يوسف شاهين

ترتبط سيرة يوسف شاهين السينمائية بمسيرة عمر الشريف؛ فلا شك أن فيلمهما الأول معًا «صراع في الوادي» عام ١٩٥٣م، يُعَد مرحلةً فاصلة في حياة كلٍّ منهما، وفي سيرة كلٍّ منهما؛ حيث لعب كلٌّ منهما دورًا مهمًّا في حياة الآخر. وإذا كان يوسف شاهين قد وجد «ابن النيل» في وجه شكري سرحان، فإنه كسا وجه عمر الشريف بثلاثة وجوه؛ الأول ابن الأقصر الصعيدي الذي عاش لفترة في المدينة، ثم عاد إلى مسقط رأسه، وارتدى الملابس الريفية، وذلك في «صراع في الوادي» ١٩٥٣م، ثم دور فارس القبيلة الصحراوية في «شيطان الصحراء» ١٩٥٤م، وأخيرًا الفتى السكندري رجب العائد من رحلةٍ بعيدة، في «صراع في الميناء».

ومنذ فيلمه الأول فإن عمر الشريف شد انتباه الناس، وجذَبهم، ومن حسن حظه أن صديقه المخرج بارع في إدارة الممثلين. ولعل عمر الشريف، هو الوجه الأهم، والأوحد الذي حظي بهذه المكانة؛ حيث إن شاهين قد راهن دومًا على ممثلين يتسمون بوسامة، وأسند إلى بعضهم بطولاتٍ مطلقة، أو مساندة، منهم مثلًا سيف الدين عبد الرحمن، لكنهم لم يصلوا إلى المكانة نفسها. وقد تناثَرَت أسماء شبابٍ قدَّمهم شاهين في أفلامٍ عديدة منها «بين إيديك»، «رجل في حياتي»، «عودة الابن الضال»، إلا أن عمر الشريف هو النجم من أول طلة، ليس فقط بالنسبة لنا، بل أيضًا للنجمة التي قامت ببطولة الفيلم أمامه؛ فسرعان ما وقعَت في حبه، وصارت زوجةً له، وشريكةً في مجموعة من الأفلام المهمة، التي تُعَد علامةً بارزة في السينما المصرية.

كل ما فعله شاهين أنْ حاول الاستفادة من عمر الشريف بقَدْر ما لديه من موهبة، وعلى مدى ثلاث سنوات، قدَّمه في أفلامهما الثلاثة، ثم لم يتعاونا بالمرة. وكما رأينا فإن هناك مخرجين آخرين كان كل همهم هو الاستفادة من جاذبية الشاب ذي العينَين البالغتَي الاتساع، الذي تخلَّص من توتُّره الذي بدا عليه واضحًا في فيلمه الأول، وصار عليه أن يعمل في أدوارٍ أخرى يقدِّمها له مخرجون آخرون.

وباعتبار أننا نقرأ هنا الوجوه التي قدَّمها عمر الشريف في أدواره المصرية، والعالمية، فإننا لن نرى اختلافًا كبيرًا في الوجه الذي قدَّمه شاهين في «صراع في الوادي»، و«صراع في المينا»، فبدا كلا الرجلَين أكثر ميلًا إلى النحيب والصُّراخ، والولولة، رغم أن مثل هذه الشخصية غير موجودة في أفلام المخرج، وانظر إلى شكري سرحان في «ابن النيل» مثلًا. وقد تفرَّغ يوسف شاهين تمامًا طوال ثلاث سنواتٍ لإخراج ثلاثة أفلامٍ تنتمي إلى الإنتاج الضخم؛ منها فيلمان من إنتاج جبرائيل تلحمي، الذي كان أكثر حماسًا للمخرج في سنوات الخمسينيات.

صراع في الوادي (مهندس زراعي)

المقصود هنا وادي النيل، وهي منطقة الصعيد، التي ذهب إليها المخرج من قبلُ ليُقدِّم فيلمه «ابن النيل»، مع بعض الاختلاف الملحوظ؛ فأبطال هذا الفيلم كلهم من القرويِّين حتى وإن كان بعضهم يطمح في السفر إلى العاصمة. أما أغلب أبطال «صراع في الوادي» فهم يرتدون زي المدينة، ويتكلمون بلهجتها، ابتداءً من الباشا، وابنته، وابن أخيه، وأيضًا أحمد، المهندس الزراعي الذي عاد من جامعة القاهرة، وتعلَّم في كلية الزراعة، وعاد ليُطبِّق ما مارسه في الكلية، كي يأتي محصول قصب السكر الذي يتولى الإشراف عليه من الدرجة الأولى؛ ما يهدِّد مئات الأفدنة التي يمتلكها الباشا. والفيلم يبدأ بدعاءٍ يردِّده أحمد على طريقة الحكي، التي تطبَّق للمرات الأولى، وذلك قبل أن تنزل عناوين الفيلم. إذن فنحن أمام صراعٍ فرضه الإصلاح الزراعي بين الأغنياء في الريف، وفقراء الفلاحين الذين انضمُّوا في تكوينات من أجل التفوُّق في مجال الزراعة. هذا التفوُّق يعني التمرُّد من الفلاحين؛ وعليه يقرِّر الباشا أن يقضي على تفوُّق منافسيه.

الباشا وآل أسرته يسكنون قصرًا فخمًا، يُطِل على النيل، ويرتدي رياض بدلة سموكنج بيضاء، أما الباشا فإنه يرتدي المعطف الأوروبي. بالإضافة إلى لهجتهم؛ فالابنة آمال العائدة من القاهرة بعد غياب ثلاث سنوات، تبدو كأنها لا تعرف الريف المتحفِّظ بالمرة، ومنذ نزولها الأقصر، وهي في حالة لهفة لرؤية صديق الطفولة، بشكلٍ ملحوظ.

ومن المهم الإشارة أن فاتن حمامة قد تخلَّت في فيلمَيها مع يوسف شاهين وعمر الشريف عن تحفُّظها المعهود، وأنها قبلَت أن تؤدِّي مشاهدَ تبدو لنا ساخنةً بالنسبة لها؛ فهذا الأمر لم يتكرَّر بالمرة معها، ويبدو ذلك شديد الوضوح في الصور المنشورة للثنائي، بالإضافة إلى ما نشاهده في الفيلمَين عند عرضهما.

figure

نحن أمام قصة حب تحدث في الريف، أكثر منها قصة حب ريفية؛ فالقرية هنا أقرب إلى الديكور الأخضر، أما الأشخاص فهم من النمطيين الذين تصنِّفهم السينما دومًا، العشاق دومًا طيبون، يتفانَون في مشاعرهم ويُدافعون عن بعضهم. أما الأشرار مثل رياض، فلا منفَذ بالمرة إليهم. إنهم يخطِّطون للجرائم الكبرى، من المكائد، والقتل، وإعدام الأبرياء، والاستيلاء على الأراضي.

الأغنياء هنا هم الأشرار، خاصةً من تقدَّم بهم السن، مثل الباشا. أما الفقراء، فهم الطيبون، والكثيرون منهم يرتدون الزي المدني، خاصة صابر أفندي والد أحمد. وفي هذا النوع من الريف، يمكن للحبيبَين أن يتنزَّها في الحقول دون إثارة جدلٍ لدى الناس. وقد جاءت المشاهد العاطفية أولًا، لتؤكد على قوة الحب، وذلك تبريرًا لتفاني آمال لمساعدة أحمد في محنته، بعد أن يتم اتهام أبيه بالقتل، وإعدامه.

عبَّرَت المشاهد العاطفية عن تنامي قصة الحب، التي تكوَّنَت بين الممثلَين في الواقع، فانتقل اللقاء إلى الكثير من الأماكن الأثرية، كأننا أمام عملٍ سياحي. كما أن المخرج أراد الاستفادة من الفضاء الواسع حول العاشقَين للتأكيد على روعة هذه القصة، قبل أن ندخل في المأساة التي حاقت بالاثنَين معًا، وكانت مختبرًا قويًّا لقوة العلاقة؛ فنحن أمام صراعٍ اقتصادي في المقام الأول، بين باشا يمتلك وحده أكثر من الأراضي التي يمتلكها أهل القرية جمعاء، وبين فلاحين بسطاء، يعانون من شظف العيش. وهو موضوعٌ استهوى كثيرًا المؤمنين بدور ثورة يوليو الاجتماعي، خاصةً في مجال الإصلاح الزراعي. وتبدأ المواجهة من خلال الشيخ الضرير عبد الصمد، وابنه سليم، الرجل هو صديقٌ حميم لصابر أفندي والد أحمد، وابنه سليم هو صديق لأحمد، وسوف تنقلب هذه الصداقات بعد أن يُقتل الشيخ على يدَي رياض، وبفضل إتقان القتل، تُنسب الجريمة إلى صابر أفندي، المعروف بولائه للباشا؛ فهو ناظر مزارعه. وسوف يتم استغلال هذا لبث الفتنة بين فريقَين كانا متماسكَين. ويتضح هذا في حفل عرس سليم، الذي يتجمع فيه أبناء القرية لمشاركة العريسَين فرحهما، وتأتي آمال إلى الحفل؛ فالعروس كانت تعمل في خدمتها. وفي هذا الحفل يتذكَّر أحمد ذكريات الطفولة التي كانت تجمعه بآمال، ويُبلغها أنه كان يتسلل إلى حفلات القصر، وينظر من وراء السور، الحذاء بالٍ، والملابس ممزَّقة، وهكذا.

ولا ينسى يوسف شاهين أن يصور الحالة الاقتصادية لهذه القرى، وقسوة النهر على الناس، مثلما حدث في «ابن النيل»؛ فالفيضان يأتي بالخراب، وتتسرَّب المياه تحت الأبواب إلى الغرف، والأسِرَّة، وسرعان ما يتحول الفرح إلى غم؛ حيث يُحاوِل الفلاحون أن يُنقِذوا أثمَن ما لديهم، ويصيب البلَل كل شيء، لا أحد يتمكن من إنقاذ صاحبه ولا نفسه. مثل هذا المشهد يزيد من الإحساس بالسخط، ويعبِّر عمَّا يعانيه الناس. وتبدأ المواجهة حين يذهب الشيخ عبد الصمد، الضرير، إلى قصر الباشا، ويتهمه، ورياض، أنهما السبب فيما يحدث من كوارث للناس، ويصف «رياض» بأنه الشيطان، ويتهم الباشا بأنه أرسل مَن فتَح الهويس ليلًا كي تُغرِق المياه البيوت. وهنا تبدأ المواجهة بين صابر أفندي، وصديقه؛ فهو ناظر المزرعة، وعليه أن يدافع عن الباشا. وتتفاقم الأمور حيث يهدِّد الشيخ الضرير الباشا بأن يدفع التعويضات المناسبة للفلاحين. وسرعان ما تتفتَّق فكرة التخلص من أكثر من طرف بضربةٍ واحدةٍ قاسية؛ أي أن يقتل الشيخ الضرير، ما يوحي أن الفاعل هو صابر أفندي. وتتم الجريمة بسرقة بندقية صابر أفندي، وتُترك في مكان الجريمة؛ ما يوحي أن الفاعل هو ناظر الزراعة. لا شك أن كافة الدلائل الشكلية أوحت أن الأب العجوز قد أطلق الرصاص؛ فعند المواجهة بين الصديقَين القديمَين، يقول صابر أفندي: «والله لو ما كنت راجل كبير وعاجز لكنت أدبتك.»

وعلى الفور يتم القبض على القاتل البريء، ويُودَع السجن، ويتم الحكم عليه بالإعدام، ويشتد التوتر في القرية. ويقرِّر سليم الانتقام لأبيه بقتل ابنه أحمد، هذا الذي تصدمُه الأحداث، ويجد نفسه ينتظر اليوم الحزين بإعدام أبيه، ويتم ذلك في ظروفٍ صعبة؛ أحمد يعرف تمامًا أن أباه لم يقتُل، وقد راح رجلان من أعمدة القرية بفضل خطط رياض. وسرعان ما تعرَّضَت قصة الحب لهزةٍ عنيفة؛ فأحمد يعرف أن الباشا ورياض ضليعان في الجريمة، وعليه أن ينتقم، في الوقت نفسه عليه أن يهرب من مطاردة سليم له أخذًا بالثأر.

لعلها المرة الأولى في تاريخ السينما المصرية أن يتم إعدام بريء، المتفرج يعرف أنه بريء، وأيضًا القاتل رياض، وعلى أحمد إثبات ذلك، لكن الأمر ليس سهلًا. وقد بدا السيناريو الذي كتبه علي الزرقاني عن فكرة للمخرج حلمي حليم، وقد اختلف عن الشكل المألوف لإنقاذ بريء من الإعدام في اللحظة الأخيرة؛ فالإعدام يتم، ويعني هذا مضاعفة الجرائم التي ارتكبها رياض.

تعرَّض الحب لامتحانٍ عسير، إلا أن البنات في هذه السنوات كن يقفن بقوة ضد الأب المستبد، مناصرةً للحبيب الباحث عن الحق. جسَّدَت فاتن حمامة الشخصية نفسها في فيلم «الله معنا» ١٩٥٥م. وهي هنا تخرج لمساندة حبيبها، بعد أن واجهَت أباها بما فعل. إنها تعرف عم صابر، وأنه لا يمكن أن يكون قاتلًا، أما أحمد فيبدو تائهًا غير متوازن بالمرة. وتتصدى لأبيها الذي يبدأ في التحوُّل؛ فهو يرفض أن يزوِّج ابنته لقاتل، ومن هنا يبدأ الخلاف، ويختصم المجرمان، إلا أن رياض يهدِّد عمه أن يكشف سره، بأنه كان وراء فتح الهويس، وقتل الشيخ عبد الصمد. وتزداد المساحة الدرامية الخاصة بحسان الذي كان أداة القتل، وسرقة البندقية وفتح الهويس، وهو الذي ألَّب أهل القرية ضد أحمد فقاموا بمطاردة، وقام بتشجيع سليم على أن يذهب وراء خصمه كي يثأر منه.

وما تلبث الأحداث أن تتفاقم، حين يقتل رياض عمه، أثناء المواجهة. وتبدأ المطاردة الأخيرة ضد أحمد، يمثلها سليم ببندقيته، ووجهه الذي يخلو تمامًا من أي تعبير، مؤكدًا أن هدفه هو قتل الشاب، ثم رياض الذي يقاتل أحمد بين المعابد العالية الجدران، الشامخة الأعمدة، في مشهدٍ مطوَّل أكَّد عيد ميلاد نجمٍ جديدٍ وسيمٍ صالح لأدوار الحركة، وله ملامحُ عاطفيةٌ ملحوظة، وأنه سيكون نجم السنوات القادمة.

شيطان الصحراء (الفارس)

غريبٌ أمر فيلم «شيطان الصحراء»، الذي جمع بين يوسف شاهين واكتشافه الجديد عمر الشريف؛ فهذه هي المرة الأولى التي يقدِّم فيها المخرج فيلمًا صحراويًّا يعتمد على الحركة كما يبدو من عنوانه. وقد شاهدتُ الفيلم وأنا صبي في إحدى دور السينما الدرجة الثالثة بالإسكندرية، وكانت النسخة ملونة، كما أن الصوت الرئيسي للبطل كان لعمر الشريف. وإحقاقًا للحق، فلم أستطع الحصول على نسخة يُعتَد بها على اليوتيوب، قبل الكتابة. وكم كانت الكتابات قليلةً للغاية عن هذا الفيلم، خاصة في الكتب التي صدرَت عن يوسف شاهين باللغة الفرنسية. كما أن ما وصل إليَّ باللغة العربية لا يتعدَّى أن تكون أخبارًا لا أكثر؛ فالفيلم الذي عُرض في ٢٧ ديسمبر عام ١٩٥٤م، شاركَت في بطولته مريم فخر الدين، وعبد الغني قمر، ولولا صدقي، وتوفيق الدقن.

وتدور الأحداث في مجتمعٍ صحراويٍّ تاريخي، أسوةً بالكثير من الأفلام المصرية التي كان يقدِّمها في تلك الآونة الإخوان لاما، وأيضًا نيازي مصطفى، باعتبار أن القصص الصحراوية مرتبطةٌ بالفروسية، والشجاعة والنُّبل، وأنه يستلزم وجود نجمٍ شابٍّ يُجيد الحركة وركوب الأحصنة، كما أن الطغيان قد يصبح سيدًا، ويصير على هذا الفارس أن يتصدَّى له.

والفيلم من إنتاج شركة لم نسمع عنها كثيرًا، تُعرف باسم الانتصار، حول الوالي زيد الذي يقرِّر رفع قيمة الضرائب على الأهالي، كما أنه يرسل رجاله من أجل خطف النساء. ومع الوقت تزداد قوَّته وبطشه، ويصل طغيانه إلى قبيلة بني مازن، ويموت شابٌّ من القبيلة على أيدي رجاله؛ ما يدفع بصديقٍ له إلى الانتقام من الطاغية. إنه عصام (عمر الشريف) الذي يرتدي ملابسَ تُخفي وجهه، ويركب جواده، ويبدأ في اصطياد رجال الطاغية الواحد وراء الآخر؛ ما يؤرِّق رئيس القبيلة.

figure

يتمكن عصام من إنقاذ الحسناء دلال بعد أن اختطفها رجال الطاغية، تقع الفتاة في حبه كنوع من الاعتراف بجميله، إلا أنه يحرص ألا ترى وجهه، الذي يضع عليه الغِلالة السوداء. يقوم الطاغية باستدعاء عصام إلى قصره، بعد أن وصلَته الأنباء عنه، ويُحاوِل أن يكشف سره. وقبل البدء في تعذيبه يتمكَّن عصام من الهرب من القصر، ويسعى لتكوين جيشٍ من الفرسان لمهاجمة القلعة التي بها الطاغية، والتي وُضعَت فيها الحبيبة دلال في الأَسْر. ويتمكَّن جيش عصام من غزو القلعة، وتدور المعركة التي تنتهي بسقوط الطاغية، ويتمكَّن عصام من تحرير حبيبته، ويتولى قيادة القبيلة.

ينتمي الفيلم إذن إلى ما يُسمى بمساندة الثورة، من بين نوعية الأفلام التي بدأ إنتاجها يزداد عقب ثورة يوليو؛ حيث إن الثوار استولَوا على القصر، والحاكم فاسد يعشق النساء، ويسفك الدماء. وعصام في الفيلم هو أكثر من يعرف سر القلعة، يدفعه حبه لإنقاذ حبيبته. وقد كتب كرستيان بوسيسنو معلقًا على ملخص الفيلم في كتاب عن سينما يوسف شاهين باللغة الفرنسية قائلًا: «في تلك الآونة كان «شيطان الصحراء» فيلم مغامرات، إنتاج ضخم، وقد اعتُبر أحد أهم الأفلام المصرية الضخمة الإنتاج التي بيعَت في السوق العالمي. إنه فيلمٌ صحراوي، وسترن، ليس له أي أهميةٍ كبرى سينمائيًّا.» وقد بدا يوسف شاهين هنا بالغ الواقعية، محدَّدًا في مفاهيمه. تحدَّث شاهين عن الفيلم، في عام ١٩٧٥م إلى الصحفي الفرنسي، جان بيير بيرونسيل-هوجوز: «إنه فيلم يعبر عن القوة المُفرِطة؛ ما أعطاني الفرصة أن أتعلم المزيد من تقنيات إدارة الجموع الكبيرة، وقد استفدتُ خبرةً من هذا الفيلم فيما بعدُ لعمل فيلم «الناصر صلاح الدين.»

وقد بدا عمر الشريف هنا خفيفًا، سريع الحركة، كاشفًا عن كتفَيه في أغلب المشاهد، يُجيد ركوب الخيل، والمطارَدات في المشاهد القريبة، وقد وضع شاربًا على طريقة دوجلاس فيربانكس في أفلامه الصامتة. وكما سبقَت الإشارة فلا نعرف السر في اللجوء إلى دبلجة الفيلم بصوتٍ غير جذاب، ولا يرقى بالمرة إلى صوت عمر الشريف، في النسخ التي تُذاع نادرًا في المحطات الفضائية.

صراع في الميناء (البحار)

في مقدمة الكتاب الدعائي لفيلم «صراع في الميناء» كتب المنتج جبرائيل تلحمي: كان النجاح الذي لقِيَته فاتن حمامة مع عمر الشريف في فيلم «صراع في الوادي»، ما دفعني إلى إظهارهما سويًّا في فيلمٍ ثانٍ يُخرجه نفس المخرج الذي أخرج لهما فيلمهما الأول، وهو يوسف شاهين. وعزَّز هذه الرغبة عندي أنني وجدتُ القصة التي يمكن أن تتجلى فيها مواهبهما؛ فاتن وعمر كبطلَين، ويوسف شاهين كمخرج، وهذه القصة، هي «صراع في الميناء».
وقد أعجبَتْني هذه القصة لأنها من النوع الواقعي، وكل حوادثها تدور في ميناء الإسكندرية، ومع علمي بالمتاعب الجمَّة، والنفقات الباهظة التي يتطلبها التصوير خارج الاستوديو، فإن هذا لم يَثْنني عن تقديم هذه القصة إلى الشاشة.
وقد انتقلنا بمُعدَّاتنا وهيئتنا الفنية إلى الإسكندرية حيث استمر عملنا حوالي شهرَين، وعلى أرصفة الميناء وفوق مياه البحر تحت حرارة الشمس نهارًا وفي برودة الجو ليلًا، ثم عدنا إلى القاهرة لنُكمل تصوير باقي مناظر الفيلم داخل الاستوديو.

ويعني ذلك أن يوسف شاهين قد حرص في أفلامه الثلاثة مع عمر الشريف أن تكون أفلامًا ذات إنتاجٍ ضخم، وتُدِر عوائدَ طيبة. كما أن المخرج قد انتقل في هذه الأفلام إلى أماكنَ جديدةٍ متباعدة، خاصة ميناء الإسكندرية، وما يدور فيه، الميناء التجاري بشكلٍ خاص. وقد عُرض فيلم «رصيف نمرة خمسة» في نفس العام بشكلٍ مختلف؛ فالفيلم أقرب إلى «باب الحديد» من حيث إنه يتعرَّض إلى عمال الميناء، والعمل النقابي، والصراع بين العاملين لمصلحة الرأسمالي. وقد كتب شاهين الفيلم مع كاتب سيناريو لم نسمع به يُسمى محمد رفعت؛ أي إن الرجل كان مهتمًّا كثيرًا بما يدور في الأوساط العمالية، إلا أنه كما سنرى، خلط الموضوع بالمأساوية الإغريقية من ناحية، وبالقصة العربية «عنتر وعبلة» كما صوَّرها نيازي مصطفى عام ١٩٤٥م، وهو العام نفسه الذي صدرَت فيه روايةٌ كتبها محمد فريد أبو حديد؛ حيث كانت الفكرة أن شداد أنجبَت منه عبدةٌ سوداء، ابنها الفارس عنترة، ولم يعترف به قَط إلا عندما اشتدت الأزمات.

figure

فكرة أوليس العائد من السفر، إلى الميناء، بعد أن عاش في الغربة ثلاث سنوات اسمه رجب، بحَّارٌ شاب نرى أمثاله كثيرين في الأدب العالمي، والسينما الأوروبية، نشأ وهو يعرف أنه يتيم الأب، فلم يشأ أن يكون عالةً على أمه، وكان أنْ سعى وراء رزقه كوقَّاد في إحدى البواخر، التي انتقلَت به في الموانئ.

وتبدأ أحداث الفيلم مع عودة رجب، صار عليه أن يرعى أمه التي ترعى ابنة خالته اليتيمة مثله، والتي انتظرَتْه خلال سنوات انتظار بنيلوب لأولسيس، وقد وجد في انتظاره أيضًا كافة الشخصيات التي كانت في الميناء؛ فهذا المكان الواسع قد يطرد أبناءه، لكنه يفتح ذراعَيه لاستقبالهم. من أبرز هذه الشخصيات صديقه عمر، الشاب المدلَّل، ابن صاحب شركة البواخر، الرأسمالي الذي يتحكَّم في أرزاق الناس. هو ليس شريرًا؛ لأننا سنعرف أنه هو الأب الحقيقي لرجب، وأنه تردَّد كثيرًا في الاعتراف بذلك إلا بعد أن اضطَرَّته الظروف أن يفعل ذلك. كما سوف نرى تشابهًا في الموضوع بين جريمة القتل وأسبابها في «صراع في الوادي»، وهذا الفيلم؛ فهناك وشاية وجريمة قتل تُساهمان في توتُّر المشاعر بين الصديقَين، وهناك منافسة بين ممدوح ورجب في امتلاك قلب الفتاة؛ أي إن هناك أسبابًا متعدِّدة لهذا «الصراع» الذي يتأجَّج بين الأشخاص. هو أيضًا صراع مصالح، وعلى الممتلكات، وبدلًا من الأرض الزراعية، ومحصول قصب السكر، فإنه هنا صراع بين المدير الجديد الذي تم تعيينه في شركة لتفريغ البواخر. لقد مات صاحب الشركة، وسرعان ما ينشب الخلاف، وتحدُث المؤامرات وتتم الملاحقة.

لقد تم تعيين ممدوح مديرًا للشركة التي يمتلكها أبوه، ويثير هذا حفيظة المدير الأصلي عزت (توفيق الدقن) الذي تمَّت إزاحته، فيبدأ في تحريض العمال ضد رجب. وفي الوقت نفسه يبدأ في إثارة الغَيرة في قلب «رجب» أن هناك غرامًا مشبوبًا بين ممدوح وحميدة، التي تخرج معه إلى البحر، وتقبَّلَت منه هديةً ثمينة لا يستطيع رجب أن يقدِّم مثيلة لها، مما يوتِّر العلاقات بين الطرفَين. وسرعان ما يثور العمال ضد ممدوح، تبعًا لمصالحهم الخاصة، وينساق رجب وراء عواطفه. ويحدث أن يقوم واحد من أتباع عزت بقتل عاملٍ شيخ وهو يقوم بأداء الصلاة، وسرعان ما تتجه الاتهامات إلى الشخص البريء، كما حدث في الفيلم السابق. وتدور مشاجرةٌ شرسة بين الصديقَين اللدودَين تبدو فيها مدى قوة الخصومة الجديدة التي نشأَت بسبب الغَيرة، والمصالح. ويخرج العمال وراء ممدوح لقتله والتخلُّص منه، كي تتفتَّح المصالح لعزت وأتباعه. وهنا تُضطَر الأم، أم رجب، للذهاب إلى رئيس الشركة، والد ممدوح، كي تُذكِّره أنه الأب الشرعي لرجب، وأن هذا الأخير كان ثمرة خطيئةٍ عابرة، كما حدث في قصة «عنترة بن شداد». لقد ظل الأب الحقيقي يُخفي الحقيقة طوال هذه السنوات؛ فالأب لا يريد اعترافًا سريعًا، وفيما بعدُ تحدُث مواجهة بين رجب وأبيه دون أن يعرف حقيقته.

ومثل هذه المشاهد يُحبها المؤلفون، والمخرجون والمتفرجون؛ حيث تدور مواجهةٌ مليئة بالعداء والخصومة بين ابنٍ لا يعرف أنَّ مَن يُواجِهه هو أبوه، وأنَّ من يقاتله هو أخوه، وتتغيَّر المشاعر بشكلٍ حاد، وتتأزَّم المواقف أكثر. وهنا تتغيَّر مشاعر الأب، ويستحلف ابنَه الذي يعترف به لتوِّه أن يُنقِذ أخاه من براثنِ خصومه. ويذهب رجب وراء الجموع الغاضبة، الثائرة على أخيه ممدوح، ويجد حميدة هناك معه، تُحاوِل مساعدته، فيسعى إلى إنقاذ أخيه، داخل حريقٍ شبَّ في المركب الذي يتواجد فيه مع حميدة.

وينجح رجب في كشف الحقيقة، وأن القتل كان بدافع من المدير المنافس عزت، ويجد نفسه أمام خيارٍ صعب؛ فأخوه واقع في حب حميدة، والحل الأمثل بالنسبة له هو الرحيل إلى حيث سافر من قبلُ. وفي مشهدٍ عاطفي بالغ التأثر، فإن الشاب الذي عرف حقيقة أنه ثمرة خطيئةٍ عابرة، وأن حميدة لا تُحبه، وما تكاد باخرته تتحرك، حتى تنطلق حبيبتُه تناديه أن يعود، ويعلو صوتها خلال الأفق، ويبدو جامدًا، وتكاد أن ترمي بنفسها في الماء، وأمام خطر قد يصيبها، فإنه يرمي بنفسه نحوها، ويلتقيان بعد أن لحقَت به فوق سطح البحر، الميناء.

كتب الناقد عثمان العنتبلي أنه «جميل أن تصوَّر قصة الفيلم في عرض البحر الأبيض وشواطئه، وأن تنتقل الكاميرا فتلتقط أكثر مشاهد الفيلم بعيدًا عن جدران الاستوديو، إلا في حدودٍ ضيقة، وفي هذا الانتقال مشقة وجهد وإنفاق مالٍ كثير يدعو إلى شكر القائمين بأمر الفيلم، إنتاجًا وفنيين وفنانين.» كأنه بذلك يرُدُّ على الكلمة التي كتبها تلحمي في مقدمة دفتر الفيلم.
وفي مقالٍ بديع عن الفيلم أشار العنتبلي إلى أن الفيلم لم يصوِّر تمامًا جوهر الحياة في الإسكندرية، وعلى سبيل التحديد حياة عمال الميناء: «أعتقد أن القصة لم تتغلغل في حياة عمال الميناء، وعرضَت لها بشكلٍ عابر، أضفَى السذاجة على فهم هذه الحياة؛ فليس كافيًا أبدًا أن نقتحم بيت رجب لنرى أمه وابنة خالته، يقوم صراعٌ داخلي فيه، صراع على العاطفة الجامحة، والغَيرة المُضللة؛ إذ نرى رجب كالمجنون لأن عزت أوهمه بأن بين حميدة ورمزي علاقة حب، فنسي في غمرة الاندفاع كل شيء، ونشب الصراع للاستحواذ على حميدة، بين عمر ورمزي.»
وكتب في المقال نفسه عن عمر الشريف «أنه لم تساعده طبيعته ولكنته الأجنبية على التعبير عن الخوالج النفيسة لساحليٍّ قُحٍّ، وبدا كطالب يُلقي محفوظاتٍ في مدرسةٍ أولية.» علمًا أن المقال منشور في مجلة الكواكب عام ١٩٥٦م.
أما ماجدة واصف فكتبَت في كتاب عن يوسف شاهين صدَر بالفرنسية في بطاقة التعريف بالفيلم أن أجواء الفيلم تحدُث في أوساط العمال بالإسكندرية، وهذا في حد ذاته أمرٌ جاذب. يتركَّز الحدَث حول الشخصيات الرئيسية؛ رجب العائد لتَوِّه من الإبحار ويجد نفسه يقوم بدور زعيم العمال، وفي يومٍ واحد فقط يبدو متنوعًا، يكتشف رجب أباه الحقيقي غارقًا في الميلودراما. إنه الابن غير الشرعي. وينتهي الأمر أن يقابل أباه ويعترف به، وهذا واحد من الموضوعات المفضَّلة للسينما المصرية.
figure

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤