الفصل الثاني

الإعداد

ثمة حكمةٌ تعلَّمْتُها خلال دورة تعلُّم اللغة الألمانية تقول: «كل البدايات صعبةٌ.» تتبلور المشكلة في أننا حين نبدأ في مشروع جديد ننظر إلى المهمة بجملتها، فيبدو لنا أننا سنَنْسحق تحت وطأتها؛ إذ إن علينا تعلُّمَ أمورٍ كثيرة جدًّا. كيف سنتمكَّن من تعلُّم كل هذا؟

يَحُول هذا دون قيام كثيرين بالمحاولة. إنهم لا يبدءون أبدًا؛ لأن المهمة تبدو مستحيلة. ينطبق هذا على تعلُّم اللغات كما ينطبق على باقي جوانب الحياة. أفضل نهجٍ ينبغي أن ينتهجه المرء هو أن يقسِّم أوقات المذاكرة على فترات قصيرة، ويضع لنفسه بعضَ الأهداف.

(١) الاستغلال الجيد للوقت

ينصحك كثيرٌ من الكتب والمواقع الإلكترونية بضرورة قضاء ثلاث ساعات يوميًّا — على الأقل — في دراسة اللغة، وإلا فأنت تضيِّع وقتك. الأمر ليس كذلك؛ فأنا لم أكن أُمضِي أكثر من ثلاثين دقيقة يوميًّا في تعلُّم اللغة الإيطالية «الأساسية»، وكنتُ قادرًا على تحدُّثها جيدًا بدرجةٍ معقولة في خلال أسبوعين. كان هذا كافيًا لتعلُّم الأساسيات، وقد مكَّنَني أنا وعائلتي من السفر على متن سفينة إيطالية، ومن تدبُّر أمورنا في إيطاليا.

تعلَّمْتُ الألمانية من خلال قضاء ما بين عشرين وثلاثين دقيقة يوميًّا في المذاكرة على مدار حوالي ستة أشهر. انقسمَتِ المذاكرة اليومية إلى عدة فقرات؛ ففي الصباح، كنتُ أشغِّل درسَ اليوم على جهاز التسجيل، وأتابع النصَّ من الكتاب لمدةٍ تتراوح ما بين خمس وعشر دقائق، ثم أثناء احتساء قهوة الصباح كنتُ أُخرِج الكتاب وأقرأ الدرس. كنت أكرِّر نفس الأمر أثناء استراحة الغداء، ومرةً أخرى أثناء استراحة تناوُل القهوة. وكثيرًا ما كنت أذهب إلى العمل بوسائل المواصلات؛ وهكذا كنتُ أقرأ الدرسَ في القطار ذهابًا وإيابًا، وفي حال استقلالي سيارتي كنتُ أستمع إلى الدرس أيضًا أثناء القيادة.

كنتُ عندما أصل المنزل أستمع إلى الدرس مرةً أخرى في المساء، وأقرأ الدرسَ أيضًا. معظم هذه الجلسات كان يستغرق خمس دقائق، وكانت تصل في أقصى الأحوال إلى ما بين عشر دقائق وخمس عشرة دقيقة؛ وقد تمكَّنْتُ من إجراء محادثات بسيطة مع أصدقائي الألمان بعد حوالي ستة أسابيع. وبعد مرور ستة أشهر من المذاكرة لمدةٍ تتراوح ما بين الثلاثين والأربعين دقيقة يوميًّا، أصبحتُ قادرًا على التحدُّث باللغة الألمانية في ألمانيا دون صعوبة.

من خلال تقسيم وقت المذاكرة إلى فترات زمنية قصيرة، مدتها من خمس إلى عشر دقائق، تمكَّنْتُ بسهولةٍ من تحقيق هدفي.

أثناء العطلات الأسبوعية كنتُ أحاول قضاءَ المزيد من الوقت مستخدِمًا أدواتي الأخرى؛ فبينما كنتُ أسير بمفردي في الشارع كنتُ أتحدَّث إلى نفسي باللغة الألمانية، وكنتُ أتحدَّث إلى نفسي أثناء القيادة. كنتُ أُجرِي محادثات مع نفسي، وأحاول تكوين الجُمَل بنفسي، وعادةً ما كنتُ أحتفظ بقاموس صغير لأتمكَّن من البحث عن أي كلمات لا أعرفها في الحال. كانت هذه هي اللغة التي رغبتُ في استخدامها، واللغة التي احتَجْتُها — وليست اللغة التي رأى شخصٌ آخَر أنني سأحتاجها، أو أنه سيكون من الجيد أن أعرفها.

من ثَمَّ نصيحتي لك بأن تلتزم يوميًّا بنصف ساعة مقسَّمة إلى فترات زمنية قصيرة، مدةُ كلٍّ منها خمس أو عشر دقائق، تقضيها في تعلُّم «اللغة الهدف» (اللغة المراد تعلُّمها). سيقدِّم لك هذا الكتاب أيضًا خطةً للطوارئ؛ للأيام التي ينعدم فيها لديك الحافزُ حتى لقضاء نصف ساعة في مذاكرة اللغة. إن كنتَ متحمِّسًا إلى حدٍّ بالغ وترغب في قضاء المزيد من الوقت — ربما كنتَ ملتزمًا بموعد نهائي مثلًا — يُمكنك قضاء وقت أطول كل يوم، بل يمكنك أيضًا تعلُّم اللغة أسرع.

سأريك أيضًا كيف تستغلُّ الوقتَ «الضائع» — الوقت الذي لم تكن تعرف أنك تملكه — في تعلُّم اللغة. الخبر السار هو أنك لستَ مضطرًّا إلى أن تستقطع من وقت الأنشطة الأخرى للجانب الأعظم من عملية تعلُّم اللغة.

(٢) أنت معلِّم نفسك

حين تتعلَّم إحدى اللغات بالطريقة السريعة السهلة، لا بد أن تعلِّم أنت نفسَك بنفسك. قد يبدو هذا مفهومًا غريبًا؛ إذ كيف يمكن أن تعلِّم نفسَك شيئًا لا تعرفه؟ أَلَا يجدر بك أن تجد لنفسك معلِّمًا مُلِمًّا باللغة؟

إليك ما أقصده بأن تكون معلِّم نفسك: «أن تقرِّر كيف ستتعلَّم، وماهية المواد التعليمية التي ستستعين بها.» يمكنك أن تأخذ بنصيحة الآخرين، لكن القرار يرجع إليك. أنت لن تتعلَّم اللغةَ باتِّباع منهج واحد فحسب، بل ستستخدم بضعَ منهجياتٍ في نفس الوقت، وبدلًا من أن تشقَّ طريقك باستخدام كتاب دراسي واحد أو دورة واحدة لتعليم اللغة، سوف تستخدِم عديدًا من الكتب الدراسية، وأكبرَ عددٍ ممكن من الوسائل المساعِدة الأخرى في تعلُّم اللغة.

وبدلًا من الاجتهاد في تعلُّم اللغة، ستستمتع باللعب باللغة، بل يمكنك أيضًا القيام بنفس الشيء إذا كنتَ تذاكر من أجل امتحانٍ في المدرسة أو الجامعة، وبدلًا من أن يكون تعلُّم اللغة عملًا شاقًّا، سيكون أمرًا ممتعًا.

(٣) اختيار اللغة

هل اخترتَ اللغة التي ترغب في تعلُّمها؟ سواء أكنتَ ستعمل في السويد، أم تستعمل أدلة إرشادية للتشغيل مكتوبة باللغة السويدية، أم تنوي الزواج من شخص سويدي؛ فإن الاختيار محسوم.

إذا كنتَ ستعمل في أوروبا الشرقية، فإنك ستحتاج إلى معرفة أي لغةٍ هي الأنسب لك؛ فربما تكون اللغة الأنسب هي الألمانية أو الروسية، وليست لغة البلد الذي يقع فيه المقرُ الرئيسي لشركتك. اسأل الآخرين أي لغةٍ هي الأصلح لك. سيُجيبك جميعهم بإجابات متحيِّزة؛ لأن لغته أو لغتها هي الأفضل دائمًا؛ وعليه، ينبغي أن يكون سؤالك التالي هو: «إذا كنتُ أرغب في تعلُّم لغة أجنبية ثانية أيضًا؛ فأي لغة ستكون الأكثر نفعًا؟»

إذا كنتَ تنوي السفر إلى أنحاء أمريكا الجنوبية، فهل يجدر بك تعلُّم الإسبانية أم البرتغالية؟ يتوقَّف هذا على البلد الذي ستقضي معظم الوقت فيه، وعلى معرفة أي لغةٍ ستكون الأكثر نفعًا لك على المدى الطويل.

في أغلب الأحيان كنتُ أتعلَّم اللغات لمجرد أن بمقدوري فِعْل هذا. حاوِلْ أن تقنعني اليومَ بمنهج جيد لتعلُّم اللغة وسوف أقبله. إن تعلُّمَ أي لغة أجنبية سيوسِّع آفاقك.

لذا، اختَرْ لغتك واستعِدَّ للمغامرة.

(٤) تحديد الأهداف

ينبغي أن تكون لديك أهدافٌ واضحة عندما تتَّخِذ قرارك بتعلُّم لغة بعينها. يجدر بك تحديد هدف على المدى البعيد، وأيضًا أهداف على المدى القصير إبَّان عملية التعلُّم.

كثيرًا ما أتلقَّى دعواتٍ لإلقاء خطب أمام مجموعات من المحترفين، وأُلقِي كثيرًا من الخطب بعد انتهاء عشاء رسمي، وفي إفطار عمل موظفي المبيعات، فأعلمهم استراتيجيات النجاح في الحياة؛ وأول قاعدة للنجاح في الحياة هي أن تحدِّد أهدافًا. يسرُّني أولًا أن أقدِّم لكم نصيحتي العامة بشأن تحديد الأهداف: ثمة ثلاثُ خطوات لا غنى عنها:
  • (١)

    حدِّدْ ما تريد.

  • (٢)

    أعدَّ خطةً لتحقيق ما تريد.

  • (٣)

    نفِّذِ الخطة.

الأمر بهذه البساطة. هذا هو سرُّ النجاح باختصار. تبنِّي هذه الخطوات الثلاث سيمنحك الحظوة وسيجعلك متفوقًا على معظم الأفراد الآخرين في أي مجالٍ من مجالات الحياة.

الخطوة الأولى في تعلُّم إحدى اللغات هي اختيار اللغة. وسوف أساعدك في الخطوة الثانية؛ فمعًا سنضع خطةً لتعلُّم اللغة. أما الخطوة الثالثة فهي تخصُّك وحدك؛ إذ يتعيَّن عليك أن تنفِّذ الخطة، وأتمنَّى أن يحفِّزك هذا الكتاب على القيام بذلك، وأن يساعدك أيضًا على أن تظلَّ متحمِّسًا للاستمرار في تعلُّم اللغة حتى عندما تشعر بأنك لا تحبها.

(٤-١) الأهداف المتعلِّقة باللغة

يتمثَّل أول أهدافك في اختيار اللغة، وقد ناقشنا بالفعل المسائلَ التي ينطوي عليها اتخاذُ هذا القرار.

بعدها لا بد أن تختار المستوى الذي تريد الوصول إليه؛ وهذا هو هدفك الطويل المدى. سيعتمد المستوى الذي تريد الوصولَ إليه في المقام الأول على السبب الذي تريد تعلُّم اللغة من أجله؛ فإن كنتَ مسافرًا فقط في رحلةِ عملٍ خاطفة، فربما لا تحتاج سوى تعلُّم الأساسيات. ستندهش ممَّا يمكنك تعلُّمه في بضعة أسابيع أو شهر. يمكن أن يصنع إلمامُك باللغة فَرْقًا شاسعًا في الاستفادة الشخصية التي ستحقِّقها من هذه الزيارة.

إذا كان هدفك هو التمكُّن من التحدُّث مع العملاء الذين يزورون شركتك، فستحتاج إلى تعلُّم المزيد، لكنك ربما لن تحتاج بالضرورة إلى التمكُّن من قراءة الأعمال الكلاسيكية بهذه اللغة. وإذا كنتَ مضطرًّا إلى تقديم عرض تقديمي عام، والتحدُّث أمام جمهورٍ بهذه اللغة، فإنك ستحتاج إلى الوصول إلى مستوًى أعلى في تعلُّمها ممَّا لو كنتَ ستلتقي بالممثلين المحليين لشركتك فحسب. وإنْ كنتَ ستجتمع بأشخاصٍ تقنيين، فقد تقرِّر أنك في حاجةٍ إلى الإلمام بالمصطلحات الفنية ذات الصلة.

إذا كنتَ تدرس اللغةَ لاجتياز اختبارٍ، فستكون أهدافُك مختلفة. في الواقع، ستحدِّد لك كليتُك أو اختبارُك أهدافَك بالنيابة عنك.

يفضِّل الأشخاصُ تعلُّمَ اللغة على أحسن وجهٍ ممكن، كلٌّ بحسب ظروفه. ومع تغيُّر الظروف، كثيرًا ما نضطر إلى تغيير أهدافنا؛ فتجد أشخاصًا كثيرين بعد تعلُّم أساسيات لغةٍ بعينها يرغبون في تعلُّم هذه اللغة على نحوٍ أفضل، ويواصلون دراستهم لمدةٍ طويلة بعد تحقيقهم هدفَهم الأساسي.

(٤-٢) الأهداف الزمنية

عندما تحدد أهدافًا، فمن الجيد دائمًا أن تضع لنفسك موعدًا نهائيًّا؛ على سبيل المثال: قد تقول لنفسك: «أريد أن أتمكَّن من إجراء محادَثة باللغة الإندونيسية الأساسية بحلول نهاية شهر سبتمبر.» أو «أريد أن أكون قادرًا على تحدُّث اللغة السواحلية بنهاية هذا العام.» وذلك لأن حدودك الزمنية إن لم تكن واضحةَ المعالم أو محدَّدة النهايات، فالأرجح أنك لن تحقِّق هدفك أبدًا. إذا كنتَ تستخدم برنامجًا لتعليم اللغة مثل «آسيميل»، فإن أهدافك تكون محدَّدة بالفعل؛ فكثير من دورات تعليم اللغة تقسِّم موادَّها التعليمية إلى أجزاء صغيرة تُستَذكَر يوميًّا؛ ومن ثَمَّ تستطيع مسبقًا أن تحدِّد بالضبط الوقتَ المستغرَق ريثما تنتهي من الدراسة.

(٤-٣) الأهداف القصيرة المدى

بعد ذلك، تحتاج إلى وضع أهدافٍ قصيرة المدى. قد يكون هدفُك تعلُّمَ درسٍ واحدٍ كل يوم، أو أن تقضي أربعين دقيقة يوميًّا في دراسة اللغة، مقسَّمة إلى فتراتٍ، مدةُ كلٍّ منها خمس أو عشر دقائق. أنت الذي تقرِّر، لكن احرص على أن تكون أهدافُك واقعيةً. ما من قانون يمنعك من تغيير التزامك إذا كنتَ تجد أنك في حاجةٍ إلى مزيدٍ من الوقت، أو أن ظروفك تتغيَّر، وإنْ كان من المفيد أن تكون على درايةٍ بما يمكنك تدبُّره كلَّ يومٍ عندما تحدِّد التزامَك في البداية.

يتمثَّل أحدُ الأهداف المبدئية في إتقان برنامج المستوى الأساسي من اللغة (سنتحدَّث عن هذه البرامج في الفصل الخامس). يمكنك وَضْع هدفٍ للتاريخ الذي تريد أن تُتقِن هذا البرنامج بحلوله. ستحتاج إلى وَضْع مزيدٍ من الأهداف وأنت تدرس اللغة، وربما تُلزِم نفسَك بأن يكون أول ما تقرؤه كلَّ يوم مكتوبًا باللغة التي تدرسها، ويمكنك أن تجعل الموقعَ الإلكتروني لإحدى الجرائد المكتوبة باللغة الهدف هو صفحتك الرئيسية لدى اتصالك بالإنترنت.

من الواضح أن النصائح المقدَّمة في هذا الكتاب لها طبيعة عامة؛ فنحن بصدد البحث في تعلُّم اللغات على وجه العموم، وليس لغة بعينها. قد تجد أنك في حاجةٍ إلى تعديل بعض الاقتراحات المذكورة في هذا الكتاب حتى تُؤتِي ثمارها معك. افعل هذا بكل الوسائل الممكنة؛ فالمحصلةُ النهائية هي التي تهمُّ. لقد افترضتُ في معظم الأحوال أن اللغة التي ستتعلَّمها حديثةٌ منطوقة، وليست لغةً قديمة مندثرة؛ لأن تركيزنا يتَّجِه أول ما يتَّجِه إلى اللغة المنطوقة. ومع ذلك، إذا كنتَ تتعلَّم اللغةَ اليونانية القديمة، يظل في هذا الكتاب كثيرٌ من الاقتراحات التي ستفيدك.

والآن، لننتقل إلى الفصل التالي ونرى ما الأدوات التي سنحتاجها من أجل هذه المهمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤