الظلام القديم

ليلة لا تنسى.

تأخَّر بهم الوقت في صحراء العباسية في ليلة من ليالي الخريف. لعبوا الكرة، ربحوا جولة وخسروا الأخرى. تشاجروا، انصرف الفريقان إلا ثلاثة، علي وممتاز وإسماعيل. لبثوا حتى يُصفَّى الحساب ويتم الصلح وتصفو النفوس، من شدة التأثر أغُمي على إسماعيل، ارتبكا لذلك غاية الارتباك، قاما له بتنفس صناعي، وعندما عاد إلى وعيه كان الليل قد هبط بجلاله ولا مبالاته فأحدق بهم الظلام.

كانت ليلة من ليالي الخريف، استقرَّت في سقفها السحب، فلا نجم واحد في السماء، ولا شعاع يتسرَّب إلى المكان. ساحة مترامية ولكنَّها محاطة بمرتفعات شتى على رأسها المقطم بشموخه، تتعاون جميعًا على حَجْب أضواء المدينة. غرقوا في ظلمة عميقة وشاملة لم يجرِّبوها من قبل، ظلمة أصيلة نقية مسيطرة طمست على الحواسِّ ونفذت إلى أعماق الوعي. اختفى الوجود. تلاشت أشباحهم، استوى أن تحملق الأعين أو تغمض، استولى العدم على الكون.

قال ممتاز: سرقنا الوقت.

فقال إسماعيل: أنا المسئول.

فقال علي: إني أرى الظلام لأول مرة.

– فلنمضِ نحو المدينة قبل أن يدركنا الهوس.

ولكن أين طريق المدينة؟ شعروا باختناق … رغم جريان الهواء ورطوبته شعروا باختناق، وشعور آخر طوَّقهم هو أنهم مكبَّلون في زنزانة.

– أين طريق المدينة؟

– لقد فقدنا الإحساس بالاتجاه.

– اختفى المكان.

قال ممتاز ساخرًا: نسينا أن نحضر معنا بوصلة.

– ومعها عود ثقاب.

– ولا صوت لإنسان!

صمتوا في حيرة، ولكنَّ الصوت كان أنسهم الوحيد وآخر ما بقي لديهم من علاقات الحياة فعاد إسماعيل يقول: المدينة على مسيرة نصف ساعة.

– أجل ولكن أين اتجاه المدينة؟

– قد نوغل صوب الجبل الأحمر فتنقطع منا الأنفاس بلا جدوى.

– نسير مقدار نصف ساعة بلا زيادة.

– لكننا فقدنا الزمان كما فقدنا المكان!

– والسير نحو هضبة وابور المياه شديد الخطورة لوعورة الأرض وانتشار مساقط القمامة.

ونفخ إسماعيل. وضيَّعهم الصمت مرة أخرى. وسرعان ما قال ممتاز: رغم القلق والقرف فإني أشعر بالجوع.

فقال إسماعيل: وأنا عطشان، لم تبقَ معنا برتقالة واحدة.

– ما زلنا نرتدي ملابس اللعب والجو رطيب، هل نتجمَّد هكذا إلى الأبد؟!

– عسى أن تنجلي السماء عن فرجة يُطِلُّ منها نجم.

– أو يمر إنسان معه بطارية.

– فلنتماسك بالأيدي خشية أن يضل أحدنا.

وتماسكوا بالأيدي وهم يضحكون بفتور، وهتف إسماعيل: هذه هي نتيجة الشجار!

– الشجار كان نتيجة اللعب الرديء.

– أنت مغرور!

– يا للحماقة، هل نرجع مرة أخرى؟!

– وضحكوا، عاد الصمت المخيف. قال علي: فلنفكِّر. لم يبقَ معنا إلَّا التفكير.

– عظيم، فلنفكر.

– السؤال الأساسي هو كيف نهتدي إلى طريقنا في مثل هذا الظلام؟

ولما لمْ يجدوا جوابًا جاهزًا هربوا من التفكير فقال إسماعيل: ما تصورت أبدًا أن الظلام له هذه القوة.

– كيف عاش أجدادنا الأولون قبل اكتشاف النار؟!

– كانت لهم غرائز خاصة بهم.

– نحن عميان بلا عصًا ولا مرشد!

– ألم نتفق على أن نفكِّر خيرًا من هذا الهذيان؟

– رجعوا مكرهين إلى الصمت حتى هتف إسماعيل: نصرخ بأعلى أصواتنا لعل أحدًا من أهل النجدة يسمعنا.

– وإذا سَمِعَنَا أحدٌ من قطاع الطرق؟!

– أو ذئب؟

– أو أيقظ صراخنا حية رقطاء؟

فقال إسماعيل بنفاد صبر: سحبت الاقتراح.

وعادوا إلى الصمت والتفكير فغرقوا في العدم مليًّا حتى قال ممتاز: أرى أن الصراخ ضرورة لتحقيق هدف آخر.

– ما الهدف الآخر؟

– نرسل صيحة ثم نرصد الصوت فنحدد موقع الجبل، بذلك تتضح الجهات الأربع!

– فكرة غير مجدية، فليس الجبل وحده هو ما يُرجِع الصدى، هناك الهضبة، وسور الغابة، وجدار مقابر الشهداء.

– اللعنة!

ورجع ممتاز يقول بإصرار: ليذهب كل منا في ناحية ومَن يظفر بالمدينة فعليه أن يرسل بعثة للإنقاذ.

– ثمة احتمال أن نسير جميعًا في النواحي الخاطئة.

– وهبْ أحدنا وصل ألا يلزمه بعد ذلك تجميع نفر من الأصدقاء والحصول على بطاريات؟

– أنتظر حتى مطلع الفجر؟

– أو أن تنحسر السحب عن بزوغ النجوم أو القمر!

– أي يوم هذا من أيام الشهر العربي؟

– أعتقد أننا في الربع الأول منه.

– أضغاث أحلام، علينا أن نفعل شيئًا.

ومضى الضيق يضيق أكثر وأكثر، والاختناق يطبق عليهم بقبضة حديدية، حتى هتف ممتاز: ما ألعن الصمت!

– نحن نفكِّر.

– لمَ لا نعتبرها تجربة مسلية؟

– والإرهاق والجوع والعطش؟!

– انتظروا الفرج. إنه يجيء بغتة.

– بل ليس لنا إلا الاعتماد على أنفسنا.

ونفخ ممتاز بغضب وقال: فليسر كل منا في اتجاه وليكن ما يكون.

– أليس الأفضل أن نبقى معًا؟

وقال إسماعيل: أنا لا أطيق الظلام وحدي.

فقال ممتاز بإصرار: ابقيا إذا شئتما أما أنا فإني ماضٍ.

– أية ناحية؟

فضحك على رغمه وقال: إنه السير، أما الناحية فقد ابتلعها الظلام.

– جهد ضائع.

– هو خير من الانتظار.

وسحب يديه من أيديهما وهو يقول: أستودعكما الله.

مضى بلا صوت، لم يدريا في أية ناحية ذهب، شدت يد إسماعيل على يد صاحبه، وتمتم: إنه عنيد.

– ولكن الانتظار غير محتمل.

– عليه اللعنة، هو المسئول الأول، وها هو يتركنا مثل شيطان.

– لنسأل الله أن يسدد خطاه إلى الطريق الصحيح.

– وما أهمية ذلك؟ سنبقى هنا حتى مطلع الصبح.

– أليس من الأوفق أن نفعل مثله؟

فصاح بعصبية: كلا!

– تمالك أعصابك.

– فلتذهب أعصابي إلى الجحيم!

واسترسل في هياجه فصاح: ما أنتم إلا لعنة من اللعنات، هذه هي الحقيقة.

– لا تُثِرْني أكثر من ذلك.

– ألا تريد أن تعترف؟ من المسئول عن الهزيمة؟

– أنرجع إلى ذلك؟ أليس حسبنا ما نحن فيه؟

– ذلك ما أدى بنا إلى هذا الموقف.

– اسمع، فَلْنَسِرْ أو فَلْنَصْمُتْ.

– لا هذا ولا ذاك!

– بل هذا أو ذاك.

– تريد أن تستغل ضعفي فتفرض عليَّ إرادتك؟

– بتُّ أحسد الذي ذهب.

– ماذا تعني؟

– لن نجني من الانتظار إلا الشجار.

فشد على يده كالمستغيث، فقال علي: تعالَ معي، فرصة النجاة ستهبط درجة، ولكنها لن تنعدم.

وتأبط ذراعه، وحمله على المشي معه وهو يقول: أي شيء خير من الانتظار.

وتحديا الظلام القديم الذي فقد سلطانه منذ اكتشاف النار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤