دافيد لين

تُرى هل كان عمر الشريف محظوظًا للغاية حين ساقته الأقدار إلى المخرج البريطاني القدير دافيد لين، فيؤمن به، ويمنحه أكبر فرصتَي عمل في حياته، في حياة الاثنَين معًا، سواء المخرج، أو الممثل القادم من القاهرة.

فرغم العدد القليل جدًّا من الأفلام التي قدَّمها لين طوال حياته، فإنه لم يكرِّر الاستعانة بممثل أكثر من مرة سوى البريطاني إليك جينيس في أغلب أعماله تقريبًا، ومنها «الآمال الكبرى» ١٩٤٦م، «أوليفر تويست» ١٩٤٨م، و«جسر على نهر كواي» ثم «ابنة ريان» ١٩٧٠م، وكان مؤمنًا به إلى حدٍّ كبير. وعندما عمل مع عمر الشريف، رأى أنه نجمه القادم، كان الممثل يشع موهبة وتوقدًا. ورغم أن الممثل المصري ليست له مواهب الممثلين الذين عملوا تحت إدارة إليا كازان في مدرسة الممثل، ومنهم مارلون براندو جيمس دين، فإن استعانة لين بعمر الشريف بالذات للعمل معه مرتَين، كشخصيةٍ رئيسية، يؤكد أن الرجل كان يرى فيه ما لم يرَه غيره. هما فيلمان كبيران بكافة المعاني، والأدوار فيهما متنوعة؛ الأول عن واحد من الكتب المهمة في القرن العشرين. أما الثاني فهو رواية لكاتبٍ روسي حصل على جائزة نوبل في الأدب عام ١٩٥٨م. وهكذا فإن الفرصتَين كانتا بالغتَي الأهمية، ولا شك أن عمر الشريف قد لمع فيهما، ووقف أمام نخبةٍ كبيرة من الممثلين الذين يحلُم أن يقف أمامهم أي ممثلٍ آخر جاءته هذه الفرصة، منهم إليك جينيس وأنطوني كوين، ثم رودشتايجر وجولي كريستي، بل إن بيتر أوتول نفسه الذي جسَّد شخصية لورانس العرب، لم يتم اختياره بعد ذلك في عملٍ له المستوى نفسه.

ومثلما سنرى في الصفحات التالية، فإن المخرجين الأكثر أهمية في أوروبا والولايات المتحدة سرعان ما طلبوه للعمل معهم، أنطوني مان، تيرنس يونج، هنري فرنوي، أنطوني أسكويث، أناتول ليتفاك، فرانشيسكو روزي، وويليام وايلر صاحب فيلم «بن هور» الذي فاز باثنتَي عشرة جائزة أوسكار، وأسماء أخرى عديدة؛ ولذا فقد سمَّينا الأفلام هنا بأسماء مخرجيها في مكانٍ بارز. لقد نظروا إلى عمر الشريف أيضًا إلى أنه عمل مع نجوم ونجماتٍ بارزين في مراحل حياته، وهذا صحيح، ومنهم إنجريد برجمان، وجولي كريستي، وآفا جاردنر، وجان بول بلموندو ومايكل كين، وجريجوري بيك، ثم أنطوني كوين الذي عمل معه في أكثر من فيلم، وأيضًا صديقه بيتر أوتول، الذي عمل معه في فيلمَين فيما بعدُ، على فتراتٍ متباعدة. إذن فعمر الشريف كان موهوبًا ومحظوظًا، وتجربتاه في حاجة إلى الوقوف عندهما.

لورانس العرب (الشريف علي)

حصل فيلم «لورانس العرب» على جوائزَ سينمائيةٍ كثيرة، منها جائزة أحسن مخرج، وأحسن تصوير، بالإضافة إلى جوائز الكرة الذهبية ونقاباتٍ فنية في أوروبا.

figure

أحداث الفيلم مستوحاة من كتاب «أعمدة الحكمة السبعة» الذي صدر عام ١٩٢٢م، ووضع فيه لورانس العرب خلاصة تجربته السياسية في إدارة أنظمة دول الشرق الأوسط عقب سقوط الإمبراطورية العثمانية، كما أنه ساعد في قيام الثورة العربية الكبرى. والكتاب عبارة عن رحلة رجلٍ بريطاني داخل الصحراء العربية، أثناء الحرب العالمية الأولى. لقد كان له هدفٌ هو تجنيد القبائل العربية ضد الدولة العثمانية. والكتاب بمثابة سيرةٍ ذاتية عن حياته مع البدو، والمعارك التي خاضها إلى جانب الملك فيصل بن الحسين، وفلسفته في الحياة بعد هذه التجربة التي حوَّلَته إلى إنسانٍ غير عادي. وسوف يظل الكتاب أعمق في فلسفته ورؤيته من الفيلم الذي كتبه روبرت بولت؛ فهو يصف كيف توحَّدَت القبائل العربية لتقف ضد الأتراك حتى وإن تعاونوا مع المحتل البريطاني، ورأى لورانس أن العربي حين يؤمن بك وبرسالتك فإنه سوف يتبعك إلى أقاصي الدنيا، ولو دفع في ذلك حياته.

لورانس هو ضابطٌ بريطاني برتبة ملازم، يُكلَّف بمهمة من قِبل السلطات البريطانية بمعاونة العرب بقيادة الشريف الحسين بن علي (عمر الشريف) في عام ١٩١٦م، وابنه الأمير فيصل (الملك فيصل فيما بعدُ) في حربهما لتحرير جزيرة العرب من حكم الخلافة العثمانية. وفي الصحراء الواسعة، وقصور الحكام، يمكن أن نرى كيف كان يعيش العرب في منطقة الجزيرة، وكيف كانوا مشبعين بروح القبلية والتفرقة.

يأتي الضابط لورانس من مركز القيادة البريطانية بالقاهرة إلى الأردن، من أجل تقسيم الحليف العربي لبريطانيا في ثورته ضد القوات العثمانية التي احتلَّت البلاد طوال أربعة قرون، وهم الخصم اللدود لبريطانيا في تلك السنوات. وما إن تبدأ الرحلة حتى تصحبها المتاعب؛ فالدليل يموت مقتولًا لقيامه بالشرب من المياه دون استئذان، وحين يقابل العقيد برايتون، فإنه يأخذ منه النصائح كيف يتعامل مع فيصل، إلا أن لورانس سرعان ما يتمرَّد على قائده البريطاني برايتون بعد أن يقابل فيصل، وتنمو بينهما صداقةٌ قوية. وتتنامى قدرات وطموحات لورانس، وهو يقود قواتٍ بريطانية للهجوم على القوات العثمانية في ميناء العقبة، ويتدخل بشكلٍ مباشر في حسم المعارك لصالحه؛ فهو يقنع الأمير فيصل بتدبير خمسين رجلًا بقيادة الشريف بن علي، ثم السفر ليلًا ونهارًا للوصول إلى الحياة. أمام صعوبة الحياة في الصحراء، فإن لورانس يتحوَّل إلى رجلٍ ضائع، ثم ينجح في العودة بالرجال دون أي خسائر.

ويصبح على لورانس إقناع زعماء القبائل العربية الأخرى، مثل أبو الطائي، بالتكاتف ومحاربة الأتراك. ويعاني لورانس من بعض المشاكل الداخلية، مثل قيام القاسم بارتكاب جريمة قتل. ومن أجل حسم الأمور فإنه يُرديه قتيلًا، ويتلقى لورانس التأييد من قيادته بالقاهرة خاصة بعد تعيين قائدٍ جديد للقوات، إنه الجنرال ألِّنبي. وتتم الاستجابة لمطالب لورانس بمساعدة الجيوش العربية والقيام بتسليحها.

ويلجأ لورانس إلى حرب العصابات، وتفجير قطارات القوات العثمانية، وقطع الخط عليهم في كل مكان. ويقوم المراسل الصحفي الأمريكي بنتلي بنشر الأخبار التي تحدُث في المنطقة في جريدته؛ ما يكشف عما يدور في الشرق الأوسط. ويزداد التعاون بين الشريف بن علي ولورانس في السيطرة على الأتراك.

وفيما بعدُ من مركز قيادته في القدس، يأمر ألِّنبي لدعم لورانس، الجنود، ويصرف لهم مكافآتٍ مالية. من خلال المال، وأمام وحشية القوات التركية فإن لورانس يتعامل أيضًا بوحشيةٍ ملحوظة، لكنه لن يلبث أن يندم على ما اقترفَته يداه، وتتم ترقيتُه ويعود إلى بلاده.

في الطبعة الثانية من كتابه «الشخصية العربية في السينما العالمية» كتب أحمد رأفت بهجت أنه في هذا الفيلم ظهَرَت عدة شخصياتٍ عربيةٍ حقيقية، مثل الأمير فيصل (إليك جينيس) وعواد بن تايه (أنطوني كوين)، لتلتقي بشخصياتٍ أخرى مثل الشريف بن علي، وهي شخصية لا وجود لها في التاريخ العربي، لكن جاء تجسيدها من خلال عدة شخصياتٍ عربية تعرَّف عليها لورانس خلال وجوده في البلدان العربية. ولم يعالج الفيلم العلاقة بين لورانس وهذه الشخصيات إلا بالقَدْر الذي يخدم أسطورته؛ فلم يُشِر إلى جذور الثورة العربية التي تؤكد أن لورانس بينما كان يقوم بدوره في خداع العرب كانت بريطانيا توقِّع مع فرنسا معاهدة سايكس بيكو السرية لاقتسام بلاد العرب، وكان بلفور وزير خارجية بريطانيا يمنح اليهود وعده بإقامة وطنٍ قومي في فلسطين.

وعن شخصية الشريف بن علي التي جسَّدها عمر الشريف، رأى رأفت بهجت أن البعض وقع في وهمٍ من ملامحها الجذابة وتصرُّفاتها التي توحي بالرجولة والاعتزاز بالكرامة. ومع ذلك فالفيلم يؤكِّد على أن الشريف علي في جوهره لا يختلف في همجيته عن الشخصيات العربية الأخرى. كما أن المشاهد التي تقدِّم عواد بن تايه والشريف بن علي فإنها تنطوي على سخريةٍ لاذعة، من قيم المجتمع العربي العسكرية، والسياسية، والأخلاقية، بل والدينية. وهي سخريةٌ قائمة على أن الاختلاف بين عواد والشريف علي هو اختلاف في المظهر؛ فبينما كان الأول جلفًا بربريًّا بذيء اللسان كان الثاني يبدو وسيمًا مهذبًا، ولكن محصِّلة التعامل معهما تؤكد أن الاثنَين كانا وجهَين لعملةٍ واحدة، ويُورِد الفيلم كثيرًا من المشاهد لتأكيد ذلك، مشهدًا نرى فيه الشريف علي يتحدث باستعلاء عن خبراته العسكرية مع مندوب الجيش البريطاني. في هذا الفيلم كانت إطلالة عمر الشريف إلى السينما العالمية من خلال مشهدٍ منتقًى جيدًا، حين يبدو أقرب إلى نقطة في الصحراء، يتقدَّم فوق حصانه تجاه الكاميرا على إيقاع موسيقى موريس جار، ويقترب من الكاميرا بثبات وجاذبية، ونتعرَّف على ملامحه تدريجيًّا حتى يملأ الكادر بأكمله.

دكتور زيفاجو (الطبيب)

عُرض هذا الفيلم في مصر بعد منعه لمدة أحد عشر عامًا بسبب الصداقة المصرية السوفيتية. جاء إلينا زيفاجو وعالمه الغريب، البطل السلبي الذي تطحنه الثورة، تُشرِّده وأسرتَه، ثم تُشرِّده عن أسرته، يأخذونه من مكانٍ لآخر دون أن يملك لنفسه حولًا. إنه نفس البطل الذي عالجه دافيد لين أيضًا بعد ذلك بخمس سنوات في رائعته «ابنة ريان»؛ فروز ضحية الثورة هي وزوجها، الثورة أداتها العنف في كلٍّ من عالم روز ويوري زيفاجو، الثورة تنكر الفرد وتطحنه بالرغم من أنها تقوم من أجله، سواء كان البطل الثوري أم السلبي. يوري يعيش في عالمٍ وردي نسبيًّا إلى ذلك العالم الذي يعيش فيه الآخرون من أبناء وطنه «روسيا»؛ ولذلك فهو لا يشترك مثلهم في المظاهرات السلمية أو في سخطه على الأوضاع السائدة، يكتفي بأن ينظر من النافذة ليرى الضربات تنهال على المتظاهرين، ثم هو بعد أن تنفضَّ المظاهرة ينزل ويساعد الجرحى، وحينما يهدِّده الضابط ويأمره أن يذهب يعود راضخًا إلى منزله.

figure
يعيش يوري في قصة حب وردية يتزوَّج على إثرها من تونيا ابنة مربيه، بينما العالم يعج بحربٍ يتم فيها تجنيد جميع شباب روسيا. وبينما نرى الكثير من الشباب يتطوعون ذهابًا إلى الحرب، نراه وهو الطبيب الشاب يذهب مجندًا. وفي الميدان تنمو قصة حب بين يوري ولارا، الفتاة التي تسكن في منطقته، كلاهما متقارب الطباع، سلبي، تملؤه الشاعرية والرقة في عالم أصبح لا يقتنع بهذه المشاعر؛ فقد انتحر أبوه في ظروفٍ غامضة بعد أن ماتت أمه وهو لا يزال صغيرًا. وكان الشاهد الوحيد على موت أبيه هو شريكه كوماروفسكي الذي اختفى لسنوات، ثم عاد للظهور في بيت لارا. إنه عشيق أمها، ثم عشيقها من بعد ذلك. وفي ليلة يقوم يوري ومربِّيه بزيارة لمنزل لارا. لقد حاولت أمها الانتحار. ويتمكَّن يوري وأستاذه من إنقاذ الأم، بينما تضيق لارا بمغازلة كوماروفسكي الذي يغتصبها عَنوة، وكي تقتص لأنوثتها تأخذ مسدسًا تركه خطيبها الثوري باشا، وتطلق النيران على مغتصبها في حفل عيد الميلاد، الذي كان يوري وخطيبته يشهدانه. يحضر خطيبها ويأخذها من الحفل ويذهب بها. باشا شابٌّ ثوري لا يأبه للعواطف والمشاعر، كل ما يهمه هو الثورة، لا يهم أي ثورة، الثورة عنده هي التمرد، هي العنف. حتى بعد أن نجحَت الثورة يتحوَّل من البطل الثوري ذي القيم والمبادئ إلى مجرمٍ وطني يرتكب الجرائم، فيحرق القرى، ويقتل كل من يراه عدوًّا للثورة. وهو الذي يقول بعد ذلك: «لقد قتل التاريخُ في روسيا كلَّ الحياة الشخصية للإنسان.»

ويتم تعارُف كلٍّ من يوري وكوماروفسكي، ويحدِّثه هذا بأنه كان شريكًا لأبيه، ثم يتم تعارُف يوري ولارا في الحرب، تزوَّجَت هذه من باشا الذي ذهب إلى الحرب واختفى، تطوَّعَت في الجيش كممرضة للبحث عن زوجها. بينما كان يوري قد تزوج من تونيا، امرأة رقيقة تحمل الكثير من القيم والأفكار التي أتت بها من فرنسا، تحب الشعر مثله وتميل إلى حياة السلبية. إنهما يحملان نفس أفكار الطبقة الأرستقراطية في روسيا.

تخسر رسيا الحرب، ويعود الجنود لمنازلهم، ويجد يوري عند عودته للمنزل أنه قد احتُل بالكثير من رجال الثورة ونسائها، الحرب، والثورة، أزمة الوقود، أزمة مواد التموين. ويُضطَر أن يسرق قطعًا من الخشب ليستعملها كوقود، إلا أن الثوار يهاجمونه، وما كان ليفلت من أيديهم لولا أخوه غير الشقيق. وخوفًا من البلاشفة تهرب الأسرة من موسكو إلى فاريكينو، يستغرق القطار في رحلته عدة أسابيع يُعتقَل خلالها يوري من رجال الثوري مستر لينيكوف. إنه «باشا» بعد أن انضَم إلى الثوار، يقول ليوري إن الثورة أهم من الأسرة. وهناك تجد الأسرة أملاكها وقد استولَت عليها قوات الثوار والذين كتبوا على أبوابها: «لقد أصبحَت هذه الأملاك ملكًا للشعب»، فيصرخ حموه قائلًا: «ونحن ألسنا من الشعب؟!» وتُضطَر الأسرة أن تعيش في المنزل المجاور للمسكن الذي كانوا يقيمون فيه.

تعيش الأسرة هادئةً بعيدًا عن الثورة وجرائمها، ويعرف يوري أن لارا تسكن مدينة يوريانتين المجاورة، وتحت إلحاح من زوجته أن يخرج من عزلته يذهب إلى المدينة، وهناك يقابل لارا. يذهب معها إلى المنزل، وتتبلور قصة حب شاعرية رقيقة بينهما، بين شاعر أصبحَت أشعاره مرفوضة لأنها تعبِّر عن الفرد وأحاسيسه في زمنٍ أصبح ينبذ الفردية، وبين امرأةٍ رقيقة تحوِّل زوجها إلى ثوريٍّ فوضوي يكرهه الجميع. ولم تكتمل هذه القصة الرقيقة؛ فقد اعتقلَته قوات الثورة واصطحبَته معها كطبيب. وبدأ يجول معهم البلاد، يرى جرائمهم وقتلاهم الأبرياء من الأطفال والشيوخ. انقطعَت أخباره عن أهله، وحاول الهروب بعد أن رفضوا تسريحه. وفي إحدى المرات نجح في الهروب، وأخذ يسير بحصانه — ثم مترجلًا — فوق الجليد حتى وصل إلى بيت «الحبايب»، إلى بيت لارا. ويلتقي العاشقان لقاءً حارًّا، وفي بيتها يعلم أن زوجته قد زارتها قبل أن ترحل والأسرة عائدة إلى موسكو.

ويعيشان معًا في فاريكينو . إنهما يعرفان أن ثمَّة عاصفةً قادمة تستغرقهما إلى الأبد. وهناك يكتب يوري مجموعة قصائده التي جمعها في ديوان باسم محبوبته، تقول له وهي تقرأ أشعاره: «لم أصل إلى هذه الإنسانة التي عبَّرت عنها. إنها أنتِ يا محبوبتي.»

ووسط ليالٍ ساكنة رقيقة يشوبها أحيانًا عُواء الذئاب كان همه هو المثابرة على الانتهاء من هذا الديوان.

وتجيء العاصفة، يحضُر كوماروفسكي إليهما، وينتحي بيوري جانبًا، ويبلغه بأن زوج لارا قد قُتل كمجرم، وأن أسرته قد انضمَّت إلى جماعةٍ مناهضة للثورة بعد أن رحلَت إلى باريس، وأنه من الأفضل أن يرحل كلٌّ منهما وحده. وذهبَت لارا وسط وداعٍ مؤثِّر هي وابنتها حاملة في أحشائها جنينًا من عشيقها. ولم يلتقِ العاشقان بعد ذلك قط، رآهما بعد ثماني سنوات بعد أن ضعف قلبه من نافذة أحد الأتوبيسات، وعندما حاول النزول إليها أصابته نوبةٌ قلبية خرَّ على أثَرها صريعًا ولم ترَه.

ماتت بعد ذلك لارا كما يقول الراوي، لكنه لا يعرف كيف ماتت. بعد هذه الحوادث بعدة سنوات يلتقي يوجاريف الأخ غير الشقيق ليوري بابنة أخيه في أحد مواقع العمل. إنها لا تعرف أباها ولا أمها، فتاةٌ بسيطة ترتدي أفرولًا وتمثل الفتاة الجديدة بنت الثورة. إنها الجيل الجديد الذي علموه قيمًا وأفكارًا تتماشى مع مصالحهم؛ فالقيصر شرير والثورة عظيمة. وكما قال يوري يومًا: «لقد قتلوا القيصر حتى يقطعوا الشك باليقين بأن هذا العهد انتهى»، وكما رأى ابنة لارا ترسم منظرًا مشوهًا للقيصر علَّموها أن تفعل ذلك في المدرسة وقالت إنه مجرم. كان هذا هو الجبل الذي ظهر في عهد ستالين. ويقول يوجاريف لصديق ابنة أخيه: «اعتنِ بها، إنها فنانة، وليس هذا بالغريب عليها». إنه يرى في الفتاة حُب الفدائية التي تكرهُها الثورة في أشعار أبيها.

لم يلتزم روبرت بولت الذي اتجه للإخراج بالنص الأدبي التزامًا كاملًا؛ فقد حذف الكثير من الشخصيات الثانوية. مع أنه كان من المفروض أن يُلقيَ الأضواء على شخصية فاسيا، الفتى الذي أولاه يوري الكثير من العناية. وبولت كتَب السيناريو لأكثر أعمال دافيد لين. وكما قلنا البطل هنا غير ثوري يعيش في ظروف ثورة، لا يتحرك معها وإنما تحرِّكه، تؤثِّر فيه، تطحنه، تدمِّره وتأتي عليه. الثورة عملٌ عنيف، والثوار ليسوا من الأبطال قط، كما رأينا في شخصية «باشا»، ثم في شخصية الثوري في ابنة ريان. ويوري وشارلز في الفيلمَين يعيشان حياتهما مسالمَين، تدفعهما الحوادث. وقصة الحب تنبثق من خلالها قصة ثورة، وليس كما حدث في فيلم «مولي ماكجوير» لمارتن رايت؛ فالبطل هو الثائر، هو العاشق، هو الثورة والفكرة. والفدائية عند البطل تطغى عليه، وربما أن هذه صفة كانت تغلب على أشعار موريس باسترناك؛ حيث ترى أن بطله يوري فيه الكثير من صفاته. والثورة غاضبة على كلٍّ من باسترناك ويوري؛ ولذلك رفض باسترناك قبول جائزة نوبل عام ١٩٥٨م؛ حيث أمرَته حكومة بلاده بذلك؛ فقد رفضَت روسيا نشر الرواية، وكان أول من طبعها هم الإيطاليون، أنتجها أيضًا للسينما الإيطالي كارلو بونتي.

وقضية باسترناك إزاء حكومته وموقف أدباء العالم منه معروفة، ولا يتسع المجال هنا للتعرض لها. وقد لجأ باسترناك في روايته إلى ما يُسمَّى برواية «البطل»؛ فهو يتكلم عنه منذ ميلاده إلى مماته؛ ولذلك فالقصة يخلو منها عنصر الحدوتة. وقد حاول الفيلم التركيز على أهم حوادثها وهو العلاقات العاطفية فيها؛ ولذا جاءت بعض الحوادث ملفَّقة كحادث موت يوري؛ ففي النص الأدبي حدث ما شاهدناه، لكن دون أن تظهر أمامه لارا، وكإضفاء شخصية الراوي على الفيلم، وهي شخصيةٌ غير موجودة في النص.

نال الفيلم ست جوائز أوسكار على رأسها سيناريو «بولت»، وموسيقى موريس جار، التي كانت مبدعة ومتفاعلة مع الحدث، وخاصة اللحن المشهور «لارا»، الذي استغله الفنان بطريقةٍ مؤثِّرة زمانيًّا ومكانيًّا، ثم جون بوكس، أفضل ديكور … وكيرتس مارش، عن الإدارة الفنية، وفريدي يونج مدير التصوير، ثم فيليبس والتون عن الملابس. وقد تم ترشيح عمر الشريف للأوسكار عن دوره في هذا الفيلم ولم يحصل على الجائزة، ولكنه حصل على جائزة الجولدن جلوب.

انظر حصان شاحب (راهب)

جيل بأكمله من المصريين الذي صاروا الآن فوق الستين، كان يتابع بشغفٍ شديد رحلة عمر الشريف إلى السينما العالمية، وكم كان يشعر بسعادةٍ بالغة وهو يراه نجمًا موازيًا لنجومٍ كبار من طراز أنطوني كوين وجريجوري بيك، اللذَين كانا بطلَين لفيلمٍ مشهور شاهدناه مرارًا باسم «نضال الأبطال»، واسمه الحقيقي هو «مدافع نافاروف». كما أن من كان يتابع أسماء المخرجين فلعله كان يعرف قيمة فريد زينمان صاحب الفيلم المهم HIGH MOON و«من هنا إلى الأبد»، ثم «رجل لكل العصور»؛ ما يعني أن عمر الشريف قد وجد طريقه وسط نجوم التمثيل والإخراج بشكلٍ مشرِّف، خاصة أن اسم عمر الشريف يأتي في صفٍّ واحد على الأفيش لنجوم الفيلم الثلاثة. وفيما بعدُ، عرفنا أن الفيلم مأخوذ عن نصٍّ أدبي مكتوب عام ١٩٦١م، للكاتب المجري إميريش برسبورجر، بعنوان «مقتل فأر في يوم الأحد»، وهو فيلمٌ بريطاني يحكي قصةً أوروبية تدور أثناء الحرب الأهلية الإسبانية؛ حيث يعيش لصٌّ إسباني بعيدًا عن وطنه، منفيًّا في فرنسا، اسمه مانويل، ويعرف أن أمه ماتت، ويُحاول أن يلحق بها وأن يحضر جنازتها في إسبانيا، رغم كل المخاطر التي تنتظره هناك؛ حيث يُوجد رجل شرطة منذ عشرين عامًا ينتظر أن يقبض عليه وأن يُدخلَه السجن.

والفيلم يعبِّر عن مأساة الحرب الأهلية التي اندلعَت في إسبانيا ضد الجنرال فرانكو عام ١٩٣٦م. وهذا الرجل هو من المحاربين الكتالان، أما الشرطي الذي يمثل نظام فرانكو فاسمه الكابتن فنيولاس. وتبدأ أحداث الفيلم مع الحرب الأهلية، ويحاول البعض العبور إلى فرنسا، ومنهم مانويل الذي يبتعد عن الحدود، ثم يعود مرةً أخرى إلى إسبانيا، إلا أن أحد أصدقائه يعترضه، ويبلغه أن الحرب قد وضعَت أوزارها، وأن فرانكو قد انتصر على أعدائه.

figure
بعد عشرين عامًا من استيلاء فرانكو على الحكم، يقف صبيٌّ صغير يسأل رجلًا يدعى بيدرو: «لماذا توقف مانويل عن الهجوم على نظام فرانكو؟» ويقوم الرجل بإرسال الصبي من إسبانيا إلى فرنسا للبحث عن مانويل، إنه عمه، ويرسل معه رسالةً أن عليه أن يقتل الضابط فنيولاس، الذي يدافع عن نظام فرانكو، وعليه أن يقتله. يعلم الشرطي الإسباني بالأمر، فيقتل أباه؛ لأنه لم يخبره بمكان الثائر. في نفس الوقت يرسل فنيولاس إلى خصمه بأن أمه تموت، أو لعلها ماتت، وذلك لدفعه إلى الحضور لإسبانيا لمشاهدتها، وبالفعل فإن الأم تموت. وتقوم الأم قبل لفظ أنفاسها بالحديث إلى الراهب فرانسيسكو، حتى يقنع ابنها بعدم الحضور حتى لا يسقط في شراك القبض عليه، والجميع يعلم أن الابن سيحضر حتمًا لرؤية أمه قبل دفنها. وتصبح مهمة الراهب هي اللحاق بالثائر قبل أن يصل إلى منزل أمه، وعدم الذهاب إلى سان مارتن. ويستلم الصبي باكو رسالة إلى مانويل بذلك إلا أنه يمزِّقها؛ فهو يريد للثائر أن يرى أمه، مهما كانت المخاطر. ومثل كل ثائر، فإن له أصدقاء يقومون بمساعدته، لكنهم يبيعونه عند أول منحنًى، مثل كارلوس صديق باولو أرتجيز؛ ولذا فإن الرحلة مليئة بالمخاطر. وعلى الفور تُوضَع الخطة من ناحية ضابط الشرطة للقبض على الابن في المستشفى، بينما الابن يتصرف بحرصٍ شديد حتى لا يتم القبض عليه، ويدرس تصميم مبنى المستشفى حتى يتمكن من الدخول والخروج بأمان، كما أنه يدرس الطرق المؤدية إلى المستشفى؛ حيث زرع الشرطي رجاله للقبض على مانويل. وتكون الرسالة الأخيرة ألا يأتي لرؤية أمه، ويتتبَّع كارلوس وأصدقاءُ له الراهب لمعرفة أخبار القادم عَبْر الحدود، ثم يلتقي به، ويذهبان إلى بيت باولو.
ورغم كل المصاعب، وكل مساعي الراهب، فإن الابن يقرِّر اجتياز الخطر، ولا تكون خطته فقط هي رؤية أمه، بل أن يقتل ضابط الشرطة كنوعٍ من الانتقام مما فعلَه به وبأسرته، ومن مواقفه كخائنٍ تابع للجنرال فرانكو، ومن هنا جاءت التسمية التجارية للفيلم في مصر، «وجاء يوم الانتقام». ويبدأ باولو في قنص رجال الشرطة، الواحد تلو الآخر … من قناصة، وتحدُث مواجهةٌ شرسة يموت فيها باولو، وفي المشرحة يموت كذلك الضابط في مشهدٍ مأساوي. تبدو الكاميرا وهي تركِّز على وجه عمر الشريف، الراهب، وهو يتكلم بمودَّةٍ ملحوظة إلى الصبي باكو، يعطيه الرسالة كي يسلِّمها إلى باولو، لكن الصبي يضع الرسالة في دورة المياه، ويجذب السيفون، ويُحس ببعض الندم. والصبي باكو يقوم بدورٍ كبير ملحوظ؛ فهو الذي يذهب إلى المكان الذي يسكن فيه باولو كي يخبره بما حدث «أنا باكو راجس ابن راجس»، وعندما يقابله في غرفته الضيقة، يحدِّثه أنه يتمنى لو قتل فنيولاس، ونجد أن أباه أرسله، إلا أن باولو لا يلبث أن يطرد الصغير.

نحن أمام فيلمٍ سياسي تم تقديمه في سنوات المجد التي عاشها فرانكو حاكمًا لإسبانيا إلى الأبد.

سقوط الإمبراطورية الرومانية (ملك أرمينيا)

يُعتبَر ظهور عمر الشريف في هذا الفيلم الذي تم إنتاجه لعام ١٩٦٤م، هو الدور الأقصر، والأقل أهميةً من بين الأدوار الأخرى التي أسنِدَت إليه في تلك الحقبة، رغم كل هذا العدد من نجوم السينما العالمية الذين استعان بهم المخرج أنطوني مان ليملئوا الشاشة. وهو الذي تمنى لو استعان بنجومٍ آخرين لهم رصيدهم في السينما التاريخية، خاصة شارلتون هستون الذي رفض العمل مجددًا أمام صوفيا لورين بعد فيلمهما الأسبق «السيد» للمخرج نفسه. وسوف نرى أن الفيلم ضم أسماءً ترتدي زي الثوب الروماني لأول مرة، ومنهم كريستوفر بلاسر في دور كومودوس، وميل فيرير في دور كاليندر، وأيضًا عمر الشريف الذي ظهر بشكلٍ عابر جدًّا على رأس وفد بلاده باعتباره موهاموس ملك أرمينيا، وسط الوفود المتتابعة التي جاءت لتحية آخر ملوك الإمبراطورية الرومانية ماركوس أوريليوس، قبل أن يموت مقتولًا على يدَي ابنه بالتبني، ولتتحوَّل الإمبراطورية بأكملها إلى ساحة صراع، كي تُباع بالقطعة، وتنهار في أواخر القرن الثاني الميلادي.

figure

هناك خدعةٌ ما في عنوان الفيلم؛ فشتَّان بين الكتاب المعرفي الضخم الذي يحمل نفس العنوان للمؤرخ جيبون، وبين السيناريو الذي استمد بن برازمان، وفاسيليو فرشينا وقائعه من الخيال أكثر من الواقع. والفيلم يروي عن آخر أباطرة الرومان ماركوس أوريليوس، يحارب للحفاظ على بلاده، وحدودها من غزو سكان المناطق الشمالية على حدود الدانوب، ولديه العديد من الرجال الذين يساندونه، مثل العبد تيموندس، وليفيوس الذي يحب لوسيلا ابنة الحاكم. أما أخوها كودموس، فهو الشرير الذي يكون سببًا في وفاة أبيه، وذلك حين يقرِّر الإمبراطور أن يكون ليفيوس هو وريثه في الحكم؛ ولهذا فإن كودموس يُعجِّل بوضع السم لأبيه، ما يؤرِّق الرجال الذين كانوا يمثِّلون حاشيةً لأبيه، ويريدون تأمين مستقبلهم السياسي؛ فالجميع يرى أن المكانة الاجتماعية ﻟ «ليفيوس» لن تسمح له أبدًا أن يكون الحاكم على روما. وتتعرض البلاد لهزَّاتٍ سياسية، واقتصادية، وتتداخل القوى الأجنبية، ورجال البرلمان، ويزداد التمرد من قِبل المقاطعات الشرقية في روما، وتسعى لوسيلا لمناصرة حبيبها ضد أخيها. ويبدأ تقسيم الحضارة اليونانية إلى قطع، وتتم الاستعانة بالفرس للسيطرة على الوضع، ويموت ملك أرمينيا (عمر الشريف) أثناء الصراع. وتَتابَعُ الأمور حتى يُحكم بالسجن على ليفيوس ومعه لوسيلا، واتهامهما بعلاقةٍ غير شرعية. وفي المشهد الأخير من الفيلم وبعد صراعٍ شخصي بين ليفيوس وخصمه كودموس، وموت كلٍّ منهما تتصايح الأصوات بعمل مزاد لشراء الإمبراطورية المنهارة.

تمَّت إعادة إنتاج القصة نفسها عام ٢٠٠١م، في السينما الأمريكية، باسم «المصارع» إخراج ريدلي سكوت. وكان الفيلم أسعد حظًّا سواء في الإيرادات أو الجوائز السينمائية. ورغم أن الفيلم الأول قد أُخرج على الحافة كما يُقال، فإنه كان يفتقد المذاق للأفلام التاريخية التي قدَّمها ويليام وايلر على سبيل المثال، إلا أن الفشل الذي حاق بالفيلم كان سببًا في إشهار إفلاس منتجه صموئيل برونستون في عام ١٩٦٥م.

الرولز رويس الصفراء (ثائرٌ عاشق)

سرعان ما انتشرَت ظاهرة الأفلام الإيطالية الروائية التي يضُم كل فيلم ثلاثة أفلامٍ روائية قصيرة، تحمل جميعها عنوانًا واحدًا، وقد يكون لها مصدرٌ واحد، لكن كل هذا ليس شرطًا. وقد انتقلَت هذه الظاهرة أيضًا إلى مصر، بسرعةٍ فائقة، فكان لدينا «البنات والصيف» ١٩٦٠م مثلًا. وفي بريطانيا كان ما يربط القصص الثلاث هو وجود سيارة رولز رويس مستعملة، انتقلَت بين أكثر من مالك عَبْر أوروبا، وفي كل مرة كانت تدور قصة حب عابرة، اثنتان منها اعتمدَتا على الخيانة، ما عدا القصة التي قام ببطولتها عمر الشريف وإنجريد برجمان.

figure

وكان من سمات هذه الأفلام أنها تجمع النجوم الأشهر في السينما الأوروبية، كما تمَّت الاستعانة بنجوم من السينما الأمريكية؛ فقد التقى الآن ديلون بشيرلي ماكلين، وريكس هاريسون بجان مورو، ثم هذه هي القصة الثالثة التي تدور أحداثها أثناء الحرب العالمية الثانية، في عام ١٩٤١م، وعلى الحدود اليوغسلافية، قبل أن يدخل الألمان إلى هناك. والفيلم كله من إخراج البريطاني أنطوني أسكويث، كتبه تيرنس راتيجان، وزَّعَته شركة مترو جولدن مايير في كل أنحاء العالم، وعُرض في الولايات المتحدة في ١٣ مايو عام ١٩٦٥م. اتسم الفيلم بأجواء السخرية والكوميدية، وبدأَت القصص من خلال شوارع لندن؛ حيث يقرِّر زوجٌ إهداء امرأته الفرنسية سيارة رولز رويس فخمة، رغم أنها قديمة، بمناسبة عيد زواجهما العاشر. وقد ظلت السيارة تنتقل إلى مالكٍ آخر، حتى استقرت ١٩٤١م إلى الثرية الأمريكية جريد إميليت، والتي جذبَت السيارة انتباهَها في إحدى قاعات بيت التحف القديمة من السيارات. إنها أرملةٌ أمريكية تقوم بجولة سياحية في أوروبا، قبل أن تقوم القوات النازية بغزو يوغسلافيا. إنها امرأةٌ شهيرة، لها مكانتُها الاجتماعية في أوروبا، وتلتقي بالمناضل اليوغسلافي دافيش، الذي يطلب منها أن تعبُر به الحدود بسيارتها إلى يوغسلافيا، على أن تُخفيَه خلف السيارة. ويبدو الاثنان متنافرين طوال الرحلة، هي امرأةٌ جميلة في أواسط العمر، وهو شابٌّ جذاب، له شاربٌ كثيف وله قوَّته وحيويته، وهي لا تعرف لماذا تنساق إليه. ويقع الاثنان في الحب رغم كل هذا التنافر، وتصبح السيارة مكانًا للقُبلة الأولى، وأيضًا لتعضيد العلاقة. هذا الحب يجعلها تتقبل المغامرة، وتمُر بالسيارة عَبْر الحدود، ويقابلها حرس الحدود بعجرفة، إلا أن كبرياءها كانت أقوى من العجرفة. وتمُر السيارة، وتنطلق في الوديان حتى يصل الرجل إلى قريته، وتكتشف مدى ما يتمتع به من مكانة لدى أبناء قريته، وتشعر بالفخر معه، وتنطلق في رحلتها؛ فهو يخبرها أن المعركة التي يُقدِم عليها شعبه لا تخصُّها، ولا يودُّ أن يدخلها معه في متاعب، ويسألها أن تعود إلى الولايات المتحدة، وتحكي إلى شعبها ما شاهدَته في أوروبا الواقعة في الحرب.

كانت هذه هي آخر القصص الثلاث في الفيلم. وقد شُوهدَت السيارة في أحد حوانيت بيع السيارات القديمة في نيويورك.

وقد اكتسب الفيلم شُهرته باسمه، واسم السيارة التي تدُل على الفخامة. والطريف أن السينمائيين العالميين لم يقتربوا قط من مثل هذا الموضوع في فيلمٍ آخر حتى الآن. ومع سينما الوسترن الاسباجيتي تلاشى هذا النوع من الأفلام، وبشكلٍ خاص في أوروبا.

ماركو بولو العظيم (شيخٌ عربي)

في عام ١٩٦٤م كان نجم الممثل الألماني هورست بوشولز قد علا كثيرًا عقب مشاركته في أفلامٍ أمريكية عديدة، منها «العظماء السبعة»، و«٩ ساعات إلى روما»، ثم فيلم المغامرات «ماركو بول العظيم»، الذي يقوم فيه بدَور الرحَّالة الإيطالي ماركو بولو، الذي يرسله بابا روما إلى الصين حاملًا منه رسالة إلى الإمبراطور توبلاي خان، وعليه أن يَمُر بالعديد من البلاد في الشرق الأوسط والأدنى، وأن يقابل أناسًا هنا وهناك قد يلتقيهم لأول مرة، وآخر مرة، وقد يقابلهم من جديد.

وقد تعمَّد الفيلم في مَشَاهده الأولى أن يبيِّن المكانة التي يتمتع بها الشاب ماركو بولو؛ فهو عالم يهوى العلوم التطبيقية، ماهر في استخدام السلاح، خفيف الحركة، تعشقه البنات في مدن إيطاليا، ويُقبِّلنه في فمه بكل حب. هذه المدن المفتوحة على البحار، والقنوات، عرفَته شابًّا سعيدًا، إلا أن الرسالة التي تأتي من الإمبراطور الصيني إلى بابا الفاتيكان، تجعل هذا الأخير يختار ماركو بولو من أجل القيام برحلة إلى الشرق الأدنى، يركب السفن، ويجتاز الصحراوات، ويعرف قسوة الطريق، كي يزداد رسوخًا ويصبح رجلًا وقورًا حكيمًا، صارت له مكانته في قصر الإمبراطور الصيني. وقد امتدَّت رحلتُه ذهابًا وإيابًا عَبْر مصر، والبحر الأحمر، إلى الهند، وآسيا، حتى تم الوصول إلى العاصمة.

ونحن نعرف من خلال الحوار الذي يبدأ في المشهد الأول من الفيلم بين أستاذه أن ماركو بولو ليس غريبًا على الصين؛ فقد عاش أبوه نيقولا هناك سنواتٍ طويلة، ثم عاد، مثلما سيعود ماركو بعد سنوات. وحسب الفيلم فإن البابا لم يرسل إلى الصين بمائة من رجال الدين والحكماء، وقد رأى أن ماركو بولو قد يكون بديلًا عن هذا العدد.

وفي الفيلم قام عمر الشريف بدور الشيخ العربي الذي يلتقي بالأب نيقولا في الجزيرة العربية، كان قد اتفق مع ابنه على أن يتقابلا هناك قبل أن يستكمل ماركو رحلته الطويلة. وهو رجل يحب النساء، متزوج من أكثر من امرأة، وحسبما تحدِّثه امرأةٌ منهن فإنه قد اتخذ لنفسه ستًّا وعشرين قرينة، ولا يكُف عن إقامة الحفلات المليئة بالحسان والراقصات الجميلات.

ألاهو هذا يتكلم لغة نيقولا في الفيلم، وإن كان هذا لا يمنعه أن ينطق بعض الكلمات العربية على سبيل الاستعراض، والمزاح. وقد بدا عمر الشريف هنا خفيف الظل، مرحًا، يملأ المكان حركة، ويلجأ إليه نيقولا لمساعدته في إطلاق سراح ابنه، بعد أن قبض عليه رجلٌ يعيش أيضًا في الجزيرة العربية، يُسمى «رجل الجبال العجوز». وهو رجلٌ له مكانته، وثقافته، يعيش وسط الصحراء في قصرٍ مليء بالفخامة، النساء الجميلات، وكُتب التراث البشرية معًا. كما أن لديه جيشًا صغيرًا من الرجال الأشداء المقاتلين، ويضع على وجهه قناعًا من الذهب لا ينزعه إلا في الضرورة القصوى، من هذه الضرورات أن يكون الوجه هو آخِر مَن يراه المحكوم عليهم بالإعدام، وأيضًا حضور ألاهو.

figure

ونعرف هنا مكانة ألاهو عند الرجل العجوز، الذي يرى أن ماركو بولو من رجال التبشير، وأن وجوده خطر في الجزيرة العربية. ويبدو ألاهو هنا مرنًا، ولديه مكانته لدى العجوز؛ فهما يتكلمان عن الزوجات بشغفٍ شديد. ويقول العجوز إن وصول ماركو بولو إلى الصين خطرٌ عليهما معًا؛ فهو رجل تبشير.

وقد كتب أحمد رأفت بهجت في هذا الإطار في كتابه «الشخصية العربية في السينما العالمية»: «إنه رغم أن شخصية رجل الجبال العجوز تحمل بعض ملامح الحسن بن الصباح، أحد المغامرين من طائفة الإسماعيلية، وأحد أشد أعداء التتار والصليبيين، إلا أن هذا الرجل تُوفي في سنة ١١٢٤م وأتباعه سُموا أحيانًا بطائفة الحشاشين لاعتمادهم على مادة الحشيش في نشر مذهبه بين الناس. وإن الوصف التصويري الذي كتبه ماركو بولو عن هذه الطائفة كان في القرن الثالث عشر الميلادي، أي بعد موت حسن بن الصباح بقَرن.»

وإذا كان هذا هو الرجل العجوز كما أسماه الفيلم، فإن شخصية «ألاهو» هي من نسج الخيال، على أغلب الاحتمالات.

والفيلم كما نُلاحِظ قد كتَب له السيناريو العديدُ من الأشخاص، منهم أدباءُ فرنسيون، مثل جاك ريمي، متخصِّصون في هذه المرحلة الزمنية من تاريخ العالم.

جنكيز خان (تيموجين)

من يلاحظ صعود اسم عمر الشريف علي أفيشات الأفلام في تلك المرحلة، سوف يرى كيف كان في حالة تقدُّمٍ سريع. ولعل أبرز الأدلة على ذلك هو مكانته بين نجوم السينما العالمية الكبار والمشاهير من فيلم لآخر. وفي فيلم «سقوط الإمبراطورية الرومانية» إخراج أنطوني مان ١٩٦٣م، سوف نرى أن ستيفن بويد كان هو الشخصية الأساسية إلى جوار مجموعةٍ كبيرة من النجوم الجدد والقدامى، لكن البطولات المطلَقة سرعان ما جاءت مدوِّية لكريستوفر بلومر فيما بعدُ. وأيضًا فإن حالة عمر الشريف تستدعي الانتباه؛ ففي فيلم «جنكيز خان» ١٩٦٥م، صار كلٌّ من ستيفن بويد وعمر الشريف متساويَين على الشاشة، بل إن بويد البالغ الوسامة والخفة في فيلمه الأسبق، بدا هنا وقد صار إلى البدانة من ناحية، وانزاح جانبًا إلى الدور الثاني، في دور «جاموجا»، رغم أن اسمه يعني الأمل، وإن عمر الشريف قد جاء اسمه في مكانةٍ خاصة مقرونًا باسم «جنكيز خان»، وباعتبار أنه الشخصية الرئيسية في الفيلم، فإن ظهور الحاكم المغولي الشرير جاموجا جاء ثانويًّا.

وكما نلاحظ فإنه في فترةٍ قصيرة جدًّا، فإن وجوه الممثل القادم من مصر قد تعدَّدَت على الشاشة، وها هو يُسنَد إليه من جديد دور رجلٍ شرقي، وإن كان هذه المرة من وسط آسيا. وقد سبق لنجومٍ عديدين أن جسَّدوا شخصية جنكيز خان، ومنهم جون واين، وجاك بالانس. ورغم أن عمر الشريف يتسم باتساع عينَيه فإن المخرج لم يشأ أن يحرم المعجبات بعمر الشريف، من هذا الاتساع، فلم يسعَ قط إلى تضييقهما، مثلما فعل جوشوا لوجان مع مارلون براندو في «مشروب الشاي في ضوء القمر» عام ١٩٥٧م.

تعدَّدَت وجوه هذا الشخص الذي وُلِد ليحكم نصف العالم في الفيلم، منذ أن رأيناه صبيًّا، أسيرًا لدى «جاموجا» قاتل أبيه، وحتى وفاته في نهاية الأحداث. هو الزعيم الآسيوي الذي سعى للانتقام ممن قتلوا أباه، لكنَّ عينَيه كانتا دومًا وراء توحيد صفوف المغول في آسيا، وهو الذي صارت له مكانة لدى إمبراطور الصين.

هنا تعدَّدَت وجوه تيموجين من الصبي الذي يعاني من خصمه، وهو يحمل طوقًا خشبيًّا حول رقبته، يقيِّده، ويعرِّضه لسخرية الآخرين، ومع مراحل حياته، فصار بدينا أحيانًا، رشيقًا محاربًا منتصرًا في أكثر الأوقات، عاشقًا للأميرة المغولية بورتوي التي أحبَّته وأنقذَته من الغرق في النهر، والطوق الخشبي يلفُّ حول رقبته، وقد اتسمَت بالشجاعة ضد جاموجا وهي تقول: ما ذنبه؟

بهذا الوجه الصبي بدا تيموجين شجاعًا، وسيمًا. والغريب أن أغلب من قاموا ببطولة الفيلم، كانوا إما أوروبيين أو أمريكيين، عدا عمر الشريف. وسوف تظل المواجهة بين الشاب، وقاتل أبيه إلى أن يتمكَّن من الهروب مع الأميرة التي اختارته فصار زوجًا لها. وفي وسط الصحراء، ومع رفاقه من المغول، وبأعدادٍ صغيرةٍ ملحوظة، قرَّر تيموجين أن يصنع أمة من المغول، وأن يوحِّد فيما بينهم، ناظرًا إلى الأمم الأخرى، في كلٍّ من سمرقند وبخارى والفرس، ومندهشًا من التجربة الصينية التي أسَّسَت سور الصين العظيم، واهتمَّت بالعلوم، ويرتدي شعبها الحرير. ورغم أننا في فيلم يعتمد على الحركة، والمعارك، إلا أن الزعيم الشاب قد لفت أنظارَه أن قبائل المغول في صراعٍ فيما بينهم، أما الأمم الأخرى ففي ازدهار؛ ولذا اقترب من حاكم الصين، وتدرَّج في المناصب حتى صار مقاتله الأول وقائد جيشه. وفي هذه الأثناء سعى إلى مشاعدة شعبه المشتَّت الضعيف، فجمَع الأسرى، ووحَّد القبائل الصغيرة، وأنقذَهم من الأزمات. وكان يردِّد إلى أبناء شعبه: «إما أن تنطلقوا أو تنضموا إليَّ»، وهو في هذه المرحلة، كان قد صار قويًّا وأكثر خبرة، ولديه الكثير من العتاد، والأنصار والمؤمنين بزعامته. كما نجح في توسيع مغانمه، واستطاع أن يعيد زوجته من الرجل الذي قام باختطافها، ولم يكن قد تزوَّجها بعدُ، وسعى إلى أن يردَّ لها جميع مواقفها إلى جانبه.

كانت نقطة التحول الحقيقية في حياته هي لقاؤه بمستشار الإمبراطور الصيني. قام الفيلم بتصويره كشخصٍ نموذجي، عاشق، ورب أسرة، ومحارب؛ فهو يتحدث إلى حبيبته أن اليد الممتدة إلى الآخر هي أول ما يقدِّمه الإنسان لمن يحبه؛ ولذا فهو ينجح في أن يزيل الإحساس بالقسوة عن زوجته التي يلين قلبها إليه بشكلٍ ملحوظ.

وحسب الفيلم فإن علاقة الشد والجذب مع جاموجا استمرت دومًا، وقدَّم لنا الفيلم صورًا حياتية لأهل الحرب، وبدا المغول ذوي ملامحَ إنسانية. وتعلمنا أن نيران المعسكرات يجب أن تُطفأ ليلًا حتى لا تثير انتباه الآخرين؛ ما يعني أن الفيلم لم يهتم كثيرًا بالمعارك التاريخية، إلا لحساب رجلٍ ظل في صورتنا علامة على سفك الدماء والقتل. أما الفيلم فقدَّمه على أنه الباحث عن أرضٍ لم يمتلكها أحد، ولم تذهب إليها قدم، في آسيا كي تكون وطنًا.

وعندما وصل جنكيز خان إلى الصين، كان معه فقط مائتا رجل، وزوجةٌ حامل يتم الاعتناء بها كثيرًا. ويبدو تيموجين منبهرًا بالسور العظيم وهو يردِّد: «من يبني هذا السور عليه أن يحكم العالم»، ولا تتوقف دهشتُه كلما شاهد من ابتكاراتٍ جديدة تُنسب إلى الحضارة الصينية؛ فنحن أمام فيلم عن مولد الحضارات.
figure
وعندما يلتقي تيموجين إمبراطور الصين يفسِّر له سبب بناء السور العظيم، إنه يؤمِّن لنا حضارتنا بما فيها من فنون. وينبهر المغولي وهو يشاهد الألعاب النارية، وعندما يسمع قصائد من الشعر. هذا إذن رجلُ حضارة، ورجلُ شعب، يتقدَّم به العمر، فيطلق شاربه على الطريقة الصينية، ولا يكُف عن التدريب. ويلفت أنظاره أن إمبراطور الصين مشغول بأن يرى الشعب المنجزات. ويعرف كيف تتم اختبارات الكفاءات الجديدة من الشباب، فيأتي الصغار من الموهوبين لرؤية أميرةٍ عارية، دون أن تدري، من وراء ستار، وهم يعرفون أن أفضلهم من المهارات سيتزوج الأميرة، وأن هذا أسلوبٌ متطور لتطوير الشعوب؛ ولذا فإن تيموجين يدِّرب رجاله خوفًا من هجومٍ مرتقَب من خصمه، وكل ما يتمناه الزعيم المغولي، هو ألا يتقاتل الجيشان، بل أن يتوحَّد الشعبان، ويردِّد «الشرف هو أن تنتصر.»

وهنا يأتي الخلاف في وجهتَي النظر؛ حيث تأتي قوات جاموجا لتخلِّصه من إرث قام به تيموجين ضده، ليردَّ له هذا الأخير الصاع صاعَين، في مواجهةٍ سابقة، فقام بأَسْره، ووضع حول عنقه الطوق الخشبي. وبعد أن انتصرَت قوات تيموجين فإنه قام بفك الطوق الخشبي من حول رقبته، وحدَّثه من جديد أن من مصلحة الطرفَين أن يكونا أمةً واحدة.

عند هذا الحد أحس الإمبراطور بطموح تيموجين الذي كوَّن للصين جيشًا عظيمًا. وعلى طريقة الانقلاب الأبيض، فإنه يطلب من تيموجين أن يترك الجيش، ويحذِّره أن شخصًا ما بلا هُوية قد يطعنه خلسة. ويسعى الرجل إلى أن ينتصر في الحرب، عارفًا أن هناك ثلاثَ دوائرَ كبرى تحكم آسيا، ويهتم بضم قبائل المركيت. وتبدأ القبائل في التوحد، ويتعاظم دور الحاكم الطموح الذي يردِّد: «كلمتي هي القانون». وقد ألقى الفيلم اللوم على جاموجا؛ فهو لم يتعلم الدرس قط، ولم يرضخ إلى رأي خصمه اللدود، وهو يردِّد له دومًا: «ليس من الجيد أن يتقاتل المنجوليون فيما بينهم.» ويُخبره «أمنحك الفرصة كي تنضم إليَّ.» ثم يهدِّده إذا لم ينصَع فإنه سوف يُدمِّر الأرض التي يسير عليها، ولن يجد أرضًا فيما بعدُ.
ويصوِّر الفيلم أن الخصومة الشخصية بين الرجلَين هي أقوى من المشاعر العامة، وهي التي تحول دون وحدة الشعوب؛ لذا تدور مقاتلةٌ فردية تنتهي بمصرع كلٍّ منهما. ويتلقى ديموجين وعدًا من زوجته قبل أن يلفظ أنفاسه: «سأبقي عليك سنواتٍ طويلة.» وفي المَشاهد الأخيرة من الفيلم، نعرف المزيد من المعلومات عن جنكيز خان؛ حيث وصل أبناؤه إلى السهول الآسيوية وصاروا أقوياء، حاملين اسم أبيهم الزعيم.

ليلة الجنرالات (الضابط النازي)

من يشاهد الأفلام الأمريكية التي تتناول الحياة الخاصة للنازيين، سيُدرِك إلى أي قدْرٍ تحاول هذه الأفلام تصوير الجانب السيئ والقاسي، للضباط في الحزب النازي؛ فهم مجرمون بالسليقة، قتَلة بالفطرة، ولديهم كافة الأعراض الجنسية المعروفة. وتدور قصة هذا الفيلم داخل ألمانيا، في الحياة الخاصة للضباط الألمان، ونتعرف على ضابطٍ كبير منهم، يرتكب جرائمَ قتلٍ جنسيةً ضد العاهرات، ويتعامل مع سائقه الشاب، أو فرد خدمته بوحشيةٍ شديدة، وعنف. وهناك ضابط تحقيقات جراو (عمر الشريف) يلاحقه، ويودُّ القبض عليه، ومحاكمته وإدانته.

figure

في هذا الفيلم يبدو وجه عمر الشريف مختلفًا، تخلى عن شاربه، ولحيته، التي رأيناه عليها في أفلامٍ أوروبيةٍ عديدة، لا يكاد ينزع الزي الرسمي لضابط التحقيقات الذي لا يكُف عن ملاحقة مرتكب جرائم يفعلها صاحبها بوحشيةٍ شديدة، بدت آثارها على جار إحدى الضحايا مع بداية الفيلم.

الفيلم مأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه، للكاتب هانس هيلموت كيرست، وقد تُرجمَت إلى اللغة العربية في سلسلة روايات الهلال عام ١٩٦٦م، عقب عرض الفيلم في مصر مباشرة.

في البداية يأتي المحقق إلى البيت الذي تمَّت فيه الجريمة، ويعرف أن القاتل ضابطٌ ألماني كبير «جنرال»، ويعلن قبل خروجه أن من الواجب أن يتم إعدام الجنرال القاتل. وتنتقل الأحداث بين باريس وبرلين ووارسو. ويبدو عمر الشريف، وهو ينتقل بين بناياتٍ فخمة في هذه المدن وغيرها بالغ التأنق، والشياكة، خاصة في زيه العسكري، ومليئًا بالحيوية، على عكس الجنرال فانس الذي يهوى قتل العاهرات؛ فهو جامد الوجه، مسطَّح التعبيرات، يخلو من التعبير، يتكلم بدون إحساس، حتى مع النساء، وذلك أمرٌ متعمَّد. ولا شك أن الأمريكيين الذين صنعوا الفيلم يريدون أن يصوِّروا أعداءهم السابقين في أسوأ صورة. وهذا أسلوبٌ نمطي رأينا عليه وجوه الكثير من الشخصيات التي تلعب لمصلحة النازي، مثل شخصية الجاسوس الذي لعبه دونالد سوزرلاند في فيلم «خرم الإبرة» في الثمانينيات، من القرن العشرين.

وكأن مثل هذه الأفلام تؤكد أن الغرب كان يُحارب نظامًا مريضًا بكافة الأمراض النفسية التي لا علاج منها، ويبدو ذلك واضحًا في التعذيب النفسي والإهانات المتعمَّدة التي يمارسها الجنرال ضد سائقه الخاص، كوبرو (توم كورتني)؛ فالفيلم يصوَّر هذا الشاب بشكلٍ طبيعي، على أنه ضد الحرب، وضد رؤسائه؛ لذا فهو يبدو طبيعيًّا وهو في فراش حبيبته، عكس قائده، لكن ما تلبث أن تأتيه الكوابيس من كثرة البشاعات التي شاهد قائده يمارسها، ويردِّد «إنه متوحش.»

والجنرال يمارس جرائمه أثناء العمليات الحربية، داخل المدن التي وصل إليها النازيون وكأنها جزء من الحرب. كما أن هذا الرجل الذي يزور معرضًا من اللوحات العالمية المسروقة من الألمان، لا يبالي بما هو موجود من لوحات في قاعةٍ ضيقة مكدَّسة في كل مكان بأغلى ما أبدعه الفنان، ولا يتوقف سوى أمام لوحة، تعبِّر عن الوجه البائس، لفان جوخ، كأنه ينظر إليه، ويبلغه بما يشاهد. وعلى ناحيةٍ ثانية فإن المحقق الكولونيل لا يكُف عن البحث عن مساعده من فريق البحث الجنائي الفرنسي.

كل شيء يبدو سهلًا، ومرتبكًا أمام الجنرال القاتل؛ فهو يستخدم سائقه هارتمان من أجل جلب العاهرات من النوادي الليلية، وفي فترة كان يذهب مرتديًا الزي العسكري الرسمي، لكنه فيما بعدُ كان يذهب بالملابس المدنية. وكم وقعَت عاهرة في إغواء سيارةٍ فخمة، وجنتلمان وسيم حقيقي، عليها أن تؤدي عملها حتى ولو في السيارة، ثم تذهب بزبونها إلى مسكنها. وعلى السائق، بكل أدب وطاعة، أن يردِّد للأوامر «نعم يا سيدي.»

كما نرى فلا تُوجد حياةٌ خاصة لهؤلاء الضباط، لا نعرف شيئًا عن ماضيهم سوى العُقد النفسية، التي تحكُمهم، وفي حياة الضابط المحقق. وفي إحدى المرات، وبعد أن ينفِّذ الضابط جريمته، يستدعي سائقه كوبرو ليصعد إلى شقة العاهرة، يبدو شاحب الوجه، كأنه يرتدي قناعًا، ويشير إلى السائق أن ينظر إلى ما فعلَته يداه. ووسط فجيعة كوبرو، فإن قائده يمنحه كأسًا كي تنطبع بصماتُه عليه، ليتجه الاتهام إليه، بينما الجنرال نفسه قد وضع في أصابعه قفازَين أسودَين ثم يُشهِر عليه المسدس كي يقتله قبل المغادرة، ويتحدث إليه حديثًا طويلًا، يقول فيه إنه جنرال، مارس كافة أنواع الوحشية التي في إمكانه من أجل ذبح العاهرة، ثم يعرض النقود على سائقه، كي يهرب ويظل مطاردًا طوال حياته. وفي الفيلم أيضًا نرى كيف قام الضباط النازيون بعضهم بتصفية البعض، والتخلص من الخصوم، بتفجيرهم في أثناء حضورهم الاجتماعات المهمة. كما أن المَشاهد التي يذهب فيها جراو للتحقيق في جرائم القتل، تكشف عن الحجم الهائل للقوات النازية في باريس. ويبدو إلى أي حد تبلغ مكانة واتس؛ فهو القائد الأعلى في حصنٍ عسكري على بوابته ما يشبه الجمجمة. ويبدو واتس كأنه يستعرض ما يتمتع به من قوة وسلطة، أمام الضابط الذي يتهمه بأنه قاتل، وبكل بساطة يطلق عليه النيران وسط مكتبه، فيقتله وسط تحية الطابور في الخارج. وسرعان ما يأتي جنود لحمله والذهاب به، ويخرج واتس من مكتبه كأن شيئًا لم يكن.

فيما بعدُ وعقب انتهاء الحرب، تنزل طائرةٌ أمريكية في مطار هامبورج، ويتم توقيف أحد الضباط النازيين الكبار، الذين كانوا يعرفون واتس جيدًا. ويقوم محققٌ فرنسي، بالتحقيق مع النازي السابق، وتستمر التحقيقات في مسلسل قتل بنات الليل الذي لم يتوقف.

لم يكن مقتل جراو وانتهاء الحرب بسبب لتوقف التحقيقات في هذه الجرائم؛ فهذا هو واتس قد صار رجلًا مدنيًّا عام ١٩٦٥م، هو الرجل الجامد البارد، ويتم استدعاؤه ليقابل المحقق الذي يواجهه بحقائق قتله لإحدى العاهرات، ماياكوبيسكا. وأمام إنكاره، فإن السائق يظهر، ويردُّ باختصار: «كان يجب أن تقتلني يا سيدي»، ووسط انهيارٍ ملحوظ، يطلب من أحد الرجال مسدسًا، ثم يدخل إحدى الغرف الجانبية، ويطلق على نفسه الرصاص.

حسب الفيلم، فإن واتس حُوكم عسكريًّا وسياسيًّا عقب نهاية الحرب عن جرائمَ نازية باعتباره من مجرمي الحرب، لكنه ظل مطلَق السراح طوال عشرين عامًا حتى عام ١٩٦٥م، حين جاء ضابط التحقيقات موراند، صديق جراو للتحقيق في الجرائم القديمة، وليُثبِت الفيلم أن الكثير من رجال النازي السابقين لم يُحاكَموا على جرائمَ أخرى ارتكبوها في الخفاء.

في ختام حديثنا، يجب أن نلاحظ أن الروائي الفرنسي البالغ التعصُّب جوزيف كيسيل هو كاتب السيناريو، وقد بدا ذلك في رسمه للشخصيات، والأحداث، كمحاولة للنيل من خصومه، أعدائه القدامى.

أكثر من معجزة (أمير)

في تلك السنوات كان هناك تواصلٌ جيد بين السينما الأوروبية والأمريكية، ولعبَت شركات التسويق في هوليوود في تقديم الفيلم الأوروبي إلى العالم، ووُلد منتجون كبار في إيطاليا على سبيل المثال، وحققوا نجاحاتٍ ملحوظة، ومنهم كارلو بونتي الذي كان وراء الشهرة الطاغية لزوجته صوفيا لورين في كل الدنيا. وبدت أهمية هذه الأعمال أنها إيطاليةٌ محلية، سواء في الموضوعات المؤلَّفة، أو أطقم العاملين وبالطبع المكان. ولعل هذا يفسِّر ظاهرة انتشار الكوميديا الإيطالية، وأيضًا ما كان يُسمى بأفلام الوسترن الاسباجيتي.

figure

في ذلك العام استجلبوا هذا النجم الجديد إلى إيطاليا، وفي استوديوهات نيني شيتا، تم تصوير فيلم «كان ياما كان» حسب اسمه الأوروبي، ثم حمل اسم «أكثر من معجزة» في طبعته العالمية التي جسَّد فيها عمر الشريف بصوته دور الأمير رودريج. والغريب أن هذا الأمير إسباني، لكن الأحداث دارت في إيطاليا. إنه واحد من أفلام الكوميديا الإيطالية التي يُحبها الجمهور في كل مكان. وأسنِد إخراج الفيلم إلى فرانشيسكو روزي، صاحب التجارب المهمة في الفيلم السياسي الإيطالي سواء قبل هذا الفيلم أم بعده. وقد شارك في كتابة الفيلم أربعة من كُتاب السيناريو المعروفين وليس كاتبًا واحدًا، منهم تولينو جويرا. وتدور أحداثه بين الطبيعة، وقصور الأمير، وأمه التي تسعى وراء تزويجه بأي ثمن، والأماكن المتسعة، ومنها قاعات الولائم والرقص، وحقول الرعي والزرع.

الفيلم أقرب إلى سندريلا، في أن الأمير أعجبَته فلاحة، ويريد أن يتزوَّجها، وحتى يُرضي أمه الملكة في اختياراته، فإنه يبتدع مسابقةً بين بنات الشعب ليشاركن في غسل الأطباق، وصاحبة أكبر رصيد في عدد الأطباق المغسولة ستكون هي العروس المنتظرة.

ما يهمنا هنا هو الأمير (عمر الشريف) الذي بدا أن السينما العالمية قد وقع اختيارها على هدفٍ منشود؛ فبالإضافة إلى تمكُّنه من اللغات والتمثيل بها، فإننا أمام فارسٍ حقيقي يركب الأحصنة الثمينة، وينطلق بها في الفيافي بسرعة مجنون جنون الحصان والفارس، فينقلب ويسقط على ظهره، ويقوم يبحث عنه. وقد رأينا عمر الشريف يفعل ذلك بنفسه دون اللجوء إلى الدوبلير، وكان قد حكى عن علاقته بالخيول وتجارتها في مذكِّراته. وتأكدنا هنا أننا أمام ممثلٍ تدرَّب على الفروسية، بما يشبه المهارة والجنون، وأن الممثل الذي نعرفه في السينما المصرية قد تم صقله؛ فهو الفارس البدوي في «شيطان الصحراء»، وأيضًا في «المماليك»، إلا أن رودريج هنا فارسٌ أكثر خفة، وجرأة، ووظيفته هي السيطرة على حصانه الأبيض. شابٌّ من الصعب السيطرة عليه، وقد احتارت أمه فيه، وطلبَت إليه أن يتزوَّج واحدةً من الأميرات اللاتي ينتظرنه في القصر، كي يوافق على واحدة، إلا أن ما يشغله ليس المرأة، بل هذا الحصان الأبيض اللاهث الذي ينطلق به عَبْر الصحراء، والريف. لا يكاد أحدٌ يعرف من يكون من أبناء الشعب؛ فهو غير مهندم، يرتدي ملابس العامة، له «سكسوكة» خفيفة وقد صار لون شعره إلى البني، ولديه شاربٌ خفيف، وفي أثناء انطلاقه في الصحراء فإن الحصان يدفع به ويقع جانبًا، ولا يلحق به.

ويجمع الفيلم بين قصص السحر، خاصة أدب الأطفال، وبين الخيال الجامح، وقصص الحب؛ فهو يلتقي براهب يمكنه أن يطير في الجو، عن طريق نفخ ملابسه بغازٍ خفيف يستطيع الارتفاع في الجو والنزول، وهو يتولى أمور الصغار في الدير. وعندما يخبره رودريج أنه فقد جواده الثمين، أعطاه حمارًا أسود صغيرًا، ويخبره أن أمامه سبعة أشياء ستحدث في خلال سبعة أيام، دون أي تفسيرات ودون أن يهتم كثيرًا بمن يكون.

حتى هذه الأحداث لم تكن نجمة إيطاليا المشهورة قد ظهرَت، بما يعني ما سمح لعمر الشريف أن يجسِّده؛ فهو مقبول، وجذاب. وسرعان ما نرى الريفية إيزابيل، امرأة جميلة، بكافة المقاييس، صعبة المراس، قوية الشخصية، نعرف أنها عثَرَت على الحصان الأبيض، وروَّضَته، وحوَّلَته إلى خادم تنقل عليه الخضراوات. وسرعان ما تتم المواجهة بين الطرفَين، هي تريد الحصان لتؤدي أعمالها، وهو يصفعها، ويسترد منها الحصان من جديد، وما إن يركبه بعد أن وضع السرج عليه، حتى يُرديَه أرضًا، ويصبح الشاب أداة لسخرية الجميلة إيزابيل. يلتفت إلى حسنها، وبراءتها، ويصبح دوره هو حمايتها من اللصوص. ويبدآن في التقارب والتباعد، حسب ما يملكه كلٌّ منهما من تمرُّد، وقدرة في السيطرة أو التخلي عن الآخر. ويطاردها كما القط للفأر، ويطلب منها أن تُعِد له طبقًا به سبع قطع من اللحم، إلا أنهما يختلفان عندما يقوم بعدِّ ما في الطبق، إنه يريد سبع قطع كما أخبره الراهب بأهمية هذا الرقم في مستقبله. وعندما تصل المناوشات بينهما إلى حد الاختلاف الحاد، فإنها تستعين بأبناء قريتها للتخلص منه، لكنهم عندما يحاولون سرقة خاتمه، تدرك أنها أمام شخص له أهميته، تخبره أنها تُحبه، وتجد أنه تحوَّل.

على طريقة سندريلا فإن إيزابيلا تستعين بنساء الليل الجميلات الساحرات من أجل أن يساعدوها في الحصول على حبيبها. وتجتمع النسوة العجوزات تحت أشجار الظلام ويدبِّرن أمرًا. وعن طريق البلورات السحرية يعرفن مكان الرجل في دير للراهبات. وهنا تقرِّر إيزابيل أن تلحق بحبيبها، وتتحمل الكثير من أجل الحصول عليه، تدخل في البرميل وتحمل خاتمه الثمين. وبعد أن تعترف له بمشاعرها، نكتشف أن الشاب أيضًا وقع في الحب، وأنه سيعمل على أن يتم الزواج بها بأي ثمن.

حين يعود الأمير الإسباني رودريج إلى قصره يعلن لأمه أنه وافق على الزواج، وأن عروسه ستكون أيضًا من الشعب، بالإضافة إلى الأميرات الخمس اللاتي في حالة انتظار لنيل هذا الشرف. ويقنع أمه أن الزوجة الأنسب هي التي ستطهو أفضل الأطباق، وتغسل وتتولى مسئولية أسرتها. وسرعان ما تبدأ إجراءات حضور الوليمة الضخمة. وتتآمر إحدى الأميرات مع كبير الطهاة من أجل إفشال كل الفتيات اللاتي سيشاركن في المسابقة. وفي النهاية فإن الأميرات الخمس بالإضافة إلى إيزابيل التي ابتدع لها اسمًا جعل منها أميرة، يشاركن في غسل الأطباق. وتكون الصدمة أن كل هذا العدد من الأطباق التي غسلَتها إيزابيل قد كُسرَت. وفي لحظة غضبٍ تعبِّر عن حبٍّ كامن، فإن الأمير يصفع إيزابيل لأنها أخفقَت. ولأنه حسب القانون فإن الأميرة التي كسبَت ستكون زوجته، وسيُقام حفل الزفاف الضخم في أقرب وقت.

وفي حفل الزفاف، تحضر إيزابيل متخفية، وتكون قد قرَّرَت أن تكشف الخدعة الكبرى؛ فالأطباق قد تم شقها عن طريق الخاتم الماسي للأميرة الفائزة بالتزوير، وها هي تجلس الآن إلى جوار عريسها. لكن إيزابيل تكشف الحقيقة، ويتم القبض على كبير الطباخين الذي دبر كل هذا، وتفوز الراعية بحبيبها الذي سيملأ بها الحياة سعادة.

عمر الشريف في فيلم كوميدي إيطالي، خفيف، من إخراج روزي، وتمثيل صوفيا لورين، يؤكِّد أنه لم يكن نجمًا بالمصادفة، بل كان يحمل مؤهلات هذا النجاح.

فتاةٌ مرحة (مقامر)

في الخمسينيات والستينيات كان هناك ويليام وايلر. وفي السبعينيات صار هناك هربرت روس الأكثر إيمانًا بالكوميديا الموسيقية، المغلفة بالسينما الغنائية. وفي عام ١٩٦٧م استخرج وايلر من جعبته سيرة حياة المطربة الأمريكية الشهيرة فاني برايس ليقدمها في فيلمٍ غنائي مهم هو «فتاة مرحة». وفي منتصف السبعينيات استكمل روس الجزء الثاني من المسيرة الفنية والغنائية للمطربة في فيلم يحمل عنوان «سيدة مرحة» بدا أكثر اهتمامًا بحصر كافة أغنيات المطربة التي ملأَت الدنيا بأغنياتها.

يكفي أن نقول إن وايلر هو من قدَّم في الخمسينيات والستينيات أفلامًا من طراز «كيف تسرق مليونًا» و«إجازة رومانسية» و«ساعة الأطفال» وكلها من بطولة أودري هيبورن. أما فيلم «فتاة مرحة» فهو قصةٌ عاطفية موسيقية كتبَت لها السيناريو إيزوبيل لينهاري عن كتابٍ من تأليفها حول المسرح الغنائي مستوحًى من وقائع الحياة في برودواي، خاصة حول علاقة المطربة الممثلة فاني برايس بالمقاول الشهير نيكي آرنشتين الذي أضاع ثروته في القمار، ودخل السجن بسبب ديونه.

وفاني برايس الحقيقية عاشت بين عام ١٨٩١م و١٩٥١م. وقد كانت ممثلة ومغنية في السينما والمسرح، والإذاعة، واشتُهرَت بأعمالها الغنائية الكثيرة الناجحة. اسمها الحقيقي فانيا بوراش، مولودة في نيويورك، في أسرةٍ يهودية مجرية، هاجَرَت إلى الولايات المتحدة. وقد تحدَّث فيلم «فتاة مرحة» عن علاقتها بزوجها الثاني نيكي آرنشتين الذي كان محترفًا في القمار، وقضى في السجن أربعة عشر شهرًا، وهي الفترة التي ركَّز عليها الفيلم. وقد ساعدها كثيرًا ماليًّا، ومعنويًّا أن تنال ما كانت تطمح إليه من شهرة، وبدت قصة الحب في الفيلم نموذجًا على التفاني والعطاء. وقد اختفى الرجل من حياة زوجته وترك لها ولدَين، وانفصلَت عنه عام ١٩٢٧م، كي تتزوَّج من كاتب الأغنيات بيلِّي روز. وحول هذه القصة دارت أحداث الفيلم الثاني «سيدة مرحة».

والفيلم الأول مأخوذ عن مسرحيةٍ كوميديةٍ موسيقية للكاتبة إيزوبيل لينهارت نشرَتْها في كتاب أولًا، وتحوَّلَت إلى نصٍّ مسرحي غنائي، اشتركَت في بطولتها بربارا سترايسند أمام سيدني شابلن حول المطربة والممثلة فاني برايس وقصة حبها وزواجها، وكانت تحمل عنوان «رجلي». وقد تم إنتاج المسرحية من خلال راي ستارك، الابن بالتبني للمطربة. وتدور الأحداث في مدينة نيويورك أثناء الحرب العالمية الأولى؛ حيث تنتظر فاني عودة زوجها من السجن، وهي تترقب هذه العودة، وتتذكر كيف التقت به في بداية حياتها، كانت مطربةً مبتدئة وراقصة، تلقى التشجيع من صديقها ستارا كونس وأمها. لم تكن جميلة، لكنها تُحس أنها ستصبح أعظم النجمات، وبدأَت الأدوار المهمة تُسند إليها، وصارت مشهورة إلى أن قابلَت رجلًا بالغ الوسامة، ثريًّا، ولطيفًا، الذي ما لبث أن صحبها إلى حفل افتتاح أحد أعمالها. وسرعان ما دعاها للعشاء، وتبادلا العبارات الجميلة، وقد بدت بربارا في مشاهد الحب. وقد صارت متيمة بهذا الرجل الذي لم تحصل عليه امرأةٌ أخرى، فشعَرَت أنها متميزة جدًّا، وصارت معه في كل مكان، ولم يعنِها أنه يقضي أغلب وقته في صالات القمار.

figure

لذا، فإن هذا الدور صار الأكثر قربًا إلى عمر الشريف، وهو يتحول إلى فيلم. ولا بد أن مشاهد الحب التي جمعَت بين الاثنَين في أي مكان لا تُنسى ضمن المشاهد العاطفية التي شاهدناها، سواء في القطارات التي تقطع بها المسافات. وسرعان ما ساندَها وتزوَّج منها وعاشا في إحدى الجزر الواسعة، وصارت فاني برايس نجمةً كبيرة في برودواي. أما نيكي فقد صار عليه أن يطوِّر علاقته بصالات القمار، يلعب ويقامر، ويبني منها، حتى انتهى به الأمر إلى القبض عليه، وصُدمَت المرأة كثيرًا فيما حدث لزوجها وقرَّرَت أن تنتظره، وألا تكُف عن الغناء حتى يرجع.

ولأن الأحداث تدور في الماضي، فها هي فاني تنتظر عودة زوجها، ورغم كل الشوق والحب، والانتظار، واللوعة، والشهرة، والوحدة أحيانًا، وبكل ما بقلبها المحطَّم من آمالٍ منكسرة، فإن فاني تُقرِّر أن تنفصل عن زوجها، كي تبدأ صفحةً جديدة من حياتها وهي تستمع إلى أغنيتها الشهيرة «لا تمطري فوق معرضي».

المسرحية بدأ عرضها في لندن في مارس عام ١٩٦٤م، واستمرت حتى أول يوليو عام ١٩٦٧م. وبعدها مباشرةً كان العمل في الفيلم يتم بكل حماس. ولا بد أن يتم الاستعانة بأكثر الفنيين الذين عملوا بالمسرحية، ومنهم مؤلف الأغاني بوب ميريل، والموسيقار جول ستين، وعُرض الفيلم في سبتمبر عام ١٩٦٨م، والتزم الفيلم بالنص المسرحي؛ فها هي فاني برايس تنتظر خروج زوجها من السجن، في بيتها، لقد جاء اليوم الذي انتظرَتْه طويلًا، ثم تدخل في حالة من التذكُّر، إنها تتذكر حياتها هي، ثم دخول نيكي إليها؛ فقد بدأَت نشاطها في الاستعراضات المسرحية ببرودواي في الحرب العالمية الأولى، ثم تلتقي به، وتُحاول أن تغيِّر له حياته. وبعد أن يفوز بثروة من لعبة البوكر فإنه يصحبها في رحلة إلى أوروبا، فوق إحدى السفن التي بدت كأنها مصنوعة للعشاق، وبعد الزواج يشتري لها منزلًا فخمًا، تعيش فيه مع ابنتها، إلا أن الزوج العاشق لا يكُف عن ارتكاب الحماقات؛ فهو يفشل في عدة مشاريعَ تجارية، وينتقل للحياة في شقةٍ صغيرة. وتحاول زوجته أن تسانده ماليًّا، حتى لا يُسجَن، وحتى لا يتم إشهار إفلاسه، إلا أنه يتورط في فضيحة سندات، ويتم القبض عليه، ويُسجَن لمدة عام ونصف. وعندما تمُر هذه الفترة العصيبة، وفي ليلة عودته، تكون قد اتخذَت قرارها بالانفصال.

وتأتي أهمية الفيلم أنه يضم مجموعة من أغنيات فاني برايس التي يُحبها الأمريكيون كثيرًا، وإن كانت بصوت بربارا سترايسند، وهي أيضًا يهودية، مثل فاني برايس. ولعل هذه الفترة الذهبية قد شهدَت تحويل الكثير من مسرحيات برودواي الموسيقية إلى أفلامٍ ضخمة ناجحة، ومنها «صوت الموسيقى»، «قصة الحي الغربي»، و«سيدتي الجميلة». وقد غنَّت بربارا قرابة ست عشرة أغنية في الفيلم، وُزِّعَت من قبلُ في أسطواناتٍ أثناء عرض المسرحية.

ونحن هنا لن نتوقف عند ردود الأفعال التي صاحَبَت نشر صور لعمر الشريف مع بربارا في وضعٍ عاطفي. هذه الصور نشرَتها مجلات وصحفٌ مصرية عقب هزيمة يونيو، وتم النظر إلى عمر الشريف كأنه يتعاون مع العدو. ولعل ذلك كان أحد أسباب غضب القيادة السياسية عليه؛ فلم يدخل مصر لفترةٍ طويلة، علمًا بأنه تم تفضيل عمر الشريف ليقوم بهذا الدور عن نجومٍ مشاهير مثل مارلون براندو، وجريجوري بيك، ودافيد جانسن، وجيمس جارنر، وجاء في الإعلانات أن نجمة العام الأكثر شهرة هي بطلة الفيلم.

وقد تم النظر لسنواتٍ طويلة إلى بربارا سترايسند على أنها تقدم الصورة المثلى للمرأة اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد بدا ذلك واضحًا في فيلمها الأول «فتاة مرحة» لكن الفيلم لم يُشِر قط إلى ديانة نيكي أرنشتاين، وفي الغالب فهو لم يكن يهوديًّا. ومن هنا لم يكن كل الممثلين الذين رشِّحوا للدور من اليهود، ومنهم بالطبع عمر الشريف الذي دفع ثمن موقفه، من وقوف الكثير في بلده ضده. لكنه في هذه الفترة لم يكن قد قرَّر التوقف أو النظر حوله. فقط كان عليه أن يعمل، وبكثرة، داخل الولايات المتحدة وخارجها، وأن ينوِّع أدواره، وأن يعود عام ١٩٧٦م لتجسيد نفس الشخصية، لكن في دور مساعد، وذلك قياسًا إلى الدور الذي جسَّده جيمس كان، دور كاتب الأغاني الذي كتب الكثير من الأغنيات لفاني برايس ودخل حياتها، وصار زوجها الجديد.

أعتقد أن هربرت روس كان أكثر حرصًا على أن يتضمن فيلمه «سيدة مرحة» على أكبر قَدْر من الأغنيات التي أنشدَتها بربارا سترايسند من ناحية، والتي يرجع بعضها إلى فاني برايس نفسها.

تبدأ الأحداث بعد عودة سنوات من الانفصال بين فاني برايس، ونيكي؛ فها هي المطربة المشهورة قد وجدَت رجلًا جديدًا يكتُب لها ويُحبها، إنه مؤلف الأغنيات بيلي روز. وبدت أشبه بالمطربة بربارا سترايسند التي كانت بداياتها في الفيلم السابق، فأخذت تنمِّي من مواهبها، وترعاها، وتعمل في السينما، والغناء، كأنها توحَّدَت مع فاني برايس كي تعود إليها مجددًا، لتبدو في ألقٍ قريب. ولا شك أن وقوفها على خشبة المسرح تغنِّي وتتسلح بالحب يعكس مدى شجاعتها، ورغبتها في تقديم المزيد. وهي تفاجأ أن زوجها السابق، الذي كان قطعةً من روحها في الماضي، قد حضر الاستعراض الكبير الذي تقدِّمه باسم زوجها الجديد بيلي روز. إنها تمنحه درسًا فيما تفعله، وهي لا تُعيره الاهتمام القديم. إنها تُعطي روحها الجديدة إلى بيلي روز، كما أنها ترعى في كافة أحداث الفيلم الشاب بوبي مور الذي يعمل وصيفًا لها. إنه مخنث، وقريبٌ منها منذ طفولته، وهي تساعده دومًا.

وأعتقد أن الفيلم مكتوب من أجل المرأتَين معًا، أولًا كي تغنِّي باربرا سترايسند أكثر من أغنية في إطارٍ استعراضي، وبالطريقة التي تغنِّي وتتحرَّك بها خشبات على المسارح، وأيضًا من أجل تمجيد المطربة القديمة فاني برايس، التي لا يعرفها كثيرًا أبناء الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. ولا شك أن الحنين إلى القديم قد ساعد في هذا النجاح، وبعض هذه الأغنيات التي كتبها بيلي روز، كانت بمثابة ثنائيات (دويتو) غنائية، دون أي مَشاهد فيما بينها. وفي العلاقات العاطفية التي ربطَت بين فاني والرجال، فإنها تختار الزواج، وما يليه من تفانٍ؛ فالزوج يكتب كلمات الأغنية كأنه يبثها إلى امرأته، وهي بالتالي تردُّ عليه بطريقة غنائها؛ لذا فلعل العلاقة في الفيلم الثاني أكثر عمقا وإحساسًا؛ لأنه رجلٌ من أبناء قبيلتها الإبداعية، أما نيكي فلم يكن أكثر من تاجر، ومقامر، ومغامر. ويقول أحد مواقع الإنترنت حول الفرق بين عمر الشريف وجيمس كان إن هذا الأخير لم يهمَّه التعرُّف على ماضي زوجته، بقَدْر ما يهمه أن يدخل إلى حاضرها. أما عمر الشريف فقد بدت شخصية الزوج مليئة بالارتباك؛ فرغم كل ما حصل عليه إلا أنه يشعر أنه لم ينل شيئًا، ولا يشعر بالاكتفاء حتى يدخل السجن. أما روز فيتصرف على أساس أن امرأته مليئة بالثراء من خلال موهبتها. ويُقال إن هربرت روس قد قدَّم بعض الأغنيات، والاستعراضات التي تعود إلى فاني برايس، وبدت بلا جذور؛ حيث إنها قُدِّمَت بإيقاع السبعينيات أكثر من إيقاع زمن فاني برايس، التي قدَّمها الفيلم أيضًا في سنوات مجدها الفني.

على كل، فقد كانت المرأة هي محور الحدث، سواء وهي فتاة، أو وهي ليدي. وقد بدت بربارا بالغة المهارة، وهي تغنِّي بصوتها الذهبي وجسدها، لا يشاركها أحدٌ الغناء إلا قليلًا. وقد استحضر الفيلم لخيالاتها صورة حبيبها القديم، يخرج من الماضي، كي يُعيد تقبيلها. أما روز فإنه حاضر في حياتها حتى المشهد الأخير من الفيلم.

مايرلنج (أمير نمساوي)

أن يكون لعمر الشريف في هذا الفيلم، وجه الأمير النمساوي الوسيم رودلف النمساوي، وريث العرش في بلاده عام ١٨٨٠م، وهو شخصيةٌ حقيقية في التاريخ، فإن هذا يعني أن ملامح الممثل قد تناسبَت دومًا لترتدي أقنعة الرجل الغربي، في عصورٍ متعددة، وأنه من فيلم إلى آخر فإن الممثل قادر على ارتداء المزيد من الأقنعة، مع احتفاظه لنفسه بأن يكون وسيمًا. هو هنا صاحب شعر يميل إلى الاحمرار، مقصوص بشكلٍ ملحوظ على طريقة الأمراء، وله شاربٌ خفيف، لم يتخلَّ عنه من فيلم لآخر، لكنه كان يغيِّر قَصَّته بشكلٍ خفيف. أما الأمير الذي جسَّد شخصيته، فصوره موجودة في صفحات كتب التاريخ، تؤكِّد أنه صاحب مكانة بين الناس. وبالفعل فإن رودلف في الواقع والفيلم، قد عاش في الأماكن العامة يرتادها، خاصة مع حبيبته ماري فتسيرا؛ فكم شُوهد الاثنان يجلسان في هذه الأماكن يتبادلان الحديث كأنهما من عامة الشعب، ودارت قصة الحب بينهما.

اسمه رودلف فرانسوا شارل جوزيف، مولود في لوكسمبورج، في عام ١٨٥٨م. وانتحر بالمسدس مع حبيبته في بيتٍ صغير في مايرلنج مع بداية عام ١٨٨٩م، بعد أن تجاوز الثلاثين. هو أرشيدوق النمسا، ووريث العرش، مات مع حبيبته في ظروفٍ غامضة في بيتٍ ريفي. وقد فسَّر الفيلم الذي أخرجه يانج، وشارك في كتابته، أنه اتفق مع حبيبته أن يطلق الرصاص على رأسها، ثم وبكل قوة أعصاب أطلق الرصاص على نفسه. ودون أن تكشف لنا الكاميرا وجه أيٍّ من العاشقَين، فإن أصابع كلٍّ منهما تتماسك مع أصابع الآخر، وراء ستائرَ بدت كأنها تؤكِّد أن الموت لم يُسفِر عن بقعة دمٍ واحدة، رغم إطلاق الرصاص.

في هذا الفيلم، ومع هذه النهاية، بدا تيرنس يانج، كأنه يغيِّر من مسيرته، بعد نجاحه في إخراج ثلاثة أفلام من سلسلة جيمس بوند، هي الأكثر أهمية في تاريخ السلسلة، ثم أخرج فيلمًا باسم «الصليب الثلاثي» عن أحد جواسيس الحرب العالمية الثانية، قبل أن يتبنى إخراج «مايرلنج» بكل ما به من قصة حب، تدور في أجواء من الرومانسية، وفي قصور حكام النمسا، وبين أبوَين متفاهمَين بشكلٍ ملحوظ، وهو وحيدهما الذي انتحر لأسبابٍ غامضة.

figure

وتقول وثائق التاريخ إن رودلف لم يكن يتكلم قط إلى أبيه، إلا أننا رأيناه في الفيلم يقدِّم لأبوَيه حبيبته ماري في حفلٍ عام، كما ذهبت أمه إلى حبيبة ابنها لزيارتها في قصرها، وكانت بالغة المودة معها. كما تقول كتب التاريخ إن رودلف كانت لديه سياسته الليبرالية ضد المعارضين المتحفظين لأبيه، وإن الوسيلة الوحيدة التي كان يعبِّر بها عن آرائه هي كتابة مقالات حول الحياة اليومية في فيينا، وكان ينشرها بأسماءٍ مستعارة. ورغم معارضته لأبيه فإنه لم يشأ أبدًا في التعاون مع خصومه من الألمان. وكل هذه الأشياء وغيرها لم يلتفت إليها الفيلم، لكنه توقف عند العلاقة الحميمة بأمه. ولم يُشِر الفيلم إلى الخلاف حول أن الشاب لم يصبح وريثًا للعرش بشكلٍ حقيقي عندما بلغ الثلاثين. أما أبوه فقد جلس على كرسي الحكم وهو في الثامنة عشرة، وقد تزوَّج وهو في سن الحادية والعشرين وبدت علاقته بزوجته في الفيلم بالغة البرود؛ فهو يرقص في حفلٍ عام، في حضور زوجته التي كانت تجلس على يسار حميها، الذي طلب منها أن تبتسم. كما أن رودلف يطلب من ماري أن تبتسم، ولو بشكلٍ مصطنع، كي يبدو الأمر وكأنه طبيعي.

وحسب الفيلم أيضًا والمراجع التاريخية، فإن رودلف قد اتخذ لنفسه عشيقاتٍ عديدة، أثناء زواجه العاشر، وقد تفهَّمَت زوجته هذه المشاعر، واحتفظَت بكونها الزوجة. وقد رأيناه في الفيلم في مخدع حسناءَ جميلة، مثلما سيجمعه فراشٌ آخر مع حبيبته ماري فتسيرا. ويُقال إنه كان يتعاطى المورفين والكوكايين بالإضافة إلى الكحول. أما الفيلم فقد حاول تنقية الشاب من هذه الأشياء، كي تكون صورة العشق مثالية. وتقول المراجع أيضًا إنه في صيف عام ١٨٨٨م اقترح على إحدى عشيقاته واسمها ميستي كاسبار بأن تنتحر معه، إلا أنها رفضَت. وفيما بعدُ قابل ماري، التي كانت أصغر سنًّا، وهي ابنة البارونة هيلين فتسيرا، وقد ارتبَطَت به، وعندما انتحرا كانت حاملًا منه في الشهر الرابع.

أما سيناريو الفيلم فقد توقَّف أكثر عند رودلف في فترة علاقته القصيرة بماري؛ حيث إنهما لم يلتقيا سوى في أغسطس ١٨٨٨م، وقد جاء حادث الانتحار في شهر يناير؛ أي بعد خمسة أشهر على الأقل من بدء العلاقة، بما يعني أن الحمل قد جاء من أول ليلة. صوَّر الفيلم هذه الفترة القصيرة، كأنها كل السيرة الحياتية لرودلف، وهو الرجل الذي تصرَّف دومًا على أنه قصير العمر، فسعى للاغتراف من الحسناوات. ويصوِّره الفيلم على أنه ترك كل النساء وصار فقط لامرأةٍ واحدة هي ماري، فشاهدناه معها في أماكنَ عديدة، وقد حضَرَت إلى قصر الإمبراطور أكثر من مرة، سواء مدعوة إلى حفل، أو لمقابلة الإمبراطورة الأم، كما اختار لها المسكن الريفي الذي أقاما فيه.

ومنذ اللحظة الأولى التي تقابلا فيها، في الغابة، والعلاقة بينهما حسية، إلا أن السيناريو أضفى عليها لمحةً رومانسية، خاصة مع ما تتسم به كاترين دونوف من براءة وجه، وقدراتٍ تمثيليةٍ عالية. وقد عاش الاثنان وسط الناس يعلنان حبهما، فيجلسان في أحد المطاعم، ويطلبان مشاريبَ ساخنةً عادية، وليست خمورًا، كما تقول كتب التاريخ. وقد التصَقَت به ماري طوال هذه الفترة، فصارت كظله، وهي تعترف إلى وصيفتها أنها على علاقةٍ سرية مع شخص، ثم تُخفي اسمه. وبالضغط عليها، فإنها تبوح باسمه، ولكنها ترفض كل النصائح من أمها، بأنه عاشقٌ متقلب المزاج والمشاعر. وهو يتتبَّعها إلى حيث تذهب، يذهب إليها في الحديقة المفتوحة، وهي تمارس الرسم، ويقتل التردُّد بداخلها. وهناك مَشاهدُ شهيرة تجمعهما في الفراش، مثلما رأيناه مع نساءٍ أخريات، لكنه هذه المرة يردِّد كلماتٍ بالغة الرقة، ويسمع منها ما يهواه، وفوق الفراش فإنه يحدِّثها عن أهمية ضوء الشموع الخافت في المكان.

وماري تُدرِك في بعض الأحيان، ما يعانيه حبيبها من ضغوطٍ اجتماعيةٍ وسياسية، وتتفهَّم طلباته، وتُعلِن له أنها ستجعله سعيدًا. أما في اللقاء الذي جمعَها بالإمبراطورة، فإنها تُبلغُها أنها في العشرين من العمر. وتبدو آفا جاردنر في هذا المشهد من أجمل الأمهات على الشاشة وهي تتحدث عن سعادة ابنها.

وتبدو حقيقة القسوة في أعماق رودلف، عندما يُصِر أن يراقص حبيبته أمام زوجته التي تقاوم الانهيار، وأمام والده الذي يتصرَّف على أنه لا يأبه بغضبه. ويبدو عمر الشريف في هذا المشهد راقصًا بارعًا، استوعب تمامًا ثقافات البلاد التي يعمل فيها.

لا شك أن هذا النوع من القصص الملكية، ومع هذا الانتحار الغامض صالحٌ دومًا للقصص السينمائية. ومن الواضح أن هذا النوع من الثقافة يعكس سلوك الكثير من الشباب والمثقفين الألمان والأوروبيين في تلك الفترة؛ فهناك شاعرٌ ألمانيٌّ شاب أقنع حبيبته بالكلام العادي بوجوب أن يموتا معًا، وطاوعَته، ومات الاثنان، بطريقةٍ شاعريةٍ بالغة الرومانسية. أما رودلف فقد رأى أن يفعل ذلك بالرصاص. وكما أشرنا، فلم تكن هذه المحاولة الأولى، ولا شك أن العمدية لأكثر من مرة تؤكد أنها ثقافة وطن، في فترةٍ بعينها.

تشي (الثائر الكئيب)

دعونا نتحدث عن فيلم «روميل ثعلب الصحراء»، الذي قام ببطولته جيمس ماسون عام ١٩٥٥م، حول القائد العسكري النازي روميل، الذي انهزم في صحراء العلمين أثناء الحرب العالمية الثانية. في هذا الفيلم اختارت هوليوود أن تقدِّم إلينا وجه روميل الكئيب، المنهزم، الذي عارض هتلر، وعاش السنوات الأخيرة من حياته في قبوٍ مظلم.

هكذا تفعل السينما الأمريكية مع أعداء بلادها، تشوِّه صورهم مهما كانت جميلة، وتقلب الحقائق، وتغيِّر الواقع. والسينما الأمريكية تفعل ذلك بوقاحةٍ شديدة، ولعلها أخطأَت كل الخطأ حين فعلَت ذلك مع جيفارا، في فيلم «تشي»، إخراج ريتشارد فلايشر، وهو واحدٌ من أبرز صنَّاع الأفلام فيها. والغريب أنه قد تم صنع الفيلم بعد فترةٍ قصيرة من وفاة المناضل السياسي تشي جيفارا (١٩٢٨–١٩٦٧م)، وهو الذي وجَّه كل أسلحته ضد الولايات المتحدة، فقتلَته، وانتقمَت منه بفيلمَين. سبقَته سمعتُه في كل مكان، لدرجة أن عمر الشريف نفسه، قد أعلن أكثر من مرة عن سخطه على قيامه بهذا الدور، وكم قال في لقاءاته إنه طلب من صُناع الفيلم ألا يُسيئوا إلى جيفارا. وهل كان يتصوَّر الرجل أن الأمريكيين سيرصُدون تكاليف الفيلم من أجل تلميع عيون الرجل؟ إنها السياسة القَذِرة حين تُعبِّر عنها الشاشة.

figure

كان جيفارا، المولود في الأرجنتين، سافَر عندما كان طالبًا في كلية الطب بجامعة بيونس أيرس، الذي تخرَّج فيها عام ١٩٥٣م، إلى جميع أنحاء أمريكا اللاتينية مع صديقٍ له. هذه الرحلة كشفَت له الكثير عن وحدة القارة اللاتينية، وأحسَّ كم أن الإمبرياليين يظلمون المزارعين الفقراء في بلاده، ورأى أن العلاج الوحيد هو الثورة العالمية، وراح يشارك في إصلاحاتٍ اجتماعيةٍ عديدة في بلادٍ منها جواتيمالا. كما التقى بكاسترو وهو يستعد لدخول المكسيك، وكان في أمسِّ الحاجة إليه كطبيب، من أجل الإطاحة بالنظام الديكتاتوري الذي تدعمه الولايات المتحدة. وقد تولى مناصبَ رئيسيةً كوزيرٍ في حكومات كاسترو، وراح يُعيد النظر في فرق الإعدام على المُدانين بجرائم الحرب خلال المحاكم الثورية، وأسَّس قوانين الإصلاح الزراعي، ثم ترك كوبا إلى بلادٍ أخرى، لينقل إليها الثورة ضد الاستخبارات الأمريكية، التي قبضَت عليه فيما بعدُ وأعدَمَته.

والطريف أن مجلة «تايم» الأمريكية اختارَتْه من ضمن قائمة المائة شخصٍ الأكثر تأثيرًا في القرن العشرين.

قال عمر الشريف بالحرف الواحد إنه زعل جدًّا أن «هذا الفيلم شوَّه شخصيةً مهمة جدًّا في الاشتراكية والشيوعية، وأن الفيلم صُنع من ناس فاشيست أمريكان؛ حيث إن اﻟ سي آي إيه هي التي أنتجَت الفيلم. أنا لم أكن أعرف، لم أكن أدري، كان شَرْطي معهم أن هذا الفيلم لا يُسيء إلى سمعة تشي جيفارا.»

بداية، وفي أحد مشاهد الفيلم، تأتي الاستخبارات الأمريكية برجلٍ من عامة الشعب الكوبي، وفي حضور جيفارا المقبوض عليه، يقوم الضابط الأمريكي بإخبار المواطن الكوبي أن هذا الرجل الكث اللحية يدَّعي أنه يدافع عنه: هذا الرجل جاء ليُحرِّرك. وبكل بساطة يردُّ المواطن: ليحرِّرني، من ماذا؟ لم يسألني أحدٌ ماذا أريد. وكل ما يفعله الثائر أن يتنهَّد، ثم يُسنِد رأسه إلى الجدار من خلفه؛ ما يعبِّر أن كل هذه الحروب، والنضال كان من اللاجدوى وإليها.

هناك فارقٌ واضح بين الثائر والقاتل؛ ففي الفيلم، فإن القتل بدمٍ بارد هو أسهل شيءٍ يفعله جيفارا، خاصة مع أصدقائه. إنه يقتُل بلا محاكمات. كل ما جمع ما بين أرنستو والممثل، هو الغَليون، واللحية والشعر الطويل، والملابس. لكن تشي اللامع العينَين بوجه عمر الشريف، لا يعرف الرحمة، يدَّعي الشجاعة، ولا يتَّسم بها. كما صوَّره على أنه مندفع، بالغ العصبية والدهاء، يريد أن يحقِّق أهدافه الخاصة بالثورة.

توقَّف الفيلم عند الصداقة التي ربطَت بين كاسترو وجيفارا، وهو الذي عيَّنه وزيرًا في أكثر من وزارة. كما يركِّز الفيلم على أزمة الصواريخ السوفييتية التي زُرعَت في خليج الخنازير، وأثارت مشكلةً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وكادت حربٌ عالميةٌ ثالثة أن تقع لولا الموقف الهادئ من الرئيس جون كيندي. وإزاء هذا الأمر فإن جيفارا قرَّر أن يتخلى عن صديقه، وأعلن أن كاسترو كان مجرد أداةٍ بين يدَي الاتحاد السوفييتي، وهو الذي كان يَعِد بالانتقام من الإمبريالية الأمريكية. وانطلق في أدغال أمريكا اللاتينية يساند الحركات التحررية، من أجل الحد من الهيمنة الأمريكية في جميع أنحاء العالم. وقد دخل إلى بوليفيا من أجل القتال ضد الجيش الذي تسانده الاستخبارات الأمريكية، وهناك تم القبض عليه، وقد بدا ضعيفًا رخوًا وهو يواجه الموت. ولم يكن في الفيلم، سوى ثائرٍ بلا سبب، وقد أثارت هذه الصورة الكثير من السخط على الفيلم، كما أثَّرَت بشكلٍ سلبي على صورة عمر الشريف السينمائية، وظل حتى الآن يدفع الثمن، باعتبار أن وجه جيفارا كان من أبرز ما قدَّمه عمر الشريف مع دكتور زيفاجو، وآخرين.

يُذكَر أن السينما الأمريكية قامت مرةً أخرى عام ٢٠٠٨م، بإنتاج فيلمٍ ضخم باسم «تشي» حول جيفارا، إخراج ستيفن سودربرغ، بالاشتراك مع فرنسا وإسبانيا، مدة عرضه أكثر من أربع ساعات، عُرض في مهرجان كان في العام نفسه.

اللص والثعلب (مفتش شرطة)

في الليل، مجموعة من اللصوص، منهم آزاد، يقتحمون بيتًا ويكمِّمون صاحب المنزل، قبل أن يدخل آزاد البيت حاملًا حقيبة، إنهم ثلاثة لصوص، يدخلون البيت لعملية سرقةٍ مدبرة. من الواضح أن آزاد لصٌّ مدرَّب ومجهَّز من خلال ما لديه من أجهزةٍ متطوِّرة في الحقيبة، لحظات من التوتر، يحاول صاحب البيت أن يفعل شيئًا. في الخارج الضابط زكريا يلفت انتباهَه الصوت، فينزل من سيارته، ويتحرى الأمر، كل هذه الحركات توتر، دون أن يُحدث شيئًا. ويتمكَّن اللصوص من فتح الخزانة، بها حقيبة مجوهرات، ويتركون حقيبة النقود.

في اليوم التالي في الميناء، يدخل اللصوص إلى أعماق إحدى السفن لإخفاء الحقيبة في مكانٍ ما. يفترق اللصوص على موعد، وينزلون فندقًا فخمًا. في الميناء يودِّع آزاد حبيبته على أمل اللقاء، وينطلق في الشارع متهورًا، تطارده سيارةٌ أخرى، وتستمر المطاردة في أنحاءٍ كثيرة من الميناء، والذي يطارده هو الضابط، الذي تحطَّمَت سيارته أيضًا أثناء المطاردات. يهتم زكريا بالأمر، باعتباره يعمل لدى مؤسسة للتأمين. يقاول زكريا أصحاب الشركة بشأن الزمرُّد المسروق، يعرضون عليه عمولةً ضخمة لكنه يطمع في المزيد.

figure

في المساء يتردَّد آزاد على الملهى الليلي بحثًا عن حبيبته، بينما الشرطي يُطارِد اللصَّين بحثًا عن الزمرُّد، ويهدِّدهما بالمسدس، يُطلِق النار على أحدهما ويسأل الثاني عن مكان آزاد، وسرعان ما يذهب إليه، وتبدأ مواجهة الحرامي مع الضابط، كلٌّ منهما متماسك، يتناولان الطعام كأنهما صديقان لدودان.

يذهب إليه في مقَره، بدون سلاح، يستكمل الاثنان الحوار، يُشهِر آزاد المسدس على خصمه، ويتكلم كثيرًا بسخريةٍ عما ينتظره. في هذا الفيلم يبدو عمر الشريف وهو يُكسِب شخصية الضابط الشرير كل ملامح الحذَر والذكاء؛ فهو يطلب من آزاد أن يعطيه نصف قيمة الزمرُّد، ويخبره أنه سوف يقوم بالقبض عليه، ولأن كلًّا منهما بالغُ الذكاء، فلا يُوجد منتصر. وفي هذا اللقاء سرعان ما ينضَم إليهما اللص الثاني، وتبدأ عملية التهديد بالقتل على طريقة الروليت الروسي، رصاصةٌ واحدة في المسدس.

يبدو آزاد أكثر مهارةً في القتال؛ فسرعان ما يتغلب على خصمه. نحن أمام فيلم يعتمد على مطاردة السيارات داخل شوارع المدن العصرية، من أجل تصوير مهارة جان بول بلموندو في الهرب؛ فهو يتمكَّن وحده من الإفلات من عشرات سيارات الشرطة، قبل أن يدخل زكريا مدينة الملاهي للبحث عنه. وتصير المطاردة بين ضابط شرطة يمتطي حصانًا، يبحث عن مختفٍ في المكان المفتوح على الأفق، ويحذِّره أن النيران ستنطلق نحوه من كل الاتجاهات، ويكون الشاب قد اندَس في إحدى الشاحنات، دون أن يلحظه أحد. وهنا تبدو مهارة فرنوي في تصوير مشاهد الحركة، مثل سقوط آزاد من فوق تلة الرمال مع قِطع الحجارة المتعدِّدة الأحجام دون أن يُصاب بأي ألم. هي أفلام مصنوعة لبلموند ومهارته أكثر من عمر الشريف، الذي كان يبدو جيدًا، وحيويًّا أيضًا في مثل هذه الأدوار؛ فنحن أمام فيلم حركة في المقام الأول. ولأن بلموندو ماهرٌ في الهروب من مطاردات السيارات، فإنه يتمكَّن من التغلب على مقاتلٍ بارع، فيما يُسمى بالمعركة البلاستيكية، التي يتقاتل فيها أشخاصٌ بمهارة دون إصابة أحدهم بخدش. أما زكريا فيبدو لصًّا محترفًا، لكنه لا يُجيد هذا الفن من القتال، وكل ما يفعله أن يطارد اللص إلى حيث يُوجد الزمرُّد، إلا أنه قبل الحصول عليه، تنهار أطنان القمح السائل عليه، ويُدفَن أسفلها دون أن يكسب شيئًا بالمرة. وكم حاول زكريا الإفلات، لكنه يُدفَن تمامًا في أعماق القمح، قبل أن يهرُب آزاد بما سرَق.

الوادي الأخير (المدرس)

في تلك السنوات، صار على عمر الشريف أن ينوِّع من أدواره، وقد اختارت له شركات الإنتاج وجوهًا لم يسبق أن قام بتمثيلها، ومنها دور المربي فوجل الذي كرَّس حياته للتعليم، وكم عانى من الحرب والحروب، ودافع عن السلام. وفي المقابل، كان هناك مايكل كين، المتألق، ليقوم بدور قائد المرتزقة، الذي قام بالاستيلاء على القرية التي يسكنها فوجل. في المشاهد الأولى من الفيلم تبدو القيامة وكأنها قامت بكل ما بها من بشاعة، ودموية. وقسوة. وهذا هو المواطن فوجل، يهرب بكل ما لديه من قوة من الجنود الذين هاجموا قريته الألمانية على حين غفلة في خريف عام ١٦٣٧م. تدور الأحداث في منطقة بافاريا، الناس آمنون، لكنها الغزوات والحروب التي تحدُث من وقتٍ لآخر. وهذا الرجل الذي لا يُحب الحرب، ولا يُجيد القتال، لا يُدافع عن نفسه، ولا عن الآخرين؛ حيث قام الغُزاة بالقتل، والذبح، واغتصاب النساء، وإشعال الحرائق. وماذا يمكن أن يفعل مدرسٌ يهتم بالثقافة، والفكر، أمام غزاةٍ مرتزقة؟

figure

فوجل هنان مثقفٌ ألماني، ومعلم، ينتمي إلى منتصف القرن السابع عشر. ولا شك أن المخرج الذي اختار عمر الشريف ليكسُوَه بهذا الوجه، قرأ إلى أي حدٍّ يتمتع وجه الممثل بالمرونة، بعد كافة الأدوار التي أدَّاها طوال عشر سنوات في السينما العالمية، ومدى قدرة الفنان على أداء هذه الشخصية؛ فهو شاب لديه القدرة على القيام بأعمال الفروسية، لكنه أبدًا ليس مقاتلًا، ولا دمويًّا، وسيظل هكذا طوال الأحداث. أما الكابتن، فهو مليء بالقسوة، والعناد.

يُقال عن هذه الفترة من تاريخ ألمانيا إنها شهدَت ما يُسمى بحرب الثلاثين عامًا. أما المرتزقة الذين يرأسهم الكابتن برنار فهم مدفوعون من فرنسا ضد المناضل البافاري جان دو ورث؛ حيث يعيشون تحت نفس السموات. وهنا تبدو المواجهة بين فوجل الذي يودُّ القضاء على الأخطار، ومن بينها الطاعون والمجاعة، وبين الكابتن الذي يودُّ سيادة البربرية.

يبدو الوادي وقد خوى من سكانه، ويشعُر فوجل أن العنف يمكنه أن يأتي على المزيد من الضحايا، ويريد إنقاذ ما يمكنه من أرواح، ويحاول إقناع الكابتن أن يُوقِف رجاله عن العنف، لكن بدلًا من أن يعاقب الكابتن جنوده، فإنه يهنِّئهم على ما اقترفوه. ويحاول فوجل من جديد، ويؤكد للكابتن، وهذا هو اسمه، أنه كمفكِّر ربما يفيده. وبالفعل ففيما بعدُ يُضطَر الكابتن أن يعرف معلومات تساعده في تخفيف ويلات الشتاء القارس على رجاله، ويتبع النصيحة. وسرعان ما يتحول المعلم إلى مستشار لدى الضابط، خاصةً ما يتعلق بالرجل الثري جروبر الذي يدير شئون الناس في الوادي، ويعيش في الوادي، مع الأب سباستيان. هذا الرجل الذي عليه مواجهة إلحاد الكابتن، وأيضًا الموقف البروتستنتي لجنوده. وعندما تنعزل السهول عن بعضها بواسطة الجليد، فإن المرتزقة يضمنون لأنفسهم الطعام والمسكن. ويتعرَّف الكابتن على أريكا، زوجة جروبر، وتصبح عشيقته، وتترك زوجها؛ وعليه فإن ابنتها إنج تجد نفسها في موقفٍ بالغ الحرج؛ حيث إن عليها الزواج من أحد شباب القرية. وتزداد الأمور تفاقمًا عندما تتعرَّض الفتاة للهجوم من أحد الجنود المرتزقة، وذلك رغم قرار الكابتن بمنع التعرُّض للبنات الريفيات، وهنا يتدخل فوجل وينقذ الفتاة. هذا الحدث يصيب المكان بالمشاكل؛ فالمرتزق لا يريد أن يترك ثأره، حتى لو منَعه رئيسه من ذلك، فيهرب، ويعود بعد أيام، ومعه المزيد من المرتزقة جاءوا من الخارج للهجوم على القرية. وهنا ينحاز الكابتن لأهل القرية ضد المرتزقة، هو يشعر أنهم مسئولون منه.

يشعُر الكابتن أنه يجب مجابهة الظروف القاسية في القرية، ابتداءً بالمجاعة إلى الأوبئة، خاصةً في الشتاء، ولكن عندما يأتي الربيع، يستعد المكان لاستقبال ممثلين جُدد. ويقرِّر الكابتن الذهاب إلى الحرب على أن يعود مرةً أخرى من أجل عشيقته أريكا، ويُوكل فوجل أن يكون مسئولًا عن القرية، ويترك له بعض الرجال. ويقبل فوجل هذا التحدي، ويكون همه هو العثور على زوج للفتاة إنج.

إلا أنه بعد سفر المرتزقة مع قائدهم، لم يكن الأمر سهلًا أمام فوجل؛ فها هو الراهب يُصدِر أمره بحرق أريكا حية. ويحاول فوجل بكل ما لديه من سلطة عدم تنفيذ هذا الحكم.

يعلم فوجل أن أحد الشباب قد رحل من أجل قتل الكابتن. إنه الفتى الذي تُحبه إنج، ولا تريد أن تخسره مهما كانت الأسباب، وفي الغابة يموت. ويرجع الكابتن إلى القرية مريضًا، ويبحث عن أريكا، ويحاول الجميع إقناعه، خاصة فوجل، أنها على قيد الحياة. ويبدأ الكابتن في فقدان بصره، وتعود الحياة المدنية ببطء إلى الوادي، وتكون أريكا قد دفعَت حياتها ثمنًا لخيانتها لزوجها. ويعود القريون إلى حيواتهم العادية في الوقت الذي يقرِّر فيه الكابتن أن يترك المكان وحيدًا، بعد أن تغيَّر كثيرًا، وترك الوادي في سلام يديره فوجل على طريقته.

لسنا أمام واحدٍ من أشهر أدوار عمر الشريف في السينما الأوروبية، لكنه لا شك دورٌ كشف قدرته على التنوُّع. وأيضًا كان مطلوبًا للعمل من مخرجين كانوا يعملون في تلك السنوات في أفلامٍ مهمة؛ فكلافيل مؤلف، ومخرج، وهو الذي كتب رواية «إلى أستاذي مع حبي».

الفرسان (الفارس أوراز)

تدور أحداث فيلم «الفرسان» لجون فرانكهايمر في أفغانستان، وهو مأخوذ عن رواية للكاتب الفرنسي جوزيف كيسل، الذي تحوَّلَت رواياتٌ كثيرة له إلى أفلام في السينما الأمريكية. وقد كان كاتبًا مطلوبًا ومترجمًا إلى العديد من اللغات؛ حيث عكسَت رواياته خبراته في الشعوب، والفيافي، والأدغال. وهذه الرواية، وأيضًا الفيلم، تتكلم عن نوع من سباق الخيل، تتوارثه القبائل بعضُها عن بعض، ويحوز المنتصر فيها على مكانة بين بقية القبائل؛ لذا فإن الآباء يسعَون بكل ما لديهم إلى أن يتعلم الأبناء فنون ركوب الخيل، والانطلاق وسط حشدٍ هائل من الخيول التي تمثِّل المشاركين من القبائل الأخرى. ويُسمَّى السباق بوزكاش؛ حيث إن اللعبة تمثِّل مصير القبائل ووجدانها. وبطل هذه الرواية يُدعى تورسن من محافظة ميمنة. إنه بطل سباقٍ منتصر دومًا. وعندما يكبر في السن، ويتعرض لمحنة، يصبح كل همه هو تعليم ابنه أوراز كيف يشترك في السباق القادم، منتقلًا به من أكثر من مكان، بمساعدة صديقه المدعو موفي.

الذي حدث أن الأب أصيب بكسر في ساقه، ويدخل إلى المستشفى. لكن أمام مهمته العائلية والإنسانية، فإنه يهرب من المستشفى برفقة موفي، ويلف ساقه بجبسٍ اصطناعي، ويهرب إلى كابول من أجل الاعتناء بابنه.

تبدأ رحلةٌ طويلة للعودة إلى ميمنة، ووسط أنباء عن الخسارة في السباق المنتظر، فإن الأب يزداد إصرارًا. ووسط مخاطر القبض عليه لعلاجه، والمضاعفات (غرغرينة) التي تسيطر على ساقه، فإن الابن أوراز (عمر الشريف) يبدأ في التعليم. إنه أمام فرسٍ قوي، عنيد، ينطلق وسط السهول دون أن يلهث، لا يعرف التوقف. والأب رجل لا يعرف الرحمة، لا على ابنه، ولا على ساقه، إنه يعرف شيئًا واحدًا، أن يسيطر ابنه على الحصان. وتستمر رحلة التعلم في الجبال، ويتسلق الشاب المنحدرات، ويمُرون بالمخيمات ويلقى الإعجاب من النساء. ويعرف الابن الحب، وسط كل هذه الأجواء من الخشونة، وفي مُناخاتٍ ساخنةٍ متقلبة.

figure

ويُواجِه الحصان خطر الموت، وتُصبِح هناك مهمَّة تدبير حصانٍ جديد. إنها لعبةٌ خطرة تتدفق فيها الأموال لدى المتنافسين، وهناك أحصنةٌ عديدة تُواجِه نفس المصير من القبائل الأخرى. ويُبدل موفي مهمته بكل إخلاص، بينما تظهر مؤامراتٌ خفية للتخلص من الجياد المشاركة في السباق عن طريق تسميمها، بينما يُعاني الأب من ساقه، ورائحتِها النتنة، التي تجذب إليه الكلاب الضالة وتهاجمه. ويُحس الرجل أنه لن يموت في بلدته، بل بعيدًا عنها. ويقدِّم له ابنه الأفيون لتخفيف معاناته، بينما الكلاب لا تكف عن الهجوم، وتتم مقاومتهم بالأحجار المقذوفة، والسياط الملتهبة. وتموت بعض الكلاب، ويغادر البعض الآخر، لكن لا مفر من الموت، حتى وإن وصلوا إلى منطقة السباق بدون مال، أو حصان. ووسط هذه الأجواء يوافق الأب أن يتم قطع ساقه.

ويُفاجأ الأب بعودة ابنه إليه، يردِّد له أنْ لا انتصار في أي سباقٍ يمكن أن يساوي عودتك. ويقرِّر الأب نفسه أن يشترك في السباق، حتى وإن فعل ذلك فوق عكازَين، ويشترك بالفعل. ووسط ظروف صعبة يحقِّق حُلمه الذي تصوَّر أنه أمر من دروب المستحيل.

جون فرانكنهايمر الذي اختار عمر الشريف لهذا الدور هو المخرج الذي قدَّم أفلامًا أخرى ناجحة، منها «القطار»، و«طائر الكاتراز» و«سبعة أيام من مايو»؛ ما يعني المستوى السينمائي للأفلام التي عمل بها الممثل في تلك الحقبة.

ذهب ماكنا (كاوبوي)

تغيَّر شكل أفلام الوسترن الأمريكي، بعد سنوات المجد، ثم الاضمحلال التي عرفَتها السينما الإيطالية؛ فقد اختارت هذه السينما أبطالها الجدد من بين ممثلين أمريكيين، أمثال كلينت استوود، ولي فان كليف، وإيلي والاش، الذين حاولَت هوليوود مع نهاية عقد الستينيات من القرن الماضي في إعادتهم مرةً أخرى لعمل أفلام وسترن أمريكية على طريقة «اشنقوهم عاليًا». وكم تمنى المخرج القديم جاك لي تومسون أن يعيد مجد هذه الأفلام في بلاده، وهو الذي صنع الفيلم الحربي «مدافع نافاروف»، إلا أنه فوجئ بالرفض التام من كلينت استوود أن يقوم ببطولة فيلمه «ذهب ماكنا»، فاضطُر أن يُسنِد البطولة إلى جريجوري بيك، وهو واحد من أبرز مَن ظهروا في هذا النوع من الأفلام في الأربعينيات والخمسينيات. لكن الممثل كان قد بدأ في تجاوز المرحلة العمرية، للمطاردات والخفة المطلوبة في هذا الفيلم؛ ولذا فسوف نرى أغلب مَشاهد المطاردات مصوَّرة عن طريق الشاشة الخلفية، التي بدت قديمةً ومستهلَكة. واختار في أدوارٍ صغيرة أشهر مَن أدَّوا أدوار الغرب في سنوات شبابهم، ومنهم إدوارد ج. روبنسون، لي. ج. كوب، وإيلي والاش، وبرجيت ميرديث، وآخرين.

إلا أن اختيار عمر الشريف بدا مناسبًا للغاية في هذا الفيلم، وهو يقوم بدور الباحث عن الذهب كلورادو، من خلال موضوعٍ تقليدي حول الصراع الأزلي بين الرجل الأبيض، والهنود الحمر، والبحث عن الذهب الموجود في أحد الوديان، والذي يثير طمع العديد من الأطراف، منهم ماكنا، وحبيبته إنجا، وصديقه كلورادو، الذي لا نعرف متى يكون عدوًّا، ومتى يصبح صديقًا، ثم مجموعة من العواجيز الباحثين دومًا عن الذهب، الذين ذكرنا أسماء من جسَّدوا أدوارهم؛ وبالتالي فسوف نرى فيلمًا غير مترابط، يخلو من سحر المتابعة، خاصةً ما كان يتمتع به جريجوري بك.

والحقيقة أن تلك الفرصة قد جاءت مع هوى عمر الشريف؛ فهو بالكاد الشاب الوحيد في الفيلم، وهو بالغ المهارة في قيادة الجياد، لا يحتاج إلى دوبلير. كما أن الفرصة قد واتَته ليرتدي قناع وجهٍ أمريكي، وجه الوسترن، وهو الذي لم يُسنَد إليه مثل هذا الدور من قبلُ. وبدت ملامحه هنا أقرب إلى الأمير رودريج، في «أكثر من معجزة»، نفس الشَّعر البني، والملابس الجلدية، والشارب الخفيف، وعليه في الوقت نفسه أن يُجيد إشهار مسدسه، لكنه لن يستخدمه أبدًا في القتال، حتى ولو من أجل الحصول على الذهب. ولا بد أنك سوف تندهش أن ترى كلورادو يبقى على قيد الحياة، في نهاية الفيلم، وقد خرج من كل هذا الانتظار، والمغامرات بدون قطعةٍ واحدة من الذهب، بينما امتلأَت حقيبة «ماكنا» بالكثير من الذهب بعد أن انهار الوادي بأكمله، في مشهدٍ مليء بالاصطناع.

figure

نقول إن الموضوع قديم؛ فكم رأينا مثل هذه الأجواء في أفلام جون فورد، وأقرانه،. إنهم الباحثون عن الذهب، مغامرات للحصول على الذهب من منابعه. وحسب الفيلم، فإن هناك ثروةً هائلة من الذهب مخفاةً وراء الجبال، وأسفل الممرات، ويجب الوصول إلى هناك من خلال خريطةٍ امتلكها رجلٌ طوال حياته، ولمَّا صار عجوزًا دفع بها إلى المارشال ماكنا ليُعطي شرعية للبحث عن الذهب، وأن يصل إلى الجيش، في الوقت الذي يسعى فيه الهنود الحمر للوصول إلى الخريطة. وسوف نرى أن الذهب بمثابة منطقةٍ واسعة صخورها من الذهب الخالص، أو ترابه، وأنه بمجرد وصول الإنسان إلى هناك، انهارت الجبال، وسقطَت الحجارة الذهبية، وتحوَّل المكان إلى أطلالٍ لا تراها العين. لقد مات الرجل الهندي صاحب الخريطة، وصار على ماكنا الوصول إلى الهدف. وقد أعطى الفيلم للهنود الحق في البحث عن الذهب واقتسامه، لكن، كما سنرى، فإن أحدًا من كل الأطراف لن يحصل عليه، كأنه سراب ووهم لا أكثر. وسرعان ما يشترك في المغامرة الشاب المكسيكي كلورادو، الخارج عن القانون. إنه ينشُد الخريطة أيضًا ويعرف كيفية الوصول إليه، وكلورادو يسرق الجياد، والبغال، والطعام من أجل الذهاب إلى المغامرة، وقد قام بقتل القاضي الذي كان يحاكمه، وقام باختطاف ابنته إنجا، التي لن تلبث أن تنضَم إلى ماكنا.

يعرف كلورادو أن ماكنا دمَّر الخريطة، فيقوم باختطافه، وإجباره على أن يقوده إلى طريق الذهب. ما يلبث فريقٌ من الخارجين عن القوانين العواجيز، أن يلحقوا بالاثنَين، من أجل أن يضمن كلٌّ منهم نصيبًا في الذهب، بالإضافة إلى سانشير وبعض الهنود؛ ولذا فإن كل مجموعة تمثِّل نفسها تطارد المجموعة الأخرى، خاصةً مجموعة ماكنا التي تنضم إليها الفتاة الهندية هش كي تصبح إلى جانب كلورادو، قبل أن تختفي عن الأحداث.

وقد رأى السيناريو أن من الأفضل إضافة المزيد من الشخصيات لزيادة حدة التوتر، خاصةً أن الأمر يخص الذهب؛ لذا فإنه من وقتٍ لآخر ينضم شخصٌ له كفاءاتٌ ملحوظة في هذا العالم، لزيادة الإحساس بالخصومة، ومنهم بن بيكر لاعب القمار، وصديق كلورادو، كما أنه أحد المهاوييس بالحصول على الذهب، وأشخاصٌ كثيرون سيختفون من الأحداث كما ظهروا، لأغلبهم علاقةٌ حميمة بالذهب، ويرون أن من حقهم الحصول عليه، ومنهم عجوزٌ ضرير. لكن كل هؤلاء لن يشتركوا في الخصومة بشكل حاسم، مثلما سوف يحدث بين الطرفَين الأساسيَّين، الرجلين والمرأتين؛ فمثلما هم يأخذون حمَّامًا في إحدى البرك، يتبادلون الضحكات، والنظرات التي تخلو من الحياء، فإن كلورادو يدخل في منتصف الأحداث في معركةٍ شرسة مع ماكنا، داخل أحد الكهوف الغامضة، وتطول وقائع المشاجرة، فلا تكاد ترى أحدهما ينتصر على الآخر. وفي مشهد النهاية، فإن كلورادو يصيبه الطمع، ويشهر سلاحه في وجه خصمه، رغم أن الذهب أكثر من أن تجمعه تكتلاتٌ من البشر، لكن وقبل أن يقتَتلا من جديد، فإن الهزة الأرضية الفاصلة تبدأ، ويصبح الثالوث الباقي بعد اختفاء الجميع وحدةً واحدة عليهم أن يهربوا وسط انهيارات الجبال الذهبية، وكأن كلًّا منهم يربط مصيره بالآخر. وعقب نهاية الخطر يبتسم كلورادو بشكلٍ صفراوي، ويستودع ماكنا، وصديقته، ثم يذهب وسط الجبال.

تستغرق حوادث الفيلم وقتها من خلال عبور الممرات الجبلية البالغة الصعوبة، التي لم يصل إليها أحدٌ من قبلُ، وهي ممراتٌ قاتلة في المقام الأول؛ ولذا فإن الهروب من المصائر المكتوبة لأصحابها أمرٌ صعب للغاية؛ فالطبيعة قاسية، والنفوس الإنسانية أمَّارة بالسوء، والهنود الحمر، كعادة أسوأ ما في سينما الغرب، لا يُجيدون سوى حمل السلاح الأبيض، والصراخ، وركوب الخيل، وعبور الوديان، وإطلاق النيران، وإثارة الخوف، ثم هم في النهاية لا يحصلون على شيء. لا نكاد نرى وجوههم، كأنهم كائناتٌ صارخة، أكثر منهم بشرًا يودُّون الذهب من أجل إقامة حياةٍ أفضل. وهكذا ندرك كيف كانت وجهات نظر هذه الأفلام.

ويتعامل الفيلم مع كل هذه الأعداد أن «في الذهب متسعًا للجميع»، وأن من حق المغامرين البحث عن الثروات بكافة أشكالها، لكن كل ما تم العثور عليه، هو الوهم، وإن كان ماكنا، سوف يكتشف بعد نجاته وحبيبته من الخطر، أن حقيبته الجلدية، فوق حصانه، بها حجارة من الذهب، وأن الأمر لم يكن غير مجدٍ بالنسبة له، بل لقد فاز بشيءٍ ما له قيمتُه. والغريب أن كل هذا الصراع الدامي، والمشاجرات والمعارك قد انتهت، على الأقل بين كولورادو وخصمه، باعتذاراتٍ عما جرى، كأنما لم يحدث شيءٌ بالمرة، وأن ما شاهدناه لا يتعدَّى أن يكون ما حصل عليه كولورادو من لا شيء، قبل أن يتجه بحصانه إلى الصحراء من جديد، لعله لم يتعلم أبدًا.

بذرة التمر هندي (روسي)

أجمل ما في الأفلام هي قصص الحب التي تحكيها، وما أكثَر قصص الحب من حولنا! وما أرقَّ مشاعر الإنسان وهو يفتِّش في أي عملٍ فني عن تفاصيل روايةٍ عاطفية! وأجمل ما في الحب هو التفاصيل. والحب لا يفرِّق بين الأوطان والمبادئ والعقائد. والإنسان في أسعد حالاته قادر على الحب، والتجدد. والألوان مهما اختلفَت درجاتها، فإنها تمتزج لتكون صياغةً جديدة، الأحمر بالأزرق، والأصفر بالأخضر. وكما أن فكرة الثالوث موجودة في الكثير من قصص الحب حولنا، فإنها قادرة على أن تكشف عن قوة الحب.

الرجل والمرأة والطرف الثالث، سواء كان رجلًا أم امرأة. كذلك فإن فكرة التبايُن بين العُشَّاق لا تقل جاذبيةً عن فكرة الثالوث. هذا التباين ظل متواجدًا من حولنا، في مئات القصص التي شُغفَت بها قلوبنا.

وفي السبعينيات، فإن الكثير من القصص السينمائية التي جاءتنا عَبْر شركات التوزيع الأمريكية كان أبطالها محاطين غالبًا بفوارق ومسافاتٍ أيديولوجية وسياسية حاولَت عرقلة هذه القصص مثلما عرقَل العَداء الأسري مسيرة روميو وجولييت مثلًا. وكم وجد عُشَّاق أنفسهم في مجتمعاتٍ متخاصمة في الأفكار السياسية ما عرقَل قصص الحب، خاصة بين المُعسكَرَين الشرقي والغربي، بين مَن اعتنقوا الشيوعية، ودافعوا عن الرأسمالية! وفي الكثير من هذه الأعمال فإن الفيلم يتجه حسب أيديولوجية الدولة المنتجة، وكثيرًا ما يبدو الحياد جليًّا. وفي فيلم «بذرة التمر هندي» فإنه من الصعب أن يكون الأمريكيون محايدين؛ فهو لم يخلُ من تجريح للحياة المعاصرة آنذاك التي كان يعيشها الناس في الاتحاد السوفييتي، حتى ولو أظهر أن الإنجليزي يمكن أن يخون بلده من أجل بلده، وأن الروسي قد يخونها من أجل عاطفة.

figure

نحن هنا أمام علاقة حبٍّ بسيطة بين رجل وامرأة، رجل عادي عاش حياته في خَواء بعيدًا عن زوجته، وامرأة صاحبة ماضٍ مؤلم مع أكثر من رجل؛ أحدهما مات، والثاني كان يخدعها؛ وبالتالي وجدَت نفسها في خَواءٍ عاطفي. وبالرغم من أنها تنساق وراء الرجل، إلا أن اندماجها لا يحدُث بالسرعة نفسها التي قد تحدُث بين رجل وامرأة يعيشان نفس الظروف في أماكنَ مشابهة.

العالم الذي يحوط الرجل فيدور سفردلوف هو عيونٌ تراقب، وقوانينُ صارمةٌ لا تعرف الرحمة. يُستدعى إلى الاتحاد السوفييتي بحُجَّة أنه مريض، ثم سرعان ما يجد نفسه يتعرض للتحقيق للإدلاء — تحت ضغطٍ شديد — بمعلوماتٍ ملفَّقة عن رئيسه. وهناك سكرتيرتُه الجديدة التي لا يطمئن إليها؛ لأنها عينٌ عليه، وزوجتُه التي تعيش بعيدًا عنه، ولا يربطه بها شعورٌ أو أحاسيسُ عاطفية عادةً ما تربط بين الرجل وزوجته. يقول سفردلوف عن مجتمعه الساكن الجامد: «هنا الاتحاد السوفييتي، والحزب، إنهما دومًا على صواب. وهناك المجتمع الرأسمالي وهو دائمًا على خطأ.» هو حانق على هذه البلاد؛ لذا فهو يلجأ إلى رجل الاستخبارات البريطاني كي يساعده في اللجوء السياسي إلى إحدى دول أوروبا، أو الولايات المتحدة، وذلك مثلما كان آلاف المنشقين، خاصة المثقفين في تلك الآونة. أما هي؛ جوديث؛ فهي امرأةٌ رقيقةٌ ناعمة، لا حديث لها في السياسة، مثلما يفعل هو، ربما كي تتجنَّب الوقوع في وطأة المشاكل الكثيرة التي يدفع ثمنها معاناة، لذلك فهي بالنسبة له منفذٌ مهم للعبور من بلاده إلى حيث تنتمي. إنه يريد الهروب من قسوة الأيديولوجية الشيوعية التي تحاول أن تتلاءم مع العصر بشكلٍ انتهازي. كما أن سفردلوف خائفٌ دومًا من عودة الستالينية إلى هذا العالم، ويُردِّد ساخرًا أنه اصطَحَب رأسماليةً متهتكة، ويكمل: «أرأيتَ إلى أي حدٍّ انحدَرَت ماركسيتي؟»

ومقابل سردلوف الروسي، نرى فاربوس الدبلوماسي البريطاني، الذي اعتنق الشيوعية كمبدأ، وأصبح عميلًا استخباراتيًّا لروسيا في بلاده. وهو رجلٌ جافُّ العواطف يتجسَّس حتى على زوجته التي تخونه مع مساعد مدير الاستخبارات البريطانية، ذلك الذي حاول مساعدة سفردلوف في الهروب إلى كندا. وهو الذي يدير لقاءهما في جزيرة بارباروس، ويحميهما. وهو الذي يجمع شمل العشيقَين في كندا في وقتٍ لاحق، ليس بدافع الخير ولكن مقابل ملفٍّ يتفقان أن يُسلِّمه له سفردلوف عند وصوله إلى كندا.

هذه هي قصة الحب التي يصوِّرها الفيلم، مغلَّفة بالسياسة، والتجسُّس، وخيانة الأوطان. ولأننا أمام فيلمٍ بريطاني، فإن الأمور تنتهي دائمًا لصالح الغرب. يعطي رجل الاستخبارات البريطاني معلوماتٍ خاطئة إلى فاربوس، حتى يظن الروسي أنه عميلٌ مزدوج، فيتم التخلص منه. كما أن العاشقَين ينتهي الأمر بهما إلى نهايةٍ سعيدة؛ وبالتالي تبدو العبارات الرنَّانة التي تبادلها سفردلوف وآخرون طيلة الفيلم ذات معانٍ تعكس تفوُّق الغرب وسقوط المعسكر الشرقي في دائرة التخلف، والغباء.

أخرج بليك إدواردز الفيلم عن رواية إيفلين أنطوني بالعنوان نفسه، هذا النوع من الروايات الذي كان منتشرًا في سنوات الحروب الباردة بين المُعسكَرَين. وبدا أن إدواردز في هذا الفيلم، قد أخذ موقفه من الأفلام الكوميدية التي أخرجها لبيتر سيلرز عن «الفهد الوردي». وبدا أن عليه أن يستعين بعمر الشريف، ليصبغه بصبغةٍ سياسية، وكي يظهر الممثل مجددًا أكثر مرونةً ليرتدي المزيد من الوجوه. وقد كان إدواردز دومًا مصدرًا للإعجاب بأفلامه التي أثارت الدهشة والجدل، ومنها «الإفطار في تيفاني» عام ١٩٦٠م. إلا أنه غيَّر جلده كثيرًا فيما بعدُ، بعد أن تزوَّج من جولي أندروز، وقدَّمها في فيلمٍ سياسي باسم «عزيزتي ليلى»، وقد ظلا معًا في أغلب أفلامهما حتى رحيله. وفي «بذرة التمر هندي» وجد نفسه محاطًا بأجواءٍ عديدة، متناقضة، بين الرومانسية والسياسة، عدا المشهد الأخير الذي التقى فيه العاشقان تحت سماء كندا، إلا أنه استطاع أن يدير ممثليه بشكلٍ جيد؛ فهو يعرف كيف يفعل ذلك دومًا، خاصةً عمر الشريف الذي بدا وقد ارتدى وجه الدبلوماسي العاشق. وقد فعل ذلك أيضًا مع الممثل أنطوني كوايل الذي كان مشاركًا بالمصادفة، في معظم الأفلام التي مثَّل فيها عمر الشريف.

حين شاهدتُ هذا الفيلم في عرضه الأول، كتبتُ واحدًا من مقالاتي الأولى، نُشر مختصرًا في جريدة السينما والفنون، قلتُ في نهايته إنه أشبه بفقاعةٍ كبيرة، سرعان ما تتبخَّر عقب الخروج من قاعة السينما.

أشانتي (الأمير حسن)

ظهر الأمير حسن في الجزء الأخير من الفيلم، وهو في كامل أناقته داخل يخته الفخم. وفي المقابل هناك سليمان النخَّاس، تاجر الجواري العربي، الذي يُرسِل رجالَه إلى قارة أفريقيا من أجل اختطاف الأطفال والنساء، وبيعهم إلى الأمراء والأثرياء الذين لا يزالون يمارسون النِّخاسة، ويقيمون للعبيد أسواقًا خفية. وفي المشهد أيضًا الطبيبة السمراء أنانسا التي صارت ملكًا للأمير، ومن الواضح أنه دفع من أجلها مبلغًا كبيرًا إلى سليمان.

الفيلم كله بمثابة متابعة للرحلة الصعبة التي قضَتها المرأة، منذ أن تم اختطافها إلى أن امتلكها الأمير. وإن كانت الرحلة لم تنتهِ بعدُ، لكنها تقريبًا في النهاية كما سنرى؛ فهذه المرأة الأمريكية جاءت مع زميلها الدكتور دافيد ليندر بي إلى قلب أفريقيا من أجل علاج البسطاء الذين لا يعرفون أي شيء عن الحضارة خارج الأماكن التي يسكنون فيها، ويتصرفون بتلقائيةٍ شديدة، وبراءة، تجعلهم مطيعين للغاية عندما يتم اختطافهم من قبائلهم، ويُساقون عَبْر رحلةٍ صحراوية بالغة الصعوبة، دون أن يَدْروا شيئًا عن مصائرهم، إلى أن يصلوا إلى من اشتراهم. والرحلة بالطبع مليئة بالقسوة، وقد كانت أنانسا تستحم في البحيرة حين اختطفَتها عصابة النخاسة، باعتبارها أفريقية، فإن الفيلم أشار إلى أن هناك مِن أصحابها مَن ظلوا يتتبعون الخاطفين طوال الرحلة، حتى وصلَت الطبيبة إلى يخت الدكتور حسن، الذي ما إن بدأ الهجوم الفردي على المكان، وبه الكثير من رجاله، وأيضًا سليمان النخاس، حتى توارى وخرج من غرفته، هرب، دون أن يدفع ثمن المرأة، لقد اشترى امرأةً سمراءَ جميلة. وكل ما حدث أن الطبيب دافيد ومعه صديقه مالك، قد أنقذا أنانسا من مصيرٍ مؤلم، وتم استعادتُها. وفي المعركة مات مالك بالرصاص، وذلك دون أي إشارة إلى أن المجرم قد تمَّت معاقبته.

يرى الفيلم المأخوذ عن رواية، أن تجارة العبيد لا تزال موجودةً في عالمنا المعاصر، وأن هناك أمثال الأمير حسن الذي يبحث عن زوجةٍ يشتريها بهذه الطريقة؛ حيث تبدو الطبيبة التي تعمل في منظمة الصحة العالمية وقد ارتدت ثوبًا أبيضَ يشفُّ عن جمالٍ أخَّاذ، وأن هذا النوع من الجمال مطلوب لدى بعض الرجال الذين يدفعون.

وكما أشرنا فإن الطبيبة هي الشخص الوحيد الذي تم إنقاذ مصيره من العبودية؛ فقد تم اختطاف المرأة بعد أن أنجزا مهمتهما في إحدى القبائل، ذهبَت هي إلى البحيرة لتستحم، أما هو فراح يلتقط الصور، وينتظرها، وعندما طال غيابها، بدأ الشعور بالقلق، وبحث عنها. لقد اختطفَتها عصابة النخاس سليمان، واعتقد أنها من قبائل الأشانتي، وليست بريطانية. وأمام عجز الشرطة عن أن تفعل شيئًا أمام هذه المشكلة، فإن الدكتور دافيد يستعين بصديقٍ له، وعرفا أن هناك رحلةً طويلة يقطعها الخاطفون في صحراء غرب أفريقيا، الشديدة القسوة. وانطلق الاثنان يتتبعان مجموعة من العصابة، وقد ربطوا المخطوفين من أطفال ونساء في قيودٍ حديدية، يمشون في حراسة خاطفين فوق جمال. وفي أثناء الرحلة تلقى الاثنان مساعدةً من بريان واكر، وهو عضو في إحدى المؤسَّسات التي تُناهِض الرقَّ المعاصر، كما تلقَّيا المساعدةَ أيضًا من قائد طائرةٍ مروحية، في تتبُّع طريق العبودية، حتى وصلَت أنانسا إلى اليخت الفخم الذي يملكه الأمير حسن.

في الفيلم إشارةٌ واضحة أن العرب هم الذين يمارسون هذه التجارة، ابتداءً من سليمان النخاس زعيم العصابة، والأمير الذي يشتري المرأة السمراء دون أن يعرف أنها طبيبة في إحدى مؤسسات الأمم المتحدة، كل ما يعتقده أنها من قبائل الأشانتي التي يحب لحومها. وكما أشرنا، فالأشرار في الفيلم لم يدفعوا ثمن ما اقترفوا، بل سرعان ما اختفَوا. واكتفى الفيلم أنه بعد المشاجرة التي تمت فوق اليخت، فإن الزميلَين الطبيبَين قد تمكَّنا من الهروب من رجال العصابة فوق اليخت، وأن مالك قد أصيب برصاصة. بينما كان المشهد الأخير، وكلٌّ من دافيد ونانسا يتبادلان قبلات الحب، وهما يسبحان فوق المياه قريبًا من شواطئ إحدى الموانئ الأفريقية، أو العربية.

أما تفاصيل الرحلة التي قام بها دافيد بحثًا عن زميلته، فهي التي تؤكد أن النخَّاسة هم العرب؛ فدافيد يذهب مع مالك، فوق الجمال، لمقابلة نخَّاسةٍ عرب، من أجل مساعدتهم في التعرف على سليمان. وفي مَشاهدَ أخرى، فإن دافيد يرتدي الملابس العربية الصحراوية ويتتبَّع القبائل التي قامت باختطافِ ما لا يقل عن خمسة من العبيد. وفي الوقت الذي لعبَت فيه الشرطة دورًا سلبيًّا، فإن الطبيب المُوفَد إلى أفريقيا من منظمة الصحة العالمية يجد نفسه في مطارداتٍ قد لا يجيد أمثاله القيام بها، من أجل استعادة زميلته؛ فهو يحمل سلاحًا، ويُشارِك مالك في مقاتلة لصوص البشر، بما يوحي أننا نشاهد واحدًا من أفلام العصابات؛ فبعد معركة تم فيها القضاء على لصوصٍ أربعة كان على دافيد وزميله إطلاق سراح الأطفال المكبَّلين بالأغلال.

وفي هذا المشهد نعرف أن هؤلاء الأطفال مخطوفون من السودان، ومالي، وفولتا العليا، وأن الطبيبة ليست معهم. وبكل قسوة، يرشد مالك الأطفال أن يتبعوا النجوم للوصول إلى طريقٍ آمن، وذلك لأن كل همه هو القبض على سليمان. وكما سنرى فإن هذا لن يحدث، حسب أحداث الفيلم. هو مشهدٌ مليء بالقسوة، ودافيد يعتذر للأطفال أنه غير قادر على مساعدتهم، ويذهب بمصاحبة مالك «لا أستطيع أن آخذكم معي، أنتم لا تفهمون.»

أما المشهد التالي مباشرة، فإن سليمان، مع مساعده جميل، يقومون بترحيل مجموعة من المخطوفين من أعمار وجنسياتٍ متباينة، منهم أنانسا، وتستمر الرحلة حتى تصل إلى شمال أفريقيا من خلال بلدٍ عربي. ولا يكُف مالك في البحث عن سليمان، ويتم العثور على سليمان في أحد القصور العربية، ونعرف هنا أن أنانسا هي زوجة دافيد. أما سليمان فإنه يقسم بشرفه أنه لا يكاد يعرف شيئًا عن الموضوع، وما يلبث أن يسخر سليمان من دافيد، وبكل ثبات يُخرج هذا الأخير مسدسه ويقتله بدمٍ بارد، ويحاولان اللحاق باليخت الذي به المرأة.

يبدو عمر الشريف هنا أنيقًا، وهو يتحدث عن كيف يكون المرء سعيدًا، وهو يمتلك امرأةً جميلة مثلها، وهو لا يصدِّق أنها أمريكية، بينما يحاول كلٌّ من الزوج ومالك اللحاق باليخت. وقد شاهدتُ أكثر من طبعة للفيلم، إحداها مدبلجة إلى الألمانية، لم يمُت فيها سليمان مثل النسخة الأصلية للفيلم، التي انتهت بإنقاذ الطبيبة.

خبيرة المخاطر الأمنية (زعيم دولي للعصابات)

في الستينيات من القرن العشرين أنتجَت استوديوهات السينما في إيطاليا العديد من الأفلام التجارية التي تقلِّد بها ظواهر أفلامٍ ناجحة، خاصةً في السينما الأمريكية. وقد ظلت هذه الأفلام بمثابة أعمالٍ تجارية قليلة القيمة؛ فبعد انحصار الأفلام التاريخية عن عصر الرومان في بداية الستينيات، سرعان ما ظهرت أفلام الوسترن الاسباجيتي، وما أكثرها! ثم تم إنتاج أفلام على غرار مجموعة أفلام العميل البريطاني جيمس بوند بعد نجاحها. وانتشرَت أفلام عن عملاءَ سريين من كل أنحاء العالم يحاربون من يُسمَّون بالمجرمين الدوليين، على غرار عصابة «الشبح» في أفلام جيمس بوند، لديهم مشاريعهم العلمية الضخمة، لإنتاج موادَّ محرَّمة دوليًّا، من أجل الاستيلاء على العالم. وتقوم إحدى المنظمات الاستخباراتية الدولية بإرسال عملائها إلى هؤلاء المجرمين الدوليين، وغالبًا ما يتخفَّون في شخصيات رجالٍ لهم مكاناتهم الاقتصادية، والاجتماعية، في بلادٍ عديدة.

figure

أغلب قصص هذه الأفلام كانت تدور أحداثها في أوروبا، وكان هدف هؤلاء العملاء السريين هو حماية الغرب من المعسكر السوفييتي، الذي كان يتم التعامل معه باعتباره الشيطان، وقد تم انتشار هذه الأفلام في مدينة السينما الإيطالية. وعلى غرار شون كونري، كان يتم البحث عن نجومٍ جُدد، أو قُدامى، وفي بعض الأحيان نجوم للقيام بأدوار عملاءَ سريين، لهم أرقام مثل ٠١٧، أو أسماء أخرى مرموقة عديدة. وكان هذا العميل محاطًا دومًا بالنساء والحسان، سواء اللاتي كن يعاونَّه، أم اللائي يحاولن الإيقاع به، وإفشال خطته في إسقاط مؤسسته، ووصل الأمر أنهم استعانوا بشقيق شون كونري فيما يُسمى بالعميل الأخ. أما أشهر النجوم الذين عملوا في هذه الأفلام من إيطاليا فهو مارشيلُّو ماستروياني في فيلم «الضحية العاشرة» أمام أرسولا أندريس، أول فتاة ظهَرَت في فيلم «دكتور نو»، من سلسلة أفلام جيمس بوند.

وقد استمرَّت هذه الأفلام في سوق الأفلام التجارية الأوروبية، مع استمرار نجاح شون كونري حتى بداية السبعينيات، وقد ملأَت صالات السينما المصرية، الدرجة الثانية والثالثة، لفترةٍ طويلة، خاصةً في فترة إيقاف عرض الأفلام الأمريكية عقب عدوان يونيو ١٩٦٧م، ثم بدأَت تتقلص بشكلٍ ملحوظ.

ويمكن اعتبار فيلم E.H.S أو اختصار العنوان الذي يعني خبيرة المخاطر الأمنية، بمثابة واحدٍ من الأعمال القليلة جدًّا التي تمثل نهاية هذه الظاهرة إلى الأبد. وهو فيلم أخرجه روبرت مايكل لويس، ولا نعرف هل هو الاسم الأمريكاني لمخرجٍ إيطالي، أم أنه اسمه الحقيقي، لكنني أشك في ذلك؛ فكم تأمركَت الأسماء في كل هذه الأنواع من الأسماء لأسبابٍ تجارية.

أبرزُ ما في الأمر أن العميل السري التقليدي، جاذب النساء، وبالغ المهارة، في مقاتلة العصابات الدولية والمنتصر دومًا تحوَّل إلى امرأة، تبدو جميلة، وخفيفة، لكنك لو دقَّقتَ فيها ستراها تميل قليلًا إلى السمنة، وأن وجهها ممسوحٌ من التعبيرات، اسمها كورنيلا شارب، قامت بدور العميلة لافينيا، التي تتبع إحدى وكالات الاستخبارات الأوروبية. وقام عمر الشريف بدور مجرمٍ دولي يرأس عصابة تبتكر موادَّ كيميائية سوف يتم نقلها في براميل إلى أماكنَ مجهولة، من أجل جرائم قتل وسيطرة. وهناك مشهدٌ يجمع بين شيزازي، هذا الاسم الشرقي وبين لافينيا، ويتظاهر كلٌّ منهما أنه يحب الآخر، ويطلب منها عدم تناول الشراب البني الذي في كأسها، ثم يُبلغها أنه أنقذ حياتها. وقد رأينا في الفيلم بعض نجوم السينما الإيطالية القدامى الذين برعوا في هذه الأدوار في الستينيات، وعلى رأسهم فابيوتستي، وهو ممثلٌ فارع الطول، يُعتبَر الأقوى جسدًا بين أقرانه، وتخصَّص في هذه الأدوار. وفي فيلمنا هذا قام بدور ضابط الاستخبارات، الذي يتولى قيادة قوة الهجوم التي ستنزل من السماء لتدمير القاعدة الأرمينية، التي يمتلكها شيزاري، ويستعد للاستيلاء على اقتصاد العالم.

هذا النوع من الرجال يبدو أنيقًا، وسيمًا، عاشقًا، عصريًّا، قد يعزف الموسيقى، ولا يمكن كشف نواياه، أو جرائمه إلا إذا دُسَّ في حياته امرأةٌ من نوع لافينيا، تعرف أسراره، وتُبلِغ إدارتها، ويأتي لكل شيء وقته. وقد كانت هذه هي المرة الأولى التي تم اختيار عمر الشريف لأداء مثل هذا الدور، وقد بدا مختلفًا؛ فلا ندري مثلًا، كيف ظهر هذا الفاصل بين سِنتَيه الأماميتَين لأول مرة بهذا الاتساع. أما المرأة؛ فقد تعمَّد الفيلم إظهار ما بها من كفاءة وقدرات في مقدمة الفيلم؛ حيث هناك أمام العميل مهمةٌ قديمة سوف ينتهي منها فتبدو كل مهاراته، مثلما شاهدنا في فيلم «جولد فنجر» عام ١٩٦٤م.

رأينا لافينيا تعانق شابًّا وسيمًا في إحدى المناطق الأثرية، كلاهما في حالة هُيامٍ شديد بالآخر، هي جميلة، والرجل وسيم. وفجأةً يدفع بها ناحية عمودٍ أثري ويسألها: من أنت؟ ويتم تبادُل الاتهامات بأن كل واحدٍ من الاثنَين يتجسَّس على الآخر. وما تلبث أن تدبَّ بينهما معركة يستخدم فيها كلٌّ منهما مهاراته في القتال، وسرعان ما تحلِّق مروحية في الجو كي ينزل منها طوق، لن يلبث أن يصعَد بالفتاة التي نعرف أنها عميلةٌ سرية ومعها حبيبها المجرم الدولي، الذي قامت بالقبض عليه.

ما فعلَته لافينيا في بداية الفيلم هنا سوف يتكرر مرةً أخرى في نهايته؛ فهي تقبض على المجرم الدولي شيزاري، وهي أيضًا تكذب عليه بكلماتٍ معسولة، قبل أن يأتي رجال الاستخبارات ويأخذوه معهم.

وما بين المشهدَين؛ الاستهلالي والختام، فإن الرواية تدور، بحيث تتعرَّف على شيزاري وتظهر معه في كل مكان. إنه رجلٌ متزوج من امرأة تدير له كل أعماله الإجرامية في الخفاء؛ فهي التي تدير له مصانعه التي تُنتِج السائل القاتل. وقد جسَّدَت شخصية الزوجة ممثلةٌ قديمة عملَت في السينما الإيطالية بقوة هي أنيتا أكبرج. لكنها صارت هنا بدينة بشكلٍ ملحوظ، وكأنها فقدَت بريقها، ونسيت التمثيل تمامًا. من الواضح إذن الرهان على كورنيلَّا شارب؛ حيث تظهر مع عناوين الفيلم، أشبه بظهور شون كنري في أفيشات فيلم «كرة الصاعقة»، وهي يمكن أن تكشف جسدها لحبيبها، وتطارده كظله، فلا يشك أبدًا أنها عميلةٌ سرية ويأمن لها، حتى المشهد الأخير، وهي تناديه بأكثر من اسم، منها اسمه الدولي مانياسكو. ومن الواضح أن الفيلم مصبوغ تمامًا بالبلدة التي تدور فيها الأحداث، والإنتاج، وهي إيطاليا. وتتضمن حواشي الفيلم مَشاهدَ عديدةً محشورة، منها رقصٌ شرقي يهواه شيزاري، وتفاصيل قصة الحب، ودور الزوجة في إدارة المشروع الإجرامي، حتى يظل زوجها بعيدًا عن الشبهات، إلى أن تموت عن طريق قرصة نحلةٍ إلكترونيةٍ في الورشة التي يتم فيها إنتاج السائل المميت. وهنا نفهم طبيعة النشاط؛ فعن طريق هجوم النحل الإلكتروني في مكانٍ ما، فإنه يتم نشر الموت، لكن كل شيء تم وأدُه قبل الأوان.

وفي الفيلم تخلى عمر الشريف عن وقاره لأول مرة، وسمح لممثلٍ آخر أن يضربه، وأن يجرحه ويُوقعه في الأرض. ومن المعروف أن هناك نجوم سينما يقومون بدور الخارجين عن القانون لكن لا أحد يمكنه أن يمسَّهم، ومنهم هربرت لوم. وقد بدا عمر الشريف وقد فقد اتزانه، ثم تم القبض عليه في مشهد امتلأ بالتناقضات بينه وبين فتاته التي تقبِّله مثلما فعلَت مع حبيبها السابق، ثم تُخفيه، قبل أن تُسلِّمه إلى كازيريا، رئيس وحدة الهجوم الاستخباراتي.

الأهرامات الزرقاء (العجوز)

في برنامجٍ تليفزيونيٍّ فرنسي، عقب وفاة عمر الشريف، قالت الممثلة والمخرجة الفرنسية «أرييل دومبال» إن عمر الشريف كان شخصيةً أسطورية بكل ما تعني العبارة. ولا شك أن هذه الشهادة التي تأتي من مثل هذه الشخصية تعكس وجهًا من الوجوه التي مثَّلها الرجل؛ حيث عمل معها في دور الزوج العجوز في فيلمها الأول كمخرجة بعنوان «الأهرامات الزرقاء».

أرييل، هي روائيةٌ وممثِّلة، ومخرجة، كما أنها زوجةٌ لواحدٍ من كبار الفلاسفة والمفكرين المعاصرين في فرنسا، وهو برنار هنري ليفي، ما يعكس مكانتها في الحياة الثقافية الفرنسية، مولودة عام ١٩٥٣م، وهي الابنة الثانية لرجل الصناعة الفرنسي جان لوي ملشوار، وهو رجلٌ أثري وهاوٍ لجمع التحف الفنية؛ لذا كان ميلادها في المكسيك، الذي اختارته لتدور فيه أحداث فيلمها «الأهرامات الزرقاء». وقد قامت أمها على سبيل المثال بترجمة أعمال طاجور إلى اللغة الفرنسية، كما كانت الأم صديقةً لكبار كُتاب عصرها، ومنهم راي برادبوري، وأوكتافيو باث، وبول كلودل.

ماتت أمها وهي في سنٍّ صغيرة، فعاشت يتيمة في سفارة فرنسا بالمكسيك؛ حيث تولى أمر تربيتها أجدادها لأبيها، فتعلَّمَت الرقص الكلاسيكي والمسرح، وعملَت ممثلة وهي في سن الثانية عشرة، ثم سافَرَت إلى باريس كي تغني وترقص، وتعزف.

في عام ١٩٧٨م بدأَت مسيرتها كممثلة في فيلم «برسيفال في بلاد الغال» إخراج إريك رومير، الذي عملَت معه في أفلامٍ أخرى، منها «بولين على الشاطئ»، و«ركبة كلير». ومن أفلامها الأخرى «تس» لرومان بولانسكي عام ١٩٧٨م، و«الزمن المستعاد» المأخوذ عن رواية لبروست، وظهَرَت في أغلب أدوارها كامرأةٍ مثقفة في أفلام أخرجها ألان روب جرييه، وبيتر هاندكه، ولم تتوقف قط عن التمثيل.

وبالإضافة إلى نشاطها في المسرح والتليفزيون، أصدَرَت كمغنية عدة ألبومات، وفي عام ٢٠٠٧م حصلَت على وسام الشرف من وزارة الثقافة الفرنسية. وحسب قائمة أفلامها؛ فقد قامت بالتمثيل في ١١٣ فيلمًا ومسلسلًا تليفزيونيًّا، وكمخرجة فإنها قدَّمَت أربعة أفلام هي «الأهرامات الزرقاء» ١٩٨٨م، أمام عمر الشريف، و«صيد متقطع» عام ١٩٩٢م، والحلي السرية (مسلسل تليفزيوني) ٢٠٠٨م، ثم «عابرة الرغبة» عام ٢٠٠٩م.

تدور أحداث الفيلم في سنوات الخمسينيات في المكسيك؛ حيث تعيش الشابة الصغيرة أليز مع رجلٍ عجوز يكبرها بسنواتٍ كثيرة في بنايةٍ بالغة الفخامة، وفي عالمٍ خالٍ من المشاكل، لكنه أيضًا يخلو من حرارة الحب، يبدو الرجل باردًا. وتتعرف أليز على شاب يقاربها في السن، وذات صباح تقرِّر أن تترك العجوز، كي تجرِّب عالمًا آخر، وإنسانًا آخر، لكن عشيقها العجوز يحاول استعادتها مرةً أخرى، وذلك من خلال مجموعة من الحِيَل المدهشة، لكنه لم يفلح في مسعاه. ويزيدها هذا إصرارًا على التمسك بموقعها؛ فقد أرسل إليها عشيقها رجلًا آخر، أكثر شبابًا وحيوية، لكن أليز سرعان ما فهمَت الخدعة، وانساقت وراء مشاعرها.

الرجل الثالث عشر (الفيلسوف العربي)

انبهر الكاتب الأمريكي مايكل كرايتون بشخصية الرحالة العربي، وبالمخطوط الذي يحمل اسمه «ابن فضلان»، وقدَّم عنه روايته «أكَلة الموتى» التي يقول فيها: «إنه في شهر يونيو عام ٩٢١م أرسل خليفة بغداد أحد أفراد حاشيته، وهو أحمد بن فضلان، سفيرًا إلى ملك البلغار. وقد أمضى الرجل ثلاثة أعوام في رحلته، دون أن ينجز مهمته؛ لأنه، وهو في طريقه إلى بلاد البلغار، التقى بمجموعةٍ من رجالة الشمال الفايكنج، وكانت له بينهم مغامراتٌ عديدة.»

وقد رجع كرايتون إلى المخطوط الأصلي، وأكَّد بأسلوبٍ علمي أنه لم يخرج عن النص، وكان النص قد نُشر باللغة العربية محققًا لأول مرة عام ١٩٥٩م، بواسطة الدكتور سامي الدهان، تحت عنوان «رسالة ابن فضلان في وصف الرحلة عإى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة».

وصل الوفد الذي ضم ابن فضلان من بغداد يوم الخميس ٢١ يونيو متجهًا شرقًا نحو همذان، وعبَر نهر جيحون، ومنها إلى الفوبي؛ حيث ملك الصقالبة، واستغرقَت الرحلة أحد عشر شهرًا. وقد سعى ابن فضلان إلى التعرُّف على عادات الناس الذين عاش معهم وحارب إلى جانبهم؛ فلم يتحول إلى رحَّالة، يشاهد ويتفرج، بل تحدَّث عن حياة الشماليين وعاداتهم اليومية، لدرجة أنه تصرَّف كأنه واحدٌ منهم.

بدا المؤلف مشدوهًا بهذا العالم الفنتازي؛ فهو ليس رحلات، قَدْر ما هو أقرب إلى الأدب الفنتازي الذي برع فيه العرب. ورغم اختيار الكاتب لهذه الشخصية، فإن كرايتون قلَّل من أهمية حضارة الشرق؛ حيث قال: «من المستحيل الآن أن تعتبر أوروبيي ما قبل التاريخ متوحشين ينتظرون بخمول بركات الحضارة الشرقية، بل على العكس من هذا، فإنه يبدو أن الأوروبيين ملكوا مهاراتٍ تنظيميةً عن المكان، بما يكفي لتشكيل أحجارٍ هائلة الحجم.»

ومع ذلك، يعود كرايتون مرةً أخرى إلى الاعتراف بأن بغداد مدينة السلام في القرن العاشر الميلادي، هي أكثر مدن الدنيا حضارة، وكان يعيش فيها أكثر من مليون مواطن ضمن أسوارها الدائرية المشهورة، وكانت بغداد مركزًا للاستقطاب الفكري السياسي.

ورحلة ابن فضلان أشبه برحلاتٍ عديدة قام بها عرب وأجانب؛ فقد أصبح الرجل محاربًا مثل القوم الذين سافر إليهم، وانضم إلى الفرقة ١٣ التي تقود الحرب؛ فلم تعُد يومياته مجرد اعترافاتِ رحَّالة، بل مغامرات في أرضٍ أجنبية. وقد اختار كرايتون في هذه الرحلة ما يتناسب وخيالاته الجامحة؛ فيؤكِّد مثلًا على علاقة هؤلاء الفايكنج بالضباب؛ فهؤلاء القوم بالغو القسوة والشدة، يتحوَّلون إلى كتلةٍ من الارتعاش والخوف، حين يحل الضباب، أو ملاك الموت، عليهم. إنهم يؤمنون بالخُرافات، دون الرجوع إلى المنطق، أو العقل، أو القانون.

هذه الرواية عندما تحوَّلَت إلى فيلمٍ باسمِ «المحارب رقم ١٣»، إخراج جون مكتيرنان، التزمَت كثيرًا بالنص الأدبي. لكن السيناريو الذي كتبه ويليام ويشر أضاف شخصية الحكيم العربي الذي يلتقي ابن فضلان في بداية رحلته، ويدخل معه في جدل، ويرافقه بعض الطريق، قبل أن يفترقا للأبد، بسبب صعوبة الرحلة وهي شخصية ملشي صديق.

وابن فضلان في الفيلم يُرسَل إلى شمال أوروبا كسفير للخليفة، لكن السبب الحقيقي هو إبعاده عن امرأةٍ مقرَّبة من الخليفة. ويصحبه في الرحلة ملشي، صديق قديم لأبيه، وهو بالنسبة له ناصحٌ وصديق. ولكن لن تلبث أن تقوم مجموعة من البربر بالهجوم عليهم، ويختفي ناصحه، ومجموعة من المقرَّبين، فيقرِّر ابن فضلان استكمال رحلته. وبذلك فإن عمر الشريف سرعان ما خرج هنا من الأحداث، كي يتم استكمالها مع ابن فضلان الذي كانت له رسالتُه في هذه الرحلة. ولقد اندهش النقاد كثيرًا أن السينما الأمريكية في هذه الحقبة من الزمن، تُناصِر شخصًا من المسلمين، قبل أن تبدأ حملة الهجوم الكبرى ضدَّهم عقب أحداث سبتمبر، ولم تكن المسافة الزمنية طويلةً بين عامَي ١٩٩٩م (سنة إنتاج الفيلم) وسبتمبر عام ٢٠١١م.

السيد إبراهيم وزهور القرآن (تركي)

في عام ٢٠٠٢، أثبت عمر الشريف أنه من الممثلين الذين كلما صاروا أكبر سنًّا، فإنهم يصبحون أكثر أصالة وعتقًا، ليس فقط بعد فوزه بجائزة سيزار، أحسن ممثل، عن دوره في فيلم «السيد إبراهيم وزهور القرآن»، عن رواية للكاتب الفرنسي إريك إيمانويل شميث، الحاصل على جائزة الأكاديمية الفرنسية، بل لأن كل من شاهد أداء عمر الشريف في هذا الفيلم، حتى الآن، يدرك جيدًا كم صار معتقًا؛ فنحن أمام نصٍّ أدبي قصير، تكرَّر موضوعه في الرواية الفرنسية الحديثة عن العلاقات التي تربط بين المسلمين واليهود في أحياء باريس الشعبية، وغيرها. وقد أشار المؤلف إلى أن اسم العائلة لبطله هو شميث، بما يوحي أننا أمام عملٍ يعبِّر عن تجربةٍ شخصية. ولا تُوجد فروقٌ ملحوظة بين الفيلم والرواية؛ فهذه تدور أحداثها عام ١٩٦٠م في شارعٍ فرنسي فقير؛ حيث يعيش الصبي موسى اليهودي، في مكانٍ قريب من البقال الذي يملكه السيد إبراهيم، العجوز المسلم. في البداية ليس بينهما حديث، أو مودة، بل كراهية؛ لذا فإن الصبي يقوم بسرقة بعض عُلب الأكل المحفوظ من حانوته دون أدنى تأنيب ضمير، ثم لا تلبث أن تنمو بين الاثنين قصة حب؛ فإبراهيم من أصلٍ تركي، ويصطحب الصبي إلى الأناضول؛ حيث بلاده، وتنمو بينهما علاقةٌ روحية. لقد وجد كل واحدٍ من الطرفَين لدى الآخر ما يبحث عنه؛ فإبراهيم وجد الدفء لدى الصغير، الذي صار حفيدًا له، ويتحوَّل في النهاية إلى عالَم مَن تبنَّاه، ويُخبِر الناس أن اسمه محمد.

figure

يُوجد بالفيلم بعض التفاصيل عن الحياة الشخصية كما يرويها موسى، أو مومو الذي يقترب من سن السادسة عشرة، ويريد ممارسة الجنس بشكلٍ شرعي، عن طريق البغاء، لكن العاهرات يرفضن مضاجعته لأنه لم يصل السن القانوني بعدُ. وهو يعيش في حي البغاء بباريس؛ حيث النساء من كل الأعمار، والألوان. وهو يعيش مع أبيه اليهودي الأعزب، الذي ترك وظيفته، وأصبح يتفرج على الحياة أكثر مما يشارك فيها، وكأنه يؤهل ابنه بذلك إلى أن يسلِّمه لأبٍ بديل. وقد عرف موسى لذة القبلة الأولى مع فتاته مريم، لكنها تفعل الشيء نفسه مع شبابٍ آخرين. ويجد الصبي في السيد إبراهيم ما يرتاح إليه، يخبره أنه مسلم من القرن الذهبي، وهي منطقة الأكراد بين سوريا والعراق. وموسى يدبِّر أموالًا من مدخرات أبيه كي يذهب إلى بيوت البغاء. أما إبراهيم فهو رجلٌ يقرأ القرآن، ويطلب من الشاب أن يتعلم وأن يقرأ الكتب. لكن الشاب يبيع ما لدى أبيه مِن كُتب أيضًا من أجل ثمن العاهرات. يُحاول أن يعرف ما الفرق بين اليهود والمسلمين. وعندما يذهب معه إلى الحمَّام الشرقي يدور حوارٌ طويل يُبلِغه إبراهيم أن المسلمين واليهود يقومون بختان الذكور، ويردِّد له أن اللاجواب أحيانًا هو الجواب، ويعرف موسى أن الرجل العجوز يعيش بلا زوجة.

تتسع الدائرة من حول الصبي الذي صار شابًّا، وتصير إحدى العاهرات صديقةً له، تتقبل أن تمارس معه الجنس مقابل النقود. ووسط هذا التحوُّل، فإن والد موسى ينتحر تحت قطار. ويردِّد إبراهيم عندما تأتيه الشرطة لإبلاغه بما حصل أن «الانتحار أسوأ من أن تهجُر طفلك.»
وتتغير حياة الشاب؛ فهو يقرِّر تجديد جدران الشقة، ويرفض إعلان اسمه الحقيقي، عندما تأتي امرأةٌ غريبة لزيارة المكان، ويعرف أنها أمه، ويعطي لنفسه اسمًا مسلمًا، ويقول لها: «موسى ذهب يا سيدتي، كان يقيم هنا، يُحب الموسيقى، ذهب إلى أخيه بولي.»

إذن، في مثل هذه الظروف، فإن كل طرَف يحتاج بشدة إلى الآخر، وسرعان ما تتغير ملامح الحياة أمام كلٍّ منهما. إنه نفس التحوُّل الذي حدث ﻟ «مومو» آخر، طفل مسلم، تولَّت تربيته السيدة صوفي العاهرة في فيلم «الحياة أمامه»، لموشيه مزراحي ١٩٧٧م، المأخوذ عن رواية لإميل آجار.

صار على إبراهيم أن يتبنَّى الشاب، واشترى له سيارةً لا بأس بحالتها ويُعلِّمه القيادة، وإشارات المرور. ويصير على الصغير أن يودِّع عالم العاهرات الذي كان شغوفًا به، وأن يذهب إلى تركيا في صحبة أبيه الجديد. لكنه قبل القيام بالرحلة، فإنه يذهب إلى فتاته ميريام ليستودعها، ويترك منطقة البغاء في باريس ليدخل المساجد المزدانة بالأضواء في بلاد الأناضول. ويعرف أن المرء عليه أن يخلع نعليه عند دخول المسجد؛ وذلك أن رائحة الأحذية منفِّرة. ويعيش المتفرج تفاصيل حالات التحول التي حدثَت للشاب، فصار يرى المتصوفين، وهم يدورون حول أنفسهم، تتحرك أجسادهم في رشاقةٍ ملحوظة، ويعجبه عالم المولوية. كما يكتشف أن الشباب المسلم في تركيا أيضًا يتصرَّفون كالشباب في فرنسا، يرقصون، أولادًا وبنات، معًا، وأن السعادة في كل مكان. ويصير له أصدقاء من الجنسَين، ويُبلِغهم أنه فرنسي، ولا يتكلم اللغة التركية. ويحاول التعرف على فتيات، وممارسة الحب، لكنه في هذه المرة لن يلجأ إلى السرقة، ولن يدفع نقودًا مقابل اللقاء الجسدي، ويهمه في المرحلة الجديدة أن يكون جذابًا للبنات.

ويعود الاثنان بعد هذه الرحلة الروحية إلى باريس، ويعيشان حياتهما، إلى أن يُصاب إبراهيم في حادث سيارة سقطَت به على الطريق. لقد كانت الإصابة شديدة، يقول الرجل إنه خائف، وها هي نهايتُه قد حانت. «أعرف ما في القرآن، عشتُ حياةً محترمة، أنا كبير في السن. كانت لي زوجة ماتت منذ زمنٍ طويل. لكنني ما زلتُ أحبها.» ثم يؤكد قبل أن يلفظ أنفاسه: «لن أموت.»
ولأن الفيلم والرواية يدوران على لسان راوية، فإنه بعد سنواتٍ كثيرة، نرى موسى وقد صار أكبر سنًّا، وهو يقرأ في وصية السيد إبراهيم، وأن إبراهيم أوصى بكل شيءٍ إلى موسى شميث، وأنه منحَه كل شيءٍ تعلَّمه، «الآن سوف تعرف أكثر ما في قرآني.» ويحدِّثنا أنه يدير المحل، وأن شباب المنطقة يعرفونه، أنا أفتح الحانوت طوال الأسبوع حتى أيام الآحاد، أنا عربي.»

وفي أثناء هذا الحوار يدخل صبيٌّ غربي إلى المحل، ودون أن ينتبه صاحب المكان، فإن الصغير يدُس شيئًا من البضائع في جيبه، مثلما كان يفعل مومو وهو صغير. هذا هو مومو جديد يُولَد أمامه.

فاز عمر الشريف بجائزة سيزار الفرنسية، كأحسن ممثل عن هذا الفيلم، في سنة إنتاجه.

هيدالجو (الشيخ رياض)

في تلك السنة، كان عمر الشريف قد تجاوز السبعين من العمر، لكنك لو رأيتَ وجهه في هذا الفيلم، فسوف تروعك عيناه الواسعتان، ووجهه المورَّد، وحضوره الذي لم يتأثَّر كثيرًا بمرور الزمن؛ ففي نفس الفترة، كان الكثيرون ممن هم في سنه، خاصةً في السينما الفرنسية، قد اختفَوا من على الشاشة، أما هو فلا يزال يعمل، ويمثِّل بالعديد من اللغات التي يجيدها.

تم النظر إليه في أغلب الأحيان، خاصةً في بداياته، على أنه صاحب الملامح العربية، وفي الكثير من الأحيان كانت تتم الاستعانة به لأداء الشخصية العربية في أفلامٍ جديدة، ومنها: «شانتي» و«المحارب رقم ١٣». وكان لا بد أن يقوم بدور الشيخ رياض الذي عاش في أرض الحجاز مع نهاية القرن الثامن عشر، في فيلمٍ مأخوذ عن أحداثٍ حقيقية. وفي الفيلم كان يتكلم اللغتَين العربية الفصحى والإنجليزية بنفس الدرجة، والسبب أنه يُضطَر للكلام إلى أبناء قبيلته ووطنه في بعض المَشاهد، وأن لديه زوارًا جاءوا عَبْر البحار، فعليه أن يتحدث إليهم بلغتهم.

الفيلم مأخوذ عن السيرة الخاصة بواحد من أساطير الفروسية في المسافات الطويلة، اسمه فرانك هوبكنز، وحصانه المرقَّط الغريب الشكل المسمى هيدالجو، الذي شاركه العديد من المسابقات الطويلة فوق الجليد، وفي الظروف المناخية الصعبة في الولايات المتحدة. وسمع بأمره الشيخ رياض، زعيم إحدى القبائل الحجازية، فدعاه لينتقل عَبْر تلك المسافات الطويلة، ليشارك بحصانه فيما يُسمى بالسباق البدوي، كي يقوم هيدالجو بمنافسة الجياد العربية في سباقٍ أقيم فوق الرمال الساخنة عام ١٨٩١ ميلاديًّا. وفي الصحراء لم يكن الأمر مجرد سباق لمسافاتٍ طويلة، بل كانت هناك قصة حب بين هوبكنز الأمريكي وفتاةٍ عربية تعيش في مجتمعٍ متحفظ، وسط محرمات وممنوعاتٍ عديدة. هي «جزيرة» هكذا اختاروا اسمها. كما أن هناك مشاعرَ شديدة بالغَيرة من قِبَل الأمير الشاب ابن الريش، وهو ابن عم للفتاة، ويودُّ أن يتزوجها بالغصب. كما أنه يقرِّر أن يقتل الحصان هيدالجو، أثناء السباق، وأن يُفقِد الفارس أعزَّ ما لديه، ويجعله ينطلق وحده في الصحراء، بدون هدف، إلا أنه منذ اللحظة الأولى، وفي أثناء السباق الطويل المسافة الذي يُقام في منطقة هيدالجو الأمريكية، فإن هوبكنز لا يقبل أبدًا أن يمسَّ أحدٌ حصانه بأي أذًى.

figure

كما أن هيدالجو هي المنطقة الواقعة في الغرب الأمريكي التي شهدَت ميلاد أكبر رجال الوسترن على الإطلاق، سواء كانوا مع القانون، أو ضده، ومنهم بافالوبيل؛ بما يعني هنا أن السباق الذي أقيم في صحراء الحجاز يمثل المتناقضات، أمام الفارس، والفرَس، والمشاركين؛ فمنطقة هيدالجو شديدة القسوة، لانخفاض درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر بكثير. وعلى الحصان أن يغرس أقدامه القوية في الجليد، ويُناثِر الرذاذ البارد، وهو ينطلق بفارسه يسبق الجياد الأخرى. وفي السباق الثاني، فإنه سيفعل العكس تمامًا؛ حيث هو يدوس في الرمال الصحراوية، البيضاء الناعمة، بكل ما بها من سخونة ومخاطر، من أجل المشاركة في سباقٍ جماعي، يراهن عليه الشيخ رياض، الذي يستعين بمساعده عبد العزيز لإعداد السباق الصحراوي، الرملي، وأيضًا للسهر على راحة هوبكنز.

لقد اكتسب هذا الرجل شهرته، كفارس في السباقات الطويلة للخيول، وقد كان يمثل الحكومة البريطانية في بعض الحملات العسكرية، وبعض المذابح التي شارك فيها الجيش الأمريكي.

وقد ابتدع الشيخ رياض ما أسماه بأكبر سباق في العالم، وعلى أساس هذه الشهرة والدعوة من الشيخ الحجازي، فقد صار على هوبكنز أن يسافر لمسافة ثلاثة آلاف ميل فوق البحار كي يصل إلى بلاد نجد في منطقةٍ صحراوية. وصار على الشيخ رياض أن يوفِّر للضيف كافة ألوان الضيافة. وكانت هناك شروط، أن يكون الحصان المشارك عربيًّا، وأن يكون الفارس أيضًا من البدو، لكن هذه القواعد سرعان ما تغيَّرَت.

وفي نجد تقوم قصة حب بين الفتاة «جزيرة» «زليخة روبنسون» وبين الفارس. وعندما أحس الأب بأن هناك مثل هذه العلاقة، فإنه يَعِد ابنته أن يزوِّجها من الفارس في حالة فوزه بالسباق؛ وبالتالي فإن على الفتاة أن تبذل كل ما بوسعها لمساعدته، وإسداء النصائح إليه، وتستعين بعزيز، مساعد أبيها، خاصة أن وجود الأمير يشكِّل عقبة ضد فوز الحصان المزركش بالسباق. هذا السباق الجماعي الذي يتم في الصحراء له قواعده في أنه يبدأ بمشاركةٍ جماعية وسط الرمال، ثم تبدأ التصفيات. ولم يكن هذا الحصان هو الأوحد القادم من عالم الغرب؛ فهناك السيدة البريطانية الليدي آن دافنبورت، وهي تمثل الطبقة البريطانية الراقية، التي جاءت بحصانها من بلادها من أجل منافسة هوبكنز في السباق النهائي.

ويكشف الفيلم أن هوبكنز ينتمي إلى أبٍ أوروبي أمريكي، أما أمه فإنها من قبائل السيو (الهنود الحمر)، ويسمِّيه أبناء عشيرته من الهنود بالغلام الأزرق، وهو يُكِن عاطفةً قوية للغاية تجاه شعب أمه، فيما يُسمَّى بنصف رغيف العيش، لكنه شخصٌ متسامح، يخلو من التعصب، رغم أنه حضر ذات يوم المذبحة التي قام بها الجيش الأمريكي ضد شعب أمه، ويُحِس أنه كان مسئولًا عما أصاب قبيلته من مآسٍ. وقد تفهَّمَت الفتاة العربية «جزيرة» هذا الجانب فيه، وراحت تقارن ما بين علاقته بما ورثه، ورغبته في أن ينزع عنها غطاء الرأس، وتقول له إنه حسب التقاليد، فإنه ممنوع عليها أن تكشف وجهها أمامه «كفانا ما أخفينا باسم الله.»

ورغم أن الحصان يكسب، فإن هوبكنز يعاني من المجهود، والهلوسة، وهو الذي منع الأمير ابن الريش من إلحاق الأذَى بِحِصانه «إلا جوادي»، وفي أثناء احتضاره فإنه يُصَلي. لكن فجأةً ينهض الشاب ويُغالِب آلامه، ويكسب احترامَ مَن حوله مِن العرب ومن أصدقائه، خاصةً الشيخ رياض، الذي يمنحه مُسدسًا كهدية.

ويعود هوبكنز إلى الولايات المتحدة، ويشتري السلاح لمقاتلة من ذبَحوا أبناء قبيلة أمه من رجال الحكومة الأمريكية. ويحاول الفيلم إدانة السلطات العسكرية الأمريكية، فيما ارتكبَته من بشاعات في تلك المنطقة. ويُقال إن هوبكنز قد ربح فيما بعدُ أربعمائة سباق للمسافات الطويلة طوال النصف الأول من القرن العشرين، حتى رحيله عام ١٩٥١م.

نسيت أقول لك (جومو العجوز)

تُرى هل كان هناك من التشابه بين ألزهايمر الذي مثَّله عمر الشريف في آخر أفلامه الأوروبية «نسيت أقول لكم»، وبين ألزهايمر الحقيقي الذي أصابه في الشهور الأخيرة من حياته، وجعله في البداية ينسحب من تأدية عمله كفنان، ثم يأتي إعلان الأسرة الرسمي أنه مصاب بألزهايمر؟

ليست لدينا إجابةٌ شافية حول هذا الأمر، لكنه ألزهايمر بكافة درجاته ما دفع بالفنان وأسرته إلى إعلان أن حالة عمر الشريف لم تعُد تسمح له بالعمل. وقد دخل على أثَرها الفنان في دائرةٍ جديدة لم يُجرِّبها من قبلُ. وهو الشخص القوي الذاكرة الذي بدأَت خصوبة ذاكرته تنسحب درجةً وراء أخرى حسب حالته في العيش خارج نفسه.

لا شك أن الفيلم الفرنسي «نسيت أقول لك» الذي بدأ في تمثيله عام ٢٠٠٨م وعُرض عام ٢٠١٠م به ردود حول هذه المسألة. ويردُّ بأن جوم، الفنان العجوز، كان مقبلًا بشدة على الحياة، خاصة حين تعرَّف على الفتاة ماري، ذات الأربعة والعشرين ربيعًا، والخارجة لتوِّها من السجن لمدة ثلاث سنوات. لم يصبح الرجل نفسَه الذي أصابه ألزهايمر ببطءٍ شديد وهو مقبل بقوة على الحياة. أغلب الظن أن عمر الشريف سافر إلى فرنسا عقب انتهائه من تمثيل فيلم «حسن ومرقص»، إخراج، رامي إمام، من أجل القيام ببطولة فيلم من إنتاجٍ بلجيكي فرنسي إسباني، إخراج لوران فيناس-ريمون في أولى تجاربه الإخراجية، في فيلم تم تصويره بالكامل في أحضان الطبيعة، وهو فيلمٌ مليء بالبهجة والحب والحياة رغم المرض الذي داهم العجوز جوم.

في القاهرة كان الفيلم المصري مليئًا بالهموم والعنف، والشيخوخة، والتطرف، والكراهية، رغم أن مخرجه شاب. وفي فرنسا-بلجيكا صار على العحوز جوم أن يجوب كافة الأنحاء فوق دراجة مع فتاةٍ جميلة، وأيضًا مع بعض الأصدقاء في فيلمٍ شبابي مبهج. هناك فرقٌ كبير بين الفيلمَين والرؤيتَين. ولا نستطيع أن نقول إن عمر الشريف تأثَّر بأجواء الفيلم المصري؛ فهناك برومو كان يُذاع كثيرًا على الفضائيات جمَع الممثلين في الفيلم وبصوتٍ عذب رقيق مبهج شارك الفنان الحاضرين بمقطع من أغنيةٍ فرنسية مبهجة؛ ما يعني الحالة النفسية والوجدانية التي كان عليها في فترة «حسن ومرقص». لكن هذا الفيلم كان مليئًا بالعواجيز ومنهم عادل إمام، وحسن مصطفى، ويوسف داود، وهناء عبد الفتاح، وعزت أبو عوف، وضياء الميرغني، فضلًا عن السيدات اللائي قمن بدور الزوجات. أما في الفيلم الفرنسي فهناك فتاة في سن الرابعة والعشرين تصاحبه وتصير صديقته، ومع التجربة الإنسانية تراه الرجل الوحيد في الدنيا وتتوحد معه.

أريد بهذا الإشارةَ إلى فارق الأجواء التي عاشها الفنان بين فيلمَين متجاورَين قام بتمثيلهما بشكلٍ متتابع؛ فهو في الفيلم المصري هارب مع أسرته عليه إخفاء هويته كشيخٍ مسلم، وجد نفسه يتم القبض عليه ويُساق إلى الحجز، وقد وضعوا القيود الحديدية في يدَيه، ومن خوفٍ إلى إخفاء إلى دم. أما الفيلم الفرنسي فرغم أنه عن قسوة مرض ألزهايمر فما كان أجمل شكل عمر الشريف وهو يقوم بدور بطلٍ عالمي في سباق السيارات اعتزل السباق، لكنه ما زال يمارس اللعبة، يتعرف على ماري ويشاركها الانطلاق عَبْر الحقول والطبيعة جولةً وراء أخرى، كما أنه في أغلب أوقاته مع الآخرين يقوم بركوب الدراجة.

هناك نقط تماسٍّ بين جوم العجوز بطل العالم سابقًا في سباق السيارات، وبين النجم الذي جسَّد الدور؛ فالسيناريو الذي كتبه المخرج، وظل يبحث عن منتجٍ له طوال ثمان سنوات لم يجعل من بطله شخصًا سابقًا؛ فهو فنان، رسامٌ تشكيلي لديه موهبة يمكنه من خلالها أن يجذب انتباه فتاةٍ معدمة بلا تجربة، ليس لديها أحد في العالم، وبدأ في تلقينها فن الرسم، وجعلها تكتشف المبدع في داخلها، فتعرف سحر التكوين والألوان، وتبدأ في تعلم الرسم، وتزداد ارتباطًا بالرجل، وتصبح صديقته، ولا ترى في الحياة سواه. ويذوب فارق السن الكبير بينهما؛ فهو لم يتصرَّف قط على أنه إنسانٌ سابق، بل هو يرتدي الألوان المزركشة، ويقود دراجةً متعددة الألوان.

ماذا يمكن لفتاة في هذه السن، خرجَت من السجن لتوِّها، أيًّا كانت أسباب دخولها، لكنها الآن بلا ماضٍ ولا مستقبل، كأنما ألزهايمر أصابها قبل العجوز، كل ما فعلته أن اتجَهَت نحو الجنوب دون أن تعرف شيئًا عن الغد. إنها تأمل في البحث عن واحدة من الوظائف الموسمية المرتبطة بالزراعة في الجنوب، لكنها لن تعثر على مرادها. هذا الغد الذي صار يتمثل في الوجه المقبل على الحياة لرجلٍ يعتني بنفسه جيدًا، فصار عليها أن تعتني به لاحقًا، في فيلمٍ مليء بالأسماء الجديدة، عدا الممثلة إميلي دنكن، المولودة في بلجيكا عام ١٩٨١م، التي تعمل بشكلٍ مكثَّف في البطولات السينمائية لقرابة خمسة وعشرين فيلمًا. أما الرجل فقد بدأ ينسى ما حوله من الأسماء والذكريات. لقد علَّمها كيف تلمس الألوان وكيف تشم رائحتها، وتعرف سحر التناسق بينها. وهو رجل كل ما أحبَّه مرتبط بالطبيعة؛ فهو يقضي أوقاته إلى جوار البحيرة يصطاد الأسماك المتعددة الألوان والأشكال. كما أنه يستخدم دراجته في التجوال خارج وداخل القرى والمدن الصغيرة.

والرجل الذي يُصاب بالذاكرة المفقودة خطوةً وراء أخرى يذهب إلى المدارس ويلعب مع الأطفال، ويجري بين الحقول، ويصاحب الناس، ومنهم جابرييل وبابتست، ويستمع بشغفٍ إلى مطرب الشباب كالي؛ لذا فإن الصداقة عندما تتحوَّل إلى حب بين الطرفين فإنه حبٌّ حقيقي، لا يسأل فيه أحدٌ عن الفروق بين الحبيبَين؛ لأن ظروف ميلاد هذا الحب استثنائية، مثلما ظروف المرض الذي يفصل الرجل عن ماضيه ربما أكثر من واقعه؛ فهو ما زال قادرًا على الرسم وسماع الموسيقى، ويتعلم الاثنان أن الحب يكون أكثر قوةً وعمقًا حين يجد من يدافع عنه.

وقد كتب أحد النقاد في أحد المواقع الإلكترونية أن هذا القيلم يناقش مسائلَ حسَّاسة عن المرض والألم والموت، وهو أيضًا فيلم يعلِّمنا أننا يجب أن نعرف أكثر كيف نستفيد من حياتنا بكل ما فيها، وأن نحتفظ دومًا بالأمل. ويقول الناقد في نهاية مقاله: «نسيتُ أن أقول لكم إنه يجب أن تذهبوا لرؤية الفيلم، ولا تنسَوا بعض المناديل الورقية بما يتناسب مع عواطفكم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤