الفصل الثالث

ازدهار الشعر المصري

نمت شاعرية المصريين في النصف الثاني من القرن الثالث للهجرة؛ فقد ظهر شعر مصري يُعبِّر إلى حد ما عن شعور المصريين واتجاهاتهم في الحياة. ونلاحظ أننا لا نجد فيما بقي لنا من شعر المصريين ذكر الأطلال والرسوم أو بكاء الديار والدمن، ولا نسمع عن حديث الأثافي والناقة أو غير ذلك مما تعودناه من شعراء البادية، إنما هو شعر مصري يظهر فيه استقرار الحياة في البلاد المصرية، وتقل فيها الرحلة من مكان إلى آخر، فالبيئة المصرية هي التي فرضت على شعرائها عدم ذكر الأطلال والديار والرسوم على خلاف البيئة الصحراوية في الأقطار العربية الأخرى، وفي مصر تكثُر الحدائق والمتنزهات وبِرك الماء.

اتخذ المسيحيون في مصر أديرة في أماكن عُرفت بجمال طبيعتها وجودة هوائها، وكان المصريون يقصدون إلى هذه الأماكن للنزهة واللهو — والمصريون يميلون إلى هذه الناحية في الحياة — وأسهم شعراء مصر في القرن الرابع وما بعده من قرون الهجرة في هذه الحياة اللاهية، ولا سيما أن الحياة في مصر في هذه القرون كانت مترفة إلى حد بعيد جدًّا، وخاصةً في العصر الفاطمي الذي يُعد أزهى عصور مصر التاريخية؛ فقد عُرفت مصر بثرائها، وعُرِفَ الفاطميون ببذخهم حتى يُحبِّبوا المصريين فيهم، وأكثروا من استحداث الأعياد والمواسم، وافتنُّوا في إقامة الحفلات ومد الأسمطة في كل مناسبة اصطنعوها؛ حتى يُخيل إلى من يقرأ تاريخهم أن حياة مصر كانت كلها أعيادًا ومواسم وكلها لهوًا ومرحًا.

اتخذوا لأنفسهم أعيادًا خاصة لم تعرفها البلاد من قبل، واحتفلوا بالأعياد التي يتخذها باقي المسلمين، والأعياد التي كان يحييها المسيحيون ويشترك معهم فيها إخوانهم المسلمون. فكان الشعب يتظاهر بما يجلب السرور إلى نفسه حتى لو كان ذلك عن طريق المجون وارتكاب المعاصي. وكانت الحكومة تحتفل بهذه الأيام احتفالًا يتناسب مع عِظم مُلك مصر في أيامهم، واتساع سلطانها ووفرة خيراتها. وقد تكون هذه المبالغة من الفاطميين لونًا من ألوان الدعاية السياسية، فيقف أعداؤهم على هذه الحياة البهيجة الفرِحة والنفقات الطائلة، فيعلمون أنهم أمام دولة قوية غنية فيترددون في مهاجمتها. وفي هذه الحفلات كان الشعراء يتبارون في إنشاد قصائدهم ويتنافسون في الإجادة والإتقان، ويَنعمون بأخذ جاريهم وصِلاتهم بما لم يَنعم به الشعراء في الدول الأخرى؛ فكانت هذه الأعياد والمواسم من عوامل ازدهار الشعر المصري وموضوعًا من موضوعاته. وكان الفاطميون يُحبُّون الفنون المختلفة فكانت لهم عناية خاصة بالمباني والمنشآت وبالمتنزهات والمناظر فأكثروا من تشييدها، وأنشئوا البساتين المختلفة التي جمَّلوا بها مدينة القاهرة وما حولها وجعلوها متنزهات عامة بأن أباحوا للناس دخولها والتمتع بمناظرها وجوها؛ فأوجد ذلك عند المصريين لونًا من ألوان الحياة الناضرة البهيجة وسمت النفوس إلى حب الطبيعة وحب الجمال معًا. فكان خروج المصريين في ذلك العصر إلى المتنزهات جزءًا هامًّا من مقومات حياتهم وهناك كانوا يقصفون ويطربون وينعمون بالرياض وأريج الزهور، وكان الشعراء يقصدون هذه الرياض جماعات يتطارحون الشعر ويتبارون في الإنشاد، يستوحون من جمال الزهر والطبيعة وحي شعرهم، فكان ذلك كله من عوامل ازدهار الشعر المصري. أضف إلى ذلك كله أن القائمين على شئون البلاد في العصر الفاطمي اتخذوا الشعر وسيلة من وسائل دعوتهم السياسية، وكان الفاطميون أساتذة فن الدعاية واتخذوا لها كل الوسائل الممكنة في عصرهم، وجندوا للدعاية كل من يفيدهم في هذا المضمار. ومن الطبيعي أن يكون الشعر وسيلة من وسائل دعايتهم فاهتموا به اهتمامًا خاصًّا، وبذلوا العطاء الضخم الجسيم للشعراء وجعلوا لبعضهم مرتبات شهرية بل خصصوا وظيفة لأحدهم باسم مُقدم الشعراء. وذهب بهم غلوهم في تقدير الشعراء والاهتمام بهم أنهم جعلوا طاقات في متنزهات بِركة الحبش وعليها صور الشعراء، ونقشوا اسم كل شاعر وبلده، وعلى جانب كل من هذه الطاقات قطعة من القماش كُتِبَ عليها قطعة من شعر الشاعر في المدح، وعلى الجانب الآخر رف لطيف مُذهَّب، وكان الخليفة الفاطمي يدخل هناك ويقرأ الأشعار ويأمر أن توضع على كل رف صُرة مختومة فيها بعض المال فكان الشاعر يدخل ويأخذ منحته بيده.

ولا أكاد أعرف دولة من الدول الإسلامية أقامت للشعراء هذا التمجيد أو اهتمت بهم هذا الاهتمام، فلا غرو إذن أن ازدهر الشعر المصري ازدهارًا لم يُعرف من قبل، وكثر الشعراء وتنوعت مذاهبهم وتعددت اتجاهاتهم واختلفت أغراضهم، فقد أنشدوا في كل لون من ألوان الحياة جِدها وهزلها، يُسرها وعُسرها، ضاحكها وباكيها، فكان شعرهم صورًا متنوعة للحياة، ولكنها صور مادية تتفق مع ميل المصريين، وهي صور تميل إلى الوضوح والبساطة فلا تكاد تجد بها الانفعالات العنيفة أو حرارة العاطفة. وهم في ذلك كله خاضعون للبيئة المصرية التي ليس بها عواصف جارفة أو تضاريس أرضية متضاربة بين الارتفاع والانخفاض، وليس بها اختلاف واضح في فصول السنة، بل هي بيئة سهلة لينة شمسها مشرقة طول العام وهواؤها معتدل دائمًا، فكان لذلك تأثيره في نفس المصريين، وظهر صداه في شعرهم، ولا أُحدِّثك عن الفكاهة المصرية التي هي من أخص خصائص المصريين، فقد ظهرت في صور لافتة في هذا العصر. هذا من ناحية المعنى والعاطفة، أما من ناحية الأسلوب فنحن نعرف أن المصري محافظ على التقاليد الموروثة ولكنه يحب كل جديد، وتسمو نفسه إلى ناحية مثالية يتطلع إليها دون أن يستطيع تحديدها تمامًا؛ لذلك يأخذ كل جديد على أنه المثال الذي يتطلع إليه، ولكنه سرعان ما يطرح هذا الجديد إن لم يتفق مع مزاجه وشخصيته أو يُخضع هذا الجديد إلى تقاليده الموروثة. ففي أسلوب الشعر اتخذ شعراء مصر عمود الشعر العربي الموروث وبحور الشعر القديمة، ولكن المصريين لم يأبهوا بالألفاظ الجزلة الرصينة بل اتخذوا الألفاظ الرقيقة السهلة ومالوا إلى البحور القصيرة التفاعيل، ثم لم يلبثوا إلا قليلًا حتى زهدوا في القصائد المطولات واستعاضوا عنها بالمقطعات، بل أحب المصريون لونًا من ألوان الشعر الشعبي استحدثوه في هذا العصر أطلقوا عليه «اسم البلاليق» وهو اسم طائر لريشه ألوان مختلفة وله صوت شجي، وكانت البلاليق تُنشد بالألفاظ الشعبية المصرية، وفُتِنَ الشعب بهذا الفن الجديد حتى أصبح هو أظهر الفنون الأدبية المصرية في عصر المماليك بجانب فن الموشحات.

وفي هذا العصر الذي نؤرخه في هذا الكتاب تبلورت اتجاهات الشعراء إذ عُرِفَ كل جماعة بلون خاص من ألوان الفن، ومن الغريب أن يستمر انقسام الشعراء حسب هذه الألوان الفنية طوال عصور مصر الوسطى، ولنتحدث عن هذه الفنون الشعرية …

شعر الطبيعة

يختلف شعر الطبيعة في مصر عما عُرِفَ عن شعر الطبيعة في الآداب العالمية، فهو في الآداب العالمية ضرب من ضروب التصوف الروحي فيه من ضروب التأمل فيما خلقه الله والتفكير العميق في الحياة، وقد يطير بالشعراء خيالهم إلى الحديث عن الخالق أو العالم العُلوي والنفس بعد الموت إلى غير ذلك من الموضوعات الفلسفية أو الروحية. ولكن مصر لا تعرف شيئًا من ذلك كله، ولم تسمح البيئة المصرية لهذا اللون من التفكير الفلسفي العميق؛ لذلك كان شعر الطبيعة في مصر يخالف تمام المخالفة لهذه الناحية الروحية الفلسفية، بل اكتفى الشعراء بوصف الرياض وما بها من أزهار ملونة وجداول مياه وما في الجو من غيم أو مطر، واتخذ شعراء الطبيعة في وصفهم تشبيهات مادية خالصة، وكل ذلك كان وسيلة إلى وصف قصفهم والدعوة إلى الشراب، فلم يكن ذكر الطبيعة عندهم غرضًا قائمًا بذاته أو فنًّا يقصدون إليه، إنما كانوا يتخذون جمال الطبيعة وما أسبغوه على المناظر التي وصفوها من ألوان الحياة التي ألفوها، وما حاولوه من انتزاع صور من الطبيعة قريبة إلى صور الحياة التي اعتادوها وألوان الزينة التي كانوا يتزينون بها، اتخذوا من ذلك كله وسيلة إلى اللهو والقصف والشراب، اشترك شعراء الطبيعة في مصر جميعًا في هذه الظاهرة الفنية؛ وذلك كله بسبب ما عُرِفَ عن المزاج المصري من الاتجاه إلى الماديات أكثر من اتجاهه إلى الخيال أو الأمور العقلية. كان شعراء مصر يخرجون جماعات إلى الرياض والمتنزهات يستبقون اللذات بين أحضان الطبيعة وشدو الطيور وغناء المغنيين، ووصفوا ذلك كله في أشعارهم بعد أن اتخذوا وصف الرياض وأزهارها مقدمة للهوِهم وعبثهم، فمن ذلك قول الشاعر صالح بن موسى في وصف جمال الطبيعة في زمن الربيع:

أَوَ مَا ترى حُسن الريا
ض وما اكتسين من الزهر
وجه الربيع وحبذا
وجه الربيع إذا ظهر
الوشي يُنشر والملا
حف والمطارف والحبر
هذا البنفسج في الحدا
د بغير حزنٍ قد ظهر
وأتى البهار بصُفرةٍ
فلكلٌّ حُسن قد بهر
وكأن آذريونه
كاسات خمرٍ تبتدر
وكأنما المنثور عقـ
ـد في جوانبه انتثر
والأقحوان مضاحك
عن عسجدٍ فيه دُرر
وشقائق النعمان كالأ
علام ثم لمن نظر
وتورُّد الورد الذكـ
ـي وفاح مِسْكًا في السحر
وتجاوب الطير الغصو
ن بكل لحنٍ مشتهر
فمُغرِّد حسن الغنا
ء شدا وآخر قد زمر
وتسرَّقت أنفاسنا
بنسيم أنفاس السمر

ويقول الأمير تميم بن المعز لدين الله الفاطمي:

انظر لتفويف الرياض وحُسنها
قد نمقته يد السحاب الممطر
بُسط تخالف صبغها ونسيجها
ما بين أصفر كالعقيق وأخضر
يجمعن حُسن المنظر الزاهي الذي
راق العيون إلى كريم المخبر
فكأن نرجسها عيون أبرزت
أجفانها لكنها لم تنظر
وشقائق كست الرُّبى من نسجها
حُللًا كتضريج الخدود الأحمر
متبرجات ناعمات أكملت
خفر الذليل ونخوة المتكبر
وغلائل زُرق نُشرن كأنها
آثار تجميش الصدور النضر
فاشرب على تلك الرياض ونشرها
راحًا تُريح فؤاد كل مُفكِّر

ويذهب الشاعر ابن وكيع التنيسي نفس المذهب في وصف الطبيعة والدعوة إلى الشراب، فيقول:

انظر إلى زهر الربيع وما جلت
فيه عليك طرائف الأنوار
أبدت لنا الأمطار فيه بدائعًا
شهدت بحكمة مُنزل الأمطار
ما شئت للأزهار في صحرائه
من درهم بهج ومن دينار
وجواهر لولا تغير حُسنها
جلت عن الأثمان والأخطار
من أبيض يقق وأصفر فاقع
مثل الشموس قرن بالأقمار
ناحت لنا الأطيار فيه فأرهجت
عُرس السرور ومأتم الأطيار
فاشرب معتقة كأن نسيمها
مِسْك تضوعه يد العطار

والشاعر الشريف العقيلي يتبع نفس المنهج في وصف الطبيعة، فيقول:

الروض في ديباجة خضراء
والجو في فرجية دكناء
والأرض قد نظم الربيع لجيدها
عِقدًا من الصفراء والحمراء
والراح ينثر في مذاب عقيقها
دُرر الفواقع جوهري الماء
فاقصد رضى رضوانها بالشرب إن
أحببت سُكنى جنة السراء

فالشعراء الذين أتينا بأمثلة من شعرهم في الطبيعة يمثلون مذهبًا خاصًّا في فنهم وفي نظرتهم إلى الطبيعة؛ فهم جميعًا مشبهون، وفي تشبيهاتهم صور حسية مادية هي صور ما كان يرتديه أو يتزين به المصريون في هذا العصر، ثم تظهر الألوان المختلفة للأزهار وهي عندهم ألوان الملابس أو الحُلي، فهي صور منتزعة من صميم الحياة المصرية المترفة، وهم جميعًا يصفون الطبيعة ثم يعقبون وصفهم بالدعوة للشراب وهو الغرض الحقيقي من المقطوعات السابقة؛ لأن الشراب لا يلذ للشعراء إلا في أحضان الطبيعة، وأخشى أن أقول إن شعراء مصر في هذا العصر لم يتحدثوا عن المطر والغيم، ولم يصفوا جداول المياه والبِرك، ولم يذكروا الأزهار المختلفة إلا إذا أرادوا أن يتحدثوا عن الخمر ومجالس القصف.

وقد أكثر المصريون من أدب «المياه» فذكر النيل والخلجان والجداول والبِرك من موضوعات الشعر المصري وأغراضه في هذا العصر، مثال ذلك قول الشاعر أمية بن أبي الصلت يصف يومًا قضاه في بِركة الحبش:

لله يومي ببِركة الحبش
والأفق بين الضياء والغبشِ
والنيل تحت الرياح مضطربٌ
كصارمٍ في يمين مرتعشِ
قد نسجتها يد الغمام لنا
فنحن من نسجها على فُرشِ
ونحن في روضةٍ مفوَّفةٍ
دُبج بالنور عطفها ووشي

ويقول تميم بن المعز في وصف روضة على شاطئ النيل:

ويوم خدعت الدهر عنه فلم أزل
أعلل نفسي فيه بالراح مع صحبي
لدى روضة عالت رُباها كرومها
وجاد عليها النيل من مائه العذبِ
كأن سحيق المِسْك خالط أرضها
فجالت به فيها الرياح مع التربِ
كأن نبات النيل والريح تنثني
بهن طلى خيل مؤثلة شهبِ
وطورًا تخال الماء في رونق الضحى
متون سيوف لحن مصقولة القضب
وتحسبه أن محصته يد الصبا
قوارير ما يفترن من قلق اللعب

ويقول ظافر الحدَّاد في متنزهات خليج الإسكندرية:

وعشية أهدت لعينك منظرًا
جاء السرور به لقلبك وافدا
روض كمخضر العذار وجدول
نقشت عليه يد الشمال مباردا
والنخل كالغيد الحِسان تزينت
ولبسن من أثمارهن قلائدا

ومما يَجري مجرى أدب المياه في هذا العصر ما قيل شعرًا ونثرًا في الاحتفالات التقليدية السنوية لجبر البحر، وكان يوم الاحتفال يومًا من أعظم أيام الأعياد الرسمية وكان الفاطميون يحتفلون به في بذخ ظاهر، وكان يخرج سكان مصر والقاهرة على بَكْرَة أبيهم لمشاهدة ركب الخليفة ورؤية المياه تنساب في الخليج، ويوقدون الشموع على ضفاف النيل، وتسير بهم القوارب في النيل ويمكثون طول الليل في لهو وعبث، وفي ذلك كله أنشد شعراء مصر، فمن ذلك قول الأمير تميم:

يوم لنا بالنيل مختصر
ولكل يوم مسرة قصر
والسفن تصعد كالخيول بنا
في موجة والماء ينحدر
فكأنما أمواهه عكن
وكأنما داراته سرر

أو قوله يصف فيضان النيل:

انظر إلى النيل قد عبا عساكره
من المياه فجاءت وهي تستبق
كأن خلجانه والماء يأخذها
مدائن فُتحت فاحتازها الغرق
كأن تياره مَلِك رأى ظفرًا
فكرَّ أثر الأعادي محنق نزق
كأن ماء سواقيه لناظرها
شُهب الخيول إذا ما حثها العنق

ويقول أمية بن أبي الصلت يمدح الوزير الأفضل بن بدر الجمالي ليلة المهرجان:

أبدعت للنيل منظرًا عجبا
لا زلت تُحيي السرور والطربا
ألفت بين الضدين مقتدرا
فمن رأى الماء خالط اللهبا
كأنما النيل والشموع به
أفق سماء تألقت شُهبا
قد كان من فضة فصار سمًّا
وتحسب النار فوقه ذهبا

وقول الشاعر كافي الدولة أبي العباس أحمد في مدح الإمام يوم المهرجان:

لمن اجتماع الخلق في ذا المشهد
للنيل أم لك يا ابن بنت محمدِ
أم لاجتماعكما معًا في موطنٍ
وافيتما فيه لأصدق موعدِ
شكروا لكلٍّ منكما لوفائه
بالسعي لكن ميلهم للأجودِ
ولمن إذا اعتمد الوفاء ففعله
بالقصد ليس له كمن لم يقصدِ
هذا يفي ويعود يَنقص تارةً
وتسد أنت النقص إن لم يزددِ
وقُواه إن بلغ النهاية قصرت
وإذا بلغت إلى النهاية تبتدي
فالآن قد ضاقت مسالك سعيه
بالسد فهو به بحال مقيدِ
فإذا أردت صلاحه فافتح له
ليرى جنابًا مخصبًا وتُرى ندي
وأمر بفصد العِرق منه فما شكا
جسمٌ فصيح الجسم إن لم يُفصدِ

والنواعير المصرية المنتشرة في البلاد كانت من موضوعات شعر المياه أيضًا، وها هو أبو الفرج الموفقي المصري يصف ناعورة:

ناعورة تحسب في صوتها
متيمًا يشكو إلى زائر
كأنما كيزانها عُصبة
رُموا بريب الزمن الجائر
قد مُنعوا أن يلتقوا فاغتدوا
أولهم يبكي على الآخر

ويصفها الأمير تميم بقوله:

وباكية من غير دمع بأعين
على غير خد دائمًا تتحدر
يُغنِي بها زجل المدير لقطبها
فيُطربها حُسن الغناء فتنعر
إذا نزف العشاق دمع عيونهم
فأدمعها مع كثرة السكب تغزر

وقول تميم أيضًا في وصف الناعورة:

ناعورة أنت أنين الهوى
لما شكت حر وساويسها
أنينها صرة تدويرها
ودمعها ماء قواديسها
كأنما الكيزان في بئرها
هام ملوك في نواويسها
تقذف بالماء إلى روضة
كأنها ريش طواويسها
كأنما السرو بها نسوة
قامت إلى قرع نواقيسها

هذه الظاهرة أدت إلى ظهور فن شعر الديارات وهو فن ظهر في العصر الإخشيدي واستمر تياره قويًّا في كل العصور الوسطى بمصر، كان الشعراء يخرجون إلى هذه الأديرة الكثيرة المنتشرة في مصر حيث أُقيمت الأديرة في أماكن هادئة عُرفت بجمال طبيعتها وحيث يوجد الخمر المعتق.

فكان يحلو أن يقصدوا هذه البقاع للقصف واللهو، ويتبارى الشعراء في وصف رحلتهم ولهوهم، وكان دير القصير (بالقرب من حلوان الحالية) من أشهر الأديرة التي كان يقصدها الشعراء. ولشعراء مصر في العصر الإخشيدي والفاطمي جولات ولهم فيه قصائد، فالشاعر محمد بن عاصم الذي كان يعيش في النصف الأول من القرن الرابع الهجري يصف رحلة إلى هذا الدير:

إن دير القصير هاج أدكاري
لهو أيامنا الحِسان القصارِ
وكأني إذ زُرته بعد هجر
لم يكن من منازلي ودياري
إذ صعودي على الجياد إليه
وانحداري في المنشآت الجواري
منزلًا لست محصيًا ما بقلبي
ولنفسي فيه من الأوطارِ
منزلًا من علوه كسماء
والمصابيح حوله كالدراري
كم شربنا على التصاوير فيه
بصغار محثوثة وكبارِ
صورة من مصوِّر فيه ظلت
فتنة للقلوب والأبصارِ
لا وحُسن العينين والشفة اللميـ
ـاء منها وخدها الجلناري
لا تخلَّفت عن مزاري ديرًا
هي فيه، ولو نأى بي مزاري
فسقى الله حلوان فالنجـ
ـد فدير القصير صوب العشارِ
كم تنبهت من لذاذة نومي
بنعير الرهبان في الأسحارِ
والنواقيس صائحات تنادي
حي يا نائمًا على الابتكارِ

فالشاعر يُحدِّثنا عن حنينه إلى هذا الدير وكيف يصعد الربوة التي بُني عليها، ثم عن قصفه على منظر التماثيل والصور التي كانت بالدير، والمؤرخون يذكرون أنه كان بهذا الدير صورة للعذراء كانت آية في الجمال وكان المصريون يذهبون إلى الدير لرؤية هذه الصورة، وكان خمارويه بن أحمد بن طولون معجبًا بها كل الإعجاب وكان يشرب على مشاهدة هذه الصورة، ولم يشذ الشاعر محمد بن عاصم عن غيره من المصريين الذين كانوا يشربون على هذه الصورة، ولكن الشاعر لم يصف لنا شعوره وعواطفه أمام صورة العذراء وكل الذي ذكره أن الصورة فتنة للقلوب والأبصار، وذكر جمال العينين والشفة اللمياء وخدها الجلناري وكلها صور مادية لا ينبعث منها شعوره الخاص.

ويقول الشاعر كشاجم في دير القصير وكيف كان يخرج للصيد حول الدير برًّا وبحرًا:

سلامٌ على دير القصير وسفحه
فجنات حلوان إلى النخلاتِ
منازل كانت لي بهن مآربٌ
وكانت مواخيري ومنتزهاتي
إذا جئتها كان الجياد مراكبي
ومنصرفي في السفن منحدراتِ
فأقنص بالأسحار وحشي عينها
وأقتنص الأنسي في الظلماتِ
معي كل بسامٍ أغر مهذبٍ
على كل ما يهوى النديم مواتي
ولحمان مما أمسكته كلابنا
علينا، ومما صِيد في الشبكاتِ
وكنت إذا ما شئت باشرت طبخة
على كثرةٍ من غُلمتي وطُهاتي
وصفراء مثل التِّبر يحمل كأسها
شديد فتور الطرف واللحظاتِ
كأن قضيب البان عند اهتزازه
تعلَّم من أعطافه الحركاتِ
هنالك تصفو لي مشارب لذَّتي
وتصحب أيام السرور حياتي

أما الشاعر الأمير تميم فله في دير القصير حوادث وحكايات نظمها في عدة قصائد، وبلغ به كلفه بدير القصير أنه اتخذ موضوع دير القصير مطلعًا لعدة قصائده في المدح على نحو ما كان القدماء من شعراء العرب يتخذون الديار والأطلال مطلعًا لقصائدهم، فهو يقول مرة:

سقى السفح من دير القصير إلى النهر
إلى الجيزة الغرَّاء فالشط فالجسر
من الغاديات الغُر كل مخيم
ضعيف الصبا عَذْب الحيا مُسبل القطر
إذا جادها صوبًا أجاد رياضها
وألبسها وشيًا من النور والزهر
فمن بُسطٍ مِسْكية ونمارقٍ
خلوقيةٍ حفَّت بأقبيةٍ خُضر
كأن الندى فوق الشقائق جائلًا
دموعٌ أُريقت في الخدود على النحر
إذا الريح جالت بينهن تضوَّعت
بريح فتيت المِسْك أو عنبر الشحر
خليليَّ لا عيشٌ سوى اللهو والصبا
ولا لهو إلا في سماع وفي خمر
فحثا كئوس الراح صرفًا فإنني
أرى الدهر صعبًا لا يدوم على أمر

ويقول مرة ثانية:

كم بدير القصير لي من بكور
ورواح على الصبا والعقارِ
حيث أخلو بما أُحب من القصـ
ـف قليل الوقار لست أداري
كم صبوح شددته بغبوق
وظلام وصلته بنهارِ
إنما العيش أن تروح عشيًّا
قاصفًا عازفًا خليع العذارِ

ولعل أشد قصائده مجونًا وفُحشًا هي هذه التي قيلت في هذا الدير، ولعل ما قيل في دير القصير كان سببًا في أن يأمر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله بهدم هذا الدير في مستهل القرن الخامس للهجرة.

كذلك نقول عن دير مار حنا الذي كان على شاطئ بِركة الحبش وبقربه بئر عليها شجرة جميز يجتمع الناس إليها ويشربون عندها، وكان الشعراء يقصدون هذا المكان ويصفونه، فمن ذلك قول العباس بن البصري وهو من شعراء أونوجور بن الإخشيد:

يا حامل الكأس أدرها واسقني
قد ذعر الشوق فؤادي فانذعر
أما ترى البِركة ما أحسنها
إذ تداعى الطير فيها فصفر
أما ترى نوَّارها، أما ترى
حُسن مسيل مائها إذا انحدر
كأنما صُفر الدنانير بها
مبذولةٌ ليس بها من متَّجر
كأنما الجوهر في ألوانه
نثر في تلك النواحي فانتثر
كأنما كف جوادٍ ولعت
في ذلك الروض بتبديد البدر
وأبيض النرجس في أجفانه
دمع الندى لولا التشاجي لقطر
ونظرة الورد إلى أترابه
نظرة معشوقٍ بلحظ منكسر
دعني فما أهلك إلا بالجوى
ما عيشة العاشق إلا في كدر

ويقول تميم بن المعز:

أيا دير مرحنا سقتك رعود
من الغيث تهمي مرة وتعود
فكم واصلتنا في رُباك أوانس
يطفن علينا بالمُدامة غيد
وكم ناب عن نور الضحى فيك مبسمٌ
ونابت عن الورد الجني خُدود
وماست على الكثبان قضبان فضة
وأثقلتها من حملهن نُهود
ليالي أغدو بين ثوبي صبابةٍ
ولهوٍ وأيام الزمان هُجود
وإذ لمتي لم يوقظ الشيب ليلها
وإذ أثرى في الغانيات حميد

فشعر الأديرة في مصر كان يقوم على وصف بعض مظاهر الطبيعة حول الأديرة وعلى قصف الشعراء ولهوهم بها وعبثهم بالرهبان والراهبات.

وشعر الوصف مما يَجري مجرى شعر الطبيعة في مصر، فقد ذكرنا أن المصريين في هذا العصر كانوا يميلون إلى الترف في كل شيء في الملبس والمسكن والمأكل، ويُحبُّون اقتناء التُّحف والنفائس، وغالوا في كل ذلك؛ نظرًا لكثرة أموالهم ووفرتها، فوصف شعراء مصر كل ما وقع تحت نظرهم، فلم تكن الطبيعة وحدها هي التي أكثروا من الحديث عنها، بل ذكروا المنشآت المختلفة وأنواع الطرائف التي شاهدوها والفواكه بأنواعها المختلفة، واشترك شعراء مصر جميعًا في ذلك الفن، فمن ذلك قول الشاعر أبي علي حسن بن زبيد الأنصاري في وصف خيمة الفرح التي أقامها الوزير الأفضل بن بدر الجمالي:

مجدًا فقد قصرت عن شأوك الأمم
وأبدت العجز منها هذه الهمم
أخيمةٌ ما نُصبت الآن أم فلكٌ
ويقظةٌ ما نراه منك أم حُلم
ما كان يخطر في الأفكار قبلك أن
تسمو علوًّا على أفق السها الخيم
حتى أتيت بها شماء شاهقةً
في مارن الدهر من تيهٍ بها شمم
إن الدليل على تكوينها فلكًا
إن احتوتك وأنت الناس كلهم
يمد من في بلاد الصين ناظره
حتى ليُبصر عِلمًا أنها عَلم
ترى الكناس وآرام الظباء بها
أضحت تجاورها الآساد والأجم
والطير قد لزمت فيها مواضعها
لما تحققن منها أنها حرم
لديك جيشٌ وجيشٌ في جوانبها
مصورٌ وكلا الجيشين مزدحم
إذا الصبا حركتها ماج موكبها
فمُقدمٌ منهم فيها ومنهزم
أخيلها خيلك اللاتي تُغير بها
فليس تُنزع عنها الحزم واللجم
علَّمت أبطالها أن يُقدِموا أبدًا
فكلهم لغمار الحرب مقتحم
أمنتهم أن يخافوا سطوة الردى
فقد تسالمت الأسياف والقمم
كأنها جنةٌ فالقاطنون بها
لا يستطيل على أعمارهم هرم
علت فخلنا لها سِرًّا تُحدِّثه
للفرقدين وفي سمعيهما صمم
إن أنبتت أرضها زهرًا فلا عجبٌ
وقد همت فوقها في كفك الديم
يا خيمة الفرح الميمون طائرها
أصبحت فألًا به تستبشر الأمم

لم يترك المصريون «نيل مصر» وما على شاطئيه من بساتين ومتنزهات دون أن يذكروه، ويصفوا مياهه وأمواجه والبِرك التي تستمد مياهها منه على نحو ما رأينا في شعر أمية وتميم، وكذلك نالت أهرام الجيزة حظها من حديث الشعراء، فالشاعر عبد الوهاب بن حسن بن جعفر الحاجب المتوفى سنة ٣٨٧ﻫ يقول:

انظر إلى الهرمين إذ برزا
للعين في علوٍ وفي صعد
وكأنما الأرض العريضة قد
ظمئت لطول حرارة الكبد
حسرت عن الثديين بارزةً
تدعو الإله لفُرقة الولد
فأجابها بالنيل يشبعها
ريًّا وينقذها من الكمد

ويقول ظافر الحدَّاد:

تأمل بنية الهرمين وانظر
وبينهما أبو الهول العجيب
كمثل عمارتين على رحيل
لمحبوبين بينهما رقيب
وماء النيل تحتهما دموع
وصوت الريح عندهما نحيب

ويقول عمارة اليمني:

خليلي ما تحت السماء بنية
تُماثل في إتقانها هرمي مصرِ
بناء يخاف الدهر منه وكل ما
على ظاهر الدنيا يخاف من الدهرِ
تنزه طرفي في بديع بنائها
ولم يتنزه في المراد بها فكري

وقال الشاعر ابن قلاقس يصف نخلة عليها زينة من أنوار السرج مما يدل على حُب المصريين للزينة والتأنق في العصر الفاطمي:

ما عهدنا النخل لولا هذه
باسقات بثمار اللهب
هطل الغيث لها من فضة
فهي في قنواتها من ذهب
تلعب السرج على حافاتها
وتحاكي أنمل المرتعب
ولقد أحسبها ألسنة
هزها للسُّكر خمر الطرب

ويقول المهذب بن الزبير في الشمعة:

ومصغرة لا عن هوى غير أنها
تحوز صفات المستهام المعذب
شجونًا وسقمًا واصطبارًا وأدمعًا
وخفقًا وتسهيدًا وفرط تلهب
إذا جمشتها الريح كانت كمعصم
يرد سلامًا بالبنان المخضب

ويطول بي الأمر لو ذكرت ما وصفه شعراء مصر في هذا الطور من أطوار الشعر المصري وهو عهد ازدهار الشعر، فالشعراء لم يتركوا شيئًا دون أن يتحدثوا عنه في أشعارهم، فقد رقت شعورهم ودق حسهم فتأثروا بما حولهم وأنشدوا فيه شعرهم، وجميع الصور التي أتوا بها صور حضرية مصرية خالصة أُخذت من الحياة المصرية التي كانت في عصرهم. غير أننا نلاحظ مبالغة الشعراء في وصفهم، والمبالغة من مقومات الشخصية المصرية، نراها واضحة في حديث المصريين وحياتهم منذ عصر الفراعنة إلى الآن. ونظرة إلى ما تركه قدماء المصريين من آثار، وما تركته مصر في العصور الوسطى من بناء، وما نراه الآن من مظاهر الحياة تكفي للدلالة على كلف المصريين بالمبالغة في كل شيء، فلا غرابة إذن أن نرى شعراء مصر يُظهرون مبالغة شديدة في وصفهم.

شعر الدعوة الشيعية الإسماعيلية

ذكرنا أن الفاطميين كانوا يحملون مذهبًا دينيًّا خاصًّا يختلف عن العقائد التي كان يدين بها المصريون، وقد بدأت العقائد الشيعية الإسماعيلية التي كان يدعو إليها الفاطميون تتسرب إلى مصر في جو من الخفاء والستر في القرن الثالث للهجرة، ثم انتشرت شيئًا فشيئًا بعد تأسيس الدولة الفاطمية في بلاد المغرب، ووُجِدَ في مصر عدد من الدعاة للمذهب الإسماعيلي، وكَاتَبَ الإسماعيلية في مصر الخليفة الفاطمي بالمغرب يدعونه لانتزاع مصر من الإخشيديين وتم الفتح سنة ٣٥٨.

وكان للفاطميين مصطلحات خاصة لا يعرفها غير المنتسبين لهم ولا يفهمها غيرهم، فكان للعقائد الفاطمية تأثير في الشعر المصري؛ ذلك أن الشعراء الذين اتصلوا بالأئمة كانوا يمدحونهم بالصفات التي صبغها المذهب على الأئمة، ويتعمد الشاعر أن يستعمل في شعره المصطلحات التي اصطلح عليها علماء المذهب ودعاته، وكلما أمعن الشاعر في استخدام هذه المصطلحات وإدخال الصفات الدينية الخاصة في شعره ازدادت قيمة الشاعر عند الأئمة وكبار رجال الدعوة وكثُر عطاؤه وزاد جاريه، فكان الشعراء على هذا النحو دعاة للأئمة والعقائد دون أن يكون لهم في مراتب الدعوة شأن. وفي الوقت نفسه كان الشعراء سبب اتهام المذهب الفاطمي بالخروج عن الدين، فالشعر أسرع في الانتقال على أفواه الناس من كُتب العلماء، وكُتب الدعاة لا يَقربها إلا أتباع مذهبهم فقط، ومجالس حِكمتهم لا يحضرها إلا من استجاب لهم، فإذا كان ذلك كذلك فالشعر يختلف؛ لأنه يسير بين الناس ويرويه الرواة، فإذا سمع مستمع إلى تلك الأبيات التي زخرت بعقائد الفاطميين دون أن يكون له إلمام بعقائد المذهب وما فيها من تأويلات باطنية فهو لا يستطيع أن يدرك معنى ما جاء في هذا الشعر وما قصد إليه الشاعر. ونقرأ الآن أقوال النقاد والمؤرخين عن ابن هانئ الأندلسي وما وُصِفَ به من شدة الغلو في مدح المعز لدين الله الفاطمي حتى رماه بعضهم بالخروج عن الدين جملة، فلو كان النقاد يعرفون التأويل الباطني لشعر ابن هانئ أو أنهم حاولوا معرفة ما أراده الشاعر وقصد إليه لرأيناهم يرجعون عن كثير مما قالوه في الشاعر، هذا الشعر المشحون بالعقائد الإسماعيلية كان سببًا في ضياعه وعدم إقبال الناس عليه؛ لأنه كُفر في نظرهم، حتى إن أصحاب مجاميع الشعر المصري رفضوا أن يتحدثوا عنه أو أن يستشهدوا به، فالعماد الأصفهاني مثلًا عندما أراد أن يجمع في خريدته شعر شعراء المائة الخامسة قال عن ابن الضيف الشاعر: «وكنت عازمًا لفرط غلوه على حطه؛ لأنه أساء شرعًا وإن أحسن شعرًا بل أظهر فيه كفرًا.» وقال عن ظافر الحدَّاد: «أقول ظافر بحظ من الفضل ظاهر، يدل نظمه على أن أدبه وافر، وشعره بوجه الرقة والسلاسة سافر، وما أكمله لولا أنه من مداح المصري والله له غافر.» كما كانت الأحداث العديدة التي رأتها مصر في العصور الوسطى سببًا في ضياع أكثر الكُتب التي أُلِّفت في العصر الفاطمي ومن بينها دواوين الشعراء، ومع ذلك فقد حُفظت بعض مقطوعات في شعر العقائد، كما حُفظت بعض الدواوين التي زخرت بشعر العقائد مثل ديوان الأمير تميم بن المعز المتوفى بالقاهرة سنة ٣٧٥ﻫ، وديوان المؤيد في الدين داعي الدعاة المتوفى بالقاهرة سنة ٤٧٠ﻫ. كما عثرنا على قصيدة كاملة تكاد تكون فريدة في نوعها في الشعر العربي كله وهي لشاعر مجهول يُعرف بالإسكندراني وكان من شعراء العزيز بالله الفاطمي؛ أي في النصف الثاني من القرن الرابع للهجرة. فالأمير تميم ابن إمام من أئمة الدعوة الإسماعيلية وأخ لإمام من أئمتهم، وكان يمدح أباه وأخاه بالمصطلحات الفاطمية ويلم في شعره بعقائد أُسرته، فهو يقول مرة في مدح أخيه:

ما أنت دون ملوك العالمين سوى
روحٍ من القدس في جسم من البشر
نورٌ لطيف تناهى منك جوهره
تناهيًا جاز حد الشمس والقمر
معنى من العلة الأولى التي سبقت
خلق الهيولى وبسط الأرض والمدر
فأنت بالله دون الخلق متصل
وأنت لله فيهم خير مؤتمر
وأنت آيته من نسل مرسله
وأنت خِيرته الغراء من مضر
لو شئت لم ترضَ بالدنيا وساكنها
مثوًى وكنت مليك الأنجم الزهر
ولو تفاطنت الألباب فيك درت
بأنها عنك في عجز وفي حصر

ففي هذه الأبيات نرى الشاعر يمدح الإمام بأنه ليس كغيره من الملوك؛ لأن نفس الإمام الشريفة اللطيفة هي روح قدسية حلت في جسم كثيف ترابي، وأن هذه النفس اللطيفة تناسب العقل الكلي — الذي سماه الشاعر هنا العلة الأولى — وبما أن العقل هو أول ما خلق الله فهو سابق لخلق الهيولى، ولما كان العقل الأول هو أقرب مبدعات الله إليه سبحانه، فكذلك الإمام الذي هو مثل العقل أقرب المخلوقات إلى الله على هذه النسبة، وهو متصل بالله تعالى لأن ممثوله العقل الأول متصل بالله تعالى، وأن الإمام آية الله تعالى من نسل النبي محمد؛ لأن ممثوله العقل هو آية الله الكبرى، وهكذا يستمر الأمير تميم في استغلال هذه الآراء والعقائد الفاطمية في مدح شقيقه الإمام العزيز بالله بحيث لا نستطيع أن نصل إلى فهم أشعاره في هذا المديح دون التوسل إلى ذلك بتطبيق النظرية التي سميتها «نظرية المثل والممثول».

ومرة أخرى يمدح الأمير تميم أخاه الإمام بصفات باطنية، فيقول:

يا حُجة الرحمن عند عباده
وشهابه في كل أمر مُشكل
من لم يكن في صومه متقربًا
بك، فصومه لم يُقبل

فهو يصف إمامه بأنه حجة الله في الأرض وهو معنى من المعاني الباطنية وصفة من صفات الأئمة. ويقول إن الإمام هو النور الذي يبيِّن للناس ما أُشكل عليهم في أمور الدين، وفي البيت الثاني يشير إلى عقيدة الفاطميين التي تقول إن فرائض الدين لا تُقبل إلا بعد ولاية الأئمة فالله لا يقبل من أحد عملًا إلا إذا اقترنت بطاعة الإمام وولايته.

ولعل الشاعر المؤيد في الدين هبة الله بن موسى هو أول شاعر في هذا العصر وصل إلينا ديوان شعره، وكل ديوانه متأثر بالعقيدة الفاطمية؛ لأن الشاعر جعل كل قصائده في مدح الأئمة، ولم يتناول موضوعًا آخر من موضوعات الشعر وملأ قصائده كلها بالمصطلحات الفاطمية، حتى إننا نستطيع أن نتخذ هذا الديوان الشعري من كُتب العقائد الفاطمية. كان هذا الشاعر عالِمًا من علماء الدعوة الإسماعيلية وكانت إليه مرتبة داعي الدعاة، ولقَّبه الإمام المستنصر بالله الفاطمي بالحُجة نزوعًا إلى رفع شأنه؛ فليس غريبًا أن ينقطع مثل هذا العالِم الكبير إلى العلم وأن يتفرغ إلى كل ما يتصل بنشر الدعوة بين الناس؛ ولذلك ترى أشعاره التي ضمها ديوانه مُلئت علمًا وتأويلًا، فهو يقول في إحدى منظوماته التي وضعها لمكاسرة مخالفي مذهبه:

ما النون يا صاح ترى والكاف
فالخلق دُر وهما أصداف
إن الذي ظنهما حرفي هجا
مستوجب من ذي الحُجى كل هجا
هل كافل بالأرض والسماء
يا عمي حرفان من الهجاء
تفهَّموا يا قوم ما الحرفان
إن نجاة المرء بالعرفان
ما فاعل العالم كالمفعول
كلا، ولا الحامل كالمحمول
والكاف والنون اللذان انتظما
صنع الإله منهما والتحما
وعنهما يأتلف الوجود
لمن هو المشاهد الموجود
أنى يكونان من الموات
وعنهما منابع الحياة؟

فقارئ مثل هذه الأبيات من نظم الشاعر المؤيد في الدين يدرك لأول وهلة مقدار تأثرها بالمصطلحات الفاطمية، فإن قضية الإبداع أو الحدود الروحانية تكاد تكون أدق موضوع عالجه كل الدعاة والعلماء الفاطميين. والمؤيد في هذه الأبيات يشير إلى «الكاف» و«النون» وهما الحرفان اللذان تأتلف منهما لفظ «كُن» من قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ، غير أن الفاطميين قالوا إن «كُن» هي الكلمة التي قامت بها السموات والأرض وما فيهما من خلق وإن «الكاف» و«النون» ليسا بحرفي تهجٍ كما يتوهم العامة بل هما مَلَكَان روحانيان جليلا القدر عظيما الشأن، وقد أقسم الله سبحانه وتعالى في قوله: ن ۚ وَالْقَلَمِ والله تعالى لا يُقسم إلا بأعز مخلوقاته، «فالكاف» رمز إلى «القلم» و«النون» رمز إلى اللوح المحفوظ، ويُسمى القلم عندهم بالسابق وبالعقل وجعلوا له كل الصفات والخصائص التي ذكرها الفلاسفة عن العقل الكلي، وسمُّوا اللوح بالتالي وهو ما يسمى عند الفلاسفة بالنفس الكلية، ومن القلم واللوح وبواسطتها أوجد الله تعالى جميع المخلوقات في السموات والأرض فهما كافلا العالم وليسا بحرفي تهجٍ.

ويقول المؤيد في الدين في إحدى قصائده:

سلامٌ على العِترة الطاهرة
وأهلًا بأنوارها الزاهره
سلامٌ بديًّا على آدم
أبي الخلق باديه والحاضره
سلامٌ على من بطوفانه
أُديرت على من بغى الدائره
سلامٌ على من أتاه السلام
غداة أحفت به النائره
سلامٌ على قاهرٍ بالعصا
عُصاة فراعنةٍ جائره
سلامٌ على الروح عيسى الذي
بمبعثه شَرُفَتْ ناصره
سلامٌ على المصطفى أحمد
ولي الشفاعة في الآخرة
سلامٌ على المرتضى حيدرٍ
وأبنائه الأنجم الزاهره
سلامٌ عليك فمحصولهم
لديك أيا صاحب القاهره

فالشاعر يُسلِّم على جميع الأنبياء وعلى علي بن أبي طالب والأئمة من ذريته، ولكنه ختم سلامه هذا بقوله لإمام عصره: «فمحصولهم لديك أيا صاحب القاهرة»؛ لأن عقيدة الفاطميين تذهب إلى أن النبي محمدًا جمع أدوار كل الأنبياء والمرسلين الذين جاءوا قبله فهو في دوره مثل آدم في دوره، فهو آدم على هذا النحو وهو إبراهيم في دوره وهكذا. فكأن النبي محمدًا جمع أدوار كل الأنبياء السابقين وأن ما حدث للأنبياء وأوصيائهم وأئمة دورهم يحدث أيضًا في عصر النبي محمد ووصيه وأئمة دوره، فالأدوار واحدة ولكنها تتخذ أشكالًا مختلفة، والإمام يقوم مقام النبي فهو مجمع الأدوار أيضًا على هذه الصورة. وعلى هذا النحو نستطيع أن نفسر قصيدة المؤيد في الدين السابقة. وفي قصيدة أخرى للمؤيد أيضًا قارن بين الأئمة وبين الأنبياء، فهو يقول في إمامه:

وصديق مثل العدو مداجٍ
لا أراه إلا عدوًّا مضلا
جاءني حائرًا فقال بجهلٍ
ما أرى للمسيح في الناس شكلا
إن عيسى قد كلَّم الله في المهد
صبيًّا وكلَّم الناس كهلا
قلت: هذا مولى الأنام معدٌّ
قد حوى المُلك والإمامة طفلا
قال: عيسى أحيا الموات جهارًا
قلت: مهلًا يا ناقص الفهم مهلا
إن هذا مولى الأنام معدٌّ
هو يُحيي بالعِلم من مات جهلا
قال: عيسى أبرأ العمى قلت: مولا
ي معدٌّ يجلو العمى إن تجلَّى
قال: حسبي أجبتني بجوابٍ
باطنيٍّ بيَّنت لي فيه عقلا
ثم ولى عني مقرًّا بفضلٍ
لإمام الهدى ورُحت مُدلا

فالشاعر هنا يتحايل على المعاني حتى يأتي منها ما يلائم مقابلة أدوار الأئمة بأدوار الأنبياء ويتخذ الحجة اللفظية في إثبات تأويلاته الباطنية؛ فعيسى كلم الله صبيًّا وإمامه المستنصر بالله حوى المُلك طفلًا، وعيسى أحيا الموات والمستنصر يُحيي بعلمه ميت الجهل، وعيسى أبرأ العمى والمستنصر يُجلِي غياهب الشك في النفوس، وهذه كلها من المعاني الباطنية الخالصة التي استطاع أن يأتي بها الدعاة في علومهم الباطنية.

والشاعر الشريف أبو الحسن علي بن محمد الأخفش يمدح إمامه الحافظ بقوله:

صِرف جريالٍ يرى تحريمها
من يرى الحافظ فردًا صمدا
بشرٌ في العين إلا أنه
من طريق العقل نورٌ وهدى
جلَّ أن تدركه أعيننا
وتعالى أن نراه جسدا
فهو في التسبيح زُلفى راكعٍ
سمع الله به من حمدا
تُدرك الأفكار فيه بانيًا
كاد من إجلاله أن يُعبدا

فالشاعر مدح إمامه بهذه الصفات الباطنية التي خُصَّ بها الأئمة، فالإمام عن طريق العقل — أي العبادة العلمية الباطنية — هو نور؛ أي مثل العقل الكلي، والعقل الكلي لا يُدرك بالأبصار ويتعالى أن يُحد بحدود جسدية، وزُلفى الراكعين طاعة الإمام، والإقرار بحدود الدين الروحانية والجسمانية، والتسبيح في الركوع تأويله البراءة والتنزيه لله تعالى أن يقاس أو يشبه أحدًا من خلقه. فالشاعر يُقر في هذا البيت بأن أحدًا من الخلق وصل إلى ما وصل إليه الإمام. وفي البيت الأخير يشير الشاعر إلى أن الإنسان إذا فكر في أمر الإمام، وأن الإمام مثل للعقل الأول، فيكاد الإنسان من إجلاله للعقل الأول أن يعبده أو يعبد مثله وهو الإمام، ومثل هذا البيت الأخير يقول الشاعر المؤيد في الدين:

لست دون المسيح سماه ربًّا
أهل شرك ولا نسميك ربا

ومثله أيضًا قول الشريف ابن أنس الدولة في مدح الإمام وقد صعد الإمام المنبر يوم العيد:

خشوعًا فإن الله هذا مقامه
وهمسًا فهذا وجهه وكلامه
وهذا الذي في كل يوم بروزه
تحياته من ربنا وسلامه

فهذه المعاني كلها التي وردت في هذه الأبيات هي من المعاني الباطنية التي نجدها كثيرًا في كُتب الدعوة الفاطمية، وكلها تخضع في التفسير لنظرية «المثل والممثول» فالإمام مثل العقل الكلي فهو أشرف من جميع المخلوقات، وأنه هو المقصود بوجه الله ويد الله وجنب الله التي وردت في القرآن الكريم؛ ولذلك وُصِفَ الإمام بنفس صفات العقل الكلي.

وكان الوزير الملك الصالح طلائع بن رزيك من الشعراء المجيدين ومن الذين اتخذوا الشعر وسيلة لنشر العقائد الشيعية الإسماعيلية وتهجين المذاهب الأخرى، فهو يقول في إحدى قصائده:

يا أمة سلكت ضلالًا بيِّنًا
حتى استوى إقرارها وجحودها
مِلتم إلى أن المعاصي لم تكن
إلا بتقدير الإله وُجودها
لو صح ذا كان الإله بزعمكم
منع الشريعة أن تُقام حُدودها
حاشا وكلا أن يكون إلهنا
ينهى عن الفحشاء ثم يريدها

فهو هنا يشير إلى تلك المسألة التي شغلت أذهان المسلمين وأثارها المعتزلة، وأثارت مجادلات بين علماء المسلمين، وهي مسألة الجبر والاختيار، وجمهور أهل السُّنة على أن الإنسان مجبر، والمعتزلة تذهب إلى أن الإنسان مخير، ولكن الشيعة الإسماعيلية ذهبوا مذهبًا وسطًا؛ فالإنسان مجبر في أمور ومخير في أمور، فهو يولد من غير اختيار بل هو مجبر، وتصيبه بعض الأحداث في حياته فهو مجبر عليها، ويموت بغير اختيار، أما أفعاله فهو مخير فيها.

هذه أمثلة لشعر العقائد الفاطمية في مصر، وقد تأثر بهذه العقائد جميع شعراء الحضرة الذين اتصلوا ببلاط الأئمة، بل بلغ هذا التأثر حدًّا بعيدًا عندما نجد بعض الشعراء الذين لم يعتنقوا عقيدة الإسماعيلية يلمون في شعرهم بهذه العقائد في مدحهم للأئمة، ولعل الشاعر عمارة اليمني أصدق مثال لهؤلاء الشعراء السُّنيين الذين ألموا بالعقائد الفاطمية في شعرهم، ففي أول قصيدة أنشدها في مصر مدح فيها الإمام الفائز ووزيره الملك الصالح طلائع بن رزيك والتي مطلعها:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم
حمدًا يقوم بما أَوْلَت من النِّعم

يقول فيها:

لا أجحد الحق عندي للركاب يدٌ
تمنت اللجم فيها رُتبة الخُطم
قرَبن بُعد مزار العِز من نظري
حتى رأيت إمام العصر من أَمَم
ورُحْنَ من كعبة البطحاء والحرم
وفدًا إلى كعبة المعروف والكرم
فهل دَرَى البيت أني بعد فُرقته
ما سِرت من حرمٍ إلا إلى حرم
حيث الخِلافة مضروب سُرادقها
بين النقيضين من عفوٍ ومن نِقم
وللإمامة أنوارٌ مقدسةٌ
تجلو البغيضين من ظُلْمٍ ومن ظُلَم
وللنبوة آياتٌ تنص لنا
على الخفيين من حُكم ومن حِكم

ففي هذه الأبيات لم يستطع الشاعر أن يتحدث كثيرًا عن العقائد الفاطمية؛ لأنه وافد على مركز الدعوة فلم يكن يعرف العقائد إلا بقدر يسير، ولكنه بعد أن استقر بمصر واتصل بالبيئة المصرية وسمع جدل العلماء ومناقشاتهم في مجالس الوزير الملك الصالح وعرف شطرًا من العقائد، تأثر بها في مدائحه بالرغم من أنه ظل سُنيًّا شافعي المذهب، ولكنه يقول في مدح العاضد الفاطمي:

وعليك من شيم النبي وحيدرٍ
للناظرين أدلة وشهود
والوحي ينطق عن لسانك بالذي
من دونه يُصدع الجلمود
شخصت إليك نواظر الأمم التي
ملكتهم لك بيعة وعهود
يومٌ جَلَت فيه الإمامة عِزَها
ولها الملائكة الكرام جنود

ففي مثل هذه الأبيات نجد عمارة اليمني متأثرًا بالبيئة الفاطمية في شعره حتى خُيل إلينا أنه أصبح على مذهب الفاطميين وعقيدتهم، فالوحي وهو في التأويل الباطني داعي الدعاة ينطق عن لسان الإمام بالحُجج الدامغة والبراهين القوية التي لا تقف أمامها حُجج أو براهين، والبيعة في عنق جميع الذين عاهدوا الإمام في جميع الأمم فأصبحوا عبيدًا للإمام، والملائكة وهم في التأويل الباطني على الدعاة جنود الإمامة.

إذن كانت العقائد الشيعية الإسماعيلية التي حملها الفاطميون معهم إلى مصر ونشروها بين الناس ذات أثر كبير على الشعراء الذين مدحوا الأئمة، بل ثبت لنا أن شعر العقائد الفاطمية استمر في مصر بعد زوال عصر الفاطميين، ففي الدولة الأيوبية كان الشعراء يمدحون الخلفاء العباسيين أو سلاطين بني أيوب بنفس الصفات التي أغدقتها العقائد الفاطمية على الأئمة،١ وكثُرت هذه العقائد في صورة أخرى في شعر صوفية مصر في عصر المماليك والعثمانيين، بل ظهر «مذهب الصديقية» في العصر العثماني على يد السادة البكرية الصوفية، وفي هذا المذهب أخذت تعاليم الإسماعيلية أخذًا وأُسبغت على أبي بكر الصديق وأبنائه من بعده.

شعر رجال الدواوين

اصطنع الفاطميون عددًا كبيرًا من الموظفين تولوا الدواوين العديدة التي احتاجت إليها مصر الفاطمية بما يتناسب مع مجدها واتساع سلطانها وتشعب نواحي الحياة فيها، وكانوا يختارون لدواوينهم كل من بلغ درجة عالية من ثقافة العصر وعُرِفَ بمهارته في فن الأدب وخاصةً الكتابة الفنية، وبالغ الفاطميون في الاهتمام برجال دواوينهم فأغدقوا عليهم المرتبات الضخمة مع الهدايا والخِلَع في المناسبات العديدة وفي المواسم والأعياد، حتى طمع كل فرد من المثقفين أن يكون من رجال الدواوين ولكن كان الوصول إلى ذلك بشق النفس، وكان رجال الدواوين — أي الكُتاب — هم الذين يتولون الوزارة في مصر في القرن الرابع والخامس للهجرة.

كان أكثر رجال الدواوين ومنهم بعض الوزراء ممن يُحبُّون الشعر ولهم قدرة على قرض الشعر، فاستطاع الوزراء وأصحاب الدواوين أن يجمعوا حولهم الشعراء وأن يكوِّن كل واحد منهم بلاطًا شعريًّا بحيث أصبحنا أمام عدد ضخم من الشعراء الذين كانوا حول كبار رجال الدولة أو من كبار رجال الدولة أنفسهم. وكان شعر هؤلاء الشعراء على نمطين: أولهما شعر المدح أو الرثاء وهو شعر جزل رصين يتناسب مع غرضه ويُذكِّرنا بشعر فحول شعراء العربية من جهة التزامه لعمود الشعر القديم، وكثرة ما به من الزينة اللفظية التي كلف بها كُتاب مصر، فأظهروها في كتاباتهم وفي شعرهم وساعدهم عليها ذخيرتهم اللفظية فكانوا يتلاعبون بها تلاعبًا شديدًا دون أن يفسد المعنى. أما النمط الثاني فهو الشعر الفُكاهي الذي كان يلائم الندماء ويمتاز برقة ألفاظه وسهولة عبارته.

ولا نغالي إذا قلنا إن أظهر شعراء مصر من رجال الدواوين هم الذين نبغوا ما بين النصف الثاني من القرن الخامس للهجرة والنصف الأول من القرن السادس للهجرة؛ ففي هذا القرن شاهدت مصر شعراء لم تشاهدهم في أي عصر من عصورها الإسلامية من ناحية عدد الشعراء ثم من ناحية إنتاجهم الفني كثرةً وإجادة فنية. ونحن نتساءل: أين ديوان أبي الحسن علي بن المؤمل بن غسان؟ وكان ديوانه في مجلدين. وأين ديوان أبي الحسن بن مطير، وديوان ابن الشخباء أستاذ القاضي الفاضل، وديوان الملك الصالح بن رزيك، وديوان القاضي الرشيد بن الزبير، وديوان أخيه المهذب بن الزبير، وديوان ابن الضيف الداعي، وديوان ظافر الحدَّاد؟ وأين شعر بني عرام شعراء الصعيد؟ وأين مقطوعات ابن الصياد في أنف ابن الحباب؟ فقد قيل إن ابن الحباب كان كبير الأنف وكان ابن الصياد مولعًا بأنفه وهجاه بأكثر من ألف مقطوعة. وأين شعر شعراء بني الكنز بأسوان؟ وأين ديوان ابن قادوس الدمياطي؟ وكان من أماثل الكُتاب. كل هذه الدواوين التي ظهرت في هذا القرن فُقدت ولم يبقَ من شعر هؤلاء الشعراء إلا مقطوعات أو قصائد. ويظهر أن كثرة الشعراء أدت بابن بشرون عثمان بن عبد الرحيم أن يصنف كتابه سنة ٥٦١ﻫ الذي سماه «المختار في النظم والنثر لأفاضل أهل العصر»، وأن يصنف المهذب بن الزبير سنة ٥٥٨ﻫ كتابه «جنان الجنان» جمع فيه أشعار شعراء مصر. كل ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على مدى ما بلغه ازدهار الشعر في أواخر القرن الخامس وأوائل السادس للهجرة، فقد تحدث هؤلاء الشعراء في جميع الأغراض والفنون وتباروا في التفوق الفني فكانوا يجيدون فنهم إجادة تدعو للإعجاب بهم وبمقدرتهم، فالشاعر علي بن محمد بن النضر — وهو من أهل الصعيد — يقول في الحض على الزهادة ويحرض على القناعة ويذم الضراعة ويأسف على إراقة ماء وجهه؛ لأنه مدح الوزير فضاع رجاؤه وخاب فيه أمله:

لهفي لملك قناعةٍ لو أنني
مُتعت فيه بعِزَّة المتملك
ولكنز بأسٍ كنتُ قد أحرزتُه
لو لم تعث فيه الخطوب وتفتك
آليتُ أجعلُ ماء وجهي بعده
كدمٍ يهل به الحجيج بمنسك
وأخٍ من الصبر الجميل قطعته
في طاعة الأمل الذي لم يُدرك
يا قاتل الله الضرورة حالةً
أي المسالك بالفتى لم تُسلك
كم بات مشكوٌّ إليه تحيفت
حلقاته قرعًا براحة ممسك
وفمٍ على قدم رمت ونواظر
كحلت محاجرها بموطئ سنبك
ومسربلٍ بالصبر والتقوى دعت
فأجابها في معرض المتنسك
ظلت تصرفه كتصريف العصا
رأس البعير لمبرك عن مبرك
لا أنشأتني الحادثات لمثلها
ورميت قبل وقوعها بالمهلك

ويقول الملك الصالح طلائع بن رزيك في موقعة بين جيوشه وجيوش الصليبيين بالقدس وقد انتصر المصريون على أعدائهم في هذه الموقعة:

توالت علينا في الكتائب والكُتب
بشائر من شرق البلاد ومن غرب
بشائر تُهدي للموالي مسرة
وتُحدث للباغين رعبًا على رعب
ففي كبد من حرها النار تلتظي
وفي كبد أحلى من البارد العذب
جعلنا جبال القدس فيها وقد جرت
عليها عتاق الخيل كالنفنف السهب
فقد أصبحت أوعارها وحزونها
سهولًا توطا للفوارس والركب
ولما غدت لا ماء في جنباتها
صببنا عليها وابلًا من دم سكب
وجادت بها سُحب الدروع من العدا
نجيعًا فأغنتها الغداة عن السُّحب
وأجرت بحارًا منه فوق جبالها
ولكن بحار ليس تَعْذُب للشرب
فقد عمها خصب به من رءوسهم
بها ولكم خصب أضر من الجدب
وقد روعتها خيلنا قبل هذه
مرارًا وكانت قبل آمنة السرب
وأخفى صهيل الخيل أصوات أهلها
فعاقت نواقيس الفرنج عن الضرب

أما القاضي الجليس أبو المعالي عبد العزيز بن الحسين بن الحباب المتوفى سنة ٥٦١ﻫ، وكان له ديوان الإنشاء في أواخر العصر الفاطمي، فقد ظهر في شعره أثر فن الكُتاب المصريين، وكان يحب الزينة اللفظية في شعره ونثره، فهو يقول مثلًا في مدح الملك الصالح طلائع بن رزيك:

سيوفك لا يفلُّ لها غرار
فنوم المارقين بها غرارُ
يجردها إذ أحرجت سخط
على قوم ويغمدها اغتفارُ
طريدك لا يفوتك منه ثار
وخصمك لا يقال له عثارُ
وفيما نلته من كل باغٍ
لمن ناواك — لو عقل — اعتبارُ
فمُر يا صالح الأملاك فينا
بما تختاره، فلك الخيارُ
فقد شفعت إلى ما تبتغيه
لك الأقدار والفلك المُدارُ
ولو نوت النجوم له خلافًا
هوت في الجو يذروها انتثارُ
عدلت وقد قسمت وكم ملوك
أرادوا العدل في قسم فجاروا
ففي يد جاحد الإحسان غل
وفي يد حامد النعمى سوارُ

ويقول المهذب بن الزبير في مدح ابن رزيك ويصف الأسطول المصري وانتصاره على الصليبيين، ويحث الوزير على المسير إلى بلاد الشام لانتزاع الولايات الصليبية من الغاصبين وإعادتها إلى أصحابها العرب:

أعلمت حين تجاور الحيان
أن القلوب مواقد النيران
وعرفت أن صدورنا قد أصبحت
في القوم وهي مرابض الغزلان
وعيوننا عوض العيون أمدها
ما غادروا فيها من الغدران
ما الوخد هز قبابهم، بل هزها
قلبي عشية سار في الأظعان
وبمهجتي قمر إذا ما لاح للسـ
ـاري تضاءل دونه القمران
قد بان للعشاق أن قوامه
سرقت شمائله غصون البان
وأراك غصنًا في النعيم تميل إذ
غصن الأراك يميد في نعمان
للرمح نصل واحد ولقده
من ناظريه إذا رنا نصلان
والسيف ليس له سوى جفن وقد
أضحى لصارم طرفه جفنان
والسهم تكفي القوس فيه وقد غدا
من حاجبيه للحظه قوسان
ولرُبَّ ليل خلت خاطف برقه
نارًا تلفع للدُّجى بدخان
كالمائل الوسنان من طول السرى
جوزاؤه والراقص السكران
ما بان فيه من ثرياه سوى
إعجامها والدال في الدبران
وترى المجرَّة في النجوم كأنها
تسقي الرياض بجدول ملآن
لو لم يكن نهرًا لما عامت به
أبدًا نجوم الحوت والسرطان
نادمت فيه الفرقدين كأنني
دون الورى وجذيمة أخوان
وترفعت هممي فما أرضى سوى
شُهب الدُّجى عوضًا من الخِلان
وأنفت حين فجعت الأحباب أن
ألهو عن الإخوان بالخوان
واعتضت من جُود الوزير مواهبًا
أسلت عن الأوطار والأوطان

وفيها يقول:

وكأن بحر الروم خُلِقَ وجهه
وطفت عليه منابت المرجانِ
ولقد أتى الأسطول حين غزا بما
لم يأتِ في حينٍ من الأحيانِ
أحبب إليَّ بها شواني أصبحت
من فَتكِها ولها العُداة شواني
شُبهن بالغِربان في ألوانها
وفعلن فِعل كواسر العقبانِ
أوقرتها عُدد القتال فقد غدت
فيها القنا عوضًا من الأشطانِ
فأتتك موقرة بسبي بينه
أسراهم مغلولة الأذقانِ
حربٌ عوانٌ حكَمتك من العدا
في كل بِكرٍ عندهم وعوانِ
يا كاسر الأصنام قُم فانهض بنا
حتى تصير مُكسر الصُّلبانِ
فالشام ملكك قد ورثت تراثه
عن قومك الماضين من غسانِ
فإذا شككت بأنها أوطانهم
قِدمًا فسل عن حادث الجولانِ
أو رُمت أن تتلو محاسن ذكرهم
فاسند روايتها إلى حسانِ

ويقول الشاعر محمود بن إسماعيل المعروف بابن قادوس الدمياطي وكان من وجوه كُتاب مصر وتوفي سنة ٥٥١ﻫ، وقد ظهر في قوله هذا كلفه بالتلاعب اللفظي:

مليكٌ تُذل الحادثات لعِزِّه
يُعيد ويُبدي والليالي رواغم
وكم كربة يوم النزال تكشفت
بحملاته وهي الغواشي الغواشم
تُشيِد بناء الحمد والمجد بيضه
وهن لأساس الهوادي هوادم
رقاق الظبا تَجري بآجال ذي الورى
وأرزاقهم، فهي القواسي القواسم

ويقول ابن الضيف الداعي المتوفى حوالي سنة ٥٠٠ﻫ من قصيدة مطلعها:

لله أجراع اللَّوَى ما أعجبا
ولقاء أبناء الهوى ما أعذبا
وأوانسٌ غيدٌ كأسراب المها
وفوارسٌ صِيد كأسهاب الدَّبا
جعلوا حشاياهم متون جيادهم
قد ذللوها فاستلانوا المركبا
لمعت بروق جيادهم بطِرادهم
حتى كأن على العيون بها هبا
واستمطروا ديم الدماء حوافلًا
بأسنةٍ روت بهن الأكعُبا
تلك المنازل لو هتفت بها يُرى
بعليلها نَفَس الرياح مُطيِّبا
فيها تُهز قنا بأشباه النقا
وبها تُسل ظُبًا بأجفان الظَّبا
وبها كواعب لو تسنَّمن الرُّبى
طلعت لنا الأقمار من تلك الرُّبى

هكذا كان شعر رجال الدواوين في مصر، كانوا حريصين أشد الحرص على إجادة فنهم فاختاروا من الألفاظ أجزلها وأدقها لتأدية المعنى، وكانوا حريصين على أن يلائم جرس اللفظ المعنى المقصود واستعانوا في ذلك بثروتهم اللفظية وبمقدرتهم الإبداعية، فأتوا بشعر يُذكِّرنا بشعر الفحول في الأدب العربي. والحق أن الشعراء من رجال الدواوين في مصر كانوا في عصرهم فحول الشعر العربي في جميع الأقطار الإسلامية، فإن مصر تبوأت في أواخر العصر الفاطمي زعامة العالم العربي من الناحية الأدبية، كما كان لها الصدارة في العلوم والفنون والسياسة؛ وذلك بسبب الضعف الذي طرأ على الخلافة العباسية وانقسامها إلى دويلات صغيرة فقيرة ضعيفة متشاحنة متباغضة يحارب بعضها بعضًا مما جعل أعداء المسلمين يطمعون فيها، ولكن الخلافة الفاطمية بالرغم مما أصابها من ضعف منذ أواخر القرن الخامس الهجري كانت دولة متماسكة لا انقسام فيها، ضَعُفَ فيها الخلفاء الفاطميون ولكن قوي فيها الوزراء الذين كانوا حكامًا أقوياء استطاعوا أن يحافظوا على البلاد أمام الطامعين، وكانت ثروة مصر تجذب إليها كثيرًا من الشعراء والعلماء والكُتاب، فلا غرو أن تنتقل صدارة الأدب إلى مصر منذ أواخر القرن الخامس للهجرة.

شعر الرقة والسهولة

رأينا أمثلة من الشعر الجزل الرصين الذي كان يُنشده شعراء رجال الدواوين في أغراض مختلفة، ولكن بجانب ذلك الضرب من الشعر الجزل الرصين نجد لهم ولغيرهم من شعراء مصر منذ عهد الازدهار شعرًا رقيقًا سهلًا يتناول سخرية بعضهم ببعض أو هجاء بعضهم بعضًا، كما كانوا يتغزلون ويصفون قصفهم ولهوهم ومجونهم في ألفاظ سهلة رقيقة وعلى أوزان خفيفة أو أبحُر مجزوءة، فالشاعر ابن الكيزاني يقول:

مَلَكَ الشوق مهجتي
حبذا مَنْ تملَّكا
قد رماني بحبِّه
ونهاني عن البُكا
إنما راحة المحـ
ـبِّ إذا أنَّ أو شَكَا
ما أرى السلو عنـ
ـهُ وإن جاز مسلكا

فهذا الشاعر الدقيق الحس، الرقيق الشعور، وصف حالة المحب المضني وقد تملكه الشوق فلم يجد راحة إلا إذا أنَّ واشتكى، بالرغم من أن حبيبه نهاه عن البكاء. اتخذ الشاعر هذا الوزن الخفيف واصطنع هذه الألفاظ التي تكاد أن تكون هي الألفاظ التي يصطنعها الشعب. هذا اللون من الشعر الرقيق السهل هو الأصول الأولى التي تطورت إلى شعر البهاء زهير وغيره من شعراء مصر في العصور الوسطى، وهم الذين نطلق عليهم شعراء الرقة والسهولة الذين كانوا يمثلون الحياة المصرية والشخصية المصرية أجلى تمثيل؛ لأن البيئة المصرية نفسها بيئة رقيقة سهلة؛ فوجب أن يكون الأدب الصادر عنها رقيقًا سهلًا.

وانظر إلى قول عَلَم الدولة مقرب بن ماضي وكان واليًا على الواحات في أواخر القرن الخامس الهجري:

أهدى إليَّ معللي
وَرْدًا ولم يَكُ وقته
فسألته عنه فقا
ل من الخدود قطفته
قبَلته فكأنني
في خده قبَّلته

والمصريون يُحبُّون الغَزَل والحديث عنه، فظهر ذلك في أشعارهم الرقيقة؛ مثل قول أبي الحسن التنيسي الملقب برضي الدولة:

راح من خمر الصَّبا مُغتبقًا
ثَمِلًا، أحسن شيءٍ خُلقا
تفعل النشوة في أعطافه
فِعل عينيه بأرباب التُّقى
رشأٌ قد أقسمت ألحاظه
ليُريقن دِما من عَشِقا
مَنْ عذيري من غزالٍ كلما
سُئِلَ الرحمة أبدى حنقا
ورأيتُ النرجس الغض وقد
أخجل الورد بما قد أحدقا
ينهب الناهب من زهرته
ويذود اللمس عما بسقا
كم أناديه وذُلي شافعي
وفؤادي يتلظى حرقا
هكذا يُجزى بكم مَنْ عَشِقا
لاعجًا يَسري وقلبًا موبقا

وانظر إلى قول الشاعر ابن قتادة المعدل:

نظري إليك يزيد في نظري
فعلام تَحجبني عن النظر
يا جُملة الحُسن التي اقتسمت
منها المحاسن جُملة البشر
لِهواك بين جوانحي كُتبٌ
قد عُنوِنت بالدمع والسهر

ويقول الشاعر ابن قادوس الدمياطي في جارية سوداء:

وعاذل محتفل
مجتهد في عذلي
يلومني في ظبيةٍ
مخلوقة من كحلِ
إن السواد علة
من نُور هذي المُقلِ
والحجر الأسود لم
يُخلق لغير القُبلِ
والقار مُذ كان وعا
ء السلسبيل السلسلِ

أو قوله في الهجران:

فإن عُدت إلى وصـ
ـلك فالألطاف مرجوه
وإن لج بك الهجر
فلا حول ولا قوه

أو قوله في رجل كبير الأنف:

ورُبَّ أنفٍ لصديقٍ لنا
تحديده ليس بمعلوم
ليس على العرش له حاجبٌ
كأنه دعوة مظلوم

وأرسل الملك الصالح طلائع بن رزيك إلى أسامة بن منقذ في شزر:

يا سيدًا يسمو بهمـ
ـته إلى الرُّتب العليه
أنت الصديق وإن بَعُدْ
تَ وصاحبُ الشيم الرضيه
يُهنيك أن جيوشنا
فعلت فِعال الجاهليه
سارت إلى الأعداء من
أبطالها مائتا سريه
فتُغير هذي بُكرةً
وتعاود الأخرى عشيه
فالويل منها للفِرنج
فقد لقوا جهد البليه

أما المجون فللمصريين سهم وافر في هذا الفن، وظهر المجون في الشعر ظهورًا لافتًا في عصر ازدهار الشعر، وكان الشعراء يدعون بعضهم بعضًا للقصف وسماع الغناء ويحلو لهم أن يصفوا فسقهم وعبثهم في الشعر، فالشاعر سعيد بن فاخر المعروف بقاضي البقر، وكان من شعراء الإخشيديين يقول في إحدى مقطوعاته:

حَيَّ على الكأس في الصباح
مُطرحًا نُصح كل لاح
وانتهب العيش ما تأتى
فأنت منه على جناح
وأجرني من عقل قومٍ
عَمُوا عن الشرب والمِلاح
يا رب دعني بلا صلاح
يا رب ذرني بلا فلاح
يدي مدى الدهر فوق ردف
وراحتي تحت كأس راح

فالتهكم بالصلاح والتهاون بالدين، والحث على الفجور في هذه المقطوعة تُذكِّر بقول شاعر آخر في نفس العصر هو أبو هريرة أحمد بن أبي العصام فهو يقول:

مجلسٌ لا يرى الإله به غير
مُصلٍّ بلا وضوء وطُهر
سُجَّد للكئوس من دون تسبيح
سوى نغمة لعود وزمر
أنا أشهو الأنام في مثل ذا
المجلس لا مجلس لنهي وأمر

ثم اقرأ للشاعر عبد الله بن محمد بن أبي الجوع تلك المقطوعة التي يدعو بها إخوانه إلى القصف والسماع قبل أن يَحُول شهر رمضان بينهم وبين هذه المتعة:

شعبان قد صار نضوا
ولم نَفِد فيه لهوا
وليس ذلك منا
جهلًا ولا كان سهوا
فبالمودة ألا
بكرت للقصف عدوا
حتى نقوم فنرفو
ما خرق الدهر رفوا
من بعد تقديم جَدْي
مُسَمَّنٍ ظل يُشوى
له ثلاثون يومًا
يحبو إلى الضرع حبوا
لما انتزعت حشاه
عوضته البقل حشوا
وقد عنيت بجام
ملأته لك حلوى
وقهوة بنت كرم
صفت من الذم صفوا
ما شعشعت قط إلا
سطت على الهم سطوا
جنبتها كل وغد
يمحو المحاسن محوا
ألا إذا ما اقتنصنا
عَذْب الخلائق حُلوا
وشادن ذي دلال
يشدو فيلهيك شدوا
إما غناء وإما
عجائبًا عنه تُروى
حتى تظل بما فيـ
ـه من وقارك خلوا
وعندنا لك وَرْد
يحدو المسرة حدوا
ريحانه لا يُوازى
لونًا وعِطرًا وسروا
فما اعتذارك في أن
تُفني زمانك صحوا
وأنت بعد قليل
بالصوم والله تُطوى

فالدعوة إلى العبث والمجون وحديث اللهو والعبث كثُرت في الشعر المصري بحيث لا نكاد نجد شاعرًا لم يتحدث عنها، ولكن هناك بعض الشعراء عُرفوا بتماديهم في غيهم هذا وأكثروا من الفسق والمجون في شعرهم، ولا سيما شعراء الطبيعة وخاصةً ابن وكيع التنيسي فهو يُصرِّح دائمًا بأنه يطلب اللذة ويدعو للمجون، فهو يقول مرة:

جانبتُ بَعدَكَ عفتي ووقاري
وخلعت في طُرق المُجون عِذاري
ورأيتُ إيثار الصبابة في الذي
تَهوى النفوس مُمحق الأعمارِ
لا تأمرني بالتستر في الهوى
فالعيش أجمع في رُكوب العارِ
إن التوقر للحياة مُكدِّرٌ
للعيش فهو تَهتُّك الأستارِ
مَنْ تابعت أمر المروءة نفسه
فَنِيت من الحسرات والأفكارِ
لا تُكثرنَّ علي إن أخا الحِجا
برمٌ بقرب الصاحب المِهذارِ
خوَّفتني بالنار جُهدك دائبًا
ولججت في الإرهاب والإنذارِ
خوفي كخوفك غير أني واثقٌ
بجميل عفو الواحد القهارِ
أقررتُ أني مُذنبٌ، ومُحرَّمٌ
تعذيب ذي جُرمٍ على الإقرارِ

وقال محمد بن إسماعيل المعروف بالتاريخ وكان من شعراء أوائل القرن السادس للهجرة:

ألا فاسقياني ما تُدر ثناياه
وما أَودعت من خمرها بابلٌ فاه
ولا تُنكرا سُكري بغير مُدامةٍ
فسيان عندي ريقه وحُمياه
إذا كان كأس مُترعًا من رُضابه
ونُقلي ما يُبدي من الوَرْد خدَّاه
كفاني ريحانًا وراحًا سُلاف ما
حوى ثغره أو أنبتته عذاراه
غزالٌ ينابيع المدامع وِرْده
وروض القلوب المستهامة مرعاه
فلله ما أشجى فؤادًا ملكته
وأغراه بالبِيْض الحِسان وأصباه

ولا نستطيع أن نذكر هنا هذه الأشعار الكثيرة الماجنة التي جرت على ألسنة شعراء مصر في هذا العصر لما فيها من فُحش، فهي لون من ألوان الأدب المكشوف الذي عُرفت به مصر في هذا العصر والعصور التي تليه ولا سيما في الأدب المصري الشعبي.

ومهما يكن من شيء، فإن الشعر المصري الرقيق استمر تياره طوال العصور الوسطى، وتطور في أيامنا هذه إلى هذا الشعر الحديث الذي يتعمد فيه الشعراء إلى طرح عمود الشعر القديم والعناية بالصورة الفنية والموسيقى الداخلية دون الاهتمام بالوزن والقافية.

شعراء التحامق

ظهر في هذا العصر الذي نؤرخه فن يكاد يكون أقرب فنون الشعر إلى نفسية الشعب المصري، وهو شعر فُكاهي خالص يتعمد فيه الشاعر إلى إضحاك الناس ولكن الضحك يكون من الشاعر نفسه في أغلب الأحيان، فهو يُصور نفسه في صور كاريكاتورية متتابعة ويَصِف نفسه بصفات ساخرة، وكثيرًا ما يتعمد إلى السخف في القول وفي الصور حتى يُظهر حمقه، وأحيانًا كان يعمد الشاعر إلى القصائد القديمة المعروفة بين الناس، فيمسخها ويغير ألفاظها حتى تظهر القصيدة القديمة في مظهر جديد فُكاهي. أحب المصريون هذا اللون من الشعر الفُكاهي وعمد إليه بعض شعراء الفُكاهة في كل العصور الوسطى، بل لا نزال نراه إلى الآن في مصرنا الحديثة في هذه الأشعار التي نقرؤها للمرحوم حسين شفيق المصري، وعبد السلام شهاب، ومحمد الههياوي، ومحمد مصطفى حمام من شعراء الفُكاهة في العصر الحديث، فقد أطلقوا على شعرهم (الشعر الحلمنتيشي) بينما نُطلق عليه شعر التحامق. على أن شعراء التحامق كانوا يجيدون في إنشاد الشعر الجزل الرصين بجانب شعرهم الفُكاهي، فالشاعر أبو الرقعمق الذي عاش في عصر الإخشيديين وأدرك عصر الفاطميين يقول في إحدى قصائده الجزلة:

ليلي بتنيس ليل الخائف العاني
تَفنى الليالي وليلي ليس بالفاني
أقول إذ لج ليلي في تطاوله
يا ليل أنت وطول الدهر سيانِ
لم يكفِ أني في تنيس مُطرح
مخيم بين أشجانٍ وأحزانِ
حتى بُليت بفقدان المنام فما
للنوم إذ بعدوا عهد بأجفاني

هو نفسه يقول في التحامق:

لو برِجلي ما برأسي
لم أبِت إلا بنجدِ
خفة ليست لغيري
لا أراني الله فقدي
ومُحال أن يُرى مثـ
ـلي أو يُبصر بعدي
رجل لا يضرط الضر
طة إلا بعد جهدِ
فلذا الأمر تراه
يأكل التمر بزبدِ
غير أني قيل عني
إنني مُغرى بدعدِ
وبليلى وبسلمى
وبسُعدى وبهندِ
ثم لا أملك شيئًا
غير سنور وخلدِ
وحماقات وعمري
أن لي رأسًا مرندي
أصبر الأرؤس في صفـ
ـع بلا جزر وعدِ

ويقول في قصيدة أخرى:

خُذ في هناتك مما قد عُرفت به
مما به أنت معروف ومشهور
واحكِ العصافير صي صي صي صصي
إذا تجاوبن في الصبح العصافير
ففي ما شئت من حمق ومن هوس
قليله لكثير الحمق إكسير
كم رام إدراكه قوم فأعجزهم
وكيف يُدرك ما فيه قناطير
لا تنكرن حماقاتي لأن بها
لواء حمقي في الآفاق منثور
ولست أبغي بها خِلًّا ولا بدلًا
هيهات غيري بترك الحمق معذور
لا عيب فيَّ سوى أني إذا طربوا
وقد حضرت يُرى في الرأس تفجير
والأخدعان فما زالا يُرى بهما
لكثرة المزح توريم وتحمير
وذا الفِعال مع الإعراض مطرد
صفع ونقع وتيسير وتعسير
فذا وذاك وهذا ثم ذاك وذا
كذا الليالي لها صفو وتكدير

أو قوله:

كتب الحصير إلى السرير
إن الفصيل ابن البعير
فلمثلها طرب الأمير
إلى طباهجة بقير
فلأمنعن حمارتي
سنتين من علف الشعير
لا هم إلا أن تطيـ
ـر من الهزال مع الطيور
فلأخبرنك قصتي
فلقد وقعت على الخبير
إن الذين تصافعوا
بالقرع في زمن القشور
أسفوا عليَّ لأنهم
حضروا ولم أَكُ في الحضور
لو كنت ثم لقيل هل
من آخذ بيد الضرير

وهو القائل أيضًا في شعره الماجن:

كفِّي ملامك يا ذات الملامات
فما أريد بديلًا بالرقاعات
كأنني وجنود الصفع تتبعني
وقد تلوت مزامير الرطانات
قسيس دير تلا مزماره سَحرًا
على القسوس بترجيعٍ ورنات
وقد مجنت وعلمت المجون فما
أدعي بشيء سوى رب المجانات
وذاك أني رأيت العقل مُطرحًا
فجئت أهل زماني بالحماقات

ومن الغريب أن الشاعر في كل أشعاره الماجنة يتخذ هذا التحامق والسخف مقدمة لمدح الملوك والوزراء، وكثيرًا ما أفحش في هذه الأشعار الماجنة وأتى بذكر أجزاء لا تليق أن تُذكر في قصائد في مدح الملوك، ولكنه كان يتحامق فليس له من يعاتبه على فُحشه.

والشاعر أبو حسن علي بن عبد الواحد الملقب بصريع الدلاء أحيانًا وبقتيل الغواني أحيانًا أخرى ونُبِزَ بذي الرقاعتين، وكان أحد شعراء التحامق، وقد عارض مقصورة ابن دريد المشهورة في صورة فُكاهية فهو يقول:

مَنْ لم يُرِد أن تنثقب نعاله
يحملها في كفِّه إذا مشى
ومَنْ أراد أن يصون رِجله
فلبسُه خير له من الحفا
مَنْ دخلت في عينه مِسلةٌ
فاسأله من ساعته عن العمى
مَنْ أكل الفحم تسوَّد فمه
وراح صحن خدَّه مثل الدُّجا
مَنْ صفع الناس ولم يَدَعهم
أن يصفعوه فعليهم اعتدى
مَنْ ناطح الكبش يفجِّر رأسه
وسال عن مَفرقه شبه الدما
مَنْ أكل الكِرش ولم يغسله
سال على شاربه ذاك الدوا
مَنْ طبخ الديك ولم يذبحه
طار من القِدر إلى حيث يشا
مَنْ شرب المسهل في فعل الدوا
أطال تردادًا إلى بيت الخلا
مَنْ مازح السبع ولم يعرفه
مازحه السبع مزاحًا بجفا

وختمها بقوله مشيرًا إلى مقصورة ابن دريد وما قاله هو في معارضتها:

فتلك كالدُّر يضيء لونها
وهذه في وزنها مثل الحذا

وكان الشاعر القائد أبو طاهر إسماعيل بن محمد المعروف بابن مكنسة من فحول شعراء القرن الخامس، وشهد أوائل القرن السادس، ولكنه كان يذهب في شعره أحيانًا مذهب المتحامقين فهو يقول:

أنا الذي حدَّثكم
عنه أبو الشمقمقِ
وقال عني أنني
كنتُ نَديم المُتقي
وكنتُ كنت كنت كنـ
ـتُ من رُماة البُندقِ
حتى متى أبقى كذا
تيسًا طويل العُنقِ
بلحيةٍ مُسبلةٍ
وشاربٍ مُحلَقِ
يا ليتها قد حُلقت
من وجه شيخٍ خَلَقِ

ويقول مرة أخرى يشكو كِبر سِنه وضعف جسمه:

عشتُ خمسين بل
تزيد رقيعًا كما ترى
أحسبُ المُقل بُندقا
وكذا الملح سُكَّرا
وأظنُّ الطويل من
كل شيءٍ مُدورا
قد كَبِرْ بِرْ بِبِرْ بِبِرْ
تُ وعقلي إلى ورا
عجبًا كيف كل شـ
ـيءٍ أَراهُ تَغيَّرا
لا أرى البيض صار يُؤ
كل إلا مُقشَّرا
وإذا دُقَّ بالحجا
رة زُجاجًا تَكسَّرا

ثم انظر إلى هذه المقطوعة في وصف منزله وما به من صور ضاحكة ساخرة:

لي بيتٌ كأنه بيت شعرٍ
لابن حجَّاج من قصيدٍ سخيف
سابقتني بنات وردان حتى
أنا فيه كفأرةٍ في كنيف
أين للعنكبوت بيتٌ ضعيفٌ
مثله، وهو مثل عقلي الضعيف
وإذا هبَّ فيه ريح السراويل
فسلَّم على اللُّحَى والأنوف
بُقعةٌ صَدَّ مَطلع الشمس عنها
فأنا مُذْ سكنتها في الكسوف

فابن مكنسة في كل هذه المقطوعات يتحامق ويُضحك الناس منه. فشعر التحامق إذن فن من فنون الشعر، ظهر في مصر في العصر الإخشيدي واستمر تياره في العصور الوسطى حتى ظهر في عصرنا الحديث، وهو يدل على أن هذا الفن أعجب المصريين فحافظوا عليه إلى الآن.

١  راجع ما كتبناه عن ذلك في كتاب «دراسات الشعر في العصر الأيوبي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤