كمال الشيخ

تختلف الأجواء والموضوعات في الأفلام الأربعة التي أخرجها كمال الشيخ لعمر الشريف؛ اثنان منها تدور في أجواءٍ بوليسيةٍ تمامًا، لكنها مثيرة، أكثر منها غامضة، والفيلمان الآخران لكلٍّ منهما طبيعةٌ خاصة، في مسيرة المخرج نفسه. نعم، هذه الأجواء في الأفلام الأربعة تدور في الظلام، أثناء الليل، وما يُريده أبطالُ هذه الأفلام واضح؛ فهم يتحركون أمامنا ويمارسون عملياتهم بكل وضوح؛ فنحن نعرف تفاصيل خطة مقتل الزوج في «من أجل امرأة»، والوحيد الذي لا يعرف هو موظَّف التأمين، الذي يسمع الحكاية كلها من زميله، مرتكب الحادث. كما أن الفدائي أحمد في «أرض السلام» يقوم بعملياته في الظلام ويدمِّر مستودعات الوقود. وفي «سيدة القصر» نحن نعرف النوايا التي يعمل عليها أصدقاء عادل، وأن الزوجة سوسن بريئة. وفي «حبي الوحيد» فإن الزوج ينفِّذ خطَّته لقتل زوجته أمام أعيننا، دون أن يكون هناك أيُّ غموض، كل هذا في أجواءٍ مُعتِمة.

لن تختلف الوجوه كثيرًا؛ فهي غالبًا لشابٍّ عصري، وسيم، في حالة عشق، أمامه مهمةٌ ما أحيانًا، أو في حالة تحوُّل إلى الأفضل. وهو في بعض الأحيان له حيثيةٌ اجتماعية؛ إما أنه ثري، أو طيار، أو ضابطٌ متطوع للعمل الفدائي. وفي بعض هذه الأعمال هناك أجواءٌ بوليسية أجنبية، وجرائم يرتكبها الأذكياء في المقام الأول.

أرض السلام (الفدائي)

تم إنتاج الفيلم الذي كتبه علي الزرقاني، بعد عدوان ١٩٥٦م، وتم التعامل بشكلٍ مباشر مع القضية الفلسطينية، ومدى المسئولية التي حملَها المصريون للدفاع عن القضية؛ فهناك معسكر لمجموعة من الفلسطينيين الهاربين من مذبحة دير ياسين، يعيشون داخل الأراضي الفلسطينية، الذين يعثُرون على الفدائي المصري بعد أن أُصيب، فيُقرِّرون مساندته في عمليته الفدائية داخل فلسطين، في تدمير مستودعات وقودٍ تخُص الجيش الإسرائيلي المحتل، هي عمليةٌ فردية تم اختيار ثلاثة فدائيِّين متطوِّعين للقيام بها، إلا أن اثنَين منهم يموتان أثناء الطريق، ويبقى واحدٌ بمفرده، كل ما عليه هو إتمام العملية أيًّا كانت الصعوبات، وحتى لو دفع حياته ثمنًا لإنجاز العملية.

في بداية الأحداث يكتُب أحمد رسالةً إلى أمه، هو في الغالب لم يُرسِلها، يقول لها: «أنا مش في اسكندرية، أنا في فلسطين مع الفدائيِّين، أملنا أن نحرِّر الأرض العربية من الصهاينة، قبل أن يدخلوا علينا في البلاد العربية.»

تدور الأحداث في زمنٍ غير محدَّد، لكنه بالتأكيد عام ١٩٤٩م، دون الإشارة إلى ذلك، أو في فترة ما بعد مذبحة دير ياسين، وأحمد يرتدي دومًا الزي الكاكي، عدا حين تبدأ العملية؛ حيث نعرف طبيعة المواجهة بين العرب والإسرائيليين في تلك المرحلة؛ فالغريب أن إذاعة العدُو تعترف أن هناك عملياتٍ فدائية تُقام ضدها. ويبدو أن كلمة إرهابية أو تخريبية لم تكن قد دخلَت القاموس السياسي بعدُ، وفي المعسكر، يردِّد العائد: «إحنا جايين متطوعين في سبيل إنقاذ العرب، ضد الذين حوَّلوا أبناءنا إلى لاجئين.»

figure

ويشرح القائد طبيعة العملية، ويتم اختيار ثلاثة شبابٍ لتنفيذها، ونعرف أن أحدهم متزوجٌ يكتب رسالةً إلى ابنه، أما الثاني فيكتب رسالةً إلى أمه؛ ما يعني أنها آخر الرسائل، أما أحمد فقد كتب رسالته، وهو الذي سينفرد وحده بالقيام بالعملية، والغريب أننا نراه يذهب بدون مُعدَّات للعملية، دون الإشارة إلى وجود شركاءَ له، في داخل الأراضي المحتلة، هو بطلٌ فرد، وحيدًا في طريقه، وسط تحرُّكات دوريات العدو، وفي صحراءَ مفتوحةٍ من السهل رصده، يلتصق الليل بالنهار، بالمخاطر، وهو في حالة هروب ومطاردة، شارك زميلَيه في عمليةٍ فدائية دفعا حياتهما بها؛ أي إن حياتهما لم تكن هباء.

وتبعًا لإصابته، فإن الفتاة الفلسطينية سلمى تعثُر عليه، وتنقلُه إلى داخل المخيم بمساكنه، وقبل أن تعثُر عليه، نتعرَّف على العربي الشرير، مؤقتًا في الأحداث؛ فهناك خالد الذي يرمي بشباكه على سلمى، وسوف نعرفُ فيما بعدُ أن حمدان متزوج، وهو أيضًا أبٌ لطفل سوف يموت في أحد الهجومات على الفلسطينيين، وفي هذه اللحظات يعثُر الصبيَّان عابد ومصطفى على المصري الجريح، وسرعان ما يقومان بنقله ووضعه في مكانٍ أمين قبل الاعتناء به.

الوجه البارز هنا هو وجه الفدائي، الذي يذهب في ملابسَ مدنيةٍ إلى أرض العدو؛ حيث مازن والد سلمى، هو الرجل العجوز صاحب الكلمة، والذي سيشترك في العملية فيما بعدُ، والجزء الغالب من الفيلم يدور حول الفترة التي تنمو فيها قصة حب بين أحمد وسلمى، وهي أيضًا الفترة التي يسعى الجميع إلى إخفاء الفدائي وسط التفتيش المتكرِّر من القوات الإسرائيلية، ويتم افتعالُ حفل زفاف بين الفدائي المصري، وسلمى الفلسطينية لتمويه وخداع قوات العدو، ونعرف أن هؤلاء هم بقايا الأحياء من مذبحة دير ياسين، وأن إسرائيل أبقت عليهم كنوعٍ من الشفقة، وإن كانت تهدِّدهم دومًا بإبادتهم، أو طردهم، وسوف يحدُث هذا بالفعل في نهاية الأحداث.

لن تلبث العملية الفدائية أن تتحول من حالةٍ فردية إلى صياغةٍ جماعية؛ فبعد أن قامت القوات الصهيونية بالإغارة على المكان أكثر من مرة، وبعد أن قاموا بقتل الطفل إياد، فإن رجال المخيَّم يقرِّرون الانضمام إلى الفدائي، خاصة خالد الذي فقد ابنه في العملية، ووسط هذه المواجهات نشاهد بعض تفاصيل الحياة في المخيَّمات الفلسطينية؛ فهناك أعراسٌ وامرأةٌ حامل، سوف تلد ابنًا يمثِّل جيلًا جديدًا من أبناء الشتات، وتلِد هذه المرأة رقية وهي ترى كيف بدأَت عشيرتها في الرحيل. وقد قام أحمد بأكثر من عملية؛ حيث ذهب معه أحد المتطوعين (عبد السلام النابلسي) وسوف تنجح العملية، إلا أن مشاركة المجموع قد أدت إلى نتيجةٍ أفضل.

رأى كمال الشيخ في أول أفلامه الوطنية أن التركيب الجسماني لعمر الشريف يصلح أن يعبِّر عن الفدائي المصري الذي يقوم بعمليةٍ فدائية. وقد سبق لممثلٍ آخر أن جسَّد هذا الدور هو جمال فارس، وهو أقرب في ملامحه ووسامته إلى عمر الشريف؛ ما يعني أن وجه الفدائي سينمائيًّا له سماتٌ بعينها، من أبرزها خفة الحركة، وطول القامة بالإضافة إلى سن الشباب. لكن هذا الفدائي يتحرك في صحراءَ بدون أغطية، ولم نَرَه يحمل أسلحة، ولكن هناك شنطة يدٍ صغيرة جدًّا، يحملها بحزام فوق كتفه. وهو أيضًا عاشق، تحرُسُه مشاعرُ سلمى، وما يلبث أهل المخيم أن ينضمُّوا إليه. وفي المرة الأولى لا يمكنه أن يحقِّق العملية، إلا أنه عندما ذهب معه أكثر من فلسطيني من أعمارٍ مختلفة تنجح العملية. هذا المخيم يضُم الأسر، والأطفال، وهناك زوجةٌ حامل، سوف تَلِد في العَربة التي سيَهرُبون بها جميعًا بعد نجاح العملية الكبرى، كما أن الفيلم أبقى على الفدائي، كي يهنأ بعمليته وبعلاقته العاطفية، وأيضًا بعودته سالمًا إلى أمه، التي كتب لها رسالةً قبل أن يتوجه إلى داخل فلسطين.

ولا شك أن دور الفدائي المصري قد أضاف رصيدًا في تاريخ عمر الشريف، الذي نالته الأقلام بعد أن شارك بربارا سترايسند في بطولة فيلم «فتاة مرحة»، الذي عُرض عالميًّا في النصف الأول من عام ١٩٦٧م. كما أنه أدَّى دور الضابط الذي يموت في حرب فلسطين من خلال انفجار لغم في فيلم «نهر الحب»، والفدائي في فيلم كمال الشيخ ينجح في العمليات التي كُلِّف بالقيام بها. وقد أكد الفيلم على ما قاله أحد الفلسطينيين في الفيلم «عدوُّنا الأول هم الصهاينة، انتقم لأخي وأبي.» كما أن أحمد يطلب من الباقين على قيد الحياة سرعة الهرب، حتى لا يتم التنكيل بهم حين يحضر الجنود الصهاينة، ثم تتم العملية كاسحة التي أُرسل أحمد من أجلها، والتي تُسفِر عن موت خالدٍ بطلًا، وهو الذي كان يتصرف بارتياب تجاه الفدائي طوال أحداث الفيلم، ويعود أحمد الفدائي الذي يعرف طريقه ظافرًا قبل أن يشارك الفلسطينيين الهروب.

سيدة القصر (المستهتر)

أذكر وأنا طفلٌ صغير كيف صاحبَت الدعاية بطلَي الفيلم عند عرضه الأول، فكأنما هما يتزوَّجان مجدَّدًا في الواقع، مثلما حدث في الفيلم. لقد جاء كل شيء بسهولةٍ ملحوظة، ابتداءً من التعارف، حتى الزواج، وصارت سوسن هي سيدة القصر الذي يسكنه عادل. هذا الفيلم الذي كتبه حسين حلمي المهندس، الذي شارك المخرج في إخراج فيلم «الغريب». وقد بدأ الفيلم كأنه يركِّز على بطلته سوسن التي ظهرت في مساحاتٍ درامية أكثر من الشاب عادل الذي أحبَّته من اللقاء الأول؛ فهي تتلفَّت وراءها، وتتساءل في داخلها عن هُوية الفتاة التي جاءت تزوره.

هي قصة حب، تتعرض لأزمةٍ عابرة، ثم تعود المياه إلى مجاريها، لكنها مصبوغة بصبغة كمال الشيخ الذي لا يميل إلى الاستعانة بالراقصات، ولا أن يذهب الأبطال إلى الملاهي الليلية. تقدم لنا سوسن نفسها، هي فتاةٌ عادية، تسكُن فوق السطح بإحدى البنايات بمنطقةٍ شعبية، هي في الغالب وحيدة. أما خالتها فإنها تقيم على مقربةٍ منها، وهي بمثابة الأم لها، امرأةٌ قوية تعرف متى تتدخل، ومتى تقف بشكلٍ محايد. وسوسن الموظفة في إحدى الشركات تعمل في أوقات فراغها في أعمال الكانفاه، وتقرِّر أن تشتري صندلًا جديدًا لجارتها الطفلة، وفي طريقها إلى العمل ينكسر كعب الحذاء فتشتري الاثنَين معًا؛ الصندل والحذاء. كما أنها تذهب لشراء مقعدٍ مستعمل من المزاد؛ لأنها غير قادرة على شراء واحدٍ جديد، وفي المزاد تُبدي دهشتها مما يشتريه الآخرون، خاصة ذلك الشاب الوسيم الذي لم نَرَه طيلة الأحداث إلا بالزي الرسمي، والذي سمعَها تُبدي دهشتها من شراء لوحة كانفاه بمائة جنيه، وهنا يبدأ التعارف.

figure

هذه الفتاة العادية الوحيدة، التي لا جذور لها تقريبًا، سوى خالتها، سرعان ما تدخل قصر هذا الثري الذي جاءت لزيارته حاملةً لوحة الكانفاه، ويطلب منها لوحاتٍ أخرى، فتتكرَّر الزيارة، ويُحاوِل استمالتها، إلا أنها ترفض، وتذهب غاضبة. هي متحفِّظة في كل سلوكها، حتى بعد الزواج؛ فهي ترفض أن تأخذ غطسًا. يردِّد في لقائهما الثاني، وهو يمازحُها أنها «تحفة هانم» لشدة تحفُّظها، وهي تطلب منه عدم الشرب، وتراه بارًّا بخادمه صالح، مثلما هي بارَّةٌ بجارتها الطفلة، حين يرسل طبيبه الخاص لعيادة ابنه المريض، ومن هنا تكتشف معدنه.

هذا الشاب الوسيم، لم يَعتَد أن تصُدَّه الفتيات مثلما فعلَت سوسن، عندما صدَّته وضربَته، فيذهب إلى بيتها كي يصالحها، حاملًا هدية، إلا أن الخالة تقابله، وتتعامل معه برفضٍ قاطع: «صاحبة الهدية مش موجودة»، بما يعني أن الشاب لا يتحمَّل الخسارة، وأنه يعود من جديدٍ حاملًا نفس الهدية، باعتباره خاتم الخطبة «أنا عايز اتجوزك».

وسرعان ما تأتي ليلة الزفاف، وفي الحفل، تبدأ في التعرف على الجانب الشخصي من عالمه، ابتداءً من صديقه الدكتور مصطفى، الذي ينصحها بالذهاب إلى المزرعة، التي لم يزُرها زوجها منذ سنوات. كما تتعرف على الشلة الفاسدة التي يمثِّلها شفيق، وبعض النساء، الذين يَرَون في هذه الزيجة تعطيلًا لرغباتهم في الاستيلاء على ثروات الشاب.

رغم أن الزواج قد تم وأنهما ذهبا إلى الإسكندرية لقضاء شهر العسل، فإن سوسن لم تكن أبدًا سيدة القصر الذي تسكنه؛ فالرجل يبدأ في معاملتها بقسوة، ويحذِّرها بعدم التدخل في أموره الخاصة «هذه حياتي، وأنا حُر فيها» ورغم أن أيام العسل مرَّت وقد كلَّلَتها السعادة بشكلٍ عادي، فإنه بمجرَّد عودة الزوجة إلى القصر، اكتشفَت أنها أبعدُ ما تكون عن أن تكون سيدته؛ فهناك أسيادٌ آخرون وسيدات. يديرون كل شيء، ويثق فيهم عادل ثقةً عمياء.

وهنا يتضح الجانب الخاص بالسخرية من عنوان الفيلم؛ فلم تكن سوسن قَط سيدةً لهذا القصر، وإنما هي زوجةٌ مُهمَلة، تأتي أهميتها في الدرجة الثانية، خاصةً أن زوجها يحدِّثها في غضب «دي حياتي ما حبش حد يشتكي أو ينتقد، إوعي تحاسبيني وتطولي لسانك على أصحابي».

وهنا تبدأ الخلافات؛ فهي لا تودُّ أن تصبح السيدة الوحيدة في القصر، وأن تنفرد بزوجها، قَدْر ما يهمها أن تغيِّر له حياته، وأن تكشف له أن شفيق وشلَّته يدبِّرون له أشياءَ تتكشَّف مع الوقت. وسيدة القصر هذه امرأةٌ منكسرة، رغم كل ما بها من كبرياء، وهي لا تحقق أي انتصار في معركتها، وتؤثِر السلامة، بأن تعتكف في غرفتها، داخل القصر، أو الهروب من العزبة إلى الطريق الزراعي، بعد أن أبلغها أنها تخونه مع صديقه مصطفى.

هناك شيءٌ ما في هذه العلاقة، وأرى أن حسين حلمي المهندس لم يتألق قَط في عمل علاقةٍ إنسانية مبهرة، وجعل شخصية العاشق هنا مسطَّحة، زاعقة، غير مبرَّرة، ورأينا هذه الزوجة المليئة بالكبرياء تهربُ عند اللحظة الحاسمة، ولا تتمسك بقصرها الذي من المفروض أنها سيدته.

حاولَت سوسن أن تغيِّر من عالم زوجها؛ فهي توقظه في ساعةٍ مبكرة لم يعتَد على أن يغادر فراشه في مثلها، وهي ترى الغانيات يُلقين بالشباك عليه، وترقُب العلاقات غير السوية، وتراه يلعب القِمار، ويخسر في كل ليلة. لقد تم الاستيلاء على زوجها وقصره، وتشعُر أنها صارت تحفة، حية، وهو الذي غازلها في إحدى المرات: «إنتي تحفة»، وهي تقول له في مواجهةٍ قصيرة: «اشترتني من مزاد، وبقيت تحفة، مش عارفة اتلم عليك».

من ناحية الشلة الفاسدة بقيادة شفيق، فإنهم يرسمون كيف يتخلصون من الزوجة. وتأتي الخطة أقربَ إلى ما فعلَه إياجو في صديقه عطيل الذي جعل الغَيرة تأكل قلبه. وبكل ذكاء، راح شفيق يسرِّب إلى عادل الشكوك بأن هناك علاقةً ما تربط بين امرأته وبين صديقه الدكتور مصطفى، الذي طلب من سوسن أن تبقى إلى جوار زوجها، وكم قام بنصح صديقه بعدم بيع العزبة. وعلى جانبٍ آخر فإن سوسن تبدأ في الإلحاح على زوجها بالذهاب إلى العزبة، التي يدبِّر شفيق لبيعها بثمنٍ بَخْس، والحصول على فَرق سعرها من الشيخ عبد الستار الذي يعرف الكثير عن عملية البيع.

وجود سوسن في العزبة، وليس في القصر، هو الأمر الأكثر خطورة على الشلة «لازم نزن على ودانه، حيجبلنا قرشين كويسين، لازم نخلص منها»، وهنا يتم تدبير خطة لإثارة الشك في قلب الزوجة.

هنا يتحول هذا الزوج المستهتر إلى شخصٍ بالغ الدهشة، غير قابلٍ للتغيير، أو رؤية ما يدور من حوله، فتترك المنزل إثْر مكالمةٍ هاتفية، إلا أن خالتها تطلب منها العودة كي يقابلها زوجها بعنفٍ شديد، ويطلب منها الاعتذار إلى كل من ملك هانم، وسمر لأنها أهانَتهما، ويطلب منها أن تهاتفهما، وتعتذر، إلا أن سوسن لا تحتمل فتسقط فوق الأرض، وقد سبق لفاتن حمامة أن جسَّدَت مثل هذا المشهد في فيلم «ارحم دموعي» عام ١٩٥٣م.

هنا تفعل الخالة (فردوس محمد) ما لم تجرؤ سوسن أن تقوم به، وهي تردِّد: «اسمع يا بني، اللي حصل الليلة يؤكد انك بايع مش شاري، نخرج بالمعروف، قدَّامها بيت مفتوح يتمنى تراب رجليها»، وفي هذا الحوار تبدو ملامح التغيرات الأولى في هوية عادل؛ فهو يتهم الخالة أنها «ماعندكيش رحمة»، ويتردَّد وتبدو على وجهه علامات الانكسار، والحب.

عمر الشريف هنا، دائمًا في حالة تأنق، داخل القصر، وخارجه، ونحن لم نَرَه خارج القصر إلا نادرًا؛ فهو يحمل معطفه الشتوي بكل أناقةٍ داخل مسكنه، ويرتدي البزَّات الفخمة، كأنه في مكتبه، وها هو قد صار عاشقًا، يتطلع إلى زوجته في قلق، وهي خارجة من القصر، الذي لم تكن أبدًا سيدته، مع خالتها في طريقها إلى العزبة؛ حيث ستسافر وحدها، وترنو إلى القصر في حزنٍ ملحوظ.

كما أشرنا، فإن فكرة غَيرة عطيل قد استخدمها الكاتب؛ ففي العزبة يبدأ الدكتور مصطفى في عيادة سوسن، وتُبلِغه أنها أحسَّت أن زوجها قد تغيَّر، وتبدأ في التفتيش عن أسرار حسابات العزبة، والأرض الزراعية. ويتضح لنا أسلوب كمال الشيخ فيما يختص بالجانب البوليسي من القصة؛ فكل شيء واضح أمامنا كمتفرجين، دون أي غموض، وأن عادل هو آخِر مَن يَعْلم بما يُحاك حوله. ونعرف من خلال حوار مدير الحسابات مع شفيق أنه سيحصل على ربع صفقة البيع، بما يعني أن المؤامرة جماعية. وهنا يبدأ شفيق في البوح لسيده بما يجعله يشك أن هناك علاقةً ما بين صديقه وزوجته، فيسرع إلى العزبة، ويواجه زوجته بالخيانة، فتسرع بالخروج من القصر، دون أن يخرج لإعادتها. ويكشف الشيخ عبد الستار أسرار صفقة البيع، وأن الشلة الفاسدة كانت ستحصل على خمسين ألف جنيه فارق المبلغ بين ثمن الأرض والرقم المُباع به، ويقدِّم لعادل ورقة السمسرة. وهنا يظهر مصطفى طالبًا من صديقه أن يلحق بزوجته التي ركبَت شاحنة في الطريق الزراعي، وعندما يتشاجر سائق الشاحنة مع عادل ويتغلَّب عليه، تنحشر سوسن بين السائق وزوجها، كي تتقبل مصالحته، وهو يقول لها: «حنعيش في العزبة، وندير المحلج».

كما رأينا فإن الأجواء التي يقدمها كمال الشيخ في أفلامه، قد تجلَّت هنا بشكلٍ ملحوظ؛ فالأحداث تدور ليلًا غالبًا، في تصويرٍ داخلي، وإن الحبكة البوليسية بالغة الوضوح، وذلك عكس ما قدَّم عاطف سالم، رغم أن الشيخ أكثر اهتمامًا بالحبكة البوليسية، وسنرى ذلك واضحًا في «من أجل امرأة».

من أجل امرأة (مندوب التأمين)

هذا الفيلم مقتبس من الفيلم الأمريكي «تأمين مزدوج» إخراج بيلِّي وايلدر عام ١٩٤٦م، وتمثيل فريد مكموراي، الذي أدى شخصية والتر نيف التي تحوَّلَت في الفيلم المصري إلى موظف التأمين شكري. ويُعتبر جيمس كين أشهر كتَّاب الرواية البوليسية السوداء، وقد تحوَّلَت رواياته إلى أفلام مشهورة، تم اقتباسها في أفلامٍ مصرية أكثر من مرة للرواية الواحدة، ومنها «ساعي البريد يدُق الجرس مرتَين». وهو أحد الذين تأثَّر بهم نجيب محفوظ، سواء في أسلوبه الجديد مع «الطريق، واللص والكلاب». وتنتمي هذه الروايات إلى المحيط الاجتماعي؛ فالمرأة هي المحرِّك الرئيسي لارتكاب الحوادث، وهي التي تدفع بعشيقٍ عابر إلى أن يتخلص من زوجها العجوز، الثري، كي تستأثر بالرجل وفحولته، وقد بدا ذلك واضحًا في الروايتَين المذكورتَين.

في هذا النوع من الروايات، يُضطَر شخصٌ إلى ارتكاب جريمةٍ بواعزٍ من امرأة، وهو ليس قاتلًا بالسليقة، لكن فتنة المرأة التي يتعرف عليها هي السبب. وشكري هنا موظَّفُ تأمينٍ شاب، يفهم جيدًا في أعماله. والجرائم هنا مكشوفة، واضحة؛ فنحن نعرف من هو القاتل، وأسباب الجريمة، وكل ما نفعله أن ننتظر كيف تنتهي الأحداث مع وجود بعض المفاجآت، مثل وجود رجلٍ آخر تستخدمه الزوجة الخائنة لاستكمال جريمتها؛ أي إننا لن نبحث عن الفاعل؛ فهو معروفٌ دومًا.

تبدأ الأحداث بخلفيةٍ سوداء، بيت فخم، ظلام، صوت طلقات رصاص، يخرج شكري مصابًا، في انتظاره سيارته، وسيارة شرطة، تتعطل سيارته، ثم تنطلق، قطع على عربة الإسعاف وبداخلها شكري مصابًا، ويروي لزميله مراد حكايته، التي نراها بشكلٍ متقطع، ولكن بتتابعٍ منطقي. هذا النوع من الحكي قد يناسب السينما، والرواية الأمريكية المكتوبة عام ١٩٤٣م، لكنها بدت وقد استُهلكَت عام ١٩٥٩م. لكن كاتب السيناريو محمد أبو يوسف استخدمها، وقام مخرجٌ تقليدي تمامًا بتبنِّيها.

figure

بعد عمليةٍ جراحية لانتزاع الرصاصة، ووسط حالةٍ من الاحتضار يروي شكري لزميله كل ما حدث له، بخصوص جريمة قتل، وبوليصة تأمينٍ أعدَّها بإغراء من إحدى الزوجات، إلهام، للاستيلاء على ثروة الزوج، تحت ادعاء أنها واقعةٌ في غرام مندوب التأمين، الذي يرفض بشدة في بداية الأمر هذا العرض الذي قدَّمَته إليه على مراحل. لكن لأن المرأة تتمتع بأنوثة طاغية، فلا بد أن يمتثل وعن طيب خاطر؛ فهو يقوم بالقتل، بعد تدبير خطةٍ محكمة، ويدَع عشيقته تستمتع بالثروة، وبعشيقٍ جديد. إنه الحب الذي حوَّل هذا الوجه البريء لموظف تأمين إلى القتل عن عمد، ويجعل المرأة تُقنِع زوجها بالسفر ليلًا، وفي السيارة التي تتوجَّه به إلى محطة القطار فإن شكري يقوم بخنق الزوج العجوز. وتستكمل الأحداث نفسها، وكأن كل شيءٍ مُعَد سلفًا؛ فالقطار سوف يقوم بالتهدئة عند محطة قليوب، مما سيمكِّن شكري من القفز، وهو يرتدي ثوب الزوج القتيل، كأنه قد تعمَّد الانتحار.

أهمية الرواية، والأفلام، في رأيي، ليس في تلك الخطة البوليسية الساذجة التي رأيناها وإن بدت محبوكة، لكن في تلك الحوارات التي تدور بين مراد، موظف التأمين الأقدم، وبين شكري. إنها تذكِّرنا بالحوار الذي كتبه دوستويفسكي في رواية «الجريمة والعقاب» الذي يدور بين القاتل والمحقق؛ فهذا يودُّ الوصول إلى الحقيقة. وقد دار مثل هذا الحوار أكثر من مرة بين الطرفَين؛ مراد موظفٌ ماهر، لا يترك الأمور تمُر من بين يديه سُدًى، مثل السائق الذي أحرق سيارته، وذهب يطالب بالتأمين ضد الحوادث، إلا أن مراد كشَفه. وتبدو كافة الأمور كأنها لا تستعصي على مراد، عدا أن يتوصل إلى القاتل الحقيقي، وهو مساعده الذي يعمل معه، ويرسم له الخطط، وما كان له أن يُكتشف لولا أن العاشقَين قد اختلفا معًا، فأطلق كلٌّ منهما على الآخر الرصاص؛ حيث ماتت الزوجة أولًا، ومات موظف التأمين في المستشفى بعد أن اعترف بكل شيء.

شكري هنا رجلٌ وحيد، منزوع من الحياة الاجتماعية، لا نكاد نعرف عنه شيئًا سوى عمله. وتبدو كل شخصيته هنا كأنها وُضعَت لما هو مخصَّص لأدائه؛ فموظف التأمين عليه أن يحرِّر البوليصة، ويقتل الزوج، ويساعد الزوجة في صرف مبلغ التأمين. ومراد موضوعٌ كي ينغص على القتَلة ويضيِّق عليهما الخناق، وألا يجعلهما يهنآن بفعلتهما، حتى يقتل كلٌّ منهما الآخر. وإلهام مرسومة كي تدبِّر جريمتها وتفوز بالمال، والرجل الذي تستخدمه كأداة. وهذه من سمات هذا النوع من الروايات التي كان يكتبها جيمس كين، إلهام مثلًا امرأةٌ جميلة بالغة الإغراء، لم يستطع الرجال مقاومة ما لديها من سحر، يردِّد شكري وقد وقع في هواها فامتثل لها: «مش ح اقدر استغني عنك أبدًا»، وهو متردد، لا يريد أن يضعُف، لكن أمام قبلةٍ ساخنة وإلحاحٍ مغموس بأنوثتها، يدبِّر خطة التخلص من الزوج العجوز، وينفِّذها بإتقان كأنه قاتلٌ محترف، بدليل أن الشرطة لم تتوصل إلى القاتل، وأن القاتلَين هما اللذان قاما بتصفية أحدهما الآخر.

شكري أقرب إلى شخصية الزوج عادل في «سيدة القصر»؛ فهو متأنِّق دومًا في ملابسه المدنية، وهو يرتدي الروب دي شامبر في بيته، رغم أنه وحيد؛ ولذا فقد اكتسى الفيلم كعادة أفلام كمال الشيخ الأخرى بالعتمة. ولا يتم ارتكاب الجريمة إلا بعد أن يعتمل الحب في قلب شكري، فيردِّد في موقعٍ آخر: «أنا اتأكدت اني مش ح اقدر أعيش من غيرها، تبقى لي لوحدي لو اتخلصت من جوزها»، وكلما أمعن في التردُّد والتراجُع زادت هي من مساحة الإغراء، حتى تأخذ الخطة مسارها، ويبدأ هو، وليست هي، في الإلحاح عليها بالتنفيذ، معتقدًا أنها خطةٌ صحيحة.

تبدو أحداث الفيلم أقرب إلى لعبة الشطرنج، في مباراةٍ بالغة المهارة؛ فكل شيءٍ مُعَد سلفًا، ولا يمكن تنفيذ شيء إلا من خلال الثقة أن الخطة سوف تُنفَّذ. وقد أضاف الفيلم شخصية ابنة الزوج، نادية التي تحب الشاب زكريا، والتي سوف تعترف لشكري فيما بعدُ أن إلهام هي الممرضة التي كانت السبب في وفاة أمها، ثم تزوَّجَت من أبيها، بما يعني أنها تقتُل أكثر من مرة مع سبق الإصرار. وقد تولَّدَت ثقةٌ بين شكري ونادية خاصة بعد أن لاحظ أن حبيبها زكريا هو الرجل الجديد في حياة إلهام.

وقد تم تنفيذ الخطة ليلًا، واستغرقَت أحداث الجريمة وقتًا مستفيضًا؛ فشكري يركب القطار، وقد تخفَّى في ملابس العجوز، واستعان بعكَّاز، وعندما اقتربَت محطة قليوب، فتح الباب وقفز، وسط شهادة لواحد من الركاب، بينما لحقَت إلهام بالقطار، وتم نقل الجثمان إلى جوار قضبان القطار لإعطاء الإحساس بأن الأمر انتحار، هذا الانتحار الذي يُشعِل غضب إدارة الشركة التي ستدفع مبلغ التأمين.

وينال مراد التوبيخ بسبب قبول هذا النوع من التأمين، ما يدفع بالرجل (محمود المليجي) إلى البحث عن أسبابٍ خفية وراء الانتحار، حتى يتوصل إلى أنه قُتل، ويصير عليه أن يمسك بالخيوط، فيضيِّق الخناق حول إلهام، ويسعى لمعرفة من كان شريكها في أداء الجريمة.

موظف التأمين القاتل، بالغ الثبات في كل المواقف، يتصل بحذَر بعشيقته، ويساعدها بعيدًا عن الأفكار، يردد: «أنا خايف عليكي من مراد» وتبدو إلهام حين تزور عشيقها القاتل في منزله كم هي فاتنة، ذات عينَين ساحرتَين.

ولا شك أن الاعتراف الذي تحدَّثَت به نجوى إلى شكري قد كشف بعض الخيوط المهمة، وهي لم تلجأ إلى هذا الاعتراف إلا بعد أن لاحظَت أن زكريا يتردَّد على إلهام في بيتها، كما أن وساوسَ مماثلةً تصيب شكري، وهنا تأتي فكرة التخلص منها. يذهب إلى دارها ليلًا، وهو يُخفي مسدسًا، ويترك زكريا في السيارة بالخارج، وينفِّذ جريمته، يُطلِق عليها الرصاص، وقبل أن يخرج، تلتقط المسدس، وترميه برصاصة، ويأتي زكريا كي يُعلِن أنه سمع كل شيء.

هذه الحكاية حكاها شكري إلى زميله، وما إن باح بها كلها، حتى يلفظ أنفاسه، وتبدو المعالجة هنا تقليدية بشكلٍ ملحوظ، أقرب إلى الفيلم الأمريكي.

حبي الوحيد (الطيار)

ينتمي هذا الفيلم إلى ما يُسمَّى بالجريمة العاطفية، وفيه يتم ممارسة الجريمة بدافع الحب، وسعيًا لامتلاك الحبيب، وذلك بالتخلص من الطرف الآخر، أو بالاثنَين معًا. وعادةً ما تكون الأحداث مكشوفة، وتتم أمام أعيننا، ويأتي ضابط المباحث للتحقيق في الأمر، حتى تتجلى له الأمور، التي هي بالتالي معروفةٌ للمشاهد بكافة تفاصيلها. وعادةً ما تكون التمهيدات لهذه الجرائم طويلة؛ لذا فإن المخرج كمال الشيخ قد خلَط أحداثه بمواقفَ كوميديةٍ عديدة، كلَّما ظهَرَت شخصية (عبد المنعم إبراهيم) الواقع في غرام الفتاة الأفريقية باباكاداسا. وفي هذه الأعمال فإن الجريمة لا تكتمل دائرتها، وسوف نرى أن منى لم تمُت، وأن السم الذي دُس لها لم يؤدِّ مفعوله تمامًا؛ لأنها كانت قد تناولت مضادَّاتٍ للسموم قبل تناول المشروب. كما أن منى تبرِّئ زوجها من محاولته قتلَها بسببٍ أخلاقي تمامًا، رغم تعرُّضها للقتل.

الجريمة تمَّت في النصف الثاني من الفيلم، أما العاطفة، فقد رأيناها في الجزء الأول؛ فها هو الطيار المدني عادل، بالغ الوسامة، واقع بين امرأتَين؛ الأولى زميلته المضيفة عايدة (شويكار) وهو حب من طرفٍ واحد، لكن لا شك أن وجودها على الهامش، يؤجِّج المشاعر العاطفية للفتاة التي يُحبها. والرواية هنا تدور وسط الأجواء الراقية؛ فوالد منى يعمل في السلك الدبلوماسي، والعاطفة والجريمة يقوم بها أبناء هذه الطبقة. ونحن لا نعرف أي جذور لعادل، لكنه طيارٌ وسيم، يرتدي الزي الرسمي كقبطان في أماكنَ عديدة، وهو رجل «جنتلمان»، متسامح، كل ما يريده هو الحصول على حبيبته «منى» وسط أجواءِ عرقلة، بعضها يأتي عن طريق المصادفة، والبعض الآخر عن عمد. وكل الأطراف تتسم بأن مستواها الاجتماعي والثقافي مرتفع، مثل عم بهجت، صديق الدبلوماسي، والد شكري، الذي لم يلتقِ بصديقه منذ اثنَي عشر عامًا، وهو أيضًا دبلوماسي. أما شكري فرغم أنه ارتكب جريمة، أو شرع فيها، فإنه ليس شريرًا، بالمعنى القَذِر للشر؛ فقد طلبَت منه زوجته الطلاق، وأبلغَته أنها تعرف رجلًا آخر قبل أن تتزوَّجه، فراح يفكِّر في طريقة للانتقام ممن حطَّم قلبه. إذن فهو الحب المستحيل القاتل، وفي النهاية سوف يتم اكتشاف فعلته، وسوف تُبرِّئه زوجته من فعلته، ويتقبل الأمر بهدوء. وهو لا يحمل وجه الشرير، بقَدْر ما يحمل وجه العاشق. ولا شك أنه عندما تقدَّم لخطبة منى، فإنه لم يكن يعرف؛ وبالتالي فإن الخطأ يقع على منى، التي انقلبَت على حبيبها عادل، وفسَّرَت لنفسها نوع العلاقة مع عايدة؛ لذا تُوافق بسرعة على الزواج من شكري. لم تعرف أنه تأخر عن حفلة الخطبة بسبب حادث السيارة. وكنوعٍ من الانتقام منه وبكل دمٍ بارد، فإنها توافق على الاقتران بشكري. وتذهب منى في شهر العسل إلى فندق البوريفاج، ويتصادف أن يكون عادل هناك. ويبدأ شكري في تنفيذ الجريمة؛ فهو لا يحتمل أن يكون حبيب امرأته في غرفةٍ مجاورة. ومن هنا يأتي معنى الجريمة العاطفية؛ حيث عرف الزوج أن هناك سمًّا زعافًا يقتل بأسرعِ ما يكون من صديقه الصيدلي، وهو يختلس من هذا السم، ويضعه في المشروب. وبعد أن يتم التسمُّم فإنه، في مشهدٍ ساذج، يسرق المفتاح الخاص بخصمه، وينقل زوجتَه المسمومة إلى غرفة عادل، ويعود لإرجاع المفتاح، لكنه يُعيد مفتاح الحبيب.

figure

هذه هي العقدة التي سيتم الوقوف عندها لمعرفة القاتل؛ أن شكري قد أخطأ في إعادة المفتاح الصحيح إلى التابلوه، وعندما يتوصل المحقِّق إلى تلك الواقعة، يصير عليه أن يُطلِق سراح عادل، ويتم القبض على القاتل الحقيقي.

مثلما كانت رحلة شهر العسل إلى الإسكندرية في الفندق نفسه سببًا في تنامي الحب بين العروسَين في «سيدة القصر»، فإن شهر العسل هنا كان سببًا لارتكاب جريمة القتل؛ فقد تراجعَت العروس في مشاعرها تجاه حبيبها، وما إن باحت لها عايدة بمسألة الحادث ودخول عادل إلى المستشفى حتى تراجعَت في مشاعر الجفاء تجاه حبيبها، واعتذَرَت له، وبدأَت تطلب الطلاق من «عريسها».

وهذا النوع من الجرائم الباردة تعطيك الإيحاء أننا أمام مصدرٍ أجنبي، مثلما اعترفَت العروس لزوجها في الأفلام المصرية الثلاثة المأخوذة عن فيلم «ملك الحديد» لجورج أونيه؛ فالرجل الشرقي لا يحتمل أن تبوح له زوجته في شهر العسل أنها تُحب غيره؛ ولذا بدت هذه القصص غريبة، وصار على شكري أن ينتقم على الطريقة الغربية من عروسه وحبيبها.

في النادي، قال عادل لحبيبته التي كادَتْه وتزوَّجَت: «مفيش حاجة تبعدني عنك غير الموت»، فتردِّد: «أنا ظلمتك يا عادل.» ويُبلغُها بكل نُبلٍ أنها سوف تُحب زوجها وستنساه، ومنى امرأةٌ غير لعوب، لكنها تلاعب زوجها الشطرنج. يبدو هذا الزوج رقيقًا هادئًا يُحدِّثها عن مباراة الشطرنج الأخيرة التي جمعَتْهما قبل تنفيذ الطلاق: يا راحت عليَّا، يا راحت عليكي.

وعندما يتأكد العريس من كلام زوجته، وهو الذي وافقَها على الطلاق، فإنه يبدأ في سرقة جرعة السُّم الزعاف، ويتأكَّد لديه الفعل، وهو يسمعها مجدَّدًا تتحدث إلى خصمه في الهاتف، وهنا تبدأ ملامح الشر وقد كست عينَيه، ويقترح عليها السفر إلى الإسكندرية، وهناك يعرف أن هذا الخصم موجود بالفندق، هو جاء عن طريق المصادفة، لكنه لا يغادر البوريفاج، وهنا تبدأ الجريمة من طرف واحد.

كما أشرنا فنحن أمام الجانب المفتوح من الجريمة؛ حيث يعرف المتفرج مع كل مشهدٍ ما دار من تفاصيل، كيف قام الزوج بوضع السم في مشروب امرأته، وكيف تجرَّعَته، ثم راحت في غيبوبة، وكيف سرق المفتاح، ونقل زوجتَه المسمومة إلى الغرفة ٤٦ التي يقيم فيها عادل. ولعل هذا يفسر لنا أن هناك أنواعًا متباينة من القصص البوليسية سواء في الأفلام أو الروايات؛ حيث تبدأ ظهور شخصياتٍ جديدة؛ منها المحقِّق الذي جسَّده فاخر فاخر، أحد الذين اشتركوا في أفلامٍ عديدة قام ببطولتها عمر الشريف. هو رجلٌ ناضج، بالغ الذكاء، متفهم، وهو يتحرك من منطق أن «السر في المفتاح»، ويمضي تَبع ما أبلغَه به عادل أن المفتاح الذي معه لا يخصُّه. وتبدأ لحظات التوتُّر التقليدية؛ فالزوج يخفي أمر المفتاح، كما أنه يودُّ لو قضى على زوجته التي تتنبَّه من الغيبوبة «الحبوب المنوِّمة أبطلَت مفعول السم».

وأمام هذا الجو من الكآبة، والاتهامات الباطلة، والكذب، فإن الصديق الفكاهي يعود للظهور في أحلك الأوقات. لقد تزوَّج من حبيبته الأفريقية باباكاداسا، وتنبعث روح البهجة لبعض الوقت. ونكتشف أن كمال الشيخ يستخدم أسلوبه، الذي رأيناه في أفلامٍ أخرى، ومنها «حب وإعدام»، و«من أجل امرأة»، وغيرهما. إنه ليست هناك مطاردات بين الأخيار والأشرار، مثلما يحدث في أفلام عاطف سالم، كما رأينا، وإن كل التوتر في لحظة اكتشاف الفاعل؛ فلا مطاردات، ولا اقتتال، بل إن الزوجة تبدو كأنها تُكفِّر عن كل أخطائها السابقة؛ فهي السبب لكل هذه الأفعال، وتعترف أن زوجها لم يقدِّم لها السم «أنا اللي أخدت السم بإيدي، عشان باحب عادل، وانا اللي رحت لعادل في حجرته، وطلبت منه أن نهرب معًا، أنا التي شربت السم».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤