هاني لاشين

هاني لاشين هو المخرج الذي قدَّم فيلمَين متتاليَين لعمر الشريف، في مرحلة العودة إلى السينما المصرية، بل إن فيلم «أيوب» هو بمثابة الرجوع الحقيقي إلى السينما، ولا شك أن ذلك سوف يُحسب لهاني لاشين، الذي أقنع ممثله بالعودة للتمثيل باللغة العربية، حدث ذلك عام ١٩٨٢م في الفيلم الذي عُرض في العام التالي، المأخوذ عن نجيب محفوظ. وقد تم تصوير الفيلم على أنه عملٌ تليفزيوني في المقام الأول. ومن سيرة المخرج السينمائية نعرف أنه أخرج قرابة ستة وثلاثين فيلمًا تسجيليًّا، وأن عمر الشريف قد ظهَر في ثلاثة من هذه الأعمال، ومن هنا جاء التعارف، والتعاون. ولا شك أن عودة الممثل إلى السينما المصرية قد جاءت في فترة تجاوز فيها الممثل سن الخمسين، وقلَّ الإقبال عليه في أدوار البطولة في كافة البلاد التي عمل فيها باللغات الأخرى، وكان العرض من خلال فيلمٍ تليفزيوني، اتفق أن يكون أول فيلم من إنتاج قطاع الإنتاج، تُتاح له فرصة العرض الجماهيري طوال ثلاثة أسابيع. وقد ساعد ذلك في تحويله إلى فيلمٍ سينمائي يدخل صناعة السينما، باعتبار أن معيار هذه الحيثية يأتي أن الناس في الشوارع، ذهبوا إلى دار العرض السينمائي، واشترَوا تذكرة، وشاهدوه سينمائيًّا. ولا شك أن هذه الظاهرة قد شَهِدَت نجاحًا على يدَي لاشين ومعه نجم من طراز عمر الشريف كان بالغ الجاذبية في فيلم، أصيب في أغلبه بالعجز، وصار غير قادر على المشي، لكن السيناريو مكتوب بشكلٍ جيد، كما سنرى مقارنةً بالنص الأدبي الذي كتبه نجيب محفوظ. ولا شك أن هذا النجاح قد دفع هاني لاشين إلى إنتاج الفيلم الثاني «الأراجوز» عام ١٩٨٩م. والفيلمان هما الأكثر أهميةً في مسيرته كسينمائي؛ حيث عرفه الناس في البداية كمخرج للدراما التليفزيونية، ولقي قبولًا ملحوظًا من خلال الفيلمَين الروائيَّين اللذَين قام عمر الشريف بالعمل فيهما بطولة مطلقة، وتلك ظاهرة.

أيوب (رجل الأعمال)

تميل السينما دائمًا أن تبدأ الحكايات من أولها، خاصة السينما التي جاءت في الثمانينيات؛ حيث إن العودة للماضي من خلال اعترافات، أو ذكريات، صارت مسألةً قديمة في المقام الأول. وبالنسبة للرواية القصيرة «أيوب» فإن رجل الأعمال عبد الحميد السكري مصابٌ بالشلل، منذ السطر الأول. أما الفيلم، فقد روى كيف عاد هذا الرجل من الخارج إلى مقَر شركته الرئيسية بالجيزة، وقد امتلأ بنشوة الكسب والربح، وتحقيق الثروات الطيبة، فصار ينهَر هذا، ويوبِّخ ذاك، وبدا في قمته كطاغية؛ ولذا فهو يندهش ويُصدَم عندما يناقشه أحد الموظفين الذين يعملون معه في أمر، كان عليه أن يطيع، ولا يراجع، فأرغى المليونير وأزبد، ونهَر الموظف، وزادت درجة انفعاله، حتى إذا ركب المصعد، أصابته حالة من الشلل، فإذا تم فتح المصعد مرةً أخرى، كي يخرج منه، كان عبد الحميد السكري قد أصيب بالشلل، وسرعان ما تسود حالة الطوارئ في الشركة، وفي منزله، ويأتي الناس للزيارة، وتبدأ هنا مرحلة النص الأدبي.

فيما بعد ذلك يتقارب النص الأدبي والفيلم الذي كتبه محسن زايد بشكلٍ واضح؛ حيث تبدأ الرواية بالمليونير يتحدث بلسانه، في نصٍّ من النصوص النادرة التي تدور عادةً على لسان الراوي، الذي يحكي ما يراه هو؛ أي إن هذا النوع من الحَكْي ضيق الأفق؛ فالراوي يتكلم فقط عما يراه أو يسمعه، وليس ما يدور وراء الجدران، أو في مكانٍ آخر، وذلك خلافًا للنصوص المكتوبة على لسان المؤلف الذي يبدو كأنه القدَر، يعرف المصائر، ويرى كل شيء، من كافة الزوايا.

عبد الحميد السكري، يرى الدنيا من زاويةٍ واحدة؛ رجل مشلول، عرف الحيوية والحركة، ولفَّ بلدان العالم، وكوَّن الثروات، والتقى بالمشاهير والكبار، يقول إنه الآن موجود في سجن، بلا قضبان، وبلا ذنبٍ أيضًا. وعلى هذا الرجل المشلول أن يحمل جسدَه بعد أن حملَه خمسين عامًا؛ أي إن السكري في سن الخمسين. ويروي الرجل ما ردَّده طبيب الأسرة صبري حسونة: «لا مجال للخداع، سيطول بك الرقاد. الكورتيزون فعَّال، ولكنه لا يخلُق المعجزات.»

والصفحة الأولى من الرواية تصوِّر العالم الضيق الذي صار الرجل يراه، حتى وإن ازدحم كثيرًا بالزوار: «لستُ أسير حجرة فحسب، الحقيقة أنني أسيرُ الفِراش، حتى الحمَّام أُحمل إليه كطفل.» وفي الفيلم فإن المُشاهِد رأى هذا الرجل في الحالتَين؛ في عنفوانه، وقمة شهوته مع السلطة والمال، ثم قمة انهياره، وهو واقع فوق أرضية المصعد، لكن الفيلم لم يصوِّر السكري، الذي قال: «حتى الحمَّام أُحمل إليه كطفل.» وفي السطور الأولى فسَّر نجيب محفوظ اسم النص الأدبي، وهو أمرٌ لم يفسِّره الفيلم قط، وقد قرأتُ مقالاتٍ مضحكةً فسَّرَت الاسم بقصدياتٍ غير حقيقية؛ حيث قال السكري «عليك أن تتزوَّج من الصبر.» أي إن هذا التحول من الصحة إلى بلاء المرض هو من سمات أيوب. رغم أن أيوب النص التوراتي فقَد زوجتَه، وصحتَه، ومالَه، فإن السكري ظل في الفيلم والرواية على قوَّته، لا تتركه زوجتُه قط، وكذلك ابنتُه نبيلة. أما ابنه رفيق، الذي يكاد يشبهه في مسيرته الاقتصادية، فقد انشغل عن أبيه بمهامِّ وظيفته الجديدة، بل إن هذا الأيوب العصري، امتلأ بيته بالزوَّار؛ فهو محاطٌ دومًا، كما يروي، بالأطباء من الداخل والخارج، أما أيوب التوراة فلم يجد طبيبًا واحدًا يعوده.

ولعله من الخروج عن الموضوع، وهو المقارنة بين النص الأدبي والسينمائي، أن أحد النقاد كتب أن المقصود بأيوب هو الطبيب الصديق جلال أبو السعود (فؤاد المهندس) الذي صبر على صديقه المريض، حتى نجح في شفائه.

الصفحة الأولى من الرواية وصَف فيها المريض حالته بصدقٍ شديد، وعباراتٍ موجزة، وهو يردِّد أن الصدمة شديدةٌ تدهم النفس بعنفها وقسوتها ولامبالاتها. ثم يتساءل عدة تساؤلات تبدأ ﺑ «أين» دون أن يحصل على الإجابة.

ليست هناك عودةٌ طويلة إلى الوراء، مثلما حدَث في الفيلم. رغم أنه بدأ قبل إصابة السكري بالصدمة، والشلل، فهو في أثناء جلسته الطويلة، يتذكَّر كيف بدأ فقيرًا، وكيف كانت زوجتُه أفكار امرأةً بدائية، شعبية. وقد صَعِد عبد الحميد اقتصاديًّا عن طريق رجل، يُسمُّونه الباشا. وفي هذا الرجوع إلى الماضي، نعرف أن عبد الحميد السكري بدأ موظفًا وطنيًّا شريفًا، دفع ثمن وطنيته وشرفه؛ حيث فصلوه عن العمل، ولفَّقوا له تهمة الرشوة، ومن هنا انطلق بسرعة نحو الهاوية، فتعامل مع فاضل، وغيره من تجار الصفقات المريبة، تخلَّى عن كرامته، ودخل عالم رجال الأعمال، وصار مليونيرًا.

حسب الفيلم، فإن عبد الحميد السكري حقق ثروةً تقدَّر بثلاثين مليونًا من الجنيهات خلال عشر سنوات.

لكن مع سقوط الرجل مريضًا، تساوت الحكاية بين النص الأدبي والسينمائي؛ لذا، أحسن نجيب محفوظ أن يجعله يروي الرواية بلسانه؛ فليس هناك شخصٌ يُعبِّر عن مثل هذه المحنة سوى صاحبها، وهو يقول عن نفسه: «الكلمة اللطيفة ممن تُحب مثل الكورتيزون، وأنجع.» وفي النص الأدبي تتردَّد كلمة الصبر، والمحنة التي يمُر بها المرضى، وتستلزم الصبر.

المكان في الفيلم محدود، لم يخرج غالبًا عن الشركة، وأيضًا بيت عبد الحميد السكري. أما الرواية فإن المكان غالبًا هو القصر الواسع الذي يعيش فيه عبد الحميد في جاردن سيتي، وهو يصف كيف جاء إليه المقاولون وتجار الجملة والموزعون، وأصحاب مكاتب الاستيراد والتصدير وبعض المسئولين «كنتُ محورًا دائرًا لكونٍ هائل، فأمسيتُ مركزه الجامد ولو إلى حين.» وقد وصف المؤلِّف حالة شخصٍ مشلول، يزوره الأصحاء، يكذبون عليه، أو يُواسونه، ويُقارِن نفسه بما حدث لأشخاصٍ آخرين طال بهم الرُّقاد، ربما حتى النهاية «إنها الوحدة بلا صديق.»
figure
وقد استفاض السكري في وصف حالته المَرَضية، وقد امتلأ الفيلم برُؤًى عميقة تُصيب البشر عادةً في مثل هذه الحالات: «وحدي أكثر ساعات النهار والليل، أسمع. أشاهد. أقرأ، أتصبَّر. متى تشملني العادة بسحرها العطوف.»

أما الفيلم فإنه اختار أن يخرج إلى أماكنَ وقصصٍ جانبية، خاصة قصة الحب التي تربط بين الابنة نبيلة وزميلها (سامح الصريطي) الذي تقدَّم لخطبتها فرفضَته الأم بشكلٍ جَذري، وفي هذا الرفض بدا مدى التحوُّل الذي حدث؛ فالزوجة أفكار صارت أقوى شخصية، لكن قيام الزوج ﺑ «شخطة» وحيدة، تُعيدها إلى حظيرتها القديمة.

وفي الرواية كان الأب يرقُب ابنه في منصبه الجديد، كمسئولٍ ثانٍ عن الشركات، إلا أنه كان ينصحه، ويرقبه، ويقول له أحيانًا: «تمتع بحياتك، ولكن أكره أن يبدِّد السفه ما يجمعه العرق والمغامرة.» ومثل هذه النصائح لم يقُلها الأب لرفيق في الفيلم، إلا أن الفيلم توقَّف طويلًا عند رفض الابنة نبيلة أي عريسٍ يتقدَّم لها. إنها في العشرين من العمر، وفي الفصل (٥) حكى عبد الحميد أنه تزوَّج امرأته وهي في المرحلة الثانوية. وقد اهتم الفيلم بهذه المرحلة من خلال مشاهد فلاش باك كما أشرنا: «مخلصة مدبِّرة ممن خلقن ليسندن الرجال. المرأة الجديدة من صنع يدي. العصرية المولَعة بالأضواء والاقتناء والقِمار. أردتُ أن أجعل منها امرأةً ثانية، فأفلتَت من يدي وخلقَت من نفسها امرأةً ثالثة.»

وفي الفيلم يبدو الدكتور جلال متدفقًا بالحيوية والرغبة، أما في الرواية، فهو أكثر حنكة. هو رجلٌ متزوج، وله ثلاثُ بنات. وفي النص الأدبي فإن علاقةً تتولَّد بين أفكار وزوجة الدكتور جلال، أما في الفيلم، فهذه الزوجة أُلغي دورها.

ودكتور جلال رجلٌ آمن أن الثقافة يجب أن تستمر كمَعينٍ دائمٍ للإنسانية الحقة، وهو رجلٌ ثراؤه في قناعاته، يرى أن العمل ضروري لكنه ليس الهدف. والحديث الذي يدور بين الصديقَين في الفصل (٦) ليس له مثيل في الفيلم، خاصة الحوار الذي يدور بين جلال، والابن رفيق؛ ففي فِقرةٍ حوارية طويلة يقول إن تاريخ الحضارة هو تاريخ العمل، لكنه أيضًا تاريخ التحرُّر من العمل درجةً بعد درجة.

وهذه الفقرة طويلة، مليئة بالرؤية الخاصة للدكتور، وتتبعُها فِقراتٌ أخرى تُكمل المعاني نفسها «هدف آلاف الملايين يجب أن يكون واحدًا.» ويبدو من هذا الحديث الفجوة الواضحة بين جيل الأب، وجيل الابن، أو على الأحرى، بين من اتجه إلى المال، ومن اعتنق الفكر.

هذه الزيارة تركَت وراءها أثَرًا، ولم تشعُر أفكار بالارتياح لهذا الزائر المفاجئ، بينما شعَرَت الابنة أنه شخصٌ جديد ومثير. أما رفيق فيراه «شيوعيًّا وحاقدًا»؛ أي إن الدكتور جلال المُفعَم بالحركة والحيوية، لم يكن موجودًا بالشكل نفسه في الرواية. ويقول السكري إنه استعاد أقوال صديقه وأدام التفكير فيها حين خلَت حجرتُه إلا منه. «متى أنسى الكدر لأكتشف المتعة المتاحة؟ متى أسمع الأغنية فلا أسهو عن شيء من إيقاعاتها؟»
وقد صار جلال هو البطل الثاني في القسم الأخير من الفيلم والرواية، وعندما جاء مرةً أخرى دار حوارٌ فكري بين الرجلَين؛ حيث يقول: «الحرية وهْمٌ يتراءى لخيال الإنسان العادي. وهو إنسانٌ ميكانيكي في أغلب الأحوال.» وقد وضع نجيب محفوظ فلسفته في الفصل (٧) وهذا النوع من الحوار لا تتقبَّله السينما المصرية عادة. وهذا الفصل مليءٌ بالفِقرات الطويلة المزدَحمة بأفكارٍ مثل «الدواء تحرير من المرض، العلم تحرير من الجهل. الطيارة تحرير من الجاذبية، السرعة تحرير من الزمن، كذلك المذاهب؛ فالدين تحرير للروح. الإقطاع كان تحريرًا من الفوضى، الرأسمالية كانت تحريرًا من الإقطاع، الاشتراكية تحرير من الليبرالية، معركة مستمرة بلا نهاية.» لقد صار جلال سببًا لشفاء وسعادة المريض، اليائس، وهذا الرجل يتكلم في الرواية عن الموت وهو مُفعَم بالحياة في الفيلم. وقد دفعَه في الفيلم والرواية إلى أن يكتب يومياته، ووجد جلال عنديات صديقه أنه كتب بعض الانطباعات، وبدأ يُدرِّبه على تربية الإرادة.
وكما أشرنا، فالنص الأدبي أكثر سكونًا، مليء بالتأمل والتحول، أما في الفيلم فهو يموج بتحولات الأشخاص، بدءًا من السكري، ثم زوجته. لقد كتب عبد الحميد السكري يومياته، وفي الفصل (١) يحكي السكري عن ماضيه، كأن الرجل صار مدوَّنةً يسمع رحلة زميله، وذلك من خلال الحوار الذي برع فيه المؤلف في تلك المرحلة؛ حيث تحوَّلَت اليوميات إلى مذكِّرات «وأثنى جلال على منهجي، ووصَفه بأنه منهجٌ تسلُّلي. ذو أثرٍ فعَّال من التكرار والصبر والإصرار حيال ضجَر الآخرين.»

اعترف السكري أنه كان متزوجًا من امرأة طُلقَت وغادَرَت البلاد، أما اعترافات السكري في الفيلم فقد طالت رجال سياسة، واقتصاد. ابتدع السيناريو شخصية صاحب المطبعة، قريب الزوجة، الذي يتحمَّس لنشر هذه المذكِّرات، لما فيها من أحداثٍ مثيرة. وقد أعطى هذا الأمر حيويةً للنص السينمائي؛ فقد حاول بعضٌ ممن سوف تفضَحهم المذكِّرات أن يُوقفوا ظهورها إلى النور، فأنذروا صاحب المطبعة، ثم أحرقوا له المطبعة، وأرسلوا من يسرق المذكِّرات من بيت السكري. وفي الفيلم حاول الرجل أن يدافع عن نفسه، وجرى وراءه من هاجموا بيته، فوجد نفسه يتحرك بشكلٍ طبيعي، ويرمي شلَلَه وعجزه، وعندما جاءت الزوجة والابن كانت الدهشة. لقد آمن السكري في الفيلم أن الإنسان إرادة، ومن يجد إرادته يجد نفسه.

إذن، فالفيلم له بُعده السياسي، والعدائي، هناك خصوم كثيرون ستَرِد أسماؤهم في المذكِّرات ويجب التخلُّص منها. وفي النص الأدبي، فإن القوة دبَّت في جسد المريض، حين صحا من النوم وهو شديد القلق، ورأى شبحًا وسط الظلمة الكثيفة. إنه مريضٌ خائف، يحاول أن يضغط على الجرس وقد ضاعف العجز من خوفه، ولمَّا طال الانتظار تسلَّلَت يده الأخرى نحو زِر الأباجورة، ويبدو له أن هناك شبحًا، بل أكثر، إنهم أربعةٌ وسط الظلام. ثم هاجموه بقوة، لكنه استمد من اليأس قوة. راح يتلقى اللكمات، فازداد العنف، وبلغَت رغبته في الحياة ذروتَها فازدادت حدة القتال. وقد وصف الكاتب هذه المعركة بتفاصيلَ واضحة، يكاد يُخيَّل للقارئ أنه كابوس، لكنها كانت كابوسًا، في النص الأدبي، واقعًا في النص السينمائي، لقد شُفي الرجل.

في الفصل (١٥) شُفي الرجل تمامًا، ويدور حوار بين السكري، وجلال، والطبيب صبري حسونة. يقول السكري: «طالما قنع إيماني بالقشور، وأريد أن أعيد النظر في موقفي.» أما في الفيلم، فإن الصحة التي استردَّها الرجل، جعلَته أكثر نقاءً، وتطهرًا، يزداد إصرارًا على نشر مذكراته، كنوعٍ حقيقي من التطهُّر والتوبة، فيزداد العداء من حوله، فيطاردونه، إلى أن ينتهي الفيلم بطلقات الرصاص تنطلق من مكانٍ غير بعيد، من أعلى على أكثر تقدير، وتتطاير المذكِّرات، في نهايةٍ مفتوحة فهمها البعض على أن السكري قد مات، والبعض الآخر رأى أنه لم يمُت.

الأراجوز (أراجوز)

يختلف المعنى العام الشعبي لكلمة الأراجوز عن المفهوم الذي قدَّمه هاني لاشين للأراجوز، الذي يقدِّم للأطفال في الريف القصص الحلوة على لسان دميته؛ حيث يعني المعنى الشعبي في أبسط حالاته أنه الشخص الذي يمكنه أن يفعل أي شيء في سبيل إرضاء الآخرين، إلا أن جاد الكريم منذ اللحظات الأولى في الفيلم التي يتحدَّث فيها الرجل البسيط عن نفسه، ومهنته، وسط إهداء من المخرج وشركته الإنتاجية إلى «عمر»، وأثناء نزول العناوين، يردِّد جاد الكريم الذي يحمل اسمه معنًى كبيرًا: «زمن الأراجوز ما راحش، دي دنية أراجوز.» وتنزل العناوين على خلفية تصوُّرٍ شعبي، وموسيقى تُعطي الإيحاء أننا أمام بطلٍ شعبي له مكانته في قلوب الناس، وسرعان ما ندخل الحدث؛ حيث يتحدَّث إليه طفله عن أمه التي ذهبَت إلى السماء: «أمك فوق في السماء.» ويطلب منه بهلول أن يعمل له أراجوز، وسرعان ما يحكي الرجل من خلال إدارته للدمية الشهيرة للأراجوز، ويردِّد أن أهم ما في الأراجوز أن لسانه الفصيح ما ينطق غير الحق: «أراجوز والشجيع والدنيا ميدان، فارس، حارس واقف ددبان.» وتعرف أن دوره هو حماية الغلبان، رغم أنه هو الرمز الأمثل للغلبان. يعيش الرجل مع حفيده، ويردِّد مفاهيمه في صورةٍ كلامية أقرب إلى الشعر الشعبي. هذه الكلمات تتردَّد في القرية، وتثير ضيق رجال السلطة الريفية: «الراجل ده كل ما أقطع له لسان يطلع له غيره.»
وبذلك استطاع الفيلم أن يُكسِب الأراجوز سمة المناضل، وأن الحكايات والاستعراضات للأطفال وراءها معانٍ سياسية، مثل السخرية من «عديم الاشتراكية خاين المسئولية»، الواردة في إحدى أغنيات عبد الحليم حافظ. كما نرى أن هناك محاولاتٍ لإحياء عباراتٍ شهيرة في الستينيات مثل « ح نحارب». إذن، فنحن هنا في فيلمٍ وطني سياسي، لشخصٍ يعيش مع وحيده في كشكٍ صغير، يبدو بسيطًا، مناضلًا، وهي صورةٌ لم يسبق لعمر الشريف أن قدَّمها. والأراجوز يدفع ابنه إلى التطوع في الجيش، للتعبير عن وطنيته، لكنه سوف يتحول فيما بعدُ إلى شخصٍ انتهازي.
figure

في بعض المشاهد الأولى من الفيلم، تتحول عروض الأراجوز إلى مؤثِّراتٍ صوتية لتشجيع الناس على التطوع. جاد الكريم يعيش في إملاقٍ ملحوظ، ويؤجِّل حُلمه بالزواج كي يتعلَّم بهلول في الجامعة، وفيما بعدُ يشتري ما يلزم لحياته الجديدة، المبلغ الذي ادَّخَرَه من مُتفرِّجيه هو نثرياتٌ وتسعةٌ وستون جنيهًا، ويعيش في كوخٍ بالغ الفقر والبساطة. ورغم أننا في فيلمٍ ريفي، فإن أغلب الشخصيات تتحدث باللهجة المدنية، بما يشبه المدن الصغرى أكثر من القرى.

والابن الذي التحَق بالمدينة الجامعية سرعان ما يتغيَّر أسلوبه في التعامل مع الحياة، وبهلول لا يتمتَّع ببساطة أبيه، ولا تلقائيته، وفي المدينة الجامعية يلتقي بزملاء له من مختلف الانتماءات السياسية.

إذا كان هذا هو الأراجوز، فإن المرأة التي سوف تدخل حياته، لن تختلف عنه كثيرًا، هي إنعام التي تقاوم إغراءات رجل الأعمال الذي يرسل لاستحضارها من أجل متعته، لكنها تقاوم؛ فهي لا تعرف الاستسلام، وسرعان ما تتنامى المشاعر مع لاعب الأراجوز، وترفض أن تتزوَّج منه، فيُبلغُها أنه فنان.

عمر الشريف هنا يغنِّي على غرار ما فعل في أفلامٍ عالمية، ولا يتخلى عن شكله لشخصٍ تجاوَز الخمسين، شعر أبيض تمامًا، مليء بالحيوية، ويبدو صوته مقبولًا تمامًا «أراجوز وأنا أحمي قراريط الناس.» بمعنى أن الصورة هنا للأراجوز مختلفة؛ فهو رجلٌ لا يمتلك المال ولا السلطة «أراجوز شجيع والدنيا ميدان، فارس حارس واقف ددبان»، إلى آخر كلمات الأغنية. هذا الأراجوز يعترف أنه ذكي، ينظر إلى العالَم بسخرية، مليء بالحيوية، يسخر من أراذل الحياة، وفي غياب الابن في القاهرة يتزوج من أنعام، وفي حوار بين اثنَين من القرية، يبدو الاستغراب أن الأراجوز قابل للزواج. وبينما الأب في حياته سعيدًا مع مفرداته الخاصة بكل مسمَّيات الفقر، فإن الابن بهلول يبدأ في دخول عالم اللهو، والعربدة، ويتعرف على شلة من زملاء السوء. أما الزوجة أنعام فإنها تفتن الرجل بأنوثتها وأسلوبها، وسرعان ما تحمل له الوليد القادم، وتذهب معه إلى الإسكندرية ليعيشا على شاطئ بحر الفقراء لقضاء أيامِ عسلٍ متأخرة.

ويصعد بهلول في أوساط الطلاب، ويبدو انتهازيًّا، مختلفًا عمن حوله من الطلاب المنتمين إلى التنظيمات السياسية، فيشكو منه زملاؤه، إلى أن تدخل في حياته زميلتُه أماني، ابنة الكسباني، أحد أبرز رجال الاقتصاد. ويبدو الحزن على وجه الأراجوز، حين يذهب لزيارة ابنه في المدينة الاجتماعية، بعد أن تعمَّد عدم النزول إلى القرية في الإجازات، وعلى رأسها إجازة الصيف.

وهكذا، فإذا كانت أنعام هي الوجه النقي للأراجوز، فإن بهلول يسعى إلى الزواج من ابنة كامل الكسباني. إنه وصولي إلى حدٍّ كبير، وسرعان ما يصعد اجتماعيًّا وهو يمتلك «أماني». والفيلم تدور أحداثه عقب عدوان ١٩٦٧م؛ ولذا فإن أغنيات الناس هنا ذاتُ منطوقٍ سياسي، يردِّدها الأطفال. أما الكسباني فإنه يساعد بهلول في تحقيق أحلامه الاقتصادية. ومن المهم الإشارة أن الكسباني هو الذي طَمِع ذات يوم في مضاجعة أنعام.

يتغيَّر إيقاع الحياة، ويدخل التليفزيون بيوت الفلاحين، ويتضاءل دور الأراجوز «زمن الأراجوز ما راحش»، ويُتمتِم: «يا أراجوز المدارس، يا نوَّارة المجالس، فارس ولا زي فارس، أواجه لا أوارث.»
بعد سنوات، وبعد التخرُّج، يعود ابن الأراجوز إلى قريته في سيارته البيضاء، ويلتقي أنعام ويبدو إعجابه بها، يطلب منه أبوه أن «يشوف نفسه»، فلا يتردَّد حين يتزوَّج من أماني. ويعود الكسباني إلى قريته الحلايبة، ومعه زوج ابنته، لعمل مشاريعَ اقتصادية. إنه يُحوِّل الأرض الزراعية إلى مشاريعَ رأسمالية. ويكشف الكسباني عن نواياه؛ فهو يطلب يومًا من زوج ابنته أن يأتي له بأنعام دون أن يعرف أنها زوجة أبيه. وتُصدَم المرأة حين تعرف أن الكسباني هو صهر بهلول. في هذا المشهد تبدو التركيبة التي تتسم بها أنعام؛ فهي تُواجِه كل من يستند إلى مكانته، ومنصبه، كي يُصطدم الابن بأبيه للمرة الأولى، في قلب سوق القرية؛ حيث يبدو بهلول في منتهى الضعف والإهانة أمام الجميع، وسوف يكون ذلك سببًا في أن يُقرِّر بهلول إذلال زوجته انتقامًا للإذلال الذي قام به الكسباني تجاه الأراجوز.

إنها التناقُضات، يمكن أن نقول إن السبعينيات هي الفترة التي بدأ الأراجوز يُسلِّم مكانته. في هذه الفترة أُبرزَ الرجال الأندال، أمثال بهلول، الذين تزداد مكانتُهم الاجتماعية، ويحلُم أن يصير سياسيًّا بارزًا.

وسرعان ما يتحوَّل الموقف؛ فبعد أن كان العمدة وشيخ الغفر ورجال السلطة، هم رمز الخصومة الكبرى، في حياة الأراجوز، فإن الابن الأوحد بهلول يصير بكل طموحاته اللامحدودة هو الرمز الجديد لهذه الخصومة السياسية. وسرعان ما يأتي رجال الأمن للقبض على الأب، في الليلة نفسها التي تأتي آلام المخاض لأنعام. ويجد أبناء القرية أنفسهم في معتركٍ مختلف «يا ناس، بهلول سجن أبوه، يا بلد ماتت اصحوا.» وتتغيَّر أدوات الصراع؛ فبهلول أمامه خصمان؛ أبوه، وأيضًا حماه كامل الكسباني، الذي لا يمكنه التخلي عن مكانته السياسية. وفي المؤتمر السياسي لترشيحات بهلول يخرج الأب حاملًا دميته وزمَّارته، للسخرية من ابنه، وتأتي الرصاصة من أحد عملاء السياسي، كي يموت بهلول. أما أنعام فإنها تأتي بوريثٍ جديد بديلًا عن بهلول كي يتولى تربيته، فيما يُسمى بزمن ما بعد الأراجوز.

أبرَعُ ما في أداء عمر الشريف، هو تملُّكه من لغته، نطقها بحيويةٍ ملحوظة، وذكَرنا كيف غيَّر وجهه في العديد من الأفلام، كأنه يُقنِعك تمامًا أنه «الأراجوز»، وهو وجه سوف يبقى في الذاكرة للأبد.

«واضحَّك كل صبي وعجوز، عاللي بيتنطَّط فرقع لوز.
ما انا أناديه أرار أراجوز.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤