أُسْرة أناخ عليها الدهر

وجدتني في فناء ترب مكتظ بالآدميين والضوضاء. مربَّع الأضلاع مسقوف بسماء متلبدة بالسحب الداكنة. تتلاصق على أضلاعه الحجرات وتفوح في جوه البارد روائح البصل والثوم والفول النابت والطعمية. أمام كل حجرة تقرفصت امرأة أمام كانون أو وابور غاز وانتشر فوق أديمه المليء بالحفر والنفايات أطفال يلعبون. اتَّجهت الأعين نحوي وكأنَّما تتساءل عمَّا جاء بهذا الأفندي إلى ربعهم العتيق. ملت نحو أقرب امرأة وقلت: صباح الخير أين أجد ست وجدية جلال؟

فأشارت بيدها المغطاة بقفَّاز من الخضرة نحو امرأة في الركن الأيسر من الضلع المتوسط وهي تسأل بتطفل: من حضرتك؟ وماذا تريد منها؟

فشكرتها متجاهلًا تطفلها وشققت طريقي متجنبًا الحفر حتى وقفت أمام المرأة متسائلًا: ست وجدية جلال؟

فرفعت إليَّ وجهًا بارز العظام مدبوغًا بالتعاسة والكبر محدِّقة فيَّ بعينين كليلتين وهي تهمس: أنا وجدية.

فقلت برقة: مندوب وزارة الأوقاف.

نهضت بنشاط طارئ لا يناسب هزالها، ثم دخلت الحجرة وهي تقول بصوت بالغ المودة: تفضل.

أول ما طالعني وجه شاب مفرط البدانة، واضح العته، يرسل نظرات بلهاء ويبتسم للاشيء. تربَّع فوق كنبة قديمة لا أثاث في الحجرة سواها باستثناء سحَّارة سوداء وحصيرة متهرئة. قالت: لا مؤاخذة، لا يوجد كرسي، تفضَّل بالجلوس على الكنبة.

قال الشاب بعجلة: لا … ارجع إلى أمك خديجة العرة!

نهرته الست وقالت لي آسفة: أنت سيد مَن يفهم ويعذر.

فقلت بهدوء: لقد تلقَّت الوزارة طلبك فأرسلتني للتحري كالمتَّبَع.

فتساءلت بلهفة: متى تقرِّرون لي إعانة؟

– كل شيء بمشيئة الله، أتعيشان وحدكما؟

– معنا الله، وهذا الابن الذي بقي لي كما ترى.

– أله عمل؟

قال الشاب: يا مغفل، ألم تعرف أنَّ أولاد الملوك لا يعملون!

فصاحت به المرأة: لا تفضحنا (ثم ملتفته إليَّ) … أكرر العذر وربنا يكرمك، لا عمل له، يمضي على باب الله فيطعمه المحسنون، وأنا لا مورد لي إلَّا الملاليم التي تجيئني من بيع النابت.

– في الطلب أنكم أسرة كريمة أناخ عليها الدهر؟

– كنَّا كذلك، وضاع كل شيء.

ونشجت باكية فقال الشاب الأبله: تريد أن تعتدي على أمي يا حمار.

لم ألتفت إليه، ولم أتأثَّر بالدموع من طول ما خالطت الأُسَر التي أناخ عليها الدهر، قلت: أعطني فكرة عن حياتك السابقة.

قالت وهي تجفف دموعها بطرف شالها الرث: كان أبي بياع حلاوة طحينية وكان زوجي موظفًا.

– اسمه ووظيفته؟

ترددت تردُّدًا لم يغب عني بحكم خبرتي ثم قالت: مضى زمن طويل.

– لا بأس، أخبريني.

– كان موظف بدار الكتب.

– اسمه من فضلك؟

– تردَّدت مرة أخرى ثم قالت: غريب عدنان.

– أين كان مسكنك؟

– في باب الخلق، لا أذكر رقمه. ولكن كانت بأسفله صيدلية.

ثم بصوت مليء بالأسى: صحتي تسوء يومًا بعد يوم، ارحموني يرحمكم الله.

فصاح ابنها وهو يشير نحوي: هذا الرجل لص، رأيت بدلته على رجل ديوث.

غادرت المكان مسرعًا فبلغت شارع السد بباب الشعرية ونظرات النساء ما زالت راسبة في أعماقي. دلَّتني الزيارة على مراجعي. هناك شيخ حارة السد، دار الكتب، وبيت باب الخلق. وملت إلى دكَّان شيخ الحارة فوجدته لحسن الحظ جالسًا إلى مكتبه القديم تحت صورة الملك. سلمت عليه ثم قدمت إليه بطاقة العمل فرحَّب بي فقلت: تفضل عليَّ بما تعلم عن ست وجدية جلال المقيمة بالربع ٢١ بحارة السد.

فقال بعدم اكتراث: علمي عنها قليل، لكنها على حياء بخلاف بقية السكان.

– أهي أصلًا من سكَّان الربع؟

– لا … أقامت فيه منذ سنوات، وهي لولا ابنها المعتوه …

فقاطعته باسمًا: عرفته، من أين له هذا القدر المخيف من الدهن؟

– يأكل في كل مكان، ولكنْ فيه شيء لله!

– تؤمن بذلك؟

– واسمع، منذ شهر رأيته يبول في وسط الطريق فزجرته فدعا عليَّ، أتعرف ماذا أصابني؟

– خير إن شاء الله؟

– أبدًا، أصبت في نفسي الأسبوع بفتق … ولكن هل تنوي الوزارة مدها بإعانة؟

– ربما.

– جميع جاراتها على مثل حالها من الفقر.

– للأسف الوزارة تقصر المعونة على الأُسَر التي أناخ عليها الدهر، أمَّا الفقراء فهيهات أن يشبعهم إلا وزارة أوقاف أمريكا!

•••

قصدت دار الكتب لأسأل عن غريب عدنان في إدارة المستخدمين، فأحالني المدير على أقدم موظف في الدار بأرشيف الكتب يدعى الشيخ فرغل بهنس. قدَّمت نفسي وشرحت له مهمتي ثم قلت: قيل لي إنك خير من يحدثني عن المرحوم غريب عدنان.

رفع الرجل حاجبَيه وقال: يا لله … سبحان من يبعث الماضي بعد موت … كان — غفر الله له — مأساة وعبرة!

وطلب القهوة لي ثم واصل حديثه: كان مترجمًا بالدار، شهادته الأصلية البكالوريا، ولكنَّه سافر إلى فرنسا على حساب أبيه فرجع بشهادة ما أو بلا شهادة ولكن شُهد له بإتقان العربية والفرنسية.

وصمت لحظات ليجمع أشتات ذكريات ثم قال: كان أيضًا ميسور الحال، ذا مرتَّب حسن وبيت مكوَّن من عدة أدوار، وعُرف بسعة اطلاعه، وكان بوسعه أن يفيد من علمه ترجمة أو تعريبًا ولكن الشيطان دفع به إلى أحضان موضة انتشرت في تلك الأيام، أتعرف ماذا كانت تلك الموضة؟

فهززت رأسي نفيًا، فقال: موضة الإلحاد والعياذ بالله، قرَّر أن يكون حر التفكير مثل فلان وعلان ممَّن أحدثوا بإلحادهم ضجَّة ونالوا عنها شهرة فكانت الكارثة.

– كيف؟

– نشر كتابًا عن الدين المقارن ردد فيه عن الإسلام ما يتقوَّله المستشرقون المتعصبون!

– أعطني مثالًا.

– لم أقرأه، ولا أتذكَّره، ولكني أعرف تمامًا أن كتابه لم يحدث ضجة ولا أنشأ شهرة، ولكن أدخله السجن وأفقده الوظيفة.

– لِمَ لَمْ ينجُ كما نجا آخرون؟

– كان وراء الآخرين أحزابهم ولم يكن وراءه إلا الشيطان.

– ومات في السجن؟

– أبدًا، خرج بعد انقضاء المدة، عاش على ريع بيته عيشة ليست يسيرة، ثم مات بالكبد، وقيل إنَّ الخمر كانت وراء وفاته.

– وماذا تعرف عن أسرته؟

– لا شيء يذكر سوى أنَّه كان صاحب زوجة وأولاد، لم تتجدَّد علاقتي به بعد الإفراج عنه، لقد قطعته بلا أسف منذ لحقت به لعنة الكفر.

أدركت لم تردَّدت ست وجدية قبل اضطرارها إلى ذكر اسمه. على أي حال لقد ورثت أسرته البيت، فكيف تدهور بها الحال إلى الربع ٢١، وأين بقية الأولاد؟

•••

ها هو البيت وها هي الصيدلية. بيت مكوَّن من أربعة أدوار، كلُّ دور شقة واحدة. بيت متوسط الدرجة ولكنه محترم، فضلًا عن أنه يُعَدُّ قصرًا بالقياس إلى ربع السد. جلتُ جولة استكشافية بالكوَّاء والبدَّال والفرَّان والصيدلي، فاهتديت إلى بغيتي في ساكن الدور الثاني، أما الباقون فسكان جدد. كان موظفًا على المعاش يدعى محمد الصيَّاد. استضافني بحذر، ولما علم بمهمتي أدلى إليَّ بما عنده من ذكريات. قال: غفر الله لغريب عدنان، ولكن ما ذنب زوجته وأولاده؟

ثم أجاب على تساؤله: هي حكمة ربنا على أي حال.

سألته باهتمام: ماذا حصل للأسرة بعد وفاته؟

– الأم كانت ست عاقلة ومدبرة، وجدت نفسها مسئولة عن تربية أربعة ذكور وأنثى، فقرَّرت أن تبيع بيتًا ورثوه لتنفقه على تعليمهم، وهي صفقة رابحة على أي حال، وحال يقف أحدهم على قدميه تزول المتاعب.

– تفكير سليم، ولكن أين ذهب الأولاد؟

– صبرك، الابن الأكبر وهو في نهاية مرحلته العليا قُتل في مظاهرة على عهد إسماعيل صدقي.

انتظرت وأنا أفكِّر في صحيفة التحريات التي ستُعْرَض على لجنة الخيرات المنتمية في النهاية إلى حكم راهن يستند إلى انقلاب ملكي! قال الرجل: الابن الثاني قامر بمصروفات المدرسة فخسرها ثم انتحر!

هززت رأسي في أسًى: ثم وجدت البنت عريسًا لقطة، غاية في نضج العمر والمال فلم يُكَلِّف الأم شيئًا يُذْكَر، ولكنها بعد أعوام من الزواج هربت مع خمَّار يوناني، ويقال إنه هرَّبها معه إلى بلاد اليونان، أرأيت؟

وبعد صمت قال: لم يحتمل الابن الثالث الصدمة فاختفى ولم يُعثر له على أثر.

– هكذا لم يبقَ لها إلَّا المعتوه.

– ثم تدهور الحال إلى الحضيض!

•••

اجتمعت لجنة الخيرات برئاسة مديرها وعضوية نخبة من كبار الموظفين على حين تولَّيت أنا سكرتيريتها. عرضت ما لديَّ من تحريات وتقررت — كالعادة — إعانات ما بين الجنيه والثلاثة جنيهات. ولما جاء دور طلب ست وجدية رحت أقرأ التحريات في صمت ثقيل حتى فرغت. وضح لي الأثر العميق الذي تركه التقرير. كان مفتي الوزارة أول المتكلمين، تمتم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

وقال مدير الإدارة العامة: أي أسرة هذه الأسرة!

فقال مدير الإدارة القانونية: أسرة جمعت ما بين الإلحاد والانحراف والتمرد والفسق والانحلال.

فقال المفتي: أسرة لم يبرأ من العيب فيها إلا معتوه.

فقال مدير الإدارة القانونية: والعته عيب أيضًا غير أنه لا مسئولية عليه.

ونظرت إلى رئيس اللجنة متسائلًا: هل أوقِّع بالرفض؟

فقال الرئيس يخاطب الأعضاء: دعونا من الأسرة وانظروا في مقدمة الطلب، فهي سيدة تعيسة الحظ قد أناخ عليها الدهر.

فتساءل المفتي بغضب: كيف نبرِّئها وهي البؤرة التي ترعرعت فيها كافة الموبقات؟

فقال الرئيس برقة: ألا تُعتَبَرُ أيضًا ضحية؟

فهتف المفتي: لا … لا … لا … أبعدوا عنا هذا الطلب، عشرات الأسر أحق منها بالإعانة!

وساد صمت اعتُبر موافقة، فمضيت أوقع بالرفض. عند ذاك دق جرس التليفون فتناول الرئيس السماعة: أهلًا سعادة الوكيل.

– …

– حقًّا؟ الطلب خالٍ من أي توصية.

– …

– تسمح لي سعادتك بمقابلة دقيقة واحدة؟

– …

– شكرًا يا فندم.

قام الرئيس وهو يقول لنا: الجلسة لمْ تفض، عن إذنكم.

•••

غاب دقائق معدودة ثم رجع إلى مكانه وهو يقول: علينا أن نعيد النظر في طلب ست وجدية جلال.

فقال المفتي بحدة: لقد انتهينا منه يا سعادة الرئيس.

وتساءل مدير الإدارة القانونية: أهي رغبة سعادة الباشا الوكيل؟

فأجاب الرئيس بوضوح: أجل.

وكان للمفتي مكانة في الحزب الحاكم لا تقل عن مكانة الوكيل إن لم تزد، فقال بصوت جهير: لن أتراجع عن الرفض!

فقال رئيس اللجنة: ثمة توصية من شيخ مشايخ الطرق الصوفية!

فصاح المفتي: ولو!

فقال الرئيس متسائلًا: أترى من تكون وجدية جلال يا فضيلة المفتي؟

فتساءل المفتي ساخرًا: شجرة الدر؟ أم كليوباطرة؟!

فقال الرئيس: إنها حفيدة إسماعيل الماوردي، العارف بالله، شملنا الله ببركاته!

وهتف مدير الإدارة القانونية: سبحانك ربي، لك في كل شيء حكمة وعبرة!

لم ينبس المفتي بكلمة وساد صمت الاستسلام والرضا. أجل والرضا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤