الفصل الثاني عشر

لم تَركُض ويني فيرلوك، أرملة السيد فيرلوك وشقيقة البار الراحل ستيفي (الذي تفجر إلى أشلاء في حالة من البراءة وبقناعة بأنه كان يُشارك في عمل إنساني)، أبعد من عتبة باب غرفة المعيشة. كانت بالفعل قد هربت بعيدًا جدًّا لمجرد قطرات دم، ولكن تلك كانت حركة نفور غريزية. وهناك كانت قد توقفَت، بعينين مُحدقتَين ورأس منكس. وكأنَّها كانت قد أخذت تركض لسنوات طويلة في هروبِها عبر غرفة المعيشة الصغيرة، كانت السيدة فيرلوك عند الباب شخصًا مختلفًا تمام الاختلاف عن المرأة التي كانت مُنحنية فوق الأريكة، وكانت تَشعُر بدُوَار طفيف في رأسها، ولكن فيما عدا ذلك كانت لديها حرية الاستمتاع بالهدوء العميق بكسل وعدم مبالاة. لم تَعُد السيدة فيرلوك تشعر بالدوار. استعاد رأسها اتزانه. وعلى الجانب الآخر، لم تعد هادئة. كانت خائفة.

إن تحاشَت النظر في اتجاه زوجها المُمدَّد، فلم يكن السبب أنها كانت خائفة منه. لم يكن النظر إلى السيد فيرلوك يَبعث على الخوف. كان يبدو مُرتاحًا. إضافة إلى ذلك، كان ميتًا. لم تكن السيدة فيرلوك تضمر أي أوهام عبثية بشأن الموتى. لا شيء يُعيدهم إلى الحياة، لا الحب ولا الكراهية. لا يُمكنهم فعل أي شيء لك. إنهم لا شيء. كان يشوب حالتها العقلية نوع من الازدراء الشديد لذلك الرجل الذي كان قد قَبِل بأن يُقتَل بتلك السهولة. كان رب منزل، وزوجًا لامرأة، وقاتل شقيقها ستيفي. والآن، لم يعد له أي اعتبار من جميع النواحي. كان أقل قيمة من الملابس التي على جثَّته، ومن معطفه، ومن حذائه، ومن تلك القبَّعة الملقاة على الأرضية. كان لا شيء. لم يكن حتى يَستحق النظر إليه. لم يعد حتى قاتل ستيفي المسكين. كان القاتل الوحيد الذي سيجدُه الناس في الغرفة عندما يأتون بحثًا عن السيد فيرلوك هو … هي نفسها!

كانت يداها تَرتعِش لدرجة أنها أخفقت مرتين في إعادة تثبيت حجابها. لم تَعُد السيدة فيرلوك امرأة هادئة ومسئولة. كانت خائفة. الطعنة التي طعنتها للسيد فيرلوك لم تكن سوى ضربة. كانت قد خفَّفت من الألم المكبوت لصرخات مُختنقة في حلقها، ولدموع جفَّت في عينيها المتقدتين، ولغضب مجنون وناقم على الدور الفظيع الذي لعبَه ذلك الرجل، الذي صار الآن أقل من لا شيء، في حرمانها من الصبي.

كانت طعنة مُبهَمة الدوافع. كان الدم الذي يقطر على الأرضية من مقبض السكين قد حَوَّل الأمر إلى حادثة قتل عادية. كانت السيدة فيرلوك، التي دومًا ما كانت تنأى عن التمعُّن بتعمُّق في الأمور، مُجبرة على التعمق في هذا الأمر. لم ترَ وجهًا يُطاردها، ولا ظلًّا مؤنِّبًا، ولا رؤيا تدفعها إلى الندم، ولا أي ضرب من ضروب التصورات المثالية. رأت شيئًا يَلُوح في الأفق. ذلك الشيء هو حبل المشنقة. كانت السيدة فيرلوك خائفةً من حبل المشنقة.

كانت مرتعبة منها رعبًا تصوريًّا. وإذ لم تكن عيناها قد وقعت من قبل على ذلك البرهان الأخير على عدالة البشر (في إشارة إلى المشنقة) إلا في رسوم توضيحية طُبِعَت بقوالب خشبية لنوع معين من الحكايات، رأتها الآن لأوَّل مرة منصوبة قبالة خلفية مشهد مُظلم عاصف، مزينة بسلاسل وعظام بشرية، تحوم حولها طيور تَنقُر أعين الموتى. كان هذا المشهد كفيلًا بإخافتها، ولكن على الرغم من أن السيدة فيرلوك لم تكن واسعة الاطِّلاع، فقد كانت لديها معرفة بمؤسَّسات بلدها كافية لأن تَعرف أن المشانق ما عادت تُنْصَب بطريقة مثيرة للعاطفة على ضفاف أنهار موحشة ولا على رءوس بحرية تَعصف فيها الرياح، وإنما في ساحات السجون. هناك بين أربعة جدران عالية، وكأنما داخل حفرة، في وقت الفجر، كان يؤتى بالقاتل كي يُعدم، في هدوء مريع، وكما ذكرت تقارير الصحف دومًا «في حضور السلطات المختصَّة». بعينيها المحدقة في الأرضية، بينما كانت فتحات أنفها ترتجف غضبًا وخزيًا، تخيَّلت نفسها وحيدة تمامًا وسط جمع من رجال غرباء يَرتدُون قبعات حريرية يؤدون في هدوء مهمة تنفيذ حكم الإعدام فيها. ذلك … لن يحدث أبدًا! لن يحدث أبدًا! وكيف يتمُّ ذلك؟ أضافت استحالة تخيُّل تفاصيل ذلك الإعدام الهادئ شيئًا جنونيًّا زاد من رعبها المجرد. لم تذكر الصحف أي تفاصيل باستثناء تفصيلة واحدة، ولكن تلك التفصيلة كانت دائمًا ما تُذكَر في نهاية تقرير هزيل مع إضافة بعض عبارات التكلُّف. تذكرت السيدة فيرلوك ماهيتها. تذكرتها بألم حارق قاسٍ في رأسها، وكأن الكلمات «كان عمق السقطة أربع عشرة قدمًا» كانت قد نُقِشَت في دماغها بإبرة ساخنة. «كان عمق السقطة أربع عشرة قدمًا.»

أثرت هذه الكلمات عليها جسديًّا أيضًا. صار حلقها مُتشنجًا في موجات لمقاومة الاختناق؛ وكان خوفها من السقطة المفاجئة شديدًا لدرجة أنها أمسكت رأسها بكلتا يديها وكأنها تُنقذها من أن تَنفصِل من فوق كتفَيها. «كان عمق السقطة أربع عشرة قدمًا.» كلا! لن يحدث هذا أبدًا. لم تَستطِع أن تتحمَّل «ذلك». بل إنها لم تتحمل حتى التفكير فيه. لم تتحمَّل التفكير فيه. ولذا عزمت السيدة فيرلوك على أن تذهب من فورها وترمي بنفسها في النهر من فوق أحد الجسور.

استطاعت هذه المرة أن تُعيد تثبيت حجابها. بوجهها الذي بدا مثل قناع، متشحةً بالسواد من رأسها وحتى أخمص قدميها إلا بعض الزهور في قبعتها، رفعت ناظريها إلى الساعة بتلقائية. ظنت أنها قد توقَّفَت لا محالة. لم تَستطع أن تصدق أنه لم يكن قد مرَّ إلا دقيقتان منذ آخر مرة كانت قد نظرت فيها إليها. طبعًا لا. لقد كانت متوقفةً طوال الوقت. في الحقيقة، لم يكن قد مر إلا ثلاث دقائق من اللحظة التي أخذت فيها نفسًا عميقًا وهادئًا بعد الطعنة، وحتى هذه اللحظة التي عزمت فيها السيدة فيرلوك على أن ترمي نفسها في نهر التايمز. ولكن السيدة فيرلوك لم تَستطِع أن تُصدِّق ذلك. يبدو أنها سمعت أو قرأت أن الساعات تتوقَّف دومًا في لحظة القتل من أجل أن يتراجع القاتل. لم تأبَه بذلك. «إلى الجسر … ومن فوقه سأقفز.» … ولكن حركاتها كانت بطيئة.

جرجرت قدميها بصعوبة عبر المتجر، وكانت قد اضطرَّت إلى أن تتمسَّك بمقبض الباب قبل أن تَستجمِع قواها اللازمة لفتحِه. أخافها الشارع؛ لأنَّه كان يؤدي إما إلى المشنقة أو إلى النهر. تعثَّرت بعتبة الباب ورأسها متجه إلى الأمام، وذراعاها مفرودتان، مثل شخص يسقط من فوق حاجز جسر. كان هذا الخروج إلى الهواء الطلق مُنذرًا بالغرق؛ غلَّفتها رطوبة لزجة، دخلت من فتحتي أنفها، وعلقت بشعرها. لم يكن الجو مطيرًا في الواقع، ولكن كان لكل مصباح غاز هالة باهتة صغيرة من الضباب. كانت الشاحنة والخيول قد وَلَّت، وفي الشارع الأسود شكلت نافذة مطعَم سائقي العربات المُنسدلة الستار رقعة مُربَّعة من ضوء أحمر دموي وهجه خافت قريب جدًّا من مُستوى الرصيف. بينما كانت السيدة فيرلوك تُجرجر نفسها ببطء نحوه، فكرت في إنها امرأة وحيدة جدًّا بلا أصدقاء. كان هذا صحيحًا. كان صحيحًا جدًّا حتى إنها، في اشتياق مفاجئ لأن ترى وجهًا مألوفًا، لم يَخطر على بالها أحد غير السيدة نيال، الخادمة. لم يكن لها معارف. لن يَفتقدها أحد على المستوى الاجتماعي. يجب ألا نتخيَّل أن الأرملة فيرلوك قد نسيت أمها. لم يكن الأمر كذلك. كانت ويني ابنة بارَّة لأنها كانت أختًا مخلصة. دائمًا ما كانت أمها تعتمد على مُساندتها. لا يُمكن توقع أي مواساة أو نصيحة من أمها. والآن بموت ستيفي بدا أن الرابطة قد انقطعت. لم تَستطع أن تُواجه المرأة العجوز بالحكاية المروعة. إضافة إلى ذلك، كان المكان بعيدًا جدًّا. كان النهر هو وجهتها الحالية. حاولت السيدة فيرلوك أن تنسى أمها.

كل خطوة كلفتها عناءً من إرادة وبدت أنها آخر خطوة ممكنة. جرجرت السيدة فيرلوك نفسها متجاوزةً الوهج الأحمر لنافذة المطعم. كررت لنفسها بعناد شرس: «إلى الجسر … ومن فوقه سأقفز.» مدَّت يدها في الوقت المُناسب كي تستند على عمود إنارة. فكرت: «لن أصل إلى هناك أبدًا قبل الصباح.» شل الخوف من الموت جهودها للهرب من المشنقة. خُيل إليها أن ساعات مضت وهي تمشي مترنحة في ذلك الشارع. فكرت: «لن أصل إلى هناك أبدًا.» «سيعثرون عليَّ وأنا أتخبط بين الشوارع. المسافة بعيدة للغاية.» توقفت، وأخذت تلهث تحت حجابها الأسود.

«كان عمق السقطة أربع عشرة قدمًا.»

دفعت عمود الإنارة مُبتعدةً بعنف، واستعادت قواها لتمشي. لكن اجتاحتها موجة أخرى من الضعف مثل بحر هائج، جرفت قلبها بعيدًا خارج صدرها. توقفت فجأة، وهي تترنَّح قليلًا في مكانها، وتمتمت: «لن أصل إلى هناك أبدًا. أبدًا.»

وإذ أدركت السيدة فيرلوك الاستحالة المطلقة لأن تمشي إلى أقرب جسر، فكرت في السفر إلى خارج البلاد.

خطرت الفكرة على ذهنها فجأة. كان القتلة يَهرُبون. كانوا يَهرُبون إلى خارج البلاد. إلى إسبانيا أو كاليفورنيا. مجرَّد أسماء. الكون الفسيح المخلوق من أجل مجد الإنسان لم يكن يمثل للسيدة فيرلوك إلا فراغًا شاسعًا. لم تكن تعرف أي طريق ينبغي أن تسلكه. كان للقتلة أصدقاء، وعلاقات، ومُعاوِنون … كان لدَيهم المعرفة. أما هي فلم تكن تمتلك شيئًا. كانت الأكثر وحدةً على الإطلاق من بين القتلة الذين سددوا ضربةً قاتلة. كانت وحيدة في لندن: وكانت مدينة العجائب والطين، بشوارعها التي تُشبه المتاهة وأضوائها الكثيرة، غارقة بكاملها، في ليلة يعوزها الأمل، مُستقرةً في قاع هاوية سوداء لا تستطيع امرأة لا حول لها ولا قوة أن تَهرُب منها دون عون.

ترنحت إلى الأمام، وانطلقت من جديد من دون تروٍّ، مع خوف شديد من السقوط؛ ولكن بعد بضع خطوات، على غير المتوقَّع، شعرت بإحساس بالدعم والأمان. رفعت رأسها، فرأت وجه رجل يُحدِّق عن كثب في حجابها. لم يكن الرفيق أوسيبون يَخشى النساء الغريبات، ولا يمكن لتأدُّب زائف أن يَمنعه من أن يتعرَّف على امرأة من الواضح أنها ثملة جدًّا. كان الرفيق أوسيبون ميالًا إلى النساء. أمسك هذه المرأة بين راحتي يديه الكبيرتَين، ناظرًا إليها بطريقة احترافية حتى سمعها تقول بصوت خافت: «السيد أوسيبون!» ثم كاد أن يدعها تسقط أرضًا.

صاح: «سيدة فيرلوك! أنت هنا!»

بدا له مُستحيلًا أن تكون قد احتسَت مشروبات كحولية. ولكن لا أحد يعلم. لم يَخُض في تلك المسألة، ولكن حرصًا منه على ألا يُعادي الحظ السعيد الذي قَدَّم إليه أرملة الرفيق فيرلوك، حاول أن يضمَّها إلى صدره. أدهشَه أنها أتت بسهولة تامَّة، حتى إنها استراحت على ذراعه للحظة قبل أن تُحاول أن تُخلِّص نفسها من بين يديه. لن يكون الرفيق أوسيبون فظًّا مع الحظ السعيد. سحب ذراعه بطريقة طبيعية.

قالت متلعثمةً، وهي واقفة أمامه، ثابتةً إلى حدٍّ ما على ساقَيها: «لقد عرفتني.»

قال أوسيبون بسرعة تامة: «بالطبع عرفتكِ. خشيتُ أن تسقطي. انشغلت بالتفكير فيكِ في الفترة الأخيرة لدرجة أنه يُمكنني أن أتعرف عليكِ في أيِّ مكان، وأي وقت. إنني أفكر فيكِ دومًا … منذ أن وقعت عيناي عليكِ لأول مرة.»

بدا أن السيدة فيرلوك لم تَسمعه. قالت بعصبية: «هل كنتَ آتٍ إلى المتجر؟»

أجاب أوسيبون: «نعم؛ على الفور. بعد أن قرأتُ الصحيفة مباشرةً.»

في الواقع، ظلَّ الرفيق أوسيبون يتوارى ساعتين كاملتين في محيط شارع بريت، دون أن يقدر على أن يتخذ قرار خطوة جريئة. لم يكن اللاسلطوي القوي مبادرًا جسورًا. تذكر أن السيدة فيرلوك لم تكن قد استجابت قط لنظراته بأدنى علامات التشجيع. علاوة على ذلك، ظن أن المتجر ربما يكون تحت مراقبة الشرطة، ولم يَرغب الرفيق أوسيبون في أن تُشكِّل الشرطة فكرة مبالَغًا فيها عن عواطفه الثورية. وحتى الآن لم يكن يعرف بالضبط ما يتعين عليه فعله. مقارنةً بمجازفاته الغرامية المعتادة، كانت هذه مبادرة كبيرة وخطيرة. تجاهل مقدار ما تنطوي عليه وإلى أي مدى عليه أن يتعمق فيها من أجل أن يحصل على ما يُمكنه الحصول عليه منها؛ بافتراض أنه كانت ثمَّة فرصة على الإطلاق. هذه الأمور المُحيِّرة، التي كبحت نشوته أضفت على نبرته رزانة تتلاءم جيدًا مع الظروف.

سأل بصوتٍ خافت: «هل لي أن أسألكِ إلى أين أنتِ ذاهبة؟»

صاحت السيدة فيرلوك بعنف مكبوت اهتزَّ له جسدها: «لا تسألني!» بكل إرادة الحياة القوية لديها تراجَعَت عن فكرة الموت. «لا يهم إلى أين كنتُ ذاهبةً …»

استخلَصَ أوسيبون أنها مُنفعلة كثيرًا إلا أنها كانت متزنة تمامًا. ظلت صامتة إلى جانبه للحظة، ثم فجأةً فعلت شيئًا لم يكن يتوقعه. دسَّت يدها تحت ذراعه. أذهلَهُ هذا التصرف في حد ذاته بالتأكيد، وبنفس القدر تقريبًا أذهلتْه سِمَة العزم الجلية في هذه الخطوة. ولكن نظرًا لحساسية تلك المسألة، تصرَّف الرفيق أوسيبون بتأدب. كان قانعًا بضغط يدها قليلًا على ضلوعه القوية. وفي الوقت نفسه شعر بأنه يُدْفَع للمُضيِّ قدمًا، واستسلم لهذا الاندفاع. عند نهاية شارع بريت، أدرك أنه كان يُوَجَّه يسارًا. وأذعن لذلك.

كان بائع الفاكهة على الناصية قد أخمد الضوء الذي كان وهجُه يُضفي بهاءً على البرتقال والليمون، وخيم ظلام تامٌّ على شارع بريت بليس، تخللته هالات ضبابية من بضعة مصابيح تحدد شكلها المثلثي، إذ كانت مجموعة من ثلاثة مصابيح على حامل في المنتصف. ببطء انسابت على الجدران الهيئتان الداكنتان للرجل والمرأة المتشابكَي الذراعَين وكأنهما عاشقان مُشردان في ليلة بائسة.

سألته السيدة فيرلوك، متأبطةً ذراعه بقوة: «ماذا تقول إذا أخبرتك أنني كنت عازمة على أن أبحث عنك؟»

أجاب أوسيبون، متخيلًا أنه أحرز تقدمًا هائلًا: «سأقول إنكِ لن تجدي أحدًا أكثر استعدادًا لمساعدتك في مشكلتكِ منِّي.» في الحقيقة، كاد التقدم في هذه المسألة الحساسة يذهله.

كررت السيدة فيرلوك ببطء: «في مشكلتي!»

«نعم.»

همست بتشديد غريب: «وهل تَعرفُ ما مشكلتي؟»

شرح أوسيبون بحماسة: «بعد عشر دقائق من الاطِّلاع على الصحيفة المسائية، تقابلت مع شخص ربما تكونين قد رأيتِه مرةً أو مرتين في المتجر، وتبادلت معه حديثًا، لم يترك لديَّ أي شك فيما يدور في ذهني. ثم انطلقتُ إلى هنا، مُتسائلًا إن كنتِ … إنني مولع بكِ إلى حد تعجز الكلمات عن وصفه منذ أن وقعَت عيناي على وجهك لأول مرة.» قال ذلك صائحًا، وكأنه عاجز عن التحكُّم في مشاعره.

افترض الرفيق أوسيبون، مصيبًا، أنه لا توجد امرأة بوسعها أن تُكَذِّب مثل هذا القول. لكنه لم يكن يعلم أن السيدة فيرلوك قبلتْه بكل القوة التي تبثها غريزة التشبث بالحياة في قبضة إنسان يغرق. كان اللاسلطوي القوي لأرملة السيد فيرلوك مثل رسول حياة بهي.

مشيا ببطء بإيقاع واحد. تمتمت السيدة فيرلوك بصوت خافت: «ظننت ذلك.»

ألمح أوسيبون بثقة كبيرة: «قرأتِه في عَينَيَّ.»

همست في أذنه المائلة نحوها: «نعم.»

«لا يمكن إخفاء حبٍّ مثل حبي عن امرأة مثلكِ.» أردف، محاولًا أن يبعد عن عقله الاعتبارات المادية مثل قيمة المتجر، والمبلغ المالي الذي ربما يكون السيد فيرلوك قد تركه في البنك. كرَّس نفسه للجانب العاطفي للمسألة. وفي أعماق قلبه، كان مصدومًا قليلًا من نجاحه. كان فيرلوك رجلًا طيبًا، وبالتأكيد زوجًا محترمًا جدًّا بقدر ما يُمكن للمرء أن يرى. ومع ذلك، لم يكن الرفيق أوسيبون سيعاند حظه من أجل رجل ميت. بحزم، قمع تعاطفه مع شبح الرفيق فيرلوك وتابع حديثه.

«لم أستطع إخفاءه. كنتُ مغرمًا بكِ بكل كياني. يُمكنني القول بأنه لم يكن بوسعكِ إلا أن تري ذلك في عينَيَّ. ولكنَّني لم أستطع أن أخمن ذلك. كنتِ دومًا بعيدة جدًّا …»

صاحت السيدة فيرلوك: «وما الذي كنتَ تتوقَّعه غير ذلك؟ لقد كنت امرأة مُحترَمة …»

توقَّفت عن الكلام، ثمَّ أضافت، وكأنها تتحدَّث إلى نفسها باستياء نَكِد: «حتى جعلني ما أنا عليه الآن.»

تجاوز أوسيبون ذلك، وأمسك بدفة الحديث. استهلَّ حديثه، تاركًا الإخلاص يذهب أدراج الرياح: «لم يبدُ لي قط أنه كان جديرًا بكِ. كنتِ تستحقِّين مصيرًا أفضل.»

قاطعته السيدة فيرلوك بنبرة فيها مرارة:

«مصيرًا أفضل! ظل يخدعُني لمدة سبع سنين من حياتي.»

«كنت تبدين سعيدة جدًّا معه.» حاول أوسيبون أن يبرئ فتور سلوكه السابق. أضاف: «وهذا ما جعلني خجلًا. كان يبدو أنكِ تُحبينه. كنتُ مُتفاجئًا … وغيورًا.»

صاحت السيدة فيرلوك في همس مليء بالسُّخرية والغضب: «أحبه!» «أحبه! كنت زوجة صالحة له. أنا امرأة محترمة. كنتَ تظنُّ أنني أحبه! كنت تظن ذلك! اسمع، يا توم …»

ابتهج الرفيق أوسيبون فخرًا لما سمع اسمه. وذلك لأن اسمه كان ألكسندر، وكان يُدعى توم اتفاقًا مع أقرب المقربين منه. كان الاسم الدارج بين أصدقائه … اسم لحظات التبسط. لم يكن لديه أي فكرة عن أنها كانت قد سمعَت أيَّ شخص يستخدمه من قبل. كان واضحًا أنها لم تكن قد التقطته فحسب، بل خزَّنته في ذاكرتها … وربما في قلبها.

«اسمع يا توم! كنت فتاة صغيرة. كنت مُستنزَفة. كنت متعبة. كان لديَّ شخصان يعتمدان على ما يُمكنني فعله، وبدا بالفعل أنني لم أكن أستطيع أن أفعل أكثر مما كنت أفعل. شخصان؛ أم وصبي. كان ابنًا لي أكثر مما كان ابنًا لأمي. سهرت ليالي ولياليَ وهو في حضني بمفردنا في الطابق العلوي حينما لم يكن عمري قد تجاوز ثمانية أعوام. وبعد ذلك؛ كان ابنًا لي … لا يُمكنك أن تفهم ذلك. لا يوجد رجل بوسعه أن يفهم ذلك. ما الذي كان يُمكنني فعله؟ كان ثمة فتًى صغير …»

انتعشَت ذِكرى الرومانسية المبكرة مع الجزار الشاب وظلَّت حاضرة مثل صورة مثالية خاطفة في ذلك القلب الذي يئنُّ في مواجَهة الخوف من المشنقة ومليء بالتمرد على الموت.

أردفت أرملة السيد فيرلوك: «ذلك كان الرجل الذي أحببتُه في ذلك الوقت.» «أظن أنه استطاع أن يرى ذلك الحب في عيني أيضًا. خمسة وعشرون شلنًا في الأسبوع، وهدَّده والده بأن يطرده من العمل لو تصرف بتلك الحماقة وتزوج بفتاة تَرعى أمًّا مقعدة وصبيًّا أحمقَ مخبولًا. لكنه ظلَّ يحوم حولي، حتى واتتْني الشجاعة في إحدى الأمسيات أن أغلق الباب في وجهه. كنت مُضطرَّة إلى فعل هذا. أحببتْه كثيرًا. خمسة وعشرون شلنًا في الأسبوع! كان ثمَّة ذلك الرجل الآخر؛ نزيل طيب. ما الذي يُمكن لفتاة فعله؟ هل كان يمكن أن أتيه في الشوارع؟ بدا لطيفًا. كان يُريدني على أيِّ حال. ما الذي كان عليَّ أن أفعله مع أمي ومع ذلك الفتى البائس؟ ماذا؟ وافَقْت. بدا طيب القلب، وكان سخيًّا، ويملك المال، ولم يَقُل شيئًا على الإطلاق. سبع سنوات … سبع سنوات ظللت فيها زوجة وفية له، ذلك العطوف، الطيب، الكريم، اﻟ… كما أنه أحبني. أوه نعم. أحبني حتى تمنَّيت لنفسي في بعض الأحيان … سبع سنوات. سبع سنوات زوجة له. وهل تعرف ماذا كان، صديقك العزيز ذاك؟ هل تعرف ماذا كان؟ كان شيطانًا!»

العنف الفائق في ذلك البيان الهامس صعق الرفيق أوسيبون. استدارت ويني فيرلوك نحوه وأمسكته من كلتا ذراعَيه، وواجهته تحت رذاذ المطر المتساقط في ظلمة شارع بريت بليس ووحشته، الذي بدت فيه كل أصوات الحياة مفقودة وكأنَّهما في بئر مثلثة الشكل من الأسفلت والطوب، ومن بيوت مُبهَمة وأحجار جامدة.

بنوع من الغباء الواهن، الذي كان جانبه الفكاهي غائبًا عن امرأة يُطاردها الخوف من حبل المشنقة، قال: «لا، لم أكن أعرف. أنا … أنا أفهم.» تخبط في الحديث وأخذ عقله يتكهن نوع الفظائع التي يُمكن أن يكون فيرلوك قد مارسها في ستر المظاهر الخاملة والهادئة لزواجِه. كانت مريعة بالتأكيد. كرَّر: «أفهم.» ثم بإلهام مفاجئ تلفظ بعبارة «امرأة تعيسة!» بمواساة نبيلة بدلًا من القول الأكثر حميمية «عزيزتي المسكينة!» كما اعتاد أن يقول. لم تكن هذه حالة عادية. أدرك أن شيئًا غير طبيعي يجري، بينما لم يَغِب عن ناظره قط عِظَم الرهان. «امرأة تعيسة شجاعة!»

سَرَّه أنه اكتشف ذلك الاختلاف، ولكنَّه لم يستطع أن يكتشف أي شيء آخر.

«آه، ولكنه ميت الآن.» كان أفضل ما استطاع فعله. وأضفى قدرًا كبيرًا من العداء في هتافه المتحفظ. أمسكَت السيدة فيرلوك بذراعه بنوع من الجنون.

تمتمت، وكأنها ذاهلة: «لقد خمَّنت إذن أنه قد مات. أنت! خمَّنت ما اضطُررت إلى فعله. اضطررت إلى ذلك!»

كان ثمة إيحاءات بالانتصار، والارتياح، والامتنان في النبرة الغامضة التي قيلت بها هذه الكلمات. استحوذت على كل انتباه أوسيبون على حساب المعنى الحرفي المجرد. تساءل ما خطبها، ولماذا أقحمت نفسها في هذه الحالة من الانفعال الجامح. بدأ حتى يتساءل عما إن كانت الأسباب الخفية لواقعة جرينتش بارك تلك كامِنة في الظروف التعيسة لحياة فيرلوك الزوجية. ذهب به التفكير إلى حدِّ الشك في أن السيد فيرلوك قد اختار الانتحار بتلك الطريقة غير العادية. يا إلهي! ذلك من شأنه أن يفسر التفاهة المطلقة والتوجه الخاطئ بشأن الأمر. لم تتطلب الظروف مظهرًا لا سُلطويًّا. على النقيض تمامًا؛ وكان فيرلوك على علم تام بذلك مثل أي ثوري آخر في منزلته. يا لها من مُزحة هائلة لو كان فيرلوك ببساطة قد استغفل أوروبا بأكملها، والعالم الثَّوري، والشرطة، والصحافة، والبروفيسور المغرور أيضًا. في الحقيقة، فكر أوسيبون في نفسه، بذهول، أنه بالفعل يبدو أنه من شبه المؤكَّد لأنه قد فعل! يا له من رجل بائس! خطر له أنه من المحتمل جدًّا أن في تلك الأسرة المكوَّنة من فردين لم يكن الرجل هو الشيطان على وجه التحديد.

كان ألكسندر أوسيبون، الملقَّب بالطبيب، يَميل بطبعه إلى أن يفكر بتساهل بشأن أصدقائه من الرجال. رمق السيدة فيرلوك وهي متعلقة بذراعه. كان يفكر بشأن صديقاته من النساء تفكيرًا عمليًّا بوجهٍ خاصٍّ. لم يشغله كثيرًا السبب وراء تعجب السيدة فيرلوك من علمه بموت فيرلوك، الذي لم يكن تخمينًا على الإطلاق. كثيرًا ما يتحدثن كالمجانين. ولكن انتابه فضول لأن يعرف كيف علمت بذلك. لم يكن مُمكنًا للصحف أن تخبرها بأي شيء أكثر من الحقيقة المجردة: الرجل الذي تفجَّر إلى أشلاء في جرينتش بارك لم يُتَعَرَّف على هويته بعد. ولا يمكن تصور، بناءً على أي فرضية من الفرضيات، أن فيرلوك قد ألمح لها عن نيته، مهما كانت. هذه المشكلة أثارت اهتمام الرفيق أوسيبون للغاية. توقف فجأة. كانا عندئذٍ قد سارا في الجهات الثلاث لبريت بليس، وكانا قريبَين من نهاية شارع بريت مرة أخرى.

تساءل، بنبرة حاول أن يجعلها مناسبة لطبيعة ما كانت قد باحت به المرأة الواقفة بجانبه: «كيف وصل الأمر إلى مَسامعكِ لأول مرة؟»

انتفضت بعنف لبرهة قبل أن تُجيب بصوت فاتر.

«من الشرطة. أتى كبير مفتشين، قال إنه كبير المفتشين هيت. أراني …»

اختنقَت السيدة فيرلوك. «آه يا توم، اضطرُّوا إلى جمع أشلائه بمجرفة.»

علا صدرها ببكاء من دون دموع. بعد هُنيهة، تمكن أوسيبون من الكلام.

«الشرطة! هل تقصدين أن الشرطة أتت بالفعل؟ أن كبير المفتِّشين هيت أتى بنفسه وأخبرك.»

أكدت بتلك النبرة الفاترة: «نعم. أتى ببساطة هكذا. أتاني. لم أكن أعلم. أراني قطعة قماش من معطف، و… هكذا ببساطة. هل تَعرفين هذا؟ هذا ما قاله.»

«هيت! هيت! وماذا فعل؟»

طأطأت السيدة فيرلوك رأسها. تمتمَت بنبرة مفجوعة: «لا شيء. لم يفعل شيئًا. ذهب إلى حال سبيله. كانت الشرطة في جانب ذلك الرجل. أتى واحد آخر أيضًا.»

سأل أوسيبون، بانفعال كبير، وبنبرة تُشبه كثيرًا طفلًا مرعوبًا: «آخر … هل تَقصدين مفتِّشًا آخر؟»

«لا أعلم. أتاني. بدا أنه أجنبي. ربما كان أحد رجال السفارة.»

كاد الرفيق أوسيبون أن يخر تحت وقع هذه الصدمة الجديدة.

«سفارة! هل أنت مُدركة لما تقولين؟ أي سفارة؟ بحق السماء ما الذي تَقصدينه بالسفارة؟»

«إنها ذلك المكان في ميدان تشيشام. الأناس الذين كان يَلعنهم كثيرًا. لا أعلم. ما أهمية ذلك!»

«وما الذي فعله أو قاله ذلك الشخص معك؟»

توسلت بصوت ضجر: «لا أتذكر … لا شيء … لا يُهمُّني. لا تسألني.»

وافق أوسيبون برقة: «حسنًا. لن أفعل.» وكان يَعني هذا أيضًا، ليس لأنه تأثر بالتأسي في الصوت المُتوسِّل، ولكن لأنه شعر بأنه ينزلق في أعماق هذه المسألة المُبهمة. الشرطة! السفارة! أوف! خَوفًا من أن يُغامر بذكائه في طرق قد تَقْصُر ومَضاته الطبيعية عن أن ترشده فيها بأمان، طرد بحزم من عقله جميع الافتراضات والتكهُّنات والنظريات. المرأة بين يديه، ترمي بنفسها بين ذراعيه بكل معنى الكلمة، وكان ذلك هو الاعتبار الرئيسي. ولكن بعد الذي سمعه، لم يعد يُمكن لأي شيء أن يدهشه. وعندما بدأت السيدة فيرلوك، وكأنما استفاقت فجأةً مُرتاعة من حلم بالأمان، تلحُّ عليه بشدة بضرورة الهروب فورًا إلى أوروبا، لم يبدِ اندهاشَه على الإطلاق. قال ببساطة وبأسف غير متكلَّف إنه لا توجد قطارات حتى الصباح، ووقف يُمعن النظر في وجهها المحجوب بشبكة سوداء في ضوء مصباح غاز محجوب بطبقة شفافة من الرذاذ.

بالقرب منه، اندمجت هيئتها القاتمة مع ظُلمة الليل، مثل جسم منحوت جزئيًّا من كتلة من حجارة سوداء. كان من المُستحيل أن يُخمِّن ما كانت تعرفه، ومدى تورطها مع رجال الشرطة والسفارات. ولكن إن أرادت أن تهرب، لم يكن من شأنه أن يعترض. كان هو نفسه متلهفًا إلى الهروب خارج البلاد. شعر أن العمل — المتجر المألوف بغرابة شديدة لكبار المفتشين وأعضاء من سفارات أجنبية — لم يكن المكان المناسب له. لا بدَّ من إسقاط ذلك من حساباته. ولكن كان يوجد بقية الأمور. تلك المدخرات. الأموال!

قالت بصوت مفزوع: «يجب أن تُخبِّئني حتى الصباح في مكان ما.»

«الحقيقة، يا عزيزتي، أنني لا أستطيع أن آخذكِ إلى حيث أقطن. فأنا أتشارك الغرفة مع صديق.»

كان هو نفسه يشعر بالفزع نوعًا ما. لا شك في أن المخبرين المباركين سيَنتشرُون في جميع محطات القطارات في الصباح. وإن أمسكوا بها لسببٍ أو لآخر، فستضيع من بين يديه بالتأكيد.

«لكن يجب أن تفعل. ألا يُهمُّكَ أمري على الإطلاق … على الإطلاق؟ ما الذي تُفكِّر فيه؟»

قالت تلك العبارات مُنفعِلة، ولكنها تركت يديها المتشبثتين به تسقطان بإحباط. خيم الصمت، وبينما كان رذاذ المطر يسقط، وساد الظلام التام على بريت بليس. لم يَدنُ أي مخلوق، ولا حتى قطة شريدة وجامحة ومتوددة من الرجل والمرأة اللذين كانا يقف أحدهما في مواجهة الآخر.

تكلم أوسيبون أخيرًا: «ربما يكون من الممكن أن أعثر على مأوًى آمن في مكان ما. ولكن الحقيقة، يا عزيزتي، أنا لا أملك ما يكفي من المال من أجل أن أذهب وأحاول … بضعة بنسات فقط. نحن الثوريِّين لسنا أغنياء.»

كان معه خمسة عشر شلنًا في جيبه. أضاف:

«وثمة رحلة أمامنا أيضًا … هذا أول شيء سنفعله في الصباح.»

لم تتحرَّك ولم تُصدِر أي صوت، وشعر الرفيق أوسيبون بخيبة الأمل قليلًا. ظاهر الأمر أنها لم تكن تملك أي اقتراح لتعرضه. وفجأة، قبضَت على صدرها، وكأنها شعرت بألم حاد فيه.

شهقت قائلة: «ولكن أنا معي. أنا أملك المال. أملك مالًا كافيًا. توم! لنذهب من هنا.»

سألها، دون أن يَتحرَّك استجابةً لشدِّها له؛ لأنه كان رجلًا حذرًا: «كم معك من المال؟»

«قلت لك إنني أملك المال. كل المال.»

سأل بارتياب، ولكن بميل إلى ألا يندهش من أي شيء يأتي عن طريق الحظ: «ما الذي تعنينه بذلك؟ هل تقصدين كل المال الذي كان في البنك، أم ماذا؟»

قالت بعصبية: «أجل، أجل! كل ما كان فيه. كله معي.»

سأل مُتعجبًا: «كيف بحق السماء تمكنتِ من الحصول عليه بهذه السرعة؟»

ارتعش صوتها وخفَتَ فجأة، وتمتمت: «هو أعطاني إياه.» أخمد الرفيق أوسيبون دهشته المتصاعدة بصرامة شديدة.

وقال ببطء: «عجبًا، إذن … فقد نجونا.»

مالت إلى الأمام، وارتمت على صدره. تلقَّاها عليه بترحيب. كان معها المال كله. كانت قبعتها تقف في طريق مشاعر متدفقة واضحة جدًّا؛ وكذلك حجابها. كانت تعبيراته عن مشاعره كافية، ولكن لا أكثر من ذلك. استقبلتها دون مقاومة ودون استسلام، بسلبية، وكأنها شبه متزنة. حرَّرت نفسها من عناقه الفاتر دون صعوبة.

تراجعت، ولكن ظلت مُتمسكة به من طيتي صدر معطفه الرطب، وانفجرت تصرخ: «أنقذني يا توم. أنقذني. خبِّئني. لا تدعهم يُمسكون بي. يجب أن تقتلني أولًا. لا أستطيع أن أفعل ذلك بنفسي … لا أستطيع، لا أستطيع … ولا حتى من أجل ما أخشاه.»

قال لنفسه إنها غريبة بطريقة مُحيِّرة. بدأت تثير فيه قلقًا غير محدود. قال بفظاظة، لأنه كان منشغلًا بأفكار مهمة، قال مؤكدًا:

«ما «الذي» تخشَينه بحق الشيطان؟»

صاحت المرأة: «ألم تُخمِّن ما الذي دُفِعتُ إلى ارتكابه!» متشتتة تحت تأثير واقعية مخاوفها المروعة، ورأسها يعج بكلمات مُدوية، جعلت الرعب من وضعها لا يغيب عن عقلها، كانت قد تخيَّلت أن عدم ترابط كلامها هو الوضوح نفسه. لم تكن تعي مدى قلَّة ما كانت قد قالته بكلمات مسموعة في العبارات المفكَّكة التي لم تكتمل إلا في ذهنها. كانت قد شعرت بارتياح الإدلاء باعتراف كامل، وأعطت معنًى خاصًّا لكل جملة تفوَّه بها الرفيق أوسيبون، الذي لم تكن معرفته تُضاهي ما كانت تعرفه على الإطلاق. انخفض صوتها: «ألم تُخمن ما دُفِعْتُ إلى ارتكابه!» أردفت بتمتمة مريرة وحزينة: «لا تحتاج إلى التفكير طويلًا كي تُخمِّن ما أخشاه. لن تُلَفَّ حول عنقي. لن يحدث. لن يحدث. لن يحدث. يجب أن تعدَني بأن تقتلني أولًا!» هزت طيات معطفه. وأردفت: «يجب ألا يحدث ذلك!»

أكَّد لها باقتضاب أنه لا ضرورة لأن يقطع لها وعودًا من جانبه، لكنَّه حرص على ألا يُعارضها بعبارات محدَّدة؛ لأنه كان لديه باع طويل في التعامل مع النساء المنفعلات، وكان يَميل في العموم إلى أن يدع خبرته توجه سلوكه مُفضِّلًا أن يستخدم حكمته مع كل حالة خاصة. كانت حكمته في هذه الحالة مشغولة في اتجاهات أخرى. كانت كلمات النساء تسقط في البحر، ولكن أوجه الخلل في جداول المواعيد باقية. الطبيعة المنعزلة لبريطانيا العُظمى بحكم كونها جزيرة فرضت نفسها على ملاحظته بطريقة بغيضة. فكر بانفعال، وحيرة وكأن أمامه جدارًا عليه أن يتسلَّقه بتلك المرأة على ظهره: «قد يكون من الجيد أن أخبئها في مكان آمن كل ليلة.» فجأة صفع جبهته. كان قد تذكر بعدما اعتصر ذهنه في خدمة ساوثهامبتون، سانت مالو. غادر القارب في منتصَف الليل تقريبًا. كان يوجد قطار في الساعة العاشرة والنصف. أصبح مبتهجًا ومستعدًّا للتصرُّف.

«من ووترلو. متَّسع من الوقت. اتفقنا أخيرًا …» واعترض قائلًا: «ما الخطب الآن؟ هذا ليس الطريق.»

حاولت السيدة فيرلوك، بعدما تأبَّطت ذراعه بذراعها، أن تسحبَه مرةً أخرى إلى شارع بريت.

همست، مُنفعلةً للغاية: «نسيَت أن أقفل باب المتجر عندما خرجت.»

لم يَعُد الرفيق أوسيبون يهتمُّ بالمتجر وبكل ما كان فيه. كان يعلم كيف يكبح رغباته. أوشك أن يقول «وماذا في ذلك؟ فليكن» ولكنه امتنع عن ذلك. كان يكره الجدال حول تفاهات. بل إنه عدَّل سرعة خطوه كثيرًا ظنًّا منه أنها ربما تكون قد تركت المال في الدرج. ولكن همته كانت أبطأ من نفاد صبرها المحموم.

بدا المتجر مُظلمًا تمامًا للوهلة الأولى. كان الباب مواربًا. قالت السيدة فيرلوك لاهثةً، وهي تَستند على الواجهة:

«لم يدخل أحد. انظر! الضوء؛ الضوء في غرفة المعيشة.»

مد أوسيبون رأسه إلى الأمام، فرأى ضوءًا خافتًا وسط ظلام المتجر.

قال: «موجود.»

أتى صوت السيدة فيرلوك من خلف حجابها خافتًا: «نسيته.» وإذ انتظر أن تدخل هي أولًا، قالت بصوت أعلى: «ادخل وأطفئه … وإلا فسأجن.»

لم يُبدِ أي اعتراض فوري على هذا الاقتراح، بدافع غريب جدًّا. سأل: «أين كل ذلك المال؟»

صاحت، مُمسكةً بكتفيه من الخلف: «معي! اذهب يا توم. بسرعة! أطفئه … ادخل!»

غير مُستعدٍّ لاستعراض قوته الجسدية، تعثَّر الرفيق أوسيبون وقطع شوطًا داخل المتجر بسبب دفعتها. دُهِش من قوة المرأة وصُدِم مما فعلته. لكنه لم يَعُد أدراجه من أجل أن يعنفها محتجًّا في الشارع. كان قد بدأ يتولَّد لديه انطباع سيئ بسبب سلوكها الغريب. علاوة على ذلك، كان هذا هو الوقت المُناسب كي يُلاطف المرأة، وإلا فلن تَحين الفرصة ثانيةً أبدًا. بسهولة تحاشى الرفيق أوسيبون حافة منضدة البيع، واقترب بهدوء من باب غرفة المعيشة المزجج. وإذ كانت الستارة على الألواح الزجاجية مُتراجعة قليلًا، بدافع طبيعي جدًّا، نظر إلى الداخل، في اللحظة التي كان يستعد فيها لإدارة مقبض الباب. نظر إلى الداخل دون تفكير، ودون قصد، وفضول من أي نوع. نظر إلى الداخل لأنه لم يَستطع أن يمنع نفسه من النظر إلى الداخل. نظر إلى الداخل، واكتشف أن السيد فيرلوك كان ممددًا في هدوء على الأريكة.

تلاشت صرخة خرجت من أعمق أعماق صدره دون أن يسمعها أحد وتحولت إلى طعم دهني غث على شفتَيه. في الوقت نفسه نفذ الرفيق أوسيبون ذهنيًّا قفزةً جنونية إلى الوراء. ولكن جسده — الذي تُرك هكذا من دون توجيه من عقله — ظل مُمسكًا مقبض الباب بقوة غريزية ذاهلة. لم يترنَّح اللاسلطوي القوي البِنية على الإطلاق. ووقف يحملق، ووجهه قريب من زجاج الباب، وعيناه تكادان تَخرُجان من محجرَيهما. لو كان الأمر بيده لقَدَّم أي شيء مُقابل أن يهرب، ولكن عقله الذي كان قد عاد إليه أنبأه بأنه ليس من التعقل أن يترك مقبض الباب. ماذا كان هذا، جنون، أم كابوس، أم فخ خُدِع ليقع فيه بمهارة شيطانية؟ لماذا؛ ما السبب؟ لم يكن يعرف. دون أي شعور بالذنب في صدره، وبكامل سلامة ضميره فيما يخص هؤلاء الناس، لم تمرَّ بعقله فكرة أن يَقتله فيرلوك وزوجته لأسباب لا يعرفها بقدر ما مرت بتجويف معدته، وتلاشَت، مُخَلِّفَةً أثر شعور بالغثيان؛ وتوعُّك. شعر الرفيق أوسيبون على نحو خاص جدًّا بأنه لم يكن على ما يُرام للحظة؛ لحظة طويلة. وأخذ يُحملق. في هذه الأثناء، كان السيد فيرلوك مُستلقيًا بلا حراك، مُتظاهرًا بالنوم لأسباب تخصُّه، بينما كانت تلك المرأة المتوحشة تَحرس الباب؛ غير مرئية وصامتة في الشارع المظلم والمهجور. هل كان كل هذا ترتيبًا مرعبًا من نوع ما اخترعته الشرطة للإيقاع به؟ خجل تواضُعُه من ذلك التفسير.

لكن المعنى الحقيقي للمشهد الذي كان أوسيبون يراه جاءه من خلال التأمُّل في القبعة. بدت قبعة غير عادية، نذير شؤم، علامة. كانت تقبع، سوداء وحافتها نحو الأعلى، أمام الأريكة وكأنها مُستعدة لاستقبال المساهمات بالبنسات ممَّن سيأتون بعد قليل لمشاهدة السيد فيرلوك في كامل راحته المنزلية مضطجعًا على الأريكة. ومن القبعة، جالت عينا اللاسلطوي القوي إلى الطاولة المزاحة من مكانها ونظر إلى الطبق المكسور لبعض الوقت، وأصيب بنوع من الصدمة البصرية لما لاحظ ومضة بيضاء من تحت الجفنين غير المغلقين تمامًا للرجل الممدد على الأريكة. لم يبدُ السيد فيرلوك نائمًا الآن بقدر ما كان مُستلقيًا ورأسه منحنية وينظر بإصرار إلى الجهة اليسرى من صدره. وبعدما كان الرفيق أوسيبون قد لاحظ مقبض السكين، استدار مُبتعدًا عن الباب المزجَّج، وشعر برغبة شديدة في التقيؤ.

الاصطدام بباب الشارع الذي اندفع نحوه قذف الرعب في صدر الرفيق أوسيبون. كان لا يزال من الممكن أن يكون هذا المنزل وساكنه غير المؤذي فخًّا؛ فخًّا مروعًا. لم يستقر الرفيق أوسيبون حينئذٍ على تصور لما كان يحدث له. ارتطمت فخذه بحافة منضدة البيع، فاستدار وترنح مُطلقًا صرخةَ ألم، وشعر مع صلصلة الجرس المزعجة بذراعيه تُشَل حركتهما على جانبيه بعناق متشنج بينما تحرَّكت شفتا امرأة باردتان برُعب أمام أذنه تصيغان هذه الكلمات:

«شرطي! لقد رآني!»

توقف عن المقاومة؛ لم تُطلق سراحه مطلقًا. تشابكت يداها بانثناء لا يُمكن فصله للأصابع على ظهره القوي. بينما كانت الخطوات تدنُو، تسارَع تنفُّسُهما، وصدراهما مُتقابلان، بأنفاس عسيرة مجهدة، وكأنهما كانت وضعيتهما هي وضعية صراع مُميت، بينما كانت، في الحقيقة، وضعية خوف مميت. وكان الوقت طويلًا.

كان شرطي الدورية قد لاحظ في حقيقة الأمر شيئًا بشأن السيدة فيرلوك؛ لما كان آتيًا للتو من الطريق المضاء في النهاية الأخرى لشارع بريت، لم يكن قد رآها أكثر من شيء يتحرك في الظلام. ولم يكن حتى متأكدًا تمام التأكُّد من أنه كان قد رأى حركة. لم يكن لديه أي داعٍ للاستعجال. عندما أصبح في مواجهة المتجر، لاحظ أنه كان قد أُغْلِق في وقت مبكر. لم يكن يوجد شيء غير عادي في ذلك. كان لدى رجال الشرطة المنوطين بالخدمة تعليمات خاصة بشأن ذلك المتجر؛ كان يجب عدم التدخُّل فيما كان يجري هناك ما لم يُخلَّ بالنظام تمامًا، ولكن كان يجب الإبلاغ عن أي ملاحظات هناك. لم تكن توجد أي ملاحظات يتعين الإبلاغ عنها؛ ولكن بدافع من حسِّ الواجب وسلامة الضمير، وأيضًا بسبب تلك الحركة المريبة في الظلام، عبر الشرطي الطريق وحاول فتح الباب. كان المزلاج الزنبركي، الذي كان مفتاحه قابعًا خارج الخدمة للأبد في جيب صدرية السيد فيرلوك الراحل، مُغلقًا بإحكام كالمعتاد. بينما كان الشرطي يقظ الضمير يهزُّ المقبض، أحس أوسيبون بشفتي المرأة الباردتين وهما تتحرَّكان برعب مرة أخرى أمام أذنه:

«إذا دخل اقتلني … اقتلني يا توم.»

تحرك الشرطي مُبتعدًا، مسلطًا بينما كان يمر ضوء فانوسه المعتم، في مجرد إجراء روتيني، على نافذة المتجر. للحظة أطول، وقف الرجل والمرأة بالداخل دون حراك، يَلهثان، وصدراهما متقابلان؛ ثم فكَّت تشابك أصابعها، وسقط ذراعاها بجانبها ببطء. مال أوسيبون مستندًا على منضدة البيع. كان اللاسُلطوي القوي بحاجة إلى معاونة عاجلة. كان هذا مُروِّعًا. كان يشعر باشمئزاز شديد كاد يمنعه من الكلام. ولكنه تمكَّن من صياغة فكرة حزينة في كلمات، مبينًا على الأقل أنه أدرك موقفه.

«دقيقتان أُخريان وكنتِ ستجعلينني أرتكب غلطة شنيعة في حق الرجل الذي يدور مفتِّشًا حول المكان هنا بمِصباحه المُعتم اللعين.»

بإصرار قالت أرملة السيد فيرلوك، الواقفة بلا حراك في وسط المتجر:

«ادخل وأطفئ ذلك المصباح يا توم. سيقودني إلى الجنون.»

رأت بغير وضوح إيماءته العنيفة الدالة على الرفض. لم يكن يوجد شيء في الكون يمكن أن يغري أوسيبون بالدخول إلى غرفة المعيشة. لم يكن يؤمن بالخرافات، ولكن كان يوجد الكثير جدًّا من الدماء على الأرضية؛ بركة بغيضة من الدماء حول القبَّعة. قرر أنه كان قد اقترب بالفعل من تلك الجثة أكثر مما ينبغي لسلامة عقله … وربما أكثر مما ينبغي لسلامة عنقه!

«عند العداد إذن! هناك. انظر. في ذلك الركن.»

بخطًى حادَّة خطا جسد الرفيق أوسيبون القوي عبر المتجر تكسُوه الظلال، وجثم في الركن بخضوع؛ لكن هذا الخضوع كان دون رشاقة. تلمس مُتخبطًا بعصبية؛ وفجأة بصوت تمتمة مصحوبة بلعنات، انطفأ المصباح خلف الباب المزجج يرافقه تنهُّد امرأة لاهث هستيري. كان الليل، المُكافأة المحتومة للرجال الكادحين المخلصين على هذه الأرض؛ قد أرخى أستاره على السيد فيرلوك، الثوري الخبير — «أحد قدامى الثوريين» — وحامي حمى المُجتمع المتواضع؛ العميل السري فائق القيمة «دلتا» لإرساليات البارون ستوت فارتنهايم؛ خادم القانون والنظام، المخلص، الموثوق فيه، الدقيق، والمثير للإعجاب، ربما مع نقطة ضعف لطيفة وحيدة: الإيمان المثالي بكونه محبوبًا لذاته.

تحسس أوسيبون طريقه عائدًا إلى منضدة البيع عبر الجو الخانق الذي صار الآن أسودَ كالحبر. ارتعش خلفه صوت السيدة فيرلوك، الواقفة في وسط المتجر، في تلك العتمة باحتجاج مُستميت.

«لن أُشْنَق يا توم. لن …»

توقفت فجأة عن الكلام. أصدر أوسيبون من عند منضدة البيع تحذيرًا: «لا تَصيحي هكذا.» ثم بدا أنه أخذ يتأمل بعُمق. تساءل بصوت عميق، ولكن مع تظاهره بهدوء مُتسلِّط ملأ قلب السيدة فيرلوك بثِقة متَّسمة بالامتنان في قدرته على حمايتها: «ارتكبتِ هذه الفعلة بمفردكِ تمامًا؟»

همست، غير مرئية في الظلام: «نعم.»

تمتم: «ما كنتُ لأُصدِّق أن هذا مُمكن. لا أحد سيُصدق.» سمعته يمشي في المكان وسمعت صوت طقطقة قفل في باب غرفة المعيشة. كان الرفيق أوسيبون قد أدار المفتاح وأقفل باب الغرفة على جسد السيد فيرلوك الراقد؛ ولم يفعل هذا احترامًا لطبيعته الأبدية ولا لأي اعتبارات عاطفية مُبهمة أخرى، ولكن لسبب محدد هو أنه لم يكن متأكدًا تمام التأكد من عدم وجود شخص آخر مُختبئ في مكان ما بالمنزل. لم يصدق المرأة، أو بالأحرى لم يكن قادرًا حينئذٍ على الحكم على ما يُمكن أن يكون صحيحًا، أو مُمكنًا، أو حتى محتملًا في هذا الكون المذهل. كان مرتعبًا إلى حدِّ أنه لم يكن لديه أي قدرة على تصديق أو عدم تصديق أي شيء بخصوص هذه القضية غير العادية، التي بدأت بمُفتشي الشرطة والسفارات ولا يعلم إلا الله أين ستَنتهي، ربما بأن يُوضع شخص ما على منصة الإعدام. كان مُرتعبًا من فكرة ألا يستطيع إثبات كيف أمضى وقته منذ الساعة السابعة؛ لأنه كان يتسكع في شارع بريت. كان مرتعبًا من هذه المرأة المتوحِّشة التي جلبته إلى ذلك المكان، وربما تورطه في تهمة التواطؤ في تلك الجريمة، على الأقل إن لم يكن حذرًا. كان مُرتعبًا من السرعة التي صار بها متورطًا في تلك المخاطر، ومن الوقوع في شركها. كان قد مر على مقابلته لها نحو عشرين دقيقة، لا أكثر.

زاد خفوت صوت السيدة فيرلوك، مُتوسلةً بطريقة مثيرة للشفقة: «لا تدعهم يشنقونني يا توم! أخرجني من البلاد. سأكون خادمةً لك. سأكون مُستعبَدةً لك. سأحبك. ليس لي أحد في العالم … من سينظر لي إن لم تفعل أنت!» توقفت للحظة؛ ثم في أعماق الوحدة التي أحاطت بها بسبب قطرات دم تافهة تتقاطَر من مقبض سكين، راودها وحي أفكار مروعة، هي من كانت الفتاة المحترمة في منزل بلجرافيا، والزوجة المخلصة المحترمة للسيد فيرلوك. همست بنبرة يشوبها الخزي: «لن أطلب منك أن تتزوَّجني.»

تقدمت خطوة إلى الأمام في الظلام. كان مُرتعبًا منها. ما كان سيُفاجئه أن تُخْرِج فجأةً سكينًا أخرى وتُغمدها في صدره. ما كان سيبدي أي مقاومة بالتأكيد. في الواقع، لم يكن لديه الجرأة الكافية ليطلب منها أن تبقى بعيدة عنه. ولكنه تساءل بنَبرة عميقة وغريبة: «هل كان نائمًا؟»

بكت، وأردفت بسرعة: «كلا. لم يكن نائمًا. لم يكن. كان يقول لي أن لا شيء يُمكن أن يصيبه. بعدما أخذ الولد من تحت ناظري كي يَقتله؛ ذلك الفتى المحب البريء العديم الأذى. فتاي، قلت لك. كان يضطجع على الأريكة مطمئنًّا تمامًا … بعدما قتل الفتى … فتاي. كنت سأمضي في الشوارع كي أغرب عن وجهه. وقال لي ببساطة هكذا: «تعالَي هنا»، بعدما قال لي إنني ساعدته في قتل الفتى. أتسمع يا توم؟ قال لي ببساطة هكذا: «تعالي هنا»، بعدما انتزع قلبي مني ومعه الفتى ليرميه في الوحل.»

توقفت، ثم كررت مرتين بنبرة ذاهلة: «الدم والوحل. الدم والوحل.» سطع نور قوي في عقل الرفيق أوسيبون. لقد كان الفتى المخبول هو من لقيَ حتفَه في الحديقة. وبدا خداع الجميع من كل النواحي أكثر اكتمالًا من ذي قبل، بدا هائلًا. صاح مُدركًا، في قمة دهشته: «المخبول … يا للسماء!»

ارتفع صوت السيدة فيرلوك مرةً أخرى: «تعال إلى هنا.» وتابعت: «من ماذا كان يَظنُّني أنني خُلِقْت؟ قل لي يا توم. تعال إلى هنا! أنا! هكذا! كنت أنظر إلى السكين، وفكرت في نفسي قائلة سآتي إذن إذا كان يُريدني إلى هذه الدرجة. أوه نعم! أتيت … للمرة الأخيرة … ومعي السكين.»

كان مُرتعبًا منها للغاية … شقيقة مخبول العقل … هي نفسها مخبولة من نوع قاتل … أو من النوع الكاذب. يُمكن القول بأن الرفيق أوسيبون كان مُرتعبًا بطريقة إدراكية بالإضافة إلى جميع أنواع الخوف الأخرى. كان خوفًا غير محدود ومُركَّب، من شدة إفراطه أضفى عليه في الظلام مظهرًا زائفًا من الهدوء والتفكير العميق. ولذلك كان يتحرَّك ويتكلَّم بصعوبة، وكأن إرادته وتفكيره شبه متجمدين، ولا يُمكن لأحد أن يرى وجهه المرتعب. شعر كأنه شبه ميت.

وثب بارتفاع قدم. على نحو غير متوقع، كانت السيدة فيرلوك قد انتهكت آداب السلوك المتحفظ الثابتة لبيتِها بصرخة حادة ومرعبة.

«ساعدني يا توم! أنقذني. لن أُشْنَق!»

اندفع إلى الأمام، وأخذ يتحسَّس بحثًا عن فمها ليُسكِتَها بيده، وخمدت الصرخة. ولكن في اندفاعه كان قد أطاح بها أرضًا. شعر بها الآن مُتشبِّثة بساقيه، ووصل رعبه إلى ذروته، وصار نوعًا من الثمالة، أضمر أوهامًا، واكتسب سمات الهذيان الارتعاشي. كان متيقنًا من أنه يرى ثعابين الآن. رأى المرأة مُلتفة حوله مثل ثعبان، لا يُمكن نفضه عنه. لم تكن مميتة. كانت الموت نفسه … رفيق الحياة.

وكأن الصرخة أراحتها، لم تعد السيدة فيرلوك الآن تتصرَّف بطريقة صاخبة. كانت جديرة بالشفقة.

تمتمت وهي على الأرض: «توم، لا يُمكنك أن تتخلَّص مني الآن. إلا إذا سحقت رأسي بكعب حذائك. لن أتركك.»

قال أوسيبون: «انهضي.»

كان وجهه شاحبًا لدرجة أنه كان يُمكن رؤيته بوضوح في ذلك الظلام اللُّجِّيِّ المخيم على المتجر؛ بينما لم يكن يُرى وجه السيدة فيرلوك، المتَّشحة بالحجاب، وكاد لا تكون له هيئة يمكن تمييزها. تحدد مكانها وحركاتها باهتزاز شيء صغير وأبيض، هو زهرة في قبعتها.

ارتفعت الزهرة في الظلام. كانت قد نهضت من فوق الأرضية، وندم أوسيبون على أنه لم يهرب من فوره إلى الشارع. ولكنَّه أدرك بسهولة أن هذا لن يجدي نفعًا. لن يجدي نفعًا. كانت ستجري خلفه. كانت ستلاحقه وهي تصرخ صراخًا حادًّا حتى تدفع كل شرطي على مرمى السمع إلى مطاردته. وعندئذٍ، الرب وحده يعلم ما الذي ستقوله عنه. كان خائفًا لدرجة أنه راودته للحظة فكرة مجنونة بأن يَخنقها في الظلام. وصار خائفًا أكثر من أي وقت مضى! لقد تمكنت منه! رأى نفسه يعيش في رعب يائس في قرية مجهولة في إسبانيا أو إيطاليا؛ حتى يجدوه في صباح أحد الأيام ميتًا هو الآخر، وسكين مُغْمَدة في صدره، مثل السيد فيرلوك. تنهَّد بعمق. لم يجرؤ على الحركة. وانتظرت السيدة فيرلوك صامتةً على أمل أن تسمع ما يسرُّها من مُخلِّصها، مُستمدةً العزاء من صمته التأملي.

فجأةً، تحدث بنبرة صوت طبيعية تقريبًا. كان قد انتهى من تأملاته.

«هيا نخرج، وإلا فلن نلحق بالقطار.»

سألت على استحياء: «أين سنذهب يا توم؟» لم تعد السيدة فيرلوك امرأةً حرَّةً.

«لنذهب إلى باريس أولًا، أفضل طريقة مُمكنة لنا … أولًا اخرُجي، وانظري إن كان الطريق خاليًا.»

أطاعته. أتى صوتها خافتًا من خلال الباب المفتوح بحذر.

«كل شيء على ما يرام.»

خرج أوسيبون. على الرغم من مُحاولته التحرك بخفة، صلصل الجرس المتصدع خلف الباب المغلق في المتجر الفارغ، وكأنه يحاول عبثًا أن يحذر السيد فيرلوك الراقد برحيل زوجته النهائي، برفقة صديقه.

في العربة التي تجرها خيول التي أقَلَّتهما توًّا، أخذ اللاسُلطوي القويُّ يُقدم إيضاحاته. لا يزال شاحبًا شحوبًا فظيعًا، وبدت عيناه غائرتين نصف بوصة كاملة في وجهه المتوتِّر. لكن يبدو أنه فكر في كل شيء بطريقة غير عادية.

خاطبها بنبرة غريبة ورتيبة: «عندما نصل، يجب أن تدخُلي المحطة قبلي وكأننا لا يعرف بعضنا بعضًا. سأشتري التذاكر وأدسُّ تذكرتكِ في يدكِ وأنا أمر من جانبكِ. ثم ستدخلين صالة انتظار الدرجة الأولى المخصَّصة للسيدات، وتجلسين هناك حتى يتبقَّى على قيام القطار عشر دقائق. ثم تخرجين. سأكون بالخارج. ستصعدين على الرصيف أولًا وكأنك لا تعرفينني. ربما تكون هناك عيون تراقب وتعرف كل ما يَجري. بمفردك، فأنت مجرَّد امرأة تسافر بالقطار. أنا شخص معروف. معي، ربما يُخَمَّن أنكِ السيدة فيرلوك الهاربة.» أضاف بصعوبة: «هل تَفهمينني يا عزيزتي؟»

قالت السيدة فيرلوك، وهي تَجلِس قبالته في العربة جامدةً تمامًا ومُرتعبة من المشنقة ومن الخوف من الموت، قالت: «نعم. نعم، يا توم.» وأردفَت تقول لنفسها، مثل لازمة مروعة: «كان عمق السقطة أربع عشرة قدمًا.»

قال أوسيبون، دون أن ينظر إليها، وبوجه يشبه قالب جص مصبوب حديثًا لوجهه بعد مرض مهلك: «بالمناسبة، يجب أن آخذ المال من أجل التذاكر الآن.»

أخذت السيدة فيرلوك تفكُّ بعض أزرار صدريتها، بينما كانت تُحدِّق إلى الأمام خلف حاجبة العربة، وناولته محفظة جيب جديدة من جلد الخنزير. تلقاها دون أن يتفوَّه بكلمة، وبدا أنه يدخلها في مكان عميق في صدره. ثم ضرب بكفِّه على معطفه من الخارج.

كل هذا حدث دون أن يتبادلا نظرة واحدة؛ كانا مثل شخصَين يَترقَّبان أول لمحة لهدف منشود. لم يفتح أوسيبون شفتَيه مرة أخرى إلا حينما انعطفت العربة واتخذت وجهتَها نحو الجسر.

سأل، وكأنه يُخاطب ببطء عفريتًا جالسًا بين أذني الحصان: «هل تَعرفين كم من المال داخل ذلك الشيء؟»

قالت السيدة فيرلوك: «لا. هو أعطاني إياه. لم أعدَّ. لم أفكر في أي شيء في ذلك الوقت. بعد ذلك …»

حركت يدها اليُمنى قليلًا. كانت تلك الحركة، من تلك اليد اليُمنى التي كانت قد ضربت الضربة القاتلة في قلب رجل قبل أقل من ساعة، مُعبِّرة لدرجة أن أوسيبون لم يتمكَّن من قمع ارتجافة. ومِن ثَمَّ بالغ في الأمر عن عمد، وتمتم:

«أشعر بالبرد. أنا أرتجف من البرد.»

نظرت السيدة فيرلوك أمامها مباشرةً متخيلة مشهد هروبها. من وقت إلى آخر، مثل راية سوداء تطير مع الريح عبر طريق، اعترضت الكلمات «كان عمق السقطة أربع عشرة قدمًا» طريق تحديقها المتوتِّر. ومن خلال حجابها الأسود، كان بياض عينيها الكبيرتين يلمع مثل عينَي امرأة مقنَّعة.

كان في جمود أوسيبون شيء عملي، تعبير رسمي غريب. سُمِع مجددًا فجأة، وكأنه قد أزاح مزلاجًا عن شفتَيه كي يتحدث.

«اسمعي! هل تعرفين إن كان زوجك … إن كان احتفظ بحسابه في البنك باسمه أم باسم آخر.»

استدارت إليه السيدة فيرلوك بوجهها المقنع واللمعان الأبيض الكبير لعينيها.

قالت في تفكير: «اسم آخر؟»

قال لها أوسيبون محذرًا أثناء السير السريع للعربة: «كوني محددة فيما تقولين. هذا أمر بالغ الأهمية. سأوضح لكِ. البنك لديه أرقام هذه الأوراق المالية. وإذا كانت قد دُفِعَت له باسمه هو، فعندئذٍ عندما يصبح … عندما يصبح موته معروفًا، ربما تُستَخْدَم النقود في تعقبنا بما أنه ليس معنا أموال أخرى. أليس معك أموال أخرى؟»

هزت رأسها بالنفي.

ألح قائلًا: «لا شيءَ على الإطلاق؟»

«بضع بنسات.»

«سيكون الأمر خطيرًا في تلك الحالة. يجب إذن التعامل مع المال بطريقة خاصة. خاصة جدًّا. ربما نفقد أكثر من نصف المبلغ من أجل تغيير هذه الأوراق النقدية في مكانٍ آمنٍ أعرفه في باريس. في الحالة الأخرى، أقصد إن كان حسابه باسم آخر ودُفِعَت له النقود بذلك الاسم — ولنقل سميث على سبيل المثال — فالمال آمن تمامًا للاستخدام. أتفهمين؟ لا يملك البنك وسيلة لمعرفة أن السيد فيرلوك وسميث، مثلًا، هما نفس الشخص. أترين كم هو مهم ألا تخطئي في الإجابة على سؤالي؟ هل لديك إجابة على ذلك السؤال أصلًا؟ ربما لا. هل أنا محق؟»

قالت بتأنٍّ:

«أتذكر الآن! لم يتعامل مع البنك باسمه هو. أخبرني ذات مرة أنها مودعة باسم بروزور.»

«هل أنت متأكدة؟»

«متأكدة.»

«ألا تظنِّين أن البنك لديه علم باسمه الحقيقي؟ أو أي شخص في البنك أو …»

هزت كتفَيها.

«كيف لي أن أعرف؟ هل هذا مُحتمل، يا توم؟»

«لا. لا أظنه محتملًا. كان سيغدو مريحًا أكثر لو كنا نعرف … ها قد وصلنا. اخرجي أولًا، وامشي إلى المحطة مباشرة. تحرَّكي بسرعة.»

تخلف عنها، ودفع لسائق العربة أجرته من فكة نقوده. نُفذ البرنامج الذي وضعه ببصيرته الدقيقة. عندما دخلت السيدة فيرلوك إلى غرفة انتظار السيدات وفي يدِها تَذكرة إلى سانت مالو، دخل الرفيق أوسيبون إلى الحانة، وفي غضون سبع دقائق احتَسى ثلاثة أكواب من البراندي اللاذع والماء.

أوضح للساقية بإيماءة ودودة وابتسامة مُضطربة: «أحاول أن أتخلص من البرد.» بعد ذلك خرج، مبديًا من ذلك الفاصل الاحتفالي وجه رجل شرب من يَنبوع الأحزان. رفع عينيه ونظر إلى الساعة. حان الوقت. انتظر.

في الوقت المحدد، خرجت السيدة فيرلوك وقد أرخت حجابها ويكسوها السواد، سواد مثل الموت المبتذَل نفسه، وتوَّجت رأسها ببعض الزهور الرخيصة والذابلة. مرَّت بالقرب من مجموعة صغيرة من رجال كانوا يَضحكون، ولكن ضحكاتهم كان يُمكن إسكاتها بكلمة واحدة. كانت مشيتها مُتثاقلة، ولكن ظهرها كان مُستقيمًا، وراقبها الرفيق أوسيبون في رعب قبل أن يبدأ هو نفسه في السير.

وصل القطار، ولم يكن يوجد أي أحد تقريبًا بالقرب من صف أبوابه المفتوحة. نظرًا لذلك الوقت من السنة والطقس السيئ لم يكن يوجد مُسافرون تقريبًا. مشَت السيدة فيرلوك ببطء بمحاذاة صف من المقصورات الفارغة حتى لمَس أوسيبون مرفقها من الخلف.

«ادخلي إلى هنا.»

دخلت، وبقيَ هو على الرصيف ينظر من حوله. مالت إلى الأمام، وقالت هامسة:

«ما الأمر يا توم؟ هل يوجد أي خطر؟ انتظر لحظة. هناك حارس.»

رأته يقترب من الرجل ذي الزي الرسمي. تبادلا الحديث لبعض الوقت. سمعت الحارس يقول: «حسنًا يا سيدي» ورأته يلمس قبعته. ثم عاد أوسيبون، قائلًا: «أخبرتُه ألا يدع أحدًا يدخل إلى مقصورتنا.»

كانت تتَّكئ إلى الأمام على مقعدها. «أنت تفكر في كل شيء … ستساعدني على الهرب، يا توم؟» سألته في فورة من الحزن، رافعةً حجابها بحدة كي تنظر إلى مُخَلِّصِها.

كانت قد كشفَت عن وجهٍ مثل الصخر. ومن هذا الوجه، نظرت العينان الكبيرتان الجافتان المتَّسعتان المُظلمتان، اللتان اختفى ضوءُهما مثل ثقبَين سوداوَين في الكرتين البيضاوين البراقتين.

«لا يوجد خطر» قال، محملقًا فيهما بجدية شبه شاردة، بدَت للسيدة فيرلوك، الهاربة من حبل المشنقة، مليئة بالقوة والحنان. أثر هذا الإخلاص فيها تأثيرًا عميقًا، وفقد وجهها الصلب جموده الشديد النابع من الرعب. حدَّق الرفيق أوسيبون فيه كما لم يُحدق عاشق في وجه معشوقته. كان ألكسندر أوسيبون، اللاسُلطوي، الملقب بالطبيب، مؤلِّف كُتيِّب طبي (وغير لائق)، المُحاضر السابق في الجوانب الاجتماعية للنَّظافة في نوادي العاملين، مُتحرِّرًا من القيود الأخلاقية التقليدية، ولكنه تقيَّد بقواعد العلم. كان علميًّا، وحدق في تلك المرأة بطريقة علمية، شقيقة الفتى مخبول العقل، وهي نفسها مخبولة، من نوع قاتل. حدق فيها، واستحضر لومبروزو، مثل فلاح إيطالي يُفوِّض أمرَهُ إلى قديسِه المفضل. حدق بطريقة علمية. حدق في وجنتيها وفي أنفها وفي عينيها وفي أذنيها … سيئ! … مُميت! تباعدت شفتا السيدة فيرلوك، واسترختا قليلًا تحت تأثير نظراته المهتمَّة والشغوفة، وحدق أيضًا في أسنانها … لم يبقَ مجال للشك … من نوع قاتل … إذا لم يُفوض الرفيق أوسيبون أمر رُوحه المرتعبة إلى لومبروزو، فهذا فقط لأنه لم يستطع على أسس عِلمية أن يصدق أنه كان يحمل في داخله شيئًا يُدعى الروح. ولكن كان يحمل في داخله الروح العلمية، التي دفعتْه إلى أن يشهد على رصيف السكك الحديدية بعبارات عصبية متشنِّجة.

«كان فتًى غير عادي، أخوك ذاك. مشوق للدراسة. نوع مثالي بطريقة ما. مثالي!»

تحدث بطريقة عِلمية في خوفه الخفي. لما سمعت السيدة فيرلوك كلمات الثناء هذه التي تَعطف بها على فقيدها المحبوب، مالت إلى الأمام وفي عينَيها القاتمتَين وميض ضوء، مثل شعاع شمس يُؤذِن بزوبعة مطر.

همست بنعومة، بشفتين مرتعشتين: «كان كذلك حقًّا. كنت تلاحظه بكثير من الاهتمام يا توم. أحببتُك لهذا.»

تابع أوسيبون، معربًا عن خوفه المستمر، ومُحاولًا أن يخفي نفاد صبره العصبي والمُضني في انتظار أن يتحرَّك القطار: «لا يكاد يُصدَّق الشبه الذي كان بينكما. نعم، إنه يُشبهك.»

لم تكن تلك الكلمات مُؤثِّرة أو مُتعاطفة على نحوٍ خاص. ولكن حقيقة ذلك التشابه الذي أكد عليه كانت كفيلة بأن تُؤثِّر على مشاعرها بقوة. ببكاء خافت قليل، فاردةً ذراعيها، انهمرت دموع السيدة فيرلوك أخيرًا.

دخل أوسيبون المقصورة، وبسُرعة أغلق الباب ونظر إلى الخارج كي يَرى الوقت في ساعة المحطة. تبقَّت ثماني دقائق. في الثلاث الدقائق الأولى، انتحبت السيدة فيرلوك نحيبًا شديدًا ويائسًا دون توقف أو انقطاع. ثم تحسَّنت نوعًا ما، وبكت بكاءً هادئًا بدموع غزيرة. حاولت الحديث مع مخلصها، مع الرجل الذي كان مبعوث الحياة.

«آه يا توم! كيف لي أن أهاب الموت بعد أن أُخِذ بعيدًا عنِّي بتلك القسوة! كيف لي ذلك! كيف أكون بذلك الجبن!»

رثت جهرًا حبَّها للحياة، تلك الحياة الخالية من البهجة أو الجمال وتكاد تخلو من الفضيلة، ولكنَّها تزخر بإخلاص فائق للهدف، حتى إن كان هو القتل. وكما يحدث عادةً في رثاء البشرية البائسة، الزاخرة بالمُعاناة ولكنها فقيرة في الكلمات، فإن الحقيقة — صرخة الحقيقة عينها — كانت موجودة في شكل مُبتذل ومُصطنع في مكان ما وسط عبارات عاطفة زائفة.

«كيف لي أن أهاب الموت! لقد حاولت، يا توم. ولكني خائفة. حاولت التخلُّص من نفسي. ولكن لم أستطع. هل أنا قاسية؟ أظن أن كأس الأهوال لم يكن مُمتلئًا بالقدر الكافي لشخص مثلي. ثم عندما أتيتَ …»

توقفت عن الكلام. ثم في فورة من الثقة والامتنان، قالت باكية: «سأعيش كل أيامي من أجلك، يا توم!»

قال أوسيبون باهتمام: «انتقلي إلى الركن الآخر من المقصورة، بعيدًا عن الرصيف.» سمحت لمُخلصها أن يُجلِسها بارتياح، وراقب مجيء نوبة نحيب أخرى، ولكنَّها أعنف من الأولى. راقب الأعراض بشيء من الحس الطبي وكأنه يعد الثواني. سمع صافرة الحارس أخيرًا. كشف انقباض لا إرادي لشفته العليا عن أسنانه عن مظهر تصميم شرس تام عندما شعر بأن القطار يبدأ في التحرك. لم تَسمع السيدة فيرلوك شيئًا ولم تشعر بشيء، ووقف أوسيبون، مخلصها، ساكنًا. شعر بالقطار يَزيد من سرعته، ويقرقع بقوة مع صوت نحيب المرأة العالي، ثم عبر المقصورة بخطوتين واسعتين وفتح الباب، وقفز خارجًا.

كان قد قفز من المقصورة في نهاية الرصيف بالضبط؛ وكم كان تصميمه على الالتزام بخطته اليائسة كبيرًا حتى إنه تمكن بأعجوبة، وهو يكاد يطير في الهواء، من أن يضرب باب المقصورة بقوة. عندئذٍ فقط، وجد نفسه يَتدحرَج رأسًا على عقب مثل أرنب أصابته طلقة صياد. عندما نهض، كان مصابًا بكدمات، ويرتجف، وشاحبًا كالموتى، ومنقطع النفَس. ولكنه كان هادئًا، وقادرًا تمامًا على مُواجهة الحشد المتحمِّس من رجال السكك الحديدية الذين كانوا قد تجمَّعوا حوله في لحظة. بنبرة لطيفة ومقنعة، أوضح أن زوجته كانت قد غادرت من فورها إلى بيرتاني من أجل أمها المحتضَرة؛ حتى إنها، بالطبع، كانت منزعجة كثيرًا، وكان قلقًا بشدة على حالتها؛ وكان يحاول أن يسرِّي عنها، ولم يلاحظ على الإطلاق أن القطار كان يتحرك خارجًا من المحطة. تساءل الجمع باستغراب: «ولماذا لم تستمرَّ إلى ساوثهامبتون، إذن، يا سيدي؟» تذرع بشقيقة زوجته قليلة الخبرة التي كانت وحدها في المنزل مع ثلاثة أطفال صغار، وبقلقها من غيابه، وبأنَّ مكاتب التلغراف مغلقة. كان قد تصرَّف غريزيًّا. قال في النهاية: «ولكن لا أظن أنني سأجرب تلك الفعلة ثانيةً قط.» وابتسم لمن حوله، ووزع بعض قطع النقود الصغيرة، ومشى من دون أن يعرج إلى خارج المحطة.

بالخارج، رفض الرفيق أوسيبون، الذي كان معه وفرة من الأوراق النقدية الآمنة مثلما لم يَحدُث من قبل في حياته، عرض ركوب عربة أجرة.

قال، بابتسامة لطيفة صغيرة إلى السائق المهذب: «يُمكنني أن أمشي.»

كان يُمكنه أن يَمشي. مشى. مشى عابرًا الجسر. وفي وقتٍ لاحق كانت أبراج الدير في ثباتها الهائل شاهِدة على شعره الأشقر وهو يمرُّ تحت المصابيح. شهدته أضواء فيكتوريا أيضًا، وميدان سلون، وأسوار الحديقة. ومُجددًا وجد الرفيق أوسيبون نفسه على جسر. أُسِر انتباهه بالنهر، أعجوبة مشئومة من ظلال ساكنة وومضات متدفقة تختلط أسفله في صمت كئيب. وقف ينظر من فوق الحاجز لفترة طويلة. هدر برج الساعة بدوي دقات معدنية حادَّة فوق رأسه المتدلي. نظر إلى عقارب الساعة … كانت تُشير إلى الثانية عشرة والنصف في ليلة موحشة في القنال الإنجليزي.

ومجددًا استأنف الرفيق أوسيبون سيره. شوهد بمظهره القوي في تلك الليلة في أجزاء بعيدة من المدينة الكبيرة الغافية مثل وحشٍ على بساط من الطين تحت ستار من ضباب شديد. شوهد يجتاز الشوارع الخالية من الحياة والصوت، أو وهو يَختفي تدريجيًّا في منظور رؤية مستقيمة لا نهائية من منازل مُظلَّلة متاخمة لطرق خالية تصطف فيها سلاسل من مصابيح الغاز. سار عبر ميادين وساحات وطرق بيضاوية ومتنزَّهات عامة، وعبر شوارع رتيبة مجهولة الأسماء حيث يستقر غبار الإنسانية خاملًا ويائسًا خارج مجرى الحياة. مشى. وفجأة، انعطف إلى شريط حديقة أمامية وبها قطعة أرض عشبية جرباء، ودخل إلى منزل صغير قذر بعد أن فتح بمفتاح مزلاج أخرجه من جيبه.

ارتمى على سريره بكامل ملابسه، واستلقى من دون حراك لمدة ربع ساعة كاملة. ثم جلس منتصبًا فجأةً، مجتذبًا ركبتَيه إليه ومُحتضنًا ساقَيه. عندما ظهر الخيط الأول من الفجر، كان مفتوح العينين، في تلك الوضعية نفسها. هذا الرجل الذي كان يُمكنه أن يَمشي وقتًا طويلًا، مسافات بعيدة، على غير هدًى، دون أن تظهر عليه أي أمارة للإرهاق، يُمكنه أيضًا أن يظل جالسًا ساكنًا لساعات دون أن يُحرك ساكنًا أو يطرف له جفن. ولكن عندما أرسلت شمس آخر النهار أشعَّتها إلى داخل الغرفة، فك تشابُك يدَيه وعاد يَرتمي على الوسادة. حدَّقت عيناه في السقف. وفجأة أُغلِقتا. نام الرفيق أوسيبون تحت أشعة الشمس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤