الفصل العشرون

مدمِنو اللغات

قد تبدو عبارة «مدمنو اللغات» غريبة وصعبة التصديق، بَيْدَ أنه يوجد أشخاص مدمنون على تعلُّم اللغات. عندما يجتمع هؤلاء الأشخاص، فإنهم لا يناقشون تعلُّمَ إحدى اللغات الأجنبية، وإنما يتحاورون بشأن العشر لغات التالية التي سيتعلَّمونها.

بالتأكيد أنا أحد مدمني اللغات؛ فأنا يروق لي تعلُّم اللغات لذاته. قدِّمْ لي منهجًا جيدًا لتعليم إحدى اللغات ولسوف آخذه؛ كلُّ ما أتمناه أن يكون لديَّ مزيدٌ من الوقت كي أنغمس في إشباع شغفي أو هوسي هذا. أذكر أنني ذات مرة أشرتُ لموظفة الاستقبال في مدرسة تعليم اللغات — حيث درستُ اللغة الفرنسية — إلى أنني أحسدها؛ لأنها تملك الفرصةَ لتعلُّم عددِ ما تشاء من اللغات (فقد اكتشفتُ أنها كانت تستمع إلى منهج آسيميل لتعلُّم اللغات على مدار اليوم، ورأيت أنها تعمل في وظيفة الأحلام؛ لكونها قادرةً على دراسة أي من اللغات المتاحة في نظام آسيميل لتعلُّم اللغات). نظرتْ إليَّ المرأة نظرةً غريبةً؛ إذ لم تكن مدمِنةً للغات، وكلُّ ما هنالك أنها أرادتْ تعلُّم اللغة الإسبانية واغتنمتْ فرصةَ توافر المواد في متناولها.

يمكن لأبسط الأمور أن تثير اهتمامي بإحدى اللغات. كنتُ مسافرًا ذات يوم بالقطار ووجدت صحيفةً باللغة الآيسلندية على المقعد كان أحدهم قد تركها؛ كان هذا بمثابة كنز بالنسبة إليَّ. قرأتُها كلها من بدايتها حتى نهايتها، ومما أثار دهشتي وسروري هو مدى قدرتي على الفهم، ويُعزَى ذلك في الأساس لإلمامي باللغة الألمانية وبقليل من السويدية؛ ومنذ ذلك الحين انبهرت بآيسلندا وأي شيء له علاقة بهذا البلد، بل أتطلع أيضًا إلى أولى زياراتي لها. أحيانًا يسألني أفراد المبيعات عن وجهتي المفضَّلة لقضاء العطلة، فأجيبهم دائمًا بآيسلندا، فيظنون أنني أسخر منهم ويغضبون، لكني أقول لهم الحقيقة ببساطة. وقطعًا أنوي تعلُّمَ شيء من اللغة الآيسلندية قبل زيارتها، وقد حمَّلتُ — بالفعل — من على الإنترنت بعض مواد تعليم اللغة الآيسلندية، ولديَّ منهج تمهيدي لتعليمها.

في موقف آخَر، تسلَّمْتُ عبر البريد منهجًا لتعليم اللغة العبرية لم أطلبه — على ما يبدو أنه أُرسِل إليَّ بالخطأ — فقررتُ أن أحتفظ به؛ ومن ثَمَّ دفعتُ ثمنه وبدأتُ في تعلُّم اللغة العبرية. وفي وقت لاحق، سجَّل أحد أصدقائي للالتحاق بدورة في اللغة العبرية، ثم اكتشف أن المحاضرات الخاصة بإحدى موادِّه في الجامعة تكون في نفس الوقت؛ ومن ثَمَّ سألني إن كان يروق لي أن أحضر دورة اللغة العبرية بدلًا منه. حضرت الفصل بدلًا منه عن طيب خاطر، وتعلَّمْتُ اللغة العبرية إلى جانب مساعدة منهج الدراسة المنزلية الخاص بي.

أشارك بانتظام في منتدى على الإنترنت لمدمني اللغات. يحب كثيرون من أعضاء المنتدى أفلامَ الجاسوسية التي يتحدَّث فيها البطلُ العديدَ من اللغات؛ لأنهم يشعرون بنشوة لكونهم قادرين على فهم ما يقوله، وعندما لا يفهمون، فإن ذلك يكون حافزًا لتعلُّم لغة أخرى. كما يحبون قراءةَ قصص التشويق لنفس السبب.

ينطبق نفس الشيء عليَّ؛ أحب الإثارة المتولدة عن فهم شيءٍ مكتوبٍ أو منطوق بلغة جديدة. عندما عشنا في أوروبا، شعرتُ بالإثارة لكوني في بلد مختلف، ولا سيما بلد في أوروبا الشرقية الشيوعية؛ حيث كنتُ قادرًا على التحدُّث إلى الأشخاص في الشارع.

ذات مرة، عرض عليَّ أحدُ ضباط الجيش الروسي أن يلتقط لي صورة خارج محطة قطار ميدان ألكسندر في شرق برلين، وافقتُ على الفور؛ هذه الصورة الآن من مقتنياتي الثمينة. وفي حادثة أخرى، التقطتُ صورًا لمجموعة من الجنود الروس في شرق برلين، وقد جذب أحدهم كاميرتي وشرح لي أنه يحظر تصوير الجنود الروس في شرق برلين. من الواضح أنه لم يكن من المفترض أن يتواجد الجنود هناك، مع أنهم كانوا في موقع مكشوف؛ غمغمتُ معتذرًا وقلت إنني لم أكن أعرف. لم أتطوع بأن أخبرهم أنني التقطتُ الصورةَ بالفعل، وقد تركوني أنصرف. كانت هذه الصورة أيضًا من المقتنيات الثمينة، أظن أنني ربما أكون شخصًا ساذجًا؛ إذ لم يكن لديَّ أدنى تخوُّف من التحدث مع أفراد من الجيش بأوروبا الشرقية.

وقد ساعدني أيضًا إلمامي بلغات أوروبا الشرقية في تعلُّم أمورٍ ربما ما كنت سأستطيع أبدًا أن أكتشفها بأي طريقة أخرى؛ فقد أجريتُ حوارًا ممتعًا مع خادم إحدى الكنائس في قرية صغيرة بتشيكوسلوفاكيا؛ حيث ينحدر بعض من أفراد عائلة أمي. لم تكن بيننا لغة مشتركة، لكن باستخدام بعضٍ من الألمانية والروسية والبولندية تمكنَّا من التحاوُر (ذكر لي أصدقائي في بولندا أن اللغة التشيكية شبيهة للغاية باللغة البولندية، لكنني لم ألحظ قطُّ وجودَ تشابُه). أردتُ أن أعرف أيَّ شيءٍ عن الأفراد الباقين على قيد الحياة من عائلة أمي، وقد استطاع هذا الرجل أن يشرح لي أن جميعهم إما ماتوا في الحرب وإما تركوا المنطقة.

ثمة موضوع للنقاش على موقع المنتدى بعنوان «لغتك الأولى»؛ عندما يعلِّق الأعضاء تحت هذا الموضوع يبدون غالبًا كمَن يحكي عن الحب الأول؛ فهم يكنُّون مكانةً خاصة في قلوبهم لأول لغة أجنبية على الإطلاق تعلَّموها.

يناقش الأعضاء أيضًا طرقًا متنوعة لتعلُّم اللغات. يتبع الأفراد المختلفون طرقًا مختلفة في التعلم، وعلى ما يبدو لن يغيِّر معظمهم طريقته من أجل أي شخص، وإن كانوا في حالةِ بحثٍ دائم عن تلك الطريقة أو ذلك المنهج الذي يصعب العثور عليه، الذي سيُمكِّنهم من تعلم المزيد على نحو أسرع وأكثر سهولةً.

لماذا يدمن هؤلاء الأشخاص تعلُّم اللغات؟ أعتقد أن هذا يرجع إلى أن كل لغة تتعلَّمها تكون بمنزلة مغامرة جديدة؛ فأنت تلتقي بثقافة غير مألوفة، بل ربما غريبة أيضًا، كما أنك تتعلَّم طرقًا جديدةً لقول الأشياء؛ ليس مجرد كلمات جديدة، إنما وسائل للتعبير جديدة تمامًا. في أغلب الأحيان، تمدُّك الكلمات المختارة للتعبير عن الأفكار بفهمٍ حول الكيفية التي تفكِّر بها ثقافة أو مجتمع بعينه.

أكَّد أحدهم ذات مرة أنه من المستحيل فعليًّا أن تقدِّر أعمالَ شكسبير وتفهمها إلى أن تقرأ الترجمة الصينية، لكن إذا كنتَ تدرس الأدب الكلاسيكي أو أحد النصوص الدينية، فلا بد من دراستها بلغتها الأصلية؛ كيما تتقن فهمها. كثيرًا ما تكون هناك ظلال من المعنى والفروق الدقيقة في النص الأصلي لن تفهمها مطلقًا من الترجمة؛ سيتفق معي في هذا الرأي كثيرون من مدمني اللغات، وسيرون هذا سببًا جيدًا لتعلُّم إحدى اللغات الأجنبية.

يدمن الناس تعلُّم اللغات لأسباب كثيرة؛ سُئِل أحد الأشخاص عن سبب تعلُّمه الكثيرَ جدًّا من اللغات، فأجاب أنه حالما بدأ في التعلُّم تكاسَلَ عن التوقُّف!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤