عمر الشريف يحكي عن نفسه

منذ نشرها في منتصف عام ١٩٧٥م، وأنا أتمنى لو تمَّت ترجمتُها كاملةً إلى اللغة العربية. إنها مسيرة عمر الشريف التي أملاها على الصحفية الفرنسية ماري تيريز جينشار بعنوان «الرجل الخالد». وسرعان ما فكَّرتُ في تقديمها هنا بشكلٍ مختصر دون الإخلال بقيمتها؛ حيث كشفَت هذه الاعترافات عن فنانٍ موهوبٍ صريح، مثقَّف، عصري، عرف الكثير من البشر على اختلاف مشاربهم، ولغاتهم، وكان وجهه مشرفًا تمامًا لصورة الفنان المصري.

ولعل هناك سببًا آخر مهمًّا، وهو أنني الأكثر إعجابًا بالناقد السينمائي الراحل مجدي فهمي، منذ أن قرأتُ له مقالًا عن فيلم «سبارتاكوس» في مجلة الكواكب، التي تولى رئاسة تحريرها لسنواتٍ عديدة. وقد تعرَّض لظلم شخصي حين تم طرده من وظيفته، فسافر إلى لبنان للعمل هناك، وعمل في الكثير من المجلات الفنية. وقد كتب مقالاتٍ في النقد السينمائي تمنَّيتُ لو تم نشرها في مصر في إحدى سلاسل كتب السينما. وفي نشر بعض ما جاء في الكتاب محاولةٌ للكشف أن الصحافة الفنية في بلادنا قد ظلمَت الكثير من أبنائها. وهنا مقتطفاتٌ من ترجمته لما باح به عمر الشريف للصحفية الفرنسية عَبْر «الرجل الخالد».

وُلدتُ في العاشر من أبريل ١٩٣٢م؛ فأنا من مواليد برج الحمل، وتحت تأثير برج الميزان. وقد رأيتُ النور في مدينة الإسكندرية، تلك المدينة الساحرة، التي خلَّفَت المزيد من الذكريات الحلوة للذين عبَروا أرضها طوال الأجيال. الإسكندرية بمنارتها التي تشعُّ بالضوء فتهدي السفن البعيدة، والإسكندرية التي طالما غمَرَت العالم بضوء المعرفة، بواسطة مكتبتها القديمة التي كانت تضم أكثر من ستة آلاف مليون من المخطوطات القيمة على لفَّات ورق البردي، قبل أن تلتهمها نيرانٌ غادرة، المدينة التي حفرت في بطن رمالها، قبل مئات السنين، القنوات التحتية، لتنقل ماء النيل العذب إلى قصورها التاريخية. فوق تلك الأرض التي وَرثَت عن الإغريق أرقى ما في حضارتهم شبَبتُ. والدي كان، ولا يزال، تاجرًا كبيرًا من تجار الأخشاب. وكانت حياته نموذجًا منسوخًا عن حياة رجل الأعمال الناجح الذي ينحدر من أصلٍ لبناني سوري، وهي حياةٌ رغدة في الغالب، بعيدةٌ عن التعقيد. وكان مركزه ورصيده يسمحان له بأن يؤم تلك النوادي الكبرى التي تتردَّد عليها علية القوم، وهي نوادٍ ذات طابعٍ إنجليزي، وتقاليدَ إنجليزية؛ لأن أغلبها أقيم أصلًا بمعرفة الإنجليز، من بين تلك النوادي «نادي سبورتنج» الذي يُشتهَر بأراضي الجولف، وملاعب الكريكت، وهناك «نادي السيارات الملكي» حيث اعتادت النخبة تناول الطعام على أنغام الموسيقى. أما «نادي محمد علي» فكان أقرب إلى النوادي الخاصة، المغلقة. ولعل من أسباب تضييق دائرة أعضائه أن الملك السابق فاروق كان يلعب على موائده كل ليلة وبمبالغَ طائلة، حتى لو كانت اللعبة الكونكان، مائدة اللعب الواحدة كانت تضم ليلًا من تتشعب بهم الدروب صباحًا، الملك وكبار الإنجليز، العائلات الكبيرة ورجال الأعمال اللبنانيين والسوريين، المسلمين والمسيحيين. وسط هذه المجموعة كانت أمي نجمةً متألقة.

أحوال أبي كان يرعاها نجم سعد؛ وبالتالي كانت مسيرته إلى فلك ازدهار، وكان مستوى معيشتنا يرتفع مع كل صفقةٍ جديدةٍ رابحة. أمي كانت تسعد أكثر من غيرها بما يحقِّقه أبي من مكسب؛ لأنها كانت تحصل على نصيبٍ منه، فتلعب أكثر وأكثر.

وبدأت ظروفنا الجديدة التي تتحسَّن يومًا بعد يوم، تدفع بأمي إلى مخالطة النخبة، ومعاشرة الطبقة الأرقى، وساعدها في هذا أن تلك الفئة هي التي تقامر أكثر من غيرها. وأنا أرى أمي اليوم، بنفس الصورة التي كانت عليها من قبلُ، وهي صورةٌ قريبة جدًّا مما كانت عليه ممثلات السينما في الثلاثينيات، الطول المتوسط، والجسد الملآن في غير ترهُّل. أما سحرها ومكمن جاذبيتها فكان شعرها الطويل، الضارب إلى الحمرة.

وككل حمراء الشعر، كان على أمي أن تدفع ضريبة، والضريبة هي حبات «النمش» التي تملأ بشرة الوجه. وهي قلما تنال من وجهٍ جميل، إلا أن البعض يتضايقن منها، وأمي كانت من هذا البعض؛ فقد حاولَت ذات مرة، أن تزيل النقاط الميالة إلى السواد، والمتناهية في الصغر، فلجأَت إلى خبيرة تجميل، قامت بكي كل واحدةٍ من النمش على حدة، ولكنها تعذبت كثيرًا بعدها؛ فقد خلَّفَت كل «نمشة» ندبةً صغيرة وراءها، من آثار الحروق، وتطلب الأمر وقتًا طويلًا، حتى عاد الوجه إلى صفائه.

وهي أيضًا كانت أنيقة، جذابة، حلوة الكلمة، تعرف متى تتكلم ومتى تلوذ بالصمت، وتعرف أيضًا ماذا تقول ومتى تقوله، ومتى تشفع الجملة، أو تدعمها بنظرة عين، أو رفة جفن!

أما أبي فكان طويلًا رشيقًا، وبالرغم من أنه لا يزيد عني في الطول، إلا بمقدار نصف بوصة، إلا أني لم أُعتبَر أبدًا من طوال القامة، في حين كانت النظرة إليه دائمًا على أنه كذلك، وأنا أعتقد أن المسألة تقديرية، تختلف من نظرة إلى أخرى، ومن شخص إلى آخر. وشعر أبي كان أسود، قبل أن يزحف البياض إليه مع السنين، وقبل أن تزيد نفس تلك السنين من وزنه، بطريقةٍ كادت تُفقده رشاقته المعهودة، ولكنه كان رجلًا طيبًا للغاية، وهو لا يزال كذلك.

تعلم أبي في مدارس الفرير، ودرسَت أمي عند الراهبات، ومن هنا ترسَّبَت في نفسَيهما تقاليدُ موحَّدة وقوية، وظلا مرتبطَين دائمًا بذلك الوشاح القوي، الذي يتولَّد عن التربية الدينية، ويجعل المثالية هي القِبلة، والمسلك القويم هو الطريق المختار. ولم يحدث أبدًا أن سمعتُ أبي يتلفظ مرةً واحدة بلفظةٍ نابية، كما لم يحدُث أن اغتاب والداي أحدًا؛ فقد كان كلٌّ منهما ملتزمًا بالمبادئ القويمة في قوله وتصرفاته.

وبالرغم من أن حرفة أبي كانت التجارة، وهو ميدانٌ قد يتطلب أحيانًا المداهنة، أو المراوغة، وربما الكذب، إلا أنه نأى بنفسه عن كل هذا، حتى لو أدى به الأمر إلى الخسارة في واحدة من الصفقات. أما أمي فكانت أكثر لينًا من أبي، وتفهُّمًا، في حين أن ذكاءها يتجاوز كل حد. ولم يكن من السهل عليَّ وأنا صغير، وحتى بعد أن كبرتُ، أن أحاورها، أو أكذب عليها، أو أضلِّلها، على عادة الأبناء؛ فقد كانت نظرةٌ واحدة من عينَيها في أعماق عيني، تكفي للكشف عن كل ما يدور بخاطري، وكان عليَّ، والحالة هذه، أن أحالفها، وأهادنها، بدلًا من أن أحاول التغلب عليها؛ لأن الأمر الأخير صعبٌ جدًّا.

كنا، في الإسكندرية، نعيش في منزلٍ صغير من طابقَين، بضاحية «كليوباترا الحمامات»، وقد طاب لي أن أزوره مؤخرًا، فوجدتُه على حاله، وإن بدت على جدرانه بعض «التجاعيد». كانت حياتي في ذلك البيت، بل في الإسكندرية كلها، وادعة، سعيدة، هنية. أبدًا لم يحرمني أبي من شيء، ولم تكن أمي تضن عليَّ بطلبٍ مهما غلا. ومن هنا شببتُ بلا حرمان، وربما بلا عُقد؛ فقد شعَرتُ دائمًا أني أسبَح في بحرَين؛ بحر الإسكندرية الأزرق الصافي المياه، وبحر الحب الأعمق، والأقل تعرُّضًا للأنواء!

وانتقلنا إلى القاهرة

كنتُ في الرابعة من عمري، عندما قرَّر أبي أن ينقل مركز عمله الرئيسي إلى القاهرة. وانتقال تجارة أبي إلى العاصمة، وانتقالنا معها بالتالي، يضع أكثر من علامةٍ هامة في دفتر حياتي؛ ففيها بدأنا نصعد السلم الاجتماعي درجات ودرجات، وكانت العلامة المحسوسة لهذا الصعود، هو انتقالنا من بيت إلى آخرَ أكبرَ وأفخر. سكنَّا في البداية شقةً في عمارة من اثنَي عشر طابقًا، ثم انتقلنا إلى أخرى أكبر وأحدث وأغلى.

وتحوَّل أبي من تاجرٍ ناجح إلى تاجرٍ ثري جدًّا. والثروة، هبط عليه أغلبها إبَّان الحرب العالمية الثانية، فإذا كانت ظروف الحرب قد جعلَت ميدان تجارة الأخشاب شبه راكد لفترةٍ غير قصيرة، فإن أبي بذكائه وخبرته، عرف كيف يحوِّل نشاطه بصورةٍ مؤقتة، إلى ميدانٍ آخرَ وفير الكسب. اتجه أبي إلى المخلَّفات التي تبيعها القوات المتحالفة، وخاصة الإنجليز، وأمكنه أن يشتري كميةً هائلة من الأسلاك الشائكة المستغنى عنها وبسعرٍ متهاود. وقد حوَّل أبي السلك إلى مساميرَ صغيرةٍ للأحذية، ومتوسطةٍ للخشب، وطويلةٍ للأغراض الأخرى، وأمكنه بالتالي أن يسُد نقصًا كبيرًا في السوق، وأن يجني الأرباح الطائلة. مرةً جديدة غيَّرنا السكن، انتقلنا في هذه المرة إلى فيلَّا مستقلة، تحيط بها حديقةٌ كبيرة تُطِل على النيل. وكانت الفيلَّا في أرقى أحياء القاهرة، جاردن سيتي، وفي أجملِ بقعةٍ منها، بين سفارتَي إنجلترا وأمريكا. أبي كان يكسب كثيرًا، وأمي كانت تخسر كثيرًا.

كانت تنفق المبالغ الطائلة؛ بعضُها صرفَته على إعادة تأثيث الفيلَّا، بصورةٍ أقرب إلى الكازينو منها إلى المسكن العائلي، والبعض الأكبر، كانت تلتهمه موائد القمار. وكان رفاق اللعب، كثيرًا ما ينقلون النشاط إلى بيتنا في الفترات التي تُغلِق فيها النوادي أبوابها بسبب الإجازات، وكان في مقدمة هؤلاء الرفاق الملك، فاروق!

ورغم مرور عشرات السنين، فلا زالت صورته في عيني، أتذكَّره عملاقًا، تصرفاته بعيدة عن الكياسة، مفلوت اللسان. وربما كانت الظروف هي التي صبَّته داخل ذلك القالب الذي لم يكن ليُرضي الكثيرين؛ فقد تولى العرش وهو أقرب إلى الحدث منه إلى الرجل الناضج، حل محل أبيه فؤاد الأول في حكم مصر، بعد وفاة الأب، وهو لا يزال في السادسة عشرة من العمر. وبالرغم من أنه تلقى تربيةً قويمة في إنجلترا، إلا أن صِغَر سنه، سرعان ما حوَّله إلى عجينةٍ طيِّعة في يد بعض المنحرفين من رجال الحاشية والبطانة؛ فقد رأَوا في إشباع رغباته، والخضوع لنزواته، أقصر الطرق إلى النفوذ والاستغلال.

صبيٌّ في السادسة عشرة لا يمكن أن يصمد طويلًا أمام دوَّامة الإغراء، خاصةً إذا كان هذا الصبي يملك الكثير مما لا يملكه غيره. الدوَّامة اجتذَبَته إلى حافتها، ثم إلى أعماقها، وانتهت به إلى قاعها. وأذكُر أنه في أول مرةٍ حضر فيها إلى منزلنا، وكان ذلك بناءً على دعوة وجَّهَتها إليه أمي، أذكُر أنه كان يقضي بعض الوقت على مائدة الطعام يأكل بشراهة، ينتقل بعدها إلى طاولة اللعب فيقامر بجنون، ثم يعود ثانيةً إلى مائدة الطعام، وهكذا طوال السهرة التي لم تكن تنتهي إلا مع شروق الشمس!

وكان يحلو لفاروق أن يقدِّم السيجار الطويل الفاخر إلى والدتي. ولم يكن في وسعها أن ترُد هديةً ملكية، فكانت تُضطَر مُرغَمةً إلى أن تُشعِله، وتجذب منه النفَس بعد الآخر، وفي كل مرة تسعُل بشدة. ويبدو أن فاروق كان يعرف جيدًا أثر السيجار على والدتي، فكان يُصِر على أن يقدِّمه لها؛ لأنه كان يلَذُّ له أن يراها تسعُل!

طفولة

طفولتي كانت محمية، كان هناك حاجزُ أمانٍ يحيط بها، ويصُد عنها كل الضربات، أو كان هناك غطاءٌ يدرأ عن سمائها كل عاصفة. الصدمات القادمة من الخارج كانت تتلاشى، تخف حدَّتها، كالأمواج على صخور الشاطئ؛ لأن أسرتي كانت دائمًا في يقظة من أمرها، لامتصاص كل صدمة قبل أن تطالني أو تصل إليَّ.

وكنتُ في السادسة عندما وفدَت على بيتنا زائرةٌ جديدة، وأطالت الإقامة. كنتُ في تلك السن المبكرة، عندما وُلدَت أختي. وقد جاءت إلى الدنيا ضعيفة، هزيلة، إلى درجة أن الأسرة كانت تعتقد في البداية، أنه لن تُكتب لها حياة. ومن هنا أحاطها والدي بكل ما ملك من حنان. وكان طبيعيًّا أن يُفسِدها التدليل مع الأيام، وأن تتحول إلى إنسانةٍ صعبة، لا تُطاق أحيانًا. ورغم كل هذا كان والدي يتصدى لأى إنسانٍ يحاول ردَّها، أو ردعها. وكانت أختي من الذكاء، بحيث اتخذَت من حب أبي دريئةً تصُد بها كل ما لا يطيب لها، وأحيانًا درعًا تحمي به نفسها، مما قد تتوهَّم أنه خطر، وهو محاولتها فرض نزواتها عليَّ. كنتُ أدير مفتاح الراديو لأستمع إلى موسيقى أفضِّلها، فتُسارِع إلى إسكاته. هذا مثالٌ بسيط لمضايقاتها المتتالية لي، التي لم تكن لتتوقف لحظة.

ولم تعُد الحياة تُقاس بيننا بالأيام، وإنما هي غدت سلسلةَ معاركَ صغيرة، متتالية.

كنتُ الأقرب إلى أمي، في حين كوَّنَت هي جبهةً مع أبي.

وأبي كاثوليكي، متمسك بأحكام دينه؛ لذا أصبَحَت أختي إنسانةً متعصبة للغاية. ترى في أغلب الأفعال العادية «خطايا مميتة».

وهي انطلاقًا من هنا كانت تدين جميع تصرفاتي، سواء في البيت، أو في خارجه. وعندما غيَّرتُ ديني، بسبب الزواج، كان الأمر في نظرها كارثة، وأية كارثة.

وأنا بطبعي، ومنذ نشأتي الأولى، غير متمسك بالمعتقدات الدينية؛ لذا جاءت معارضة أختي لتُقوِّي في أعماقي — من باب صدها أو مقاومة ميولها العدائية — البُعد عن الروحانيات، ولكن اليوم غير الأمس، أنا اليوم أحب أختي، أحبها جدًّا، أحبها لأنها شقيقتي؛ فالروابط الأسرية لها أهميتها وقيمتها عندي. ثم نحن اليوم على وفاق، لم يعُد لصدامات الأمس ولا خلافاته أي وجود.

وأذكر ليلةً من الليالي العديدة البعيدة، خرجتُ فيها للسهر كعادتي في فندق سميراميس، وهو فندق من الفنادق القاهرية الفاخرة، لا يبعُد كثيرًا عن منزل الأسرة. وفي الثالثة صباحًا، وقد كاد المحل أن يغلق أبوابه، تقدم إليَّ الساقي بورقة الحساب، واكتشفتُ ساعتها أني لم أكن أحمل نقودًا على الإطلاق.

هل معك مبلغٌ ما؟ وردَّ الصديق الذي وجَّهتُ إليه السؤال: أبدًا.

وأنت؟ ردَّ الصديق التالي: لا.

ورحتُ أسأل الرفاق الواحد بعد الآخر، لأسمع الجواب ذاته؛ فقد كنا جميعًا مُفلسِين. ويبدو أن كلًّا منهم كان يعتمد على الآخرين، أو لعلهم جميعًا كانوا يعتمدون عليَّ.

وخطَرَت لي فكرة، فقلتُ للجميع: انتظروني هنا، لن أغيب أكثر من دقائق.

كان من غير المعقول طبعًا أن أوقظ أبي، أو أمي، في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل لأطلب مبلغًا من المال، ولكني كنتُ أعرف جيدًا أن أختي، بحرص النحلة العاملة، تدَّخر مبلغًا من المال، تضعُه بداخل وعاءٍ خزفي، على هيئة حبَّة كمثرى، وتخبِّئة في مكانٍ أمين.

وكانت الفكرة في البداية، أن أوقظها من النوم لأسألها قرضًا، ولكني ردَدْتُ الفكرة؛ لأني كنتُ أعلم تمام العلم أنها، بدافع العناد ليس إلا، لن تستجيب لرجائي أبدًا.

لذا ما إن وصلتُ إلى البيت، حتى خلعتُ حذائي، وتسلَّلتُ بخطًى لا تُسمع إلى غرفتها، وأمكنني، بعد قليل، أن أهتدي إلى المكان الذي تخفي فيه كنزها الثمين. وحطَّمتُ حبة الكمثرى الخزفية خارج الغرفة، واستوليتُ على كل ما بداخلها من قطعٍ نقدية، وأوراقٍ مالية، ثم عدتُ إلى الأصدقاء لأطلب لهم كئوسًا جديدة، وأدفع للساقي بسخاء.

وصحوتُ في اليوم التالي مبكرًا، أنا الذي لم أكن أويتُ إلا منذ ساعاتٍ قليلة، على صُراخ أختي العالي؛ فقد اكتشفَت السرقة، وانحصر اتهامها في شخصي، غير الكريم!

وعذَرتُها لتصرُّفها، ولكني لُمْتها فقط لأنها لم تحاول التفاهم معي بهدوء، قبل أن تثير الفضيحة وسط العائلة. كان في نيتي أن أرُدَّ لها ما أخذتُ وأكثر، وقد فعل هذا والدي فعلًا سترًا لفعلة ابنه النكراء. وقد ظلِلتُ لسنينَ طويلة، آخذ على أختي عدم تعاونها معي، وربما أيضًا عدم تستُّرها عليَّ!

ليست خلافاتي مع أختي وحدها هي التي كانت تُبعدني عن محيط الأسرة، وإنما هناك ظروفٌ أخرى، منها ثقافتي الإنجليزية، وحبي للمسرح، وعمي الفرنسي، وأصدقائي الكثيرون، الذين غالبًا ما كنتُ أقضي في بيوتهم عطلات نهاية الأسبوع. كنا شلةً من الصبية تنمو معًا، وتكبر معًا. أما البنات فلم يكن لهن، وفقًا لتقاليد الشرق، أي وجود إلى جانبنا.

وبالرغم من أني أتمَمتُ السادسة عشرة، إلا أن البنات ظلِلنَ من «المحظورات» في حياتي. وكان يحدث أحيانًا أن نقيم الحفلات الراقصة، فكان لا بد من أن يحضرها قريب، حتى تنتهي فترة الاختلاط المؤقتة بسلام.

أما النساء، «النساء» بمعنى الكلمة، فلم تكن أمامنا فرصٌ سانحة لمشاهدتهن، إلا في الأوبرا؛ حيث الفرق الغربية تقدِّم عروضها، أو ضمن أعضاء الفرق المسرحية الفرنسية الزائرة، أو كنا نخرج للبحث عنهن في الشوارع، في أماكنَ معيَّنة، شاحبة الضوء، كليلة المصابيح، كان من الممكن أن تتجمَّع فيها قلةٌ منهن، لأسبابٍ معروفة!

وعلاقتي الأولى — وعبارتي أستعيرها من لغة الأطباء — فكانت مع قطة ليل، التقطتُها مع بعض الأصدقاء من ضاحية مصر الجديدة.

ومصر الجديدة أو هليوبوليس، شهيرة بمواقعَ كثيرة، منها المعركةُ التي هزَم فيها السلطان سليم المماليك وكانت على أرضها، ومنها انتصارُ كليبر على فيلقٍ تركي. أما معركتي أنا، مع نفس الضاحية، فكانت في التقاط بقايا امرأة، ألقت بها المقادير في شارعٍ معتم من شوارعها.

كم تطلبين؟

البداية هي هي، في كل أرض وزمان. وقد طلبَت القطة مني، بدراية، أن أقود سيارتي إلى مكانٍ ناءٍ، قريب من المطار القديم؛ حيث أقام شخص، وسط الصحراء، كشكًا صغيرًا لبيع المرطِّبات، وكان ذلك الشخص يمنح زبائنه، الرعاية، والحراسة، مقابل شراء بضع زجاجاتٍ سعرها زهيد للغاية.

انضمَمتُ إلى القافلة.

ركبتُ سيارتي، وسط عشرات السيارات، في منطقة نفوذ بائع الكوكاكولا الهُمام. ومصر، أيام حكم فاروق، لم تكن متزمتة إلى حدِّ بعيد، ولكنها، رغم هذا، لم تكن أبدًا لتسمح بممارسة الحب في سيارةٍ متوقفة، بالقرب من المارة. أما الصحراء البعيدة، فلها حُكمها، ولها حاميها، بائع المشروبات الغازية!

ووسط قافلة السيارات التي قدَّرتُها بخمسين على الأقل، كنتُ أنا ألتقي لأول مرة، وفي أول سيارة، وأول امرأة!

وبعين المحروم، رأيتُ أول امرأةٍ جميلة، إلى درجة أن صُورتَها، بقيَت لفترةٍ غير قصيرة، محفورةً في مخيِّلتي. ولم أكتشف أنها لم تكن جميلةً فعلًا، إلا بعد أن ولَّت تلك الأيام، التي يُطرِّز فيها الخيال أحلامنا، أكثر مما يفعل الواقع!

•••

كانت أمنيتي الكبرى، حُلم حياتي كله، أن أصبح ممثلًا!

أكثر من مدرس، نصحني عن معرفة بي، بأن أتجه إلى الرياضيات؛ لأني موهوب في مجالها، ماهر للغاية في الحساب، إلا أني لم آخذ بمشورتهم. الكل كان يعرف أن قِبلة عمري هي التمثيل، عدا أسرتي التي تجاهلَت الأمر، وإن عرفَت به جيدًا. وتابعتُ دراستي.

رغم الفكرة المتسلطة عليَّ، تقدَّمتُ إلى امتحان الجزء الأول من شهادة البكالوريا، ثم الجزء الثاني من بعده، وكان على أوراق الامتحان أن تطير إلى إنجلترا، ليتم تصحيحها هناك، ولتُعتمَد في النهاية من جامعة أوكسفورد، حتى أستطيع أن أكمل دراستي في الجامعات الإنجليزية.

وحصلتُ في النهاية على درجاتِ تفوُّق تؤهلني لمتابعة الدراسة في إحدى جامعات إنجلترا فعلًا، ولكن كان هناك ما شد خطاي بعيدًا عن تلك المعاهد، هو شعوري بعدم الرغبة في تكملة التعليم، بصرف النظر عن تزكية أساتذتي، وحثهم لي على المتابعة.

بعدها بعامَين كوَّنتُ أول فريقٍ مسرحي برئاستي، فريق جُل أعضائه من الهواة، واخترتُ روايةً للمؤلف الفرنسي الكبير جان أنوي، لتكون أوَّل ما نقدِّم.

ولكن، لماذا أنوي وليس راسين أو موليير مثلًا؟

السبب قلة المال، ضعف رصيد الفريق المادي؛ لذا كان علينا أن نستبعد الكلاسيكيات؛ لأنها تتطلب من المال الكثير لإعداد الديكورات والملابس.

وأنا أذكر أن والدي، في عيد ميلادي السادس عشر، أهداني سيارةً جديدةً خاصة. ودار على المشارب والمقاهي التي اعتدتُ التردُّد عليها، أو السهر فيها، ودفع جميع ديوني، وطلب مني أن أخرج مع أصدقائي، وأتمتع على حسابه. فعل كل هذا عن طيب خاطر، ولكني لو طلبتُ منه مبلغًا صغيرًا لدعم فرقتي المسرحية لما استجاب؛ ذلك أنه كان يرى في الفن يدَ ماردٍ غريب، سوف يختطف منه ابنه الوحيد، عماده مستقبلًا، في تجارة الأخشاب!

لهذه الأسباب اكتفيتُ من الروايات بأبسطها كلفة، ولجأتُ إلى الهواة من تلاميذ مدارس الفرير والجيزويت، لأكون من أبرعهم.

كنتُ أدير الإنتاج، وكنتُ أخرج الروايات، وأيضًا كنتُ البطل.

ويبدو أن شكلي ومظهري، أو ما يصفونه اختصارًا بوسامتي، كان له الفضل في انطلاقتي الأولى؛ فقد بدأتُ ألاحظ اهتمام البنات بي، وأيضًا إعجاب الزملاء بأدائي؛ فالناس دائمًا على استعدادٍ لأن تتقبل شخصًا وسيمًا، أكثر من آخر حرمَته الأقدار من عطايا الجمال.

وأنا أذهب هنا، أبعد من هذا قليلًا، فأقول إن الكثيرين يردِّدون أن المرأة الجميلة غبية، والأمر ليس قاعدة، ولا هو صحيح في الغالب. ولعل ما يُروَّج عن الجميلة من غباء راجعٌ إلى قلة المجهود الذي تبذله من أجل اجتذاب الرجل، ولأن الجميلة لا تبذل مجهودًا؛ حيث غيرها تفعل، اعتُبرَت كسولًا، ثم غبية. وهي في الواقع لا هذه ولا تلك.

كنتُ، وأفراد فريقي، نتدرب في الغرف الخالية من بيوت الأصدقاء. أما البروفات النهائية، فكانت تتم في إحدى قاعات المسرح الجامعية التي كنا نستأجرها أيضًا لتقديم الرواية. ولم تكن أيٌّ من رواياتنا لتُعرض أكثر من ثلاث حفلات، ليس العيب فيها، أو فشل منا، وإنما لأن عدد الجماهير المتذوقة للفن الفرنسي في القاهرة، كان قليلًا.

وأذكُر ذات مرة، وبعد أن توفَّرَت لنا الخبرة بممارسة العمل عامًا ونصف العام، أني دعوتُ سفير فرنسا في مصر، وكان في ذلك الوقت مسيو كوف دي مورفيل، إلى حفل افتتاح مسرحيتنا «أوربيديس»، وقد هنَّأني السفير، في فترة الاستراحة بجدارة، وشعر والدي، وكان بين الحاضرين، بالزهو، فكاد يوافقني على اتجاهي، ولكنه تذكَّر تجارة الأخشاب فجأة، فسحب اعترافه، قبل أن يخرج من شفتَيه، ويُسجَّل عليه!

في الثامنة عشرة دخلتُ دنيا العمل!

وفقًا للتقاليد والعُرف، الابن يعمل في مهنة أبيه، خاصةً إذا كانت المهنة ناجحة ومربحة. وكان أبي يريدني أن أحذُوَ حَذْوه.

وكعادتي جعلتُ أمي الوسيطة في مثل هذه الأمور الحيوية والهامة. قلتُ لها محاولًا انتقاء العبارة التي تجذبها إلى صفي: أمي أنا لا أشعر في نفسي ميلًا إلى مزاولة الأعمال التجارية. أريد أن أكمل دراستي في لندن.

وقالت أمي، التي انحازت إلى جانبي، كعادتها، ودون مجهودٍ كبير: سوف أفاتح أباك في الأمر وأقنعه. ولكن ماذا تريد أن تدرس في لندن؟

وتوقَّعَت مني أن أقول الكيمياء، أو الطبيعة، على أساس أني موهوبٌ في الحساب والرياضيات، ولكن ردي كان: المسرح!

الرصاصة انطلقَت من شفتي!

أمي نظَرَت إليَّ طويلًا، وبدا في عينَيها اليأس فجأة، قالت لي صراحة إنها لا تمانع في أن أحترف التمثيل، ولا ترى عيبًا في الممثل، إلا أنها أضافت: لا أستطيع أن أقنع أباك بأن يوافق على أن يصبح ابنه الوحيد مهرجًا متجولًا!

هكذا وصفَت أمي التمثيل، ولعلها التقطَت الوصف من حوارٍ سابق مع أبي في نفس الموضوع!

انسحبَت أمي بانتظام. وحيث تفشل أمي، لا يستطيع أحد أن ينجح، مع أبي!

ووضعتُ على كتفي معطفًا أبيض، ونزلتُ إلى متجر أبي!

وبدأت المرحلة بدرسٍ طويل ومبسَّط منه، حاول به أن يفسِّر لي الفوارق بين نوع من الخشب والأنواع الأخرى، وأن يعوِّد عيني على قياس الألواح مبدئيًّا بالنظر، كما قدَّمني إلى عملائه الذين كان مقدَّرًا لهم أن يصبحوا عملائي. وقال لي أبي، شارحًا أساس التجارة: أن تبيع بأحد عشر قرشًا ما تشتريه بعشرة.

وأقول الحق أني لم أجد متعةً في ممارسة ذلك العمل الذي لا يناسب استعدادي الطبيعي، وإن كان غيري يسعد بممارسته.

وهنا أعترف بأني صُدمتُ نوعًا ما في أبي، كيف يقبل، هو الرجل المتدين، أن يخدع الناس؟ اتهمتُه بيني وبين نفسي في نزاهته، بالرغم من أن هذه هي قواعد التجارة المعروفة في العالم أجمع.

وعبثًا حاول أبي إقناعي بأن ربح التجارة حلال، وأنه لولا هذا الربح لما استمر متجرٌ واحد مفتوح الأبواب، ولكن كل شيء بدا لعيني غير قانوني وغير أخلاقي، أو لعلني بالغتُ في تصوير الموقف وجسَّمتُه، حتى أوفِّر لنفسي المبرر الكلي للانسحاب.

ولكي أقنع أبي بأني لم أخلق للتجارة، كان عليَّ أن أبدأ عملي بالبيع بالخسارة، وكان الأمر بسيطًا للغاية، القاعدة قلبتُها وعكستُها، ما كنتُ أشتريه بعشرة قروش كنتُ أبيعه بتسعة، تارة متعللًا بأن العميل شكا من مرض زوجته المُكلف، وتارةً أخرى معتذرًا بأن له ابنةً عاجزة، أو حماةً مقعدة!

أمي كانت تصيح بي: حذارِ؛ فهم يخدعونك بقصصٍ وهمية.

وكنتُ أتكتَّمها في أعماقي، ولا أقول لها: إنما أنا هو الذي يَخدَع!

ولم أكتفِ بهذا بل كنتُ أبيع للمحتاج بالأجل، أو بالدَّين. وحاولتُ أن أبرِّر موقفي لأبي فقلتُ له إن الأغنياء من التجار لا يحتاجون البيع الآجل، بل هو ضرورة للفقراء، واستمرَّت المهزلة عامَين. ولعل ظروف ثورة جمال عبد الناصر جاءت العامل المساعد لأن يقول لي أبي، تلك العبارة التي توقَّعتُ أن يتفوَّه بها مرارًا: حسنًا .. افعل ما شئت!

وفعلتُ ما شئتُ، وما شاءت الأقدار، ونجحتُ، والدليل وقفة أبي نفسه، الذي كان يصف الفنان بأنه «مهرِّج متجوِّل»، وقف تحت المطر يوميًّا، وفي طابور طويل، لشراء تذكرة لفيلمي العالمي الأول «لورانس العرب».

واليوم تغيَّرَت ظروفٌ كثيرة، وتبدَّلَت أحوالٌ عدة، بعضها عائلي، أختي مثلًا أصبحت أمًّا، وكان هناك إسبانيٌّ شاب، قد التقى بها، إبَّان عمله في القاهرة، وأُعجِب كلٌّ منهما بالآخر، فلما تزوَّجا، رحلَت معه إلى إسبانيا، واستقرَّا هناك.

وأختي تغيَّرَت بدورها بعد الزواج، استوى فيها عود الأنثى، فأصبحَت أكثر أناقة، وأكثر رشاقة، ولعل أجمل ما فيها شعرها الطويل، بلون النحاس، ونظراتها الجذابة، الوديعة. ورغم مهادنتها لي، فلا زال الكثير من طباعها مختلفًا مع طباعي. أنا أنفق، وهي حريصة. هي تزن كل الأمور بتعقُّل، وأنا أتصرَّف باندفاع. وأصبَحَت أيضًا أكثر تمسُّكًا بالدين، بنفس المقدار الذي ابتعَدتُ به أنا عنه. ومع الأيام، يزداد شبهُها بأبي، في حين تُضاعِف الأيام نفسها، من التقارب والتآلف بيني وبين أمي.

وكان من الصعب على أبي وأمي، وقد تقدَّمَت بهما السن، أن يظلا في القاهرة، بعيدًا عن ولدَيهما؛ لذا اتخذتُ عام ١٩٦٥م قرارًا بأن أنقل مقرهما إلى مدريد، ليكونا على مقربة من أختي؛ فمقرها هي ثابتٌ مستقر، أما أنا فدائم التنقل، بحكم مقتضيات العمل.

وفي المدينة الإسبانية الكبرى، عاد والدي إلى دنياه الحبيبة، إلى الأخشاب. وافتتح فعلًا متجرًا كبيرًا، يصادف كل نجاح ورواج؛ لهذا هو راضٍ سعيد. أما أمي فلا أشك في أنها وجدَت من الصديقات والأصدقاء، من يكمل معها شلة اللعب!

نادية ذو الفقار في تلك الفترة كانت تدرُس في سويسرا، وكذلك طارق، والدراسة في ذلك البلد الأوروبي المحايد، الشديد الغلاء مكلِّفة جدًّا؛ لذا كانت أعبائي المالية من الكبر بحيث كنت أضطَر أحيانًا إلى قبول فيلمٍ ما كنتُ لأرضى عن دوري فيه، لولا الحاجة إلى المال. وهذا لا يُترجَم على أنها كانت أفلامًا رديئة أو سيئة، وإنما لنقُل إنها لم تكن ملائمة لي تمامًا.

وأما اليوم، وأنا أتجول في أرجاء شقتي الباريسية، المُطِلة على تلك الغابة الخضراء، المحيطة كالسوار الرباني بالجانب الشرقي من العاصمة، إنما أشعر أني نمرٌ وحيد في قفصٍ ضخم. وهذا الشعور يجعلني أحنُّ إلى حياة الأسرة، إلى العيش وسط عائلة، وسط عائلةٍ أنا ربُّها.

وشقتي خالية أو شبه خالية. لقد انتهت أعمال الديكور بها. أما الأثاث ذاته فما زال ناقصًا، أو لعلها بلا أثاث، إذا ما استثنينا حجرة نومي، والحمَّام الملحق بها، وهي المساحة الأقل التي يمكن أن أعتبرها قد اكتملَت.

ولكن لماذا أترك شقتي خالية أو شبه خالية؟

السبب أني أريد أن أترك لزوجتي تلك المهمة؛ فالمرأة وخاصة الزوجة، تميل إلى أن ترسم بذوقها الخاص، ومزاجها الخاص، خلفية الصورة في القصة التي هي بطلتُها.

خضوعًا لمعرفتي هذه، وإدراكًا مني لطبيعة المرأة، أترك لرفيقةِ ما تبقى من العمر، مهمة تأثيث الغرف المخصَّصة لها، وللأولاد الذين أودُّ من صميم قلبي أن أرزَق بهم مستقبلًا، ليكونوا إخوة لطارق، وأيضًا لنادية.

لكن وحدتي تعرَّضَت لفتراتٍ قصيرة من التقطُّع. والغرف الخالية تنشغل أحيانًا لفتراتٍ متفاوتة المدى والمدة. والذين يشغلونها هم عادةً أبي وأمي عندما يزوران باريس، وأيضًا فاتن حمامة عندما تحل ضيفةً عليَّ!

كنتُ في العشرين من عمري عندما التقيتُ بفاتن حمامة للمرة الأولى، ذلك اللقاء الذي قدِّر له أن يكون منعطفًا هامًّا في طريق حياتي، سواء على الصعيد الشخصي، أو على الصعيد المهني.

لقاؤنا تم بتدبير من يوسف شاهين، ويوسف صديقٌ من أصدقاء الطفولة، جمعَتنا معًا مقاعد المدارس الإنجليزية، قبل أن تتشعَّب بنا الطرق، فيسافر هو إلى أمريكا لدراسة الإخراج، وأبقى أنا على أرض الوطن، أزرع شتلات البكور في أرض الفن، بالقيام بأدوار البطولة في مسرحياتٍ تُقدَّم ضمن إطار الهواية المدرسية.

وقد عُدنا إلى الاجتماع، بعد أن أنهى يوسف دراسته، وبدأ يمارس الإخراج فعلًا في مصر. كان صديق الأمس البعيد يستعد ليقدِّم للشاشة فيلمه الرابع، عندما عرض عليَّ أن يُجري لي اختبارًا سينمائيًّا، فنزلتُ عند رغبته، ووقفتُ أمام الكاميرا لأول مرة.

كان الفيلم الذي يستعد له يوسف بعنوان «صراع في الوادي»، وكانت بطلتُه فاتن حمامة، ولم تكن هناك من عقبة أمام يوسف، وقد رضي تمامًا عن الاختبار، سوى أن توافق البطلة الكبيرة.

ودعتنا فاتن لتناول فنجان قهوة في بيتها، وكانت نقطة البداية أن تشاهد نموذجًا من أدائي التمثيلي.

وأعترف هنا بأني خدعتُ فاتن، خدعتُها في ذلك اللقاء وحده؛ فقد اخترت مشهدًا من مسرحية «هاملت» لشكسبير، لأني كنتُ أعرف تمامًا أنها لن تفهم كلمةً واحدة من الحوار، وأن محاولتها متابعتَه قد تصرفها عن التدقيق في أدائي. وفعلًا، راحت فاتن تتابع تمثيلي وهي تتظاهر بالاهتمام، ثم أبدت موافقتَها، ففزتُ بالبطولة!

يوسف لم يدَع، بعد موافقة فاتن حمامة، مجالًا للحظ، بل رأى أن نبدأ على الفور فترةَ تدريبٍ شاقة، استمرَّت ثمانيةَ شهورٍ كاملة، تدرَّبتُ خلالها على مسرحيات شكسبير كلها، على أساس أنها باختلاف شخوصها وأبطالها المرسومين بدقة وبراعة، تتضمَّن التعبيرات الأساسية كلها المطلوبة من الممثل.

ثم جاء اليوم الموعود، يوم البدء في التصوير، ورحَّب بي العاملون جميعًا في البداية على أساس أني صديق المخرج، فلما تتابعَت الأيام، أصبحتُ واحدًا من الأسرة. وأحمد الله على أني لم أمُرَّ بمرحلةٍ صعبة، هي مرحلة خوف المبتدئ، وتردُّده أو تهيُّبه. ولغة يوسف شاهين السينمائية كانت مختلفة كل الاختلاف عن لغة سائر مخرجي القاهرة؛ فقد تخرج في جامعة باسادينا الأمريكية، وتعلَّم منها كيف يخاطب المشاهد العربي بالطريقة العالمية، ومن هنا انطلق بسرعة وثبات.

ويوسف اليوم من ألمع أبناء مهنته، ليس في مصر وحدها، وإنما في نظر العالم. و«العصفور»، أحد أفلامه الأخيرة، أحدث ضجةً كبرى عندما عُرض في دول العالم، وخاصةً فرنسا. وقد منعَت القاهرة عرضه في البداية، لأسبابٍ سياسية، ثم عادت وصرَّحَت به، فعرف النجاح الجماهيري الكبير في مصر أيضًا.

وكان زوجها من التفهُّم والسماحة بحيث وافق على أن يُطلِّقها، وهو الذي كان في وسعه أن يحتفظ بها ما شاء، حتى قسرًا؛ لأن عقد الزواج، حسب قوانين الأحوال المدنية في مصر، يضع الخيوط المصيرية كلها في يد الرجل، كما أن أغلب بنوده لصالحه، ولكن زوج فاتن الأول كان إنسانًا نبيلًا؛ لذا لم يشأ أن يعترض طريق هنائها، فطلَّقها بمعروف. لم تكن هذه أولى العقبات، ولا هي كانت آخرها؛ فقد صادفنا العقبة الأكبر، ألا وهي اختلاف الدين؛ فهي مسلمة وأنا مسيحي، وكان مُحتَّمًا عليَّ أن أغيِّر ديني كي أتزوَّجها. وتوجَّهتُ إلى أحد رجال الدين الإسلامي، وعرضتُ عليه الأمر، فقام بتلقيني المبادئ الأساسية للإسلام، نطقتُ بعدها أمامه بالشهادتَين، ووقَّعتُ على وثيقةٍ رسمية تُثبِت اعتناقي الإسلام.

كان حفل زواجنا بسيطًا وجميلًا، وقد تم في الخامس من شهر فبراير ١٩٥٥م. وكان لفاتن ابنةٌ من زوجها الأول، هي نادية، وقد تبنَّيتُها عندما مات والدها، بعد الزواج بعامَين.

زواجي من نجمة مصر الأولى ساعدني بلا شك على أن أكمل المشوار على الأرض التي خُلقتُ للسير فوقها، أرض الأضواء. ووضعَني الزواج أيضًا على الخط الأول، في مواجهة الجماهير الغفيرة، التي وددتُ لو أنها أصبَحَت العالم كله.

ولكني أقول إن عملي مع فاتن حمامة كان يضايقني، والسبب أنه كان في أعماقي شعورٌ دفين بأن شمسَها تخسف وجودي. وعندما كنتُ أمثِّل فيلمًا مع غيرها من الممثلات كنتُ أشعُر بالحرية، أشعُر ساعتَها فقط أني ملك نفسي، وأني البطل فعلًا!

ذكرياتُ العمل في الخارج

البقعة السوداء لم تعُد بقعة، اقترابها مني واتجاهي نحوها، حوَّلها إلى خطوط، والخطوط بدورها كوَّنَت الصورة، صورة ديفيد لين، المخرج القدير، الذي قدَّم للشاشة أفلامًا لا تُنسى، منها «اللقاء القصير»، و«جسر على نهر كواي»، و«أوليفر تويست».

نظرتُ إليه بتودُّد؛ فقد شعَرتُ أن خيوط القدَر قد غدت رهينةً بجذبات أنامله. ونظر هو إليَّ بتمعُّن، راح يُسدِّد إليَّ نظراتٍ جريئة، لا تعرف التردُّد أو الخجل، حتى أحسَستُ للحظاتٍ أنه إنما يعرفني من ثيابي. هذه هي عادة السينمائيين السيئة، وكانت هذه أولى تجاربي معه، وإن ألِفتُها بعد ذلك. وما إن انتهى فحصُه الدقيق، حتى فُوجئتُ به يضع ذراعه حول كتفي، ثم يسير بي في اتجاه خيمةٍ كبرى منصوبة في الصحراء، كانت تقوم مقام حجرة الثياب. وما إن لمحَنا الرجل المختَص بالملابس حتى أسرع إلينا، ولكن ديفيد نحَّاه جانبًا، وهو يقول: ابتعِد عنا. هذا الشاب يعرف ما يناسبه من ثيابٍ أكثر منك.

ونظر إليَّ، ثم قال: ما الذي تعتقد أنه يتلاءم معك؟

ودرتُ بعيني سريعًا في المكان، ثم التقطتُ جلبابًا أسود. وابتسم المخرج الكبير؛ لأنه كان بدوره قد اختار لي نفس الجلباب، وإن سكت حتى لا يؤثِّر على اختياري، أو حتى يختبره على الأصح. ومن جديدٍ اتجهنا إلى غرفة المكياج، وجرَّبتُ وضع لحية ولكنها لم تناسبني، ووضعتُ عوضًا عنها شاربًا، وهنا صاح ديفيد: هذا هو المطلوب تمامًا. وأصبح الشارب الأسود من معالمي الجديدة، وأصبح أيضًا، فيما بعدُ، من لوازم أدواري الأخرى. وكانت الخطوة التالية أن أقف أمام الكاميرا.

بالرغم من الضوء الساطع لشمس الصحراء، إلا أن المخرج أصدر أوامره بأن تُوجَّه إليَّ أضواء الكشَّافات؛ فهي أطوع في الحركة، وأقدر في التسليط من زوايا معيَّنة، أو أماكنَ محدَّدة. ولمحتُ فيما أنا أستعد للتصوير، شابًّا له عينان زرقاوان طيبتان، قدَّمه لي المخرج قائلًا: بيتر أوتول.

منذ لحظتها، نمَت بيننا الصداقة؛ فقد تبادلنا كلماتٍ قليلة أكَّدَت لي خفةَ ظله، والطيبة الظاهرة في عينَيه.

ومثَّلتُ مشهدًا مع بيتر أوتول، ثم طلبوا إليَّ أن أقف مرةً جديدة أمام ممثلٍ فرنسي اختاروه لدور علي، وما إن رأيتُه حتى تذكَّرتُ على الفور لقاءنا في مهرجان كان؛ فلم يكن الممثل سوى موريس رونيه، ذاك الذي وصفَني بكلماتٍ حذِرة تقول إني صاحب موهبة.

ُرسلت المشاهد التي تم تصويرها على سبيل الاختبار إلى أمريكا لطبعها، وأرفَق بها ديفيد بطاقةً تفسيرية، قال فيها: «كما تَرونَ في اللقطات، الممثل الاحتياطي عربيٌّ حقيقي، ويجيد التمثيل.»

ووصل ردُّ الشركة حاملًا بشرى إليَّ؛ فقد رأى المسئولون ألا يسندوا إليَّ الدور القصير الذي لم يُكتَب بعدُ، وإنما طلبوا أن يُسنِدوا إليَّ دور «الشريف علي». طار الدور من موريس رونيه، وأصبح من نصيبي. بعدها عرفتُ القصة من ديفيد نفسه، عرفتُ كيف رُشح موريس، وكيف سُحب منه الدور. قال لي المخرج الذي أدين له بفضلٍ كبير، إن الشركة بحثَت طويلًا عمن يقوم بدور «علي». بحثَت في أمريكا ثم في أوروبا، دون أن تجد مَن تنطبق عليه الشروط التي حدَّدها هو؛ فقد كان يرى «علي» أسمر الملامح، داكن العينَين. وذلك حتى يكون هناك تناقضٌ مرئي (كونتراست) بين شقرة لورانس وسمرة «علي».

وفوَّض ديفيد المنتج سام سبيجل في شأن التعاقد، فكان أن أبرم عقدًا مع موريس رونيه وأرسله إلى الأردن. وما إن رأى المخرج، حتى أمسك بالهاتف، واتصل بسام في أمريكا، قائلًا: إنه لا يصلح؛ فعيناه خضراوان.

وردَّ سام: فات وقت الاعتراض؛ فقد وقَّعنا معه عقدًا.

ولكن ديفيد المشهور بعناده الفني، لم يرضَخ للأمر، ولم يقبل بالهزيمة؛ فقد استدعى مساعديه، وقال لهم: أحضروا إليَّ صور جميع الممثلين العرب؛ فلا بد أن يكون بينهم مَن يصلُح، وكان أن اتصل أحد المساعدين بي، من مكتب القاهرة.

هذه كانت الدرجة الأولى في السلم الكبير، سُلم العالمية، وكانت أيضًا خطوة بيتر الأولى في اتجاه هوليوود؛ فهو لم يكن قد زارها من قبلُ، حتى تلك الليلة الموعودة التي قضيناها وراء القضبان.

وكان يعمل معنا، أو على الأصح، كنتُ أعمل أنا وبيتر مع اثنَين من مشاهير النجوم، إليك جينس وأنطوني كوين. ويا لها من أيامٍ تلك التي قضيتُها أعيش إلى جوار هؤلاء النجوم! أقاسمهم اللقمة والحديث والعمل، فإذا ما سجى الليل، تفرَّقنا كلٌّ إلى خيمته لينعقد شملنا ثانيةً في الصباح.

كان إليك جينس دائم الحديث عن شكسبير، شاعر وطنه إنجلترا الأكبر، كان يتكلم عنه وكأنه واعظ في محراب، يدعو الناس إلى تأليهه فنيًّا. وكنتُ قد لُقِّنتُ في مدرستي الإنجليزية مبادئَ قليلةً من عظمة شكسبير، إلى جانب قراءةٍ سريعة لبعض رواياته، ولكن من حديث إليك تعرَّفتُ إلى نواحٍ كانت خافية، وبدأتُ مثله تمامًا، أضعُه في مكانة أكبر كثيرًا من برنارد شو.

ولم يكن إليك يتحدَّث إلا في الفن، فإذا ما دارت عجَلة الكلام في اتجاهٍ آخر لزم الصمت. وإليك، بالرغم من سنه المتقدمة، هو أكثر النجوم الذين التقيتُ بهم خجلًا. فهو منطوٍ على نفسه في الغالب، لا يهمُّه من الحياة سوى عائلته وفنه.

وكانت حياته العائلية قد تعرَّضَت لإعصارٍ شديد كاد يقضي عليه تمامًا، حتى تدخَّلَت السماء لإنقاذه. كان إليك الذي وُلد يهوديًّا، زوجًا وأبًا لصبيٍّ واحد، وقد أصيب ابنه فجأةً بمرض وصفه الأطباء بأنه خطير، وعجزوا تمامًا عن تشخيصه. وقد طاف إليك معابد اليهود الواحد بعد الآخر يُصلي، ويقدم النذور دون جدوى، حتى خطر له أخيرًا أن يدخل كنيسةً كاثوليكية. وقف الأب الحزين أمام الهيكل يبكي، ثم إذا به ينذُر اعتناق المسيحية إن شُفي ابنه. وقد شُفي ابنه فعلًا، وأصبح إليك من أكثر المسيحيين تدينًا وتعصبًا.

هذا عن إليك. أما أنطوني كوين فكان من الصعب الامتزاج بهِ، والسبب أنه مخلوقٌ غريب، عاش طويلًا وفي أعماقه صراع، صراع بين نصفه الأيرلندي ونصفه الآخر المكسيكي، إحساسه بأنه ليس أمريكيًّا يعيش وسط الأمريكيين، رسَّب في أعماقه نوعًا من الشعور بالاضطهاد، جسَّده في وجدانه أن المخرجين حصروا نشاطه في أفلامه الأولى ضمن دائرة الهنود الحمر. وقد عاش وهذه الضغوط النفسية تُقلِقه، ولم يُشفَ منها إلا بعد أن تزوَّج من ابنة المخرج الكبير سيسيل دي ميل. بعدها شعَر بالثقة في نفسه، وبعدها بدأَت موهبته تتبلور وتظهر، ولكن جراح أنطوني كوين لم تلتئم تمامًا، أو لعلها التأمَت وخلَّفَت وراءها نوباتٍ كان يشعُر بها بين الحين والآخر. والصداقة بيننا لم تتوطَّد إلا بعد أن عملنا معًا ثانية في فيلم فرد زينمان «الجواد الشاحب».

أقربهم إلى قلبي ظل ذلك المهرج الأيرلندي الذي يُفْرِط في الشراب، ويُكثِر من التهريج، ويلبس بطريقةٍ خاصة تجعل من حوله يشعُر أن الطفل بداخله لم يكبر.

وبيتر أوتول صادق مع نفسه ومع فنه، وهو يعيش فنه ببساطة، وكأن أعماقه تحوَّلَت إلى منشورٍ زجاجي يعكس أضواء موهبته في صورة طيفٍ صافٍ وجميل. وهو محدِّثٌ لبِق، لا يمَل الإنسان سماع ما يقول، وله قدرةٌ خاصة على أن يروي القصة الواحدة بعشرات الروايات المختلفة، كلٌّ منها يناسب طبقةً خاصة من المستمعين.

وأنا وبيتر لم نصبح زميلَين فقط، وإنما تحولنا مع الأيام إلى شريكَين، أو متآمرَين، حسب الظروف!

وكان من عادة الشركة أن تمنحنا كل شهر أسبوعًا إجازة، كنا عادةً نقضيه في بيروت التي تنقلنا إليها طائرةٌ خاصة. وفي إحدى هذه الرحلات، بدأتُ سهرةً ممتعة وأنا واعٍ، وأنهيتُها وأنا لا أعرف عن المكان ولا الزمان شيئًا؛ فقد كان بيتر هو الذي يدير كل شيء، وفتحتُ عيني بعد مجهود، فإذا بي في فراشٍ وثير، وبين ذراعي فتاةٌ جميلة، ووجدتُ نفسي في وسط لغز لا أعرف له حلًّا. لم أكن أعرف من هي الفتاة، ولا في أي يوم نحن، أو حتى في أية ساعة من النهار أنا. واتجهتُ وأنا نصف نائم، إلى غرفة بيتر، فإذا به في مثل حالتي، وفتاته تكاد تكون نسخةً من فتاتي، أو توءمها. نهرتُه، وطلبتُ إليه أن يرتدي ملابسه على عجَل، حتى نلحق بالطائرة. ما إن وصلنا المطار، حتى فوجئنا بالموظف الذي اعتاد إنهاء إجراءاتنا يقول بدهشة: أين أنتما؟ لقد أقلعَت الطائرة أمس.

وسارعنا نستأجر طائرةً خاصة، ووصلنا إلى مكان التصوير، لنجد ديفيد يعمل بسوانا من الممثِّلين، وهو يتساءل عما عساه حدث لنا. وما حدث مرةً تكرَّر بعدها؛ ففي زيارةٍ أخرى ضاعف بيتر عدد الحسان، فكان أربعًا في فراش كل واحدٍ منا. وفي تلك الزيارة فاتتنا الطائرة أيضًا، ولكننا لم نلحق بمكان التصوير في اليوم التالي، وإنما بعد أسبوعٍ كامل!

كالنسر، كالصقر، كطير من طيور الصيد والقنص القوية كان ديفيد لين.

أنفه كبيرٌ شامخ. ونظراته حادة، ووجهه ينبئ عن عزم.

وهو على عكس بيتر أوتول كان قليل الكلام، لا يميل إلى المزاح، أقرب إلى التزمُّت. ولأنه كان من أسرةٍ محافظة؛ فقد شب تقيًّا متمسكًا بالخلق والتقاليد. ولعل هذا سببٌ من الأسباب التي كانت تجعل عينَيه في الغالب شاخصتَين إلى السماء.

وعندما عملنا معًا في عام ١٩٦١م، كان ديفيد في الخمسين، وهو اليوم في منتصف الستينيات من عمره، وبالرغم من هذا فما زال محتفظًا بوسامته. وهو إنسانٌ يعيش لفنه وبفنه. مخلص لعمله للغاية، يُحب القراءة، وما يلتهم في سطور عن السينما دائمًا في كافة مجالاتها. وهو مقل في أفلامه، قد تنقضي ثلاث أو أربع سنوات قبل أن يبدأ فيلمًا. ولكنه أبدًا لا يقبل إلا إذا كان قد استعد للشريط الجديد من كافة النواحي، ومن هنا لم يسقط له فيلمٌ واحد.

مخرج «لورانس» كان من الدقة بحيث كان يُزيل من الصحراء حتى آثار الأقدام قبل أن يبدأ التصوير، وكان يُخصِّص لهذا العمل ثلاثمائة بدوي، يضع كلٌّ منهم في قدمَيه خفًّا من جلد الحيوان، بحيث يطمس في طريقه العلامات التي تحملها الصحراء. سنتان قضيتُهما في تلك الصحراء الخالية حتى من آثار الأقدام. سنتان، حسبتُ نفسي قد تحوَّلتُ، مثل غيري، إلى حبة من رمالها الذهبية. هي جزءٌ يسير جدًّا من كلٍّ كبير جدًّا.

وأنا أحب الصحراء، أحبها جدًّا، منذ كان والدي يروي لي قصصها، وهو يحاول أن يجلب إلى عيني النعاس. كان أبي، وهو منحنٍ فوق فراشي، يقول لي إن سكان الصحراء لا نجاة لهم جميعًا إلا بتعاون كل فردٍ منهم مع الآخرين، وإن الأخوة بين سكانها، هي السقف الوحيد الذي يقيهم أشد العواصف. والصحراء هي المدرس الأول الذي علَّم السكان الشجاعة والعطاء الكبير. وهي أيضًا باحةٌ كبرى، يعيش الناس فوقها وهم خاضعون تمامًا لسيدَين؛ الجوع والظمأ. هذان السيدان هما اللذان يُصْدران الأوامر بالبقاء أو الرحيل.

وبالرغم من أننا كنا نعيش في الصحراء، إلا أن إدارة إنتاج الفيلم وفَّرَت لنا الكثير من عناصر الرفاهية، قَدْر المستطاع. كان لكلٍّ منا مقصورةٌ مكيفة الهواء، وخادم أو تابع يلبي رغباته، كما كان هناك مقصفٌ تام التجهيز، يقدِّم للآلاف كل يوم، بمن فيهم الأعراب من أفراد الكومبارس، الطعام المناسب لكل فئة، علاوةً على بارٍ يشرف عليه ساقٍ متخصِّص، يضم قائمة الخمور التي يقدِّمها مطعم «المكسيم» الشهير في باريس كاملة. مثل هذا البذخ في الإنتاج، والدقة في التفاصيل، لم يعُد موجودًا اليوم في الإنتاج السينمائي؛ نظرًا لارتفاع الأسعار، وأيضًا لاهتمام هوليوود بالأفلام المتوسطة، التي تدرُّ دخلًا سريعًا، وإن كان قليلًا. وكانت الشركة، تنظِّم لنا كل أسبوع، عرضًا خاصًّا لواحد من الأفلام الجديدة، مائة فيلم واثنان شاهدتُها خلال عملى في الصحراء، ولكن كنتُ عاجزًا عن متابعة تفاصيلها، ربما بسبب تعب العمل، أو عدم توفُّر المناخ المناسب للعرض السينمائي.

شيء واحد كان ينقصنا، المغطس الدافئ الماء، الممتلئ بالأملاح المنشطة، والصابون السائل الوفير الرغاوي. كان «الدوش» هو طريقة الاستحمام الوحيدة الممكنة؛ لذا ما إن كنا نصل إلى بيروت في رحلاتنا الشهرية، أنا وبيتر، حتى كنا نملأ المغاطس بالماء، والصابون، والعطر، ونندس بداخلها، ومعنا دلو به زجاجات الشمبانيا، تحيط بها مكعبات الثلج. كنا نحتفل في البداية بالحمَّام، ثم نبحث عن طريقةٍ أخرى لقضاء احتفالٍ أكثر متعة، واسألوا حسان بيروت، عن بقية التفاصيل. ونعود من الواحة الجميلة، من لبنان.

مرةً أخرى يستقبلنا العمل الطويل، الدقيق، وأوامر ديفيد لين الصارمة والواعية؛ فهو واحد من المخرجين القلائل الذي يحوِّل عواطف ممثليه إلى أجهزةٍ دقيقة، تُنتِج الدمعة أو تقدِّم الضحكة وفقًا لمشيئته، وحسبما يتراءى له وهو ممسك بالسيناريو. وينتهي العمل، فلا أنام قبل أن أتأمل الصحراء ثانية، وأستعيد بعضًا مما رواه لي أبي، معلمي الأول.

إن الصحراء هي أرض التأمل؛ فهي كانت لهذا السبب مهبطًا لأغلب الأنبياء، ومصدرًا لأكبر الفلسفات. والعرب، منذ رسالة محمد عليه السلام، لم يعرفوا الخوف؛ لأن الرسول علمهم كيف أن الموت ليس هو النهاية، وإنما هو البداية. وكان أبي يختار لي من بين آيات القرآن والإنجيل، ما يبعث في النفس الأمل والشجاعة. وهذه المشاعر كانت غالبًا مغروسةً في أرض الصحراء.

ليالٍ طويلة قضيتُها وعيناي على الصحراء الواسعة، المترامية، التي لا حدود لها. إلا ذلك الخط الذي يربط بينها وبين سماءٍ صافية الأنجم. وفي الصحراء، تحت السماء الصافية، ازداد إيماني بالله، بل لعلني وجدتُ الرب هناك!

•••

يبدو أن ركوب الخيل جعلَني أقفز فوق سدودٍ كثيرة، من بينها سد الزمن؛ فقد أغفلتُ، وأنا أتحدث عن الجياد والحظائر، بعضًا من الأحداث الهامة التي أرى لزامًا أن أعود إليها؛ لأنها تتناول مراحل لها علاماتها، وأفرادًا لهم معزَّتهم. وإذا كان فيلم «ليلة الجنرالات»، قد اقترن في الذاكرة، حتى قبل أن أبدأ تصوير أول لقطة منه، بعملية شراء أول نصف حصانٍ امتلكتُه، أو على الأصح ملكيتي بالنصف لذلك الحصان، حتى لا أُتَّهم، وفقًا لتعبيري، بأني شطرتُ واحدًا من تلك الحيوانات النبيلة نصفَين، فإن العمل في نفس الفيلم، جعلَني أكتشف أن جراح الذل والاستعمار، مثل جراح المريض بداء السكَّر، من الصعب جدًّا أن تلتئم.

كان دوري في الفيلم، هو دور ضابطٍ ألماني، يحقِّق في حادث مقتل بنت هوًى، كانت على علاقة بأحد الجنرالات الألمان أيضًا. وبدا لي أن من بين الأسباب الأولى لإنتاج هذا الفيلم إعادة تكوين الثنائي السينمائي الذي أرسى نجاح فيلم «لورانس العرب»؛ أي أن تتضمَّن مقدمة الشريط اسمي واسم بيتر أوتول؛ فهو الذي اختير ليكون الجنرال الذي يستضيف في فراشه بائعة الهوى، التي عثَروا فيما بعدُ على جثتها ممزقة!

وشعَرتُ بسعادةٍ كبرى، وأنا ألتقي بيتر أوتول ثانية، فأجد معه ذكريات العمل الأولى، وأيضًا بعض مغامراته، ولكنَّ هناك شيئًا نغَّص عليَّ سعادتي، هو اضطراري إلى أن أرتدي بزَّةً عسكريةً ألمانية، هي ما كان يرتديه الضباط إبَّان العهد الهتلري، والذي ضايقَنى أني شعَرتُ أنها مقبضة، علاوةً على كونها لا تناسب تكويني الجسماني. وقد حاولتُ أن أقنع مخرج الفيلم أناتول ليتفاك، باستبدالها بأخرى مدنية، أو إدخال بعض التعديلات عليها، ولكنه أصَرَّ على موقفه، ووجدتُه على حق في النهاية؛ لأن الأمانة التاريخية، والدقة الفنية، كانتا تحتِّمان عليه ألا يمسَّهما إطلاقًا.

وشذَّبوا شاربي بطريقةٍ جديدة، قرَّبَته من شوارب الألمان، ثم ألبسوني البذلة المقيتة، فشعرت أن إنسانًا مختلفًا تمامًا، هو الذي تحمله قدماي. كنا في شهر يناير، وكانت اللقطات الخارجية تصوَّر في شوارع مدينة وارسو، إحدى العواصم الأوروبية، التي قُدر لها أن ترزح تحت نير الاحتلال النازي. وكان الجو شديد البرودة؛ لذا بدا لي، بين مشهدٍ وتالٍ، أن أتوجَّه إلى مقهًى متواضع، في نهاية الطريق، لأحتسي فنجانًا من القهوة الساخنة، علَّها تطرد من أوصالي، بعضَ ما كنتُ أشعر به من برد. ما كدتُ أدخل المكان، حتى فوجئتُ بالعيون كلها تنظر إليَّ بكراهية وحقد، ثم استدارت الوجوه جميعًا، وهي متجهِّمة، وراحت تنظر في اتجاهٍ مضادٍّ لموقع جلوسي. ولمحتُ في بعض العيون، قبل أن تحيد عني، ندًى من دموع. وصفَّقتُ، فلم يُلبِّ ندائي أحد. وتذكَّرتُ البذلة العسكرية المقيتة التي كنتُ أرتدي. ولم يسمح لي ضيق الوقت باستبدالها، فنهضتُ عن مقعدي، وتوسَّطتُ المكان وأنا أصرخ بصوتٍ عالٍ: «لستُ ألمانيًّا، أنا أمثل فيلمًا أمريكيًّا، أنا أمريكي!»

فقد زيَّفتُ حتى جنسيتي حتى أبدِّد بسرعة ملامح الأسى، وأزيل تجاعيد العذاب، ولكنهم ظلوا يديرون لي ظهورهم، كما امتنع الساقي عن أن يقدِّم لي شيئًا!

لحظتَها شعَرتُ أن مجرد منظر البذلة العسكرية الألمانية، حتى على جسد ممثلٍ زائر، قد نكأ الجراح القديمة. لقد أرهبَت بدلة الحرب، حتى في زمن السلم، أولئك الذين قاسَوا بسببِها الأهوال، فانصرفتُ، وعدتُ إلى مكان التصوير، والبرد ما زال يفري أوصالي، وقد بدا لي، بدافع من الفضول هذه المرة، أن أتوجه ثانيةً في اليوم التالي، بنفس البزَّة، إلى ذات المقهى، على أساس أن الروَّاد يتغيَّرون من يوم لآخر، فإذا بي ألاقي المعاملة السابقة.

لقد مرَّت على أبناء بولندا عشرون سنةً كاملة، ورغم هذا لم ينسَوا، لم ينسَ رجالٌ شرفاء صورة احتلالٍ أذلهم، ولا ذكرياتٍ أقضَّت مضاجعَهم؛ فالسنون تطمس في نفوسنا أشياءَ كثيرة، ليس الهوانُ من بينها!

وبقينا في وارسو شهرًا كاملًا، لم أخلع بذلة هتلر، وتعلَّمتُ بسببها أن أكره النازية، حتى دون أن أكون عانيتُ من عذاباتها شديدًا!

بعد وارسو، عدنا إلى المدينة الأحب، إلى باريس؛ فقد وقع اختيار أناتول ليتفاك على استوديوهات العاصمة الفرنسية، ليتابع في بلاتوهاتها تصوير المشاهد الداخلية. وما كاد العمل في «ليلة الجنرالات» يوشك على الانتهاء، حتى وجدتُني أعود إلى هوليوود، ليس بقصدٍ واحد، وإنما باثنَين.

الأول كان «ذهب ماكنا»، وهو أول وآخر فيلم من ليس أكثر من طبقٍ جديد على مائدةٍ ألِفَت ألوانًا محدَّدة حتى كادت تملُّها. وربما كان التجديد وحده، هو الذي حدا بالداعية، إلى أن تستقبل في بيتها أول مثلٍ عربي ينجح في هوليوود. وتوالت بعدها الدعوات حتى لم أعُد أجد ليلةً واحدة أخلو فيها إلى نفسي، ومع الحفلات بدأَت المغامرات!

نساءٌ كثيراتٌ التقيتُ بهن في سهرات هوليوود الخاصة. وارتبطتُ مع الكثيرات من بينهن بعلاقاتٍ مستمرة أو منقطعة، طويلة أو عابرة. تُلزمني الأمانة أو التقاليد الشرقية، بأن أتكتَّم أسماء صاحباتها، وأحتفظ بها لنفسي؛ لأني لا أريد لواحدةٍ من بينهن، وهي تربط مصيرها برجلٍ من بعدي، أن تلتقط أذنا رجُلها، همسةً من شفاه الحاضرين، تقول: إنه سيتزوَّج عشيقة عمر الشريف السابقة!

مثل هذه الهمسة، وإن نُطقَت خفيضة، كفيلة بأن تبدِّد هناء صاحبها؛ لأنه ليس هناك أقسى على غرور الرجل، من أن يرتبط بامرأةٍ كانت لها علاقةٌ بمن هو أشهر منه!

ولكن ما يحدث في الحفلات الخاصة، يختلف تمامًا عن ذلك الذي «يدبَّر» في الحفلات التي ينظِّمها ويدعو إليها مديرو الدعاية في الشركات السينمائية الكبرى؛ فرجال الدعاية بخبرتهم، وحِيَلهم، ومعرفتهم بنفسية الجماهير، هم الذين يختارون لك الرفيقة والمكان، وهم أيضًا الذين يتولَّون عنك دفع الحساب، إذا ما كانت الخطة الظهور في مكانٍ عام، وكأنك تسهر فيه بالصدفة، وتلتقي فيه مصادفةً أيضًا مصورًا يختلس لك صورًا، «تُفاجأ» بها منشورة في صدر صحف عاصمة السينما!

أقول «تُفاجأ» لأنك تكون في الواقع على علمٍ مسبقٍ بتفاصيل الخطة كلها. وربما وجدتَ نفسك تردِّد كالببَّغاء عباراتٍ خاصة، مطلوب أن يسمعها بعض جيرانك، على أساس أنها همساتُ حب، وحتى يصبحوا شهود عيان على الواقعة التي تجيء على صفحات المجلات والجرائد.

كل هذا يتم بحسابٍ دقيق، وبتوقيتٍ مدروس. وقد أحببتُ هذه اللعبة، لماذا؟

لأنها ساعدَتني، وأنا الممثل الجديد، على أن أغدُوَ معروفًا بسرعة، ولأنها أيضًا وفَّرَت لي السهرة الممتعة، والرفٍيقة الجميلة، على حساب الشركة. ولأكن صريحا فأضيف: ولأني كنتُ أستغل الموقف أحيانًا لحسابي الخاص، فأذهب في الشوط إلى أكثر مما كان محددًا لي. ولم أكن الوحيد المستفيد من الموقف؛ لأن رفيقتي، وكانت تُختار عادةً من بين الممثلات الناشئات، كانت تحقِّق بعد ليلةٍ واحدة من تلك الليالي، من الشهرة والنجاح، أكثر مما تحقِّقه من معاهد التمثيل، بعد دراسة الشهور الطويلة!

ليلة السيدة مينلِّي، كانت ليلة «الدخلة» إلى المجتمع الأمريكي، إذا ما جاز استعارة تلك الكلمة، الشائعة في الأفراح! وأذكُر أن أسئلةً كثيرة انهمَرَت عليَّ ليلتَها، كنتُ أكتفي بالابتسام استخفافًا كردٍّ على بعضٍ منها. وأذكُر مثلًا أنهم سألوني: هل ما زلتم تستعملون الجِمال في أسفاركم؟

وأيضًا: هل تسير بجلباب «علي» في الطريق العام؟

كنتُ أبتسم، ثم ألزم الصمت. ويبدو أن الابتسام كان يتحوَّل إلى طُعم، والصمت إلى شِباك، يسقط فيها أكثر من صيدٍ أنثوي أمريكي شهي!

وبهذه المناسبة، وبعد أن عرفتُ نساءً أمريكياتٍ كثيرات، يطيب لي أن أتساءل: أي أنواع النساء هي الأمريكية؟ والإجابة ليست سهلة على الإطلاق.

المرأة الأمريكية هي نبتة من نوعٍ خاص، تنمو في أرضٍ من نوعٍ خاص. هي النتاج الأمثل بمجتمع يختلف تمامًا عن غيره من المجتمعات؛ فله انفعالاته، وحساسياته، ونقاط ضعفه، ومثالياته، وعيوبه، وتطلُّعاته، ومكره، وأيضًا دهاؤه. هو مجتمعٌ متفرِّد، فريد.

في مثل هذا المُناخ تكوَّنَت شخصية المرأة الأمريكية؛ لذا كان طبيعيًّا أن تجد في طباعها، وتصرُّفاتها، محصِّلة، أو خليطًا مما سبق، يجعل لها توليفتَها الإنسانية الخاصة، تمامًا كما للسجاير في بلدها توليفةٌ مع التبغ، تجعل للفائف مذاقًا خاصًّا. في وثيقة إعلان حقوق الإنسان، تتوسط كلمة «الحرية» كلمتَي الحياة والرغبة في السعادة؛ لذا تطبيقُها عامٌّ بالنسبة للرجال والنساء على السواء؛ فهذه الوثيقة تضع الحرية في مكان الصدارة، وتجعل الأمريكية تتمتع، ومنذ فترةٍ طويلة، بقَدْرٍ كبير من الحرية؛ لذا هي كانت أول امرأة في العالم تُنبِّه إلى قضايا المرأة الإنسانية، وتُطالِب لها بالمساواة، وتحريرها من قيودٍ وضعها الرجل من قبلُ في قدمَيها الصغيرتَين، عاقتها بعض الشيء في مسيرة التقدم.

وللمرأة الأمريكية دورها الذي لا يُغفَل في تاريخ بلدها، وفي أغلب المجالات. ولعل هذا الدور هو الذي أكسبها نوعًا من الاحترام؛ إذ إن الأمريكي يحترم الأمريكية جدًّا. ويكفي أن تدخل امرأةٌ واحدةٌ مجتمعًا مملوءًا بالرجال، حتى ينهض الجميع.

والأمريكية لها تأثيرها الكبير كمُستهلِكة؛ لذا فالإعلانات والجرائد والتليفزيون تتوجه إليها أولًا، قبل أن تُخاطِب الرجل إعلاميًّا أو إعلانيًّا. والأمريكية أكثر النساء استقلالًا عن الرجل؛ فهي قادرة على أن تشُق طريقها وحدها، وأن تنجح أيضًا دون مساعدةٍ منه؛ لذا لا غَرْو في أن تجد صعوبةً في أن تُوقِع بالمرأة الأمريكية؛ فقد اعتادت على الحرية، وأيضًا على التحرُّر، ولكنها رغم ما تقدَّم، كثيرًا ما تنسى كل شيء ولا تعود تذكُر سوى أنها أنثى، والأنثى ضعيفة دائمًا، وضعفُها هذا هو قوَّتُها الكبرى في معركتها مع الرجل!

•••

الذكرياتُ شراعاتٌ صغيرة، تحملنا إلى الأمس، وإلى أماكن أحببناها، لحظات نتمنى لو أن عقارب الساعة توقَّفَت عندها. أو لو أنها دارت عكس دوراتها المعتادة، لتُعيدَها أيضًا ثانية. وهي أيضًا الحنين إلى الأعزَّاء، وأصحاب المواقع البارزة في نفوسنا.

لذا، وجدتُ نفسي، وأنا أعود إلى أمريكا، وكان ذلك في مطلع الصيف من عام ١٩٦٧م، أمسِكُ بالقلم، وأبدأ في تسطير برقية، إلى أحبِّ من لي، في هذه الدنيا، إلى ابني طارق!

وكان من عادتي أن أقيم لدى زيارتي لهوليوود في الفندق؛ فالعيش فيه أسهل، والخدمة أيضًا أوفر، إلا أني خالفتُ القاعدة استعدادًا لاستقبال ابني وأمه. وأقول أمه لأني كنتُ وفاتن حمامة قد انفصلنا بالطلاق وإن بقيَت الصديقةَ الأثيرة. والإنسانةَ التي أقدِّر وأحترم. خالفتُ القاعدة فاستأجرتُ فيلَّا أنيقة في بيفرلي هيلز، أرقى مناطق هوليوود السكنية وأغلاها.

فعلتُ هذا؛ لأني في قرارة نفسي، كنتُ أشعُر أن أبوَّتي في خطر!

أقول هذا لأن علاقتي بطارق كانت أشبه شيء بالرغيف المغلَّف آليًّا، مكوَّنة من شرائح، وليست كيانًا متصلًا. وكان يفصل بين جزء وآخر منها فراقُ عمل أو انتظامٌ في دراسة.

وأحببتُ أن أكون أبًا بكل معنى الكلمة؛ فقد كان طارق، أيامها، يقترب من الحادية عشرة، دون أن يعرف أحدنا الآخر تمام المعرفة، معرفة تصل إلى أعمق الأعماق، ولا تكتفي بالسطحيات. كان كلٌّ منا يحب الآخر بلا شك، ولكنه كان حبًّا غيابيًّا، على البعد. وكان لزامًا على هذه العاطفة كي تنمو وتكبر، أن يظلِّلها لقاءٌ طويل؛ لذا قلتُ لنفسي إن إقامتي وإياه تحت سقفٍ واحد، ولمدة شهرَين على الأقل، سوف تساعدني في سد ثغرات الماضي، وعلى رأب أي تصدُّع يمكن أن يكون قد لحق بها، وسوف تعود الأمور بيننا إلى ما كانت عليه، وهو بعدُ طفلٌ صغير، يوم كان الرباط الأمتن بيننا هو العلاقة الأسرية.

وقد شعَرتُ أن هذا الرباط قد وهَن مع الأيام، وكادت بعض خيوطه الدقيقة تتقطع؛ لذا أصبح لزامًا عليَّ أن أعيد جولة، وبمنتهى الحرص!

في مايو عام ١٩٦٨م، كان الكيان الفرنسي شبه مشلول، بسبب الإضرابات التي راحت تنفجر في كل مكان؛ لذا آثرتُ أن أبتعد عن باريس، إلى جوان لي بان، تلك المدينة الصغيرة، الهاجعة فوق رمال الشاطئ اللازوَردي؛ حيث أصداءُ ما يحدث في باريس تصل خافتة، هادئة، تمامًا كتلك الأمواج التي تتكسَّر تحت قدمَيها. وإلى مائدة البريدج، جلستُ ذات ليلة، أضيِّع الوقت في لعبة أعشقها. وفجأةً رأيتُ رجلَين يقفزان من سيارةٍ كبيرة تحمل لوحاتٍ ألمانية، ويتجهان إليَّ مباشرة. وعرفتُ فيهما على الفور المنتج الأمريكي الشهير داريل زانوك، والمخرج ريتشارد فلايشر؛ فقد التقيتُهما من قبلُ مرارًا. زاراني ثلاث مرات، على وجه التحديد، وكان هدف الزيارات الثلاث واحدًا، هو أن يحصلا على موافقتي للقيام بدور تشي جيفارًا على الشاشة، وفي كل مرة كنتُ أردُّهما خائبَين. وها هما، رغم هذا، قد جاءا لنفس السبب.

وابتدراني معًا، كأنهما يُلقيان حوارًا في ثنائية: لقد جئنا خصوصًا من ألمانيا لإقناعك بأن تقوم بدور تشي.

وردَدتُ عليهما بالحُجج التي كنتُ قد استعنتُ بها في المرات السابقة، كرَّرتُ على مسامعهما أنها لمقامرةٌ قبل أن تكون مغامرةً أن يصوَّر فيلم عن بطلٍ معاصر. أما أن يكون الأمريكان الذين طالما حاربوه هم الذين يُنتِجون الفيلم فذلك هو الجنون بعينه، والفشل الأكيد.

ولم يكن داريل زانوك، المسئول الأول عن الإنتاج في شركة «فوكس»، الوثيقة الصلة بالحكومة الأمريكية، لم يكن في فيلمه يتعرَّض للخط الثوري؛ لذا حاولتُ أن أحسم الموقف فقلت: أنا أرفض أن أقوم ببطولة فيلم يصوِّره اليمين عن بطل من أبطال اليسار.

والواقع أني إنما أردتُ أن أحافظ على إعجابى الشخصي بتشي جيفارا؛ فقد كنتُ مأخوذًا بشخصيته، وتتبَّعتُ باهتمامٍ الكثيرَ مما كُتب عنه. وسعدتُ بلقاءاتٍ مع كثيرين عرفوه عن كثَب، ولمستُ من القراءة والسمع كم كان تشي مخلصًا ونزيهًا.

وقلتُ لنفسي: الإنسان بشر، والبشر ضعيف، قابل بطبعه لأن ينحرف أو ينجرف. والمال هو التيار الأقوى خاصة في الحالة الأخيرة، وها أنا ذا أقع على بطلٍ لم يجرفه التيار، رغم أنه كان عاتيًا في حالاتٍ كثيرة؛ لذا فأنا أبدًا لن أخونه.

وأنا لستُ يمينيًّا، ولكن لستُ من أهل اليسار، ليس اتجاهي السياسي إذن هو سبب تردُّدي، وإنما هي الرغبة في الحفاظ على صورة مناضل، من أي تشويه. لا، هذا أبدًا لن يحدث.

استند زانوك في محاولته الجديدة لإقناعي، إلى أن الفيلم سيكون منصفًا للبطل، وزيادةً منه في إقناعي، قال لي إن عقدي سيتضمَّن «بند ضمير»، وبند الضمير هو أن يكون لي إشرافٌ على سياسة الفيلم؛ بحيث يصبح من حقي، أثناء التصوير، أن أرفض مشهدًا أراه غير مناسب، أو غير مطابق للواقع.

ووقَّعتُ العقد في النهاية، وبعد أن اتخذتُ من البند الأخير سلاحًا ودرعًا.

وسافرنا إلى بورتوريكو؛ حيث طبيعة الأشجار تسمح بمضاهات غابات كوبا وأدغالها. وبدأ التصوير، ومعه بدأَت مناقشاتٌ حامية، كنتُ أبدي ملاحظةً لا يرتاحون لها، وكانوا يُبدون وجهة نظر لا أقتنع بها. وتحوَّل الحوار إلى جدل، وكاد الجدل يصبح شجارًا.

جوُّ العمل إذن كان مشحونًا، ومتوترًا. ومثل هذا الجو لا يعطي المجال للإتقان ولا للتفاني في العمل. كنتُ على الدوام أشعر أن شيئًا ما يُحاك وراء ظهري. ولأعترف بأن هذا الصراع، وذلك الجو المملوء بالغيوم غير المرئية، لم يكن في صالح الفيلم. كما أقول بأن بند الضمير لم يكن قطعةً كافية للحماية.

الحفاظ على شخصية جيفارا كان شاقًّا عسيرًا، ولكنه كان ممكنًا؛ فقد بقيَت له معالم الأسطورة. شخصية فيدل كاسترو، هي التي تسلَّل عَبْرها السُّم إلى الفيلم؛ فقد أظهره السيناريو إنسانًا قريبًا من الغباء، يتحرك كما الدمية في يد تشي جيفارا، في حين أن المعروف عن كاسترو أنه شجاع وذكي وأمين، ولكن جاك بالانس، لم يحافظ على الشخصية التي أدَّاها، كما حافظتُ أنا على تشي. وصفات كاسترو لا تنال من بطولة الزعيم الذي راح ضحيةً للمخابرات أو المؤامرات الأمريكية.

ولما كانت كوبا قريبة من أمريكا، فقد أمكنها أن تحجُب بظلالها الكثير من الضوء عن الفيلم. والنتيجة كانت كما توقَّعتُها تمامًا؛ فبعد ثلاثة أيامٍ فقط من بدء عرض الفيلم، اضطُرَّت الدار التي تقدِّمه إلى أن تسحبه وتُوقِف عرضه؛ فقد تظاهر الكثير من الشباب، شاجبين محتوى الفيلم، ومغالطاتِه. وربما اضطُرَّت السينما إلى اتخاذ القرار مرغمة؛ إذ لم يبقَ في قاعاتها مقعدٌ واحد سليمًا، يمكن أن يجلس عليه مشاهدٌ جديد.

وما حدث في نيويورك تكرَّر في كل مكان، ولم يذكُر تاريخ السينما فيلمًا أتلف من المقاعد، مثلما حدث عندما عُرض «تشي جيفارا».

عندما جاءني زانوك وفلايشر، إلى تي جوان لي بان، كنت ألعب أولى مباريات الفريق الدولي الجديد للبريدج، الذي أسَّستُه مع بعض الأصدقاء، وهو فريقٌ جدَلتُ أواصره من عواطفَ هامة، هي الصداقة، والمعزَّة، والإعجاب بشركائي الثلاثة، وحُب الجميع إلى حد الهوس للبريدج.

وأنا مدينٌ لعمي الفرنسي، ضمن ديونه الأدبية الكثيرة، بحب البريدج؛ فهو الذي غرس نبتَتَه الأولى في أرض حياتي، ولكني لم أتقن اللعبة إلا بعد أن بلغتُ الحادية والعشرين، وبعد أن قمتُ ببطولة فيلمي الأولى في استوديوهات القاهرة «صراع في الوادي».

كنتُ أفضِّل، أثناء العمل، في البداية على الأقل، أن أنفرد بنفسي، ولا أخالط زملاء كنت أعزُّهم، ولكني أجد نفسي في حالاتٍ كثيرة غريبًا وسطهم؛ لذا كان الحل الأنسب هو أن ألزَم غرفتي، لأنفرد بكتابٍ جديد. وشاءت الصُّدَف أن يكون واحدٌ من هذه الكتب عن البريدج!

ولم أترك الكتاب من بعدها. وجدتُه رائعًا، فيه لون من الرياضة الذهنية التي أحبها؛ فأنا أهوى كل ما يمكن أن يشحذ الذكاء، ويشغل الفكر، مثل الكلمات المتقاطعة، والعبارات الناقصة؛ ومن ثَم أضفتُ إلى هذا اللون رياضةً جديدة هي البريدج.

الكتاب كان ذلك المؤلَّف الذي وضعه جورن، الرجل الذي يعود إليه الفضل الأول في تعميم اللعبة في العالم أجمع. جورن نشر طريقته الأولى، المشروحة في كتابٍ بسهولة ويسر، عام ١٩٣٥م، ولم يكن البريدج أيامها معروفًا إلا ضمن النطاق الضيق لبعض الأندية الخاصة، ولا يُقبِل على لعبة في قاعدتها سوى عددٍ قليل جدًّا من الروَّاد.

وجورن واحد من أحسن لاعبي البريدج، إلا أنه ليس أحسنَهم، ورفيقتُه في اللعبة هيلين سوبيل، هي المرأة الوحيدة التي وصلَت في حرفية اللعبة إلى المستوى الذي بلغه الرجل؛ فهي لاعبة من الطراز الأول. وقد اشتُهر جورن وهيلين على موائد البريدج، إلا أن شُهرتهما لم تجتَز الحدود إلا بعد أن صدر لجورن كتابه: «تعلَّم البريدج بنفسك».

وكان اللاعب بيير ألباران، في ذلك الوقت، هو الأبرز في فرنسا. وكان يُلقَّب بكالبرسون فرنسا. وكالبرسون وزوجته جوزفين من أشهر أبطال البريدج في العالم. وقد تحدَّيا أبطالًا كثيرين في مبارياتٍ كبرى، كان الرهان فيها مرتفعًا، وربحا من جرَّاء ذلك الكثير؛ بحيث يمكن اعتبارهما من المحترفين. وهناك مباراتان من مبارياتهما ستظلان إلى الأبد مدونتَين بكافة تفاصيلهما في تاريخ اللعبة. جورن سار على خطى كالبرسون، ولكنه ذهب في مشواره بعيدًا؛ ذلك أنه خلَّص أصول اللعبة من تعقيداتٍ كثيرة، وسهَّل للقارئ العادي، الذي لا يكاد يُلم بها، مهمة متابعتها، بل هو قدَّم أيضًا الإجابة على أي سؤال، يمكن أن يخطر على بال لاعب، بطريقةٍ واضحة وبسيطة.

وإذا كان لقائي مع حكيم هو الذي جعلني أتجه إلى الخيل، وفرسي الأولى التي شاركتُه في ملكيتها هي التي دفعَتني إلى امتلاك حظيرة، وأكثر من إسطبل، فإن كتاب جورن، قبلها بسنواتٍ عدة، هو الذي حبَّب إليَّ لعبة البريدج، تلك اللعبة التي أعشقها، وتكاد في حالاتٍ عديدة تزاحم الفن في حياتي. جورن هو أستاذي الأول، وكتابه هو المدرسة التي تخرَّجتُ منها، ولو في المرحلة الابتدائية؛ فمن كتابٍ بسيط، وقع بين يدي مصادفة، وأنا في فترات الراحة بين مشهد وآخر من فيلمي الكبير، من هذا الكتاب البسيط، أدمنتُ اللعبة حتى أصبحتُ واحدًا من أبطالها. وفقي الله بفيلم «صراع في الوادي»؛ فأثناء العمل فيه عرفتُ حبَّين؛ حب فاتن، وحب البريدج، والأخير عمَّر، أكثر كثيرًا من الأول! لا شيء نقبله تمامًا، ولا شيء نرفضه كله. عندما قلتُ إني لستُ مع سينما المؤلِّف، لم أقل إني ضدها على طول الخط. أنا لا أنكر على فرنسا وَثْبتَها في الواقعية الجديدة، خاصة بفيلم «على آخر نفس» الذي أخرجه جان لوك جودار، وأرسى به اتجاهًا فنيًّا معينًا.

وكذلك لستُ ضد أن تحل السينما الملتزمة مكان السينما التقليدية؛ فإنتاج أفلامٍ تجارية، فقط، أمرٌ يسيء إلى الصناعة في نهاية الأمر.

وأنا لا أنكر أن الواقعية الإيطالية الجديدة كانت لها أيامها، وآثارها، ولكن الجماهير مع الأيام، ملَّت رؤية مآسيها على الشاشة، وتفضِّل اليوم رؤية مآسي الآخرين؛ فهي لحظة متعة، تنفجر من لحظة ألم.

وهناك حقيقةٌ أخرى، هي أن «النجم» زال عهده، العصر الذي كان فيه اسمٌ كبيرٌ كفيلًا بأن يحرِّك عواطف المتفرِّجين جميعًا، أو يرفِّه عنها ويسلِّيها قد انتهى.

لقد تداعت دولة الأسماء الرنَّانة في هوليوود، بعد المواجهة التي كانت بين التليفزيون والسينما، والمعركة الحامية المستمرة بينهما إلى الآن. وبعد أن مُنيَت أفلامٌ عديدة من الإنتاج الضخم، مثل «كليوباترا» و«ثورة على السفينة بونتي»، بخسائر فادحة، بالرغم من أسماء أبطالها كإليزابيث تايلور وريتشارد بيرتون ومارلون براندو.

والأخير، رغم تجربته في ذلك الفيلم، «ثورة السفينة بونتي»، يبرز في وسط اللجَّة، وكأنه وحده طوق نجاة. ومارلون لم يغيِّر طريقة الأداء وحدها، بل أيضًا الطباع، والتصرُّفات، وحتى الملابس؛ فهو الذي جعل من ارتداء القميص المفتوح — التي شيرت — والبنطلون الجينز الزيَّ الأنسب للممثل. وهو لم يأخذ عن المخرج القدير إليا كازان، أو باقي أساتذة معهد الممثل، بقَدْر ما أعطى من ذاته.

مارلون براندو صنع ما لم يصنعه غيره من قبلُ، فرض على هوليوود بأَسْرها أسلوبه، وعبارته، وإشاراته، وطريقة لبسه، فكان بذلك المؤسس لمدرسةٍ سبقَت زمانها.

والجماهير، وأيضًا النقاد، قد تختلف مع مارلون أحيانًا. ويتهمونه بالضعف في بعض أعماله، ولكنه غالبًا ما يتخذ من هذا النقد نقطة انطلاق إلى وثبةٍ جديدةٍ قوية.

والذي يميِّز ممثلًا كبيرًا عن ممثلٍ عادي، هو أن الأول قد يرى في الفشل خطوةً إلى نجاح. أما الممثل العادي فهو دائمًا متوسط النجاح.

ومارلون لا نظير له في السينما؛ فهو وحده مدرسة، كلية، جامعة بأكملها. وإليه يعود الفضل في إدخال «الإيقاع الجمالي» على الحركات، والتصرفات، وتعبيرات الوجه. وبالرغم من أن ما يفعله مارلون قد يبدو في بعض الأحيان طبيعيًّا للغاية. إلا أنه في الواقع ثمرة صهرٍ داخلي طويل للذات.

ولا أحد يستطيع أن ينكر على مارلون براندو تأثيره الكبير على ما جاء بعده من رعيلٍ فني شاب؛ فقد حاولوا جميعًا أن يسيروا على خطاه، حتى جيمس دين الذي بهَر الجماهير في فترة، وكاد يصبح، خاصة بعد وفاته المبكِّرة، أسطورة، إنما كان في الواقع يقلِّد مارلون براندو.

هو الأصل، وجميعهم الصور. ولعل مشكلة مارلون الوحيدة، إنما تكمن في اتجاهاته السياسية والإنسانية الخاصة، تلك الاتجاهات التي تُخالِف في الغالب الاتجاهَ العام، والتي كادت في فترة أن تقضي عليه سينمائيًّا؛ فليس يُجدي الممثل، إذا كان مجرد ممثل، أن يعتنق آراءً ومعتقداتٍ تُخالِف ما درجَت عليه الأغلبية في بلدان الصناعة السينمائية.

ولكن الأقدار تداركَت مارلون بفيلمَين هما «الأب الروحي» و«التانجو الأخير في باريس»؛ فقد أعاد الفيلمان السرج إلى جواده المنطلق، ليذهب بعيدًا، بعيدًا!

وأنا عرفتُ مارلون براندو، لا، أنا لم أعرفه في الواقع؛ فلا أحد يمكن أن يدَّعي أنه عرف مارلون فعلًا، حتى القلة من الأصدقاء التي تحيط به لا تستطيع أن تدَّعي هذه المعرفة؛ لأن مارلون منطوٍ على نفسه رغم نجاحه العالمي، يعيش داخل قوقعته الذاتية، أو داخل شرنقة يحبس نفسه فيها بمحض إرادته، وهو أبدًا لا يكشف عن أعماقه، وهو من الصعوبة بحيث يتعذَّر على المرء أن يحتك به ولو سطحيًّا. حياته الخاصة مملكةٌ خاصة به، هو فيها السيد، وهو الحاكم، وهو الرعية!

جان بول بلموندو أقرب إليَّ من مارلون براندو، وأنا اشتركتُ معه في بطولة فيلمٍ واحد كان كافيًا لأن يصبح جسرًا وثيقًا بيني وبينه. كان «الصيد»، أول فيلم فرنسي أمثِّله، وإن كانت الميزانية الضخمة التي وضعَها المنتجون تحت تصرُّف مخرجه هنري فرنوي، قد جعلَت منه شريكًا على المستوى الأمريكي أو العالمي.

كان زورقي قد وصل إلى قمة الموجة، في الوقت الذي غاص فيه الفيلم الأمريكي إلى اليم؛ لذا كان عليَّ أن أبحث عن البديل، فوجدتُه في «الصيد».

وقد اكتشفتُ في جان بول بلموندو، هوايةً أشترك فيها معه، هي حب الملاكمة، كان ذلك في الثامن من مارس ١٩٧١م، وكنا نصوِّر المشاهد الخارجية في مدينة أثينا، وفي نفس الليلة كان محمد علي كلاي، يضع لقبه كبطل للعالم في الوزن الثقيل في مهبِّ خطرٍ كبير؛ لأنه ليلتها كان ينافس غريمًا لا يُستهان به هو جو فريزر. كانت المباراة هي مباراة القرن بالنسبة لعشاق تلك الرياضة العنيفة.

واكتشفنا أن التليفزيون اليوناني لم يعقد اتفاقًا لعرض المباراة. وقرَّرتُ، أنا وجان بول، أن نخالف بنود العقد الذي يمنعنا من السفر إلى أي مكانٍ خلال التصوير إلا بإذنٍ من المخرج. وكان أن استأجرنا طائرةً نفاثةً خاصة أقلَّتنا إلى روما؛ حيث استمتَعنا بالمباراة التي دارت في الخامسة صباحًا، حسب التوقيت المحلي للعاصمة الإيطالية.

ولما كان علينا أن نتواجد في مكان التصوير في الثامنة تمامًا بنفس التوقيت؛ فقد حرصنا على اصطحاب الماكيير معنا، وكذلك المسئول عن الملابس، وفي ساعة الصفر كنا جاهزَين للتصوير، وفي الموقع المحدَّد، وذلك بعد أن أجرينا عملية الماكياج واللبس في الطائرة.

ولم يكتشف أحدٌ إلى اليوم، سر تلك الليلة التي أمضيناها في روما، من أجل إشباع حبنا للملاكمة.

أنا أحب الملاكمة، وإن لم أقف على الحلبة مرةً واحدة، عكس جان بول الذي مارسها فترة؛ لأنها رياضة تليق بالرجال، ولأن الفرجة فيها لا تقتصر على متابعة اللاعبين فوق الحلبة، وإنما هي في مراقبة انفعالات المشاهدين على المقاعد.

كان «الصيد» كما تنبأ لي منجِّم قبلها، بداية فترة رغد؛ فقد قال لي الرجل: عام ١٩٧١م سوف يحسِّن من أمورك.

وقد تحسَّنَت أموري فعلًا، وأنا لا أنكر إني ربحتُ الكثير من عملي في السينما، إلا أن بعض الاستثمارات المالية التي جانبَها النجاح، عرَّضَتني في فترة لضائقةٍ مالية، ثم جاء «الصيد» ليُفرجَ عن كُربتي؛ فهو أول فيلم لم أتقاضَ عنه أجرًا فقط، وإنما أجر ونسبة مئوية من الأرباح. وقد نجح الفيلم جماهيريًّا، مما جعل موقفي المادي يتحسَّن بصورةٍ ملحوظة.

ولم تكن متعة فيلم «الصيد»، فيما جاء بعد عرضه، وإنما هي كانت أثناء التصوير أيضًا؛ فأنا ابن الإسكندرية نشأتُ وسط جاليةٍ يونانيةٍ كبيرة العدد؛ لذا سعدتُ في اليونان بأنغام وأغاني وطعام جيران الموطن الأول.

كان دوري في الفيلم يخالف طبيعتي وأدواري السابقة؛ فقد أسند إليَّ فرنوي دور ضابط شرطة غير مرخَّصٍ له بالعمل، ورغم هذا يقوم بمطاردةٍ هامة. وكانت أول مرة أستَمتِع فيها بدَورٍ منذ أن مثَّلتُ «جيفاجو» قبل ست سنوات.

وهنري فرنوي من النوع التقليدي، يحرص على أن يروي قصةً في فيلمه. وهذا غالبًا ما يُرضي الممثِّل نفسه. وهو من أبناء الشرق نوعًا ما، لأن الدماء الأرمينية تُغالب الفرنسية في عروقه.

وأثناء العمل، التقيتُ بزميلٍ آخر من أصلٍ شرقي، هو روبير هوسين؛ فهو روسي الأصل.

وروبير إنسانٌ رزين، عاطفي، جاد، وقد عرض عليَّ أن نقدِّم معًا مسرحية، يخرجها هو، وأمثِّلها أنا، ووقَع اختيارنا على إحدى الروايات فعلًا، ولكن المؤلف رفض أن يتنازل عن حقوقها لروبير، ليس اعتراضًا منه على أيٍّ منا، وإنما لأنه، كما قال، لم يعُد يُحب روايته هذه!

ولا تندهشوا لما قال؛ فمثل هذه الواقعة كثيرة الحدوث في دنيانا، دنيا الفن.

•••

ابتعدتُ عن طارق لأول مرة ولأطول مدة. عندما تعاقدتُ على بطولة فيلمي العالمي الأول «لورانس العرب»؛ فقد استمر العمل فيه عامَين، لم أزُر خلالهما القاهرة مرةً واحدة. والسبب أن إجراءات الخروج من البلاد أيامها، كانت من التعقيد بحيث خشيتُ ألا أستطيع أن أكمل الفيلم، إن أنا قمتُ برحلة إلى الوطن.

وكان حنيني إلى طارق، طوال فترة الغياب، شديدًا. وقد روَت لي فاتن حمامة بعدها، كيف أنه كان لا يدير إلا الأسطوانات التي أحب، المرة بعد المرة، وأنه ما إن عُرض الفيلم حتى سارع إلى شراء موسيقاه التصويرية، وكان يُنهي دائمًا الاستماع إلى الأغاني، بتلك الموسيقى.

وإذا كان لورانس فرَّقنا، فإن «الدكتور زيفاجو» أعاده إلى ذراعي؛ فقد عاش إلى جواري شهرَين كاملَين، مثَّل في أيامٍ منها دوره الأول والأخير، واعتدتُ أن أنام وإياه في سريرٍ واحد، فأوسِّده ذراعي، ونستسلم معًا لأحلامٍ هنية.

كنا ننام معًا، ونأكل معًا، ولا أغادر البيت بعد العمل، مهما تكُن الظروف، حتى لا أتركه وحيدًا.

أيامها كان طارق لم يتجاوز السابعة إلا بشهورٍ قليلة، وكنتُ أرقُبه وهو يتفتح على الحياة، بنفس لهفة البستاني، عندما يرى شجرة وروده الأثيرة، تحمل أول برعم، بعد طول رعايةٍ وعناء.

وقد تفتح البرعم بسرعة، خرج طارق من شرنقته ليدخل عالمي ودنياي، السينما.

كانت تجربةً رائعة، افترقنا بعدها ثانية.

بالنسبة لطارق، كان الفراق انتظامًا في الصفوف الداخلية لإحدى مدارس سويسرا العريقة، وبالنسبة لي كان التنقُّل وثبًا بين قارَّتَين، بقصد الوقوف أمام العدسات. ولم يعُد في وسعي أن ألقاه سوى فتراتٍ قصيرة جدًّا؛ لذا كان الجسر الوحيد بيننا من ورق، نسطِّر عليه خطاباتٍ طفولية، هو بحكم سنه، وأنا من باب مجاراته في تفكيره. ورغم البعاد، وطول الفراق، كان تفكيرى فيه مستمرًّا، وكان تأثيري عليه كبيرًا، كثيرًا ما كان يعصي أمه، ولكنه أبدًا لم يناقش واحدًا من قراراتي.

وكان القرار هذه المرة حبيبًا إلى قلبه؛ فقد أبرقتُ إليه أقول: تعالَ وعِشْ معي في هوليوود أنت وأمك.

وأذكُر أنه بعد يومٍ طويل من العمل الشاق، ترك على وجهي أثرًا من الصعب أن يزول، هو كدمة أحدثَتها ضربةٌ غير محكمة التسديد من قِبل جريجوري بيك، أذكُر أني عدتُ إلى البيت لأجد الأسرة كلها في انتظاري؛ فقد جاءت فاتن، تصحبها ابنتُها نادية ذو الفقار، وطارق، ومربِّيته الإسبانية ببيتا، وإيفا، ستارلايت!

وستارلايت كان هو نفسه الكلب الهزيل الذي اختارته فاتن من باب الشفقة، عندما ألحَّ عليها طارق كي تشتري له جَروًا صغيرًا، وكان قد كبر، وعُوفي من هُزاله.

طارق أعلنها صراحة، عندما تعلق برقبتي، وعارضَت أمه في البداية مسألة أن يصحب الكلب معه إلى أمريكا؛ فقد قال بإصرار: إما أن يسافر ستارلايت معي، أو أبقى أنا معه!

وأخذَت ببيتا على عاقتها مهمة إخفاء ستارلايت عن العيون، فقامت ليلًا بإعداد كيس من نسيجٍ سميك، وضعَت بداخله الكلب قبل موعد الطائرة!

وروى لي طارق، كيف أن ستارلايت، أمضى الإحدى عشرة ساعة التي استمرَّتها الرحلة، جالسًا في هدوء بينه وبين المربِّية، فإذا ما حدث ومرَّت المضيفة، سارع يخفي رأسه بين المسندَين، وكأنه يشعر بغريزته، أنه إنما يشترك في مؤامرة، لم يشأ إفسادها.

ولم يأكل الكلب طوال الرحلة، ولم يشرب أيضًا. قاوم طوال الرحلة. هناك أمرٌ لم يستطع أن يقاومه بعد وصوله إلى مطار لوس أنجلوس؛ فقد اندفع كالصاروخ بحثًا عن أول شجرة، والباقي معروف! وكاد يفقد حريته بسبب فعلته هذه، ويُضيع تعب وشقاء الرحلة؛ فلو أن رجال الجمرك اكتشفوا أمره، لأخضعوه لأيامٍ طويلة في الحجر الصحي، ولكن ببيتا كانت في انتظاره بكيسها السحري، عاد إليه ستارلايت، ومرَّ الموقف بسلام.

أخيرًا أمكنني أن أحتوي طارق الحبيب بين ذراعي، وأن أضُمَّه إلى صدري بشوق وحب.

ولكن اللقاء الأول لم يمُر على خيرٍ للأسف!

كنتُ قد أوصيتُ الطاهي سلفًا بأن يُعِد للزائر العزيز ما يحبه من ألوان الطعام، وفي مقدمتها الدجاج المحمَّر، كما جهَّز له أيضًا أنواع الحلوى التي يفضِّلها. وجلسنا حول مائدةٍ عامرة، تناثَرَت فوقها أيضًا باقات الورد. وبدأنا نتناول الطعام في مظهرٍ عائلي، حُرمتُ منه طويلًا.

وفجأةً حدث ما عكَّر صفو الاجتماع؛ فقد مد طارق يده إلى فخذ الدجاجة، حملَه إلى فمه بأصابعه دون أن يستعمل الشوكة والسكين، واستبدَّت بي نوبةٌ من الغضب، وبلغ من ثورتي، أنني دقَقتُ المائدة بقبضة يدي، وأمرتُ طارق بأن ينهض عن المائدة، ويأوي إلى حجرته دون عشاء.

أفسدتُ، ربما دون قصد، ليلتنا الأولى معًا. وتكهرب الجو كله لما حدث؛ فالواقعة لم تكن بتلك الخطورة، ولا هي كانت تستحق ما ألحقتُه به من عقاب، وهو الضيف الذي طال انتظاره، ولكني رُبِّيتُ بدقة ونظام وصراحة، فبدا لي أن أعامل طارق بنفس الطريقة، ولم أحتمل منظره وهو يأكل بيديَه. ولم تظهر على طارق أية آثار للحادث في اليوم التالي، أو لعله جاهد في إخفائها، إلا أني أحسستُ بغريزة الأب، أن هناك جدارًا غير منظور قد ارتفع بيننا، لكن هذا الجدار لم يمنعه من أن يستمتع بزيارة أمريكا، وأن يكتشفها بإعجابٍ شديد. والواقع أن أمريكا، بالنسبة للأطفال جنة.

هي جنة الأطفال عن جدارة، ببرامج التليفزيون المتعددة، والمستمرة دون توقف ليلًا ونهارًا، التي تقدِّم الكثير من أفلام رعاة البقر، والرسوم المتحركة، والعروض الأخرى الخاصة بالأطفال. وهي جنة بتلك الآلات الأتوماتيكية الموجودة في كل مكان، والتي تبتلع قطع النقد المعدنية بشراهة، لتعطي صاحبها زجاجات المرطبات، أو الحلوى، أو الشطائر، وأيضًا الوجبات الساخنة السريعة الإعداد.

ثم هناك ناطحات السحاب التي تنظر من طوابقها العليا إلى الشوارع الكبيرة المزدحمة، فترى الناس قد تحوَّلت إلى ما يشبه النحل حجمًا وحركة. والمصاعد الأنيقة السريعة، لها أيضًا جاذبيتها الخاصة. وهي من الأشياء التي طالما استهوت الأطفال. وأذكُر أننا عندما انتقلنا من الإسكندرية إلى القاهرة، واستأجرتُ أحلى شقة في الطابق الثاني عشر من إحدى العمارات في البداية، أني أقمتُ اليوم الأول بطوله في المصعد، أضغط على أزراره ليرتفع بي إلى الطابق الأخير، ثم أعيد الكَرَّة لينزل بي إلى الدور الأرضي!

وفي أمريكا حدائق الملاهي العالمية، ومنها ديزني لاند، ميري لاند، وفيها أيضًا أكبر حدائق الحيوان. باختصار فيها كل ما هو مثير، ومُسلٍّ. وقد بلغ من إعجاب طارق بأمريكا، وحماسه لها أن فكَّر لفترة في الالتحاق بإحدى مدارسها، ولكن إعجاب طارق وحماسه، لم يكن ليُقاس بإعجاب وحماس مربِّيته ببيتا، ببلاد العم سام، وإن اختلفَت الأسباب!

منذ عام ١٩٦٥م وببيتا، المربِّية الإسبانية الطيبة، تعمل على رعاية طارق. وقد عملَت مديرةً للبيت، بعد أن قرَّر طارق أن يكمل دراسته في لندن. وفضَّلَت فاتن أن تقيم بنفس المدينة لتكون إلى جواره. ولما كانت ببيتا لا تحب العاصمة البريطانية، ولا تستطيع العيش فيها؛ لأنها تشعر بشبه اختناق من الضباب الذي اشتُهرَت به لندن؛ لذا آثرت أن تجيء إلى باريس، وأن تتولى جميع أمور شقتي.

وفي هوليوود كان المفروض أن تقضي ببيتا الإجازة إلى جوار طارق، ولكن الشعور بالمسئولية الذي عُرف به الإسبان، دفعَها إلى أن تباشر هناك أيضًا مهام وظيفتها، فكانت تستيقظ قبل الفجر، لتُعِد لي الإفطار بنفسها، على أساس أن الطاهي لا يعرف ما يريده سيدها في وجبته الأولى.

لذا كانت ببيتا في المطبخ ذات صباح، عندما رأت السيارة التي وضعها الاستوديو تحت تصرفي، تتوقف بالباب في السابعة تمامًا، ليغادرها سائقها الأنيق، فيفتح لي الباب، وتنطلق إلى الاستوديو. وبعد عشر دقائق، رأت ببيتا نفس السيارة تعود عند الباب، فسارَعَت توقظ سكرتيرتي من النوم، وتقول لها: لقد عاد السائق، لا بد وأن السيد نسي شيئًا. ووضعَت السكرتيرة ثوبًا منزليًّا على جسدها بسرعة، وسارت مع ببيتا وهي تغالب النعاس، إلى حيث السيارة، ثم صاحت بتأفف: «إنها ليست سيارة السيد، بل سيارة الطاهي.»

وفغَرَت ببيتا فاها من الدهشة، وتساءلَت كيف يمكن أن يكون للطاهي سيارة من نفس طراز سيارة سيدها؟ كان الأمر في نظرها أبعد من أن يُصدَّق. وربما لم تُثِر اهتمامي مثل هذه المقارنة، ومثل تلك المساواة، قبل أن تلاحظها ببيتا الطيبة.

وكان من عادة الشركة التي أعمل لحسابها، أن تخصِّص لي أثناء عملى في كل فيلم من أفلامها، سائقًا مكسيكيًّا، وأبناء المكسيك يتحدثون الإسبانية بطلاقة. في حين كانت ببيتا، ولعل هذا أحد أسباب كراهيتها للندن، عاجزة عن نطق كلمةٍ إنجليزيةٍ واحدة. والذي حدث أنه، في فيلمي الأخير، كان السائق المكسيكي مشغولًا مع نجم الغناء ألفيس بريسلي، الذي كان بدوره يصوِّر فيلمًا لحساب الشركة؛ لذا عهدوا إليَّ بسائقٍ آخر. ولما كانت فيلَّا ألفيس تجاور الفيلَّا التي استأجرتُها لأسرتي، فقد رجوتُه أن نتبادل السائقين. وعاد إليَّ سائقي المكسيكي. وأخذَت ببيتا بانياسو، وهذا اسمه، لسببَين؛ أولهما أنه كان وسيمًا، ذا طلعةٍ مهيبة، والثاني أنه كان يقود سيارةً رائعة، مكشوفة، من طراز موستانج. وبدأ السائق يصحبها للسهر في هوليوود.

ودعاها إلى العشاء في المطعم الذي يؤمه أشهر النجوم، والذي تخصَّص في تقديم طبق يحبه الأمريكان، وهو السمك المقلي، المسقي بالكوكاكولا!

وذات ليلة عادت ببيتا مشرقة، سعيدة، تكاد تطير من الأرض. وأعلنَت لنا عزمها على الزواج منه.

وبعدها اختفى السائق المكسيكي تمامًا؛ فلم أرَه مرةً واحدة، ولا هي رأته، ولا ألفيس بريسلي نفسه رآه؛ فقد اختفى وكأنه فص ملح وداب، كما يقولون!

وفي الليلة الأولى لتغيُّب أنياسو، وسيارته المكشوفة، باتت ببيتا حزينة، مهمومة إلى درجة أنَّ فاتن تساءلَت: ما الخبَر؟

وكان عليَّ أن أبحث عن الجواب لسؤال فاتن. وقمتُ بعمل تحرياتٍ خاصة، اتضح لي بعدها، أن بانياسو متزوج، وله من الأولاد خمسة؛ لذا خَشِي أن يُفتضَح أمرُه، فآثَر الاختفاء تمامًا!

وهكذا مُنيَت ببيتا الطيبة بصَدمة، وخَيبة أمل. ولم تُفلِح الشهور الثلاثة التي أمضَتها بيننا فيما بعدُ، في أن تُنسيَها ذلك الساحر المكسيكي الذي خطف قلبها، وهرب!

وقد بقيَت ببيتا إلى جوار نادية وطارق، حتى سافر الثلاثة إلى باريس. أما فاتن، فلم تطُل زيارتها لأمريكا أكثر من أسبوعَين، عادت بعدها إلى القاهرة؛ حيث كانت متعاقدة على بطولة فيلمٍ جديد.

ولكن هل هدمَت الزيارة الطويلة الحواجز بيني وبين طارق؟ هل قرَّبَت بيننا، أم زادت من البعد؟

الواقع أن الوقت الذي كنتُ أحسب فيه أني سأقضيه إلى جواره، قد اختزله العمل المتواصل إلى عدة لقاءاتٍ قصيرة على مائدة العشاء في الغالب. ولم تكن تلك الشعلات الصغيرة لقادرة على أن تبقى بيننا مشعةً مضيئة، كما تمنَّيتُها. وهذا أمرٌ لم يتأتَّ إلا بعدها بسنواتٍ ثلاث، عندما أصبح طارق شابًّا!

كنتُ قد انتقلتُ حديثًا إلى شقتي بطريق أوتي بباريس، في حين كان طارق يتابع دراسته في لندن؛ لذا كانت إجازاته دائمًا معي، نوزِّع أيامها بين باريس ودوفيل.

وتحوَّلَت خطابات طارق في تلك الفترة، من مجرد تسطير لخواطر طفولية، إلى كتاباتٍ حقيقية، تمتاز بالمرح، والسخرية، وخفة الظل. وقد سُرِرتُ جدًّا، عندما اكتشفتُ هذه الصفات في أسلوب طارق في التفكير والكتابة؛ فهو يكتب عن نفسه، وعن الذين حوله، بكلماتٍ تشع من وسطها الدعابات، فيصف كيف يغسل جواربه مثلًا، بقوله: الماء والصابون ليسا كل شيء؛ فأهم ما يجعل غسيلك أكثر بياضًا هو ذلك المجهود العضلي الذي تضيفه إليهما. وإذا اعتبرنا ذلك المجهود لونًا من الرياضة، فأحب أن أقول لك — يا والدي العزيز — إني لستُ على استعداد لممارستها في غياب المسئولة عن الغسيل في شقتك الأنيقة، أثناء إجازتها السنوية!

وهو قد يكتب عن أصدقائه، أو قد يسجِّل خواطره، أو بعضًا من أحداثٍ وقعَت له، فيقول: لقد عُرض عليَّ أن أقوم بدور روميو فاعتذرت. والسبب أن جولييت التي اختاروها بدينة جدًّا، في حجم خزان ناقلة بترول صغيرة، هل يمكن لإنسان أن يحب جولييت بهذا الحجم؟ وإن هو فعل، فهل يمكن أن يضحِّي بحياته من أجلها، وأن ينتحر وإياها على سريرٍ واحد؟

وأصبح من المألوف أن يرسل إليَّ خطابًا، ثم يتصل بي تليفونيًّا لنتناقش معًا عما كتب، وكل واحدة من هذه المكالمات كانت تقرِّبه مني أكثر وأكثر، وذات مرة حدَّثني عن فتاته الأولى!

كان قد بدأ يقف على العتبة الأولى للرجولة، وصل إلى مرحلة المراهقة، فازدادت عضلاته نموًّا وبروزًا، ونبتَت الشعيرات في ذقنه، وارتسم شاربٌ خفيف تحت أنفه. كما أصبح صوته أخشَن وأعمَق. وكتب طارق يقول: إني عاشق.

•••

قلوب الشبان، في سنوات المراهقة، وأنا كنتُ من بينهم، مثل البالونات الملوَّنة التي يطيِّرونها في الأعياد، من السهل أن تمتلئ، ومن السهل أن تفرغ؛ لذا لم أهتم كثيرًا عندما قال لي طارق: أنا أحب. لأنها كانت التجربة الأولى، وحسب خبرتي هي تجربةٌ غالبًا ما تكون قصيرة العمر، تمامًا مثل الإصابة بنزلة برد في مطلع الشتاء. يقولون إن هناك من الأدوية والعقاقير الحديثة ما يُعيد الشباب الذي ولى.

كذب هذا وافتراء. شيءٌ واحد يمكنه أن يسري في عروقنا من نبض الشباب الأول، هو أن نرى أولادنا بدَورهم، قد بلغوا تلك السن. وطارق هو الذي أعاد إليَّ شبابي الأول؛ فأنا في مرآته، أرى صورة شبابي. لا، لستُ أرى مجرد صورة، بل هو الماضي نفسه، يُبعث من رقاده الطويل، وينفُض عنه غبار السنين.

لم نعُد أبًا وابنًا، وإنما غدَونا صديقَين، يعتز كلٌّ منهما بصداقة الآخر، دون أن يُفقِده ذلك التقارب احترامه له. ولأننا أصبحنا صديقَين، سقطت أقنعة المواربة بيننا، واعتاد طارق أن يصارحني بكل أمر، وأن يستشيرني في كل شيء؛ ملبسه، رياضته، قراءاته، حتى صديقاته. وأذكر ذات مرة أني دخلتُ شقة بباريس، لأجد طارق ومعه صديقة، لم أجد فيها من الوسامة أو الجاذبية قَدْرًا مقبولًا. فانتحيتُ به ركنًا، وهمستُ في أذنه: فتاتك ليست في المستوى المطلوب. ولم يقُل طارق شيئًا، لم يعلق بكلمةٍ واحدة، ولكني لم أرَها ثانية على الإطلاق!

وطارق مُقلٌّ في الكلام، فإذا ما حدث وتكلم جاء حواره متزنًا، متواضعًا؛ فهو لا يميل أبدًا إلى إظهار ذكائه، أو استعراض سلامة تفكيره، وهو في هذا مثلي تمامًا. وبالرغم من أنه نشأ في أوروبا، إلا أن «رجلي الصغير» بقي على قيمه وتقاليده الشرقية. هو نسخة مني في جميع تصرُّفاته، لا يقبل إسارًا يُفرض عليه، ولا قيدًا يشلُّه حتى لو كان صادرًا عن أمه الذي يحبها كثيرًا. وطارق يفهم العربية جيدًا، ولكنه لا يتكلمها حتى مع فاتن، التي لا تتقن الإنجليزية ولا الفرنسية بالصورة المرجوة. وعندما نشترك أنا وأمه في حديث أو مناقشة باللغة العربية، يرُد علينا، إذا ما كانت هنا حاجة للرد، إما الإنجليزية أو الفرنسية.

وفلسفة طارق هي نفسها فلسفتي، أن يستمتع باللحظات التي تمُر به، دون محاولة استشفاف أثَر تلك اللحظات على الغد، أو المستقبل؛ أي أن يعيش ليومه فقط. وهذا إنما ينبع من الأنانية التي هي من صفاته، تمامًا كما هي من صفاتي، ولكن هذا لا يمنع أن كلًّا منا ميَّال للعطاء بلا حساب. وأنا شخصيًّا لا أدري عدد الذين ساعدتُهم من صغار الممثلين، أو من الأصدقاء، وهي مساعدة أبذلها طواعيةً طالما هم حاضرون، فإذا ما تلاشى وجودهم من حولي، وأقولها صراحة، أوقِف التفكير في متابعة مشاريعهم.

فأنا أحب الاتصالات المباشرة مع الناس، أن أراهم، أن أستمع إليهم؛ فالأحداث البعيدة قد تهمني، ولكنها أبدًا لا تؤثِّر فيَّ. أنا لا أشعر بالحدث إلا إذا كنتُ قريبًا منه، أو جزءًا منه، أو كان واحدٌ من الأطراف المشتركين فيه يعيش ضمن الدائرة القريبة مني.

وربما كان هذا نابعًا من طبيعة عملي؛ فأنا لا أنفعل إلا بما يدور ويقع تحت عيني، وليس بما يُروى لي، أو يحدثونني عن تفاصيله، وتلك هي مجاورة الأحداث، وليس محاذاتها!

ربما كانت هذه هي الأسباب التي من أجلها لم أنفعل كثيرًا بثورة عبد الناصر؛ فأنا لم أرَها تقع؛ فقد تمت بنجاح في الساعات الوليدة من اليوم، ولم تستغرق مدةً طويلة، استقرَّت بعدها الأمور تمامًا. وعندما خرجتُ إلى الطريق، في نفس اليوم، وفي موعدي المعتاد كان كل شيء قد تم، ولم يعُد هناك سوى الحديث عنها، على لسان المارَّة، ومن تلتقيهم من الأصدقاء. كان الخبر مهمًّا جدًّا وكان الحدث كبيرًا جدًّا، ولكنه لم يؤثِّر كثيرًا على حياتي اليومية؛ لأني لم أعايشه، لم أحضره.

وأنا وابني، مثل الذين يعملون في ورشةٍ كبرى، أو مصنعٍ ضخم، حياتهما لها حدودٌ قريبة جدًّا، هي البيت والعمل. وأنا دنياي هي البيت، والاستوديو، والنوادي الليلية. وطالما أن الأحداث التي تصادفني أو تمُر بي لا تغيِّر شيئًا ضمن ذلك النطاق، فإنها تبقى بالنسبة لي، بلا أهمية تُذكر. بعض الناس شغلهم الشاغل الدنيا من حولهم، أما أنا فلستُ منهم على الإطلاق. أنا لا أنتمي إلى تلك الفئة التي تُوصف بالالتزام؛ فجميع النظريات المهمة، والأفكار الكبرى، لا تستهويني على الإطلاق، بل هي على العكس تُفزِعني وتُرهِبني؛ فالكثير منها قد أصاب الدنيا بجراحٍ جديدة، بدلًا من أن يشفيها من جراحها السابقة. وهي في حالات عديدة، قد تكون الشرارة التي تندلع منها نار الخلافات.

خُطب المسيح مثلًا ومواعظه، كانت تنادي بالحب والخير، لكن جرائم كثيرة ارتُكبت من بعدها باسم المحبة، وتحت شعار الخير، وذلك بعد تحريف كلمات المسيح، أو التوسُّع في تفسيرها.

وطارق كان بين صفوف مدرسته الإنجليزية، عندما اجتاحت أوروبا الاضطراباتُ الطلابية في مايو من عام ١٩٦٨م، والتي كانت أشد ما كانت أوارًا في فرنسا، لكن الحركة لم تصل إلى ابني؛ لأنها فشلت في تخطي السياج البريطانية العالية للمدرسة؛ لذا لم يتأثر طارق كثيرًا بما حدث. ولأقُل، إني كأب، أشعر بالراحة عندما أرى ابني ينأى بنفسه عن جبهات الرفض، أو التيارات الراديكالية الطلابية. وأنا راضٍ لأنه قَبِل الحياة الناعمة، الرغدة، التي قدَّمتُها له، دون أن أرغمه على قبولها. وكثيرًا ما أتساءل: ماذا أنتظر من ابني؟

يبدو لي حتى الآن، أنه إنما يحاول أن يسير على نفس دربي، وأن يتابع المشوار الذي بدأتُ؛ فقد التحق بأكاديمية لندن للفنون ولكن بعد تردُّد؛ أي إن قراره لم يكن سريعًا، حاسمًا، يُنبي عن قرارٍ مُتخَذ بإصرار، أو استعداد، أو أصيل بوجه دون تردُّد، لا، ولكن يبدو لي، أنه إنما يحاول أن يكتشف، هو قبل غيره، إذا كان التمثيل هو موهبته واستعداده ومصيره؛ فما زلنا، أنا وهو، غير مقتنعَين تمامًا بأنه خُلق ليكون ممثلًا.

أذكُر أنه طلب إليَّ، يوم كان في السادسة عشرة، أن يُمضي إجازته الصيفية في إسبانيا، إلى جوار جده، ليتعلم منه أسرار تجارة الخشب، وهو عكس ما حدث لي تمامًا؛ فقد حاولوا أن يفرضوها عليَّ، ولكني تحايلتُ وتهرَّبتُ، هربتُ منها، فإذا بطارق يسعى إليها، وكأن عوامل الوراثة قد نقلَت إليه الحب الكامن في قلب جده لذلك النوع من العمل. وشعر أبي بسعادةٍ كبرى، عندما بلغَته رغبة طارق، في حين شعرتُ أنا بغصَّة، وخيبة أمل.

كنتُ أتوقع منه أن يحلُم بأن يصبح طيارًا، أو نجمًا، وأن تضيق حدود الدنيا، على اتساعها، بأحلامه وأمانيه الكبار؛ فأنا أذكر، أني كنتُ في مثل سنه، أريد أن أصنع «شيئًا مهمًّا»، كنتُ أفكِّر في أن أترك بيت الأسرة، لأنطلق وحدي وأصبح إنسانًا له كيانه المستقل، كنتُ أريد لنفسي النجاح الكبير في ميدان لم أحدِّده بالضبط، ولكنه بدا لي محصورًا بين ميادينَ ثلاثة هي التمثيل، أو الحسابات، أو الاختراعات. وربما حلمتُ في فترة بأن أكون ممثلًا ومحاسبًا ومخترعًا معًا. وها هو ابني يُجهِض أحلامي بالنسبة له، فيجعل همه الأكبر، معرفة الحجم التكعيبي لأحد ألواح الخشب!

يا له من طموحٍ غريب! لا يتناسب إطلاقًا مع ميله إلى الحياة الميسورة التي توفِّر له من الرفاهية الشيء الكثير. وهو أمر من السهل أن يحقِّقه عن طريق التمثيل. أريد له أن يصبح ممثلًا عن قناعة، وإيمان، ونظرةٍ جادة للأمور. ولا أريد له أن يكون ممثلًا من باب مسايرة أبيه، أو بدافع من نزوة قد لا تستمرُّ طويلًا؛ فالفن لا يمكن أن يُكتسَب، إنما هو يُولَد عادةً معنا، ثم ننمِّيه، أو نئده حسب الأحوال.

وأنا نادمٌ لأني لستُ قادرًا على أن أعود إلى خشبة المسرح. والسبب أن تبعاتي المادية، والتزاماتي المالية، المتزايدة عامًا بعد عام، تجعلني أتجه بكليتي إلى السينما؛ لأن دخلها أعلى بكثير من أرباح المسرح، ولكني أعود إليه عن طريقٍ آخر هو طارق. أنا أتمنى له من كل قلبي أن يصبح ممثلًا مسرحيًّا قديرًا؛ فالخشبة هي المجال الوحيد الذي يستطيع الفنان فيه أن يقدِّم طاقته كاملة. وهو أيضًا المكان الوحيد الذي يُثبِت فيه حضوره الذاتي، وتأثيره الشخصي على الجماهير.

فالحضور هو الذي يجعل الممثل ينجح أو يسقط.

وفقًا لما تنبأ به قارئ طالعي، بدأَت أموري تتحسَّن عامًا بعد عام، لتصل إلى أبعد مدًى ما بين عامَي ١٩٦٩م و١٩٧٠م؛ فقد أمكنني أن أجمع بعض المال، من عملي في فيلمَي «الوادي الأخير» و«الفرسان». أما قبلها فكنتُ أعمل وكأني ذئبٌ لا يكاد يكتفي بالتهام ما يحصُل عليه؛ لأنه أقل من أن يُشبعه، ويسُد جوعه. انتهى عقد احتكار بشركة كولومبيا لجهودي الفنية، وأصبح في مقدورى أخيرًا، أن أختار الفيلم بنفسي، وأحدِّد أجري دون تدخُّل من الآخرين، وأن أجني ثمار عملي لنفسي، بعد أن كانت تسقط من قبلُ في حديقة الشركة وحدها!

وتحسَّنَت أموري أكثر وأكثر، مع البدء في فيلم «مايرلنج».

وفيه أيضًا عرفتُ تلك الأنثى الرائعة التي تحمل اسم «آفا غاردنر».

بدأنا التصوير في النمسا، ومنذ اليوم الأول أصبحنا صديقَين؛ فقد كنتُ الإنسان الذي يُظهِر نحوها العاطفة ويدعوها للخروج والسهر، وينثُر من حولها بصفةٍ مستمرة الاهتمام البالغ، وتلك هي أقصر الطرق إلى قلب آفا الرائعة؛ فآفا بالرغم من أنها عرفَت عشرات الرجال الناجحين، ذوي الشهرة والوسامة والمجد، تشعر أنها إنسانةٌ وحيدة، والسبب أنها عرفَت الرجال ولم تعرف الحب، الحب وفقًا لمفهومها هي، وهو العطاء الكامل في مجال العاطفة، العطاء من قِبل الطرفَين معًا.

ولأنها تتطلب الكثير، لم توفَّق على الإطلاق، رغم جمالها، وشهرتها، وشخصيتها ظلت دائمًا وأبدًا الإنسانة المصدومة في الحب!

figure
figure
figure
figure

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤