تمهيد

تعريب مصر

(١) حالة مصر السياسية من الفتح حتى آخر الدولة الفاطمية

لعل مصر لم تشاهد في تاريخها الطويل تطورًا أشد خطرًا وأعظم أثرًا في حياتها مثل هذا التطور الذي شاهدته منذ جاءها العرب وحرروها من حكم الرومان الغاشم الظلوم، ذلك الحكم الذي قاومه المصريون بكل وسيلة ممكنة، إلا أن تفوٌق الرومان عسكريًّا على الشعب المصري الأعزل فرض سلطتهم على مصر دون أن تستطيع قواهم أن تنتزع كراهية المصريين لهم، وازداد مقت المصريين لكل ما هو روماني بعد أن انتشرت الديانة المسيحية في مصر في الوقت الذي كان فيه الرومان لا يزالون على الوثنية، وتتبعوا كل من اعتنق الدين المسيحي بالقتل أو القذف بهم إلى الوحوش الضارية.

وبعد أن أصبحت المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية اضطهد الرومان كل من خالفهم في المذهب الديني، وكانت مصر قد اتخذت لنفسها مذهبًا في المسيحية يخالف مذهب الرومان، فاشتد غضب الرومان على المصريين، كما اشتد مقت المصريين لكل ما يَمتُّ إلى الرومان بصلة، فكان الشعب المصري في حالة يرثى لها من هذا الاستعمار البغيض، لا سيما أن الرومان أبعدوا المصريين عن الأعمال الحكومية والجيش، واستغلوا مصر استغلالًا اقتصاديًّا من شأنه أن أصبحت البلاد مزرعة للرومان. فلا غرابة أن يرحب المصريون بجيش العرب الذي كان يقوده عمرو بن العاص، لا سيما وأن الصلة التي كانت تربط مصر بالعرب هي صِلة قديمة منذ عهد الفراعنة. وكان يسكن مصر وقت الفتح العربي جاليات كبيرة من العرب عاشت مع إخوانهم المصريين وكأنهم شعب واحد.

قاد عمرو بن العاص جيشه الصغير الذي كان يتألف من أفراد من قبائل عربية مختلفة وكان قليل العُدة، ولكن هذا الجيش الصغير استطاع أن يقهر جيوش الرومان في مصر، وأن ينتزعها من أيديهم ويحررها من طغيانهم سنة ٢٠ﻫ/٦٤١م. ومن ثم دخلت مصر في دور جديد من أدوار تاريخها الطويل، وهو الدور الذي يُطلق عليه «مصر الإسلامية أو مصر العربية». ففي هذا الدور أصبحت مصر بلدًا عربيًّا إسلاميًّا له دور إيجابي في بناء صرح الحضارة الإسلامية والقومية العربية، ولا يزال يعمل لهما إلى الآن. فقد انتقل إليه عدد كبير من قبائل عربية انتشروا على مدى الأيام في المدن والقرى المصرية، واختلطت دماؤهم بسكانه، وتأثروا بالمصريين وتأثر المصريون بهم؛ فكان نتيجة ذلك كله أن ظهر الشعب المصري العربي الذي تتمثل فيه خصائص عربية متأثرة بتقاليد البيئة المصرية وخصائص مصرية خالصة.

وبفضل مركز مصر الوسيط بين الشرق والغرب كان عرب المشرق يلتقون في مصر بعرب المغرب، فتتلاقح الآراء وتساعد على إتمام الوحدة الفكرية بين جميع البلاد العربية. وهذه الوحدة الفكرية كانت ولا تزال من أظهر الخصائص في مقومات القومية العربية الكبرى، وكان لا بد لمصر وقد أصبحت دولة عربية أن تتأثر بالأحداث التي كانت تجري في باقي البلاد العربية، ولا سيما عندما كانت تتفاقم الأحوال أمام المستعمر الأجنبي الذي يطمع في البلاد العربية. وتاريخنا الوسيط مليء بشعور الأخوة العربية في مثل هذه الحوادث الجسام؛ فكل هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن مصر العربية أسهمت مع شقيقاتها البلاد العربية في تكوين الوحدة العربية منذ بدأت الفتوحات العربية. وكانت تحدث ثغرات في هذه الوحدة بسبب مطامع بعض الأمراء وتنافسهم فيما بينهم؛ الأمر الذي كان يؤدي إلى تدخل العدو المشترك في البلاد العربية؛ مما أضعف هذه البلاد ومزق وحدتها إلى دويلات صغيرة متشاحنة متحاربة. وكان يظهر من حين لآخر بعض القادة العقلاء الذين يعملون من أجل الوحدة العربية والقومية العربية، واستجابت لهم الشعوب العربية فظهر اتحادهم قويًّا صلدًا أخاف المستعمر فترك البلاد العربية. والذي يدرس تاريخنا في العصر الوسيط يلمس ظاهرة لافتة في حياتنا وهي أننا كلما تمسكنا بوحدتنا استطعنا أن نتغلب على عناصر الشرور الأجنبية، وأمكننا أن نسهم في الحضارة الإنسانية وأن نعيش في سلام ورغد.

فمصر بعد أن آل أمرها إلى العرب وتخلصت من ظلم الرومان عاشت في طمأنينة وسلام، وتألفت قلوب المسلمين والمسيحيين، وهدأت الفتن التي كانت تسود البلاد في العصر الروماني، ولم يعكر صفو هذا الأمن إلا محاولات الرومان لاستعادة مصر إليهم. ففي القرن الأول من الهجرة حاولوا ست مرات أن ينزلوا جيوشهم في مصر، ولكن الجيوش العربية ردتهم مهزومين المرة بعد المرة، ثم ما كان من هذه الفتن التي حدثت في البلاد الإسلامية الأخرى؛ مثل فتنة عثمان بن عفان والخلاف بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، والذي كان بين عبد الله بن الزبير والخلافة الأموية. فكل هذه الفتن كان لها صداها في مصر، ولكن سرعان ما عادت مصر إلى الجماعة وإلى آراء أهل السُّنة دون أن تنتشر بها الآراء والأهواء التي عُرفت في بعض البلاد الإسلامية. فآراء الشيعة ومذهب الخوارج وتعاليم المعتزلة لم تجد قبولًا عند المصريين بالرغم من أنه وُجِدَ بين المصريين من كان عَلوي الهوى. وجاء دعاة لأئمة الشيعة يدعون لهم في مصر، ودخل الخوارج مصر مع عبد الرحمن بن جحدم والي مصر من قِبل ابن الزبير سنة ٦٤ﻫ، ولكن المصريين عُرفوا منذ قديم الزمن أن الآراء الجديدة تستهويهم في أول الأمر، ثم سرعان ما يعودون إلى أنفسهم فيطرحون من هذه الآراء الجديدة ما لا يتفق مع مزاجهم وتقاليدهم، ويُمصِّرون ما يتفق مع بيئتهم من هذه الآراء. وهذا ما حدث بعد الإسلام، فالمصريون قبلوا الدين الإسلامي لما فيه من توحيد وما في تعاليمه من يُسر وبساطة. ولكن عندما بدأ أصحاب الفرق يُعقِّدون ويفلسفون هذه التعاليم رفضها المصريون ولم يقبلوا أن يتحولوا عن التعاليم السمحة البسيطة التي تتفق مع البيئة المصرية، وهي التعاليم التي حملها الصحابة والتابعون إلى مصر، وربما كان هذا هو السبب في أن مصر ظلت عُشًّا لأهل الجماعة والسُّنة طوال حياتها الإسلامية حتى في العصر الفاطمي الذي عُرِفَ بشدة عدائه لأهل السُّنة والجماعة.

ومعنى هذا أن تاريخ مصر منذ أقدم العصور يثبت أن الآراء المتطرفة والتعاليم الدخيلة المعقدة والدعوات الأجنبية لا تجد قبولًا من المصريين، بل كثيرًا ما سخر منها المصريون وتهكموا بها كما فعلوا مع تعاليم الشيعة الإسماعيلية في العصر الفاطمي مما أدى إلى أن يضطر الفاطميون إلى أن يُغيِّروا عقائدهم؛ حتى تتلاءم مع طبيعة المصريين، فمصر لها من القوة الكامنة والقوة الهاضمة ما تُخضع بهما كل ما يَرِد إليها من الخارج، بالرغم مما كانت عليه من ضعف عسكري جعلها مطمع كل من يجاورها من الدول القوية. وكانت مصر منذ دخلها العرب حتى نهاية الدولة الفاطمية من رباطات جيوش المسلمين؛ كان يخرج منها المجاهدون في سبيل الله؛ لنشر الإسلام في شمال أفريقيا ومحاربة البيزنطيين والصليبيين، وفيها كانت صناعة السفن التي كانت تحتاج إليها القوات البحرية الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي أو القوات المصرية في عصر الطولونيين والفاطميين، مما كان له أثره في الدفاع عن البلاد العربية أو في توسيع ممتلكاتهم في البحر الأبيض، وتأمين التجارة بين الأندلس أو صقلية والمغرب من ناحية، وبين العالم العربي في الشرق القريب من الناحية الأخرى. هذا بعض ما أسهمت به مصر في بناء الدولة العربية الكبرى بجانب ما قامت به من الناحية الفكرية والأدبية وهو موضوع هذا الكتاب.

كانت مصر بعد الفتح العربي ولاية تتبع الخلافة الإسلامية — خلافة الراشدين والخلافة الأموية والخلافة العباسية — فكان الخلفاء يرسلون من قِبلهم الولاة على مصر، وكان الوالي هو الرئيس الأعلى للقضاء والجند والخراج وهو الذي يُصلِّي بالناس، وكان يستعين بعدد من الموظفين يساعدونه على القيام بمهام عمله. وكان أجلُّ هؤلاء الموظفين مكانة هم صاحب الخراج وصاحب الشرطة والقاضي، وهؤلاء كان الخليفة يُعينهم، أو كان الوالي هو الذي يُعينهم بعد استئذان الخليفة، وكان ينوب عن هؤلاء العمال موظفون في الأقاليم المصرية المختلفة. وبذلك الجهاز الإداري — إن صح هذا التعبير — سار حكم مصر، ونعمت البلاد بهدوء وأمن لم تعرفهما من قبل، بالرغم من أن مصر في العصر العباسي شاهدت عدة ثورات صغيرة؛ بسبب سياسة خلفاء العباسيين الذين كانوا على حذر من ولاتهم الذين بعثوا بهم إلى الأقاليم، فكان الخلفاء يعملون على تغيير ولاتهم دائمًا، بحيث لم يسمحوا للوالي أن يمكث طويلًا في ولايته. ولذلك لم يستطع ولاة مصر في العصر العباسي أن يقوموا بإصلاحات داخلية، بل كانت سياسة العباسيين هذه سببًا في أن بعض الولاة كانوا يعملون لأنفسهم ومصالحهم الشخصية.

ومن هنا نستطيع أن نفسر سبب هذه الثورات والفتن التي كانت في مصر في العصر العباسي، حتى اضطر الخليفة المأمون إلى أن يحضر بنفسه إلى مصر سنة ٢١٧ﻫ، ويقال أنه أنَّب الوالي بقوله: «لم يكن هذا الحدث إلا عن فعلك وفعل عمالك، حمَّلتم الناس ما لا يطيقون، حتى تفاقم الأمر واضطربت البلاد.»

تصرُّف بعض العمال إذن كان سببًا في الثورات التي كادت تؤدي إلى انفصال مصر واستقلالها عن الخلافة العباسية، ولا سيما أثناء ثورة «الجروي» والسري بن الحكم التي استمرت حوالي إحدى عشرة سنة. وفي عهد الخليفة المعتصم العباسي (٢١٧–٢٢٧ﻫ) ورد الأمر بإسقاط العرب من الديوان، فاضطر العرب إلى أن يتكسبوا بالتجارة والزراعة، واشتد إقبالهم على التكسب، فساعد ذلك على سرعة امتزاجهم بالشعب المصري أكثر من ذي قبل؛ حتى إذا كان القرن الرابع للهجرة صار في مصر شعب واحد.

وسارت أمور الخلافة العباسية من ضعف إلى ضعف بسبب تسلط الجنود الأتراك على مقاليد السلطة الفعلية في البلاد، وأصبح الخليفة العباسي ألعوبة في أيدي قواده، وتمزقت وحدة الإمبراطورية الإسلامية وتكونت إمارات صغيرة في العالم الإسلامي. وفي سنة ٢٥٤ﻫ تولى أحمد بن طولون على مصر واستطاع أن يستقل بمصر، وأن يُوحِّد بين مصر وبلاد الشام ويجعلهما إمارة واحدة تحت سلطانه، وأن يقطع صلته بالخلافة العباسية — فيما عدا الخُطبة له على المنابر — بل حارب جيوش الخلافة العباسية، وكان يريد أن يستدعي الخليفة العباسي المعتمد إلى مصر ويبعده عن أخيه الموفق، لولا أن تدبيره هذا لم يتم، وباءت محاولته بالفشل. وفي عهد الطولونيين بدأت مصر تنافس الخلافة العباسية في بغداد؛ إذ ظهرت رغبة الطولونيين بالظهور بمظهر الملك المترف القوي، فأكثروا من المنشآت التي أفتن في تزيينها الفنانون، وفي إقامة دار الصناعة لبناء السفن الحربية والتجارية، وحصنوا البلاد خوفًا من أعدائهم. فقد كانت جيوش العباسيين في حروب مستمرة مع جيوش أمير مصر إلى أن توقفت هذه الحروب بالصلح سنة ٢٨٠ﻫ؛ على مال يدفعه خمارويه بن أحمد بن طولون إلى الخليفة العباسي؛ نظير بقائه أميرًا على مصر والشام هو وولده لمدة ثلاثين عامًا.

وفي سنة إحدى وثمانين ومائتين عقد الخليفة العباسي المعتضد على قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون، ويتحدث المؤرخون عن مدى إسراف أمير مصر في تجهيز ابنته إلى الخليفة العباسي مما كان له أثر شديد على اقتصاديات البلاد؛ وكان ذلك من أسباب الضعف الذي حل بها؛ مما سهل على جيوش العباسيين استرداد مصر سنة ٢٩٢ﻫ؛ وبذلك دالت أول دولة مستقلة في تاريخ مصر الإسلامية.

وعادت مصر إلى الخلافة العباسية يُبعث إليها بالولاة والعمال حتى تولى مصر محمد بن طغج الإخشيد سنة ٣٢٣ﻫ، فاستطاع هذا الوالي أن يبسط سلطانه على جزء كبير من بلاد الشام، وأن يجعل الملك وراثة في أبنائه، ولكن الإخشيديين لم يُعمِّروا في الحكم طويلًا؛ بسبب ظهور دولة قوية تتاخم حدود مصر وتطمع في امتلاكها. تلك هي الدولة الفاطمية التي ظهرت ببلاد المغرب سنة ٢٩٦ﻫ بعد أن أدالت سلطان الأغالبة، وأخذت تتوسع شيئًا فشيئًا في هذه الأصقاع، غير أن سياستها الأولى في التوسع إنما كانت في التوسع نحو الشرق، وتحقيقًا لهذه السياسة بعثوا بدُعاتهم إلى مصر، ثم أتبعوهم بالجيوش المرة بعد المرة، ففي سنة ٣٠٢ﻫ سارت جيوشهم حتى استولوا على الإسكندرية، ولكن جيوش مصر بمساعدة جيوش العباسيين أوقعت بهم الهزيمة وردَّتهم مدحورين، وأعاد الفاطميون الكَرَّة سنة ٣٠٧ﻫ ثم سنة ٣٢٤ﻫ ولكنهم أخفقوا أيضًا في دخول مصر. ولكن جيوش الفاطميين استطاعت في سنة ٣٥٨ﻫ بقيادة جوهر الصقلي الكاتب أن تنتزع مصر من الإخشيديين، فانتقلت البلاد إلى دور جديد من تاريخها؛ إذ انتقل إليها الخلفاء الفاطميون، فأصبحت عاصمة الدولة الفاطمية العتيدة، التي كان يدين لخلفائها بالإمامة جمهور كبير من الناس من المحيط الأطلسي حتى جبال هيملايا ومن جبال طوروس حتى جنوب اليمن، وخضع لسلطانهم شمال أفريقيا وصقلية وجنوب إيطاليا وبلاد الشام والجزيرة العربية.

وكان هؤلاء الذين اعتنقوا العقيدة الإسماعيلية الفاطمية يبعثون إلى إمامهم بمصر «النجاوي» و«الخُمس» عملًا بالآية القرآنية الكريمة: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ إلخ الآية … بجانب الهبات المختلفة التي كان يبعثها أتباع المذهب إلى إمامهم؛ فتدفقت الأموال الأجنبية على مصر وازدادت ثروتها وعمها الرخاء بسبب ما كان ينفقه الخلفاء الفاطميون بين الشعب حتى يصل بذخهم ونعيمهم إلى سمع أعدائهم المحيطين بهم؛ فلا يهاجمونهم إلا بعد تفكير وروية. ولقد اتخذ الفاطميون سياسة الترف وإغداق النِّعم والعطايا على الشعب؛ لتأليف قلوب الشعب ودعاية للفاطميين أمام الأعداء، كما استخدموا سلاح العلم ومكاسرة أصحاب المذاهب والفرق الأخرى، ونظموا دعاتهم تنظيمًا دقيقًا؛ حتى لا يخلو مجتمع في العالم منهم، واستقدموا جهابذة العلماء في كل علم وفن، وهيئوا لهم وسائل العيش الرغد، حتى كانت مصر كعبة يؤمها العلماء من كل صوب، حتى العلماء الذين كانوا يخالفون العقيدة الإسماعيلية الفاطمية. كل ذلك كان من وسائل الدعاية التي عُرفت عن الفاطميين، فلا غرابة أن يُقبل كثير من الطامعين في الثراء العاجل إلى اعتناق العقيدة الإسماعيلية والتقرب إلى الخلفاء الفاطميين. ولكن الشيء الذي يجب أن نسجله في هذه العجالة أن العقيدة الإسماعيلية لم تنتشر بين المصريين بالرغم من المحاولات الكثيرة التي بذلها الفاطميون لحمل الشعب المصري على اعتناق مذهبهم.

وهذا يدل على أن قوة مصر الكامنة لا تقبل الآراء الدخيلة التي لا تتفق مع مزاجهم وتقاليدهم، ومن هنا نستطيع أن نفسر كثرة تهكم المصريين بالعقائد الإسماعيلية وبأئمة هذه المعتقدات بالرغم من أن هؤلاء الأئمة كانوا يحكمون البلاد. ويكفي أن نذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر موقف المصريين من قضية تأليه الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي زين له ثلاثة من الدعاة ادعاء الألوهية، وراحوا يُبشرون بذلك بين المصريين، فثار المصريون عليهم وقتلوا واحدًا منهم وفر الاثنان الآخران من مصر، وعاقب الحاكم المصريين بحرق مدينة الفسطاط انتقامًا منهم، ولكن الحاكم رجع عن هذه المقالة الإلحادية قبل مقتله بقليل. ولعل هذه الدعوة الإلحادية — دعوة تأليه الحاكم — كانت من الأسباب القوية التي نفَّرت المصريين من العقائد الإسماعيلية.

ومهما يكن من شيء، فإن الدولة الفاطمية في مصر استطاعت أن تُزيد من هيبتها وتُضاعف من قوتها، حتى خشي بأسها أعداؤها التقليديون؛ وهم العباسيون في بغداد، والأمويون في الأندلس، والبيزنطيون في القسطنطينية وصقلية وإيطاليا. واستطاع الفاطميون أن يوسعوا رقعة أملاكهم حتى لقد خُطِبَ لهم في بغداد نفسها سنة ٤٥٠ﻫ. ولكن الضعف بدأ يدب في أوصالها؛ بسبب تنافس الوزراء فيما بينهم واستخدام الجنود الأتراك المرتزقة الذين قوي سلطانهم برياسة زعيمهم ناصر الدولة الذي غضب من أُم الخليفة المستنصر؛ لاتخاذها جنودًا من بني جنسها (من السودان) وأطلقت أيديهم في تحقيق أغراضهم، فقامت الحروب بين السودان والتُّرك وانتصر الجنود الأتراك سنة ٤٥٤ﻫ في واقعة كوم الريش، وفر كثير من السودان إلى الصعيد، فخلا الجو للأتراك الذين عاثوا في الأرض فسادًا، وانتهزوا فرصة الشِّدَّة المستنصرية الكبرى، فنهبوا قصور الخليفة الفاطمي، وقصور رجال الدولة دون أن يجدوا من يَحُول بينهم وبين أطماعهم.

ومنذ ذلك الحين بدأ سلطان الفاطميين يَضعُف في مصر والبلاد الأخرى، وضاعت أكثر ممتلكاتهم الخارجية؛ فقد خرج المغرب من أيديهم، واستولى النورمانديون على صقلية وجنوب إيطاليا، وقامت بالشام إمارات ودويلات صغيرة، وجاءت الحملة الصليبية الأولى سنة ٤٩٢ﻫ، واستطاعت أن تنتزع بعض بلاد الشام من أيدي الفاطميين، وتلاعب الوزراء بالخليفة الفاطمي نفسه فأصبح لا حول له ولا طول؛ إذ ركزوا جميع ألوان السلطات في أيديهم حتى في تعيين الخلفاء الجدد، الأمر الذي ترتب عليه أن انقسمت الدعوة الإسماعيلية إلى فرقتين بعد وفاة المستنصر الفاطمي سنة ٤٨٧ﻫ.

ذلك أن الوزير الأفضل بن بدر الجمالي ولَّى المستعلي بن المستنصر الخلافة، وحرم منها صاحب النص نزار بن المستنصر، فغضب نزار وثار على الوزير، ولكن الوزير استطاع أن يخمد هذه الثورة في مصر، وأن يقبض على نزار ويقتله سنة ٤٨٨ﻫ. بينما خرج إسماعيلية فارس بقيادة الحسن بن الصباح على الخليفة الجديد المستعلي، ولم يعترفوا بإمامته، وأقاموا دعوة جديدة باسم نزار بن المستنصر ناصبت خلفاء مصر العداء، وقتلوا الخليفة الآمر سنة ٥٢٤ﻫ وهو في طريقه إلى قصره بجزيرة الروضة، وبمقتل الآمر الفاطمي انشقت الدولة الصليحية باليمن عن الدعوة الفاطمية بمصر. وهكذا انقسمت دعوة الفاطميين، وكَثُرَ أعداؤهم وضَعُفَ أمرهم فأدى ذلك كله إلى أن أصبح من السهل التغلب عليهم، وكانت كل الظروف مواتية لتقويض أركان سلطانهم في مصر والشام. وكان الذي سدد إليهم هذه الضربة القاضية هو صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة ٥٥٦ﻫ، البطل الذي أعاد البلاد إلى الدعاء للخليفة العباسي بعد أن كانت تدعو للخليفة الفاطمي زهاء قرنين من الزمان.

(٢) الحياة الفكرية والأدبية قبل الفتح العربي

استطاعت الإمبراطورية الرومانية أن تفرض سلطانها على مصر سنة ٣٠ق.م وتقضي نهائيًّا على دولة البطالمة، وظل الرومان يحكمون مصر إلى أن انقسمت الإمبراطورية الرومانية سنة ٢٨٤م إلى غربية وشرقية، فكانت مصر من بلاد الإمبراطورية الرومانية الشرقية التي تُعرف بالإمبراطورية البيزنطية إلى أن حررها العرب من حكمهم سنة ٦٤٠م. ومن ثم أصبحت مصر دولة عربية إسلامية، وقامت بواجبها في الدفاع عن العرب والإسلام، ولا تزال تقوم بهذا الواجب إلى الآن.

وبالرغم من أن مصر خضعت عدة قرون للحكم الروماني؛ لضعف المصريين حربيًّا أمام أقوى دولة في العالم في ذلك الوقت، فإن القوة الكامنة في الشعب المصري كانت تظهر من حين إلى آخر في شكل ثورات عنيفة ضد الرومان، مما اضطر المستعمرين إلى أن يقمعوا هذه الثورات بطرق وحشية عُرفت عن الرومان، وأمعنوا في النكاية بالمصريين؛ خوفًا من غضبات الشعب المصري، فأبعدوا المصريين عن وظائف الدولة وعن خدمة الجيش، وفرضوا عليهم التزامات مالية لم تعهدها البلاد من قبل. وذلك كله بقصد إضعاف المصريين وجعلهم في فقر مدقع، ولكن المصري عنيد بطبعه ومن ثم لم يستسلم للمستعمرين إلا في الظاهر، بينما كان يكره في باطنه كل ما يَمتُّ إلى الرومان بصلة، وينتهز الفرصة للتحرر مما فرضه المستعمر عليه. كره المصري كل ما هو روماني حتى في الشئون الثقافية الخالصة؛ فلم تنتشر الثقافة اللاتينية بين المصريين، بل لم تنتشر اللغة اللاتينية في مصر، فاضطر ولاة الرومان إلى اصطناع اللغة اليونانية واتخاذها لغة رسمية في الديار المصرية. ثم ظهر عامل جديد باعد الهوة بين المصريين والرومان، وظهر الشعب المصري على حقيقته في الدفاع عن نفسه، ذلك هو انتشار الدين المسيحي بين المصريين في القرن الثاني للميلاد، في الوقت الذي كان الرومان في وثنيتهم يقاومون ويضطهدون كل من يعتنق الدين المسيحي. وأمعن الرومان في تعذيب المسيحيين المصريين، ولكن المصريين قاوموا وحشية الرومان في عناد شديد، وثبتوا أمام قوى الرومان بالرغم مما حاق بهم من تعذيب واستشهاد وتشريد.

وكان أقسى ما لقيه المصريون في عهد الإمبراطور دقلديانوس (٢٨٤–٥٣٠م)، فاتخذوا أول سنة من حكم هذا الطاغية مبدأ لتقويمهم المعروف بتاريخ الشهداء أو التقويم القبطي؛ وذلك تخليدًا للشهداء المصريين الذين ذهبوا ضحية الاضطهاد الديني. ويظهر أن الخلاف بين المصريين والرومان تطور تطورًا خطيرًا حتى بعد أن أصبحت المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية سنة ٣٨٠م؛ فقد خالف مسيحيو مصر رأي مسيحيي الرومان في طبيعة المسيح، إذ قال المصريون: إن للمسيح طبيعة واحدة، بينما قال غيرهم: إن للمسيح طبيعتين. فاضطر أباطرة الرومان أمام هذا الخلاف المذهبي حول طبيعة المسيح إلى عقد مجامع كنسية لمناقشة هذه الآراء المختلفة، وكان من هذه المجامع على سبيل المثال مجمع خلقيدونية سنة ٤٥١م الذي قرر تكفير كل أصحاب مذهب الطبيعة الواحدة، وأصر المصريون على رأيهم وعقيدتهم ولم يتزحزحوا عنها، وأطلقوا على أنفسهم أصحاب المذهب الأرثوذكسي (أي أتباع المذهب الصحيح)، وقاوم الرومان المذهب الأرثوذكسي بكل الوسائل، وحاولوا إخضاع المصريين لمذهبهم الديني، فقاومهم المصريون وهرب عدد منهم إلى تلال المقطم وصحاري مصر وهناك أنشئوا لهم نظامًا خاصًّا هو ما عُرِفَ بعد ذلك بالرهبنة.

فالمصريون إذن هم الذين ابتدعوا الرهبنة في المسيحية إبان حركة الاضطهاد الديني، وكان كل التفكير المصري يكاد ينحصر في مقاومة الاضطهاد المذهبي. ويُخيل إليَّ أن الحركة الدينية في مصر اتخذت شكلًا قوميًّا بجانب سببها الديني؛ حتى ذهب أحد المؤرخين إلى القول «بأن المسيحيين في مصر لم يقبلوا التحول عن مذهبهم الأرثوذكسي؛ لأنهم مصريون.» وكان لهذه المقاومة المصرية أثر شديد على المصريين؛ فإنهم أخذوا يؤلفون كُتبهم الدينية بلغتهم القبطية التي كان يتحدث بها رجل الشارع، واستخدموا في رسمها الحروف اليونانية؛ فارتقت بذلك اللغة القبطية إلى لغة تأليف وتدوين وخطابة بعد أن ظلت عدة قرون لغة التخاطب بين الشعب فحسب، وأُنشدت أشعار دينية باللغة القبطية، وبها كتب الآباء البطاركة سيَر الآباء السابقين، وترجموا إلى اللغة القبطية جميع كُتب الطقوس الدينية بما في ذلك الكتاب المقدس؛ لأن المصريين استبدلوا اللغة اليونانية باللغة القبطية في كنيستهم الأرثوذكسية.

ولعل أهم الكُتب التي أُلفت في أواخر أيام الرومان في مصر باللغة القبطية كتاب «في التاريخ» وضعه يحيى النقيوسي الذي كان يعيش في القرن السابع الميلادي، وشاهد فتح العرب لمصر، وتحدَّث في كتابه هذا عن الفتح. ولكن هذا الكتاب فُقِدَ، ولم يبقَ منه إلا ترجمة حبشية لجزء صغير منه. ومع هذا النشاط الذي طرأ على اللغة القبطية وآدابها فإنها لم ترقَ إلى مستوى أدبي رفيع؛ لاقتصار الآداب القبطية في الغالب على الأدب الديني والتاريخ بجانب ما كان يُنشده الشعب المصري من غناء أو نواح.

وكان بمصر قُبيل الفتح العربي دراسات يونانية هي امتداد للدراسات التي كانت تتمايز بها مدرسة الإسكندرية العتيدة، ونحن نعلم أن هذه الدراسات تطورت في الدور الثاني من أدوارها، واتجهت إلى المزج بين الفلسفة والدين، فتأثرت الفلسفة بالدين وتأثر الدين بالفلسفة، وكثرت المجادلات والمناظرات بين المسيحيين والوثنيين، وبين الفِرق المسيحية المختلفة، كما اختلطت الآراء الفلسفية اليونانية القديمة بالتعاليم اليهودية فأدى ذلك كله إلى ظهور آراء فيلون اليهودي، وإلى ظهور مذهب فلسفي جديد وهو ما عُرِفَ في تاريخ الفلسفة بالأفلاطونية الحديثة، وكان لهذا المذهب الجديد أثره في الدين والتفكير؛ إذ كثُرت الكتابة في الموضوعات المسيحية وبُنيت كلها على مذهب الأفلاطونية الحديثة.

أما في الدراسات الرياضية فكان العلماء خاضعين لآراء الفلسفة الفيثاغورية، ولنظريات أرشميدس الذي يقال إنه أول من مسح الأرض المصرية بالفدان والقيراط، ولأقوال ذيوفنتيس صاحب علم الجبر، وكان المعول الأول في الفلك على ما كتبه بطليموس ولا سيما كتابه المجسطي. غير أن علوم الفلك كانت تقوم على الأكثر على محاولة معرفة الغيب أو ما يُعرف بالتنجيم. وكثر الذين مارسوا هذا الفن ولا سيما في هذه العصور التي كان فيها التنجيم ذا أثر قوي في الحياة المصرية وغير المصرية، وكان الملوك والأمراء يرسلون إلى مصر في طلب المنجمين أو للسؤال عما يحمله الغيب لهم. ولعل أشهر المنجمين في ذلك العصر هو اصطفن السكندري الذي كان يُلقب بحكيم العالم وعلَّامة الزمان، وتنبأ هذا المنجم بفتح العرب لمصر وذكر صفة العرب ودينهم.

كما كان بمصر دراسات أدبية يونانية، وظهرت أشعار يونانية متأثرة بالاتجاهات الدينية المسيحية؛ فالشاعر بولس السيلنتياري أنشد شعرًا في مدح القديسة صوفيا، وكان شعره على نمط شعر هوميروس ذي الستة المقاطع، وأنشد الشاعر صوفرونيوس شعرًا في التشوق إلى الأراضي المقدسة على نمط شعر الشاعر اليوناني أناكريون. كما اهتم بعض الدارسين بنسخ الآداب اليونانية القديمة ومحاولة تقليد الأدب اليوناني القديم، ولكن هذه المحاولات كانت ضعيفة الأثر فلم يكن لها قوة الأدب القديم، بالرغم من أن بعض قصائد الشاعر المصري كريستو دوروس الذي نبغ في مدينة طيبة في القرن السادس الميلادي سُجلت بين منتخبات الشعر اليوناني.

كذلك تسمع عن عدد من العلماء خُصوا بدراسة اللغة اليونانية وقواعد نحوها مثل «يوحنا الجراماطيقي النحوي»، ووُجد جماعة من العلماء عملوا في نسخ الكُتب اليونانية القديمة والتعليق عليها. ومعنى هذا كله أن الإسكندرية قبيل الفتح كانت مركزًا من مراكز الثقافة اليونانية، وكان يَفِد عليها العلماء للبحث عن الكُتب اليونانية القديمة والاستزادة من الدراسات التي كانت بها.

أما العلوم الطبية التي عُرفت بها مصر منذ أقدم عصورها فقد استمر تيارها. ولكن الذين عُرفوا بمهارتهم في هذا الفن قبيل الفتح هم جماعة السريان الذين نشطوا في الإسكندرية وفي الأديرة الخاصة بهم، وبسببهم عرفت مصر اللغة السريانية، ولكنها كانت في محيط هذه الطائفة فقط. وكان لهم نشاط علمي ملحوظ؛ فقد ترجم أحد أساقفتهم نسخة الترجمة السبعينية من الكتاب المقدس إلى اللغة السريانية. وكتب أهرن القس مقالاته الطبية التي يجمعها «كناش في الطب» الذي تُرجم إلى اللغة العربية بأمر الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، وهذا الكتاب من أقوم الكُتب الطبية التي اعتمد عليها المسلمون في دراساتهم الطبية. وظهر في هذا العصر الطبيب السرياني أريباسيوس الذي شاهد فتح العرب لمصر، وترك عدة أبحاث طبية، وعرفه الباحثون المسلمون باسم «صاحب الكنانيش»، وتُرجم له إلى اللغة العربية سبع مقالات عن علل النساء. وخلاصة القول في علم الطب أن مصر كانت كعبة يقصدها كل من اهتم بالدراسات الطبية، ولا سيما أن المصريين اهتموا اهتمامًا خاصًّا بكُتب جالينوس وهي الكُتب التي عرفها المسلمون بعد أن تُرجمت إلى العربية وصارت من أقوم الكُتب الطبية التي اعتمدوا عليها.

وقد استمرت دراسة الطب والكيمياء في مصر بعد دخول العرب بها، فاصطفن الإسكندراني يترجم كتابًا لخالد بن يزيد بن معاوية، والطبيب ابن أبجر السكندري الذي كان يتولى تدريس الطب بمصر كان يعتمد عليه عمر بن عبد العزيز في صناعة الطب. وفي العصر العباسي مرضت جارية للرشيد فأرسل إلى مصر يستدعي الطبيب بليطان لمعالجتها، وكان الطبيب سعيد بن توفيل يطبب أحمد بن طولون، وكان من الطبيعي أن يضعف أمر مدرسة الطب السريانية؛ لاشتغال المسلمين والأقباط بهذا العلم واستعمال اللغة العربية بدلًا من السريانية. وكذلك نقول عن علم الكيمياء، فقد كانت مصر من البلاد التي استمد العالم منها هذا العلم الذي كان يسميه العرب «علم الصنعة»، وكل من تحدَّث عن تاريخ علم الكيمياء يذكر أثر مصر منذ أقدم العصور، واستمرت مصر تُخرِج علماء في هذا الفن. ولعل أشهر الذين نبغوا في الكيمياء قبيل الفتح هو روشم الذي ألَّف عدة كُتب تنافس المسلمون في الظفر بها.

هكذا أسهمت مصر قبيل الفتح العربي في عدة ألوان من الثقافة والآداب، والذي نلحظه أن أكثر هذه الدراسات التي كانت بمصر ليست مصرية الأصل إنما هي دخيلة على البلاد، وتلقتها مصر بدافع حبها للمعرفة والعلم، وسرعان ما أتقنتها واحتفظت بها ثم صبغتها بصبغتها المصرية وأذاعتها مرة أخرى على العالم، وصارت مصر من أهم مراكز هذه الثقافات، فلولا مصر لضاعت أكثر معالم الآداب والعلوم اليونانية القديمة. وسنرى في هذا الكتاب أن مصر وقفت من العلوم العربية والإسلامية نفس الموقف الذي وقفته من العلوم اليونانية، سنرى أن مصر استقبلت العرب وما معهم من ثقافات، ولكن بفضل قوة مصر الهاضمة استطاعت أن تُمصِّر العرب وأن تحافظ على التراث العربي والإسلامي، وتدافع عن العروبة والإسلام، وتنشر العلوم العربية والإسلامية في جميع بقاع العالم ولا سيما في البلاد العربية، مما يجعل لهذه البلاد العربية وحدة فكرية ظلت تحافظ عليها منذ عصر الفتوحات الإسلامية الكبرى في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب.

ولا بد قبل أن أختم هذا الفصل من الإشارة إلى ما ذكره بعض المؤرخين — أمثال عبد اللطيف البغدادي في كتابه «الإفادة والاعتبار»، والقفطي في كتابه «إخبار العلماء بأخبار الحكماء»، وابن العبري وجورجي زيدان وغيرهم — أن عمرو بن العاص أمر بإحراق مكتبة الإسكندرية بعد أن استأذن عمر بن الخطاب في أمرها، وقد ناقش هذه الرواية عدد كبير من المؤرخين والمستشرقين؛ فالمؤرخ جيبون ناقش هذه الرواية بإيجاز شديد ثم رفضها، وقال المؤرخ رينودو إن بالقصة عنصرًا من عناصر الخيال والوضع كما رفضها جوستاف لوبون في كتابه الحضارة العربية. وذهب المستشرق سيديو إلى أن هذه القصة وضعها كُتاب معادون للعرب والإسلام إبان الحروب الصليبية، ونشر جريفني المستشرق الإيطالي بحثًا باللغة العربية في جريدة الأهرام بعدد ٢١ يناير سنة ١٩٢٤ ختمه بقوله: «إن جميع العلماء الذين بحثوا قصة حريق مكتبة الإسكندرية انتهوا بأبحاثهم إلى أنها خرافة من خرافات العصور الوسطى.» أما الأستاذ بتلر فقد تحدَّث عن هذه القصة طويلًا في كتابه «فتح العرب لمصر» ونلخص حديثه فيما يأتي:
  • (١)

    هذه القضية لم تُعرف وتنتشر في العالم إلا بعد خمسمائة عام ونيف من فتح العرب لمصر، فلم يرد لها ذكر في الكُتب التي سبقت البغدادي والقفطي وابن العبري.

  • (٢)

    أن يحيى النحوي الذي تذكر القصة أنه العامل الأكبر فيها توفي قبل الفتح بقرنين من الزمان.

  • (٣)

    أن مكتبة الإسكندرية الكبرى حُرقت في عهد يوليوس قيصر، وأن المكتبة الصغرى التي كانت بالسرابيوم نُقلت أو أُتلفت قبل سنة ٣٩١م، فلم توجد مكتبة بالمعنى الصحيح أثناء الفتح العربي.

  • (٤)

    ولو صح أن العرب أحرقوا مكتبة الإسكندرية لما غفل عن ذكر ذلك المؤرخ القبطي حنا النيقوسي الذي أرخ لمصر أثناء الفتح العربي؛ لأنه كان معاصرًا لهذه الحوادث، وختم بحثه بأن كل ما قيل حول حريق مكتبة الإسكندرية قصة خرافية ليس لها أساس من التاريخ.

وإذن فكل ما قيل من أن عمرو بن العاص حرق مكتبة الإسكندرية هو من وضع أعداء العرب وأعداء المسلمين وليس بحقيقة تاريخية.

(٣) قبائل العرب بمصر

يذهب علماء الجيولوجيا إلى أن صحراء مصر الشرقية تعتبر جزءًا من البلاد العربية، وأن تكوين البلاد العربية جعلتها وحدة طبيعية لا تنفصم عُراها بالرغم من انقسامها إلى دول سياسية هي من صنع البشر وليست بالانقسامات الطبيعية، ومع هذا الانقسام فالصلة بين شعوب هذه الدول هي صلة ذوي القربى والرحم بجانب هذه الصلات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت بينها منذ أقدم العصور، ونمت هذه الصلات نموًّا مُطَّردًا على توالي السنين؛ فمثلًا إذا حدثت مجاعة في بلد من البلاد العربية هاجر عدد من سكانه إلى بلد عربي آخر وأقاموا فيه بين إخوانهم سكان هذا البلد الآخر.

والتاريخ منذ القِدم يُحدِّثنا عن هجرات كثيرة من هذا القبيل إلى مصر، مثل هجرة إبراهيم الخليل مع بعض قومه إلى مصر، وزواجه من هاجر المصرية التي أنجبت له إسماعيل أبا قبائل العرب العدنانية، وفي التوراة ذُكر كثير من هجرات عربية إلى مصر. كما أن مصر تكاد تكون أكثر بلاد العالم ذكرًا في القرآن الكريم، ونحن نعلم أن النبي محمدًا أرسل يدعو حاكم مصر في العهد الروماني إلى الإسلام، وأن هذا الحاكم أجاب الرسول الكريم إجابة حسنة شفعها بهدية للرسول عليه الصلاة والسلام، ومنها مارية القبطية التي تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام وأنجب منها ولده إبراهيم. وفي الأحاديث النبوية بعض أحاديث يوصي فيها النبي بمصر وسكانها خيرًا. كما كان يسكن مصر وقت الفتح العربي عدد كبير من العرب في إقليم شرق الدلتا وفي بعض مدن الصعيد مثل مدينة قفط، كانوا يعيشون بين إخوانهم المصريين دون أن يشعروا بغربة عن ديارهم. هذا كله إن دل على شيء فإنما يدل على شدة الصلة بين البلاد العربية ومصر منذ عهد بعيد، وقد فطن القائد العربي عمرو بن العاص بعد أن تم له تحرير فلسطين من أيدي الرومان إلى أن الأمر لن يتم للعرب إلا بعد تحرير مصر أيضًا، فاستأذن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الزحف إلى مصر في جيش من مختلف القبائل وكان أكثرهم من قبيلة «عك» القضاعية ومن لخم، ثم جاءه أثناء الفتح مَدد قُدِّرَ باثني عشر ألفًا من مختلف القبائل تم بهم الفتح. ولما أراد عمرو أن يبني مدينة الفسطاط أمر أن تُقسم المدينة إلى خطط حسب القبائل التي اشتركت في الفتح؛ فاختطت بالفسطاط قبائل مهرة وتجيب ولخم وغسان وجذام والأزد وحضرموت ويحصب وسبأ ووائل ومذجح وخولان والصدف وغافق، وكان من بني غافق بطن يُعرفون بالقرافة سكنوا سفح المقطم ثم أمرهم عمرو بن العاص أن يتركوا مكانهم ليكون مقبرة للمسلمين فسُمِّيت المقابر في مصر بالقرافة نسبةً إلى هؤلاء القوم.

واختط بالفسطاط أيضًا عدد من قبائل مختلفة مثل قريش وخزاعة ومزينة وجهينة وأشجع وثقيف ودوس وليث، عُرفت خطتهم باسم أهل الراية؛ لأنهم كانوا أفرادًا من قبائل مختلفة لم يكن لكل جماعة منهم من العدد ما ينفرد بخطة خاصة. وجاء مع جيش الفتح قوم من الفُرس هم سلالة جُند باذان عامل كسرى على اليمن قبل الإسلام، وأنعم الله عليهم بالإسلام ورغبوا في الجهاد، وجاءوا مع عمرو في جيش الفتح واختطوا بالفسطاط. كما نفر مع جيش الفتح جماعة ممن كان يسكن مدينة قيسارية وما حولها واختطوا بالفسطاط، وعُرفت خطتهم بالحمراء؛ لأنهم خليط من العرب والروم.

أما قبيلة همدان فلم تقبل أن تسكن بالفسطاط وإنما اختطت بالجيزة واختط معها قبائل نافع وذي أصبح والحجر.

أما قبيلة هدان فلم تقبل أن تسكن بالفسطاط وإنما اختطت بالجيزة نزل فيه هو وأسرته. ولذلك اختلطت القبائل بالإسكندرية وأصبح من الصعب تحديدها، ولكن كان أكثر العرب الذين نزحوا إليها من قبائل لخم وجذام ومذحج، وازداد العرب بالإسكندرية حتى صار عددهم في عهد معاوية بن أبي سفيان حوالي سبعة وعشرين ألفًا.

واتخذ العرب رباطات في بعض الثغور؛ لدفع الخطر عن مصر وحمايتها من اعتداءات الروم، فكانت سياسة عمرو بن العاص في أول الأمر أن يُقسم العرب بمصر إلى أربعة أقسام، كان يرسل رُبعهم إلى رباط الإسكندرية، والربع إلى رباطات السواحل، والنصف للإقامة معه؛ على أن يستبدل بهم كل ستة أشهر. كما وضع نظامًا آخر للقبائل، ففي فصل الربيع كان يأمر العرب بالخروج من ثكناتهم العسكرية؛ ليجوسوا خلال الريف المصري. وكانت كل قبيلة تختار منطقة خاصة لقضاء الربيع فيها، فمثلًا كانت قبيلة هذيل تربع في بَنا وبوصير (مركز سمنود حاليًّا)، كما كان بعض أفرادها يذهبون إلى طوخ الخيل (مركز المنيا حاليًّا). وقريش اختاروا منوف ووسيم، وقبائل غفار وأسلم وجذام كانوا يربعون في بسطة (الزقازيق حاليًّا) وكفر صقر وفاقوس، وكانت حضرموت تذهب إلى ببا وعين شمس وأتريب وهكذا كان يكتب عمرو بربيع كل قبيلة.

بعد أن تم الفتح العربي؛ أخذت قبائل العرب تفِد على مصر في هجرات متتابعة كالأمواج حتى غصت بهم مصر، وضاقت الفسطاط بالقبائل الوافدة، فاضطروا إلى التفرق في البلاد المصرية المختلفة والاختلاط بالمصريين، وأشهر هذه الهجرات هي هجرة بطون بلي القضاعية من الشام إلى مصر في عهد عمر بن الخطاب وانتشارهم في مصر ولا سيما حول مدينة أخميم وما يليها. وفي سنة ٥٣ﻫ وفد على مصر جماعة كبيرة من الأزد كانوا يسكنون البصرة، وفي سنة ١٠٩ﻫ نزل بنو سليم مصر وهم من القيسية — ولم يكن بأرض مصر أحد من قيس قبل ذلك إلا عدد قليل من قبيلة عدوان — نزل بنو سليم شرق الدلتا ولا سيما مديرية الشرقية الحالية، واشتغلوا بالزراعة والرعي والتجارة فكثرت أموالهم، فلما بلغ ذلك عامة قومهم رحل إليهم خمسمائة أُسرة من البادية، وبعد سنة أتاهم ألف وخمسمائة بيت، ثم تكاثر عددهم حتى صار في أواخر العصر الأموي نحو ثلاثة آلاف أُسرة. وفي العصر العباسي زاد عددهم إلى حوالي خمسة آلاف أُسرة، ولكثرة القيسية وتجمُّعهم في شرق الدلتا وثرائهم العظيم كانوا مصدرًا لكثير من الأحداث الداخلية ولا سيما بعد أن جاورهم جماعة من بطون طارق وصلاح وهم من عرب اليمن.

وبعد قيام الدولة العباسية وفدت قبائل تميم وانتشرت في البلاد، وفي القرن الخامس للهجرة وفدت على مصر قبيلة كنانة مضر وسكنوا في الأشمونين (مركز الروضة بأسيوط حاليًّا). وفي هذا القرن أيضًا وفدت قبائل بني هلال وسكنوا الصعيد وكثرت شرورهم، فأرادت الحكومة التخلص منهم فأخرجتهم مع الجيش الذي بعثت به لإخضاع المعز بن باديس، الذي خرج عن طاعة الفاطميين، وكان لبني هلال بالمغرب وقائع وأحداث صيغت في الملحمة الشعبية المعروفة بسيرة أبي زيد الهلالي.

على أن قبائل العرب المختلفة الذين وفدوا على مصر منذ الفتح، لم يستقروا بخططهم بالفسطاط والجيزة أو أخائذهم بالإسكندرية، بل أخذوا على مر السنين في النزوح من أماكنهم والاستقرار في البلاد المختلفة، فقد وفد على مصر نحو ثلاثين قبيلة من عرب عدنان، ربما كانت قبيلة قريش أكثرها عددًا بعد أن كانوا قلة وقت الفتح. هذه القبائل العدنانية انتشرت في مصر حول منوف وبلبيس وبسطة (الزقازيق) وطرابية (كفر صقر) وسمنود وخربتا (بالبحيرة) وحلوان وسكر (مديرية الجيزة) وبوصير وأهناس (مديرية بني سويف) وطحا وطوخ الخيل (بالمنيا) والأشمونين (بأسيوط) وأخميم (بمديرية جرجا) وأسوان.

أما عرب اليمن — أي عرب الجنوب — فقد كانوا أكثر القبائل العربية وفودًا على مصر، وأكثرهم انتشارًا في البلاد جميعًا بحيث لم تخلُ منطقة في مصر من عرب اليمن، وكثيرًا ما كانوا يزاحمون عرب الشمال في مقرهم.

نستطيع أن نتبين مما تقدم أن القبائل العربية اتصلت بالريف المصري والمدن المصرية منذ تم الفتح العربي، وكان لهذا الاتصال أثر بعيد المدى في حياة المصريين وحياة العرب معًا، فقد ساعد على انتشار الدين الإسلامي في مصر حتى ساد هذا الدين البلاد المصرية، واختلط العرب بالمصريين عن طريق الزواج مما أدى إلى وجود أجيال من الشعب يَجري في عروقها الدماء العربية والمصرية هو شعب مصر الإسلامية تتمثل فيه خصائص العرب والمصريين جميعًا. ثم أدى ذلك كله إلى انتشار اللغة العربية في البلاد، فقد ذكرنا أن لغة أهل مصر قبل الفتح كانت اللغة القبطية بينما كانت اللغة الرسمية هي اللغة اليونانية، واستمر الأمر كذلك إلى ما بعد الفتح. وظلت اللغة العربية في حيز ضيق في أول الأمر يتحدث بها العرب الوافدون ومن جاورهم من المصريين، وفي سنة سبع وثمانين هجرية أمر الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بتعريب الدواوين، فأصبحت اللغة العربية هي اللغة الرسمية في مصر، وأخذ يقوى شأن اللغة العربية بعد ذلك في البلاد المصرية شيئًا فشيئًا إلى أن أصبحت لغة الشعب المصري الإسلامي، وضعفت اللغة القبطية ضعفًا شديدًا جدًّا؛ الأمر الذي أدى إلى أن يضطر رجال الكنيسة المصرية إلى ترجمة كُتبهم المقدسة إلى اللغة العربية وتأليف كُتبهم الدينية باللغة العربية؛ لعدم وجود من يعرف اللغة القبطية بين أفراد الشعب. وليس معنى ذلك أن اللغة القبطية اندثرت تمامًا، بل ظلت تُستخدم على شكل ما في الكنائس المصرية، ودخل بعض مفرداتها في اللغة التي يستخدمها الشعب المصري؛ فالمصريون إلى الآن لا يزالون يتحدثون ببعض الألفاظ القبطية في حديثهم اليومي مثل قولهم: «شونة» بمعنى مخزن، وقولهم: «كاني وماني»، وأسماء المكاييل المصرية: «أردب وكيلة إلخ» هي من تراث اللغة القبطية. وأهل الريف المصري يتخذون أسماء الشهور القبطية تقويمًا زراعيًّا لهم، بل جعلوا لكل شهر من هذا التقويم مثلًا سائرًا يدل على حالة المناخ المصري وما يتبع المناخ من حاصلات زراعية.

ومهما يكن من شيء، فإن وفود هذا العدد الضخم من القبائل العربية إلى مصر واستقرارهم بها؛ كان العامل الأول لهذا الانقلاب الخطير الذي حل بمصر بأن جعلها دولة عربية إسلامية. وبالرغم من هذا كله، فإن مصر قامت بدورها أيضًا في صبغ العرب الذين استقروا بها بالصبغة المصرية، بحيث أصبح من الصعب العسير أن نُفرِّق بين العربي الأصيل وبين المصري الأصيل؛ فالتفاعل — إن صح هذا التعبير — بين العرب والمصريين كان شديدًا جدًّا جعل العنصرين يمتزجان امتزاجًا تامًّا كان من نتيجته هذا الشعب المصري الإسلامي الذي سنحاول أن ندرس حياته العقلية والأدبية في هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤