براون وولف

تأخَّرَت في الخروج إليه بسبب العُشب الندي؛ لترتديَ واقيَ الحذاء، وعندما خرجَت من المنزل وجدت زوجها الذي يَقف في انتظارها مُستغرقًا في روعة بُرعم لوز يتفتَّق. راحت تُفتِّش عبر العُشب الطويل بنَظرة سريعة وبين أشجار البستان من الداخل ومن الخارج.

ثم سألت: «أين وولف؟».

«كان هنا منذ لحظة.» سحب والت إرفين نفسه بعيدًا، وفي نفسه اختلاجة من الشِّعر والميتافيزيقا الكامنَين في مُعجزة الإزهار الطبيعية، وأطلق عينَيه ماسحًا المشهد أمامه «كان يُطارد أرنبًا في آخر مرة رأيتُه».

راحت تُنادي: «وولف! وولف! تعالَ هنا يا وولف!» وكانا في تلك اللحظة يُغادران الفُسحة الخالية من الأشجار، ويَسلكان الممشى الذي يشقُّ غابة أشجار المانزانيتا بأزهارها المستديرة الناعمة ككرات الشمع، مُؤدِّيًا إلى طريق المقاطعة الرئيسي.

دسَّ إرفين الإصبع الصغيرة من كلتا يدَيه بين شفتَيه، ومُسانَدةً منه لجهودها أطلَق صافرةً مجلجِلة.

سرعان ما غطَّت أذنَيها، وقطَّبَت وجهها في امتعاض.

«يا إلهي! تستطيع إطلاق أصوات بَشِعة رغم أنك شاعر مُعتاد على الرهافة وكل هذه الأشياء. لقد ثقبتَ أذنيَّ. صفيرك أعلى من …»

«أورفيوس.»

ردَّت بحِدَّة: «كنتُ سأقول أولاد الشوارع.»

«الشاعرية لا تَمنع المرء من أن يكون عمليًّا … على الأقل لم تَمنعني. فعبقريتي ليست بعبقرية عقيمة تَعجز عن بيع نفائسها للمجلات.»

اتخذ إرفين نَبرة غلو ساخرة، وتابعَ قائلًا:

«أنا لستُ بمغنٍّ مغمور، ولا مُطرب من مطربي صالات الرقص. ولمَ ذلك؟ لأني عمَليٌّ. أغنياتي ليست حثالة لا تَستطيع أن تتحوَّل — بالمقابل المناسب — إلى كوخ مكلَّل بالأزاهير، إلى مرج جبلي بديع، إلى أيكة من أشجار السكويا، إلى بستان من ثلاث وسبعين شجرة، إلى صفٍّ طويل من أشجار العليق وصفَّين قصيرَين من أشجار الفراولة، فضلًا عن جدول ماء يُخرخر يتدفَّق لمسافة ربع ميل.»

قالت ضاحكةً: «أوه، ليتَ كل أغانيك تتحوَّل بمثل هذا النجاح.»

«سمِّي واحدة لم تكن كذلك.»

«تلكما القصيدتان الجميلتان اللتان تحوَّلتا إلى تلك البقرة التي أخذَت لقب أسوأ بقرة حَلوب في الناحية.»

بادَرَها بالرد: «لقد كانت جميلة …»

قاطعته مادج: «لكنها لم تُدرَّ لبنًا.»

ردَّ عليها في إصرار: «لكنها كانت جميلة، أليس كذلك؟»

فردَّت: «وهنا مُفترق الطريق بين الجمال والمنفعة … وها هو وولف!»

من جنَبة التل المُغطَّى بالآجام جاء صوتُ ارتطام وسط الشُّجيرات، ثم فوقهما بأربعين قدمًا، على حافة السور الصخري الشديد الانحدار، ظهر رأسُ ذئب وكتفاه (ليس ذئبًا كما سيتضح بعد ذلك). أطاحَ بحصاة بقدمَيه الأماميتَين المثبتتَين في الأرض، ثم وقفَ يُراقب سقوط الحصاة بأذنَين مُنتصبتَين بقوة وعينَين محدقتَين، حتى سقطت عند أقدامهما. ثم انتقل بناظرَيه إليهما، وبملء فيه ضحكَ عليهما.

صاحَ به الرجل والمرأة: «أنت يا وولف، أنت!» و«وولف، أيها المُزعِج!». انخفضَت أذناه وانسحبتا للخلف عند سماع صوتَيهما، وبدا رأسه وكأنه استكانَ وارتخى استجابةً لمُداعبةٍ خفيفة من يدٍ خفية.

شاهَداه وهو يَتراجَع إلى الخلف ببطء عائدًا إلى الأجمة، ثم تابعَا طريقهما. بعد عدة دقائق، وبينما كانا يَنعطفان عند مُنحنًى في الدرب حيث كان المنزل أقل انحدارًا، انضمَّ إليهما وولف وسط انهيار صغير من الحصيِّ والتربة الرخوة. لم يُظهر لهما ودًّا. وبعد أن ربَّت الرجلُ عليه وفركَ أذنَيه، ومسَّدت عليه المرأة تمسيدةً طويلة، إذا بوولف يَمضي في الدرب متقدمًا إياهما، يَنزلق بلا جهد على الأرض كما يَليق بذئبٍ حقيقي.

كان يبدو من البِنية والفراء والذيل ذئبًا رماديًّا ضخمًا، لكن لونه والعلامات على جسده ينفيان عنه ذلك. فهناك كان الكلب مميَّزًا دون أي مجال للالتباس. لم يكن لذئب يومًا لونٌ كلونه. كان وولف بُنيًّا، بل بُنيًّا قانيًا، بل بُنيًّا يميل إلى الحُمرة، بل مزيجًا صاخبًا من درجات اللون البُني. اكتسى ظهره وكتفاه بلونٍ بُني دافئ، ويميل إلى الأصفر على جانبَيه وبطنه، لكنه أصفرُ كَدِر بسبب بقايا اللون البُني العالقة به. حتى اللون الأبيض الذي يُلوِّن نحره وأقدامه والبُقَع فوق عينَيه لم يخلُ من هذه الكدرة، بسبب هذا اللون البُني الثابت الذي لا فكاك له منه، بينما كانت عيناه كقطعتَين من التوباز، تَلتمِعان بين الذهبي والبُني.

أحبَّ الرجلُ والمرأةُ الكلبَ حبًّا جمًّا؛ ربما لأنَّ فوزهما بحبِّه كان مُهمةً صعبة. لم يكن الأمر سهلًا حين عرجَ خفيةً على كوخهما الجبَلي الصغير أول مرة وكأنه انبثقَ من العدم. دخلَ بأقدام مُتقرِّحة وبطن خميص، وفتَكَ بأرنب تحت سَمعهما وبصرهما وتحت نافذتهما، ثم زحفَ مُبتعدًا ونامَ في جوار النبع تحت شجيرات العُلَّيق. عندما ذهبَ والت إرفين ليَستطلع أمرَ هذا الدخيل، لم ينَلْ منه إلا زمجرة، وكذلك نالت مادج نصيبها من الزمجرة عندما ذهبت له لتُقدِّم عربون سلام؛ وعاءً كبيرًا من الخبز واللبن.

لكَمْ بَرهنَ على أنه كلبٌ انطوائي عنيف إلى أقصى مدًى، يُقابل كلَّ ما كانا يُبادِران به للتقرُّب إليه بسخط، ويرفض أن يتركهما يَضعان يدًا عليه، مُهدِّدًا إياهما بنفش شَعره والتكشير عن أنيابه. غير أنه ظلَّ باقيًا بجوارهما، يَنام ويرتاح بجانب النبع، ويأكل الطعام الذي يُقدِّمانه له بعدما يضعانه على مسافة آمنة منه ويَتراجعان. كانت حالته الجسمانية المزرية تُفسِّر بقاءه، وعندما تماثَل للشفاء بعد إقامة امتدَّت بضعة أيام، اختفى بلا أثر.

كادت أن تصبح هذه نهاية أمره مع إرفين وزوجته، لولا أن إرفين استُدعي في هذا الوقت بالذات للسفر إلى شمال الولاية. فبينما كان إرفين جالسًا ينتظر في القطار، بالقُرب من الحدود بين كاليفورنيا وأوريجون، تصادَف أن نظَر من النافذة، فرأى ضيفه الانطوائي يسير في انسيابية عبر طريق عربات الخيول المُمهَّد، بلَونه البُني وهيئته الذِّئبية، مُتعَبًا لكن عزمه لم يكل، يغطيه الغبار والدنس من عناء رحلة طولها مائتا ميل.

كان إرفين رجلًا يَنساق وراء اندفاعاته، كونه شاعرًا. فقد نزلَ من القطار في المحطة التالية واشترى قطعة لحم من الجزارة، وأمسكَ بالكلب الشريد في ضواحي المدينة. كانت رحلة العودة في عربة الأمتعة، وبنِهايتها عاد وولف مرةً أخرى إلى الكوخ الجبَلي. وهناك رُبط لمدة أسبوع، حيث أغدقَ عليه الرجل والمرأة بالحب. لكنه كان حبًّا حَذِرًا للغاية. كان وولف منعزلًا وغريبًا، وكأنه مسافر قادم من كوكب آخر، وكانت الزمجرة هي إجابته على كلماتهما الودودة الرقيقة. ولم يكن يَنبح مطلقًا. طوال الوقت الذي أمضاه معهما لم يَنبح قَط.

صار الفوز بودِّه مشكلة. وكان إرفين يحبُّ المشكلات. عَهِدَ إلى أحدهم بتصنيع لوحة معدنية كُتِب عليها: «يُعاد إلى والت إرفين، جلين إلين، مقاطعة سونوما، كاليفورنيا.» ثبَّت هذه اللوحة بإحكام في طوق ثم علَّقه في رقبة الكلب. ثم حُلَّ وثاقه، وسرعان ما اختفى في لمح البصر. وفي اليوم التالي وصلت برقية من مقاطعة ميندوسينو. ففي خلال عشرين ساعة، كان وولف قد قطعَ ما يزيد على مائة ميل نحو الشمال، وكان لا يَزال منطلقًا حين أُمسكَ به.

أُعيد إليهما من خلال شركة «ويلز فارجو إكسبريس» للشحن، وقُيد ثلاثة أيام، ثم حُلَّ وثاقه في اليوم الرابع وضلَّ الطريق. في هذه المرة كان قد بلغَ جنوب أوريجون قبل أن يُمسَك به ويُعاد إليهما. كان دائمًا يفرُّ في كل مرة يُطلَق سراحه، وكان دومًا يفرُّ إلى الشمال. ثَمة هاجس استحوذ عليه كان يدفعه دفعًا نحو الشمال. «غريزة الحنين إلى الوطن» هكذا أسماها إرفين، بعدما بذَل في سبيل استرجاعه من أوريجون الشمالية ما يُوازي ثمن بيع قصيدة.

في مرة أخرى، نجحَ الرحَّالة البُني في اجتياز نصف كاليفورنيا ثم أوريجون بأكملها، وأغلب واشنطن، قبل أن يُمسَك به ويُعاد إليهما «مع دفع رسوم الشحن». وكانت السرعة التي يَرتحل بها جديرة بالملاحظة. فما إن يُحلَّ وثاقه، بعد أن يستريح وتَمتلئ معدته، حتى يُكرِّس طاقته كلها ليطوي الأرض طيًّا. فقد وُجد أنه في اليوم الأول قطَع ما يصل إلى مائة وخمسين ميلًا، وفي كل يوم بعد ذلك كان يقطع نحو مائة ميل، حتى يُمسَك به. ودائمًا ما كان يعود ناحلًا وجائعًا وشرسًا، ودائمًا ما يُغادِر قويًّا عفيًّا، ليشقَّ طريقه نحو الشمال مجيبًا داعيًا في داخله لا يَفهمه أحد.

لكن أخيرًا، بعد عام من الفرار ذهبَ أدراج الرياح، تقبَّل المحتوم واختارَ أن يُقيم في الكوخ؛ حيث قتل الأرنب في المرة الأولى ونامَ بجوار النبع. وحتى بعد ذلك، مرَّ وقتٌ طويل قبل أن ينجح الرجل والمرأة في التربيت عليه. كان هذا نصرًا مؤزَّرًا؛ إذ لم يَسمَح لأحد سواهما أن يضع يدًا عليه. فقد كان في غاية الانتقائية والتحفُّظ في ذلك، ولم ينجح أحدٌ من زوار الكوخ قط في التودُّد إليه. وكانت مثل هذه المحاولات للتقرُّب إليه تُقابَل بهدير خفيض، أما إن سوَّلت لأحدهم جرأته أن يقترب أكثر، فكانت شَفتاه تَنفرجان كاشفتَين عن أنيابه، ويتحوَّل هديرُه إلى زمجرة مُروِّعة ضارية تُرهب أشجع الشجعان، مثلما كانت ترهب كلاب الفلاحين التي كانت تَعرف أن الكلب العادي يزمجر، ولكنَّهم لم يروا ذئبًا يزمجر من قبل.

لم يُعرف له ماضٍ. فتاريخه بدأ مع والت ومادج. لقد جاء من الجنوب، ولكن لم يكن لديهما أدنى فكرة عن مالكه الذي هرَب منه كما هو واضح. أشاعت السيدة جونسون، وهي أقرب جار للزوجين وهي مَن تُزوِّدهم باللبن، أنه واحدٌ من كلاب منطقة كلوندايك. كان أخوها يعمل في التنقيب عن المعادن النفيسة في هذه الأراضي المتجمِّدة البعيدة؛ ولذا نصَّبت نفسها مرجعًا في هذا الأمر.

لكنهما لم يُجادلاها. فكان واضحًا أن طرفَي أذنَي وولف مُتضرِّرَين بشدة من أثر تجمُّدٍ عنيف تعرَّضتا له في وقت ما، لدرجة أنهما لم تتعافيا تمامًا قَط. وفوق ذلك، كان وولف يشبه كلاب ألاسكا التي يريان صورها في المجلات والجرائد. كثيرًا ما تساءلوا عن ماضيه، وحاولوا (من واقع ما قرآه وسمعاه) تخيُّل شكل حياته في الأراضي الشمالية. ما عرفاه أن الأراضي الشمالية ما زالت تجذبه؛ فقد كانا أحيانًا ما يَسمعانه ليلًا يئنُّ أنينًا خافتًا، وعندما تهبُّ الرياح الشمالية وتنتشر لسْعة الصقيع في الهواء، يتملَّكه شعور حادٌّ بالتململ والاضطراب، ويُطلق عويلًا حزينًا كانا يعلمان أنه عُواء الذئاب الطويل. لكنَّه لم يكن ينبح قَط. ولم يكن ثَم ما يُمكن أن يستفزَّه لدرجة تنتزع منه صيحة الكلاب تلك.

لكَمْ خاضا نقاشاتٍ طويلة عن أيهما صاحب الكلب عندما كانا لا يزالان يُحاولان الظفر بودِّه. كلٌّ منهما ادعى ملكيته، وكان كلٌّ منهما يملأ المكان ضجيجًا عند أي تعبيرِ ودٍّ أو انسجام يُبديه له وولف. لكن كان للرجل النصيب الأكبر في البداية، والسبب الأساسي أنه رجل. كان واضحًا أن وولف لم يكن له أيُّ تعامل مع النساء قبلًا. لم يكن يَفهم النساء. لم يتقبل التنانير التي كانت ترتديها مادج قط. حتى هفيفها كان كافيًا لأن يجعل فراءَه يَنتصب من الريبة والشك، وفي الأيام العاصفة لم يكن يُمكنها أن تقترب منه على الإطلاق.

من ناحية أخرى، كانت مادج هي مَن تُطعمه، بل كانت هي أيضًا الآمر الناهي في المطبخ، وبفضلها — بفضلها وحدها — كان يُسمَح له بدخول هذه البقعة المقدسة. وبفضل هذه الأشياء صارت لديها فُرصة جيدة لتُعوِّض إعاقة ملابسها لها. غير أنَّ والت بذل جهدًا مُضاعفًا، مُبتدئًا تقليدًا جديدًا بأن يَجعل وولف يتمدَّد عند قدمَيه بينما يكتب، مهدرًا كثيرًا من وقت عمله بين التربيت والحديث معه. وكان النصر حليف والت في النهاية، وكونه رجلًا هو سبب انتصاره على الأرجح، رغم أنَّ مادج ما بَرحت تؤكِّد أن خرير غديرهما كان ليمتدَّ ربع ميل آخر، وأن ريحين غربيتَين أُخريَين على الأقل كانتا تهبَّان عبر أيكة السكويا، لو أنَّ والت كرَّس طاقاته كما ينبغي ليتكسَّب من أغنياته، وترك وولف وشأنه لتكوين رغبة طبيعية وقرار غير مُنحاز.

قال والت بعد خمس دقائق من الصمت كانا يَتهاديان خلالها بخطًى ثابتة عبر الدرب: «حان الوقت لوصول ردٍّ بشأن تلك المقطوعات الشعرية. أنا مُتأكِّد أنني سأجد شيكًا باسمي في مكتب البريد، وسوف نُحوِّله إلى دقيق الحنطة السوداء الجميل، وجالون من شراب القيقب، وواقٍ جديد لحذائك.»

أضافت مادج: «وإلى حليبٍ شهي من بقرة السيدة جونسون الجميلة. فغدًا أول يوم في الشهر كما تعلم.»

تجهَّم والت دون أن يشعر، ثم تهلَّل وجهه ودسَّ يده في جيبه القريب من صدره.

«لا عليك. لديَّ هنا بقرة لطيفة جميلة جديدة، بل أفضل بقرة حلوب في كاليفورنيا.»

سألته في لهفة: «متى كتبتها؟» ثم أردفَت في عتاب: «كما أنكَ حتى الآن لم تُرِني إياها.»

ردَّ والت: «احتفظتُ بها لأقرأها عليك ونحن في طريقنا إلى مكتب البريد، عندما نَصل إلى بقعة كهذه»، مُلوِّحًا بيده ناحية جذع شجرة جافٍّ ليَجلسا عليه.

كان ثَمة جدول صغير يَتدفَّق من وسط بساط كثيف من السراخس، يَنساب عبر حجر يَبرز من طرفه طحالب، ويَتقاطَع مع الممشى حيث يقفان. ومن الوادي انبعثت أغاريد طيور المروج الرخيمة المبهجة، فيما كانت فراشات صفراء رائعة تتراقص بين الظل وضوء الشمس وترفرف حولهما في كل مكان.

عندما بدأ والت يقرأ قصيدته المكتوبة بخطِّ يده بصوتٍ رقيق عذب، قاطعه صوتٌ آخر أتاهما من أسفل. كان صوت خطوات ثقيلة طاحنة، يَقطعه بين الفينة والأخرى صوتُ دحرجة حجر. عندما انتهى والت ونظر في عينَي زوجته التماسًا للاستحسان، ظهر رجل أمامهما عند منعطف الدرب. كان حسير الرأس ويتصبَّب عرقًا. مسح وجهه بمنديل كان في إحدى يدَيه، وفي الأخرى حمل قبعةً جديدة وياقة مُنشَّاة بدَت مُرتخية كان قد خلَعها من رقبته. كان رجلًا قويَّ البِنية، وبدَت عضلاته على وشك أن تَفتق الملابس السوداء الجاهزة الجديدة تمامًا التي كان يرتديها.

بدأ والت بتحيته: «إنه ليومٌ دافئ.» فقد كان والت مؤمنًا بالشعبوية الريفية، ولم يكن يُضيِّع فرصة لمُمارستها.

توقَّف الرجل وأومأ برأسه.

ثم ردَّ بنَبرةٍ شبه اعتذارية: «أعتقد أني لستُ مُعتادًا الدفء كثيرًا. اعتدتُ أكثر الطقس المتجمِّد حيث تصل الحرارة إلى صفر.»

رد والت ضاحكًا: «لن تجد شيئًا من هذا في هذه البلدة.»

رد الرجل: «كلا، بتاتًا. ولستُ هنا بحثًا عن هذا أيضًا. أنا أُحاول العثور على أختي. ربما تَعرف أين تسكن. اسمها السيدة جونسون، حرَم السيد ويليام جونسون.»

صاحت مادج بعينَين تَلتمعان بالإثارة: «لا تَقُل إنك شقيقها الذي يعيش في كلوندايك! أأنت أخوها الذي كثيرًا ما حدَّثَتنا عنه؟»

أجابها بتواضع: «نعم يا سيدتي، هذا أنا. اسمي ميلر، سكيف ميلر. وددتُ أن أفاجئها بقُدومي فحسب.»

ردَّت مادج: «أنت على الطريق الصحيح إذَن. لقد جئت فحسب عن طريق الممشى.» وقفت مادج لتُرشده إلى الطريق، مُشيرةً إلى الوادي الضيق الكائن على بُعد ربع ميل: «هل ترى أشجار السكويا الذابلة هنالك؟ اسلك الدَّرب الصغير المُنعطِف يَمينًا عندها. إنه الطريق المختصر إلى منزلها. ستَصل بسهولة لا تقلق.»

قال: «حسنًا يا سيدتي، شكرًا لك.»

بذلَ مُحاولاتٍ مُتردِّدة لكي يُغادِر، إلا أنه بدا وقد غُرس في مكانه بشكلٍ غريب. كان يُحدِّق فيها بإعجاب لم تُخفِه عيناه إلا أنه لم يكن واعيًا به، كان يغرق معه في بحر الإحراج المتلاطم الذي كان يتخبط بين أمواجه.

قالت مادج: «سنكون سُعداء بسماع قصصك عن إقليم كلوندايك. لمَ لا نأتي لزيارتكما يومًا ما خلال إقامتك في منزل أختك؟ أو الأفضل أن تَزُورانا ونَتناول العشاء معًا.»

ردَّ مُتمتمًا بشكلٍ آلي دون تفكير: «حسنًا يا سيدتي، شكرًا لك سيدتي.» ثم استجمع شتاته وأردف: «لن أبقى هنا كثيرًا. لا بدَّ أن أرتحل إلى الشمال مُجدَّدًا. سأُغادر في قطار هذا المساء. فلديَّ عقدٌ مع الحكومة لتوصيل البريد.»

عبَّرت مادج عن استيائها لهذا، وحاول عبثًا مرةً أخرى أن يُغادِر. لكنه لم يستطِع أن يرفع عينيه عن وجهها. وهذه المرة غلَبَه الإعجاب فنسيَ إحراجه، فيما بدأت هي تَرتبك واحمرَّت وجنتاها خجلًا بدورها.

في هذه اللحظة تحديدًا، أدرك والت أنه لا بد أن يقول شيئًا ليُخفِّف من توتُّر الموقف، واقتحم وولف المشهد مُهرولًا، بعد أن كان بعيدًا عنهم يتشمَّم الهشيم على الأرض.

أفاق سكيف ميلر من استغراقه. واختفَت السيدة الجميلة من مرآه. لم تَعُد عيناه تريان إلا الكلب، وبدا على قسماته الذهول.

قال ببُطء ومهابة: «عجبًا!»

جلس سكيف على الجذع مُطرقًا، تاركًا مادج واقِفة. أما وولف، فما إن سمع صوت سكيف حتى انخفَضَت أذناه، وانفرجت أساريره عن ضِحكة. هرول ببطءٍ نحو هذا الغريب، وتشمَّم يديه أولًا، ثم لعقهما بلسانه.

ربت سكيف ميلر على رأس الكلب، ثم ببُطء ومهابة قال مجددًا: «وا عجباه!»

ثم قال «معذرة يا سيدتي، لقد تفاجأتُ بعض الشيء لا أكثر.»

ردَّت بلطف: «نحن أيضًا مُتفاجئان. لم نرَ وولف يومًا يتآلف مع شخص غريب عنه.»

سألها الرجل: «أهكذا تُسمِّيانه … وولف؟».

فأومأت مادج بالإيجاب. «لكنِّي لا أفهم سر تآلُفه معك، اللهم لو كان ذلك لأنك من كلوندايك. فهو من كلاب كلوندايك إذا كنت تَعلم.»

ردَّ عليها في شرود: «أجل يا سيدتي.» كان يرفع إحدى قدمَي وولف الأماميتين ويتفحَّص باطنها، وأخذ يتحسَّسه ويضغط عليه بقوة. ثم علَّق قائلًا: «باطن قدمه ليِّن نوعًا ما. يبدو أنه لم يمارس أعمال الجر منذ فترة طويلة.»

قاطعه والت قائلًا: «لا بد أن أقول إن تركَه لك تُمسكه بهذا الشكل أمرٌ غير مألوف.»

نهضَ سكيف ميلر، بعد أن زالَ عنه الارتباكُ إعجابًا بمادج، وبنَبرة حازمة عملية سأله: «منذ متى وهو معك؟»

لكن في هذه اللحظة بالذات، بينما كان الكلب يتلوَّى ويتمعَّج بين رجلَي الرجل ويحكُّ جسده فيهما، فتَح فمه ونبح. كان نباحًا قصيرًا مُدويًا يشعُّ بهجة، لكنه في النهاية نباح!

بادر سكيف ميلر مُعلقًا: «أما هذه فجديدة عليَّ.»

حدَّقَ والت ومادج أحدهما في الآخر. ها هي المُعجزة قد حدثت. لقد نبح وولف.

قالت مادج: «لأول مرة ينبح.»

فعقَّب ميلر: «وأنا أول مرة أسمع نباحَه كذلك.»

تبسَّمت له مادج. كان الرجل خفيف الظل حقًّا.

قالت: «بكل تأكيد، بما أنك لم ترَه إلا من خمس دقائق.»

رمقَها سكيف ميلر بنظرة ثاقبة، مُتفرِّسًا وجهها بحثًا عن الدهاء الذي تُوحي به كلماتها وقاده إلى الشك فيها.

قال لهما ببُطء: «ظننتُ أنكما أدركتما الأمر. كنت أعتقد أنكما فطنتما للأمر من تودُّده لي. إنه كلبي. واسمه ليس وولف. بل اسمه براون.»

استنجدت مادج بزَوجها تلقائيًّا: «والت، يا إلهي!»

وفي الحال تحفَّز والت للدفاع.

سأله والت: «كيف تَعرِف أنه كلبك؟»

فكان ردُّه: «لأنه هو.»

قال والت بحِدَّة: «مُجرَّد زعم بلا دليل.»

وببطء وتأنٍّ، كما هي طريقته، نظر سكيف ميلر إلى والت، وبإيماءة من رأسه ناحية مادج سأله:

«وكيف تَعرف أنها زوجتك؟ كل ما ستقوله «لأنها هي»، وسأردُّ عليك بأن هذا مجرَّد زعم بلا دليل. الكلب كلبي. أنا هجَّنتُه وربَّيتُه، وأظنُّ أن هذا كافٍ لأعرفَه. انظر إلى هذا. سأثبت لك.»

التفتَ سكيف ميلر ناحية الكلب. وبصوت مُدوٍّ ناداه: «براون!» فانخفضت أذنا الكلب كما لو كان أحدٌ يُداعبهما. صاحَ به: «يمييين!» فانحرف الكلب سريعًا نحو اليمين. «إلى الأمام!» فكبح الكلب انحرافَه في الحال وانطلق إلى الأمام مباشرة، ثم توقَّف في انصياع عندما أمره بالتوقف.

قال سكيف ميلر بفخر: «بل يُمكنني القيام بذلك بالصفير له. فقد كان كلب الطليعة في فريقي.»

سألته مادج بصوتٍ رجيف: «لكنَّك لا تَنوي العودة به؟».

فأومأ الرجل.

«تُعيده إلى عالم كلوندايك البَشِع المليء بالمُعاناة؟»

أومأ برأسه ثم أضاف: «لكن الأمر ليس سيئًا إلى هذا الحد. انظري إليَّ. شخص سليم مُعافًى، أليس كذلك؟»

«لكن الكلاب! الشدائد والأهوال، الكدح والشقاء الذي يَنفطر له القلب، التضوُّر جوعًا، الصقيع! يا إلهي، لقد قرأت عن هذه الأهوال وأعرف ما أتحدَّث عنه.»

ردَّ ميلر مُتجهمًا: «كنتُ على وشك أكله ذات مرة، هنالك عند غدير السمك الصغير. لولا الأيل الذي ظفرتُ به يومَها لما أنقَذَه شيء من يدي.»

صاحت فيه مادج: «لكان موتي خيرًا لي عندها!»

أوضحَ لها ميلر: «الأمور عندكم هنا مختلفة. فأنتم لا تُضطرُّون إلى أكل الكلاب. سيتغيَّر رأيك في اللحظة التي تُستنزفين فيها. وأنتِ لم تبلغي حد الاستنزاف قط؛ لذا لا تَعرفين أي شيء عما أتحدث عنه.»

جادَلَته بلطفٍ قائلة: «هذا تحديدًا ما أعنيه. لا أحد يأكُل الكلاب في كاليفورنيا. لمَ لا تتركْه هنا إذَن؟ إنه سعيد هنا! لن يُعاني عَوزًا للطعام أبدًا، وأنت تعلم ذلك. لن يُعاني الأمرَّين من البرد وشظف العيش. هنا لن يجد إلا كلَّ رخاء وعطف. فالوحشية ليست من طبع البشر ولا الطبيعة هنا. لن يرى ضربة سوط ثانية أبدًا. وبالنسبة إلى الطقس، فالثلوج لا تتساقط هنا أبدًا.»

رد سكيف ميلر ضاحكًا: «مع احترامي، لكنَّها تكاد تتأجَّج نارًا في الصيف هنا.»

تابعت مادج في انفعال: «لكنَّكَ لم تُجبني. ماذا لديك لتُقدِّمه له في حياة الشمال تلك؟»

أجابها: «طعامًا، حين يَتيسَّر لي، وهذا ما يحدث أغلب الأحيان.»

«وفي باقي الأحيان؟»

«لا طعام.»

«والعمل؟»

قال ميلر بنَفاد صبر: «نعم، هناك كثير من العمل. عمل لا يَنتهي، وجوع، وصقيع، وكل هذه التعاسات … هذا ما سيَلقاه عندما يأتي معي. لكنَّه يُحبه. وهو مُعتاد عليه. تلك هي الحياة التي يعرفها. هذا ما وجده حين وُلد وهذا ما نشأ عليه. وأنتِ لا تَعرفين أي شيء عن ذلك أبدًا. أنت لا تَعرفين ما تتحدَّثين عنه أصلًا. هذا هو المكان الذي ينتمي إليه، وهناك سيُصبح أسعد ما يكون.»

ردَّ والت بصوت حازم: «الكلب لن يرحل. لذا لا حاجة لمَزيد من النقاش.»

عبس حاجبا سكيف ميلر الكبيران، وتدفَّق الدم في عروقه في عناد فاحمرَّت جبهته، وسأله: «ما هذا الذي تقول؟».

«قلتُ إنَّ الكلب لن يرحل، وهذه نهاية الأمر. أنا لا أصدق أنه كلبك. ربما رأيتَه يومًا. ربما حتى قُدتَه بدلًا من صاحبه. لكن امتثاله لتوجيهات كلاب الجرِّ التي تُستخدم في ألاسكا بأكملها ليس دليلًا على أنه كلبك. أيُّ كلب في ألاسكا كان سيَمتثل لك كما فعل. كما أنه كلب نفيس بلا شك؛ لأنَّ الكلاب لها رواج في ألاسكا، وهذا تفسير كافٍ لرغبتك في الاستحواذ عليه. على أي حال، لا بد أن تُثبت ملكيتك له.»

كان سكيف ميلر هادئًا ورابط الجأش وهو يتفحص الشاعر بعينيه من أعلاه لأسفله، وكأنه يعاين ما قد يَحمله قوامه الممشوق هذا من قوة، وقد صارت الحمرة التي ضرَبها عنادُه في جبهته أشد قليلًا، وعضلاته الضخمة تَبرُز من تحت قماش معطفه الأسود.

وفي النهاية ارتسَمَت نظرة ازدراء على وجه الرجل وهو يقول: «أعتقد أن لا شيء على مرمى بصري يَمنعُني مِن أخذ الكلب في التوِّ واللحظة.»

احمرَّ وجه والت، وبدَت عضلات ذراعَيه وكتفَيه البارزة مُتصلِّبة ومُتوتِّرة. أما زوجته فانبرت في قلق تتدارك الشقاق الذي حدث.

قالت: «لربما يكون السيد ميلر مُحقًّا. أخشى أنه كذلك فعلًا. فيَبدو أن وولف يعرفه، ولا شك أنه يتجاوب مع اسم «براون». لقد ألفه بمُجرَّد أن رآه، وكما تَعلم فهذا لم يحدث قَط من قبلُ مع أي شخص. وفوق ذلك، انظر كيف نبحَ! كان يُشعُّ بهجة. ولمَ هذه البهجة؟ لعثوره على السيد ميلر بلا ريب.»

ارتخَت عضلات والت البارزة، وبدَت كتفاه تتهدَّلان في يأس.

ثم قال: «أعتقد أنك مُحقَّة يا مادج. وولف ليس اسمه وولف، بل براون، ولا بدَّ أن السيد ميلر هو مالكه.»

تقدَّمت مادج باقتراح: «ربما يُمكن للسيد ميلر بيعه. نحن مُستعدَّان لشرائه.»

هزَّ سكيف ميلر رأسه نافيًا، بلا عُدوانية هذه المرة بل بلُطف ودماثة، وسرعان ما أجاب إحسانهم بإحسان.

حاول أن يَتحرَّى أسهل طريقة يُخفِّف بها من وطأة رفضِه، فقال: «كان لديَّ خمسة كلاب. كان هو قائدها. وكانوا خير فريق في ألاسكا كلها. لم يكن لها مثيل. حتى إنني في عام ١٨٩٨ رفضت بيعها بخمسة آلاف دولار. كانت أسعار الكلاب عاليةً حينها عمومًا، لكنَّ هذا لم يكن سبب هذا السعر الباهظ. بل كان السبب هو الفريق نفسه! وكان براون الأفضل في الفريق. حتى إنني رفضتُ بيعه مقابل ألف ومائتَي دولار في شتاء ذلك العام. لم أَبعِه حينها ولن أبيعه الآن. كما أنني أفكر فيه على الدوام. لثلاث سنوات ما فتئتُ أبحث عنه. أضناني الحزن عندما علمت بسرقتِه؛ ليس لقيمتِه المادية بل … حسنًا؛ إنه غالٍ على قلبي، هذا كلُّ ما في الأمر. لم أُصدِّق عينيَّ حين رأيته لتوِّي. ظننتُ أني أحلم. كان الأمر أروعَ مِن أن أُصدِّقه. رباه، لقد كنت راعيه. كل ليلة كنت أضعه في فراشه، وكل ليلة كنتُ أُوثِّر فراشه له وأدفئه. ماتَت أمه، وكنت أُغذِّيه على حليب مكثَّف كان سعر العلبة منه دولارَين، بينما لم يكن يتيسَّر لي شراؤه لوضعه على قهوتي. لم يَعرف يومًا غيري أمًّا له! كان دومًا يَمصُّ إصبعي، ذلك الجرو الصغير الملعون … كان يمصُّ تلك الإصبع!»

ورفع سكيف ميلر إحدى سبَّابتَيه ليُريهما إياها وقد جاشَت مشاعره حتى لم يَعُد قادرًا على الكلام.

قال بصعوبة: «هذه الإصبع»، وكأنه مُمسك بدليلِه على ملكيتِه للكلب، وعلى رباط المحبَّة بينهما.

كان لا يزال يُحدِّق في إصبعه الممدودة أمامه عندما بدأت مادج تتكلم.

قالت مادج: «لكن الكلب. أنت لم تُفكِّر في الكلب.»

بدت الحيرة على وجه سكيف ميلر.

سألته: «هل فكَّرت فيه؟».

فكان جوابه: «لا أدري ما تَرمين إليه.»

تابعت مادج حديثها قائلةً: «ربما للكلب رأيٌ في الأمر. ربما عنده ما يُحبه ويميل إليه. أنت لم تفكر فيه. لم تُعطِه خيارًا. لم يخطر ببالك قط أنه ربما يُفضل الحياة في كاليفورنيا عن ألاسكا. أنت لا تفكر إلا فيما تُريده أنت. تتعامل معه كما تُعامل جِوالًا من البطاطس أو كومة قش.»

لم يُفكِّر ميلر في الأمر من هذا المنظور قط، وبدا واضحًا أن كلام مادج قد ترك أثرًا فيه وهو يُقلِّبه في عقله. واستغلَّت مادج تردُّده هذا.

راحت تستحثُّه قائلةً: «إن كنت تحبُّه فعلًا، فإن سعادتك ستكون فيما يسعده.»

استمر سكيف ميلر يَتباحث الأمر مع نفسه، واسترقت مادج نظرةَ تهلُّل سريعة نحو زوجها، وبادلها هو نظرة استحسان دافئة.

سألها الرجل الوافد من كلوندايك فجأةً: «ماذا ترَين؟».

فتحيَّرت هي بدورها. سألته: «ما الذي تعنيه؟».

«هل ترين أنه سيألف الحياة في كاليفورنيا قريبًا؟!»

أومأت برأسها إيجابًا. «بل أنا واثقة من هذا.»

راح سكيف ميلر يَتباحث مع نفسه مجددًا، لكن هذه المرة بصوتٍ مسموع، وبنظرة متفحِّصة تقييمية سريعة كان يتطلَّع إلى الحيوان محل الخلاف في الوقت ذاته.

«لقد كان فتًى جيدًا في عمله. كان يُتمُّ لي أكوامًا من العمل. لم يتكاسل يومًا عما أُكلِّفه به، وكان متمرسًا في تحويل فريق من الكلاب غير المدرَّبة إلى تشكيل مُنظَّم. لديه عقلية ذكية منظمة. عدا الكلام يمكنه عمل كل شيء. إنه يُدرك ما تقولانه له. تطلَّعا إليه الآن. إنه يعلم أننا نتحدَّث عنه الآن.»

كان الكلب يجلس ممددًا تحت قدمَي سكيف ميلر، رأسه يَستند على كفيه، وأذناه مُنتصبتان تنصتان، وعيناه كلهما يقَظة ولهفة لمُتابعة الكلمات وهي تتساقَط من فم مُتحدِّث تلو الآخر.

«ولا يزال قادرًا على فعل الكثير. سيكون قادرًا على العمل لسنوات. وأنا أحبُّه حقًّا.»

فتح سكيف ميلر فمه بعد ذلك مرة أو مرتين وأغلقه دون أن يَنبس ببنت شفة. وأخيرًا قال:

«سأُخبركما بما سأفعل. ملاحظاتك يا سيدتي بها بعض الوجاهة. فالكلب قد عملَ بجدٍّ، وربما يكون قد وجَد لنفسه مأوًى مُريحًا ومن حقه أن يختار. على كل حال، سأترك الأمر له. ما يختاره سيَسري علينا. ابقيا أنتما جالسَين هنا. أما أنا فسأُودِّعكما وأُغادر كما لو أن الأمر عادي. إن أراد أن يَمكُث معكما فليمكث. وإن أراد أن يأتي معي، فدعاه يأتي. لن أناديَه ليأتي إليَّ، وأنتما لا تنادياه ليعود إليكما.»

ثم نظر بارتياب مُفاجئ إلى مادج، وأردف: «لكن عليكما أن تلعبا بشرف. لا تُحاولا استمالته بعدما أدير ظهري.»

ردت مادج: «سنَلعب بشرف»، إلا أنَّ سكيف ميلر قاطع تأكيداتها.

قال ميلر: «أعرف ألاعيب النساء. قلوبهنَّ رقيقة. وإذا ما مس قلوبهنَّ شيء فمن المرجح أن يعبثن بالورق لصالحهن، ويَختلسنَ النظر إلى آخر ورقة، ويَكذبن … أستميحك عذرًا يا سيدتي. أنا أتحدَّث عن عموم النساء فحسب.»

ردَّت عليه باختلاج: «لا أعرفُ كيف أشكرك.»

فردَّ عليها: «لا أرى ما يَستدعي الشكر. فبراون لم يُقرِّر بعد. لكن أرجو أنكما لن تُمانعا في أن أنصرف ببطء! إنه مَطلب عادل؛ لأني سأكون خارج مرمى البصر بعدما يَقرُب من مائة ياردة.»

وافقت مادج، وأضافت: «وأنا أعدكَ بإخلاص بأننا لن نفعل أي شيء لنَستميلَه.»

وبالنبرة المعتادة عند الانصراف قال سكيف ميلر: «حسنًا، عليَّ أن أرحل الآن.»

وعند هذا التغيُّر في نبرة صوته، رفع وولف رأسه بسرعة، وكان نهوضه أسرع عندما تصافح الرجل والمرأة. قفَز على قائمَيه الخلفيَّين، وأسند قائميه الأماميين على خاصرتها، وفي الوقت نفسه كان يَلعَق يد سكيف ميلر. وعندما تصافح الرجلان، كرَّر وولف فعلته، مُستندًا بثقله على والت وراح يلعق يدَي كلا الرجلين.

كانت آخِر كلمات الوافد من كلوندايك: «لن يكون الأمر سهلًا، أؤكد لكما هذا»، واستدار واتخذ طريقه ببطء على الدرب.

ظلَّ وولف يُراقبه وهو يبتعد لمسافة عشرين قدمًا، بنفس يملؤها تلهُّف وترقُّب، كأنه ينتظر أن يستدير الرجل مرةً أخرى ويعود أدراجه إليه. وثَب وولف خلفه مع أنينٍ خفيض سريع حتى لحق به، وبحنوٍّ مُرتبِك أمسك يدَيه بين أسنانه، وظل يكافح معه بلطف علَّه يجعله يتوقف.

لما فشل في ذلك، عاد وولف مُسرعًا إلى حيث كان والت إرفين جالسًا، ثم أمسك كُم معطفه بين أسنانه محاولًا دون جدوى أن يَسحبه ليلحق الرجل المغادر.

بدأ اضطراب وولف يتصاعَد. أراد لو كان خارقًا يتيسر له أن يكون في كل مكان. كان يُريد أن يكون في المكانَين في آنٍ واحد، مع سيِّده القديم ومع سيِّده الجديد، وكانت المسافة بينهما لا تفتأ تتزايد. ظل يتقافَز هنا وهناك في اهتياج، مُصدرًا قفزات والْتواءات قصيرة ومُتوتِّرة، مرةً ناحية هذا ومرة ناحية ذاك، في حيرة تُبرِّحه ألمًا، لا يَدري ماذا يُريد، يُريدهما كليهما ولا يستطيع أن يختار أحدهما دون الآخر، ويُصدِر أنَّات حادة سريعة، حتى تتقطَّع أنفاسه ويبدأ باللهاث.

خرَّ وولف على كفليه فجأةً، مادًّا أنفه إلى أعلى، وفمه يَرتجف بين انغلاق وانفتاح، ومع كل مرة يتسع انفراجه أكثر. وصاحَبَ هذه الحركات المختلجة تشنُّجات مُتتابعة تُداهم حلقه، كل واحدة أشد من سابقتها. وبالتزامن مع هذه الارتجافات والتشنُّجات، بدأت حنجرته ترتعش، كان ارتعاشًا غير مسموع في البداية، مَصحوبًا بدفعة الهواء الخارج من رئتَيه، ثم أصدر نغمة خفيضة عميقة، كانت من أخفض النغمات التي مرَّت على الأذن البشرية. كان كل هذا ما هو إلا تمهيد الأعصاب والعضلات للعُواء.

لكن في اللحظة التي أوشك فيها هذا العواء أن يَنطلق بأعلى صوت وقوة لديه، أُغلق الفم المفتوح على مصراعَيه، وتوقَّفَت التشنُّجات، وحدَّق الكلب طويلًا وبثبات في الرجل المغادر. فجأةً أدار وولف رأسه، ومن فوق كتفِه نظر إلى والت نظرة بالثبات نفسه. لكن الاستجداء لم يُقابل بردٍّ. لم يتلقَّ الكلب أي كلمة أو إشارة، لم يتلقَّ أي اقتراح أو إلماح بما يجدر به أن يفعل.

عندما نظر نظرةً سريعة إلى الأمام ولمح سيده القديم يُقارب منحنى الدرب، تجدَّد انفعاله. هب واقفًا على قوائمه وهو يئنُّ، ثم واتَته فكرة جديدة، فحوَّل انتباهه إلى مادج. حتى هذه اللحظة لم يكن قد أعارها اهتمامًا، لكن الآن بعد أن خذله سيداه كلاهما، فلم يتبقَّ إلا هي. أقبل نحوها وأرخى رأسه في حجرها، وراح بأنفه يَنكز ذراعها … خدعة قديمة كان يُمارسها عند استجداء شيء ما. ابتعد عنها وراح يتلوَّى ويتمعَّج ويدُور مُلاعبًا، ويتبختر مرحًا، ويشبُّ طافرًا على قائمَيه الخلفيَّين ثم يضرب الأرض بقائميه الأماميَّين، معافرًا بكل جسده، من عينَيه المتملقتَين وأذنَيه المنخفضتَين وحتى ذيله الذي لا يكفُّ عن الاهتزاز، ليُعبر لها عما يجول بخاطره، دون أن يُقابل ذلك برد.

سرعان ما أقلع عن هذا أيضًا. فقد أُحبِط من برودة هؤلاء البشر تجاهه، فلم يكونوا بذلك البرود يومًا. لم يَستطِع أن ينتزع منهم جوابًا واحدًا، ولم يحصل من أحد منهم على أي مساعدة. لم يكونوا يُفكِّرون به. كانوا صُمًّا كالموتى.

التفتَ وفي صمتٍ تابَع سيده القديم بعينه. كان سكيف ميلر يأخُذ المنعطف. في لحظة، سيكون خارج مرآهم. لكنه لم يَلتفت إليه بتاتًا، بل كان يتقدم ببطء للأمام، ببطء وانتظام، كأنه لا يُلقي بالًا لما يحدث خلف ظهره.

وهكذا اختفى الرجل من المشهد. انتظر وولف أن يعود. انتظر برهةً طويلة، صامتًا، هادئًا، ساكنًا، بلا حراك وكأنه تحوَّل إلى حجر، لكنه حجر يجيش باللهفة والرغبة. نبح مرةً، ثم انتظر. ثم استدار وهرول عائدًا إلى إرفين. تشمَّم يده، ثم خرَّ مستلقيًا تحت قدمَيه في تثاقل، وعيناه على المسار حيث المنعطف الخالي أمامه.

بدا الجدول الصغير الذي ينزلق على الصخور المُكتسية بالطحالب فجأةً وكأنه يزيد من جهارة خريره. وفيما عدا صوت طيور القُبَّرة في المروج، لم يكن هنالك أي صوت آخر. كانت الفراشات الصفراء الرائعة تطوف في صمت في ضوء الشمس، وتختفي بين الظلال الناعسة. نظرت مادج إلى زوجها نظرةً مُفعَمة بنشوة الانتصار.

بعد بضع دقائق هبَّ وولف واقفًا. كانت أمارات الحسم والإصرار تتبدَّى على حركاته. لم ينظر نحو الرجل والمرأة. بل كانت عيناه ثابتتَين على الطريق. لقد حزم أمره. وهما علما بهذا. كما علما أن الكارثة مُقبلة عليهما.

انطلق مهرولًا، فزمَّت مادج شفتَيها، متأهبةً لإطلاق صوت المداعبة الذي كانت تريد أن تُصدره. لكن الصوت لم يُغادر فمها. لم يَسعها إلا أن تنظر في وجه زوجها أولًا، ورأت النظرة الصارمة التي كان يرمقها بها. فأرخت شفتيها المزمومتين، وتنهَّدت بصوت غير مسموع.

تحوَّلت هرولة وولف إلى عَدْو. كانت قفزاته تتَّسع أكثر وأكثر. لم يلتفت برأسه ولو مرة، وقد لاحَ من خلفه مباشرةً ذيلُه الكثيف الذي يُشبه ذيلَ الذئب. وقطعَ الطريق نحو مُنحنى الدرب بخفة، واختفى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤