الفصل الأربعون

دجاجة عمياء

– «ولقد مضت ساعات كثيرة على رحيله».

في يوم الرحيل، يبدأ الشخص الآخر يحسب كل ساعة إلى أن يمر ما يكفي كي يقول: لقد مضت أيام كثيرة على رحيله! ولكن بعد أسبوعين ينقضي حساب الأيام ويصبح الأمر: لقد مضت أسابيع كثيرة على رحيله! ثم شهر كامل. ثم ينقضي حساب الشهور. ثم عام كامل. ثم ينقضي حساب السنين …

كانت كميلة تنتظر ظهور ساعي البريد عند إحدى نوافذ غرفة الاستقبال، وهي تختبئ وراء الستائر بحيث لا يراها أحد من الطريق؛ كانت حبلى وتخيط ثياب المولود.

وأعلن ساعي البريد عن مقدمه بالدق كالمجنون على جميع الأبواب الخارجية. ودقة فدقة، وصل إلى مستوى النافذة التي تقف وراءها كميلة. وتركت كميلة ما تخيط لتنصت وتنظر، وقلبها يكاد يقفز من صدرها من فرط الاضطراب والسرور. «أخيرًا سأتسلم الخطاب الذي أشتاق إليه! «حبيبتي كميلة» بالخط العريض …».

ولكن ساعي البريد لم يدق بابها. ربما كان السبب هو … ربما فيما بعد … وتناولت ما تخيط ثانية وهي تهمهم أغنية تطرد بها أفكارها الحزينة.

وعاد ساعي البريد مرة أخرى في الأصيل. وكان من المستحيل عليها أن تخيط غرزة واحدة في الزمن الذي استغرقته في الانتقال من النافذة إلى الباب. ووقفت تنتظر دقته، مقرورةً، لاهثة الأنفاس، غارقةً في دموعها؛ وحين أدركت أخيرًا أن صمت المنزل لم تقطعه أي دقة على الباب، أغلقت عينيها في هلع، وأخذت تنتفض بالبكاء والقيء المفاجئ والنهدات. لماذا لا أخرج إلى عتبة المنزل؟ ربما … يكون ساعي البريد قد نسي — إنه رجل لطيف — وسيُحضر الخطاب غدًا كأنما لم يحدث شيء.

وفي اليوم التالي، كادت تخلع الباب من مفصلاته وهي تفتحه على مصراعيه. وجرت تنتظر ساعي البريد حتى لا ينساها هذه المرة، وكذلك كيما تجلب الحظ السعيد. ولكنه كان ماضيًا في طريقه كالمعتاد، متحاشيًا أسئلتها، يرتدي ملابس خضراء زاهية (لون الأمل) بعينيه الصغيرتين الضفدعيتين، وأسنانه عارية كأسنان الدمية العظمية في كليات التشريح.

شهر، شهران، ثلاثة، أربعة …

ولم تعد تذهب إلى الحجرات التي تطل على الطريق، بل جذبها حزنها العميق إلى القسم الخلفي من المنزل. وشعرت بنفسها كأنما هي إحدى أدوات المطبخ، أو قطعة فحم أو خشب، أو جرة فخارية، مجرد شيء لا قيمة له.

قالت إحدى جاراتها من العارفات بأمور الولادة، حين استشارتها الخادمات في شأن حالة كميلة: «إن هذا ليس مجرد نزوات بل هو «وخم» «الحمل».» وقد قالت ذلك لمجرد المتعة في الحديث أكثر منه بحثًا عن علاج للحالة. ذلك أنه كانت هناك علاجات كثيرة أمام الخادمات: فقد أضأن شموعًا للقديسين، وخففن من حدة فاقتهن بما أخذن يحملنه من أشياء غالية خفيفة من المنزل.

وفي أحد الأيام المباركة، خرجت المريضة من المنزل، ذلك أن الجثث تطفو إلى السطح أيضًا. وجلست مقعية في عربة أجرة، تتحاشى عين أي شخص تعرفه؛ وقد أشاح هؤلاء بوجوههم بعيدًا عنها بدلًا من أن يحيِّوها؛ وانطلقت وكلها تصميم على مقابلة الرئيس بأي ثمن. وكان إفطارها وغداءها وعشاءها منديل مبلل بالدموع. وكانت لا تزال تعض عليه بنواجذها حين كانت تجلس في غرفة الانتظار. يا لكثرة الشقاء والمشكلات، إذا حكم المرء على ذلك بالحشد الذي كان ينتظر مقابلة الرئيس! أهل الريف يجلسون على حافة المقاعد المذهبة، وأهل المدينة يغوصون فيها ويستندون إلى ظهورها. وكانوا يشيرون للسيدات إلى الكراسي ذات المرفقين في صوت خفيض. وكان ثمة شخص يتكلم في الردهة الخارجية. السيد الرئيس! وتقلصت أعصابها بمجرد التفكير فيه، وركلها طفلها في أحشائها كأنما يقول: فلنخرج من هنا!

وانبعثت همهمة أناس يغيِّرون من جلستهم. تثاؤبات. همهمة ملاحظات. خطوات أقدام ضباط أركان الحرب. حركات جندي يحاول تنظيف إحدى النوافذ. ذباب. ركلات الطفل الصغير في أحشائها. «لا تكن عنيفًا هكذا! لماذا تتصرف بمثل هذه الخشونة؟ إننا سنقابل الرئيس لنسأله ماذا حدث لشخص لا يعرف أنك موجود، ولكنه سيحبك حبًّا عارمًا حين يعود إلى المنزل! آه، إذن أنت تتعجل الخروج كيما تشارك في ما يدعوه الناس بالحياة! إنني لا أعارض في هذا، ولكنك أفضل حالًا وأمنًا حيث أنت الآن!»

ولم يقابلها الرئيس. قال لها أحدهم إنه يحسن بها أن تطلب مقابلة رسمية. برقيات، خطابات، محررات رسمية، بلا جدوى؛ لم تكن تتلقى أي رد عليها.

ومرت ليال، وجاءت أيام، وغارت عيناها من الأرق أو طفتا في بحيرات من دموع. فناء رحيب. وهي ترقد على سرير معلق، تتلهى بحلوى من ألف ليلة وليلة وتلعب بكرةٍ في يدها. وأخذت تنقل قطعة الحلوى من خدها إلى خدها الآخر، فسقطت الكرة الصغيرة من يدها وتقافزت على أرض الممر الذي يقع تحت السرير المعلق وتدحرجت إلى الفناء بعيدًا، بعيدًا، وأخذت تصغر إلى أن تلاشت تمامًا، في حين نما حجم قطعة الحلوى في فمها. لم تكن نائمةً كلية. وكان جسدها يرتعش لملمس الشراشف. كان حلمًا تضيئه أنوار الحلم والأنوار الكهربائية على السواء. وأفلتت قطعة الصابون من بين يديها عدة مرات كالكرة المطاطية الصغيرة، وبدت فطيرة إفطارها — وكانت تأكلها من فرط ما حل بها من جوع — كأنما تتضخم في فمها كقطعة الحلوى.

كانت الشوارع كلها خالية والناس كلهم في القداس، حين تتوجه هي إلى اوين الحكومة، واحدًا إثر الآخر، في انتظار وصول الوزراء. ولم تكن تعرف كيف تكسب عطف الحراس العجائز الشكسين، الذين لم يكونوا يردون عليها حين تكلمهم، ويطردونها بلا رحمة — أولئك الكتل الشائهة من اللحم البشري — حين تلح في طلبها.

ولكنها الآن تتذكر بقية حلمها. لقد جرى زوجها والتقط الكرة الصغيرة. الفناء الرحيب. الكرة السوداء الصغيرة. وزوجها يتضاءل حجمه شيئًا فشيئًا، ويبتعد عنها رويدًا رويدًا كأنما هو يتبدَّى في الطرف المصغِّر للتلسكوب، إلى أن يختفي خارج الفناء وراء الكرة، في حين تضخمت قطعة الحلوى في فمها، ولم تعد تفكر في طفلها المنتظر.

وكتبت إلى قنصل بلدها في نيويورك، وإلى الوزير المفوض بالسفارة في واشنطن، وإلى صديقة إحدى صديقاتها، وإلى صهر أحد أصدقائها، تطلب أنباءً عن زوجها، ولكنها كانت كأنما تلقي خطاباتها في سلة المهملات وليس في صناديق البريد. وسمعت من بقَّال يهودي أن السكرتير المحترم للمفوضية الأمريكية — وهو مخبر سري إلى جانب عمله كدبلوماسي — لديه أنباء مؤكدة عن وصول ذي الوجه الملائكي إلى نيويورك. ولم يقتصر الأمر على وجود سجلات رسمية في الميناء والفندق وملفات الشرطة تثبت وصوله إلى نيويورك، بل إن الصحف قد نشرت أنباء وصوله، وأكَّد ذلك الناس الذين عادوا مؤخرًا من هناك.

وقال لها اليهودي: «إنهم يبحثون عنه الآن، ولا بد أن يعثروا عليه، حيًّا أو ميتًا، رغم أنه قد استقل فيما يبدو سفينة أخرى من نيويورك إلى سنغافورة».

وسألت: وأين تقع هذه السنغافورة؟

فأجاب اليهودي بتكَّةٍ من أسنانه الصناعية: «وأين تظنينها تقع؟ إنها في الهند الصينية».

فاستطردت تلح قائلةً: وكم يستغرق الخطاب في الوصول من هناك إلى هنا؟

– لا أعرف بالضبط، ولكن لا أكثر من ثلاثة شهور.

وأحصت على أصابعها. لقد رحل ذو الوجه الملائكي منذ أربعة شهور.

إنه في نيويورك أو في سنغافورة. لقد انزاح حمل ثقيل من على ذهنها. يا لها من راحة كبرى أن تفكر فيه بعيدًا، وأن تعرف أنه لم يقتل في الميناء كما أشاع البعض، وأنه رغم كونه بعيدًا عنها في نيويورك أو في سنغافورة فإنه يفكر فيها طول الوقت!

وأمسكت بالحافة في حانوت اليهودي حتى لا يُغمى عليها. كان فرحها جعلها تشعر بالدوار. وخرجت كأنها تمشي على الهواء، أو كأنها بين ذراعي زوجها في بلد جديد، مخلفةً وراءها لحم فخذ خنزير ملفوفة في الورق المفضض، والزجاجات وسط القش الإيطالي، وعلب المربى، والشيكولاتة، والتفاح، والرنجة، والزيتون، والسمك المجفف، والعنب الموسكاتي، مع خروجها من محل البقَّال. «كم كنت بلهاء أن أعذب نفسي على هذا النحو! إني أفهم الآن السر في عدم كتابته لي، ويجب عليَّ أن أمضي في تمثيل دور المرأة التي هجرها زوجها والتي أعمتها الغيرة وتسعى إلى العثور على الرجل الذي تركها، أو دور الزوجة التي تريد زوجها إلى جوارها خلال محنة الولادة الصعبة».

وحجزت قمرة في إحدى السفن وحزمت حقائبها. وكان كل شيء جاهزًا لسفرها حين رفضوا إعطاءها جواز سفر. ثمة فتحة ممتلئة بالأسنان الملطخة بالنيكوتين محاطة بإطار من اللحم المنتفخ تحركت من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى، لتخبرها أن أوامر قد صدرت بعدم إعطائها جواز سفر. وحركت هي شفتيها من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى، في محاولة لتكرار العبارة كأنما هي قد سمعت خطأ.

وأنفقت مالًا وفيرًا على برقيات بعثتها إلى الرئيس. ولم يصل رد. ولم يقدم لها المسئولون الحكوميون أية معونة. ونصحها وكيل وزارة الحربية، وهو رجل سَمِحٌ بطبعه مع النساء، بألا تلح في هذا الموضوع، فليس هناك من جهد يمكن أن يسفر عن إعطائها جواز سفر، وقال إن زوجها قد حاول اللعب على السيد الرئيس، وأن الأمر ميئوس منه.

ونصحوها بالذهاب لمقابلة قس ضئيل الحجم ذي نفوذ، أو إحدى عشيقات الرجل الذي يزود الرئيس بجياده. ولما ترددت الشائعات حينئذ بأن ذا الوجه الملائكي قد مات بالحمى الصفراء في «بناما»، فقد وجدت كميلة كثيرين على استعداد لاصطحابها إلى جلسات تحضير الأرواح كيما تحسم الشك باليقين. وهناك، لم ينتظروا حتى تكرر سؤالها لهم. ولكن الوسيطة الروحانية بدت مترددة، إذ قالت وساقاها الضافرتان تهتزان تحت ثيابها الجامدة: «إني لا أحب أن تحل في جسدي روح شخص كان من أعداء السيد الرئيس». ولكن الضراعة. مقرونة بالمال، تهز الجبال، فوافقت الوسيطة بعد أن أفعموا جيبها بالنقود. وأطفئت الأنوار. وارتعبت كميلة حين سمعتهم يستدعون روح ذي الوجه الملائكي، واضطروا أن يجرُّوها خارج الحجرة وهي تكاد تكون غائبةً عن وعيها. وقالوا لها بعد ذلك إنها سمعت صوت زوجها، الذي مات في أعالي البحار، وهو الآن في برزخ لا يمكن الوصول إليه، راقدًا في سرير مترف مرفَّه، على حشية من الماء، محاط بجداول مليئة بالأسماك، علاوة على أفضل وسادة: انعدام الوجود.

كانت قد أصبحت نحيفة مغضنة كالقطة العجوز وهي لم تتعد العشرين من عمرها، ولا شيء يبين في وجهها سوى عينيها — عينان خضراوان تحيط بهما هالات سوداء في حجم أذنيها الشفافتين، وذلك حين وضعت طفلًا صغيرًا. وبناءً على نصيحة طبيبها، فإنها حالما نهضت من الفراش، سافرت إلى الريف لتمكث هناك بعض الوقت. وتعلقت بالحياة من أستار واهية، إذ كانت مهددة بالإصابة بالأنيميا الخبيثة، والسل، والجنون، وهي تتلمس طريقها وطفلها بين ذراعيها بلا أنباء عن زوجها، باحثةً عنه في المرآة: المكان الوحيد الذي يعود فيه الناس الذين غرقوا، وفي عيني طفلها، وفي نفسها حين تنام وتحلم به في نيويورك أو في سنغافورة.

وأخيرًا، جاء يوم ألقى ضوءًا على ليل حزنها المدلهم، حين كانت تتجول كالطيف بين أشجار الصنوبر وبساتين الفاكهة والأشجار السامقة في الحقول. كان يوم «الأحد الأبيض»، حين مسحوا طفلها بالملح والزيت والماء ورضاب القس، وخلعوا عليه اسم «ميغيل». كانت العصافير تتلاطف بمناقيرها — أوقيتان من الريش تغرد إلى ما لا نهاية. وكانت الأغنام منهمكةً في لعق صغارها. يا له من إحساس كامل بالخير والرفاه خلقته حركات لسان الأم في الحَمَل الرضيع، الذي أخذ يرفرف بأهدابه الطويلة تحت وقع ملاطفتها له! وتسابقت الأمهار جريًا وراء الفرسات ذوات العيون الرطيبة. وثغت العجول الصغيرة ببهجة واللعاب يبرق بين فكَّيها وهي تحكهما بالضروع المترعة باللبن. وبدون أن تدرك سببًا لذلك، ضمت كميلة طفلها إلى صدرها حين انتهت موسيقى التعميد، كما لو أن الحياة قد عادت إليها من جديد.

ونشأ «ميغيل» الصغير في الريف وأصبح مزارعًا. ولم تطأ «كميلة» المدينة بقدمها بعد ذلك أبدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤