الفصل الثاني

الشعراء الوافدون

منذ حرر العرب مصر من الرومان ووفدت قبائل العرب إليها واستقروا بها، كان بعض الولاة ممن يقرضون الشعر مثل الوالي عقبة بن عامر الذي كان شاعرًا، ولكن منعه شدة حرصه على دينه من أن يُكثر من إنشاء الشعر، وكان أكثر الولاة ممن يحبون الاستماع إلى الشعر ولا سيما مدائح الشعراء لهم تشبهًا بخلفاء الأمويين والعباسيين، فكان منهم من جعل من مقره كعبة يحج إليها الشعراء المتكسبون، فكان الشعراء يحملون إلى الولاة قصائد المدح، ويقيمون في مصر مدة من الزمان طالت أو قصرت ثم يعودون إلى بلادهم. غير أن الظاهرة العجيبة في أمر هؤلاء الشعراء أنهم وفدوا على مصر يحدوهم الأمل في الغناء العريض والكسب الوفير، وذكروا ذلك كله في قصائدهم الأولى التي حملوها معهم إلى مصر أو التي أنشدوها في مصر بعد قدومهم بقليل.

ولكن سرعان ما نرى أن أكثر هؤلاء الشعراء خرجوا من مصر وهم يهجون مصر والمصريين. وعندي أن سبب هذه الظاهرة أن هؤلاء الشعراء كانوا تجارًا جشعين قبل كل شيء، فلولا ما كانوا يأملونه من المال الكثير من مصر ما تركوا وطنهم إلى مصر، سمعوا عن ثراء مصر والمصريين وعن ترف الحياة المصرية وخفض العيش بها فازداد طمعهم واشتد جشعهم، فجاءوا يحملون بضاعتهم إلى مصر فلما بارت تجارتهم ولم تحقق آمالهم ومطامعهم، ارتدوا إلى بلدهم ساخطين على مصر والمصريين، فهجاء الشعراء الوافدين صورة لمطامع هؤلاء الشعراء، ولم تكن مصر السبب في هذا الهجاء، إنما السبب فيه هي علة الطمع التي شقي بها هؤلاء الشعراء. وسنرى أن بعض هؤلاء الشعراء الوافدين مثل المتنبي جاء مصر وهو يحمل أضخم شهرة في عالم الشعر في عصره فوجد دولة الشعر في مصر مزدهرة يانعة، ووقف شعراء مصر ونقادها له بالمرصاد، فاضطر إلى أن يتنازل عن كبريائه وعناده، حتى إذا خرج من مصر هجا مصر والمصريين هجاء يدل على حقده عليهم وتبرمه بهم؛ بسبب ما لاقاه من نقدهم العنيف لشعره.

على أن هؤلاء الشعراء الوافدين كانوا من عوامل ظهور الشعر المصري وتطوره؛ فمن المصريين من حاول تقليدهم، ومنهم من تفتحت شاعريتهم عند سماعهم شعر الوافدين أو ما رواه الوافدون من شعر غيرهم، فوجود أمثال هؤلاء الشعراء في مصر كان بمثابة مدرسة غير مباشرة لتعليم الشعر وإنشاده بجانب ما كان يُلقى في المسجد الجامع بالفسطاط من دراسات أدبية ومساجلات بين العلماء وإنشاد للشعر.

كل ذلك كان من عوامل إيقاظ الحياة الأدبية في مصر وخاصةً في فنون الشعر. ولعل عبد العزيز بن مروان كان من أوائل ولاة مصر الذين جمعوا حولهم عددًا كبيرًا من الشعراء الوافدين؛ فقد اتصل به عدد من الشعراء النابهين لجوده وكثرة عطائه، ثم لأنه كان ولي عهد الخلافة الأموية؛ فقصده الشعراء وهو على مصر حتى يكون لهم شأن بعد أن تصير إليه الخلافة. وفد عليه الشاعر أيمن بن خريم الأسدي، وهو شاعر متكسب عُرِفَ بتردده بين الأحزاب التي كانت في عصره وتقلُّبه بين هذه الأحزاب جريًا وراء مصالحه الخاصة؛ فهو مرة شيعي يمدح أهل البيت ثم اتصل بالزبيريين وصار أحد ألسنتهم، ثم ترك الزبيريين وأصبح من شعراء الأمراء الأمويين فاتصل بالأمير يحيى بن الحكم ثم تركه، ووفد على مصر لمدح عبد العزيز بن مروان ثم تركه غاضبًا واتصل ببشر بن مروان بالعراق وأنشده مدائح يُعرِّض فيها بالأمير عبد العزيز بن مروان بعد أن كان من جلساء عبد العزيز وخاصته، بالرغم من أن أيمن كان به بَرَص، فلم يمنعه ذلك المرض الخبيث من أن يجلس مع الأمير ويؤاكله زهاء سنة، وكان الأمير يحتمله لما جُبِلَ عليه الأمير من كرم وحُسن وفادة وسعة صدر ثم لأنه كان يحب الشعر والشعراء. وكان أحب الشعر إليه هو الشعر الذي يقصد إليه الشعراء بذكر نسبة الأمير إلى أُمه «ليلى» لشرفها في قبيلتها، مدحه أيمن بقوله:

لا يرغب الناس أن يَعدِلوا
بعبد العزيز بن ليلى أميرا
ترى قدره معلنًا بالفناء
يلقم بعد الجزور الجزورا

مدحه الشاعر بأنه ابن «ليلى»، ثم نراه في البيت الثاني يشير إلى ما ذكره مؤرخو مصر عن عبد العزيز بن مروان أنه كان له ألف جفنة كل يوم تُنصب حول داره، وكانت له مائة جفنة يُطاف بها على القبائل تُحمل على العجل إلى قبائل مصر، وذلك يدل على شدة كرم عبد العزيز. وفسدت العلاقة بين الشاعر وأميره الكريم بسبب تنافس الشعراء الوافدين؛ فقد وفد الشاعر الأسود نصيب بن رباح على عبد العزيز بمصر وأنشده قصيدة امتدحه بها، وبينما هو يُنشد دخل أيمن بن خريم، فسأل الأمير: كيف تسمع يا أيمن؟ قال: شاعر أسود هو أشعر أهل جلدته، قال الأمير: هو والله أشعر منك، وكرر ذلك، فغضب أيمن وقال للأمير: والله أيها الأمير إنك لملول طرف، فقال له الأمير: كذبت والله، ما أنا كذلك، ولو كنت كذلك ما صبرت عليك تنازعني التحية وتواكلني الطعام وتتكئ على وسادتي وفرشي وبك ما بك، يشير في ذلك إلى مرض أيمن بالبرص، فاغتاظ أيمن واستأذن الأمير في الخروج إلى العراق فأذن له، فسار أيمن إلى بشر بن مروان ومدحه بقوله:

ركبت من المقطم في جمادى
إلى بِشر بن مروان البريدا
ولو أعطاك بِشرٌ ألف ألفٍ
رأى حقًّا عليه أن يزيدا
أمير المؤمنين أقم ببِشرٍ
عمود الحق إن له عمودا
ودع بِشرًا يُقوِّمهم ويُحدِث
لأهل الزيغ إسلامًا جديدا
كأن التاج تاج بني هرقل
جلوه لأعظم الأيام عيدا
على ديباج خدي وجه بِشرٍ
إذ الألوان خالفت الخدودا

فالشاعر هنا يمدح بِشرًا، ولكنه يُعرِّض بالأمير عبد العزيز فهو يطالب الخليفة أن يعزل عبد العزيز عن ولاية العهد ويوليها بِشرًا، وفي البيت الأخير يُعرِّض بعبد العزيز؛ لأنه كان بوجهه نمش. ولم تحتفظ كُتب التاريخ والأدب بشعر أيمن كله فلا نعرف شيئًا عن قصائده بمصر، ولا قصائده الأخرى التي أنشدها عقب خروجه من مصر والتي نرجح أن بها تعريضًا بالأمير عبد العزيز على نحو ما رأيناه في المقطوعة السابقة.

أما الشاعر نصيب بن رباح فقد وفد على عبد العزيز بقصد النوال، والروايات مختلفة في طريقة اتصاله بالأمير عبد العزيز، ولا سيما أن الشاعر كان أسود اللون عبدًا لم يَجرِ عليه العتق. ومهما كان اختلاف هذه الروايات فإنها تُجمع على أن نصيبًا استطاع أن يتصل بالأمير، وأن تشتد هذه الصلة بحيث اشترى عبد العزيز ولاءه ولُقِّبَ الشاعر بمولى عبد العزيز مروان، وكان الشاعر يَفِد كل عام على عبد العزيز ليمدحه ويأخذ عطاءه ثم يعود، فمن مدائحه قوله في شدة كرم عبد العزيز:

لعبد العزيز على قومه
وغيرهم نِعم غامرة
فبابك ألين أبوابهم
ودارك مأهولة عامرة
وكلبك آنس بالمعتقين
من الأُم بالابنة الزائرة
وكفك حين ترى السائلـ
ـين أندى من الليلة الماطرة
فمنك العطاء ومني الثناء
بكل محبرة سائرة

وقال في إحدى قصائده يُشيد بأقوال وأفعال عبد العزيز:

يقول فيُحسن القول ابن ليلى
ويفعل فوق أحسن ما يقول
فتًى لا يرزأ الخلان إلا
مودتهم ويرزؤه الخليل
فبشِّر أهل مصر فقد أتاهم
مع النيل الذي في مصر نيل

فلعلك تلاحظ أثر مصر في هذه المقطوعة؛ فالعرب يُشبِّهون الكريم بالبحر وبالغيث، ولكن الشاعر هنا في مصر حيث النيل بفيضه وغزارة مائه وعذوبته فشبَّه الممدوح بنيل مصر، وهو معنى لا يتأتى للشاعر إلا إذا كان في مصر أو ممن عرف نيل مصر.

واستمرت صلة الشاعر بالأمير إلى أن أصيبت مصر بوباء الطاعون سنة ٨٦ﻫ، وهرب الأمير إلى قرية «سكر» في مديرية الجيزة الحالية فرارًا من الوباء، ولكنه توفي بالطاعون، فرثاه الشاعر بعدة قصائد أظهر فيها لوعته وحزنه ويبكي مآثره فهو يقول في إحداها:

أُصبت يوم الصعيد في سكرٍ
مصيبةً ليس لي بها قِبلُ
تالله أنسى مصيبتي أبدًا
ما أسمعتني حنينها الإبلُ
ولا التبكي عليه أعوله
كل المصيبات بعده جللُ
لم يعلم النعش ما عليه من العُـ
ـرف ولا الحاملون ما حملوا
حتى أجنوه في ضريحهم
حين انتهى من خليله الأملُ

كذلك وفد الشاعر عبيد الله بن قيس الرقيات على عبد العزيز بن مروان، مدح الأمير ووصف مدينة حلوان التي بناها الأمير وتحدَّث عما بها من نخل وكروم وشجر التين:

سقيًا لحلوان ذي الكُروم
وما صنَف من تِينه ومن عِنبه
نخلٌ مواقير بالغناء من الـ
ـبرني غلب يهتز في شُربه
أسود سُكانه الحمام فما
تنفك غربانه على رُطبه

وفي ديوان ابن قيس الرقيات مقطوعات كثيرة في مدح عبد العزيز، من ذلك ما قاله لما خرج الأمير إلى الإسكندرية خرْجته الثالثة سنة ٨١ﻫ، وفيها يتحدث الشاعر عن الأماكن التي مر بها في رحلته:

غدوا من مدرج الكريو
ن حيث سفينهم حُزق
كما يغدو نشاص من
سحاب الصيف منطلق
فلما أن علون النيـ
ـل والرايات تختفق
رأيت الجوهر الحكمـ
ـي والديباج يأتلق
وخز السوس والأضر يسـ
ـح فصل بينه السرق
وخمل الأرجوان على
السفين كأنه العلق
سفائن غير مقلعة
إلى حلوان تستبق
محل مَنْ يَحل به
لذيذٌ عيشه غدق
يَحل به ابن ليلى والنـ
ـدى والحِلم والصدق
تكون جفانه رذمًا
فمصبوحٌ ومُغتبق
إذا ما أزحفت رُفقٌ
أتت من دونها رُفق

كذلك وفد جميل بن معمر صاحب «بثينة» الذي أنشد قصيدة يتحدث فيها عن رحلته إلى مصر وتحسُّر صاحبته لفراقه:

وما أنسَ من الأشياء لا أنسَ قولها
وقد قُرِّبت نضوي: أمصر تريد؟

استمع الأمير إلى شعر جميل وأمره بأن يقيم عنده فهيأ له دارًا وأحسن جوائزه ولكن القدر يشاء أن يموت جميل في مصر سنة ٨٢ﻫ.

وجاء كثير عزة إلى مصر عدة مرات يمدح الأمير عبد العزيز، ويقال إنه في إحدى هذه الزيارات كان راحلًا إلى الحجاز فقابل قوم عزة وهم في طريقهم إلى مصر، فحادَث صاحبته طويلًا ثم افترقا على أن يلحق بها في مصر، فلما قَدِمَ مصر للمرة الأخيرة وجد عزة قد توفيت وتوفي الأمير بعدها بقليل، فاسودت الدنيا في وجهه وتغيَّر شعره، فلما سُئِلَ عن قصور شعره قال: ماتت عزة فلا أطرب، وذهب الشباب فلا أعجب، ومات عبد العزيز بن مروان فلا أرغب.

ورثى عبد العزيز بن مروان عدد من الشعراء نذكر منهم ذا الشامة محمد بن عمرو بن الوليد بن عقبة، والشاعر سليمان بن أبي حدير الأنصاري وغيرهما.

هؤلاء الشعراء جميعًا وفدوا على مصر في عهد ولاية عبد العزيز بن مروان التي امتدت إلى زهاء عشرين سنة. ولا شك أن وفود هذا العدد الكبير من الشعراء المعروفين كان له أثره في الحياة الأدبية في مصر بالرغم من أن اللغة العربية لم تكن منتشرة بين جميع المصريين، وأن هؤلاء الشعراء كانوا يعيشون في بلاط الأمير ولم تُتح لهم الفرصة للاتصال بالقبائل العربية، وأن هؤلاء الشعراء أقاموا في مصر مُددًا قصيرة، بالرغم من ذلك كله فإن وفودهم على مصر شجعت شعراء القبائل في مصر على القريض وعلى العناية برواية الشعر ودراسته.

ووفد الشاعر الحزين الكناني على الوالي عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وكان الحزين شاعرًا كثير الانتقال من بلد إلى آخر؛ للكسب بشعره يمدح هذا الأمير أو ذلك الوالي، فكانت مصر من البلاد التي زارها هذا الشاعر ومدح أميرها بقصيدة منها:

الله يعلم أن قد جبت ذا يمنٍ
ثم العراقين لا يُثنيني السأم
ثم الجزيرة أعلاها وأسفلها
كذاك تسري على الأهوال بي القدم
ثم المواسم قد أوطأتها زمنًا
وحيث تحلق عند الحجرة اللمم
قالوا دمشق ينبيك الخبير بها
ثم ائت مِصْر فثم النائل العمم
لما وقفت عليها في الجموع ضحًى
وقد تعرضت الحجاب والخدم
حيَّيته بسلامٍ غير مُرتفق
وضجة القوم عند الباب تزدحم

وفي ولاية يزيد بن حاتم سنة ١٤٤ﻫ وفد عليه ربيعة بن ثابت الرقي الشاعر، ويقال إن الشاعر مدح الأمير فتشاغل هذا عنه ببعض الأمور واستبطأ الشاعر عطاءه فرحل عن مصر وهو يقول:

أراني ولا كفران لله راجعًا
بخُفي حُنينٍ من نوال ابن حاتم

فبلغ الوالي هذا القول فأرسل خلف الشاعر من يرده إلى مصر، فلما دخل عليه الشاعر قال له الأمير: أنت القائل: «أراني ولا كفران لله … إلخ؟» قال: نعم، قال: هل قلت غير هذا؟ قال: لا، قال: والله لترجعن بخُفي حُنين مملوءة مالًا، وأمر بخلع خُفيه وأن تُملأ له مالًا. وقال الشاعر قصيدة في مدح يزيد لما عُزِلَ عن مصر:

بكى أهل مصر بالدموع السواجم
غداة غدا عنها الأغر ابن حاتم

ووفد على هذا الأمير المسهر التميمي وابن المولى محمد بن عبد الله بن مسلم الذي قال في يزيد بن حاتم:

يا واحد العرب الذي
أضحى وليس له نظير
لو كان مثلك آخر
ما كان في الدنيا فقير

أبو نواس في مصر

وفي هذا العصر وفد أبو نواس على مصر، ولمكانة أبي نواس في تاريخ الأدب العربي، ولكثرة ما حُفِظَ لنا من شعره في مصر، رأينا أن نُطيل بعض الشيء في حديثنا عن وفوده على مصر، لا سيما وأن مذهبه الفني ومذهبه في الحياة اتفقا مع مذهب كثير من الشعراء المصريين الذين أتوا بعده.

اختلف المؤرخون في سبب قدوم أبي نواس إلى مصر؛ فمن قائل أنه طمع في نوال الخصيب بن عبد الحميد صاحب الخراج بمصر، فجاء إليها في زي الشُّطار فازدراه الأمير واستخف به ولم يقبل أن يسمع شعره، وعرف المصريون وجود أبي نواس بينهم، فهرعوا إليه يستمعون إلى شعره واشتهر أمره بينهم فأحضره الأمير واستنشده، ومن قائل أن الأمير هو الذي طلب من أبي نواس أن يزوره بمصر، وهذه الرواية الأخيرة أقرب إلى الصواب. قَدِمَ أبو نواس مصر على الخصيب سنة ١٩٠ﻫ، فلما مَثُلَ بين يديه وجد جماعة من شعراء مصر يُنشدونه مدائحهم، فلما فرغوا قال له الخصيب: يا أبا علي ألا تُنشدنا؟ فقال أبو نواس: أُنشدك أيها الأمير قصيدة هي بمنزلة عصا موسى تلقف ما يأفكون، وأنشده قصيدته الرائية التي تُعد من روائع الأدب العربي، ومن هذه القصيدة:

أجارة بيتينا أبوكِ غيور
وميسور ما يُرجى لديكِ عسير
فإن كنتِ لا حِلمًا ولا أنتِ زوجةٌ
فلا برحت دوني عليكِ ستور
وجاورت قومًا لا تزاور بينهم
ولا وصل إلا أن يكون نشور
فما أنا بالمشغوف ضربة لازبٍ
ولا كل سلطانٍ عليَّ قدير
تقول التي من بيتها خفَّ مركبي
عزيزٌ علينا أن نراك تسير
أما دون مصر للغنى مُتطلبٌ
بلى إن أسباب الغنى لكثير
فقلت لها واستعجلتها بوادرٌ
جرت فجرى في جريهن عبير
ذريني أكثر حاسديكِ برحلةٍ
إلى بلدٍ فيه الخصيب أمير
إذا لم تَزُرْ أرض الخصيب ركابنا
فأي فتًى بعد الخصيب تزور

فالشاعر يُصرِّح بأنه وفد على مصر يتطلب الثروة من البلد الذي فيه الخصيب أمير، ولولا هذا المطلب ما جشم نفسه مشقة الحضور إلى مصر، ولا سيما أن علاقته بقصر الخلافة العباسية كانت على أحسن وجه، ولكنه كان يطمع أن يحصل من مصر على أكثر مما كان يحصل عليه من العباسيين، لهذا رحَّب بدعوة الخصيب لزيارة مصر. ظل أبو نواس يمدح الخصيب، وقد ذكرنا أن هذه السنوات كانت كلها فتن وقلاقل في البلاد، وقد أسهم أبو نواس في تهدئة إحدى هذه الثورات؛ فيقال إنه كان مع الخصيب يومًا في مجلس الشراب فسمع صياح الشعب في تجمعهم بسبب ارتفاع الأسعار، فاستأذن الشاعر الأمير أن يحدثهم فأذن له، فخرج أبو نواس حتى وافى المسجد الجامع وصعد المنبر وأخذ يُنشد الثائرين:

منحتكم يا أهل مصر نصيحتي
ألا فخذوا من ناصحٍ بنصيب
ولا تثبوا وثب السِّفاه فتركبوا
على حد حامي الظهر غير ركوب
فإن يَكُ باقٍ إفك فرعون فيكم
فإن عصا موسى بكف خصيب
رماكم أمير المؤمنين بحيةٍ
أكولٍ لحيَّات البلاد شروب

فلعلك تلاحظ كيف استغل أبو نواس قصة «موسى وفرعون» في هذه المقطوعة وكيف شبَّه الخصيب بحية موسى التي تلقف ما عداها من الحيات، فهذا المعنى الذي ردده أبو نواس في أكثر من قصيدة واحدة من قصائده التي أُنشدت في مصر دليل على تأثره بوجوده في مصر، فإنه لم يُنشد هذا المعنى في غير مصر من البلاد التي زارها، فهو يقول مرة يمدح الخصيب:

حيةٌ تصرع الرجال إذا ما
صارعوا رأيه على الأذقان

ويقول مرة أخرى:

وأطرق حيَّات البلاد لحيةٌ
خصيبية التصميم حين تسور

ومدح الخصيب بقصيدة منها:

أنت الخصيب وهذه مِصْر
فتدفقا فكلاكما بحر
لا تصعدا بي عن مدى أمل
شيئًا فما لكما به عذر
ويحق لي إذ صرت بينكما
ألا يحل بساحتي فقر
النيل ينعش ماؤه مِصْرًا
ونداك ينعش أهله الغمر

أخذ الشاعر يمدح الأمير، وهذا يعطيه إلى أن انقلب هذا المدح إلى هجاء، وإذا بكرم الخصيب الذي كرره الشاعر في مدائحه يصبح بخلًا، أمَّا سبب هذا الانقلاب فيقال إن أبا نواس كان يكره خمر مصر، وكان الخصيب يخص نفسه بشراب يُحمل إليه من العراق، فغضب أبو نواس؛ لأن الأمير رفض أن يعطيه ما يحتاج إليه من شراب العراق وهجاه بقوله:

يخص خصيب بالشراب ويُرتجى
لديه نوال إن ذا لعجيب
وليس خصيب بالخصيب لضيفه
ولكنه وعر المحل جديب
فمن كان ذا أهل بمِصْر وثروة
فإني بها صِفر اليدين غريب

وهجاه مرة أخرى بقوله:

نفس الخصيب جميعه كذب
وحديثه لجليسه كرب
تبكي الثياب عليه مُعوِّلةٌ
أن قد يجُر ذيولها كلب

وقال مرة ثالثة:

خُبز الخصيب معلقٌ بالكوكب
يُحمى بكل مثقفٍ ومشطب
جعل الطعام على بنيه محرمًا
قوتًا وحلله لمن لم يسغب
فإذا هم رأوا الرغيف تطرَّبوا
طرب الصيام إلى أذان المغرب

انقطعت الصلة بين الشاعر والخصيب، واتجه الشاعر إلى كبار الشخصيات المصرية يلتمس عندهم ما لم ينله من الخصيب، اتجه إلى هاشم بن حديج التجيبي وكان أمير الصلاة في مصر، وهو من أسرة عربية مصرية عريقة إذ كان مؤسس هذه الأسرة معاوية بن حديج ممن وفد في جيش الفتح، وكان رسول عمرو بن العاص إلى الخليفة يُبشِّره بفتح الإسكندرية، وكان رابع أربعة عيَّنهم عمرو بن العاص على خطط الفسطاط، وبعد مقتل ثالث الخلفاء الراشدين كان ابن حديج زعيم العثمانية بمصر، وبايعه بعض عرب مصر على الطلب بدم الخليفة المقتول، وهو الذي قاتل ولاة علي بن أبي طالب، وقتل محمد بن أبي بكر الصديق وألقى بجثته في إهاب حمار وأحرقه. كان هذا الرجل رأس بني حديج الذين أصبح منهم الأمراء والقضاة، ومنهم هاشم بن عبد الله بن حديج الذي استخلفه الوالي عبد الله بن محمد العباسي على مصر، وهو الرجل الذي كان له شأن مع أبي نواس، فيظهر أن أبا نواس عندما فسدت صلته بالخصيب مدح هاشمًا فلم يُعطِه شيئًا، ويقال إن هاشمًا أراد أن يستبقي أبا نواس عنده في مصر فرفض هذا البقاء في مصر وخرج منها يهجو هاشمًا ويهجو المصريين فمن ذلك قوله:

قفوا معشر الراحلين اسمعوا
أُنبئكم عن بني كنده
وردنا على هاشم مِصْره
فبارت تجارتنا عنده
رأيتك عند حضور الخوا
ن شديدًا على العبد والعبده
فإن حديجًا له هجرة
ولكنها زمن الرده
وما كان إيمانكم بالرسو
ل سوى قتلكم صهره بعده
وما كان قاتله في الرجا
ل بحمل لطهر ولا رشده١

وهجا المصريين جميعًا إلا أحمد بن حوي في قوله:

دم المكارم بالفسطاط مسفوحٌ
والجود قد ضاع فيها وهو مطروح
يا أهل مِصْر لقد غبتم بأجمعكم
لما حوى قصب السبق المساميح
أموالكم جمة والبخل عارضها
والنيل مع جوده فيه التماسيح
لولا ندى ابن حوي أحمد نطقت
مني المفاصل فيكم والجواريح

ويهجو النيل وما فيه من التماسيح في قوله:

أضمرت للنيل هجرانًا وتقليةً
إذ قيل لي إنما التمساح في النيل

اتصل هذا الشاعر بالمصريين أكثر من اتصال الشعراء الوافدين الذين سبق ذكرهم، فالمؤرخون يُجمعون على أن المصريين عندما علموا بوجوده في مصر تسابقوا لمصاحبته وتدوين شعره فأذاعوه في البلاد، ويظهر أن أبا نواس أنشد في مصر شعرًا كثيرًا جدًّا لم يعرفه أهل العراق ولم تُذكر في ديوانه فضاعت، ويقال إن أبا نواس وجد في مصر شيئًا من المجون واللهو بما اتفق مع مذهبه في الحياة، وتُروى عنه في ذلك قصص وأشعار، فهذا كله يدل على أن أبا نواس تأثر بمصر في شعره كما أن المصريين تأثروا به على نحو ما سنذكره. ولم يفلت أبو نواس من ألسنة بعض المصريين، فقد قال الشاعر المصري أبو الحسن بن عمر الأجهري:

ألا قُل للنواسي الضعيف
الحال والقدرِ
خبرنا منك أحوالًا
فلم نحمدك في الخبرِ
وما إن ذعت بالمنظرْ
ولكن ذعت بالذكرِ٢

فاضطر أبو نواس إلى هجاء هذا الشاعر بقوله:

بِمَ أهجوك لا أدري
لساني فيك لا يجري
إذا فكرت في هجو
ك أبقيت على شعري

أقام أبو نواس في مصر زهاء عام تقلب فيه بين الرضى على مصر والمصريين وبين الغضب منهم، ولا سيما أنه لم يحقق أمله في الوصول إلى المال الوفير، فكثيرًا ما اشتكى الفقر وهو في مصر ويظهر ذلك في قوله:

إذا ذُكِرت بغداد لي فكأنما
تحرَّك في قلبي شباة سِنان
وأوبة مشتاقٍ بغير دراهم
إلى أهله من أعظم الحدثان

فهو يشكو قلة المال ولذلك هجا مصر والمصريين.

ووفد على مصر في هذا العصر الشاعر الهجَّاء دعبل الخزاعي طمعًا في نوال أحد أقاربه المطَّلب بن عبد الله الخزاعي، وقد مدحه دعبل أولًا بقصيدة جاء فيها:

أَبعْد مِصْرٍ وبعد مُطَّلب
ترجو الغنى إن ذا من العجب
إن كاثرونا جئنا بأسرته
أو واحدونا جئنا بمطَّلب

فأكرمه الوالي وولاه إقليم أسوان فمكث هناك عدة أيام ولعل الحياة هناك لم تعجبه، أو أنه استقل أن يكون أميرًا على أسوان وطالب بالمزيد؛ لأنه سرعان ما هجا المطَّلب الخزاعي بقصيدة قال فيها:

أمطَّلبٌ أنت مستعذبٌ
حُميا الأفاعي ومستقبلُ
وعاديت قومًا فما ضرَّهم
وشرَّفت قومًا فلم ينبُلوا

فاضطر المطَّلب الخزاعي إلى عزله وفسدت العلاقة بينهما؛ ولذلك نرى دعبلًا يهجوه ويتهكم به في موقف المطَّلب الخزاعي من ثورة الجروي، وقد ذكرنا ما قاله دعبل في المطَّلب.

أما الشاعر أبو تمام حبيب بن أوس فقد وفد على مصر وهو حدث السن رقيق الحال، وأقام بالفسطاط يسقي العلماء والمتعلمين الماء في حلقات الدرس بجامع عمرو وكان في الوقت نفسه يأخذ العلم عن المصريين، ويقال إن أول شعر أنشده كان في مصر؛ ولذلك عده مؤرخو مصر مصري النشأة والتعليم والشعر. ومع ذلك فحياة أبي تمام في مصر غامضة كل الغموض، فنحن لا نعلم شيئًا عن أساتذته المصريين الذين أخذ عنهم. ولكننا نستطيع أن نقول إنه كان في مصر في الوقت الذي نبغ فيه عدد من شعراء مصر أمثال سعيد بن عفير والمعلى الطائي ويحيى الخولاني ويوسف السرَّاج وغيرهم. ومن العلماء ابن هشام راوي السيرة النبوية والإمام الشافعي وبنو عبد الحكم وتلاميذ الليث بن سعد وغيرهم، فلعله سمع هؤلاء جميعًا واستفاد منهم وكان على صلة ببعضهم، وأول ما نعرفه عن تكسبه بالشعر في مصر أشعاره التي مدح بها عياش بن لهيعة الذي كان صاحب الشرطة في مصر سنة ٢٠١ﻫ، وهو ابن القاضي لهيعة بن عيسى الحضرمي الذي تولى قضاء مصر مرتين، فهو يقول في عياش:

تقي جمحاتي لست طوع مؤنبي
وليس جنيبي إن عذلت بمصحبي
فلم تُوقدي سخطًا على متنصلٍ
ولم تُنزلي عتبًا بساحة مُعتبِ
رضيت الهوى والشوق خدنًا وصاحبًا
فإن أنتِ لم ترضي بذلك فاغضبي

إلى أن يقول:

تركت حُطامًا منكب الدهر إذ نوى
زحامي لما أن جعلتك منكبي
وما ضيق أقطار البلاد أضافني
إليك ولكن مذهبي فيك مذهبي
وأنت بمِصْر غايتي وقرابتي
بها وبنو الآباء فيها بنو أبي
ولا غرو أن وطأت أكناف مرتعي
لمهمل أخفاضي ورفهت مشربي
فقوَّمت لي ما اعوج من قصد همتي
وبيَّضت لي ما اسود من وجه مطلبي

فأعطاه عياش، وأصبح أبو تمام شاعره، ولكن فسدت العلاقة بين عياش والشاعر بسبب المال، فأخذ الشاعر يعاتبه أولًا ثم هجاه آخر الأمر هجاءً مريرًا، فعاتبه مرة بقوله:

الفطر والأضحى قد انسلخا ولي
أمل ببابك صائم لم يفطر
حول ولم ينتج نداك وإنما
تتوقع الحبلى لتسعة أشهر
جِش لي ببحر واحد أغرقك في
مدح أجيش له بسبعة أبحر

وقال مرة أخرى يُعرِّض ببعض الوشاة من جلساء الأمير:

أظن عندك أقوامًا وأحسبهم
لم يأتلوا فيما أعدوا وما ركضوا
يرمونني بعيونٍ حشوها شزرٌ
نواطقٌ عن قلوبٍ حشوها مرضُ
لولا صيانة عرضي وانتظار غدٍ
والكظم حتى على الدهر مفترضُ
لما فككت رقاب الشعر عن فكري
ولا رقابهم إلا وهم حُيضُ

وبعد هذا العتاب هجاه وهجا المصريين فمن ذلك قوله:

النار والعار والمكروه والعطب
والقتل والصلب والمران والخشب
أحلى وأعذب من سيلٍ تجود به
ولن تجود به يا كلب يا كلب

أو قوله:

ولأشهرن عليك شنع أوابد
يُحسبن أسيافًا وهن قصائد
فيها لأعناق اللئام جوامعٌ
تبقى، وأعناق الكرام قلائد
يلزمن عرض قفاك وسم خزية
لم يخزها بأبي عيينة خالد

ويظهر أنه كانت هناك منافسة في الشعر بين أبي تمام وبين شاعر مصر يوسف السرَّاج، ففي إحدى قصائد أبي تمام هجاء لفن يوسف السراج هذا فهو يقول:

أيوسف جئت بالعجب العجيب
تركت الناس في أمرٍ مُريب
سمعت بكل داهيةٍ نآدٍ
ولم أسمع بسراجٍ أديب
أما لو أن جهلك كان عِلمًا
إذن لنفذت في علم الغيوب
فما لك بالغريب يد، ولكن
تعاطيك الغريب من الغريب
فلو نُبش المقابر عن زهير
لصرَّح بالعويل وبالنحيب
متى كانت قوافيه عيالًا
على تفسير بقراط الطبيب
فكيف ولم يزل للشعر ماء
يرف عليه ريحان القلوب

وواضح في هذه المقطوعة أن أبا تمام يعيب على شاعر مصر إمعانه في الغريب واتخاذه المعاني الفسلفية التي لم تُعرف عند الشعراء القدماء، ومن الغريب أن النقاد القدماء والمحدثين أخذوا على شعر أبي تمام نفسه هذه الأمور؛ فأبو تمام من أشد الشعراء إغراقًا في الغوص على المعاني وفي التعقيد المعنوي واللفظي، ومن أكثر الشعراء استعمالًا للغريب، فهل نقول إن أبا تمام كان متأثرًا بالشاعر المصري يوسف السراج؟ هذا ما لا نستطيع الجزم به؛ لأن شعر السرَّاج فُقِدَ كله ولم يبقَ منه شيء نستطيع أن نعقد به المقارنة بين الشاعرين.

اتصل أبو تمام بالأحداث التي كانت بمصر وأنشد شعرًا فيها إلى أن ضاق به الحال في مصر، فخرج من مصر وهو يهجو المصريين، فهو يقول:

لقد طلعت في وجه مصر بوجهه
بلا طالع سعد ولا طائر سهل
وساوس آمال ومذهب همة
مخيمة بين المطية والرحل
نأيت فلا مالًا حويت ولم أقم
فأمتع إذ فجعت بالمال والأهل
لئام طغام أو كرام بزعمهم
سواسية ما أشبه الحول بالقبل

وخرج من مصر، ولكنه كان يحن إليها من حين لآخر فكان يذكرها في شعره، فهو يقول مرة:

بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا
بالرقمتين، وبالفسطاط إخواني
وما أظن النوى ترضى بما صنعت
حتى تشافه بي أقصى خراسان
خلفت بالأفق الغربي لي سكنًا
قد كان عيشي به حُلوًا بحلوان

فأبو تمام إذن أحد الذين تخرجوا في المدرسة المصرية بالرغم من عدم ظهور شخصية مصر في فنه؛ وذلك لأن هذه الشخصية المصرية في الشعر لم تكن قد تبلورت بعد ولم تكن قد اتضحت معالمها فيما أنشده المصريون أنفسهم.

المتنبي في مصر

في أواخر دور ظهور الشعر المصري وأوائل دور ازدهاره، وفد شاعر العربية الفحل «المتنبي» على مصر مادحًا أميرها كافور الإخشيدي، وأقام بمصر زهاء أربع سنوات اتصل فيها بعدد كبير من شعراء مصر وأدبائها، فمنهم من صادقه وروى شعره ومنهم من عاب فنه وسخر منه. فحياة المتنبي في مصر تكاد تكون حلقة من سلسلة حياته في حلب. ووجد المتنبي في مصر خصمًا قويًّا هو الوزير جعفر بن الفضل بن الفرات المعروف بابن حنزابة، وكان عالِمًا محدِّثًا مُكرِّمًا لأهل العلم ورحل إليه المحدِّث أبو الحسن الدارقطني وصنَّف له مسندًا، كما كتب الدارقطني عنه مجالسه، وبجانب ذلك كان ابن حنزابة يربي الحشرات والأفاعي لدراسة خواصها وطبائعها. كان ابن حنزابة يطمع في أن يمدحه المتنبي مثل غيره من الشعراء، ولكن المتنبي انقطع انقطاعًا كليًّا إلى مدح كافور فلم يُنشد في أحد سواه خوفًا من بطشه. وفي الوقت نفسه كان المتنبي يحقد على الوزير؛ لأنه لم يمنحه شيئًا من المال؛ فأغرى ابن حنزابة الشعراء والعلماء بمعارضة المتنبي والغض من شأنه ومن فنه فكثُر حُساد المتنبي ومبغضوه في مصر، منهم أبو القاسم بن أبي العفير الشاعر، الذي كان يُنشد الأمير وهو جالس بينما كان غيره من الشعراء يُنشدونه وهم وقوف ومنهم المتنبي نفسه، ويُروى أن ابن أبي العفير كان يُنشد كافورًا يومًا بحضور الوزير وكبار رجال البلاط قصيدة مطلعها:

نظر المحب إلى الحبيب غرام

فقاطعه المتنبي قائلًا: إن العرب لا تقول إليه غرام وإنما تقول له.

فقال الأنصاري: تقول إليه ولديه وله وحروف الخفض ينوب بعضها عن بعض. وانتصر للشاعر المصري الوزير ابن حنزابة وأبو بكر بن صالح وغيرهما من الحاضرين؛ لأن هذا المذهب الذي رد به شاعر مصر هو مذهب الكوفيين في النحو، واعتنقه علماء مصر فعُرِفَ بينهم، ومن الغريب أن المتنبي كان كوفيًّا وكان يعرف مذهب علماء بلده، ولكنه كان يريد مضايقة شاعر مصر أمام الأمير؛ ولذلك نرى ابن أبي العفير يمدح أبا بكر بن صالح وابن حنزابة ويُعرِّض بالمتنبي في قصيدته التي قال فيها:

أما الثناء فصادرٌ بك واردٌ
بادٍ بما تُسدي إليَّ وعائد
لك يا أبا بكر إليَّ صنائعٌ
أيقظن أحوالي وجدي راقد
أوليتني نِعمًا متى أنكرتها
شهدت عليَّ مواهبٌ وفوائد
وقصائد لي فيك لولا أنها
كَلِم شهدت بأنهن مشاهد
ولهن في عين الولي شواهد
تترى وفي عين العدو جلامد
لما تعرض لي بمقت حاسد
أبدى الملام، وكيف يرضى الحاسد
ما زال يُنشد قائمًا حتى إذا
أنشدت عارضني لأني قاعد
في مجلس أما الوزير فمنكب
فيه يؤيده وأنت الساعد
ولي ولا أنا شاكر لسؤاله
فيه ولا هو للإجابة حامد

وكان محمد بن موسى الملقب بسيبويه المصري يقول: مدح الناس المتنبي على قوله:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوًّا له ما من صداقته بُد

ولو قال: ما من مداراته أو مداجاته بُد لكان أحسن وأجود. واجتاز المتنبي به يومًا فوقف عليه وقال له: أيها الشيخ أُحب أن أراك، فقال له سيبويه: رعاك الله وحياك، فقال له المتنبي: بلغني أنك أنكرت عليَّ قولي: «عدوًّا له ما من صداقته بُد» فما كان الصواب عندك؟ فقال: الصداقة مشتقة من الصدق في المودة، ولا يسمى الصديق صديقًا وهو كاذب في مودته، فالصداقة إذن ضد العداوة ولا موقع لها في هذا الموضع، ولو قلت: «ما من مداراته أو مداجاته» لأصبت، فتبسم المتنبي وانصرف. كذلك نقده سيبويه في قوله لكافور:

وما طربي لما رأيتك بدعةً
لقد كنت أرجو أن أراكَ فأطربُ

قال: إنه جعل الأمير كالقرد يتزاحم الناس عليه ليُطربوا برؤية ألاعيبه، وأخطأ المتنبي مرة أخرى في هذا البيت لأنه رفع الفعل «أطرب» والواجب أن يُنصب؛ لأنه معطوف على أرى. على هذا النحو تتبع المصريون شعر المتنبي بالنقد فلم يُنشد المتنبي شيئًا إلا نقدوه في عنف وقسوة حتى برم بهم. ولا سيما أنه كان يطمع في ولاية فلم يُجِبه أمير مصر؛ فازداد غضب المتنبي على الأمير وعلى المصريين فهجَاهم جميعًا في عدة قصائد تدل على أنها شعر نفسٍ موتورة حاقدة على قوم لم يُسلِّموا له بما كان يشعر به في نفسه من كبرياء وغرور بشعره، بل عملوا على تحطيم كبريائه وغروره، فلم تنجح وسائله التي أعدها للتغرير بالمصريين بل غرَّر به المصريون، ولو كان المتنبي منصفًا لعرف قدر نفسه وقلَّل من جشعه وكبريائه، وعندئذٍ كان يستطيع أن يحظى بحب المصريين وتقديرهم، ولكنه كان موتورًا حانقًا فهجا المصريين بهذه القصائد الكثيرة التي في ديوانه. وربما كان هذا الهجاء سببًا في أن يؤلِّف عدد من المصريين كُتبًا في نقد شعر المتنبي. فالشاعر ابن وكيع التنيسي المتوفى سنة ٣٩٣ﻫ وضع كتابه «المنصف» نقد فيه المتنبي نقدًا مُرًّا وتتبع أخطاءه اللغوية والنحوية والصرفية والعروضية ثم نقده نقدًا موضوعيًّا في المعاني التي جاء بها، وألَّف محمد بن أحمد العميدي الكاتب المصري المتوفى سنة ٤٣٣ﻫ كتابًا سماه «سرقات المتنبي» أظهر فيه ما أخذه المتنبي من معاني الشعراء السابقين. وعلى الجملة فالخصومة شديدة بين المتنبي وبين علماء مصر على توالي الزمان، ومع ذلك فقد كان بين المصريين من حَفظ للمتنبي حقه في الإجادة الفنية فرووا شعره وصادقوه، نذكر من هؤلاء صالح بن رشدين الكاتب الشاعر وعبد الله بن أبي الجوع الكتبي الشاعر.

هؤلاء بعض الشعراء الذين وفدوا على مصر حتى دور ازدهار الشعر المصري، ووفود هؤلاء الشعراء على مصر كان من العوامل التي قوَّت حياة الشعر في مصر وجعلتها تتطور من حال إلى حال، بل ربما كانت من العوامل التي أسرعت في نمو الشعر وازدهاره. غير أن الملاحظة التي ألاحظها على هؤلاء الشعراء أنهم لم يبتعدوا عن محيط الفسطاط؛ ولذلك لا نرى في شعرهم الذي بقي لنا شيئًا عن الطبيعة في مصر فقد شغلهم المدح عن كل شيء آخر، وكان همهم أخذ العطاء حتى يعودوا إلى بلادهم بالمال الجزيل، فأثر مصر عليهم كان ضئيلًا جدًّا بل لا نشعر به إلا في ذكر بعض الأماكن المصرية، ومديحهم هو نفس المديح الذي مدحوا به غير أمراء مصر في الأقطار الأخرى، ولا سيما المدح بالكرم؛ لأنه هو الغاية التي من أجلها وفدوا على مصر.

١  اختلف الراوي في الأبيات على ما يلحظ القارئ.
٢  سكَّن الراء في «المنظر» للقدورة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤