فطين عبد الوهاب

إشاعة حب (خرونج)

في لحظة دهشةٍ عظيمة حين يتلقى الشاب العصري، لوسي الذي تربى في أوروبا، إشاعة أن هناك علاقةً عاطفية ربطَت بين النجمة السينمائية هند رستم والشاب حسين، فإنه يُردِّد: «هند رستم بتحب الخرونج ده؟!» وهذا المصطلح هو الأنسب لهذه الشخصية في الفيلم. وهذا المصطلح الشعبي ليس له معنًى محدد، ولكن يدخل في تعريفه كافة الصفات السيئة الخاصة بشابٍّ لا يفهم في أمور الحياة العصرية. ويمكن أن نضع عشرات التعبيرات لتصلح كلها لتؤدي نفس المعنى، كأن نقول، متخلف، وجلياط، وتقفيلة بلاده، وقفل، ولا يجيد التصرف عند اللزوم، خاصة مع البنات، والسيدات. وهو الشاب الذي لا يعرف كيف ينتقي ملابسه، أو أن يهذِّب شاربه، أو يختار نظارته، يضع الفيونكة على عنقه على طريقة عمه الذي ربَّاه، ويريده أن يتزوَّج ابنته. عبد القادر هذا الذي سوف يعلِّمه كيف يخرج من إطار الخَرْنَجة ليكون شابًّا عصريًّا، يثير الضجَّة مِن حوله في مدينة بورسعيد في أوائل الستينيات، في فترة تَمَّ التركيز فيها على هذه المنطقة أنها صارت مكانًا للقِصَص الضاحكة.

وقد جسَّد عمر الشريف دور الخرونج هذا بتلقائية؛ فهذه هي حدود تجربته. كما أنها تجربته الكوميدية الأولى في السينما المصرية، وربما الأخيرة. وهو لم يكرِّر هذه التجربة حتى في السينما العالمية.

الخرونج هذا يأكل ما يُقدَّم له، يبدو قفلًا في العبارات التي يختارها ليخاطب زوجة عمه، ابنة عائلة سلطح ملطح؛ حيث كل شيء يُوحي بالسخرية؛ فهي تدَّعي أن هذه العائلة متخصصة في صنع حلويات الكريب جوزيه، ومع ذلك فكل من تناوَلها أبدى استياءه. عمر الشريف هنا لا يمثل الكوميديا، ولكنه يؤدي دور الخرونج، ويطيع عمه في كل ما يطلبه منه؛ فهو يقبل التغيير عن طواعية، مثلما يطيع المخرج؛ فهكذا رآه المخرج الذي استنطق الكوميديا في أهم مَن صنعوا الأدوار المأساوية، مثلما فعل مع رشدي أباظة، وفريد شوقي. وقد حاول السيناريو الذي كتبه علي الزرقاني مع محمد أبو يوسف أن يجعل المتفرِّج يضحك مع سلوك هذا الخرونج، الذي كان من المفروض ألا يتغيَّر إلا بفضل التعليمات الصارمة لعمه، كي يفوز بقلب حبيبة قلبه سميحة. وقد اختار الفيلم أن يقدِّم الشخصية المقابلة للخرونج، كي نعرف الفارق الواضح بين الطرفَين؛ فلوسي إنسانٌ عصري، يسخر منه الفيلم بشكلٍ حاد، يمثِّل منتهى الرفاهية. هو ابن طنط فكيهة، طيلة حياته يعيش في أوروبا، ودرس في مصر الفيكتوريا كولوج التي درس بها عمر الشريف نفسه. ويصوِّره لنا الفيلم أقرب إلى الميوعة والأنوثة منه إلى الرجال، حصل على ماجستير في الرقص، وما العيب في ذلك فكم من أشخاص حصلوا على هذا الشرف، المهم أن لوسي المائع ليس أبدًا خرونج. وهناك مواجهة بين العم عبد القادر، وبين لوسي الذي يتشرف باسم أمه «أنا ابن طنط فكيهة».
figure

هذا الموضوع الذي كتبه الزرقاني، وأبو يوسف، مأخوذ عن مسرحيةٍ عالمية باسم «حديث المدينة»، تأليف الكاتب المسرحي والسينمائي، جون آمرسون. وبالبحث عن الفيلم المسمى بالاسم نفسهـ الذي أخرجه جون فورد عام ١٩٣٥م، وبطولة إدوارد هوج روبنسون. كما أن نفس النص قد تحوَّل عام ١٩٦٦م إلى مسرحيةٍ مصرية إخراج عبد المنعم مدبولي، وتمثيل فؤاد المهندس، وشويكار باسم «حالة حب»؛ أي إننا أمام عملٍ كوميدي. ورغم ذلك فهو من أبرز ما قدَّمه عمر الشريف. وهو يُعرض بشكلٍ دائم ومُلِح على القنوات الفضائية.

هذا الخرونج لولا ظهور لوسي الذي ينافسه على قلب ابنة عمه، ما قرَّر أن يتغير «أنا كده وح اعيش واموت كده»؛ أي إن من الصفات التي يتسم بها الخرونج أنه غيرُ قابلٍ للتغيُّر، وهو الذي اعتاد أن يسخر منه أغلب مَن حوله حتى الأصغر سنًّا، والأقل معرفة. وعلى كلٍّ فهو يحب فتاةً تافهة، تؤمن فقط بالشكل الخارجي، وهي كلها مسائلُ أنثوية دفعَتْه إلى التغير. كما أنه هو مجرد موظف، ليست له ثقافةٌ حقيقية تجعله مقبولًا. ومن الواضح أن الفيلم يطرح قضية الخرونج بشكلٍ ساذج؛ فعلى الشاب أن يغيِّر من شكله الخارجي، وأن يبدو أنيقًا، ينزع نظارته الواسعة الغريبة الشكل، وأن يتنازل عن شاربه، ويبدو أكثر وسامة، وسوف يتورط في أمرٍ بالغ الجلل، حين تذهب الحبيبة المزعومة إلى بورسعيد تجد الممثلة نفسها أمام فيضٍ من الأقاويل والشائعات تؤجِّج قلب سميحة، التي سرعان ما تتخلى عن خطبتها إلى لوسي، وتقع بقوة في غرام حسين، وتُدافع عن حبها هذا في حفلٍ كبير، وضد عادل هيكل وتُعلِن أنها تحب حسين.

ليس هناك منطقٌ معيَّن تمشي عليه الأحداث في الأعمال الكوميدية، ولكن هناك قانون التحوُّل، والتغيُّر إلى النقيض. هذا التحول سوف يحدُث بعد سريان إشاعة الحب لدى أشخاصٍ كثيرين، خاصة بنات المدينة التافهات، ومنها دَور الفتاة الذي أدَّته رجاء الجداوي، التي تبدو سعيدة وهي تتقبل غزل حسين، وتشجِّعه أن يقول لها بعض العبارات التي يكتبها، أو المفروض أنه يردِّدها للنجمة التي تحبه.

الخرونج تعني الغشيم، والصورة التي يبدو عليها لوسي لا بأس بها. لكن السيناريو يحاول أن يُشوِّه الصورة؛ فلا بد أننا أمام مخنَّث. ويبدأ الخرونج المتحجِّر في التحرُّر من الصفات السيئة التي يُسمَّى بها من أجل إرضاء سميحة، ومحروس الذي يدبِّر له الخطط. ويبدو العم مفتعلًا وهو يختار رجلًا كوميديًّا. لا شك أنها سوف تشد أنظار أبناء هذه الطبقة من الشباب الساذج. في البداية يطلب العم أن يقول لسميحة، ما أسماه بشوية فلفلة، البنت زي الكوستليتا اللوز. وسوف تكون من صفات هذا الخرونج أنه دائم التشخير أثناء النوم؛ أي إن مثل هذا الشخص لا مَنفَذ منه بالمرة إلى التغيُّر. ومن الواضح أن نموذج جيمس دين كان مثلًا أمام هذه الطبقة. تمَّت صناعة حسين على طريقة الشابِّ المتأنق الذي رمَز إلى التمرُّد، علمًا بأن جيمس دين كان أقربَ إلى لوسي، ولم يكن يميل إلى ارتداء رابطات العنق.

وقد استغرق السيناريو وقتًا طويلًا في إعداد المقلب، أو الفكرة، من خلال كتابة رسائل جاءت من هند رستم، ومحاولة لفت أنظار الخادمة، دون تعمُّد، كي تأخذ الرسالة وتُرسلها إلى سميحة. وذلك قبل أن تبدأ المرحلة الثانية من الفيلم، حول وصول نجمة السينما المشهورة، المزعوم أنها تحب حسين، وبقية الوقائع، التي حدثَت في ذلك اليوم من تاريخ بورسعيد. وقد كشفَت هذه الأحداث، أن حسين جدير بقلب ابنة عمه، وانهزَم المخنَّث لوسي، وتغيَّر سلوك أمها، ابنة سلطح ملطح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤