني أحب الحياة.
عبد الصمد : ما عليك إلا أن تحبيها بصدق.
ترمزين : أحبها وأحب الحب.
عبد الصمد : إذن تراجعي عن الموت.
ترمزين : إني أدرك ما ترمي إليه.
عبد الصمد : ستهلكين عند مغيب الشمس.
ترمزين : أعلم يقينًا أنك كاذب، أتدري ماذا يصيبك إذا نجوت؟
عبد الصمد : إذا نجوت من الموت فأرسليني إليه.

(طالب بن سهل يرفع يده مستأذنًا في الكلام.)

ترمزين : تكلم يا طالب.
طالب بن سهل : مولاتي، هذا الرجل يتكلم بثقة، وقد راهن على صدقه بحياته.
ترمزين : إني أملك قوة لا تقاوم.
عبد الصمد : عفريتك عبدٌ للإله، سيغضب لإلهه فيتخلى عنك ولو فقد آخر أمل في تحرره.
طالب بن سهل : سوف يدمرك فوق عرش الألوهية.
ترمزين (غاضبة) : الآن وضح الحق، ما أنت يا طالب إلا نسيج في مؤامرة، مثل هذا العرَّاف الكاذب، ومثل صاحبكم الذي قُبض عليه وهو يؤلب شعبي عليَّ

(ترمزين تصفق. يدخل حاجب.)

ترمزين : أحضروا الجاسوس.
ترمزين (للرجلين) : إنكم تخافون القوة المسخرة أن تُذلَّ شعوبكم، ولكني سأعتلي بها عرش الألوهية وأسود الأرض، الحب نفسه يا طالب لن يغريني بخيانة مدينتي المقدسة.

(يحضر موسى بن نصير ويسمع آخرة خطابها ثم يقف.)

ترمزين (تلتفت إلى موسى بن نصير غاضبة) : ها هو الجاسوس الذي سيُفصل رأسه عن جسده غدًا. (ثم ملتفتة إلى طالب بن سهل) أما أنت فإنك شر الثلاثة لقد اتخذ أحدهما من الجاسوسية وسيلة إلى هدفه، ومارس الثاني الدجل، أما أنت فأهنت الحب المقدس، أنزلته من علياء سمائه وجعلته خدعة دنيئة.
طالب بن سهل (بحرارة وأسى) : أقسم بربي إنني أحبك من كل قلبي، وإنني أتحدى الماضي والواقع لأنقذك من العدم!
ترمزين : هيهات أن أصدقك!
موسى بن نصير (منفعلًا) : الوقت يقترب بسرعة مخيفة، وإذا أردنا أن نخوض التجربة المتاحة النادرة وهي تغيير الماضي فما علينا إلا أن نكاشفها بالحقيقة.

(صمت.)

موسى بن نصير (للملكة) : أيتها الملكة … إنك في الحقيقة ميتة قد شبع منك العدم.
ترمزين (تضحك ساخرة) : أيها الضال المضلل، بلغني أنك تدعي الجنون، ولكنك ستنال جزاءك غداة الغد، أنت أنت الميت لا ترمزين.
موسى بن نصير : إنك ميتة منذ عشرين ألف سنة!
ترمزين (مغرقة في الضحك) : خوفكم من قوتي أذهب عقولكم، فلتذهب إلى الجحيم ولتبقَ ترمزين ومدينتها إلى الأبد.
عبد الصمد : ما أشق أن تقنع حيًّا بأنه ميت.
طالب بن سهل : مولاتي، أعيرينا أذنك لتسمعي قصة مدينتك.
ترمزين : أيها المخادع الكذَّاب هل تشاركهما جنونهما؟ هل تراني ميتة أيضًا؟
طالب بن سهل : لقد اكتشفنا المدينة وما بها إلا جثث أهلها: ولما استخرجنا العفريت من البحيرة اعترف لنا بأنه هو الذي أنزل بها الموت المسحور جزاء كفرها، ولكي يثبت لنا صدقه أوقف سحره نهارًا واحدًا هو هذا النهار الذي يقترب من نهايته، هكذا دبت فيكم حياة كالحلم لا تلبث أن تنقشع، وسوف يدرككم الفناء كما أدرككم أول مرة.
ترمزين : يا للدجل والكذب والخداع!
عبد الصمد : اعدلي عن قرارك توهب لك الحياة من جديد.
طالب بن سهل : هي الحقيقة يا مولاتي، صدقينا قبل فوات الفرصة النادرة.
ترمزين : أيها الجواسيس الحقراء الحاقدون على عظمة مدينتي الموعودة!
موسى بن نصير : عن أي عظمة تتحدثين؟ ما هي إلا عظمة ذاتك ورجالك، إنك تذلين شعبك كما تذلين الغرباء، حتى أصحاب العقول والإلهام جعلت منهم عبيدًا ودمًى، انظري، ها هو المستقبل يتجسَّد أمام عينيك ويعدك بمعجزة فاستجيبي له، فمن لم يفقه لغة المستقبل دمَّره الحاضر.
ترمزين (تخرج القمقم من تحت وسادة) : أيها العفريت. اقذف بالحقيقة في وجوه هؤلاء الجواسيس.

(صمت)

ترمزين (مقطبة) : أيها العفريت.

(صمت.)

ترمزين (ثائرة) : فهمت … ما أنتم إلا سحرة، تسلطتم على لسان العفريت، ولكني ما زلت مالكته، وسوف يتحرر من سحركم حال قتلكم.
طالب بن سهل : حبيبتي لا تهدري فرصة لا يجود بها الزمان أبدًا، أمامنا فرصة للحب ولخلق معجزة يفيد منها عالمنا الحي، اقنعي بإنسانيتك وفيها الكفاية من المجد، أطلقي سراح العفريت فما يجوز أن يملكه فرد به ضعف، حرري شعبك، احترمي عقل الإنسان وقلبه، المجد لمن يخدم لا لمن يستخدم، ولنحظَ بعد بأغنية الحب الخالدة فلا خالد في الدنيا إلا أنغامها.
ترمزين : لا يوجد في الأحياء من يستطيع خداعي.
عبد الصمد (للقمقم) : كاشفها أنت بالحقيقة، دعنا نشهد المعجزة!

(صمت.)

صوت العفريت : مولاتي ترمزين.
ترمزين (بدهشة وسرور) : أخيرًا تكلمت!
صوت العفريت : إني رهن إشارة منك.
ترمزين : أيها العفريت ما رأيك فيما قال هؤلاء؟
طالب بن سهل : نحن راضون بحكمه ولكن عليك أن تفقهي قوله.
ترمزين (للقمقم) : ما رأيك فيما قال هؤلاء؟

(صمت.)

صوت العفريت : إنك حية بل سيدة الأحياء.

(ترمزين تضحك في سرور وشماتة.)

عبد الصمد : أيها العفريت، ألمْ تُهلك المدينة وصاحبتها منذ عشرين ألف سنة؟
صوت العفريت : كذبت أيها الجاسوس!
ترمزين : يا للنصر.

(تصفق يدخل حاجب. تأمره بإحضار الجنود.)

صوت العفريت : لا يجوز أن تعدمي أحدًا منهم قبل التتويج.

(يدخل الجنود.)

ترمزين : خذوا الجواسيس إلى السجن وآتوني برءوسهم لدى عودتي من التتويج.

(تقف. تقترب من طالب وهو ضمن المقبوض عليهم.)

ترمزين (لطالب بن سهل) : سوء الحظ لم يدركك وحدك يا طالب.
طالب بن سهل : إني سيئ الحظ ما في ذلك من شك.
ترمزين : لا مجد بلا ثمن.

(تشير إلى الجنود فيمضون بهم)

ترمزين (محدثة نفسها في أسًى) : ولكن ما أفدح الثمن!

(يهبط الظلام.)

٧

(إضاءة.)

(الميدان.)

(حراس … الجمهور يتطلع نحو العرش. موسيقى يتخللها هتاف كالهدير. طبول يعقبها صمت شامل.)

(يظهر موكب الملكة ترمزين خارجًا من القصر في هالة بالغة من الكمال والجمال.)

(هتاف يستمر حتى تجلس على العرش.)

(تشير الملكة إلى كبير الحجَّاب.)

(يتقدم كبير الحجَّاب ويلقي خطبته):

«أيتها الملكة المجيدة ترمزين، سيدة عالمي الأحياء والأموات. ودعي آخر لحظة من حياة البشر الفانية، وتبوئي عرش الألوهية الخالد، دمت لنا وللأرض إلهة خالدة.»

(فجأة يرعد انفجار مروع يعقبه ظلام.)

٨

(إضاءة.)

(المنظر الأول. منظر الميدان والجثث المتجمدة. موسى بن نصير، طالب بن سهل، عبد الصمد.)

(موسى وعبد الصمد ينظران فيما حولهما، طالب مستغرق في النظر إلى ترمزين.)

عبد الصمد : مدينة الموت.
موسى بن نصير : مدينة الحلم.
طالب بن سهل : مدينة الحب المستحيل.
عبد الصمد (منفعلًا للقمقم) : خدعتنا أيها العفريت، ما زال قلبك ينبض بالشر!
صوت العفريت : أبيت أن أضيف إلى ذنوبي ذنبًا جديدًا.
عبد الصمد : أي ذنب في هداية امرأة ضالة إلى الصواب.
صوت العفريت : لو فعلت لتعذر عليَّ إهلاكها، ولبعثت إلى الوجود مدينة ملعونة هلكت بظلمها لتواصل حياة غريبة متأخرة عن دنياها عشرين ألف سنة، ولعمري إن ذلك شر من الموت نفسه.
موسى بن نصير : حجة مقبولة فيما أرى، فما يهلك لظلم لا يحق بعثه.
صوت العفريت : حسبنا أن الثائرين قد هاجروا فنجوا ثم جاء عالمكم من ذراريهم.
عبد الصمد (باسمًا) : يبدو أنه قد اندس بينهم نفر من المنافقين والجبناء … فما أبعد دنيانا عن الكمال!
موسى بن نصير (ملتفتًا نحو طالب بن سهل) : أفق أيها الأمير فلا جدوى من التعلق بحب زمان مضى.
صوت العفريت : لقد كفَّرت عن ذنبي، أطلقوا سراحي أيها الرجال الصالحون.
موسى بن نصير : عليك أن تقنع بذلك مولانا عبد الملك بن مروان.
صوت العفريت : صدقوني لا يجوز أن يملك قوتي إلا حكيم.
موسى بن نصير : خليفتنا أحكم الحكماء.
صوت العفريت : لا يخلو من أهواء البشر وضعفهم، ألا ترون كيف يرد على حجج معارضيه بالسيف المسلول؟

(يتبادلون النظر في صمت.)

موسى بن نصير (للقمقم) : إنك قوة لو استُغلت للخير لجعلت من دنيانا جنة.
صوت العفريت : ما تسلط عليَّ فرد إلا جعل مني نعمة له ولمن يحب ونقمة على الملايين، صدقوني ما أحدث عفريت منا شرًّا إلا تنفيذًا لمشيئة إنسان.

(يتبادلون النظر مرة أخرى.)

عبد الصمد : لنطلق سراحه.
طالب بن سهل : هل أخيب في مهمتي كما خبت في حبي؟!
عبد الصمد : لا تتحمَّل مسئولية ستُسأل عنها أمام رب العالمين.
صوت العفريت : قل لمولاك من يحكم بالإيمان فلا حاجة به إلى الشيطان.
عبد الصمد : انطلق أيها العفريت فلقد نطقت بالحق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤