أمشير

١

المارُّون بشارع رأس الحكمة بزيزينيا يجذب أنظارهم القصر الأبيض. عم عمارة الجعفري البواب يجلس عادةً على أريكته أمام الباب الكبير، هادئ النظرة تتحرك شفتاه الغليظتان بتلاوة غير مسموعة، لا يكاد يرى ما يجري أمامه، ولا يبالي بما يقوم خلفه. والقصر الأبيض قابع بطابقيه بين أشجار دائمة الخضرة تتخللها نخلات طويلة رشيقة مغطاة الجذع بأردية بيضاء. وعندما يدور السمر بين البواب والسواق والطاهي حول القصر الجميل يثني عم عمارة على صاحبه جندي بك الأعور قائلًا: إن الله يزيده ثراءً جزاء ما طبع عليه من إحسان وخلق كريم، إنه يرد تحيات الفقراء بأحسن منها ويوزِّع الزكاة في الأعياد والمواسم. ولكن أي غمامة تلك التي تنداح في الأفق؟ ماذا يحدث بين الناس الطيبين؟ لم يخيل إليه أن وراء الستائر المسدلة قلوبًا تردد أصداء الأمواج الهادرة؟ ويدعو الله مخلصًا: «اللهم احفظ القصر وأهله، اللهم احفظنا.»

٢

في ذلك الوقت انتقلت جميلة هانم من حجرتها إلى الفراندا الخلفية لمقابلة يحيى. جاءت جادة، حتى الابتسامة المغتصبة لم تحاول أن ترسمها فوق شفتَيها الممتلئتين. واعتبرها يحيى زيارة غير عادية؛ إذ إن أمه تجد ما يشغلها من شئون القصر طيلة النهار. جلست على كرسي إلى جانبه في الفراندا المشرفة على حديقة الأزهار وحمام السباحة. وكانت الشمس تفترش الأرض الخضراء المترامية بين الأسوار العالية، ولا نأمة تجيء من شارع رأس الحكمة المزين على ضفتَيه بالنخلات العشرين. وكان يحيى يستجم قليلًا من المذاكرة، مستسلمًا لدفقات من نسيم الربيع تتلاقى في وجدانه بأنغام موسيقى خفيفة تنبعث من ترانزستر. فأسكت الجهاز مرحبًا بمقدم بأمه. بدا في البيجاما رشيقًا طويلًا، جامعًا في صفحة وجهه بين عيني أمه الجميلتين وبناء شعبي لأطراف وجهه الغليظ. ورغم رونق الأم الذي يعد فوق ما تتمنى امرأة في الخمسين فقد تجلت بها سمات شعبية في دسامة يديها وخشونة نبرتها. وإعرابًا عن حبه تناول يدها ولثمها وهو يلحظها باهتمام. قالت جميلة هانم: لم يعد بينك وبين الامتحان النهائي إلا ثلاثة أشهر كان يجب أن تمر في هدوء شامل لتتفرغ لعملك، ولكن الظروف تحتم عليَّ أن أحيطك بما يقع حولنا.

فرنا إليها بعينيه العسليتين باهتمام متزايد وهو يتمتم: ليكن خيرًا إن شاء الله.

فقالت بأسف واضح: إنه أبعد ما يكون عن ذلك!

طالما شعر بأن القصر يمضي بلا تاريخ، فماذا حدث؟ أما الأم فقالت: لا أريد أن تباغتك الحوادث، تقرر أن يغادر محروس ابن البك القصر هو وأسرته!

تردد الكلام في مسمعيه أول الأمر بلا معنى. وسرعان ما لاح الانزعاج في عينيه. وتبين له أن منظر أمه ينذر بشر غير محدود. تمتم واجمًا: إنه لغز ولكن له تفسير ولا شك.

– كأنه نوة من نوات البحر، إني آسفة!

– ما معنى تقرر؟ من صاحب القرار؟

– صاحبه واحد، مَن غيره؟ تقرر طرد محروس وأسرته.

تجهم وجه يحيى. تذكر النفور الدائم بين أمه وحرم محروس، هل لعب النفور دورًا في تخطيط هذه النهاية الأليمة غير المتوقعة؟ وقال بحذر: محروس بك هو الابن الوحيد لجندي بك فكيف هان عليه أن يطرده هو وأسرته من قصره؟

أجابت جميلة هانم بحزن شديد: ثمة جريمة شنعاء!

– جريمة؟!

قالت وصوتها يتهدج: تصور يا يحيى، لقد دبر الابن جريمة خفية لقتل أبيه!

تصلب عود يحيى من الانزعاج والذهول، تفكر في معنى ما يلقى إلى سمعه، تأمله مليًّا برعب، ثم تجلت لمخيلته صورة وداد الجميلة المستقرة في أعماق قلبه. ما أكذب الربيع الساطع. إنه يسخر من أحلامه العذبة ويعصف بطمأنينته الراسخة. وتمتمت المرأة وكأنما تقرأ أفكاره الدفينة: الأمر محزن جدًّا، وهناك حزن آخر من أجلك أنت.

وراح يقول وكأنما يحادث نفسه: جريمة خفية، من يصدق هذا؟ ولكن كيف؟

– إنه الشيطان، أجل لم ينعم الجو بالصفاء بين الأب وابنه، ولكن الأب رجل عاقل وكريم، لم يضن أبدًا على ابنه بخير، وكان محروس يعيش في القصر وكأنه صاحبه، هو وزوجته وابنته، ثم يحاول شراء الطاهي ليدسَّ السم لأبيه؟!

– أي غباء وأي جنون!

– طوى الطاهي السر في صدره، أجل إنه صنيعة محروس، ومحروس الذي جاء به منذ سنوات ولكنه إنسان أمين فجاءني وأفضي إليَّ بسرِّه!

– أنت؟!

– نعم، إنه يتعامل معي يوميًّا …

– وأنت التي أبلغت عمي؟

– ذهبت به إلى البك.

– الأمر يتطلب تحقيقًا عادلًا!

– عمك ثار وأوشك أن يبلغ الأمر للنيابة لولا توسلاتي إليه أن يفكر في هدوء وأن يتجنب الفضيحة.

– ربما أسفر التحقيق عن لا شيء؟

فقالت بأسًى: عندما واجه محروس بالتهمة لم يدرِ كيف يدافع عن نفسه، كأنما كان يعترف.

تنهد يحيى وتمتم: محروس في الأربعين، زوج وأب، لا ينقصه شيء، كيف اشترى جريمة بالنعيم والأمل؟

– إنه الشيطان، ومن يدري؟ العمل يبدو جنونًا لا معنى له، والحمد لله أن عمك اكتفى بطرده وحرمانه.

بعيد أن يكون الرجل بريئًا. لقد خسر بجنونه كل شيء. ضاع تمامًا. وتذكر مرة أخرى وداد كريمة المتهم. لقد طرد معهم بمعنى من المعاني. أمه ولا شك تدرك ذلك تمامًا. أيضًا زوج أمه جندي بك الأعور. كم من متاعب ترصده في هذه الأيام الصفراء! ها هي أمه تقول: إني آسفة جدًّا يا يحيى.

– لكن كيف تواجه الأسرة المطرودة الحياة؟

فقالت بعتاب: يجب أن ترثي أولًا لعمك!

– بلا شك، ولكن سؤالي له وجاهته أيضًا!

فقالت وهي لا تخفي امتعاضها: لا بد من فترة انتظار حتى تنحسر عواصف الانفعال، في نيتي بعد ذلك أن أرجو عمك أن يهب الرجل وأسرته عمارة من عماراته حتى لا يدفعه اليأس إلى الجنون!

فقال يحيى مستردًّا بعض أنفاسه: فكرة طيبة.

وطوال الوقت فكر في وداد، وبدا أن أمه تشاركه خواطره، وقد قالت بصراحة: إني حزينة من أجلك يا يحيى.

فقال بوضوح: إني أحب وداد، وهي تحبني، لن يفرق بيننا شيء!

فقالت بإشفاق: عليك أن تتذكر عمك، إنه في الواقع أبوك.

فقال بمرارة: أعلم أنني بفضله أنعم بالحياة في هذا القصر على حين أن أبي الحقيقي لا يدري عني شيئًا، كما أنني لا أدري عنه شيئًا، وأعلم أيضًا أنه كان من الممكن أن يعاملني كغريب، كابن زوجته من رجل آخر، ولكنه عاملني كابنه …

فقاطعته بحماس: بل عاملك خيرًا من ابنه، وأحبك أكثر منه، حتى قبل الجريمة!

– أسلِّم بهذا، ولكنني أحب وداد أيضًا، وهي بريئة من ناحية وحفيدته من ناحية أخرى.

وسَّدت راحتها منكبه وقالت: إني أطالبك بالحكمة، وأتمنى لك السعادة.

– أنت لم تحبي محروس ولا زوجته، ولكن وداد فتاة ممتازة.

– رأيك هو المهم، ولكن عليك أن تنتظر فترة ثم لك بعد ذلك أن تفضي بنواياك إلى عمك.

يبدو أن المهمة لن تكون سهلة، وأنه ربما اضطر إلى المقامرة بمنزلته عند الرجل. وهو لا يتعذر عليه النفاذ إلى أفكار أمه الخلفية، ولكنه قال متظاهرًا بالبراءة: سوف أتحين فرصة مناسبة.

– ورجائي ألا تثير غضبه.

فقال بضيق: إني حريص على رضاه، ولكني لن أفرط في وداد.

فقالت بصوت منخفض: تخيل ما يعدك به المستقبل!

لم يرتح لقولها. ورغم ثقته فيها تساءل عن الدور الذي لعبته في هذه القضية. شد ما تفزعه الوساوس. وقد كان دائمًا يؤاخذ هذا القصر على تقديسه للمال. إنه لا ينكر أهمية المال، ولكنه يكره أن ينصب هدفًا أعلى للإنسان. لا حديث لأهل القصر سوى النقود والسلع. وقد دفعته تلك التقاليد إلى الالتحاق بكلية التجارة، كما دفعت وداد بعده. ومن أجل ذلك المعبود حرص الابن على قتل أبيه، وها هي أمه تتوثب لاستغلال الموقف الجديد لصالحه. قال برجاء: لا تحدثيني بما يثير اشمئزازي.

فقالت باسمة: لا أحد يحب الفقر.

هز منكبيه صامتًا. أدرك بوضوح أن المتاعب الجديدة لن تعفي أحدًا من آثارها.

٣

الشاطئ ما زال خاليًا. الرياح معتدلة مشبعة ببرودة ودودة آمنة. وفي أحضان العذوبة المنتشرة تراقصت الأمواج في رشاقة. لم يكن في كازينو جليم سوى العشاق. جلس يحيى ووداد في طرف الكازينو المطل على الخليج قبل الغروب بساعة. أول مرة ذلك العام غيرت وداد ملابس الشتاء فتجلى عودها الرشيق تحت البلوزة البيضاء الثرية والبنطلون الرمادي. جميلة ببشرتها القمحية وعينيها السوداوين وشفتيها المضمومتين، ولكنها جادة واجمة. لم تجمع بينهما جلسة كئيبة كهذه الجلسة من قبل. اختفى من عينيها المرح والدلال كما اختفت من عينيه الأشواق. جلسا جنبًا لجنب وراء الترابيزة ينظران إلى البحر المنفسح بعينين لا تريان شيئًا، وكانت تقول: أقمنا في شقة مفروشة، حياة لا يمكن أن تستمر طويلًا، لا ندري شيئًا عما يخبئه لنا الغد.

فانغمس في الشجن وهو يقول: لكن والدك اكتسب خبرة في الأعمال عندما كان يعمل في مكتب والده.

– لا أعتقد أنه يتوفر له اليوم رأس مال كافٍ، ثم إن التهمة الظالمة ستطارده طويلًا.

تنهد قائلًا: حتى الآن لا أصدق ما وقع!

فقالت بإصرار: أبي ينكره وأنا أصدقه.

– فما الحقيقة إذن؟

– لعله سوء تفاهم استُغل أسوأ استغلال!

شعر بأن ثمة اتهامًا يحوم حول أمه مثل ذبابة، فضاق صدره، ولكنه قال: أيكفي ذلك لاختلاق جريمة تفرق بين الأب وابنه الوحيد!

فقالت بامتعاض: المصائب تفوق الخيال!

وصمتا قليلًا في حزن بالغ حتى قال يحيى: إذا كان للموضوع حقيقة خفية فلن تغيب طويلًا، وسوف يوجد للموقف العسير حل، أما نحن فعلينا أن نركز في الواقع الذي يتحدانا.

فلم تدري ما تقول فواصل حديثه: ما بين يوم وليلة أصبح تلاقينا لا يتم إلا سرًّا، كأننا غريبان، هذا هو الواقع الذي علينا أن نتعاون على تحطيمه.

– ولكنني لا أستطيع أن أنزع نفسي من مشكلتنا القائمة.

– المأساة مأساتنا معًا، سنفكر طويلًا، لن نتركها ولن تتركنا، ولكن علينا قبل ذلك أن نتفق على الدفاع عن حبنا حتى الموت!

فقالت بصدق: حبنا في حرز حصين، لسنا أطفالًا، ثم إنك ستختم دراستك بعد ثلاثة أشهر، وسوف ألحق بك بعد عامين، ولكن كيف نعيش في هذا الجو الخانق؟!

– إنه يظل القصر أيضًا، لا أحد يبتسم، وهو يهدد حبنا.

– لسنا أطفالًا، ولندع للزمن فرصته.

– أود أن نسبق الزمن، أجل يجب أن أنتظر مهلة، ولكن لا مفر من مواجهة جدك، وعليك أنت أن تتصدي بشجاعة لأي عدوان يجيء من ناحية محروس بك أو شريفة هانم، ثم إنني في النهاية شخص غريب ليس إلا ابن زوجة جدك.

فقالت بإشفاق: إنك معدود ابنًا له!

– لا أنكر ذلك، ولكني لن أتخلى عنك أبدًا.

قرر أن يخفف عن أعصابهما بشرب الكوكاكولا، مضى يراجع ما انتهي إليه فوجده طيبًا لا بأس به، ثم قال متماديًا في نشدان الأمان: وداد، اعتدنا المصارحة دائمًا، هل ساءك ضياع الثروة المتوقع؟

فتفكرت قليلًا ثم قالت: يشغلني الآن همُّ أسرتي.

– لم تجيبي على سؤالي.

– الثروة نعمة، وحياتها عادة، لا أدري كيف أتخلص منها. ماذا عندك أنت؟!

– أنا أيضًا اعتدت مستوى لا تؤهلني له حقيقة أصلي، ومذ أدركت أني شخص فقير هيأت نفسي للحياة البسيطة.

– زدني إيضاحًا.

– وداد، لم أرتح أبدًا لولع أمي وعمي بالمال.

– ممكن أن نحبه دون أن نعبده.

فهز رأسه في حزن ولاذ بالصمت، فقالت بنبرة دعابة لم تخلُ من فتور: أعلم أنك تحب سماع الموسيقى أكثر من اقتناء ثروة.

– أتسخرين مني؟

– كلا، ولكن تردد في بيتنا الحزين أن الخطوة التالية المتوقعة من جدي هي أن يملِّكك ثروته بطريقة قانونية!

شعر للمرة الثانية بالاتهام الحائم حول أمه، فقال بشيء من الحدة: لو خيرت بين ثروته وبينك فلن أتردد في الاختيار.

فقالت بأسف: ستكون حياتنا متواضعة جدًّا.

فقال بعتاب: سيعوضنا الحب عن كل شيء!

فابتسمت ابتسامة خفيفة، وكان قرص الشمس يهبط وديعًا أليفًا في الشفق، وقد استلت منه روح الشباب الفائر.

٤

تلقى من أمه خبرًا بأن عمه يدعوه إلى مقابلته في الحديقة. قالت له بحرارة: تذكر أنه أبوك، وتذكر أنه لم يبقَ على امتحانك النهائي إلَّا ثلاثة أشهر، وأنك يجب أن تحافظ على صفاء ذهنك.

مضى إلى الرجل الذي عاش طفولته وصباه وهو يؤمن بأنه أبوه، ويحبه — وما زال — مثل أمه. لم يعرف الحقيقة إلا عندما اطلع على شهادة ميلاده لأول مرة، عندما نودي في المدرسة باسم يحيى عويس الدغل لا يحيى جندي الأعور. عند ذاك عرف أنه ابن رجل آخر لم يره، يدعى عويس الدغل، طلَّق أمه وهو طفل ثم هجرهما إلى حيث لا يدري. ولولا مجيء جندي الأعور وزواجه من أمه واحتضانه له لتعرض لمصير مجهول لا خير فيه. كانت لطمة أليمة ولا شك ولكن رعاية الرجل له أنسته ألمه وانكساره. وقد شب وعاش في النعيم كأنه ابن الرجل الطيب. فعليه أن يتذكر ذلك التاريخ الذي لا يُنسى، كما يتذكر حبَّه.

وجد البك جالسًا في الدائرة الخضراء كما يحلو له أن يدعوها. هي ربوة مستديرة خضراء السفح، مسقوفة بمظلة من الخشب الأبيض على هيئة قبعة تتدلى منها المصابيح وضفائر اللبلاب. جلس على أريكة وثيرة في جلباب أبيض، وضيء الصلعة، بين يديه فوق الخوان قارورة ويسكي وجردل أحمر مليء بمربعات الثلج، وطبق فستق مقشر. رَبعة بدين ذو كرش جسيمة، بيضاوي الوجه لحيمه، قوي الفك غائر العينين في أنفه فطس ذو شارب غليظ لم تشب فيه شعرة واحدة رغم بلوغه الستين. حياه الفتى وجلس — كما أشار إليه — في قبالته. النسمة رائقة، وحفيف الغصون يبعث هسيسًا هامسًا، والأرض تضحك بألوان الأزهار، وشذا الربيع يفوح مسكرًا. قال يحيى لنفسه: إن الجو يسخر منهم ويعلن لا مبالاته بأحزانهم. قال الرجل وكان لا يعرف اللف والدوران:

ثمة حديث ما عاد يجوز تأجيله يا يحيى.

فاعتدل يحيى في جلسته استعدادًا، فقال جندي الأعور: ما حصل قد حصل لا حيلة لنا فيه.

فتمتم يحيى: ربنا معك.

– ما زلت آسفًا على أنني لم أسلمه ليد العدالة.

– تصرفت معه بما يتوافق مع خلقك الكريم.

فصب في الكأس جديدًا من الويسكي وقال: لم تكن الجريمة مفاجأة بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، فهو لم يضمر لي حبًّا ولا خيرًا، وعلى العكس كنت دائمًا حذرًا من ناحيته، دائمًا أتوقع ما لا يسر، ولا جدوى من حسن المعاملة مع أمثاله، بل لعلها زادته شرًّا، إنه الشرير الحقود، وكم من مرة أضبطه متلبسًا بسرقة المكتب وأعفو، ماذا ينقصه؟ إنه عاش في بيتي عيشة الملوك، ولعب بالقرش لعبًا، لكنه فاسق قذر ومقامر مجنون.

غشيته كآبة من مدخل الحديث فتنبأ له بنهاية غاية في السوء، أما الرجل فقال بقوة ووضوح: وشد ما حقد عليك كأنما تقاسمه لقمته، وشد ما طالب بطردك من القصر!

كان يشعر دائمًا بفتور عواطف الرجل نحوه، وزوجته أيضًا، كرهًا في أمه، ولكن حبه لوداد جرف النفايات من مجرى حياته، أيضًا لم يتصور أن النفور يتمادى لحد المطالبة بطرده. غير أن ما كان يهمه حقًّا فهو الحب وحمايته من إعصار الموقف الهائج. وصمت جندي الأعور حتى تستقر كلماته في أعماقه ثم واصل حديثه: له بطانة من السفلة والعاهرات، وقد بلغ الخامسة والأربعين دون أن ينال ذرة من الرشد.

لاحت الدهشة في وجه يحيى، تكشفت له أسرار بشعة لم تجرِ له في خاطر. واستحضر صورة زوجته الجميلة فازداد دهشة. ما وداد إلا صورة جديدة من أمها فكيف هان على محروس بك أن يخونها؟! وقال جندي الأعور بتقزز: زوجته لا تجهل مغامراته.

فتمتم الشاب في انزعاج: هكذا؟

– ولم تسكت المرأة الجريئة فردت الصفعة بأقذر منها!

لاح التساؤل في عيني يحيى، فقال جندي الأعور: انحرفت دون مبالاة متشجعة على ذلك بأصل قذر!

– لكن … لكن …

فقاطعه: لا تكن ساذجًا يا يحيى، لقد انحرفت، وقد كانت في الأصل عاهرة محترفة!

اصفر وجهه وهتف بصوت متهدج: لا!

فضحك جندي الأعور وقال: براءتك مذهلة، مثل أزهار هذه الحديقة، ولكن آن لك أن تفيق، المرأة كانت محترفة، وقد تزوج منها على رغمي مدعيًا أنه يفعل خيرًا يستحق عليه الثواب، لم تكن إلا شهوة عمياء ينز بها ثور، وقد رجع إلى فسقه وأرجعها إليه.

أحنى يحيى رأسه في غاية من الغم، فقال الرجل: حاولت الإصلاح فلم أوفق، هددته وهددتها، انتهى الحال بإنذاره بالطرد والحرمان، فكان رده السعي لاغتيالي.

تنهد يحيى أو تنفس بصعوبة، فمضى الرجل قائلًا: لا شك عندي في أنها شريكته، إنها داهية بقدر ما هو غبي.

امتلأ الجو بالغبار فلم تبقَ ثغرة لكلمة طيبة غير أن جندي الأعور قال: أمك تلح عليَّ في أن أهبه عمارة دفعًا للمزيد من شره، ولكني ما زلت مترددًا.

عند ذاك قال يحيى بشجاعة: أعتقد أنه اقتراح حكيم، فهناك أيضًا حفيدتك وهي بريئة.

فقال بازدراء: لا أصدق أن تخرج نبتة طاهرة من مستنقع قذر.

فقال يحيى مستميتًا في الدفاع: لكني أعرفها حق المعرفة.

فقال ساخرًا: أنت لا تعرف شيئًا، لذلك رأيت أن الواجب يطالبني بإزاحة الستار عما لم تعلم، خاصة وأنه لم يبقَ لي سواك!

فتمتم وهو غائب تمامًا: شكرًا لك يا أبي.

أدرك أنه مقبل على أيام محنة وبلاء. أدرك أيضًا أن الوقت غير مناسب للمواجهة. لا بأس من الانتظار ولو أنه لا توجد بارقة أمل في السماء المكفهرة.

٥

بقي على الامتحان شهران ونصف. من أين له العقل الذي يستوعب به دروسه؟ حتى الموسيقى لم يعد يتذوقها، وهو كمحب ثابت، ولكن موقفه حرج. وعندما سألته أمه عما دار بينه وبين عمه أجاب إجابة عامة موجزة دون إشارة إلى ما قيل عن وداد وأمها. فعل ذلك وهو لا يشك في إحاطتها بما قيل كلمة كلمة. وإيمانه بنقاء وداد لا يمكن أن يتزعزع، والأهم من ذلك فهو يحبها حبًّا لا تنال منه الاتهامات فضلًا عن الشكوك. في عالم النساء الساحر لا يخفق قلبه بحب سوى حبها، فهي مصدر الإشعاع والعذوبة في دنياه. ومن أجلها سيوجه الضربة الأخيرة لذلك القصر المزهو برشاقته.

وذات يوم قالت له وداد: لديَّ رسالة إليك، أبي يرغب في مقابلتك.

وسمَّت له اليوم والساعة في المسكن الجديد بشارع أبي قير. وافق بلا تردد لو تردد دقيقة لخسر وداد إلى الأبد. إذا علم عمه بالزيارة فستحدث أمور ولا شك. إن القدر يقتلع جذوره المغروسة في جنة رأس الحكمة جذرًا بعد جذر، وهو يمضي نحو المأساة بكامل إرادته ووعيه. من هو حتى يحاكم جندي بك الأعور أو زوجته شريفة هانم الدهل؟ إنه رغم البراءة لا يخلو من أخطاء وعبث. ولا ينسى آراء أقرانه فيه، فهم يرونه من أولاد الذوات المدللين، لا همَّ له إلا أناقته وسماع الموسيقى. منطوٍ أناني لا لون له، غير مبالٍ بالتيارات التي يسبحون فيها ويعانون من أجلها ما يعانون. فمن هو حتى يحاكم جندي بك أو شريفة هانم؟! ووجد الرجل في انتظاره. رجل قصير قوي صغير الرأس غزير الشعر والشارب كبير الأنف جاحظ العينين. رحب به، ابتسم له كما لم يفعل من قبل، ولكنه لم يشك في أن مقته قد تضاعف. ترى ماذا يريد منه؟ أي شرك يحفره تحت قدميه؟ ليكن ما يكون ما دامت وداد له. كان الوقت صباح الجمعة. مضى أوله في احتساء القهوة وتلقى نظرات محروس المتفرسة. أخيرًا قال الرجل: ستسمع في القصر حكايات مثل حكايات ألف ليلة فلا تصدق ما يقال، الرجل مجنون.

فقال يحيى بنبرة متوترة: لقد اختلط ما يصدَّق بما لا يصدَّق ودار رأسي.

– إنه الحقد والجنون.

– لكنه أبوك.

– ما خفي عنك أنه مجنون!

– سيدي، إنه رجل استثمار ورب أسرة ومحسن كبير.

– لا تغرك المظاهر، إنه الإدمان والشذوذ والجنون، يوجد آخرون يعلمون بالحقائق ولكنهم يتجاهلونها لاستغلاله أسوأ استغلال.

لعله يشير إلى أمه. حقًّا قد طفحت القلوب بالحقد. وقال رغم امتعاضه: ليس مستحيلًا أن تنتهي الأمور إلى خير.

– هيهات، لقد حيكت مؤامرة بمهارة خبيثة فتهولت في خيال رجل مجنون ملئت أذناه بالأكاذيب المتواصلة مثل دقات الساعة!

إشارة أخرى إلى أمه. حتى متى يتحمل ويتصبَّر؟! وتساءل: ألا تستطيع أن تظهر الحق؟

– فات الوقت، كيف تطالبني بالتفاهم مع مجنون؟!

وفرقع بأصابعه ثم تساءل: من هو جندي الأعور؟!

وبرقت عيناه بوحشية ثم تطوع بالإجابة: ستقول إنه صاحب المكتب التجاري المعروف، ورجل الخير والإحسان، أما المدمن الشاذ المجنون فلا يعرفه إلا خاصته المنافقون، ولا أهمية لذلك بالقياس إلى الحقيقة، وهي أنه لص رسمي من أرباب السوابق والسجون.

وتضاحك هازئًا ثم سأله: ماذا قال لك عنا؟

أجاب يحيى بلا تردد: لا شيء.

– هل تصدقني القول؟

– أجل.

– سيفتري الأكاذيب عاجلًا أو آجلًا، ولكني سأروي لك قصته.

تساءل يحيى متضايقًا: ما جدوى ذلك؟

فابتسم إليه ابتسامة صفراء وقال: إنها قصتك أيضًا وقصة والدتك!

خفق قلبه ناشرًا توقعات مبهمة ومقلقة، فواصل الآخر حديثه: إنه تاريخ لا بد أن يُعرَف، لوجه الحقيقة والاعتبار، ولكي يتعرى جندي الأعور كما ينبغي له، وعند ذلك تعرف من أنت، الحقيقة أن الجندي الأعور سرق أباك الحقيقي، لم يسرق ماله فقط، ولكنه سرق أيضًا زوجته.

هتف مستنكرًا: أمي!

– نعم، صبرك، بدأت الحكاية بتزامل أبي وأبيك في السجن!

– لا!

بدرت منه في حدة، فقال بهدوء: صدقني، ما أقول إلا الحقيقة، إن يكن ثمة عار فهو لاحق كلينا، لقد تزامل أبي جندي الأعور وأبوك عويس الدغل في السجن، تزاملا عامين، فقد دخل أبوك السجن حينما لم يبقَ من مدة أبي فيه إلا عامان، وقد دخلاه بتهمة واحدة على وجه التقريب. كانت تهمة سرقة بالإكراه، وتهمة أبيك السرقة للمرة الثالثة.

ارتعشت يدا يحيى من شدة الانفعال فصمت الآخر قليلًا ثم قال: إني آسف، أرجو أن تتمالك نفسك، لا مفر من الكشف عن الحقيقة مهما تكن بشعة مرة، أقول لقد تزاملا في العامين واطلع كل منهما على كثير من أسرار الآخر، وصارا بذلك صديقين، عرف أبوك أن أبي أرمل وأنه ترك وراءه في الحارة شابًّا ضائعًا هو أنا، وعرف أبي أن أباك ترك زوجة ورضيعًا هو أنت.

رغم غضبه واحتجاجه شعر بأن الحكاية لا يمكن أن تكون محض خيال، فما من واقعة ذكرت إلا ويمكن التثبت من صدقها، ترى ماذا هناك أيضًا؟

– عرف أبي أن أباك سرق امرأة تدعى دليلة الفقي، جعلت من مسكنها بنك رهونات، سرق الذهب كله، وادَّعى في التحقيق أنه فقده، ولم توفق الشرطة في العثور عليه، ولما غادر جندي الأعور السجن رجع إلى حارة التكية وهي أصلنا جميعًا، رجع في رأسه خطة.

بلغ يحيى نهاية في اليأس والقهر ولكنه أصغى إلى محدثه ومعذبه بكل جوارحه، فاستمر الرجل وهو يبتسم ابتسامة ظفر: أمك جميلة وكانت وقتذاك أجمل بالشباب، وكانت تكدح لتطعمك في ظروف سيئة، فزارها أبي باعتباره صديقًا لزوجها، ورهن نفسه لخدمتها، وكنت أراقبه على كرمه منه، إذ كنا دائمًا نتبادل سوء الظن والنفور، وكان أيضًا يخشى جانبي، وما تدري الحارة إلا وأمك تطالب في حقها من الطلاق من أبيك، ثم تتزوج من أبي، ويقرران هجر الحارة غير أنه اضطر إلى اصطحابي معه خوفًا مني!

سكت ليشرب قليلًا من الماء على حين انتظر الآخر في كآبة وحزن، وقد شعر نحوه بمقت لم يشعر بمثله لإنسان من قبل. واستطرد محروس: سافرنا إلى الإسكندرية، ومضى أبي يبيع الذهب ويستثمر المال، وفي الحال أدركت أنه استولى على الكنز المسروق بإرشاد زوجته، ومضى يعمل ويثرى، وشيد القصر وابتنى العمارات، وتنكَّر في صورة جديدة تناسب حياته الجديدة، بل عُرف بالخير والإحسان، بفضل السرقة والغدر والخيانة، بفضل ثروة أبيك، وهي ثروتك إذا شئت، التي أدى أبوك ثمنها أعوامًا طويلة في السجن من عمره.

نفخ يحيى غيظًا وقهرًا. آمن بأن حياته كانت سرابًا وأنه لم يبقَ منها ولا قبضة من ترابٍ.

وضرب محروس الخوان براحته وقال: الحكاية قديمة أفلتت من قبضة القانون، ولكنها الحقيقة، إنه لا يحبك كما تتوهم، إنه لا يحب أحدًا، لقد كره ابنه الحقيقي فماذا تنتظر؟ وأنت صاحب الثروة والمذكر الدائم له بماضيه.

وسكت دقيقة طويلة ثقيلة ثم تساءل: ما رأيك في الحكاية؟

فقال يحيى بجفاء: فظيعة لا تصدق!

– ألم تصدقني؟

– لا أدري ماذا أقول.

– لكن اليقين عند والدتك!

صمت قهرًا ويأسًا. أدرك مرماه الجهنمي. إنه ما استدعاه إلا ليعطيه الفتيل الذي يفجر به حياته وأهله. ولكن هل ثمة مهرب؟!

٦

خلا إلى نفسه في حجرة مكتبه بحجة الاستعداد للامتحان، ولكنه غرق في همومه حتى قمة رأسه. إنه يتساءل دائمًا ماذا عليه أن يفعل. ويرى أنه يجب أن يبدأ من الصفر ولو تهاوى الحلم القديم فوق رأسه. كل شيء يدعو إلى التقزز، وقد تحول إلى دودة ترتع في الزبالة. وبدا أنه لم يحسن إخفاء ما يعتلج في نفسه كما وضح له ذلك من نظرات عمه وأمه عندما تجمعهم المائدة. وإذا بأمه تسعى إليه في خلوته. إنه يراها بعين جديدة. يرمق جمالها بأسًى، يستشف وراء ربة القصر المرأة الكادحة المدعوة جميلة الأسطى. المرأة الخائنة. أجل إنها تزهو بالطول والعرض ولكنها محشوة بالقش. قالت بحنان: لا شك أنك حزين، ولذلك فإنني يائسة.

ولم ينبس. سحقًا لكافة أكاذيب الحياة. قالت بإشفاق: لا شك على أن عمك أطلعك على حقائق مرة.

هانت بالقياس إلى حقائق أخرى. قطب مصرًّا على الصمت فقالت: كلما أدركت مدى ألمك حز في نفسي الألم، ولا شك أن احتمال فقد وداد احتمال أليم، ولكنه لا يقاس بالكارثة التي عصفت بعمك.

فقال بجفاء: لا أوافقك على ذلك.

– يحيى، تصور الأمر بعين عادلة.

فقال متخطيًا حاجز التحفظ: ليس هذا بكل شيء.

فلاحت في عينيها نظرة تساؤل فقال متراجعًا: سوف تضيع العام الدراسي هدرًا!

فهتفت في جزع: كان يجب أن تظل بمنأى عن همومنا.

– ما كان كان.

فتنهدت وقالت: لقد سمعت كلامًا، وربما سمعت أكثر، تعلم كيف لا تكترث.

– كيف؟

– يحيى، تذكر ما تحوزه من فرص، إنك نجم هذا القصر، سيئول إليك كل شيء فيه، أمامك حياة طويلة عريضة ثرية، كل أولئك أشياء حقيقية، أما ما يقال فما هو إلا كلام لا يجوز أن يؤثر في الأشياء الحقيقية، وداد نفسها بنت جميلة، ولكن كم من جميلة تفوقها في الإسكندرية.

فتساءل في سخرية: والحب أليس له اعتبار عندك؟

– ما قيمته إذا ضيع فرص الحياة السعيدة؟

فرغمًا عنه قال: لكنه قوة، بسببها ينتحر أناس ويقتل آخرون ويغدرون.

فوجمت قليلًا ثم تمتمت: العاقل لا يحرص عليه إلا إذا آمن بأنه طريقه إلى السعادة.

إنه يحوم حولها ولكنه يشفق من الانقضاض عليها. أجل إنها تستوي أمام ناظريه امرأة، ولكن وجدانه ما زال ممتلئًا بها كأم. يهم بتوجيه ضربة ولكنه يتوقع أن ترتد إلى صميم قلبه. ما كان يتصور أن يصدق كلمة مما قال محروس، ولكنه تلقى كلامه في وقت تزعزع فيه كل قائم. تلقاه بعد أن شهد الابن ساعيًا لقتل أبيه، والأب طاردًا ابنه وملوثًا حرماته، فأي شيء لا يصدق؟ وإذا بها تقول وهي تتفرس في وجهه: إنك لا تفتح قلبك لي.

فلم يحر جوابًا، فقالت: لقد حدثك عن محروس؟

– أنت تعرفين ذلك.

– وحدثك عن شريفة أيضًا؟

– هل افترى عليها كذبًا؟

فقالت بصوت متهدج: ما أبشع الصدق أحيانًا!

فقال بتحدًّ: كثيرًا ما يكون كذلك.

– ولكنا يجب أن نقدس الحياة الموهوبة لنا!

– ولكنها تتمخض كثيرًا عن أوهام وأشباح!

– ما أتعسني بسماع ذلك.

فقال بتسليم: إني تعيس حقًّا!

فقالت برجاء حار: ولكنني مصممة على بعث الابتسامة فوق شفتَيك!

٧

عندما ترامقا غاصا في خيبة جديدة. كازينو جليم شبه خال، الكوكاكولا والمغيب المقترب. قال لنفسه لو وجدتها مرحة سعيدة كالأيام الخالية لخاب أملي أكثر. قال لها بحنان: وداد، لست على ما يرام.

– أنت أسوأ حالًا مني.

– قد توقفت تمامًا عن المذاكرة.

– سنة ضائعة لكلينا.

جعل ينظر إليها وهي تهرب إلى الأفق الغارق في البحر، حتى سألته بنبرة محقق: ماذا قال لك أبي؟

لم يدرِ ماذا يقول. العار مطوق لكليهما، ولكن ما عسى أن يقول؟ أخيرًا تمتم: يخيل إليَّ أنك تعرفين كل شيء!

فلاذت بالصمت، فإذا به يندفع قائلًا وهو ما لم يغفره لنفسه: قضي عليَّ بأن أسمع ما أكره، تارة من أبيك وتارة من جدك!

أمالت وجهها نحوه في ارتياب، فغض بصره آسفًا، وعند ذاك سألته: ماذا قال جدي؟

قال وكأنه يدافع عن زلته: علينا أن نعرف الحقيقة لنقرر مصيرنا ونحن على هدًى، ماذا سمعت؟

فقالت بحزن: عين ما قيل لك، ولا داعي لإعادته.

– القصة القديمة عن السجن والغدر؟

– القصة القديمة عن السجن والغدر، فماذا قال جدي؟

عاوده الاندفاع ليؤكد لها أنهما ينهلان من مستنقع واحد، قال: تكلم بدوره عن والديك.

فعاودها القلق والتوتر وقالت: أبي متهم، طيب، ماذا عن أمي؟

– لعله الغضب يا وداد.

– أريد أن أعرف ما عرفته.

– إنه سخف لا أكثر ولا أقل.

– كلا، إنك تصدق ما قيل، فما هو؟

– إنني في حيرة.

فتساءلت بإصرار.

– ما هو؟

– ماذا تتوقعين من رجل إذا أراد أن يعيب امرأة؟

اصفر وجهها، ازدردت ريقها، ثم قالت بحدة: أريد كلامًا واضحًا!

فقال ضارعًا: لا تعذبيني فإنني كما ترين على أسوأ حال!

لاذت بصمت ثقيل أليم ثم تساءلت: ماذا بقي لنا؟

فقال بقوة لأول مرة: كل شيء، الحب.

– ما معنى الحب في مثل حالنا؟

فردد معنًى رددته أمه من قبل، ربما دون إيمان حقيقي: ما يهم هو الحياة الموهوبة لنا.

فقالت ساخرة: إذا فما علينا إلا أن نذاكر، ثم نمضي معًا، أرادوا ذلك أم لم يريدوه.

– هو ذلك!

فقالت بيأس: نحن نهذي يا يحيى.

– ولكن …

غير أنها قاطعته متسائلة: صارحني بما تنوي عمله!

فقال مستسلمًا: جئت رجيًا من تلاقينا أن يبعث فينا روحًا جديدة.

فقالت بحدة: لكننا تبادلنا أنباء الفضائح والتعاسة.

– كان لا بد من التعرض لذلك!

فتساءلت بأسًى: أين المحبان القديمان؟

– ها هما، أنا وأنت!

– يحيى، إنك عاجز عن تجاهل ما سمعت!

– وأنت كذلك، ولكننا سنقهر ما يعترضنا.

وساد الصمت والحزن. وعند ذاك استدعى شجاعته وقال بنبرة اعتراف: وداد، قررت أن أسافر. هذه هي الحقيقة!

فحدجته بنظرة متسائلة منزعجة، فقال بالنبرة نفسها: قررت أن أسافر إلى القاهرة، إلى الحارة.

– أتعني حقًّا ما تقول؟

– بيتين.

– خطوة غريبة تقطع بأنك أعجز ما تكون عن تجاهل ما سمعت؟!

– إنها لا تقاوم.

– هل تطمع من ورائها إلى خير؟

– يجب أن أقطع الشك باليقين.

فتساءلت بعد تردد: هبها أكدت ما سمعت؟

فتفكر قليلًا ثم قال: ليكن، بوسعي بعد ذلك أن أقرر تجاهلها، بل لا معنى لتجاهلها إن لم أعرفها معرفة يقينية في منبعها، ولا بديل عن ذلك سوى العذاب.

فرفعت منكبيها في استسلام وهي تغيب في مهوى الشمس المخضب بالاحمرار، وقالت: نصحتني أمي بقطع علاقتي بك زاعمة أنها لن تجر وراءها إلا العذاب.

فقطب قلقًا وهو يرمقها بعنف فقالت بهدوء: ولكنني رفضت النصيحة هازئة بما سمعت، فانظر إلى موقفك أنت!

– أشكرك يا وداد، لا أتوقع منك قرارًا آخر، ولكن لا تدعي الاستهانة، وإلَّا فما تفسير هذا الحزن القاتم الثقيل؟!

– إنها الصدمة المباغتة، والانهيار المنقض، وانتثار الأسرة الواحدة!

– فقال متنهدًا: لذلك قررت السفر!

– سافر إذا شئت، أما قلبي فإنه يتوجس أوخم العواقب.

فتوسد راحتها براحته وقال: حبنا ثابت راسخ، إنه مثل الضوء لا يعني اختفاؤه حينًا إلا أنه يدور دورته ليريق ضحكته الإلهية في الصباح التالي.

٨

ثمة جو جديد في قصر رأس الحكمة ينفث رائحته الكئيبة. جندي بك لم يعد نفس الرجل، ولا جميلة هانم، إنهما يبذلان جهدًا لا يستهان به ليمارسا حياتهما اليومية في هدوء وطمأنينة، كما كان الحال قبل الجريمة. الأسى يتجلى وراء الأقنعة كما يتجلى العمر وراء التصابر. أما هو فلم يلبس قناعًا ولم يبالِ بمشاعر الآخرين. وكانوا يحتسون القهوة بعد الغداء في حجرة الجلوس الزرقاء عندما فاجأهما بقوله: إني أستأذن في السفر.

وقالت أمه بقلق: لم أتوقع ذلك، ولم يبقَ على الامتحان إلا أقل من شهرين.

– إني لا أكاد أعمل، وبي اضطراب لا يمكن تجاهله، فلا بد من رحلة قصيرة للنقاهة.

– كان يجب أن تكون قد تغلبت على الكدر.

– لم أوفق إلى ذلك.

– ولكن أين تسافر؟

فأجاب بثبات: إلى مرسى مطروح.

فسأله جندي بك: أهذا قرار ضروري؟

– أعتقد ذلك، بضعة أيام أسترد بها صفائي.

وهمت أمه بالاعتراض، ولكن جندي بك قال: فليذهب، وسوف يرجع على أحسن حال.

٩

إنه يقوم بأخطر رحلة في حياته. رحلة المغامرة والتضحية والحقيقة. هي أيضًا رحلة الهروب من العذاب. ربما إلى عذاب أعمق وأكثف. كأنه لم يرَ القاهرة قط، كأنه من مواليد الإسكندرية. هجرها وهو ابن ثلاث ورجع إليها وهو ابن عشرين. دهمته القاهرة كأخطبوط خرافي. لم يجد شوقًا للتقلب في جنابتها، فاخترق قطاعها الأوسط إلى الحي العتيق. أودع حقيبته في حجرة بالكلوب المصري وراح يدور من شارع إلى حارة. إلا حارة التكية، أجَّل اقتحامه لها حتى يتشبع بالاستعداد. وقال له صوت من الداخل: «ماذا تفعل؟ لا تكن سخيفًا، ارجع من حيث أتيت، انجح في الامتحان، انتظر وداد عامين، تزوج منها ملقيًا بالهموم جانبًا، مستهينًا بجندي وعويس، بجميلة وشريفة، ليس في الأمر مشكلة حقيقية.» ولكن انتصب أمامه إغراء الحقيقة القاسي. رغم شعوره بالعبث. وهل كانت إلا معركة بين لصين؟ ونادى عزيمته واقتحم الحارة. اقتحم الألوان الفاقعة والأصوات المتفجرة، الحاضر الصاخب والماضي المتحفز، النظرات المحملقة والقهقهات المتحشرجة، نداءات الحرف المختلفة بالأصوات والدقات والروائح النافذة، ومهرجان الأزياء من البدل والقفاطين والجلابيب فضلًا عن الأجساد شبه العارية، والعطفات والأزقة، والبيوت المتداعية والعمارات الجديدة الشاهقة. ها هي امرأة تنادي مثلما كانت تفعل أمه، وها هو رجل يتصعلك كما فعل أبوه وعمه، وها هو طفل يلعب بفأر ميت ربما كما فعل هو. هنا تقررت مصائر عويس الدغل وجندي الأعور وجميلة الأسطى وشريفة الدهل. ذهب وجاء وهو يتساءل عن الراوي الذي سيهتك له حجب الظلام، من يكون؟ وأين يجده؟ ووقعت عيناه على عجوز قابع وراء صندوق الماركات في المقهى الوحيد، فحدس أنه يجد فيه بغيته. وقد صدق الحدس.

١٠

صدق حدسه، فالرجل عجوز مقيم ومقهاه من معالم الحارة الأثرية. اختار أقرب مجلس إليه وراح يفكِّر في وسيلة للنفاذ إليه واستدراجه للحديث. لفت نظر الرجل ببقائه المتواصل وكرمه مع صبي القهوة. ونفد صبر صاحب المقهى العجوز، فسأله باسمًا: أنت منهم؟

فتساءل — مرحبًا بالحديث — عمن يقصدهم، فقال العجوز: رجال الجرائد.

فانتهز الفرصة وزعم أنه منهم، فقال العجوز: كثيرًا ما يجيئون ويصورون ويأخذون ما يشاءُون …

فقال يحيى بدهاء: إني أبحث عن حكايات، ولكل حكاية ثمنها!

فاختلج جفنا العجوز فوق عينيه الكليلتين، وقال بإغراء: حارتنا حارة الحكايات … ولكن لا بد من جلسة كيف!

فوافق على شروطه، ولكنه قال: تحت شرط أن نكون منفردين …

•••

هكذا جمعهما سطح مسكن العجوز. جلسا على وسادتين فوق كليم تحت ضوء النجوم تسعى حولهما دجاجات ناقَّة مقوقئة. تظاهر يحيى بأنه يدخِّن فجعل يملأ شدقيه بدخان الجوزة وينفثه في قرف لم تتح للرجل رؤيته. ولم يضنَّ عليه بما طلب من نقود. وصبر على ثرثرته عن أسعار البن والسكر والشاي وحكيه لبعض النوادر الدارجة، ثم عجز عن كبت لهفته، فقال: اسمع يا معلم سليمان، لقد سمعت من آخرين نتفًا عن حكايات، فلم يحظَ بانتباهي إلا حكاية رجل يدعى عويس الدغل، ولكنها جاءت ناقصة لا تشبع، فهل تعرف أصل هذه الحكاية؟

فسعل العجوز سعلة محترف وقال: عويس الدغل عليه اللعنة، إنها عظة كل مغفل في حارتنا، ماذا سمعت؟

– لا أهمية لذلك، أريد أن أسمعها من راوية محنك مثلك، إنها حكاية مدهشة …

– لا تدهش، عندما تبلغ من العمر ما بلغته فلن تدهش لشيء أبدًا …

– حقًّا؟! ولكن هل ما زال الرجل حيًّا؟

– وهل يبقى على ظهرها إلا الأشقياء؟

وضحك فجاراه في ضحكه وهو يجد غمزًا أليمًا في قلبه، ثم سأله: ماذا يعمل؟

– إنه في السبعين، تربية شوارع وسجون، وهو اليوم أحد ثلاثة في حارتنا يرتزقون من توزيع الكيف …

– إذن فهو في عيشة راضية؟

– لا، موزِّع القطاعي محدود الرزق، تكون حاله أحسن إذا قام به، بالإضافة إلى عمل آخر، ولكن عويس لم يحترف عملًا شريفًا في حياته، وعجز أخيرًا عن السرقة!

اجتاحته رغبة في البكاء، فقاومها بعنف ساءت به حاله. وقال العجوز: إنه يعيش في بدروم في آخر ربع قبل البهو، وإن شئت أن تراه أرسلت في طلبه؟

فقال بسرعة: فلنؤجِّل ذلك …

– لعله نسي.

– نسي؟

– غدر جندي الأعور وخيانة زوجته، ألم يحكوا لك ذلك؟

– بلى، زمالة السجن، الطلاق، والهرب بالذهب والزوجة والابن …

– عندما خرج من السجن أقسم ليقتلنهما، وجدَّ في البحث عنهما ما وسعه ذلك، وعاش دهرًا كالمجنون.

فقال يحيى بصوت منخفض كيلا يفضح تأثُّره: حكاية غريبة.

فقال العجوز بلهجة منتقدة: الحق عليه، لقد كانت المرأة عاهرة محترفة فتزوج منها، ماذا يتوقَّع من مثيلاتها؟

– آه … حمدًا للظلام، إنه يتحلل مثل جثة الميت. لم يذكر محروس شيئًا عن ذلك اتقاءً لغضبه غالبًا. وها هو يتلقى الحقيقة كلسان من لهب. ها هو … آه ما أفظع الألم.

وواصل الرجل العجوز حديثه منتشيًا بأهميته: أين ذهب جندي الأعور والمرأة والطفل؟ لم يعلم أحد، وحتى اليوم لا يدري عنهم شيئًا، ونسي عويس الدغل الحكاية كما نسيتها الحارة، ولا شك عندي أنه اليوم في السجن وربما الطفل أيضًا أما المرأة فلا محيد لها من الرجوع إلى مهنتها الأصلية …

إنه يهبط درجات من الألم أردته إلى أعماق الجحيم في معزل عن الدنيا جميعًا، إنه سقيم في كون موبوء لم يبقَ له من الغذاء إلا السخرية. وقال العجوز: عندما قُبض على عويس هرعت دليلة الفقي صاحبة الرهونات إلى المرأة، توسَّلت إليها أن ترد الذهب اتقاءً لغضب الراهنات والراهنين، فأقسمت بأغلظ الأيمان إنها لا تدري عنه شيئًا، وقصدها الفقراء أصحاب الذهب المرهون يتوسَّلون ويبكون، أكثرهن نسوة كادحات يشترين الذهب لوقت الحاجة ويرهنَّه عند الضرورة …

فتمتم يحيى بذهول: أولئك هن صاحبات الثروة المسروقة!

– دون غيرهن، وهن اليوم في هذا الغلاء لا يجدن اللقمة إلا بالعذاب، ولعلهن صدقنها في وقتها حتى ظهر جندي الأعور وهرب بها فتأكَّدن بأنه ما لعب لعبته إلا من أجل الذهب المسروق …

فقال يحيى بأسًى: هن وحدهن صاحبات المال الحال …

– أما عويس وجندي فلم يكونا إلا لصين وبُرْمَجيَّينِ، وقد نال عويس جزاءَه في السجن وخارجه، ولا يدري أحد إلا الظن بما حل بجندي.

وضحك العجوز ضحكة ساخرة واستطرد: وقد كان لجندي ابن قوَّاد!

– ابن جندي الأعور؟!

– نعم، وقيل إنه ابن حرام، وإن جندي كان يؤمن بذلك ولكنه كان يخشاه، ولذلك أخذه معه اتقاءً لشره، ولعل الولد كان يراقب أباه وزوجة عويس حتى لا يفلتا من قبضته بالغنيمة، وقد تزوج الابن من امرأة محترفة جميلة وكان يقدمها للأعيان!

فتساءل يحيى: ترى ماذا يفعل عويس لو عثر على جندي الأعور فوجده خلافًا لظنك ينعم بالجاه والثروة؟!

فقهقه العجوز وقال: ماذا بقي من عويس القديم؟ هل يقتل؟ هل يبسط يديه في ذل سائلًا ما يجود به الآخر؟ كلهم لصوص برمجية أوغاد، وليرحم الله ضحاياهم المساكين!

١١

رآه واقفًا كالنائم مركونًا إلى جدار الربع. هيكل خلا من مقوِّمات القوة، كليل البصر لا يرى أبعد من متر، غائر العينين بارز الجبهة أصلع نابت شعر الذقن يمرق عنقه من جلباب لا لون له من تلبُّد الغبار والأوساخ عليه حافي القدمين. مر أمامه ذهابًا وإيابًا فلم ينتبه الرجل إليه ولم يشعر هو نحوه بأي عاطفة، ولكن اجتاحه إحساس شامل بالتقزز والاحتجاج والتمرد. لا يستطيع أن يقدم له شيئًا ولا أن يأخذ منه شيئًا، إنه غريب تمامًا ولكنه رغم غربته قلب حياته رأسًا على عقب. مضى ورأسه يشتعل بالأفكار المحمومة. هذا هو أبوه عويس الدغل وهذه هي أمه جميلة الأسطى. وهناك أيضًا والدا وداد محروس جندي وشريفة الدهل. إنه ليس الفقر ما يخجل ولكنه الانحطاط. في هذه القضية يستحق السارق والمسروق لعنة واحدة. وقد أراد أن يتثبت فجاءه اليقين نافثًا رائحته النتنة. ما عسى أن يفعل؟ ماذا يقبل وماذا يرفض؟ الحيرة تمزقه وعليه أن يتخذ موقفًا قبل أن يتبعثر بددًا. إنه يحترق، لا يمكن أن يحتمل النار إلى ما شاء الله، ولا يمكن أن تمضي الحياة كما مضت على عهد الغيبوبة السعيدة. وله أن يفكر، ولكن فليحذر الدوران مع الدوامة بلا عمل حاسم. إنه بحاجة ماسة إلى وداد، ليتبادلا الرأي، وليتفقا على خطة موحدة. هل يطلق الكلاب المسعورة بعضها على بعض لتقول العدالة كلمتها القاسية في عويس وجندي ومحروس والجميع؟! قواه الغاضبة تود أن تفعل ذلك وإلا فلا معنى لأي شيء. وإلا فكيف يخرج من الجحيم؟ ولكن لا بدَّ من مشاورة وداد. يجب أن تتكلم جميع جوانب نفسه. إنه يرفض أباه وأمه وعمه، ويود أن يوجه ضربات مذهلة.

١٢

وافته وداد إلى كازينو جليم. من أول نظرة من وجهه ارتسم القلق في وجهها. قال لها محذِّرًا: لا أحد يعلم بوجودي في الإسكندرية.

فسألته بدهشة: ولِمَ تخفيه؟

– ربما رجعت إلى القاهرة مرة أخرى …

فقالت متوجسة: هل دعوتني لتحملني مزيدًا من الهم؟ إني أعيش أتعس أيام حياتي …

فقال بهدوء مخيف: يسعدني أن أسمع ذلك، شعور التعاسة في مثل حالنا هو ما يهبنا الجدارة بالحياة الكريمة، فلنترك السفلة ينعمون بالحياة في غمرة سفالتهم …

ازدادت قلقًا، أما هو فإن وحشية التجربة دفعته بقوة مستهترة إلى المكاشفة. قال: قطعت رحلتي ولكنني سأرجع، شعرت بالحاجة الماسة إلى مشاورتك، علينا أن ننتهي إلى موقف موحد.

– إنك منفعل إلى درجة تخيفني …

– لا أنكر ذلك، تلزمنا إرادة حديدية لنستحق حياة نظيفة، ليس الأمر هزلًا، ولن أباهي بظاهر برَّاق إذا كان الباطن عفنًا، أريد أن أرفض الحياة القذرة …

قطبت متفكرة، فقال: سأصارحك بالكثير، المصارحة بكل شيء فوق طاقتي ولكنَّك ذكية وتكفيك الإشارة، الحياة التي نعمنا بها طويلًا حياة زائفة قذرة مهينة، هناك في الحارة عرفت أصول الأشياء، من أبي ومن أمي، من جدك ومن أبوك ومن أمك، إنها العار والقذارة، المرارة تنسيني اللياقة، تنسيني الترفق بك، ولكنِّي لا أترفق بنفسي أيضًا، الماضي كله قذر، لا يجوز أن يمتد في الحاضر، علينا أن نقرِّر …

ازداد وجهها الجميل شحوبًا وتجلَّت في عينيها نظرة كئيبة. قرأها بعمق فخطر له احتمال مخيف، وهو أنها قد يفقدها إلى الأبد، وأن يتوه بلا قطرة عزاء في جحيم المحنة. لكنه كان مشحونًا أيضًا بثورة طاغية. كان يعاني مقتًا لمقدساته القديمة تساءلت: هل لديك أدلة قاطعة؟

فتفكر قليلًا وقال: التاريخ نفسه لا يملك أدلة أقوى!

فلاذت بالصمت. ولاحظ هو أنها تتجنب المزيد من الإيضاحات. لم تسأله مثلًا عمَّا عرف عن والديها. ربما بدافع من الإشفاق، وربما لأنها في غير حاجة إلى سؤال، قال: فلنطرح الحلول الممكنة أولًا، فثمة حل هو أن نتجاهل الماضي بشره ونواصل حياة تحسدنا عليها الملايين!

فبرقت عيناها، وقالت وكأنها تستغيث: في بيتنا يتوقَّعون أن ينزل جدي لنا عن عمارة ولو دفعًا للشر، يتوقَّعون أيضًا أنه سيملكك ثروته بعد وفاته …

فساءه أنها تعلقت باقتراح لم يطرحه إلا بدافع الإحصاء، وقال: الحل الثاني أن نرفض القوم وثروتهم وننجو بأنفسنا مهما تكن العواقب لنحيا حياة نقية جديرة بالكرامة …

فلاحت متفكرة بعمق وصامتة، فقال: لا أخفي عنك أن بي ثورة لا تقنع بذلك؛ لذلك أفكر في حل ثالث وهو أن أحرش الشياطين على بعضها البعض حتى لا يفلتوا من العقوبة الرادعة، ولكي تعود إلى الأشياء معانيها …

فرمقته بارتياع وتمتمت: إنك تتحدث بجدية تنذر بأوخم العواقب …

فتساءل متجاهلًا قولها: أي حل نختار يا وداد؟

فقالت بانفعال: مهما تكن الأخطاء فإنني أرفض أن أقيم من نفسي قاضيًا للحكم على والديَّ، ولا أسمح بأن يصيبهما مكروه على يديَّ، بل لا أسمح أن يصيبهما مكروه إن استطعت دفعه، ذنبهما على جنبهما، كما يقال …

إنها واضحة وضوحًا حفر هوَّة بينهما. تساءل في وجوم: حقًّا ترفضين؟

– وأيضًا الحل الثاني أراه خياليًّا، هبنا تبرَّأنا منهم فكيف نلقي الحياة بعد ذلك؟ سنضطر عند ذاك إلى الانقطاع عن التعليم، ولن نجد عملًا، فهل نموت جوعًا أو ننحرف مثلهم؟ إنه حل جميل تهفو النفس إليه، ولكنه ليس عمليًّا يا يحيى …

أي خيبة تجيء في إثر خيبة! إنه في وادٍ وهي في وادٍ. هل تكشف له الأحداث عن شخصية أخرى تحت الشخصية المحبوبة؟! أمَّا هي فواصلت وقلقها يزداد لشعورها بالفارق الكبير بين فتورها وحماسه: إنني متألمة مثلك، متقززة مثلك، غير أنني أرى أننا — أنا وأنت — لا نستحق أن نتحمل وزر ما ارتكبه الآخرون، فلنتجاهل الماضي الأليم، لنمضِ في حياتنا لا يفرق بيننا شيء، ذلك إذا آلت الثروة يومًا إليك أن تفعل بها ما يرضي ضميرك ويكفِّر عن أخطاء وجرائم الآخرين …

فقال بازدراء: معنى ذلك أن نرضى بنعيم اللصوصية والعهر …

– نحن نرضى بواقع علاقتنا بآبائنا …

فتساءل بغضب: وبعد أن رأيت بعيني البؤساء الذين هم أصحاب الثروة المسروقة؟!

فقالت بإصرار: نحن أبرياء، لم نرتكب إثمًا، بل نحن ضحايا لما نعاني من عذاب، ومن الحماقة أن نرمي بأنفسنا للضياع ونحن نمد يدنا لقطف ثمرة كد السنين، فلنصبر ولو على الأقل حتى نقف على قدمينا!

فتساءل بحزن: أهذا رأيك؟

– يحيى، كن حريصًا على حبنا حرصي عليه، لسنا قضاة ولا شرطة، وإذا أردت هجرهم لفورنا ففكر قليلًا في العواقب، هبني قلت لك إني معك فما هي الخطوة التالية؟ ماذا نعمل؟ أين نعيش؟ أعطني إجابات محددة وأنا معك، لا أريد أن أقوم بمغامرة ثم أسقط في الضياع …

فقال بصوت خامل محشرج بالخيبة: ليس عندي جواب محدد، لسانك يجري بمنطق العقل، والعقل أسمج محدث في موقفنا هذا، الجنون ما ننشد، أعني الجنون المقدس …

– أرجو أن أكون واضحة تمامًا، أنا لا أتعامل مع الجنون المقدس، ولعلي لا أعرف جنونًا مقدسًا، وأنت فريسة للغضب، فعليك أن تعيد التفكير وأنت هادئ متمالك لانفعالاتك …

فقال بعد تردد: أرى أننا مختلفان!

– كلا، من ناحية الشعور فنحن شخص واحد، لا أفرط فيك رغم الحملات المتتابعة، وفي الوقت المناسب سأقرر مصيري بنفسي، ولكني أرفض المغامرات الجنونية!

بقدر ما حاصره منطقها ثار عليه، وكلما اشتد الحصار اشتدت به الثورة. ولكنه انهزم. على الأقل لم يمضِ في اندفاعه إلى نهايته. أجَّل اتخاذ القرار. أجَّله وهو من القلق والحيرة في نهاية. وهما يغادران الكازينو ضغطت على ذراعه التي تتأبطها إعرابًا عن تمسكها به …

١٣

عندما ودَّعته قال في نفسه إنها تطالبني بالصبر ولو حتى الامتحان ولكن ألا يستوي أن أصبر شهرًا أو عمرًا؟! إنها مسألة مبدأ لا وقت. وقد انكشف عالمه عن حقيقته البشعة القذرة فكيف يقبله دقيقة واحدة؟ ما زالت نقود عمه في جيبه، يذهب ويجيء بها، وينعم بقوتها الفريدة. رغم ذلك كله ما زال مترددًا ولما يتخذ قراره. ترى لو رفع صوت العقل في كل حين أكان يستشهد شهيد؟! العقل يحكم في الفلك لا في السلوك. إمَّا براءة وإمَّا قذارة. هل يظل ابن لص وعاهرة؟ ولو كانت المعركة صراعًا بين لصوص لهانَ الأمر بعض الشيء ولكنها جناية وحشية ضحاياها أتعس تعساء البشرية!

وتفكر أيضًا وهو ماضٍ على الكورنيش أنه لم يبلغ ما بلغ من التربية والتهذيب والمستوى إلا بفضل النهب والدعارة فتضاعف امتعاضه وأساه. وهو على تلك الحال وجد نفسه يتجه نحو قصر الحكمة. ليس لديه قرار نهائي ولكنه سيلقى الموقف بتلقائية ولينظر كيف تتطور الأحداث. مر بعمه وهو يشارب رجلًا غريبًا في الدائرة الخضراء، رحَّب به الرجل وقال بنبرة المنتصر: قلت إنك ستضيق بالوحدة فترجع سريعًا.

أما أمه فهرعت إلى حجرته متألقة بالسرور وقالت: خير ما فعلت، لا وقت لديك تضيعه وقد استجاب الله لدعائي …

جلست قبالته وهو يجذب نفسه من بحر الانفعالات الذي يشده إلى أعماقه بين أمواج متلاطمة من النفور والازدراء والولاء. ها هي تقول إنها تعرف الله وتدعوه، وإنه يستجيب لها. وهي تجلس مطمئنة ملقية القدمين على وسادة مزركشة، جميلة وفخيمة وربة قصر وأي قصر. رياح الثورة ما زالت تعصف بأركانه ولكن يقاومها إشفاق لا يخلو من قداسة. ما زال يذكر بشدة منظر أبيه ومناظر الضحايا فيغص بالمرارة. غير أن الرحلة اقتلعت من صميمه التردد والحياء فلذلك اندفع يقول بلا روية: الحق أنني لم أسافر إلى مرسى مطروح!

– حقًّا؟ إذن أين كنت يا حبيبي؟

فأجاب ببرود منذر بالويلات: كنت في حارة التكية بالقاهرة!

تلاشت البهجة فجأة من صفحة وجهها كأنها مصباح كهربائي انقطع عنه التيار. شحب لونها وهي ترنو إليه بوجوم واستسلام. لأول مرة يراها وهي مسحوقة بلا حيوية ولا كبرياء. وجاءه صوتها وانيًا متسائلًا: ماذا أذهبك إلى هناك؟ بل من دلَّك عليها؟

فلوَّح بيده ولم ينبس فقالت: محروس؟!

– ما أهمية ذلك؟

وساد الصمت حتى أوشك أن يرثي لها، أوشك أن يندم على ما بدر منه. طال الصمت، وفيه قيل كل شيء بلا كلام. لم يتكلم ولم تسأل. كفى اسم الحارة لبعث تاريخ طويل بكل تفاصيله، ثم نكست رأسها ففقد القدرة على النطق. وقال لنفسه إنه لن يتيسر له البقاء بعد ذلك. لا قتال ولا سلام. ها هي تقوم متثاقلة وكأنها طعنت في الشيخوخة. مضت نحو الباب فتابعها بعين مودعة. غير أنها وقفت فجأة فوق العتبة. لبثت واقفة دقيقة كاملة. واستدارت بحركة لا تخلو من شدة. تجلى له وجهها جامدًا ومتحديًا، ثم أقبلت نحو مجلسها بتصميم جديد. نظرت إليه مضيقة عينيها وقالت برزانة أضفت عليها ثقة: يحيى، ماذا أقول؟ ولكن عليك أن تسمعني، وقبل ذلك أسألك ماذا عرفت؟

فأجاب وهو ينفخ: كل شيء …

– الأمر لله، عليك أن تسمعني، لقد وجدت نفسي ذات يوم وحيدة منبوذة مكروهة مع وليد رضيع …

ثم وهي تزدرد ريقها: كان الطفل أمومتي الأولى والأخيرة فغيَّر نظرتي للأشياء …

وتريثت حتى تعالج أنفاسها وواصلت: ثم ظهر في حياتي رجل يدعى جندي الأعور …

تفرَّست في وجهه الواجم ثم قالت: لم يكن جندي الأعور خيرًا من عويس الدغل ولا عويس الدغل خيرًا من جندي الأعور، ولكن كان قدري أن أجد نفسي دائمًا بين يدي أحد من أمثالهما، ولم يكن يشغلني وقتذاك إلا أن أجد مأوًى لي ولابني ففعلت ما فعلت، أي دناءة في هجر لص من أجل لص آخر، وأي حظ كنت تتوقعه لو انتظرت أباك حتى يُفرَج عنه؟ وهل تدري أي وحش كان؟!

تنهدت بصوت مسموع، وبدت كمن نجا من الغرق بمعجزة ولكنه لم يبلغ الشاطئ بعد، وقالت بصوت استمد من الشجاعة بعض القوة: وما كنته قبل أبيك كان محنة لا خطيئة، لقد وجدت نفسي وحيدة ضائعة منذ صباي، وما احترفت شيئًا به إغراء لأي آدمي، ولكن أين لمثلك ممن تربوا في أحضان النعيم أن يدركوا ذلك؟!

ها هي تسخر منه أيضًا، وها هو يَخْنُس أكثر وأكثر وقد تداعت أركان مملكته. وقد زادت الأمور تعقيدًا واكتنف اتخاذ القرار صعوبات جديدة. أما الأم فمضت تقول: ولأول مرة يغيِّر جندي الأعور مسلكه في الحياة فيقرر استثمار ماله عادلًا عن الصعلكة والبرمجة، مصممًا على تمثيل دور جديد، دور رجل الأعمال المحسن الكريم، ما مدى إخلاصه؟ لا أدري عن ذلك شيئًا ولكن حسبنا أنه صار رجلًا آخر وأنه أنشأك نشأة نبيلة، وبوسعي أن أؤكِّد لك أنه يحبك، إنه ما أحب محروس قط، كان دائمًا يخافه ويتوهم أنه ابن رجل آخر، ويئس تمامًا من تغيير سلوكه، فلم يبقَ له من عزاء سواك، ولا أستطيع أن أحكم على ماضيه بغير العين التي أحكم بها على نفسي، كان ضائعًا مثلي ومثل أبيك، نحن لا يديننا إلا من لم يذق مرارة العيش مثلنا، حتى شريفة الدهل كانت مثلنا، أقول ذلك رغم الكره المتبادل بيننا …

لم يرفع عينيه من الأرض ولم ينبس، فواصلت بحرارة جديدة: إني أتصوَّر الضربة التي زلزلتك، ألمسها في وجهك، في رحلتك المخيفة، ولكن لا أحد يستحق أن يكون هدفًا لمقتك وغضبك، إذا علمتك المأساة أن تحزن وتثور، فتعلَّم منها أيضًا أن تفهم …

فتمتم بعد صمت طويل: ما لا عزاء فيه هو أنكم سرقتم أتعس التعساء …

– ما الحيلة؟ ولكن لا تنسَ أننا كنا أتعس منهم …

فتفكَّر مليًّا ثم قال: قد لا يكون لي حق المحاكمة ولكن واجبي أن أرفض.

– ترفض ماذا؟

– هذه الحياة التي لا يمكن الدفاع عن قذارتها!

فقالت بجزع: يا له من قرار خاطئ، لماذا؟ ما مضى مضى وانقضى. عمك اليوم يرغب في أن يورثك ثروته وقد شاور محاميه في الأمر، ثم إنك بريء ولا شأن لك بأخطاء الآخرين!

فأشار إلى صدره وقال: الرفض من هنا ولا حيلة لي.

فتوسلت إليه قائلة: هلا أجلت التفكير في ذلك حتى تنتهي من امتحانك؟

– آه … بأي عقل أتقدم للامتحان؟

فقالت بقوة: احبس نفسك في مكتبك كما تعودت أن تفعل، واحذر أن يعلم عمك بما عرفت أو بما يدور في عقلك، أعترف بأنه غبي وسيئ الظن بالبشر، أجِّل كل شيء ولا تشغل نفسك الآن إلا بالامتحان …

١٤

قرر يحيى أن يتأهب للامتحان، فخاض معركة ليجمع فكره المشتَّت المبعثر. أراح قراره أمه ووداد وبعث في نفسهما آمالًا جديدة. لم يكن راضيًا عن نفسه، كان أبعد ما يكون عن ذلك، عدَّ نفسه مترديًا في السقوط مثل آلة ودون أن يملك من الأعذار ما يملكون. وواساه في عذابه أنه مصمم على الرفض عقب انتهاء المرحلة التعليمية، وأن هذا الرفض لا يعني نبذ الحياة في القصر فحسب، ولكنه يعني أيضًا رفض ثروة جندي بك الهائلة. غير أن أحداثًا غير متوقعة انفجرت تحت قدميه، فما يدري ذات يوم إلا وجندي بك الأعور يقتحم عليه غرفة مكتبه. جاء مكفهر الوجه عدواني النظرات ثم وقف في وسط الغرفة وخاطبه بلهجة لم يعهدها من قبل قائلًا: لديَّ سؤال عليك أن تجيبني عنه.

واشتدت نظرته صلابة وهو يسأل: هل زرت حقًّا حارة التكية بالقاهرة؟

ذهل يحيى. تساءل في نفسه عمَّن أبلغه. ليست أمه على وجه اليقين. غير أنه لم يفكر لحظة في الإنكار فقال بتحدٍّ: نعم …

فصرخ الرجل: إذن فكل ما بلغني صحيح، والآن دعني أسألك عمَّا يبقيك في بيتي؟

اصفرَّ وجهه. هل أُجِّل الرفض ليُطرَد؟ غلى دمه. قال متحديًا: إنه بيتي قبل أن يكون بيتك!

قهقه جندي بوحشية وصاح: عليك اللعنة، لقد اعتدت أن أوجِّه عشر ضربات قبل أن أتلقى الضربة الغادرة، إني لا أخشاك، لا أخشى أباك، ولا أخشى أمك، لقد أرادت هي أيضًا أن تدافع عنك، وتمادت في الغباء فهددتني، اسمع، إني أطردك، إني أطردها أيضًا، فلا تُرني وجهك بعد اليوم …

وغادر الحجرة وهو يرتعش من شدة الغضب.

١٥

هكذا وجد يحيى نفسه وأمه وحيدين في حجرة ببنسيون الدلتا. هو لا يملك مليمًا وهي لا تملك إلا مؤخَّر صداقها. ورغم الانفعالات التي تعصف بهما قالت له: أي نهاية! أنا صاحبة كل شيء، ولكن لننسَ همومنا، عليك أن تنجح، هي فرصتك الأخيرة، بل هل فرصتنا الأخيرة!

هو أيضًا مقتنع بذلك ومصمم عليه وليس دونها إحساسًا بالخطر، غير أنه قال بحنق: لن يفلت المجرمون بلا عقاب.

فقالت بحرارة: لا تفكر إلا في الامتحان …

– ولكن … كيف عرف الرجل؟

– إني أتصور ما حدث كما لو كنت شاهدة له، لقد أفضيت أنت بسر الرحلة إلى وداد، ما تعرفه وداد تعرفه أمها، أمها وجدت فيما سمعت ما يستحق أن تبلغه محروس، محروس وجد فيه ما يجب أن يوصله — بطريقة ما — إلى جندي الأعور ليقضي عليك أو علينا معًا وبذلك يمنعه من التصرف في الثروة، جندي الغبي اعتقد أنك تبيت له أمرًا فساء ظنه بك وبي وربما بأبيك أيضًا، قرر أن يتخلص منا قبل أن نتخلص منه، لا أحد يدري ماذا ستكون الخطوة التالية، ولكن كل ذلك لا يهم، ما يهمنا شيء واحد هو نجاحك.

إنه مقتنع بذلك ومصمم عليه وليس دونها إحساسًا بالخطر، حتى الحنق عليه أن يحبسه إلى حين.

وعندما التقى بوداد في ركنهما بجليم دمعت عيناها وقالت بتأثر شديد: إني آسفة يا يحيى، إن الحوادث جعلت من أبي رجلًا شريرًا!

فرفع منكبَيه استهانة ولم يجدْ ما يقوله فقالت: أي ظلم وقع على والدتك!

أراد أن يقول إنه جزاء عادل، وإنه يجب أن يشمل الجميع. وتجنَّب هذه المرة أن يبوح لها بأسرار غضبه، ولكنه شعر بأن علاقتهما صامدة أمام العواصف.

١٦

وجد أنه لن يستطيع التفرغ لدراسته إن لم ينفِّس عن غضبه بضربة عاجلة. فكَّر مليًّا ثم قرر السفر إلى أبيه ليدله على مكان جندي الأعور وحقيقته. إنها مغامرة قد يستطيع أن يتكهن بعواقبها ولكن يحتمل أن يأكل الشر بعضه البعض. واعترف فيما بينه وبين نفسه بأنه قرار مخيف لا يبرره إلا الغضب والرغبة الجنونية في رد الضربة بمثلها. وسافر دون أن يخطر أمه بنواياه. واقتحم الحارة منقِّبًا عن عويس الدغل. ولما أعياه التنقيب قصد إلى صديقه العجوز عم سليمان صاحب المقهى. وقال له العجوز: جئت متأخرًا، قُبض على عويس الدغل أوَّل أمس!

فذهل يحيى وتساءل: هل رجع إلى السرقة؟

– بتهمة توزيع المخدرات، ولكن الحارة تردد حكاية غريبة!

وأعاد الرجل على مسمعه الحكاية، وهي أن جندي الأعور علم أن سره بلغ عويس، وأنه يدبِّر له أمرًا فاستأجر شخصًا للإيقاع به، وتم له ما أراد!

وختم العجوز حكايته قائلًا: من السجن إلى القبر هذه المرة!

هكذا رجع خائب الرجاء ولكن غضبه جاوز النهاية. لم يعد يفكر إلا في الانتقام من جندي الأعور، ولو كلفه ذلك حياته.

١٧

في الإسكندرية وجد أن الحوادث سبقته مرة أخرى. في اليوم نفسه حدث ما حدث، وكانت أمه هي الراوية. فقد عرف أن جندي الأعور شارع في الزواج من فتاة دون العشرين، وأنَّه يماطل في النزول عن إحدى عماراته لابنه محروس. تربص له محروس عند مغادرته مكتبه التجاري وقتله. هكذا ضاع الرجلان. استمع يحيى إلى الحكاية بذهول ولكن لم يشعر بأسف. على العكس فقد زال توتر أعصابه لأول مرة منذ زمن طويل. ولكن سرعان ما اتجه تفكيره نحو وداد فتساءل: ما مصير الأسرة التي خلَّفها محروس؟

فأجابت أمه: لا يختلف عن مصيرنا.

فقال بقلق: ولكن وداد لن تنتهي من دراستها قبل عامين.

فقالت الأم: لدى أمها من الحليِّ ما يسترهم هذه المدة.

١٨

وقف عم عمارة الجعفري البواب يلقي نظرة الوداع على القصر الأبيض. فاقت الأحداث تصوره وخياله ولكن طول العمر يهدهد الأحزان … وراح الرجل يقول: لم يعد له صاحب هذا القصر الهائل، ستجف الأشجار وتذوي الأزهار، وسيجيء الربيع القادم فيجد الأبواب والنوافذ مغلقة والحديقة خرابة، وصاحب القصر ووريثه بين يدي علَّام الغيوب، من نحن حتى نفهم ما يدور حولنا؟ ولكنا نقول مع القائلين: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤