هنري بركات

في بيتنا رجل (الثوري)

باركَت ثورة يوليو ما كان يُسمَّى بالاغتيالات السياسية ضد رجال الحكم الذين يتعاونون مع رجال الاحتلال البريطاني. وقد بدا ذلك واضحًا في الأفلام السينمائية التي تعاملَت مع النظام الملكي على أنه محكوم بالخونة والفاسدين، فأعطت شرعيةً للمناضلين بإطلاق الرصاص، والاغتيالات.

وفي فيلم «في بيتنا رجل» بدا عمر الشريف وهو في أحسن حالاته، كأنما السينما المصرية على أتم الاستعداد لتسليمه إلى السينما العالمية. وهذا هو الفيلم الذي شاهده دافيد لين كي يقع اختياره على عمر الشريف ليعمل مع تلك النخبة في فيلمه «لورانس العرب». والحقيقة أن بركات كان في تلك المرحلة في أفضل مراحله، وهو يكتب السيناريو مع يوسف عيسى، ويكون التعامل الأوحد والأفضل مع الممثل الذي سيدخل العالمية. كان بركات في تلك المرحلة أكثر تعاونًا مع النصوص الأدبية المصرية، وبدا السيناريو ملتزمًا بشكلٍ واضح بالرواية، التي تتحدث عن واحد من المناضلين قبل الثورة. وتبدأ الأحداث فوق كوبري عباس، المقابل للجامعة من الناحية الخلفية؛ حيث يشترك طلاب جامعة القاهرة بالتظاهر، وعليهم أن ينقلوا مسيرتهم إلى منتصف المدينة، فينتقلون إلى كوبري عباس؛ حيث تنتظرهم خطة رجال الشرطة لمحاصرتهم، ومن وسط الطلبة هناك إبراهيم حمدي، الذي يبدو زعيمًا، رغم صغر سنه؛ فهو الذي يقفز من أعلى الكوبري، لإنقاذ أحد زملائه.

وقبل أن تبدأ هذه الأحداث وعلى خلفية التعليق، يأتي الكلام على النحو التالي: «قبل أن تتم معجزة الثورة ظلت مصر ترزَح تحت نِير الاحتلال أكثر من سبعين عامًا، وكان الاستعمار يضع في الحكم صنائعه المأجورين. ونجح الاستعمار في أن يجعل المصريين أحزابًا تتطاحن على الحكم، وتحارب بعضها بعضًا ناسيةً العدو المشترك. وكاد اليأس يقترب حتى إلى قلوب أشد الناس وطنية وإخلاصًا، لولا إيمان أبناء مصر بحق الوطن في الحرية والحياة. كان الفجر على الأبواب، في ذلك الوقت، ورغم اشتداد الظلام انطلقَت شرارة الحرية، وقد كانت النفوس والدماء الثائرة.» يردِّد المعلق هذه الكلمات مع مجموعة من الصور المرسومة لحكام مصر، والمظاهرات ثم الأحداث التالية، تبدو كأنها غير مهمة. لا نعرف ماذا يدور في الشوارع، إلى أن نسمع صوت طلقات رصاص، ومحاولات هروب، ثم إلقاء القبض على الشاب إبراهيم حمدي، الذي يُصاب أثناء محاولة الهروب، ويتم القبض عليه، وإيداعه مستشفى القصر العيني حيث تدور الأحداث في شهر رمضان. وسرعان ما نعرف أن هناك الكثير من فصيلة هذا الشاب؛ فالضابط المكلَّف مجرد ستر ينقل إليه مشاعره عن هذا الموقف. وفي ساعة الإفطار، يهرب الشاب من المستشفى، يبدو متماسكًا ويمشي في شوارع القاهرة الخاوية، وهو يعرف طريقه جيدًا إلى بيت واحدٍ من زملائه الأبعد عن الشبهات؛ فهو لا يكاد يعرفه، إلا اسمًا، وهو من أسرةٍ بسيطة ليس لها أي علاقة بالعمل السياسي، ولا الوطني، وذلك حتى يكون الأبعد عن رجال الأمن.
figure

أسرة تتناول إفطار رمضان، يدق الباب، تتكون الأسرة من الأب وامرأته وابنتَيه نوال وسامية، ومحيي؛ أي خمسة أفراد، يسكنون في مكانٍ نصف شعبي، في الدور الثاني. وعندما يطرق الباب، ويفتح له محيي، فإنه يخبر أباه بهوية الضيف. إنهم يعرفونه، ولا شك أن وجوده سيُسبِّب لهم المتاعب الجمة؛ لذا يرفضون لقاءه، واستضافته. وفي لحظة لهفة، تردِّد الزوجة «عيني على امك يا ضنايا»؛ ما يجعلهم يغيِّرون الموقف. ويطلب الأب من محيي إحضاره، لتبدأ عملية إخفاء شخصٍ مطلوبٍ من العدالة، في قضية اغتيالٍ سياسي؛ فلا شك أن هذا سوف يضع الأسرة في مواقفَ بالغة الخطورة. ولا شك أن مجرد موافقة الأب على استضافة المناضل الشاب يعني أنه قبِل المخاطرة، وأنه مستعدٌّ لكل ما سوف يحدث له. ويبدأ التوتر حين يأتي إلى البيت الشابُّ الفاشل عبد الحميد، ابن العم، والذي لم يكن ناجحًا قط، وهو يرغب في الزواج من سامية ابنة عمه، إلا أنها ترفضه لفشله. في البداية يحس أن ضيفًا غامضًا في البيت، يذهب ثم يعود، وبحركة ماكرة، يجد نفسه وجهًا لوجه أمام شخصٍ مطلوب للعدالة. ويبدأ في مساومة الأسرة، على الزواج، ويضغط على سامية، وعندما يتأكد من رفضها يقرِّر الذهاب إلى مديرية الأمن للإبلاغ عما لديه، إلا أن سامية تلحق به، وتدخُل عليه غرفة رجال البوليس السياسي، ويتغير إيقاع الأحداث بشكلٍ ملحوظ. في تلك الفترة تنامت قصة حب بين إبراهيم ونوال، الابنة الثانية، ويصل الأمر أن إبراهيم حمدي يستغل علاقته بالأسرة من أجل أن تقوم نوال بتسليم رسالةٍ إلى أصحابه؛ لأنها الأبعد عن الشبهات.

تقبل نوال أن تكون همزة وصل بين إبراهيم ورفاقه في النضال، فيكون ذلك بمثابة تحوُّلٍ ملحوظٍ آخر في موقف الأسرة، التي سرعان ما سوف يتم اعتقالها الواحد تلو الآخر، خاصة عبد الحميد، ومحيي. هناك محاولات من الزملاء لتهريب إبراهيم إلى خارج مصر، لكن الشاب يتراجع قبل أن يتمكن من السفر؛ فإنه يعود ليُساهِم في ممارسة العمليات الفدائية، ويموت أثناء واحدةٍ منها، في الوقت الذي يعاني أفراد الأسرة من التعذيب أثناء التحقيقات معهم.

وإذا كانت نهاية الفيلم قد جاءت بعمليةٍ فدائية قام بها إبراهيم بعد أن رفض الهروب من مصر، فإن إحسان عبد القدوس الذي كان صديقًا للثورة، قد أنهى روايته بقدوم الثورة، خاصة بالنسبة لمحيي، الذي كان في البداية طالبًا جامعيًّا سلبيًّا من ناحية السلوك السياسي، فإذا بالأحداث تغيِّره وتجعله مناضلًا وطنيًّا.

«وصحا محيي ذات يوم، ماذا؟! الثورة قد تحقَّقَت. حدثَت. وأحَسَّ بقلبه يخفق في صدره كأنه يُزغرِد، وتابع الأحداث السريعة، وابتسامةٌ كبيرة تعلو شفتَيه. أحَسَّ كأنه يتباهى بنفسه.
أحَسَّ إحساسًا عميقًا صادقًا بأنه اشترك في هذه الثورة، اشترك في صنعها هو وأبوه، وأمه وسامية ونوال وعبد الحميد، كل العائلة اشتركت في صنع هذه الثورة، اشتركوا فيها بالسخط الذي كان ينطق من أعينهم، وبالأحاديث التي كانوا يُثيرونها حولهم، وباتجاه تفكيرهم وآمالهم، وبالخلق الوطني، وبالإرادة التي تحمَّلَت العذاب والحرمان.
هذه الثورة صنعَتها عائلته، وربما كان هذا هو سر فرحه بها.»

لقد أنهى إبراهيم حمدي كل تلك الحدوتة الوطنية بعمليةٍ فدائية، حين يُهاجِم مع مجموعة من زملائه الشباب أحدَ معسكرات قوات الاحتلال، ويلفظ أنفاسه خارج أسوار المعسكر برصاص قوات الاحتلال، ولكن بعد أن يفلح في زرع المتفجرات التي تنسف المعسكر. لقد ارتكب جريمة قتل، بشكلٍ وطني، وصار مصيره الموت شاء أم أبي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤