خاتمة

لقد حاولتُ في هذا الكتاب، أن أقدِّم موجزًا لما أرى أنه يمثل العناصر الأساسية لنهجٍ علمانيٍّ بحتٍ للأخلاق وتعزيز القيم الإنسانية الأساسية. إنه مشروع تعهدتُ به منذ أن اكتشفت أنه لا يوجد دِينٌ وحيد يمكن أن يرضي الجميع. فالحقُّ أنه يوجد الكثير جدًّا من الطِّباع الذهنية والنفسية المختلفة بين سبعة مليارات شخص من سكان كوكبنا؛ مما يحول دون إمكانية تحقيق ذلك.

إنَّ دافعي في القيام بهذا العمل يعكس إيماني الراسخ بأنه حين يتعلم كلٌّ منا تقدير الأهمية الحاسمة للأخلاق ويجعل القيم الداخلية مثل الرأفة والصبر جزءًا لا يتجزأ من نظرتنا الأساسية للحياة، فإن آثار ذلك ستكون بعيدة المدى. وكما أرجو أن أكون قد أوضحت، فإنَّ القيام بذلك سيساعدنا على المستوى الفردي في تحقيق المزيد من السعادة ويوفِّر إحساسًا حقيقيًّا بالغاية في حياتنا والمغزى منها. أما على مستوى المجتمع، فعندما يفعل المزيدُ منا الأمرَ نفسَه، ستكون لدينا فرصة حقيقية لأن نتحرك باطراد في اتجاهِ ترسيخِ ثقافةٍ أقلَّ تركيزًا على المادة، وإيلاء اهتمام أكبر بمواردنا الروحية الداخلية بدلًا من ذلك. وسوف يجني الجميعُ فوائد القيام بذلك.

كثيرًا ما أُسأل عما إذا كنت متفائلًا تجاه مستقبل البشرية. وجوابي البسيط هو نعم. في أوائل القرن العشرين على سبيل المثال، كان الاعتقاد السائد أن الحل لأي نزاعٍ متأزم لا بد أن يأتي باستخدام القوة. من حُسن الحظ أنَّ هذا الرأي لم يَعُد منتشرًا. فاليوم قد سئم الناس في كل مكان من الحرب، وصاروا يرغبون بصدقٍ في إيجاد طرقٍ غيرِ عنيفة لتسوية الخلافات. وبالمثل، كان الرأي السائد أيضًا حتى وقتٍ قريب جدًّا أنَّ العلم والروحانية لا يتفق أحدهما مع الآخر، لكن اليوم مع تغلغل التطورات العلمية في طبيعة الواقع على نحوٍ أعمق من أي وقتٍ مضى، يتزايد الاعترافُ بأن هذين المجالَين من مجالات السعي الإنساني يمكن أن يكمِل كلٌّ منهما الآخر، بل هما كذلك في واقع الأمر. وبالرغم من أنَّ الكثيرين في الماضي القريب لم يكونوا يدركون تأثيرَ السلوك البشري على البيئة، فقد صارت الحاجة إلى مراعاة تأثير أفعالنا على البيئة، لا سيَّما فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية، حقيقةً يقبلها العالم بأكمله تقريبًا. وأخيرًا، بينما كانت القومية المرتكزة على أساس ارتباط المرء القوي ببلده قوةً مهيمنة حتى أواخر القرن العشرين، فإنَّ جاذبيتها تتضاءل اليوم إلى حَدٍّ كبير، بفضل ترابطنا المتزايد بسبب وسائل الاتصالات والهجرة الجماعية. ونتيجةً لذلك، فإن الوحدة والتكافل بين البشر يصبحان تدريجيًّا من المسلَّمات. وهذه بعضُ أسباب تفاؤلي.

إضافةً إلى ذلك، فإنني أُومن على الدوام بقوة الفرد. فعلى مدار تاريخ البشرية، ظهر العديد من التطورات العظيمة التي ساعدت في تغيير مسار الإنسانية من خلال مبادرات الأفراد. وقد بدأت كلٌّ من هذه المبادرات بتصوُّرِ عالَمٍ جديدٍ أفضلَ والإيمان به. سواءٌ أكانت حملة ويليام ويلبرفورس لإلغاء تجارة الرقيق، أم حركة الحرية السلمية التي نادى بها المهاتما غاندي في الهند، أم حركة الحقوق المَدنية لمارتن لوثر كينج الابن، أم حملة زميلتي جودي ويليامز الحائزة جائزةَ نوبل للسلام لحظر الألغام الأرضية المضادة للأفراد، فقد أتى الإلهام في جميع هذه الحالات من الأفراد. وقد كانت مجموعات من الأفراد أيضًا هي التي ساعدت في إحداث تغييرٍ دائم؛ إذ دعمت كلُّ حملة من هذه الحملات. ونظرًا لأن المجتمع نفسه ما هو إلا مجموعة من الأفراد، بشرٌ مثلك ومثلي تمامًا، يترتَّب على ذلك أننا إذا أردنا تغيير المجتمع، فإن الأمر يتوقف على مساهمة كل فردٍ منا.

إنَّ أفراد جيلي ينتمون إلى القرن العشرين الذي مضى بالفعل. خلال ذلك القرن، شهدنا نحن البشر أنواعًا كثيرة من الأمور، بما في ذلك الحرب على نطاقٍ واسع. ونتيجة للمعاناة الرهيبة التي سبَّبها هذا، أشعرُ أننا أصبحنا، أنضج وأحكمَ بعضَ الشيء. حقَّقنا أيضًا في ذلك القرنِ الكثيرَ من التقدُّم المادي. لكننا حين فعلنا ذلك ولَّدنا الظلم الاجتماعي والتدهور البيئي، وكلاهما أمران يتعيَّن علينا الآن التعامل معهما. إنَّ الأمر يعود الآن إلى شباب اليوم كي يُنشِئوا عالَمًا أفضل من ذلك الذي ورثوه. والحقُّ أنَّ الكثير يقع على أكتافهم.

بالنظر إلى هذه الحقيقة، وأيضًا إلى حقيقة أن التغيُّر المجتمعي الفعَّال لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال جهود الأفراد، فيجب أن يكون تعليم الجيل القادم جزءًا أساسيًّا من استراتيجيتنا للتعامل مع هذه المشكلات. هذا هو أحد الأسباب التي تجعلني دائمًا ما أحاول التواصل مع الشباب في جولاتي وقضاء بعض الوقت معهم. أملي ورغبتي أن يهتم التعليم الرسمي في يوم من الأيام بما أسميه تعليم القلب. فمثلما نسلِّم بالحاجة إلى اكتساب المهارة في المواد الأكاديمية الأساسية، آمل أن يأتي الوقت الذي يمكننا أن نسلِّم فيه بأن الأطفال سيتعلمون في مناهجهم المدرسية، الأهمية الشديدة للقيم الداخلية مثل الحب، والرأفة، والعدالة، والعفو.

إنني أتطلع إلى يومٍ يصبح الأطفال فيه، نتيجةً لدمج مبادئ اللاعنف وحل النزاعات بالطرق السلمية في المدارس، أكثرَ وعيًا بمشاعرهم وعواطفهم، ويشعرون بإحساسٍ أكبر بالمسئولية تجاه أنفسهم وتجاه العالم الأوسع. ألن يكون ذلك رائعًا؟

لِنسْعَ جاهدين إذن، كبارًا وصغارًا، لتحقيق هذا العالَم الأفضل؛ لنسعَ جميعًا لبنائه برؤية وشجاعة وتفاؤل، ولنتجرَّد في سعينا هذا من انتمائنا إلى شعبٍ أو آخر، أو إيماننا بدين أو آخر، بل نسعى بصفتنا أفرادًا في هذه العائلة البشرية الكبيرة التي تضم سبعة مليارات شخص. وتلك هي دعوتي المتواضعة.

في نطاق حياة الكون، لا تتعدى الحياة البشرية ومضةً شديدةَ الضآلة. كلُّ فرد منا زائرٌ لهذا الكوكب: ضيفٌ لن يمكث فيه إلا قليلًا. فأيُّ حماقة أكبر من قضاء هذا الوقت القصير في وحدة وتعاسة وصراع مع رفاقنا الزائرين؟ لا شك أنه من الأفضل كثيرًا أن نستغل وقتنا القصير في السعي لعيشِ حياةٍ ذات معنًى، وغنية بإحساس من التواصل مع الآخرين وخدمتهم.

حتى الآن، لم يمر من القرن الحادي والعشرين سوى ما يزيد قليلًا عن عقد من الزمان؛ ومن ثمَّ فالجزء الأكبر منه لم يأتِ بعدُ. إنني آمل أن يكون هذا قرنًا من السلام، قرنًا من الحوار، قرنًا تتسم فيه الإنسانية بقدرٍ أكبر من الاهتمام والمسئولية والرأفة. وهذه هي دعواتي أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤