الحب والقناع

١

أول ليلة في الفيلَّا الجديدة عقب العودة من شهر العسل. شهر العسل — أغسطس — مضى في رأس البر ثري البهجة والرياضة والحساسية. بدأ حبًّا من جانب واحد — جانبه — ثم تسلل إليها الرضى والإقبال مقتلعًا ذكريات بالية. استقبلا المساء بالجلوس في الشرفة على كرسيين هزَّازينِ متجاورينِ في ضوء خافت مطلَّينِ على الحديقة الصغيرة المفعمة بأنفاس الليل الناعمة. كما يطيب له أن يلحظ عارضها الجميل ورأسها النبيل بشغف ورغبة في الاستطلاع. وكانت ترسل الطرف إلى شارع الهمذاني الغائص في قلب المعادي بأشجار الكافور المغروسة على جانبَيه. استرخت في قميص أبيض طويل طارحة شالها على ذراع الكرسي على حين تمدَّد في بيجامته الزرقاء الراسمة لطوله الرشيق. في شهر العسل تم تعارف حميم، تولدت ألفة حارة فاطمأنَّ إلى نجاح مغامرته. قال: ضعي الشال على كتفك.

فقالت بصوت رخيم: الجو دافئ.

– سبتمبر لا أمان له.

فقالت بعذوبة: أشعر بالأمان الكامل.

وجد في قلب الجملة معنًى خاصًّا فامتلأ صدره بالامتنان. مالت بالكرسي إلى الأمام فملأ قدحين بعصير الموز له ولها. وردته ذكرى من ذكريات رأس البر حين قدَّم كأسين من الويسكي، قالت وقتذاك بجدية لم يتوقعها: مستحيل.

فقال معتذرًا: إنه شهر العسل.

– ولو.

ثم مستدركة برجاء وحزم معًا: ولا أنت!

لم تنثنِ أمام الحرج أو المجاملة. حتى في أيام التلاقي الأولى، وفي غمرة طوفان العواطف رفضت ما تأباه بقوَّة وشجاعة. وقد تراجع متلقِّيًا نذيرًا من المتاعب. أجل لم يكن الأمر مفاجأة له فهو يعرفها من قديم. خبر صلابتها التي أرهقت قلبه، وطالما رآها وهي طالبة بكلية العلوم ترفل في زي المسلمات المحتشمات مطوَّقة الرأس والوجه بالخمار الأبيض. وألم يقل له صديقه عبد الباري خليل المحامي «إنك مُقْدِم على الزواج من كائن له مظهر أنثى ومخبر إمام مسجد»، لكنه الحب أو لعله الحب والعناد.

وسألها: أعجبتك الفيلَّا يا فتحية؟

– إنها تفوق الخيال ولكني لم أقدِّم لها إلا القليل …

– قلامة ظفرك أثمن منها ومما فيها.

فقالت ضاحكة: أنت رجل غني تجود بالكلام كما تجود بالأشياء الثمينة.

– أنا رجل عاشق بلا زيادة.

– وأنا سعيدة.

– لكن لم يجرِ الحب على لسانك بعد.

فضحكت قائلة: أنت تعرف تمامًا ما تسأل عنه.

– تجلَّى لعينَيه يسري أحمد. لا يمكن أن يجيء وحده ولكن في إطار جامع لعبد الباري خليل ووهدان المتجلِّي وعدلي جواد وفتحيَّة سليمان وشارع ابن خلدون بالسكاكيني. جيران وأصدقاء من الطفولة. أعمار متقاربة حتى فتحية لا تصغرهم إلا بعام واحد فهي في التاسعة والعشرين بينما هو في الثلاثين. لكن يسري أحمد تجلَّى لعينيه وحده في تلك اللحظة. تجلَّى له في موقف لا يُنسى حين خلا إليه في حديقة الظاهر بيبرس. كان أحب الجميع إلى قلبه وكان يسعفه في العلوم والرياضة المستعصية عليه. تطلَّع إليه بوجهه الشاحب الجذَّاب وارتبك فسأله: ما لك يا يسري؟

– لا أدري كيف أبدأ.

– أمر هام ولا شك؟

– فعلًا، لبيب، نحن أخوان …

– طبعًا.

– وأنا باسم الأخوَّة أحدثك، المسألة تتعلَّق بفتحية بنت الشيخ سليمان.

خفق قلبه خفقة رسبت في حفريات صدره إلى الأبد.

– ما لها؟

– إنك يا عزيزي تطاردها في الشوارع.

تساءل بوجوم: شكتني إليك؟

– معذرة، إننا متفقان على الزواج.

تمتم وهو يتجرَّع المرارة: لم أكن أدري.

– طبعًا فأنت أخ كريم.

ها هي تقول له: «أنت تعرف تمامًا ما تسأل عنه.» بعد أن تلاشى الماضي تمامًا. ولكنَّه تلقى الخبر وقتها بحزن مجنون بها. ودفعته انفعالاته إلى جحيم الكراهية. انقسمت عاطفته نحو يسري أحمد، فجرى الحب في نصفها والمقت في النصف الآخر. يسري قصير رقيق وهو طويل رشيق، صاحبه رقيق ضعيف وهو رياضي قوي نسخة طبق الأصل من أبيه داود الناطورجي. وتساءل بحقد هل أصابها العمى؟ وتساءل أيضًا هل يسلِّم بالهزيمة أو ينتظر نجدة من المجهول، من الموت نفسه؟ ها هي تقول له: «أنت تعرف تمامًا ما تسأل عنه.» وقال لنفسه: «إن خير ما اهتديت إليه هو أنه لا معنى لشيء.»

– أعددت في الفيلَّا حجرة خاصة لوالدتك ولكنها عنيدة.

– وأنا أيضًا ألححت عليها، ولكنها كما قلت لك لا تفرط في بيتنا القديم.

هز رأسه متظاهرًا بالأسف. عادا يتبادلان شعورًا خفيًّا بوجودهما معًا ويلوذان بصمت هنيء حتى خطرت له خاطرة فضحك، فسألته: ماذا يضحكك؟

– عرفتك دائمًا جادة فلم أكن أتصور أنك أنثى كاملة …

فضحكت بسرور وقالت: ولكنك أقدمت رغم ذلك على طلب يدي!

– إنه الحب!

– أنت أيضًا لا تخلو من تناقض، فمظهرك القوي غير متناسب مع رقتك الحقيقية.

– فتملى قولها قليلًا ثم تساءل: لعلك لا تتصورين أني قاتل مثلًا؟

فقالت ضاحكة: إني كيميائية لا سيكلوجية وهذا من حسن حظك.

– بهذه المناسبة أقول لك إنني شرعت أغازل كتبك العلمية، فعليك أن تغازلي كتبي الثقافية، كلانا يكمِّل صاحبه.

فقالت باهتمام: ولكني أسيئ الظن بكتبك، ولن تجد يقينًا حقيقيًّا إلا في الدين والعِلم … إنها تتحدث عن اليقين. لعلها تظن أنها تعرفه كما يعرفها. وهي صارحته بكل شيء، صادقة صريحة ومنذرة بالمخاوف، أما هو فلا يعرف عنه إلا السطح، فهل تزوجت من رجل آخر؟ إنه الحب ولكنه الخوف أيضًا فهل تتسع هذه الفيلَّا لثلاثة؟ وثمة الشعور الحقير بالذنب يطارد العذابات الخفية. هيهات أن ينسى منظر يسري أحمد قبيل وفاته، والانقضاضة الوحشية الدنسة في ظلام الليل.

٢

وقفت في الشرفة عند الضحى في مهبط الشعاع الذهبي، عقب جولة من المشي السعيد في شوارع المعادي. يا لها من قامة رشيقة ووجه جذَّاب. إنه يملك ذلك كله بعد حسرة التهمت الصبا والشباب الأول. تمتمت: غدًا أرجع إلى العمل، لكل شيء نهاية.

كما انتهى شهر العسل، وكما يدب الفناء في الوليد منذ اللحظة الأولى، قال بأسف: غاب ذلك عن بالي تمامًا.

فقالت متهكمة: هكذا ذاكرة الأعيان.

– ترجعين راضية إلى معامل وزارة الصحة؟!

– كل الرضا.

– ذكرياتي عن الكيمياء تتلخَّص في أنابيب يتصاعد منها دخان كريه الرائحة …

– ولكني أراها بعين أخرى.

– وكيف يستقبلونك بعد شهر العسل؟

– طبعًا لن يخلو الاستقبال من غمز.

فتنهد قائلًا: كم أحلم باستقرارك في بيتك.

أقبلت نحوه حتى وقفت أمامه في ردائها المكون من قميص أزرق وبنطلون رمادي، وسألته: خبرني متى تشرع أنت في العمل؟

الصوت الذي يخشاه يتكلم. الوعد لديها ميثاق دولي. تذكر لقاء الخطوبة الثالث عندما بدا أنها تميل للموافقة عقب إصرار طويل على الرفض. وقتها سألته: متى تخرجت؟

فأجاب ببساطة: منذ ستة أعوام.

– ولماذا بقيت بلا عمل؟

– لست في حاجة إلى العمل كما تعلمين.

– لكنه العمل الذي يخلق الإنسان لا دخل خمسمائة جنيه.

– لا ينقصني شيء، وإني لخبير في التعامل مع الوقت، لي مكتبة ضخمة، لي أصدقاء، ثم إنني لم أقتنع بعمل أبدًا …

– إن كنت تضيق بالوظيفة فافتح مكتبًا للمحاماة، صديقاك عبد الباري خليل وعدلي جواد محاميان، صديقك وهدان المتجلي قاضٍ.

– إنهم في حاجة إلى العمل.

– الإنسان بلا عمل عرضة للرعب.

– الرعب؟!

– الضجر، العادات السيئة، العزلة …

– قد توجد جميعًا مع العمل.

– الاستثناء يؤيد القاعدة ولا يهدمها.

– هناك الزواج والأبناء.

– العمل أيضًا مهم، إنه لأمر مهين أن يخطر الإنسان في الحياة بلا عمل.

ولما كان متلهفًا على الظفر بها فقد قال: سأجرِّب ذلك.

– في أقرب فرصة.

فحنى رأسه بالإيجاب. تجاوز عن مزاجه الراسخ من أجل الحب. وتأثر بنظرة عينيها وثبات نبرتها تأثرًا أشاع في نفسه الحذر والتوجس. وتذكر موقفها الرافض للزواج حتى شارفت الثلاثين فازداد حذرًا وتوجسًا. وتساءل هل يعثر تحت ذلك السطح الصخري على ينبوع من ماء الأنوثة العذب، تساءل مرتين ولكنه كان يحب حبًّا عنيدًا أيضًا. وآلمه شعوره القديم بضعف شخصيته. كان وما زال ناقدًا قاسيًا للذات فلم تخفَ عليه علله. إنه الآن يضع أمله في حياة زوجية متوازنة في الحب، حبها المتصاعد له. ستحبه كما أحبها وأكثر، بل لعلها أحبته بالفعل، فهمسات الفؤاد الخفية لا تغيب عن الوجدان اليقظ.

قالت بفخار: ملف خدمتي يحوي أجمل الشهادات بكفاءتي في العمل.

– طبعًا.

– طبعًا؟ لماذا؟

– إنك تتحرَّين الكمال في كل شيء.

– أيرضيك ذلك؟

– بلا أدنى ريب، ولكني أحب أيضًا الاعتدال!

– يا لك من رجل طيب.

ماذا تعني يا ترى؟ أمَّا هي فتساءلت: كيف كنت تمضي يومك؟

فقال مستبشرًا: كنت أبدأ يومي بالسباحة طيلة أيام السنة عدا الشتاء فألعب التنس، فآوي إلى مكتبي حتى الغداء، أذهب إلى لقاء عبد الباري ووهدان وعدلي بركننا المختار في الفردوس، وقد أذهب إلى سينما أو أمضي السهرة أمام التلفزيون.

– إنهم يستريحون من العمل، أما أنت فتواصل حياة الفراغ.

فابتسم بلا تعليق، فقالت: قراءاتك متنوعة، يسرني أنك تضم إليها العلم أخيرًا، لكن لأي هدف تقرأ؟ هل حلمت يومًا بالتأليف؟

– أبدًا.

– وفي المقهى كنت تشرب الويسكي؟

– بضع كئوس.

هزَّت رأسها بأسفٍ، فقال: علينا أن نأخذ الأمور بهوادة ورفق.

– أعتقد أن الإيمان يتطلب جدية أكثر.

تذكر قول عبد الباري عن إمام المسجد. إنها طراز نسائي غريب حقًّا. قالت: إنك بذرة طيبة تعد بشجرة طيبة وسوف تشكرني ذات يوم من صميم قلبك.

يا للداهية. ها هو صوت داود الناطورجي — أبيه — يتردد من جديد. ماذا تظن وماذا تدبر؟ تذكر اجتماعًا ذا مغزى بركن الفردوس في الشهر السابق لزواجه. قال وهدان المتجلي القاضي المعروف بميوله الدينية: فتحية ممتازة ولكن عليك أن تتغير.

فقال عبد الباري خليل: أو أضمن حبها لك فيجيء التغيير من ناحيتها.

فتساءل هو بقلق: ألا يمكن أن يستقل كلانا بحياته؟

فقال عدلي جواد: كان عليك أن تختار فتاة من نوع آخر.

وهدان أسعد الثلاثة إذ ظفر بزوجة تملك شقة، أما عبد الباري خليل وعدلي جواد فيحلمان بالزواج منذ خمسة أعوام دون جدوى يأسًا من العثور على شقة. ها هي تهدده قائلة: «سوف تشكرني ذات يوم من صميم قلبك.» قال مدافعًا: إني شجرة بالفعل، لست بذرة.

فقالت باسمة: سأعتمد على الحب والعقل.

قال لنفسه إنه سعيد حقًّا ولكن ماذا يخبئ المستقبل؟

٣

هذا أول صباح ينفرد فيه بنفسه منذ زواجه. بعد أن أوصلها بالمرسيدس السوداء إلى وزارة الصحة واعدًا إياها بانتظارها الساعة الثانية بعد الظهر في نفس المكان. إنه يشعر بوحشة لغيابها ولكنه يجد أيضًا نوعًا من الراحة. كما ألف منذ قديم معايشة المتناقضات جنبًا إلى جنب. كثيرًا ما يبدو نصفين يناقض أحدهما الآخر في العواطف والآراء جميعًا. ما يكربه حقًّا فهو الوجه الآخر من حياته الذي أخفاه عن فتحية. منه جانب تافه مثل عش الهرم الذي كان يمارس فيه نزواته. لن تحاسبه على الماضي، ولن تنسى موقفه من ماضيها أيضًا الذي أغدقت عليه بسببه صفة النبل والشهامة. من السخرية بعد ذلك أنه قد ارتكب ما ارتكب من آثام من أجلها هي. ها هو يخلو إلى نفسه في مكتبته كالأيام الخالية، وها هي كتب الفلك والطبيعة والأحياء الجديدة، ولكن نفسه مشتتة. حتى في شهر العسل كشفت عن جوانب نفسها دون مجاملة. إنها تذكِّره بأبيها الشيخ سليمان مدرس اللغة العربية بخلاف شقيقها المنتدب مهندسًا بالكويت الذي شابه في الدماثة أمه فلِمَ لم يحدث العكس؟! إنها لا تدري شيئًا عن مقته ليسري أحمد عندما علم بأنه حبيبها. في تلك الأيام المتوحشة تمنى لصديقه الموت. أطلق على صورته خيالاته المدمرة المشحونة بالفناء. وشد ما سر عندما أُلقي القبض على الشاب في جنازة مصطفى النحاس. لم يعرف يسري أحمد مصطفى النحاس ولكنه اشترك في جنازته إكرامًا لذكرى أبيه الشيخ سليمان. وكان — لبيب — يسمع عمَّا يجري في المعتقلات فناط أمله بأيدي الطغاة تقتلع يسري من سبيله. رغم أن حبه له لم يتبخر تمامًا، ورغم أنه لم ينسَ أنه كان أستاذه في العلوم والرياضة ومرشده في أخطر مرحلة من مراحل حياته، مرحلة الإلحاد والثورة على أبيه داود الناطورجي. صرخت الرغبة السوداء في قلبه «القتل في المعتقل أو السرطان».

في غضون أسابيع أُطلق سراح يسري أحمد لمرضه. وإذا بالأشعة تكشف فيه عن سرطان في المثانة. تلقَّى الخبر بفزع واضطراب وحزن، وشعر أيضًا براحة عميقة. وكان في إلحاده يتقزَّز من الإنسان باعتباره كائنًا قذرًا ذا إفرازات كريهة لا حصر لها، فاقتنع بأن في الإنسان من النوايا والسلوك ما يفوق الإفرازات الكريهة في قذارته. وقد زاره في رقاده الأخير. رأى الغطاء يشي بانتفاخ غريب في منطقة البطن، على حين لم يبقَ في الوجه الجميل سوى الجلد والعظم. ولما رآه يسري ابتسم ابتسامة خفيفة كأنما يلقى عناءً حتى من التبسم، وقال بصوت ضعيف: لبيب، اقترب، إني في حاجة إلى قلب محب …

تفجَّرت دموعه بإخلاص في تلك اللحظة. تذكر الماضي الحي والعواطف الجياشة والذكريات المشتركة فآمن بأن يسري كان أصدق الأصدقاء جميعًا. كيف هان عليه أن يقتله؟ لقد انطلق الغدر من صميم القلب الأسود إلى المثانة. كم ازدرى نفسه، كم ازدرى البشرية جميعًا! وساعده ذلك الاحتقار، بالإضافة إلى الخيبة في الحب، إلى التمادي في الاستسلام للوحش. وتبدَّت فتحية في تلك الأيام تمثالًا للجمال والحزن. رثى لها وشمت بها. ألم تكن شريكته في جريمة القتل؟ وتأمل بقسوة وحنق استقامتها الفريدة فقال إنه لها أيضًا إفرازاتها الكريهة. وبكى في جنازة يسري طويلًا حتى اقتنع بأنه لا خلاص إلا بتحطيم الكون.

ها هو يصمِّم على القراءة فيقلب صفحات «الكون … ذلك المجهول». ويتساءل هل في وسع الحب والزواج أن ينتشلاه من الجفاف؟ ربما. ولكن فتحية تتبدى كثيرًا كأنها نذير جديد بالمتاعب. وواضح — وهو الأدهى — أنها تروم خلقه من جديد.

برجوعها إلى الفيلَّا حوالي الثالثة مساء دبَّت في الفيلَّا حياة جديدة. ولما دخلت الحمام عاودته خواطره الساخرة، ثم جلسا يتناولان الغداء. له طاهٍ خبير بصنع الطعام الجيد. وهما – فتحيَّة ولبيب — يتَّصفان بشهية جيدة، ولكن تناول الطعام كان من الخواص التي يتقزز منها ويطالب بسببها بتحطيم الكون. جعل يختلس إليها النظر وهو يرفع الشوكة إلى فيه ويقارن بينها وبين القطط والكلاب، حقًّا إن الطعام أسُّ التعاسة البشرية. قالت: يوم مرهق بالقياس إلى العطلة.

فابتسم وقال بدوره: بدأ البحث عن شقة للمكتب.

فهتفت بسرور: جميل أن أسمع ذلك.

فحنق عليها في باطنه، ولكنه أفرخ حنقه في صدر الدجاجة الرقيق. قال: قراءة العلم متعة فريدة حقًّا.

فقالت بثقة: بالدين والعلم تكمل صورة الوجود ويطمئن القلب.

ولما همَّ بتقشير تفاحة سألته: أليست مغسولة جيدًا؟

– بالصابون أيضًا.

فقالت بلهجة آمرة: كُلْها بقشرتها.

الظاهر أن الوصايا ستمتد إلى التفاح أيضًا! صدع بالأمر صامتًا، فسألته: ما رأيك في زيارة ماما بعد العصر؟

فقال بسرور خفي: ليكن ذلك غدًا؛ إذ إني دعوت عبد الباري ووهدان وعدلي إلى فنجان شاي مساء اليوم.

٤

سُرَّ بوجودهم حوله في الشرفة سرورًا لا مزيد عليه. جالستهم فتحية وحثَّتهم على تناول الشاي والحلوى. إنهم أبناء شارع واحد وذكريات كثيرة مشتركة، ومطلعون أيضًا على دخائل أسرهم لدرجة لا يستهان بها. حتى المرحوم يسري أحمد فرضت ذكراه نفسها في سهو الحديث فمر على لسان فتحية مرورًا عاديًّا، فارتاح لبيب وأيقن أن الماضي قد مات تمامًا. في أثناء الحديث قام وهدان المتجلي ليصلي العشاء في ميعادها كعادته فتوجَّس لبيب خيفة مجهولة. لقد امتنع عن التردد اليومي على الفردوس كيلا يهجرها وحدها عقب نهار مرهق، ولكنه بيَّت أن يسألها السماح بسهرة أسبوعية. وكالعادة شاع في المجلس الشكوى من الحياة اليومية، غلو الأسعار، المواصلات، التليفونات، المجاري، حتى تساءلت فتحية: ماذا تتوقَّعون من دولة كافرة؟

فتساءل عبد الباري خليل: هل الإيمان يجفِّف المياه الطافحة؟

فقالت بابتسامة متحدية: اسخر كما ينبغي لماركسي أن يسخر.

كره لبيب انعطاف الحديث إلى منعطف متفجِّر، ولكنه لم يدرِ كيف يُسكت عبد الباري الذي قال: أسعد شعوب الأرض تعيش في كنف دول ملحدة.

فقالت فتحية بقوة لم تبلغ الحدة إكرامًا لآداب الضيافة: الإنسان بغير الله أتفه من ذرة غبار، ماذا نعرف عن هذه الشعوب؟ لا شيء في الواقع ما دامت محرومة من التعبير الصادق عن قلوبها الخاوية.

فقال عبد الباري: للبطولة والنبل ثمن.

– أي بطولة وأي نبل؟ حتى المؤمنون يهبطون أحيانًا إلى النفاق فيفقدون الأمل في البطولة والنبل، فما بالك بالضائعين؟

وتساءل وهدان: لماذا لا تشترك في الحديث يا لبيب؟

فبادره على الفور: زوجتي تتكلم بلسان الأسرة.

ثمة غيوم كثيرة لم تظهر بعد في الأفق. لقد بُعث أبوه من قبره على غرَّة منه. ليتها كانت امرأة مستغرقة بالأنوثة والبيت. إنها رجل أيضًا. تعاليم لا هوادة فيها، ولا بديل عن الكذب إلا بخوض معركة. وألحَّ عليه شعوره بضعف الشخصية. ذلك الشعور القديم الذي فطن إليه بفضل نقده القاسي للذات وتضعضُع ثقته بنفسه تحت ضغط إرادة أبيه الصارمة. ها هو لا يطيق الحياة بلا فتحية واستقرار الأسرة الزوجية. ولا شك أنها تحبه وستحبه أكثر ولكن يبدو أنها لا تفرط فيما تؤمن به. لقد وجد في معاشرتها معنًى على حين أنه لا يجد معنًى وراء ذلك. وراء ذلك خواء وعدم ورعب. فبين يديه صخرة نجاة تنتشل من الغرق وإن لم يَلُحْ شاطئ آمن للنجاة قريبًا كان أو بعيدًا.

عندما ذهب الأصدقاء الثلاثة قالت له: عبد الباري شيطان فكيف تتعامل معه؟

فقال بحذر: الصداقة فوق تناقضات الآراء.

– الصداقة يجب أن تقوم على أساس أقوى من ذلك.

– بغير تسامح تصبح الحياة غير محتملة.

فقالت بامتعاض: إنه التهاون لا التسامح.

– إذا بالغنا في التدقيق فقدنا الناس أجمعين!

فتمتمت بأسف: يا له من مجتمع يكتظ بالقذارة!

أخيرًا سمع رأيًا يتفق معها في بلا حدود فرحِّب به قائلًا: إني أتفق معك تمامًا، فما الإنسان إلا كائن ذو إفرازات كريهة ودوافع فظيعة مرعبة!

فرنت إليه بعينين دهشتين وقالت: ماذا قلت؟ عنيت بالقذارة تخلخل الإيمان، ولكنك تتحدث عن إفرازات ودوافع كأنك عدو البشر أنفسهم؟!

– أعتقد أنني لم أتجاوز الحق.

– لا … لا … معذرة إن قلت إنها نظرة غير عميقة. فما تشير إليه يمنع الإنسان من عبادة الله وغزو الفضاء.

تساءل في نفسه ألم يكن من الممكن أن يحدث ذلك بلا إفرازات كريهة ودوافع وحشية وسلوك دنيء؟! لكنه جفل من التفوه بكلمة زائدة، بل هزَّ رأسه كالمقتنع طاويًا صدره على أسراره!

٥

يميل الجو إلى شيء من البرودة ليلًا، فيطيب الجلوس في حجرة المعيشة الموصولة بالشرفة. وهي مأهولة بطاقم من الإسفنج المدَّثر بالقطيفة الزرقاء، يتوسَّط جوارها الأيسر دولاب من خشب الأرو يقتعد التلفزيون الملون أعلاه ويستقر الراديو أسفله. رجعا منذ قليل من زيارة الأم نظيرة هانم مفعمينِ بذكريات ابن خلدون فتبدَّت فتحية منتشية على حين كتم هو انفعالاته المتناقضة المراوحة بين الجميل والمرعب. وفي أثناء تناولهما العشاء مع نظيرة هانم أبدت المرأة جزعها من تأخُّر حمل كريمتها. تذاكرا ذلك باسمينِ وقالت فتحية: ماما دقة قديمة.

لكنه في الحقيقة متلهِّف على الإنجاب تلهُّف مَن يروم تحصين ذاته المزعزعة ضد المجهول والخواء، فقال: لها حق أيضًا يا عزيزتي …

فحدجته بنظرة متفحِّصة، فقال: يوجد الأطباء، لِمَ لا؟

لم تعترض ممَّا قطع بتلهُّفها أيضًا. آنس من ذلك آية على حبها له وزوال الماضي تمامًا. كما وجد فيها آية على أنوثتها التي يتمنَّى أن تغمر «الإمام المتصلب» الكامن في أعماقها. لعلها كانت قلقة طوال الوقت ولكنها أحسنت إخفاء قلقها. هي أيضًا لها أسرارها الباطنة كما أن له أسراره المرعبة. تمثَّلت له الظلماء وحركات الشبح اليائس والصرخة المكتومة فارتعد للذكرى.

وسألته وهي تلقي نظرة على الصور العائلية المعلَّقة: على فكرة أين صورة والدك؟

توجد صورة أمه الشابة، صورة نظيرة هانم، صورة الشيخ سليمان، ولكن أين صورة داود الناطورجي؟ عادت تسأل: سهو أم أنَّه لا توجد صور له؟

رحَّب بحديث لن يضطر فيه إلى الكذب فضلًا عن فوائده الأخرى التي فطن إليها من اللحظة الأولى، لذلك أجاب: الحق أني لا أحب ذكراه!

فحدجته باهتمام ودهشة قائلة: إنه أبوك!

– ولو.

– يا للغرابة!

– لا غرابة في الدنيا.

– إني أتذكَّره جيدًا، كان أشهر شخصية في حي السكاكيني، ظل محترمًا حتى بعد إحالته إلى المعاش بعد الثورة، اللواء داود الناطورجي، بيت اللواء، سيارة اللواء، أنت ورثت عنه طوله وروعته، وكنتَ وحيده، ما زلت أتذكَّر منظرك وراء نعشه وأنت تجهش في البكاء …

فقال ببرود: كنت أحبه، حتى موته لم أجد نحوه إلا حبًّا خالصًا.

– وماذا حدث بعد ذلك؟

– لقد ماتت أمي وأنا دون العاشرة فلم أعرف بعد ذلك أمًّا أو أبًا سواه، وانقضَّ عليَّ موته كالصاعقة، ولما انفضَّ المأتم وآويت إلى الدار الخالية وجدتني لأول مرة وحيدًا، لا أم ولا أب، فلم أصدق أنه ذهب حقًّا إلا في تلك اللحظة، وعند ذاك اجتاحني شعور غريب بالراحة والأمان والحرية، شعور يتناقض تمامًا مع حزني، ذهلت لذلك ولكني استشعرت بتمهُّل السرور الخفي المثلج للصدر.

فقال بوجوم: إنه رد فعل لشدة الحزن؟

– إنه أفظع من ذلك، شعرت لأول مرة بتحرُّري من قبضة غليظة قاسية، تخيلت هول الكارثة لو أنني استيقظت في اليوم التالي فرأيته واقفًا في الصالة يمارس رياضته الصباحية ويحاسبني على تأخيري في الاستيقاظ!

جعلت تتابعه باهتمام وقلق فقال وكأنما يعنيها هي بمغزى حديثه: مع الأيام جعلت أحاسبه على معاملته الصارمة لي فيحتدم الغيظ في قلبي ويشتعل الحنق، ويتولَّد النفور وينتشر حتى انقلب كراهية سافرة …

– لا أصدق.

– فتحية، لقد بلغ بي النفور درجة حملتني على أن أبني لنفسي مدفنًا خاصًّا حتى لا أرقد ذات يوم إلى جانبه!

هتفت: إنه ما لا يتصوَّره العقل …

– وفاة والدتي في عز شبابها كانت مصيبة لم أعرف أبعادها إلا فيما بعد.

– قيل إنه لم يتزوج بعدها إكرامًا لك …

– وهذه كارثة أخرى، فقد كرَّس حياته لينشئني على مثال مرسوم بدقة وصرامة، وراح يصبُّني في قالبه كأنني طينة لا هوية لها مستعينًا بعنف لا مثيل له، هكذا تلقَّيت الدين وشعائره كما تلقيت كل شيء، العجيب أنه لم يقرأ كتابًا في حياته، حتى دينه أخذه عن إمام جاهل اكتراه ليعلمه الإسلام ثم نقله إليَّ نقلًا ميكانيكيًّا فحفظته ومارسته في جو من الفزع …

تمتمت بحِيرة: أبي هو أيضًا مَن علَّمني ديني …

– كان أبوك من علماء الدين أما أبي فكان جاهلًا وإرهابيًّا!

– كنت أراك وأنت تتبعه إلى صلاة الجمعة …

– وحملني أيضًا على صلاة الفجر، فكان يغلبني النعاس في الفصل، وحملني على ممارسة الرياضة البدنية كالسباحة والعدو وحمل الأثقال بالعنف نفسه، أما ولعي بالقراءة فلم يُخفِ احتقاره له، ولكنَّ جهله بالكتب منحني فرصة فريدة للسياحة الثقافية بعيدًا عن رقابته الصارمة …

وضحك ضحكة جافة ثم واصل: لم يكن يفوق عنفه إلا تعصُّبه الأعمى لأفكاره، من هذه الأفكار إيمانه بالمقاومة الطبيعية واحتقاره للدواء، ولما أصابتني نزلة معوية قرَّر أن يتركني لمقاومتي الذاتية، طالبته المربية بإحضار طبيب فرفض، ومضيت أهزل من الإسهال يومًا بعد يوم حتى صرت كالخيال وهو لا يبالي، كان يمكن أن أفقد حياتي وأشفيت على ذلك ولكنَّه لم يكترث، ولما نجوت بأعجوبة قال لي بفخار: «إنك ابني حقًّا ولن يهزمك المرض بعد اليوم، لماذا رحلت المرحومة أمك في عز شبابها؟ لأنها كانت ضعيفة فلم ينفعها طب ولا دواء.»

انساقت فتحية إلى ضحك بلا صوت، فابتسم هو أيضًا ثم قال: رغم أنفي أجبرني على الالتحاق بالكلية الحربية، لم تجدِ توسلاتي ولا دموعي، محتجًّا بأنها كلية الرجال والحكَّام أيضًا، وأنها ستنقذني من داء القراءة الوبيل، ولولا وفاته الفجائية …

قاطعته قائلة: لقد تساءلنا وقتها عمَّا جعلك تترك الكلية، ولكنك لم تفد شيئًا من التحاقك بكلية الحقوق!

– كانت أفكاري مختلفة في ذلك الوقت، المهم أنك أنت نفسك تحدَّيت أوامره وأنت لا تدرين!

فتساءلت بدهشة: كيف؟

– رشَّح لي ذات يوم عروسين هما كريمتا لواء على المعاش من أقرانه تاركًا لي حرية اختيار إحداهما، ومعتبرًا ذلك من ناحيته تنازلًا ديمقراطيًّا شاذًّا. وكنت أحبك كما تعلمين فصارحته بذلك معتمدًا على صداقته القديمة بالمرحوم والدك ولكنَّه انفجر غاضبًا.

فقطَّبت أول مرة متسائلة: لماذا؟

– بحجة أنه لا ثقة له في بنات الأرامل.

فقالت باستياء: كان سيئ الظن بالنساء!

– وبالرجال والحيوان والنبات والجماد، شد ما انتقد أصدقائي بلا سبب وكأنما يرغب في أن ينشئني بلا صديق سواه، وفضلًا عن ذلك كله كان شديد الحرص فعاش في حدود معاشه ولم يمس مليمًا من دخله الوفير من عماراته، ولعل ذلك ما جعله يتمسك بالبقاء في البيت القديم بابن خلدون متعللًا بأنه راسم أن يعوِّدني على الحياة البسيطة، وأعترف بأن ذلك لم يضايقني؛ إذ إنني لم أكن أطيق الحياة بعيدًا عنك …

ساد صمت كئيب تبادلا فيه نظرات باسمة وحزينة حتى قطعت الصمت قائلة: كان شخصًا غريبًا ولكنه عُرف في الحي بالقوة والبهاء والتديُّن وحب العزلة، وبالتضحية بمسرَّاته في سبيل وحيده، الله يرحمه على أي حال، أليس عجيبًا أن ينحدر من صلبه رجل مثلك آية في الكرم والاتزان وحسن الخلق؟!

ارتجف باطنه برعدة قاسية. غشي خياله الظلام الذي أخفى الوحش والفريسة، وتجسَّدت لعينيه نواياه القديمة بأنيابها ومخالبها. وتساءل بفتور: ألا يحقُّ لي بعد ذلك أن أكره ذكراه؟

فقالت ضاحكة: كلا، لا تنسَ أنه وهبك الحياة والمال، ولكن ألم يخالط قلبك في حياته أثارة من عاطفتك الرافضة؟

– كان بَرَمي به شديدًا متواصلًا، ولكني أحببته دائمًا، ولم يكن من الممكن أن تتسلَّل إلى باطني عاطفة أخرى؛ لأنه كان يعيش في باطني أيضًا، في تلافيف مخي ونبضات قلبي وأحلامي، كان الخوف يكمن هناك كالديدبان …

قالت متنهدة: كان أبي شيخًا ولكنه كان ذا عقلية متفتحة، ربما كان يفضِّل أن يعدني للبيت، ولكنه حين آنس مني تعلُّقًا بالتعلُّم سمح لي بالاستمرار فيه، دخلت الجامعة أيضًا دون معارضة تذكر، وعلَّمني ديني أحسن تعليم فكرَّست حياتي للعلم باعتباره قراءة جديدة لدنيا الله …

فقال بحذر: كثيرون ألحدوا بسبب العلم …

– لا دخل للعلم في ذلك، الإلحاد عجز عن النظر.

– على أي حال كان أبي رجلًا من صِنف آخر، كان جاهلًا ومتعجرفًا وقد وجد في الشكل مبتغاه، وكان يمقت المناقشة ويقاتل التساؤل البريء، كان يلاحقني من الصباح الباكر حتى النوم بالأوامر والتعليمات والمراقبة …

– ألا يشفع له عندك حسن نيته؟

فقال بامتعاض: كلا.

– أكان كذلك في حياة المرحومة والدتك؟

– ذكرياتي عن أمي قليلة، أجل كانا يختلفان كثيرًا، وكانت هي عصبية مستعدة دائمًا للتمرُّد والتهديد بهجر البيت، وكان ينبغي أن أتعلم منها ولكنه نجح في استعبادي، تارة بالعنف، وتارة بإقناعي بأن أي استهانة بأوامره هي خروج عن إرادة الله المتعالي، ولو أنني تمرَّدت عليه حقًّا لضمنت لنفسي حياة أفضل.

– حياتك مقبولة جدًّا.

فقال مضمنًا كلامه تنبيهًا لها: كانت حياتي لعنة ولكنها لم تخلُ من عبرة، فقد علَّمتني أن أتجنَّب الاستبداد بالغير، واحترام الآخرين فكرًا وعقيدة، علَّمتني ألا أعتبر نفسي مقياس الخير والشر في الوجود!

وتساءل في باطنه ترى هل أحسن الدفاع عن نفسه؟!

٦

مضى من الخريف ثلثاه وتشبَّع هواء الليل ببرودة مستقرَّة، من مجلسهما وراء الزجاج المغلق يرى البستاني نهارًا وهو يكنس الأوراق المتساقطة، وتلوح في السماء سحائب بيضاء وهي تهدهد الشعاع الذهبي. فتحية تملأ الفيلَّا بحركاتها الرشيقة. ما أشد الفارق بين الكيميائية المتدينة من الأنثى الدافئة! إنه لتناقُض يذكِّره بالتناقضات التي تمزِّقه. بوسعه دائمًا أن يهاجم أو أن يدافع عن أي رأي أو مذهب أو عقيدة، الحجج السالبة تعادل عنده الحجج الموجبة، ولكن لا أحد من أصدقائه يأخذ حديثه مأخذ الجد، فهم يعرفون تمامًا أن قلبه ينبض في خواء. وهو يرى في زوجته نساءً كثيراتٍ، ثمة فتحية ذات الرداء الأبيض العاملة في المعمل، وفتحية المؤمنة المتطرفة، وفتحية الفراش الباهرة، أيهن أصدق؟ فتحية الغريزة أم فتحية المؤسسات؟!

قالت له ذات مساء وكانت متجهمة: اختاروا زميلًا دوني كفاءة لبعثة صيفية!

تساءل وهو يلحظ حنقها بسرور خفي: لماذا؟

– أسباب سخيفة طبعًا، أهمها قرابته لأحد أعضاء مجلس الشعب.

– صحتك النفسية أهم عندي من البعثة.

– السكوت عن الخطأ أفحش من الخطأ، أثرت الموضوع عند المدير، وطلبت تحديد ميعاد لمقابلة وكيل الوزارة.

وعقب صمت قصير قالت مستعملة لغة الشعارات التي ينفر منها: على الحياة أن تكون جهادًا متصلًا.

ها هو صوت مؤسسة يعلو. الغضب الذي احتقن به وجهها هو صوت الغريزة. لعلَّها تمتلئ الآن بالرغبات المدمرة. باسم الدين أو العلم يمكن أن ترتكب فظائع. أسعده أن تشاركه ولو بصفة عابرة صدق الغريزة الوحشي. شرها يقرِّبها إليه بقدر ما يبعدها تَطَهُّرها. اقتحمته ذكرى وفاة يسري أحمد. عرف وقتها أنها عاهدت نفسها على البقاء عذراء احترامًا لذكراه. رفضت أيدي كثيرين. عنيدة وقادرة على الرهبنة. تربص منتظرًا من بعيد. تتابعت الأعوام حتى قاربت الثلاثين من عمرها. وهي مصممة وهو صابر متصبِّر. إنها اليوم قلقة لتأخر الحمل كلما جاءها الطمث تجهَّمت. لعل حبها ليسري لا يمكن أن يتكرر ولكنَّه قتل غريمه وفاز أخيرًا بامرأته. فِعْل الإنسان الأول. لدى ظهور الإنسان انعقدت عليه آمال كبار. ألم يئن الأوان لإعادة النظر؟ رائحته تفسد جو الأرض وفعاله يندى لها جبين الحيوان. ثم قرر أن يجرب حظه فمضى إلى مقابلة نظيرة هانم أمها. لم يتراجع أمام الرفض ولكنه طالب بالانفراد بها في حجرة الاستقبال التقليدية المذهبة الطاقم. إنه ليذكر تمامًا ما دار من حديث في أول لقاء: أتوسل إليك أن تصغي إليَّ.

– إني مصغية.

– موقفك طال وهو غير معقول.

– لا أراه كذلك.

– يُنتظَر من أساتذة الكيمياء حكمة تماثلها.

– لا علاقة لذلك بالكيمياء.

– كلنا سنموت.

– إني متيقنة من ذلك.

– لست الأولى.

– ولا الأخيرة.

– إني أحبك من قديم.

– أشكرك.

– إني أحب فتاة لا ذكرى.

– هل يوجد فرق كبير؟

– أظن ذلك.

– لا أظن.

– لا يمكن أن تضيع حياتك في رهبنة.

– لا ينقصني شيء.

– لن أطالبك بالحب، فلنَكِلْ أمرنا للمعاشرة.

– إنك كريم ولكنني آسفة.

– لا تسدِّي الطريق في وجهي، دعيني أحاول وأحاول …

في تلك الأيام لم ينتحر بفضل مكر الحياة. لم تكن الخيبة خيبة الحب وحده، ولكنها خيبة الحياة نفسها. هام بالحب كصخرة للنجاة في خواءٍ فَقَدَ أي معنًى. تعلَّق بأي شيء من صداقة أو دعارة أو شراب، شبع كثيرًا وغاص في الكآبة أكثر. بالإصرار نال أخيرًا مبتغاه. وكان فاتحة التحوُّل عندها أن راحت تحاسبه على بقائه الطويل بلا عمل. تزوَّج فطار بها من ابن خلدون إلى المعادي. رضي بها بلا قلب. سرعان ما تفتَّح القلب وتغيَّرت الحياة. لكن مجلسه السعيد معها لا يخلو من توجُّس. إنه يخشى الإمام وصوت المؤسسة …

٧

أصبحت عادة جميلة مثل سحائب الخريف. تدثَّرت بالروب، كذلك هو، فالجمال عند اقتراب الشتاء يتوارى كالأزهار. كلا إنها مثل الأشجار دائمة الخضرة ما زالت تعبق بأنوثة ريَّانة. وجاء وعد الطبيب أخيرًا منعشًا للآمال. ولكن في غمرة النعومة ينبثق سؤال مثل: ما أخبار الشقة؟

ينقبض صدره ويجيب: إني أتصل بالسمسار كل يوم.

– هل تنظر في مراجعك القانونية؟

– طبعًا.

الكذب عادة يومية أيضًا. كما تطبَّع في عهد أبيه. يقول وهدان المتجلي «العمل قيمة عظيمة لمن كان مثلك وزوجتك على حق». لمن كان مثلك يعني لمن لا يربطه معنًى بالحياة. لعله صدق. ولكن أي جدوى في الاشتغال بقضايا المتطاحنين؟ وهي لا تصدِّقه تمامًا فرجعت تقول: أحيانًا يخيَّل إليَّ أنك غير مهتم.

فيؤكد اتصاله بالسمسار. صوت أبيه يتردَّد من وراء القبر. إنها متوثبة دائمًا لصبِّه في القالب المنشود كأنها لم تسمع بمأساته مع أبيه. سيظل دائمًا وأبدًا فريسة للمؤسسات. كم سعى إلى الانخراط في مؤسسة وكم فشل. طَبَعه أبوه بطابع الانقياد فقتل قواه الخالقة.

– على فكرة لِمَ لا تصلِّي؟

آه. ابتسم ولم يجب.

– كنت قديمًا تصلِّي الجمعة والفجر.

هز رأسه صامتًا.

قالت برقة تخفي انفعالها: ما أكثر المسلمين وما أقلهم!

أشار إلى قلبه وقال: هنا كل شيء.

– كلا، كيف أقلعت عن الصلاة؟

قال ضاحكًا: تمرَّدت على أبي عقب وفاته.

فتساءلت بجزع: إلى أي مدًى؟

فقال بوضوح: إني مؤمن، حسبي ذلك.

حتى متى يكذب؟ أمَّا هي فشرعت تقول: ليتني …

ولكنه قاطعها قائلًا: كلا، أرجوك، الزمن كفيل بكل شيء.

فقالت بحرارة: ليت العمر يمتد بي حتى أشهد الله يحكم الدنيا مرة أخرى!

– آمين.

هيهات أن يخطر لها أنَّ يسري أحمد هو من قادة الإلحاد. لم يجد صعوبة في زعزعة إيمانه فقد صادف فيه متوثبًا للتمرد على أبيه، كما وجده سريع الانقياد كما طبعه أبوه. أجل خاض تجربة مرعبة معذبة ثم سرعان ما وجد نفسه في كون بلا إله ولا حدود. وكان يسري رغم إلحاده ذا خلق متين، وطالما قال له: «النبل أن نعيش كما ينبغي لنا دون أمل.» وقد حفظ ذلك القول وردَّده كثيرًا. حتى حيال أقرب الناس إليه — عبد الباري، وهدان، عدلي — أسدل على وجهه القناع. أما الحقيقة فهي أنه لم يستطع أن يلتزم بالنبل فقتل ثم ارتكب ما هو أفظع من القتل. ولم يتركه ضميره بلا عقاب. وعجب لتطفل ضميره الذي رسب في باطنه منذ العهد القديم. آية على ضعفه وجبنه. عندما يتحرَّر منه تمامًا يبلغ الصدق المنشود. سأله عبد الباري: «لماذا تركز على السلبيات؟ هذا ما يقتل أي معنًى للوجود.» الحق أن إفرازات الإنسان وغرائزه هي عقدته؛ لذلك هان عليه أن يكفر بمؤسساته فيراها هياكل خاوية وهمية. إنه يطوي أسراره في صدره أما فتحية فتتحدث عن الصحابة قائلة: كانت أغلبيتهم من الشباب، ما أكثر من استشهد منهم، كانوا يعشقون الموت!

ويقول لها بعقل شارد: هكذا المؤمنون …

الإنسان يفوق الحيوان في شهوة القتل فيقتل نفسه أيضًا. وهذه الزوجة المحبوبة لا تخلو من شعرة جنون. كم تبدو مطمئنة متألقة كما يجدر بخليفة الله في أرضه. بقدر ما يسخر منها فإنه يوشك أن يحسدها. التناقض دائمًا وأبدًا. كما مزَّقه أمام كل شيء. حتى الانعدام الكلي للمعنى لم يمحق متناقضاته. أما فتحية فإنها لا تردد الشعارات فحسب ولكنها تصدقها وتؤمن بها. كيف يستمر التعامل معها؟ إنه حريص جدًّا على ألَّا تتبدَّد سعادته وهمًا من الأوهام.

٨

هلت بشائر الأمومة. والأبوة أيضًا. صادف ذلك أوائل الشتاء وأيامًا ممطره. راحت فتحية تحسب الزمن وقالت: سألد في سبتمبر، شهر مناسب للولادة.

فقال بحبور: بالسلامة.

لاح في وجهها ذبول طارئ. أعقب ذلك فتور في العواطف. وهدان المتجلِّي أخبره أن ذلك يحدث كثيرًا ولا يخلو من فائدة. قال له ساخرًا: «إنه تغيُّر له معنًى ككل شيء.» اقتنع هو بأن متاعب الذُّرِّية تقع حال تخلُّقها في الأرحام. رمق الأمومة بأمل أن تشغل بها عن تربيته هو وتربية المجتمع الحديث. إنها جديرة بهذا الختام السعيد. هنيئًا له انتزاعها من الرهبنة والجفاف. لقد فسَّر رهبنتها القديمة على أساس خاطئ. تذكَّر موقفًا لا يمكن أن يُنسى. ثمة تصرفات تهز النفس بنبلها حتى النفس الخاوية. احتسيا القرفة في حجرة المعيشة وهما يشاهدان مسلسلة تلفزيونية. بات البار خاويًا من قوارير الويسكي. عيناها السوداوان هادئتان متعبتان. إنها سعيدة ولا شك وتؤمن بأنه نبيل أمين. ما يزعجه حقًّا أنها تحب «الممثل» لا الشخص الحقيقي. الممثل رجل نبيل أمين مثقف لا عيب فيه إلا أنه مؤمن سلبي كغالبية المؤمنين في هذه الأيام. لكنه ممثل، شخص آخر، ولو عرفت الشخص الحقيقي لولَّت تقزُّزًا. هي ليست من النوع الذي يحب الجسد وحده. ليست من النساء اللاتي يحببن اللصوص والبُرْمَجية والقتلة. إنها تحب بروحها وجسدها معًا. سلت حب يسري أحمد لتقع في حب رجل وهمي. أما هو فلم يبرح موقعه القديم. موقع العاشق الخائب. موقع المحب من جانب واحد. ما زال يغتصبها ساعة بعد أخرى ويخدعها يومًا بعد يوم. لقد فقد معاني الأشياء، ولكنه طمح إلى الحب باعتباره معنًى مستغنيًا بذاته، وهو حريص على ألَّا يلحق بالأوهام. ممكن أن نجد في الحب والزواج والذرية معنًى محليًّا يستغاث به. غاب عن التلفزيون فتذكَّر الموقف المثير. حين دعته إلى لقاء مفاجئ بحديقة الأمازون. عقب عدولها عن الرهبنة وقبل إعلان الخطوبة. كان سعيدًا باللقاء فوق البساط الأخضر. راح يعلن خططه عن الخطوبة والزواج حتى لاحظ أنها ليست موجودة معه. فسألها: ما لك يا فتحية؟

فقالت بوجوم: كان يمكن أن تمضي الأمور في طريقها المرسوم بلا كدر.

– وهي ماضية كذلك فأي كدر تقصدين؟

– إني أرفض الخداع وأمقت الكذب ولست نهَّازة للفرص بأي ثمن.

فقال بضراعة: لا تتركيني للحيرة.

فتريثت قليلًا مكفهرَّة الوجه ثم قالت: يوجد في حياتي سر لا يجوز أن تجهله.

خفق قلبه وتخايل لعينيه شبح واحد. تساءل: أي سر؟

فقالت بحرارة متصاعدة: إنه مأساة …

ثم في شيء من الاندفاع: وقعت المأساة وأنا طالبة، كنت راجعة ليلًا من بيت زميلة عقب ساعات من المذاكرة، رحت أقطع حارة حمزة في طريقي إلى ابن خلدون، وإذا بأنوار الحي تنقطع فجأة فيغرق كل شيء في ظلام مخيف …

رجع الظلام بوحشيته فتجنَّب ملاقاة عينيها بحذر ولم ينبس، فقالت: لن أطيل فالذكرى معذِّبة، هاجمني شخص في الظلام، كتم فمي، تصارعنا حتى فقدت الوعي …

تهدَّج صوتها حتى سكتت، ولكنها تغلَّبت على ضعفها قائلة: لعلك أدركت بقية ما حدث!

– يا للفظاعة!

فاه بها وهو يرتعد، فهتفت غاضبة: وحش … حيوان … قذر … جبان …

فردَّد غائصًا في ظلمة باردة: وحش … حيوان … قذر … جبان!

صمتا ليستردَّا أنفاسهما … ترامقا في تعاسة، كلاهما أتعس من صاحبه. تمتم: أنت؟! يا للفظاعة!

ثم هز رأسه متسائلًا: أكان لذلك علاقة برفضك الزواج؟

فقالت على الفور: أبدًا، لقد اعترفت لأمي فلم يهدأ بالها حتى أصلحت كل شيء، فلم يكن ثمة ما يخيفني من الزواج.

حنى رأسه مصدِّقًا، ولكنها تجلت أمامه في هالة وضيئة. قالت مؤكدة: كان يمكن أن يمضي كل شيء بلا أثارة من شك!

– أدرك ذلك.

فقالت بصوت واضح: ولكني أرفض الكذب والخداع، فضلًا عن أنك شخص جدير بالصدق!

فقال وبنيانه ينهار: فعلت ما هو جدير بك.

– شكرًا.

فقال مزدردًا ريقه: لا يمكن الشك أن يرتقي إليك وقد ازداد احترامي لك.

فتساءلت: ألا تخلو إلى نفسك بعض الوقت؟

– لا داعي من ناحيتي لتبديد الوقت.

فهمست باسمة لأول مرة: لبيب. إنك نبيل كما اعتقدت دائمًا.

هكذا وُهب وسام النبل والأمانة. أما كان يجدر به أن يعترف لها بدوره؟ بدا ذلك مستحيلًا، كان على القاتل المغتصب أن يتوارى. الممثل يتهادى اليوم على المسرح وحده. لولا الحب والعناد ما أقدم على طلب يدها. كان حانقًا عليها بقدر حبه لها. وكان يعتبرها الحقيقة الوحيدة المتاحة له. ها هو الممثل يمعن في التمثيل ويتمادى. على حين يختفي الشخص الحقيقي ويذوب في الظلام. هو الظلام القديم الذي مكَّن له من الحب والانتقام. كان مرفوضًا معذبًا، رفضته فتحية كما رفضته الحقائق. كان لقيطًا ملقًى في الوجود بلا أمل. وكان ينتظر خروجها من بيت صديقتها ليتبعها عن بُعْد. وانطفأت الأنوار فجأة وتمطَّى الظلام العميق. اعتقد أن الظلمة معجزة يجود بها الدهر. استيقظت شياطينه التي لم يعد يزجرها شيء. انقضَّ على الحلم الجميل مدفوعًا بالهوس والرغبة والتحرُّق على الانتقام. كاد يهلكها لولا أن أنقذها الإغماء. حملها إلى دهليز بيت قديم. انحصر في ذاته الهائجة ففقد الوعي بالوجود. نسي أنه مهدَّد بقادم من فوق أو من الخارج أو بعودة النور. ثم مضى لاهثًا ذاهلًا لا يصدق بالنجاة. مضى متشفيًا من ذاته، من أبيه، من فريسته، من الوجود نفسه.

كانت تتابع المسلسلة مسترخية باسمة …

٩

جلسا في مجال المدفأة الكهربائية. الجو في الخارج يصرخ ويزمجر وإيقاع المطر يتتابع فوق الأشجار والنوافذ المغلقة. منظرها يستحق الرثاء. شحب لونها وغارت عيناها وانطفأ سحرها. وكان رمضان يطرق الأبواب، فقال مداعبًا: سأصوم وحدي يا عزيزتي.

قرَّر إعلان الصيام على أن ينتهكه سرًّا كلما ألح عليه الجوع إيثارًا للسلامة. تمتمت: الله رحمن رحيم.

اعتقد أنه نال حظوة جديرة بالتقدير، ولكنها سرعان ما سألته: ما أخبار الشقة؟

اشتعل غضبه ولكنه انكتم في أعماقه فقال: لم أوفَّق إلى شيء مناسب بعد.

ابتسمت ابتسامة أحنقته فقال: سيجيء كل شيء في وقته …

لازمت الصمت، ولكن وشى منظرها بقلة الثقة فواصل: وعدت وسوف أفي …

– يبدو أنك تفعل ذلك من أجلي.

فنفَّس عن صدره بالصدق ولو مرة فقال: هي الحقيقة …

– ما زلت ترفض العمل؟

فقال ضاحكًا: الفراغ هو أمل الأحياء المنشود.

– إنك تعيش في الواقع لا في الحلم.

– دخلي يمكِّنني من أن أعيش الحلم …

فتساءلت بعتاب: تأخذ دون أن تعطي؟

فهتف محتجًّا: إني أملك عشر عمارات تخدم المئات من الأسر، وجريرة العمل أنه يشغل الإنسان عن التأمل …

– اليوم طويل وفيه متَّسع لأشياء كثيرة.

– على أي حال لقد وعدت وأنا ملتزم بوعدي.

سكتت عنه. لا مفرَّ من فتح المكتب. سيتظاهر بالعمل كما يتظاهر بالصوم. ربما تورَّط في العمل أيضًا. إنها أقوى منه وهذا يثيره. غيَّرت ظاهره ولا يبعد أن تغيِّر باطنه ذات يوم. ربما أدى الصلوات في أوقاتها أيضًا. ربما ساقته يومًا إلى الحج. الممثل يتضخم وتترامى أبعاده والشخص الحقيقي يموت. متاعب متلاحقة يعانيها من أجل الحب والحياة الزوجية. إنه أدرى الناس بضعفه وانقياده. إنَّه أدرى الناس بما تطبَّع به على عهد داود الناطورجي. هل يُتاح له يومًا أن يقتل الممثل؟!

•••

وسألته ذات ليلة: هل يوجد شيء لا تعرفه عني.

فأجاب متوجِّسًا: إني أعرفك تمامًا.

– وأعتقد عادةً أني أعرفك كذلك، ولكنك تبدو لي أحيانًا كاللغز …

رأى شبح تحقيق يقترب فقال: إني شخص في غاية البساطة.

– أقول أحيانًا لنفسي إنه يكره العمل، إنه ينهمك في القراءة، إنه لا يهتم بشي مما يهتم به الآخرون!

فرمقها بحيرة فقالت: مَن أنت؟ ما أنت؟ في البلد هموم وتيارات، ما موقفك منها؟

فتساءل وهو يفكِّر بسرعة وحذر: ألا يعيش الإنسان حياة كاملة بغير ما تسألين عنه؟

– إنسان مثلك لا بد أن يكون صاحب رأي ولو كان مفاده الكفر بجميع الآراء!

– لا حديث لنا مع الأصدقاء إلا ذلك …

– ألا تعدُّني صديقة أيضًا؟

– بلى ولكنِّي أصون حياتنا ممَّا يزعجها …

– أكنت دائمًا تعيش في نطاق ذاتك؟

فضحكت عاليًا. بوسعه أن يبوح بأسرار صادقة كثيرة دون خطر. قال: لي تجارب حافلة.

فقالت بلهفة: هاتِ ما عندك، حدَّثتني مرةً عن ردِّ فعل عنيف عقب وفاة أبيك؟

– أجل، رد فعل اجتاح أبي وتراثه، ولعلك تدهشين إذا عرفت أن المرحوم يسري أحمد هو أول من ساعدني على التمرُّد، كان وقتها يتمرَّد على الإيمان فنفخ فيَّ من روحه المتمردة وأشركني في قراءة كتبه، فتعرَّضت لأزمة غير يسيرة وتبنَّيت إلحادًا شاملًا …

تمتمت بامتعاض: فقدت إيمانك كله؟!

– كله … وخُيِّل إليَّ أني أكتشف العالم من جديد …

– أدام ذلك طويلًا؟

– على فكرة، لا شيء يدوم معي طويلًا في عالَم الفكر، ما هو إلَّا طور يعقبه طور جديد، وفي أقصر وقت يتصوَّره العقل …

فقالت بقلق: وهناك العواقب العملية لذلك!

– هو ذلك، إني لا أحب الكذب!

– وانتهيت إلى إهمال الدنيا!

فتفكَّر قليلًا ثم قال: لا أظن، العكس تمامًا ما حصل، اندفعت لاكتشاف الدنيا، وملء الفراغ، عند ذاك تَسَلَّمني عدلي جواد، ففتح لي باب الديمقراطية في وقت كانت تُذكر عادةً مصحوبةً باللعنات، فعرفت تاريخ مصر المجهول قبل الثورة، واستفزَّني الحماس، فطال لساني حتى استدعاني رجل الأمن بالكلية وأنذرني …

– لذاك الحد؟

– أجل لم أكن سلبيًّا كما تتصورين، غير أن المرحلة الديمقراطية لم تطل ولم ترسخ فسرعان ما تقدم الصفوف عبد الباري خليل!

– أعوذ بالله!

– تبوأ مركز الأستاذ مني وراح يعيرني كتبًا عن المادية الجدلية والتفسير المادي للتاريخ وصراع الطبقات والجنة الموعودة.

فتمتمت ساخرة: رغم أنك وريث دخل يربو على الخمسمائة الجنيه شهريًّا؟!

– اقتنعت تمامًا، ووجدت في تجاوزه طبقتي ما يشرِّفني أكثر …

تزايد الاهتمام في نظرة عينيها الذابلتين، فواصل: اجتاحني الحماس للماركسية كما اجتاحني من قبل للإلحاد والديمقراطية، وإذن فأنا مريض بالاهتمام لا بعدم الاهتمام …

فقالت بمرارة: ولكنك تتغير بسرعة مذهلة!

يا له من حكم صادق! فطن إليه بنقده المرهف للذات. سرعان ما يقع تحت سيطرة الصديق أو الكتاب. إنه ضعف ملموس محسوس طالما حمَّل أباه تبعته. هو الذي طبعه بسرعة الانقياد. هو الذي جعل من ذكائه أداة سلبية في خدمة التلقي وبلا طاقة على التمحيص والنقد. وقال بامتعاض: إنه الشباب والحماس ورد الفعل لخضوع طويل للأب …

فتساءلت بقلق: ماذا حدث بعد ذلك؟

– لقد اعتُقلت، وتلقَّيت إهانات لا تُمحى ولكن ثبت عدم تورطي في أي عمل غير مشروع، فأُفرج عني بخلاف عبد الباري الذي اعتُقل طويلًا كما تذكرين حتى اشتُهر أمره في الحي …

– ثم؟

– زلزلني الاعتقال والإهانة، أكان ذلك ما كفَّرني بالماركسية؟ الذكرى غائمة، أما ما أذكره بوضوح فهو أنني عثرت على كتب الوجودية بلا مرشد، ولكن الكتاب كان وحده كافيًا للإلقاء بي في عبث الوجود واللامعنى!

فقالت بحزن: ما أجدر رحلة تبدأ بالإلحاد أن تنتهي بالعبث …

– صدقت!

– إنك قطعت في أعوام ما قطعته البشرية الضالة في عمرها كله!

– صدقت أيضًا …

– ثم؟

حَسْبه ما نفس به عن صدره وعليه الآن أن يرجع إلى التمثيل، قال: رجعت إلى الإيمان والحمد لله …

– أكان وهدان المتجلي وراء ذلك؟

– القراءة أكثر، والعناية الإلهية قبل كل شيء …

فقالت بجدية ملفتة للنظر: من حسن الحظ أنك تزوَّجتني وأنت مؤمن وإلا لورَّطتني في علاقة غير شرعية!

يا للداهية. إنها تعني ما تقول. وتتصور العلاقات على ضوء واضح صارم حاد النصل. وأزعجه جدًّا أن تكون علاقته بها في الحقيقة — من وجهة نظرها على الأقل — غير شرعية. وما تمالك أن قال: يوجد ملحدون معروفون وهم في الوقت نفسه أرباب أُسَر!

فقالت بقوة: ما هي إلا زيجات باطلة لا يبقى عليها إلا داء التهاون المنتشر …

فحنى رأسه موافقًا أو متظاهرًا بالموافقة وهو يُلحق هذا السر بآثامه الخفية. حقًّا إن زواجه تجربة مثيرة اعترضت حياته لتهزها من الأعماق. واستطاع أن يقول بنبرة المنتصر: ها أنت ترين أنني لست عديم الاهتمام كما تصوَّرت …

– ولكن رحلتك تركت فيك آثارًا باقية …

فتساءل بقلق: حقًّا؟

– مثل تهاونك في شئون دينك، وكراهيتك للعمل!

فضحك ليخفف من توتر أعصابه وقال: أخطاء محتملة ويمكن علاجها، ولعلَّك أنت في حاجة إلى قدر من التسامح …

فقالت بحرارة: المسألة إيمان أولًا …

– التسامح جميل أيضًا.

– أجمل منه أن تطابق بين إيمانك وسلوكك …

فتمادى في كذبه وخوفه قائلًا: إني ماضٍ بعزم في هذا السبيل …

وتساءل في باطنه هل تتمخَّض سعادته عن وهم زائل؟!

١٠

القلق يلازمه. رغم استهتاره بكافة القيم فالقلق لا يبرحه. مجلسهما الليلي يهبه شعورين متناقضين، السعادة والقلق. الشتاء يسحب أذياله وعما قليل تفتح النوافذ وتشيع البسمات في الحديقة. صحتها تبدو الآن أفضل مما كانت أول عهدها بالحبَل. وهي تفضل الراديو على التلفزيون فيجاريها مُرَحِّبًا بأنه لا يفصل بينهما فصلًا كليًّا. إنه صادق في حبها ولكن لا يجمعهما إلا الكذب. من حسن الحظ أنها تصدِّق «الممثل» ولا تدري شيئًا عن الأصل. وسوف تجيء النهاية عندما تطلع على الشخص الرابض وراء الممثل. ما زالا يتمشَّيان عند الأصيل خاصة بعد أن أصبح المشي ضرورة صحية لها، وهي ترتدي اليوم فساتين مرسلة، وتُعِدُّ عدتها لاستقبال الوليد. وشوقه إليها يزداد ومخاوفه تزداد أيضًا. شخصه الحقيقي لا يكف عن تعذيبه. إنه يعيش وحده في عزلة تامة، لا يمارس الحب ولا الزواج ولا حق له في التعبير عن ذاته. إنه كامن في أعماقه في ذل، يغلي بالحنق، ويحلم بالثورة. غارق في العبث الذي وجد فيه الحل لمتناقضاته الماضية. هو الذي أخرجه من تردُّده المعذب بين الإيمان والإلحاد، بين الديمقراطية والحكم المطلق، بين الماركسية والرأسمالية. هو الذي أنقذه من الهياكل الخاوية ولكنه أصابه بمرض جديد، مرض الفراغ والرعب. وفتحية لم تفصل بين الممثل والأصل فحسب ولكنها تهدد الاثنين أيضًا. ألا ينقاد لها ذات يوم كما انقاد من قبل ليسري أحمد وعدلي جواد وعبد الباري خليل؟ وأي عواقب تتربص به إذا تحقق ذلك الانقياد المتوقع؟!

•••

سألته باهتمام: أي مراحل حياتك تراها الأفظع؟

بعد تأمل أجاب: لعله العبث.

– لماذا؟

– لأنه فراغ، والفراغ مرعب.

– أوافقك تمامًا، أي مذهب وضعي فهو انحراف أما العبث فشلل للعقل، وإذا شُلَّ العقل فماذا يبقى من الإنسان العاقل؟!

أجاب بلا وعي: لا شيء …

– أي سخرية أن تتصور الإنسان لقيطًا في الكون، تجيء به المصادفة العمياء ثم يندثر بالمصادفة أو العجز!

إنها تذكره بيأسه وهي لا تدري ولكنه يوافقها بحماس قائلًا: أحسنت التصوير.

– يسرني أنك تطالع كتب العلم بشغف، إنها تؤكِّد المعنى في كل شيء!

– تمامًا!

– حتى المتشكِّك يسلم بوجود معنًى وإن عز عليه إدراكه.

– أجل، يسلم على الأقل باحتماله …

وتأمَّل قوله بقلق. وازدادت مخاوفه. وغاب عنها وقتًا فلم يدرِ كيف تطرَّقت إلى موضوع الصلاة، كانت تقول: يستحسن أن تصلي وأنت صائم، ولو شهر رمضان فقط!

أليس لديها اهتمامات أخرى؟ ألا تحب أحاديث النساء؟ لِمَ لا يقاوم؟ هل زاده شعوره بالإثم ضعفًا على ضعف؟! تمتم: فكرة مقبولة …

إنها تُحكم الحصار حوله. إذا ولَّى رمضان فستطالبه بالاستمرار في الصلاة. وستذكِّره حتمًا بأن الصلاة لا تتفق وشرب الويسكي في ركن الفردوس. وسيجيء الحج في يوم من الأيام، سوف يتضخم الممثل ضاغطًا بثقله المتصاعد فوق الشخص الحقيقي السجين. جعل يلحظها في فترات الصمت فيراها وهي تغمض عينيها إعياءً أو تنظر من خلال الزجاج إلى رءوس الأشجار المتوهجة بأنوار المصابيح. حنق عليها. وحنق على داود الناطورجي أيضًا. حنق على ضعفه وجبنه. عزَّ عليه أن يتوارى في بيته تاركًا الممثل الغريب يعاشر زوجته أمام عينيه ويتلقى حبها ويهبها بكل وقاحة بذرة حياة جديدة. كل ذلك يحدث أمام عينيه وهو متوارٍ صامت مستسلم.

١١

لأول مرة من أكثر من عام تخلو الفيلَّا من فتحية. انتقلت إلى مستشفى الولادة قبل ميعاد الوضع بأسبوع — لتوعُّكها المفاجئ — لتكون تحت الملاحظة الدقيقة والرعاية المتاحة. وجد نفسه وحيدًا. لم يعد كما كان، ففي الربيع والصيف تكاملت شخصية الممثل وترامت أبعادها. إنه يجيد الآن تمثيل دور المؤمن والمحامي، بل إنه يسعى إلى تولِّي القضايا حتى لا يُرمى بالخيبة. وشغل التمثيل جل حياته فلم يترك للرجل الحقيقي إلَّا وقتًا قصيرًا يمضي عادة في السخرية والمرارة والغضب. على سبيل المزاح قال له عبد الباري خليل: وراء كل عظيم امرأة!

فأحنقه ذلك جدًّا. إنه يشير إلى تغيُّر أسلوب حياته ولكنه يعلم في الوقت نفسه أنه تغيُّر أُلقي عليه من الخارج قهرًا بلا اقتناع ولا إرادة ولكن تحاميًا للعواصف وإيثارًا للسلامة وإبقاءً على راحته الشخصية. ولم يخفِ عواطفه فقال لأصحابه: إني غاضب.

فقال عبد الباري خليل: إن تكن صادقًا في عبثك فلتعتبر الأمر كله فكاهة لا بأس بها.

فقال بإصرار: ولكنني صادق بلا ريب.

– ماذا يغضبك إذن؟ الضمير لا يوجد إلا في رحاب إيمان ما …

فقال بحدة: رواسب اللاوعي لم تُجتث بعد.

– الرواسب هي مشكلتك.

فقال وهدان المتجلي: إني أضع الأمل في الممثل لا في الشخص، فلعله يندمج في دوره فينقلب تمثيله صدقًا مع الزمن!

عند ذاك قال عدلي جواد: لا بأس مطلقًا من أن تعيش الشخصين حفاظًا على أسرتك وحبك!

كرَّر جملته مرتين ثم واصل حديثه: مَن مِن الناس حولنا يحظى بشخصية واحدة؟ نحن في مسرح كبير، الجميع ممثلون، يقولون كلامًا جذَّابًا فوق الخشبة، ويتهامسون بكلام آخر وراء الكواليس، هكذا الجميع من القاعدة حتى العلالي، فليس في حياتك شذوذ، احذر أي تصرف جنوني، دع ذلك للمجانين من زبائن النيابة والسجون، عليك بالسلوك الجدير بعبثيٍّ، ملايين يمثلون بلا فلسفة ولكن بوحي من غريزة البقاء، ويواصلون الحياة في ارتياح واستبشار وسرور!

ها هو ينفرد بنفسه ويَزِن تلك الأقوال بدقة. إنه الآن متحرر من ظلها. وهي طريحة الفراش بين أيدي الممرضات مشغولة بوعكتها عن المبادئ، تتأهب لاستقبال الوليد الذي ستنشئه على مثالها. أجل لقد تلقَّى النصيحة العملية السديدة التي تصون له حياته وسعادته. سيعيش فوق المسرح زوجًا وأبًا ومؤمنًا ومحاميًا، ويبقى وراء الكواليس ضائعًا بلا معنًى، قاتلًا، مغتصبًا، عزبًا، وحيدًا، ينتظر موتًا سخيفًا في أعقاب حياة سمجة. وكلما ترامق الشخصان – الممثل والأصل — فعليه أن يبتسم، وإن شاء فليضحك، بلا همٍّ ولا غمٍّ، وليتذكر أنه لا يمارس شذوذًا ما، وأنه يقلد الملايين في حياتهم اليومية.

١٢

بدا في وقت ما أن الصراع يمضي نحو مستقر، لاح الأمان أيضًا في الأفق مع سحائب الخريف. وقال لنفسه إن آثامه ليست شيئًا إذا قيست إلى آثام الآخرين من السادة القتلة وقُطَّاع الطريق المتهادين فوق المسرح بين التهليل والتصفيق.

ولكن عادت فتحية فأشرقت الفيلَّا بنورها. عادت إلى مقعدها وانتفض الوليد بحياته الجديدة فوق حجرها. لقد سمَّته سليمان باسم أبيها وسوف ينشأ نشأةً جديدة تقيه من وباء الانقسام وتحقق له وحدته. وتبدَّت سعيدة بوليدها، سعيدة أيضًا بالرجل الذي أعادت خلقه من جديد. الحق أن استقراره تزعزع بحضورها. إنها نقيَّة صادقة. رغم تزمُّتها، بل رغم صرامتها وعنفها. فهي نقية صادقة. إلى جانب نصاعة بياضها لاح لونه أغبر قاتمًا. حقًّا إنها ينبوع الحب والعذاب. من القلة النادرة التي لم تحترف التمثيل فرجع مضطرًّا إلى المقارنة بين ذاتيهما. في غيبتها ساد العقل والمنطق وسيطرت ذكرى الحب ولكن في حضورها انكشف الحب عن خدعة وفرية. هذه السيدة الجميلة الصادقة لا يمكن أن تبقى على حب قاتل مغتصب ضائع. ستقضي على العلاقة بعدم الشرعية. لا حب ثمة ولا زواج ولا أبوة في محضرها. المطاردة تعنف، اليأس يستفحل. وعجب لشأنه ولحدة انقلابه. التزعزع لا يغزوه نتيجة لضعفه وحده، ولكن بوحي الحب أيضًا. الحب ذو التزام ويجفل من الخداع. هل يدمر الحب باسم الحب؟ وكأنه أزمع الدفاع عن نفسه فقال لها: من يقرأ الصحف يقتنع تمامًا بأن الصفوة نفسها تعيش وجهين، وأنها لا تصدق مع ذاتها إلا وهي تمارس الشر في الخفاء!

فقالت على الفور: المؤمن وحده من يعيش بوجه واحد.

سرعان ما صمَّم على ألا يُقْدم مختارًا على طعن سعاته طعنة الموت. سوف يألف هذه الحياة رغم قربها، وسوف يتحرَّر مع الزمن من آلامها. ونسمت من الباب المفتوح نفحة خريف عذبة مختلطة بالأصوات الغامضة الصادرة عن سليمان.

ولكن حدث شيء.

انطلق فجأة وبلا مقدمات من أعماقه المترعة بالقهر والقلق.

انطلق عملاقًا ثملًا حرًّا مزهوًّا بحقيقته الراسخة وتأثيره المطلق. كأن صدره انشق عن ثغرة متفجرة بانفعالات طاغية غامضة لتغزو الفضاء كله. استطار خياله في نشوة من السكر الأصيل مستمدًّا من المجهول قدرة شاملة. رأى بنظرة خاطفة الكون ماثلًا في صورة واحدة ملتحمة الأجزاء متعانقة الأبعاد تنبعث من بهائها نغمة ساحرة. في غمرة السكرة الصافية مرق بكل قواه من قفص الزمن وعلا فوق المخاوف والحذر. انغمس حتى قمة رأسه في انتصارات اللحظة الراهنة.

وبصوت غريب متهدج قال لها: فتحية، أصغي إليَّ، سأفضي إليك بأسرار مذهلة …

١٣

الخريف مستمر في نفث أنفاسه ولكنَّ العذاب انتهى. الحزن يغشى الوجود ولكن العذاب انتهى. إنه غارق في هدوء عميق سُبق بإعصار مدمر. تقوَّض المسرح وتلاشى التمثيل، استردَّ ذاته، لا حب ثمة ولا زواج ولا سليمان ولا شعائر ولا قضايا، الجدب والوحدة ولكن العذاب انتهى. من خلال جو جنائزي قاتم أطلت عليه وجوه الأصدقاء. لتوهم رجعوا من زيارة واجبة للحي القديم. مسعى تقليدي ولكن بلا ثمرة.

قال عدلي جواد: لا يمكن فهم تصرُّفك.

– ما أهمية ذلك؟ لكنه كان حتمًا من الحتم وعاصفة لا سبيل لمقاومتها. وقال وهدان: حزنها لا يُوصَف.

فقال عبد الباري: وغضبها كذلك.

وقال وهدان: لم تغفر لي سكوتي من أول يوم …

رجع عدلي جواد يردد: لا يمكن فهم تصرفك؟

فقال: صعقني بلا مقدمات. لعله نوع من الجنون …

ثم تمتم بعد قليل: ولكن لا ندم ولا أسف …

فقال وهدان: قياسًا على ما حدث يمكن أن يجدَّ جديد لا يخطر الآن ببال أحد …

فقال عبد الباري: قول حسن.

من ناحيته فلا ندم ولا أسف، ولا عذاب أيضًا. ثمة حزن عميق ولكنه يتنفَّس في الزمن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤