سنة سبع ومايتين وألف

استهل المحرم بيوم الخميس، والأمر في شدة من الغلا وتتابع المظالم وخراب البلاد، وشتات أهلها وانتشارهم بالمدينة حتى ملوا الأسواق والأزقة رجالًا ونسا وأطفالًا يبكون ويصيحون ليلًا ونهارًا من الجوع ويموت من الناس في كل يوم جملة كثيرة من الجوع.

وفيه أيضًا هبط النيل قبل الصليب بعشرة أيام، وكان ناقصًا عن ميعاد الري نحو ذراعين فارتجت الأحوال، وانقطعت الآمال، وكان الناس ينتظرون الفرج بزيادة النيل، فلما نقص انقطع أملهم واشتد كربهم، وارتفعت الغلال من السواحل والعرصات، وغلت أسعارها عما كانت وبلغ الإردب ثمانية عشر ريالًا، والشعير بخمسة عشر ريالًا، والفول بثلاثة عشر ريالًا، وكذلك باقي الحبوب، وصارت الأوقية من الخبز بنصف فضة، ثم اشتد الحال حتى بيع ربع الويبة بريال، وآل الأمر إلى أن صار الناس يفتشون على الغلة فلا يجدونها، ولم يبق للناس شغل ولا حكاية ولا سمر بالليل والنهار في مجالس الأعيان وغيرهم إلا مذاكرة القمح والفول والأكل ونحو ذلك، وشحت النفوس واحتجب المساتير، وكثر الصياح والعويل ليلًا ونهارًا، فلا تكاد تقع الأرجل إلا على خلايق مطروحين بالأزقة، وإذا وقع حمار أو فرس تزاحموا عليه وأكلوه نيًّا ولو كان منتنًا، حتى صاروا يأكلون الأطفال، ولما انكشف الماء وزرع الناس البرسيم ونبت أكلته الدودة، وكذلك الغلة فقلب أصحاب القدرة الأرض وحرثوها وسقوها بالماء من السواقي والنطالات والشواديف، واشتروا لها التقاوي بأقصى القيم وزرعوها فأكله الدود أيضًا، ولم ينزل من السما قطرة ولا أندية ولا صقيع، بل كان في أوايل كيهك شرودات وأهوية حارة ثقيلة، ولم يبق بالأرياف إلا القليل من الفلاحين وعمهم الموت والجلأ.

(وفي أواخر شهر ربيع الأول) حضر صالح أغا إلى الديار الرومية وعلى يده مرسومات بالعفو عن الأمرا وثلاث خلع إحداها للباشا والأخريين لإبراهيم بك ومراد بك، فاجتمعوا بالديوان وقروا المرسومات، وضربوا مدافع وأحضر صحبته صالح أغا وكالة دار السعادة، وانتزعها من مصطفى أغا واستولى على ملايلها.

وفيه وصلت غلال رومية وكثرت بالساحل فحصل للناس اطمينان وسكون ووافق ذلك حصاد الذرة، فنزل السعر إلى أربعة عشر ريالًا الإردب، وأما التبن فلا يكاد يوجد، وإذا وجد منه شي فلا يقدر من يشتريه على إيصاله لداره أو دابته بل يبادر لخطفه السواس وأتباع الأجناد في الطريق، وإذا سمعوا واستشعروا بشي منه في مكان كبسوا عليه وأخذوه قهرًا، فكان غالب مونة الدواب قصب الذرة الناشف، ويسرح الكثير من الفقرا والشحاذين في نواحي الجسور، فيجمعون ما يمكنهم جمعه من الحشيش اليابس والنجيل الناشف، ويأتون به ويطوفون به في الأسواق ويبيعونه بأغلى الأثمان، ويتضارب على شراه الناس وإن صادفهم السواس والقواسة خطفوه من على روسهم وأخذوه قهرًا.

وفيه وصلت الأخبار بأن علي بك الدفتردار لما سافر من القصير طلع على المويلح، وركب من هناك مع العرب إلى غزة، وأرسل سرًّا إلى مصر، وطلب رجلًا نصرانيًّا من أتباعه، فذهب إليه صحبة الهجان بمطلوبات وبعض احتياجات، ولما وصل إلى جهة غزة أرسل إلى أحمد باشا الجزار (والي عكا) يعلمه بوصوله، فأرسل لملاقاته خيلًا ورجالًا، فذهب إليه وصحبته نحو الثلاثين نفرًا لا غير، فلما وصل إلى قرب عكا خرج إليه أحمد باشا ولاقاه ووجهه إلى حيفا، ورتب لهم بها رواتب.

وأما مراد بك فإنه خرج إلى بر الجيزة من أول السنة، وجلس في قصر إسماعيل بك الذي عمره هناك، واشتغل بعمل جبخانة وآلات حرب وبارود وجلل وقنابر، وطلب الصناع والحدادين وشرع في إنشاء مراكب وغلايين رومية، وزاد في بنا القصر ووسعه، وأنشا به بستانًا عظيمًا وغير ذلك، وسافر عثمان بك الشرقاوي إلى ثغر الإسكندرية، وجبى الأموال في طريقه من البلاد.

(وفي يوم الأربع سابع عشرين ربيع الآخر، وخامس كيهك القبطي) أمطرت السماء مطرًا متوسطًا، وفرح به الناس.

(وفي يوم السبت غرة جمادى الأولى) عدى مراد بك من بر الجيزة، فدخل إلى بيته وأخبروا عن عثمان بك الشرقاوي أنه رجع إلى رشيد ثم في رابعه حضر المذكور إلى مصر.

(وفي ليلة الخميس) خرج مراد بك وإبراهيم بك وباقي أمراهم إلى جهة العادلية فأقاموا أيامًا قليلة، ثم ذهب مراد بك إلى ناحية أبو زعبل، وكذلك إبراهيم بك الوالي وصحبته جماعة من الأمرا إلى ناحية الجزيرة، وفي وقت خروجهم نهب أتباعهم ما صادفوه من الدواب وصاروا يكبسون الوكايل التي بباب الشعرية، ويأخذون ما يجدونه من جمال الفلاحين السفارة وحميرهم نهبًا.

فأما مراد بك فإنه لما وصل إلى أبو زعبل وجد هناك طايفة من عرب الصوالحة في خيشهم لاجنية لهم، فنهبهم وأخذ أغنامهم ومواشيهم، وقتل منهم نحو خمسة وعشرين شخصًا ما بين غلمان وشيوخ، وأقام هناك يومًا وقبض على مشايخ البلد أبو زعبل، وحبسهم وقرر عليهم غرامة أحد عشر ألف ريال، ولم يقبل فيهم شفاعة أستاذهم وشتمه وضربه بالعصا، وأما عرب الجزيرة فإنهم ارتحلوا من أماكنهم.

(وفي شهر شعبان) وقع الاهتمام بسد خليج الفرعونية بسبب احتراق البحر الشرقي ونضوب مائه، وظهرت بالنيل كيمان رمل هايلة من حد المقياس إلى البحر المالح، وصار البحر الغربي سلسول جدول تخوضه الأولاد الصغار، ولا يمر به إلا صغر القوارب، وانقطع الجالب من جميع النواحي إلا ما تحمله المراكب الصغار بأضعاف الأجرة، وتعطلت دواوين المكوس، فأرسلوا إلى سد الترعة رجلًا مسلماني، وصحبته جماعة من الإفرنج، وأحضروا الأخشاب العظيمة ورتبوا عمل السد قريبًا من كفر الخضرة، وركبوا آلات في المراكب ودقوا ثلاث صفوف خوابير من أخشاب طوال، فلما أتموا ذلك كانت الصناع فرغت من تطبيق ألواح في غاية الثخن شبه البوابات العظام، وهي مسمرة بمسامير عظيمة ملحومة بالرصاص وصفايح الحديد مثقوبة بثقوب مقاسة على ما يوازيها من نجوش منجوشة بالخوابير المركوزة في الماء، فإذا نزلوا ببوابة ألحموها بتلك الخوابير وتبعتهم الرجال بالجوابي المملوة بالحصا والرمل من أمام ومن خلف، وتبع ذلك الرجال الكثرة بغلقان الأتربة والطين ففعلوا ذلك حتى قارب التمام، ولم يبق إلا اليسير ثم حصل الفتور في العمل بسبب أن المباشر على ذلك أرسل لمراد بك بالحضور ليكون إتمامها بحضرته، ويخلع عليه ويعطيه ما وعده به من الأنعام، فلم يحضر مراد بك وغلبهم الماء وتلف جانب من العمل.

وكان أيوب بك الصغير حاضرًا وفي نفسه أن لا يتم ذلك لأجل بلاده فأصبح مرتحلًا، وتركوا العمل وانفض الجمع، وقد أقام العمل في ذلك من أوايل شعبان إلى أواسط شوال، ثم نزل إليها جماعة آخرون وطلبوا جملة مراكب موسوقة بالأحجار وشرعوا في عمل سد المكان القديم عن فم الترعة، ودقوا أيضًا خوابير كثيرة وألقوا أحجارًا عظيمة، وفرغت الأحجار فأرسلوا بطلب غيرها فلم تسعفهم القطاعون فشرعوا في هدم الأبنية القديمة والجوامع التي بساحل النيل، وقلعوا أحجار الطواحين التي بالبلاد القريبة من العمل، واستمروا على ذلك حتى قويت الزيادة ولم يتم العمل، ورجعوا كالأول وذهب في ذلك من الأموال والغرامات والسخرات وتلف من المراكب والأخشاب والحديد ما لا يحد ولا يعد.

(وفي أوايل شوال) ورد الخبر بأن علي بك سافر من عند أحمد باشا الجزار إلى إسلامبول صحبة قبجي معين، فلما قرب من إسلامبول أرسلوا مَن وجهه إلى برصا ليقيم بها ورتبوا له كفايته في كل شهر خمسماية قرش رومي.

وأما من مات في هذه السنة ممن له ذكر

مات السيد الإمام العارف القطب عفيف الدين أبو السيادة عبد الله بن إبراهيم بن حسن بن محمد أمين بن علي ميرغني بن حسن بن أحمد بن علي بن إبراهيم بن يحيى بن عيسى بن أبي بكر بن علي بن محمد بن إسماعيل بن ميرخورد البخاري بن عمر بن علي بن عثمان بن علي المتقي بن الحسن بن علي الهادي، أن محمد الجواد الحسيني المتقي المكي الطايفي الحنفي الملقب بالمحجوب، ولد بمكة وبها نشا وحضر في مباديه دروس بعض علمايها كالشيخ النخلي وغيره.

واجتمع بقطب زمانه السيد يوسف المهدلي، وكان إذ ذاك أوحد عصره في المعارف فانتسب إليه ولازمه حتى رقاه، وبعد وفاته جذبته عناية الحق وأرته من المقامات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فحينئذ انقطعت الوسايط وسقطت الوسايل فكان أويسيًّا تلقيه من حضرة جده كما أشار إلى ذلك شيخنا السيد مرتضى عندما اجتمع به بمكة في سنة ثلاث وستين وماية وألف، وأطلعه على نسبه الشريف وأخرجه إليه من صندوق، قال: وطلبت منه الإجازة وإسناد كتب الحديث.

فقال: عني عنه.

قال: فعلمت أنه أويسي المقام، ومدده من جده — عليه الصلاة والسلام — وانتقل إلى الطايف بأهله وعياله في سنة ست وستين وشرف تلك المشاهد ومآثره شهيرة ومفاخره كثيرة، وكراماته كالشمس في كبد السماء، وكالبدر في غيهب الظلماء، وأحواله في احتجابه عن الناس مشهورة، وأخباره في زهده عن الدنيا على ألسنة الناس مذكورة.

ومن مؤلفاته: كتاب فرايض وواجبات الإسلام لعامة المؤمنين. وقد كتب على ظهرها بخطه الشريف:

فروض الدين أنواع
وهذا الدر صافيها
فعض بناجذ فيها
وقل: يا رب صافيها

وهذه النبذة عجيبة في بابها جامعة مسايل العقايد والفقه، وشرحها شيخنا المذكور شرحًا نفيسًا، ومنها سواد العين في شرف النبيين، ولها قصة في ضمنها كرامة، قال في آخرها إنه فرغ من تأليفها في رجب سنة سبع وخمسين وماية وألف، ومنها السهم الراحض في نحر الرافض، وهذه ألفها بعد خروجه من مكة لقصة جرت بينه وبين أهلها في جمادى سنة ست وستين وماية وألف، ومنها الفروع الجوهرية في الأيمة الاثني عشرية، ومنها الدرة اليتيمة في بعض فضائل السيدة العظيمة، ألفها في سنة أربع وستين وماية وألف وكتبه بخطه الشريف على ظهرها.

لله در مؤلف
درست به درر الملا
كم درة يتمت به
حتى أفاقت للألى
يارب فاعلُ مقامه
كالدر في تاج العلا

ومن مؤلفاته: الكوكب الثاقب وشرحه وسماه رفع الحاجب عن الكوكب الثاقب.

وله ديوانان متضمنان لشعره: أحدهما المسمى بالعقد المنظم على حروف المعجم. والثاني عقد الجواهر في نظم المفاخر ومنها المعجم الوجيز في أحاديث النبي العزيز اختصره من الجامع وذيله، وكنوز الحقايق والبدر المنير، وهو في أربع كراريس، وقد شرحه العلامة سيدي محمد الجوهري وقراه دروسًا، ومنها شرح صيغة القطب بن مشيش ممزوجًا، وهو من غرايب الكلام، ومنها مشارق الأنوار في الصلاة والسلام على النبي المختار، توفي — رضي الله عنه — في هذه السنة.

ومات الشيخ الفاضل الصالح أحمد بن يوسف الشنواني المصري الشافعي المكنى بأبي العز المكتب الخطاط، ويعرف أيضًا بحجاج، وأمه الشريفة خاصكية ابنة القاضي جلبي بن أحمد العراقي من ذرية القطب شهاب الدين العراقي، دفين شنوان الغرف بالمنوفية، حفظ القرآن وجوده على الشيخ المقري حجازي بن غنام تلميذ الزميلي، وجود الخط المنسوب على الشيخ أحمد بن إسماعيل الأفقم، ومهر فيه وأجيز، فنسخ بيده كثيرًا من المصاحف ونسخ الدلايل، والكتب الكبار، منها الإحياء للغزالي والأمثال للميداني، وانتفع الناس به طبقة بعد طبقة، وفي غضون ذلك تردد على جملة من الشيوخ كالشهابين الملوي والجوهري، وأخذ عنهما أشيا، والشمس الحفني والشيخ حسن المدابغي ومحمد بن النعمان الطائي في آخرين، وأحبوه وجاور بالحرم سنة ثم عاد إلى مصر ولازم معنا كثيرًا على شيخنا السيد مرتضى في حضور الحديث، فسمع البخاري بطرفيه، ومسلمًا بطرفيه وسنن أبي داود إلى قريب ثلثيه، وغالب الشمايل للترمذي، وثلاثيات البخاري، وثلاثيات الدارمي، والحلية لأبي نعيم من أوله إلى مناقب العشرة، وأجزا كثيرة بحدودها في ضمن إجازته بأسانيدها، وكان نعم الرجل صحبة وديانة وحفظًا للنوادر من الأشعار والحكايات، فمن ذلك ما سمعته من لفظه قال: أنشدني رجل من المغاربة بمكة، وقد أنسيت اسمه للتقي السبكي يمدح الإمام الغزالي وكتابه الإحياء.

لمحمد بن محمد بن محمد
فضل على العلماء بالتمكين
أحيا علوم الدين بعد مماتها
بكتابه إحيا علوم الدين

وأنشدني أيضًا للإمام الغزالي يمدح الإمام الشافعي، رضي الله تعالى عنهما:

إن المذاهب خيرها وأجلها
ما قاله الحبر الإمام الشافعي
فاخترت مذهبه وقلت بقوله
ورجوته يوم القيامة شافعي

وأصيب المترجم بكريمتيه، عوضه الله دار الثواب من غير سابقة عذاب ولا عتاب، توفي سابع عشرين جمادى الأولى من السنة.

ومات الإمام الفقيه المحدث البارع المتبحر عالم المغرب الشيخ أبو عبد الله محمد بن الطالب بن سودة المري الفاسي التاودي، ولد بفاس سنة ثمان وعشرين وماية وألف وأخذ عن أبي عبد الله محمد بن عبد السلام بناني الناصري شارح الاكتفا والشفا ولامية الزقاق وغيرها، والشهاب أحمد بن عبد العزيز الهلالي السجلماسي قرا عليهما الموطأ وغيره، والشهاب أحمد بن مبارك السجلماسي اللمطي قرا عليه المنطق والكلام والبيان والأصول والتفسير والحديث، وكان في أكثرها هو القاري بين يديه مدة مديدة، وأذن له في إقرا الصحيح في حياته فألقى دروسًا بين يديه، وكان يوده ويسر به ويقدمه على ساير الطلبة، ولما توفي ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى سنة خمسة وخمسين وماية وألف بالطاعون، تزاحم ذوو الوجاهات فيمن يلحده في قبره فكان الشيخ هو المتولي لذلك دون غيره، وتلك كرامة له ورضوا بذلك.

قال: وكلَّمته يومًا في شأن الحج متمنيًا له ذلك.

فقال لي مشيرًا إلى شيخه سيدي عبد العزيز الدباغ: إن الناس قالوا لي: جعلناك في حق فلا تخرج من هذه البلدة وأنت ستحج وأعطيك ألف دينار وألف مثقال إن شاء الله تعالى.

قال: ولم تك نفسي تحدثني بالحج يومئذ، ولم يخطر بالبال.

ومنهم الفقيه المتواضع صاحب التآليف أبو عبد الله محمد بن قاسم جسوس لازمه مدة وقرا عليه كتبًا، منها: رسالة ابن أبي زيد ومختصر خليل ثلاث ختمات مع مطالعة شروح وحواش والحكم والشمايل (للترمذي)، وجميع الصحيح من غير فوت شي منه.

ومنهم حافظ المذهب الفقيه القاضي أبو البقا يعيش بن الزغاوي الشاوي، قرا عليه رجز بن عاصم ولامية الزقاق وطرفًا من الصحيح، توفي سنة خمسين وماية وألف، كان منزله بالدوخ في أطراف المدينة، فنزل به اللصوص ليلًا فدافع عن حريمه وقاتلهم حتى قتل شهيدًا، رحمه الله.

ومنهم قاضي الجماعة ومفتي الأنام أبو العباس أحمد بن أحمد الشدادي الحسني، قرا عليه المختصر الخليلي من أوله إلى الوديعة أو العارية، وسمع عليه بعض التفسير من أوله.

ومنهم الفقيه الزاهد القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد التماق، قرا عليه رسالة ابن أبي زيد والحكم والتفسير من أوله إلى سورة النسا.

ومنهم الإمام الناسك الزاهد أبو عبد الله محمد بن جلون، قرا عليه الآجرومية وختم عليه الألفية مرتين والمختصر الخليلي من أوله إلى اليمين، ولم يكن له نظير في الضبط والاتقان والتحرير، وهو أول شيخ أخذ عليه، وذلك قبل البلوغ وكان إذا قام من درسه عرض على نفسه ما قاله فيجده لا يدع منه حرفًا واحدًا.

ومنهم سيبويه زمانه أبو عبد الله سيدي محمد بن الحسن الجندوز، قرا عليه الألفية فكان يملي من حفظه في أثنايه الشروح والحواشي وشروح الكافية والتسهيل والرضى والمعنى والشواهد وغير ذلك مما يستجاد ويستغرب، وقرا عليه السلم والتخليص، ومن إنصافه أنه لما قرب أواخره بلغه أن الشيخ ابن مبارك يريد أن يقراها فقام مع جماعة وذهب إليه ليسمع منه، وهذا من حسن إنصافه واعترافه بالحق.

ومنهم أبو العباس أحمد بن علال الوجاري قرا عليه الألفية بلفظه ثلاث مرات وشيًّا من التسهيل والمغني، وقد ذكر له بعض الشيوخ عن ابن هشام أنه قرا الألفية ألف مرة، فقال له بعض من سمعه: وكم قرأتها؟ قال: أما الماية فجزتها فهولا عشرة شيوخ، كذا لخصتها من إجازة المترجم للشيخ أحمد بن علي بن عبد الوهاب بن الحاج الفاسي في تاسع جمادى الثانية سنة ثلاث وألف، وعقد وحج المترجم فقدم مصر سنة إحدى وثمانين ورجع سنة اثنتين وثمانين وماية وألف درسًا حافلًا بالجامع الأزهر برواق المغاربة، فقرا الموطأ بتمامه وحضره غالب الموجودين من العلما، وأجاد في تقريره وأفاد، وسمع عليه الكثير أوايل الكتب الستة والشمايل والحكم وغيرها وأجاز، ولقي بمكة أبا زيد عبد الرحمن بن أسلم اليمني، وأبا محمد حسين بن عبد الشكور صاحب الشيخ عبد الله الميرغني، والشيخ إبراهيم الزمزمي وغيرهم، وبالمدينة أبا عبد الله محمد بن عبد الكريم السمان، وأبا الحسن السندي، وعبد الله جعفر الهندي وغيرهم وأجازوه وأجازهم، وعاد إلى مصر واجتمع بأفاضلهم كالجوهري والصعيدي، وحسن الجبرتي والطحلاوي، والسيد العيدروس، والشيخ محمود الكردي، وعيسى البراوي، والبيومي والعريان وعطية الأجهوري، وكان صحبته ولداه سيدي محمد وهو الأكبر، وسيدي أبو بكر خالي العذار جميل الصورة، وتردد على الشيخ الوالد كثيرًا، وتلقى عنه بعض الرياضيات، وترك عنده ولديه المذكورين مدة إقامته بمصر، فكنا نطالع معهما سوية صحبة الشيخ سالم القيرواني، والشيخ أحمد السوسي ونسهر غالب الليل نراعي المطالع والمغارب وممرات الكواكب بالسطح حذا خيط المساترة، ونراجع الشيخ فيما يشكل علينا فهمه، وهو معنا في ناحية أخرى، وأوقفت سيدي أبا بكر على طريق رسم ربع الدايرة المقنطر والمجيب، وتوفي سيدي محمد بفاس سنة ثلاث وتسعين وماية وألف، وأرخه أخوه سيدي أبو بكر بقوله كما أملانيه من لفظه لما حضر صحبة الركب سنة خمس ومايتين وألف.

في رجب عام زج لحْدا
تفديه نفسي لو كان يفدا

ومن تآليف المترجم حاشية على البخاري في أربعة مجلدات، وحاشية على الزرقاني شارح خليل، وشرحان على الأربعين النووية، ومناسك حج، وشرح الجامع لسيدي خليل، وشرح تحفة ابن عاصم في القضاء، والأحكام والمنحة الثابتة في الصلاة الفايتة، وفتح المتعال فيما ينتظم منه بيت المال، وحاشية على ابن جزي المفسر، وحاشية على البيضاوي لم تكمل، وشرح المشارق للصاغاني ومنظومة فيما يختص بالنسا أولها:

الحمد لله العلي الصمدِ
ثم صلاته على محمدِ
وبعد فالقصد بهذا النظم
تحصيل نبذة من المهم

إلى أن قال:

الدم صفرة وكدرة ترى
من قبل من تحمل حيض قد جرى
مثل أقل الطهر والمعتادة
عادتها تمكث مع زياده
ثلاثة إن لم تجاوز أكثره
وبعد طاهر لدى من حرره

إلى آخرها، وكلفه سلطان المغرب خطة القضا في سنة ثلاث ومايتين وألف، فقبلها كرهًا، وكانت فتاويه مسددة، وأحكامه مؤيدة مع غاية التحرز والصيانة والإتقان، وبالجملة فكان عين الأعيان في عصره ومصره شهير الذكر وافر الحرمة مهيب الصورة يغلب جلاله على جماله، قليل التبسم، ولما توفي مولاي محمد سلطان المغرب ووقع الاختلاف والاضطراب بين أولاده فاجتمع الخاصة والعامة على رأي المترجم، فاختار المولى سليمان وبايعه على الأمر بشرط السير على الخلافة الشرعية والسنن المحمدية، وبايعه الكافة بعده على ذلك، وعلى نصرة الدين وترك البدع والمظالم والمكوس والمجارم، وكان كذلك، ولم يزل المترجم على طريقته الحميدة حتى توفي في هذه السنة، وتوفي بعده ابنه سيدي أبو بكر في سنة عشر ومايتين وألف.

ومات الإمام العلامة والوجيه الفهامة الشيخ أحمد بن محمد بن جاد الله بن محمد الخناني المالكي البرهاني، وجده الأخير يعرف بأبي شوشة، وله مقام يزار بأم خنان بالجيزة، نشا في طلب العلم وحضر أشياخ الوقت، ولازم السيد البليدي وصار معيدًا لدروسه بالأزهر والأشرفية، وانتفع بملازمته له انتفاعًا كليًّا، وانتسب إليه وأجازه إجازة مطولة بخطه ونوه بشأنه، فلما توفي شيخه المذكور تصدر لإقرا الحديث مكانه بالمشهد الحسيني، واجتمع عليه الناس وحضره من كان ملازمًا لحضور شيخه من تجار المغاربة وغيرهم، واعتقدوا صلاحه وتحبب إليهم وواسوه بالصلات والزكوات والنذور، وواظب الإقرا بالأزهر أيضًا، وزيارة مشاهد الأوليا وإحيا لياليها بقراة القرآن والذكر، ويقوم دايمًا من الثلث الأخير من الليل ويذهب إلى المشهد الحسيني ويصلي الصبح بغلس في جماعة وزاد اعتقاد الناس فيه، واتسعت دنياه مع المداومة على استجلابها وإمساكها، وبآخره اشترى دارًا عظيمة بحارة كتامة المعروفة الآن بالعينية بالقرب من الأزهر، وانتقل إليها وسكنها، وكان يخرج لزيارة قبور المجاورين في كل يوم جمعة قبل الشمس، فنزل العرب في بعض الجميع إلى بين الكيمان فأراد الهروب وكان جسيمًا فسقط من على بغلته على خربته فانكسر زره، وحمل إلى داره وعالج نفسه شهورًا حتى عوفي قليلًا، ولم يزل تعاوده الأمراض حتى توفي رحمه الله، وما رأيته قط إلا وهو يتلو قرآنًا أو يطالع كتابًا، سامحه الله تعالى.

ومات الإمام الفاضل الصالح النجيب المفوه الناجح الشيخ محمد بن داود بن سليمان بن أحمد بن خضر الخربتاوي المالكي الأزهري، قرا على والده، وحضر دروس شيخنا الشيخ علي العدوي الصعيدي وبه تخرج وأنجب في العلوم، وله سليقة جيدة في النثر والنظم، وحصل كتبًا نفيسة المقدار زيادة على الذي ورثه من والده، وله محبة في آل البيت ومدايح كثيرة وهو ممن قرظ على شرح القاموس لشيخنا السيد محمد مرتضى تقريظًا بديعًا وهو:

أحمد من أبدى من صنايع الحكم محكم المصنوعات، وأسدى من سوابغ النعم أنواع المبدعات، سبحانه من إله أفاض علينا جوده وأفضاله، وأزال عن قلوبنا رين الرين والجهالة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي خص بجوامع الكلم ومجامع الحكم، وعموم الرسالة وعلى آله وأصحابه ذوي الإحسان والجلالة، وبعد فلما مَنَّ الله على العبد الضعيف بالإطلاع على هذا الشرح الشريف المسمى بتاج العروس من جواهر القاموس الذي ألفه أعلى أرباب الكمال والكلام لسان الحق الناطق ببيان الحلال والحرام يد الزهادة ومنهج الطريقة، فهو السري بل البرهان على الحقيقة، من سلك مسالك التحقيق، وتتبع مواضع الفصل والتدقيق، حتى فاز من بغيته بالسهم المعلى وجليت عليه غواني المعاني فتملى وتحلى، أعني به سيدي ومولاي ومالك أزمة ولاي، من هو لِي عمدتي ومعيني السيد محمد مرتضى الحسيني أدام الله للعالمين أنسه، وأشرق عليهم في هذا الوجود بجوده شمسه، وكان — حفظه الله — قد أشار بوقوفي على هذا الطراز المحلى والقدح المعلى، وأن أكتب عليه بما تسمح به القريحة الخايفة لقصورها من الفضيحة، فنظرت فعلمت أن ذلك سبيل ليس لمثلي أن يسلكه، ولا لمن كان على قدري أن يقود زمامه ويملكه، سيَّما وقد قرظ عليه فحول الأيمة الأعيان الذين تعقد عليهم الخناصر في كل زمان ومكان، فأحجمت من ذلك إحجامًا مخافة واحتشامًا، ثم علمت أن أمره قد ورد على سبيل الإيجاب، وأن قاضي الإنصاف لا يرضى إلا بشهادة الحق وقول الصواب، فأقدمت بعد الجموح، ودخلت إلى رحبات التوكل من باب الفتوح، وتأملت ما فيه من العجب العجاب، وتذكرت قول العلي الوهاب في محكم الكتاب: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وقلت فيه الحال معتمدًا على الملك المتعال:

تاج العروس الذي أبداه سيدنا
المرتضى العالم النحرير ذو الهمم
لما بدا أرخص التيجان كلهم
لما حوى من عظيم الفخر والشيم
وأجمع أهل الهدى أن لا نظير له
من التآليف في عُرْبٍ وفي عجم

ثم غلب عليَّ الرشد أن أحذو حذو شيخنا محيي النفوس سيدي العيدروس، فقلت وعلى الله توكلت:

صاح إن شئت كل علم نفيس
فانظرن ما حواه تاج العروس
شرح شيخ الإسلام تاج المعالي
مرتضى العارفين رأس الرءوس
سيد الأكملين أعظم شهم
حاز فضلًا قد جل عن تقييس
شرحه الجامع المهذب أبدى
من خبايا العلوم ما قد تنوسي
قلت لما رأيته: يا ابن ودي
نشر روض أم ذاك عطر عروس
أم حياة النفوس من أسكرتني
بسلاف من ريقها المأنوس
بنت سبع وأربع وثلاث
إن تجلت أزرت ضياء الشموس
قال: هذي لآلئ قد جلاها
ماجد عارف زكي الغروس
بحر بر البيان رب المعاني
حبر علم البديع محيي النفوس
وهو نجل الزهراء وابن حسين
وعلي أكرمْ بهم من هموس
وهو في الزهد كابن أدهم حقًّا
وهو في العلم كالإمام السنوسي
يا ابن طه يا مرتضى يا كريمًا
دعوة دعوة تزيل نحوسي
نجدة نجدة فقد ضاق صدري
من زمان مقلب معكوس
ليس يخفاك والدي وعلاه
في مقام التأليف والتدريس
وعلو الإسناد ذاك شهير
عند أهل الكمال بالعيدروسي
سيدي والدي صديقي عزيزي
من على بابه طروق الرءوس
فبحق الشيخين يا خير شهم
دعوة عليها تضيء شموسي
أنت حصني الحصين يا ابن حسين
في مقامي ورحلتي وجلوسي
كيف أخشى العدا وأنت ملاذي
أو أخاف الردى وأنت أنيسي
دمت في عزة وفتح ونصر
من إله مهيمن قدوس
وصلاة مع السلام دوامًا
تغش طه النبي تاج العروس
ما غدا قائلًا أسير ذنوب:
صاح إن شئت كل علم نفيس

وفي آخره كتبه خجلًا وجلًا مرتجي غفر المساوي الفقير الحقير محمد بن داود الخبرتاوي المالكي، في عاشر شهر رجب الفرد سنة أربع وثمانين وماية وألف.

ولم يزل المترجم مقبلًا على شأنه مواظبًا على دروسه، حتى توفي في هذه السنة، رحمه الله.

ومات الأجل الصالح الناسك المسلك العارف الشيخ محمد بن عبد الحافظ أفندي أبو ذاكر الخلوتي الحنفي أخذ الطريق عن السيد مصطفى البكري والشيخ الحفني، وحضر الفقه على العلامة الشيخ محمد الدلجي، والشيخ أحمد الحماقي وأدرك الإسقاطي والمنصوري، ولم يتزوج قط، وكف بصره سنة إحدى وثمانين وماية وألف، وانقطع في بيته إحدى وعشرين سنة بمفرده، وليس عنده قريب ولا غريب، ولا جارية ولا عبد ولا من يخدمه في شي مطلقًا، وبيته متسع جهة التبانة، وبابه مفتوح دايمًا وعنده الأغنام والدجاج والأوز والبط، والجميع مطلوقون في الحوش وهو يباشر علفهم وإطعامهم وسقيهم الماء بنفسه، ويطبخ طعامه بنفسه، وكذلك يغسل ثيابه واشتهر في الناس بأن الجن تخدمه؛ وليس ببعيد لأنه كان من أهل المعارف والأسرار.

ويأتي إليه الكثير من الطلبة للأخذ عنه والتلقي منه، وكان له يد طولى في كل شي، ومشاركة جيدة في العلوم والمعارف والأسما والروحانيات والأوفاق واستحضار تام في كل ما يسال عنه، وعنده عدة كثيرة من السنانير ويعرفها بالواحدة بأسمايها وأنسابها وألوانها، ويقول: هذه تحفة بنت بستانة، وهذه كمونة بنت ياسمين، وهذه فلانة أخت فلانة، إلى غير ذلك. توفي — رحمه الله تعالى — في شهر شوال من هذه السنة.

ومات الإمام العلامة والرحالة الفهامة المتقدم الشيخ مصطفى المرحومي الشافعي ولد بمحلة المرحوم بالمنوفية، وقرأ القرآن وحفظه وجوده، وحضر إلى مصر وحفظ المتون وتفقه على الأشياخ المتقدمين كالدفري والمدابغي والشيخ علي قايتباي والملوي والحفني وغيرهم، ومهر في المعقول والمنقول، وأملى الدروس بالأزهر وجامع أزبك وانتفع به الناس، وكان يتردد إلى بيوت بعض الأعيان ويحبونه ويكرمونه ويستفيدون من فوايده ونوادره، وكان له حافظة واستحضار للمناسبات والأشعار واللطايف لا يمل حديثه ومفاكهته، توفي في هذه السنة، رحمه الله.

ومات الإمام العلامة الفقيه النحوي الأصولي الجدلي النحرير الفصيح المتقن المتفنن الشيخ علي الشهير بالطحان الأزهري المصري، حضر شيوخ العصر ولازم الشيخ الملوي والجوهري وكان معيدًا لدروس الأخير وبه تخرج، وكان يقرا الكتب ويقرر الدروس بدون مطالعة، إلا أنه كان يغلب عليه الملل والسآمة وحب البطالة غالب أيامه، ولا يتعفف عن الدنيا من أي وجه كان، ويطلبها وإن قلت، وكانت سليقته جيدة في النثر والنظم، وله منظومة في الفقه، ومنظومة في المنطق ومنظومتان في التوحيد كبرى وصغرى، ومنظومة في العروض، ومنظومة في البيان، ومنظومة في الطب، وله لاميتان على محاكاة لامية بن الوردي كبرى وصغرى، وحاشية على شرح الملوي على السمرقندية، توفي في أواخر شعبان من السنة.

ومات الإمام العلامة النبيه الوجيه الفاضل المستعد الشيخ يوسف بن عبد الله بن منصور السنبلاويني الشهير برزة الشافعي، تفقه على بلديه الشيخ أحمد رزة، وحضر دروس الشيخ الحفني، والشيخ البراوي، والشيخ عطية والشيخ الصعيدي وغيرهم من الأشياخ، وأنجب ودرس وأفاد ولازم الإقرا، وكان إنسانًا وجيهًا محتشمًا ساكن الجأش وقورًا بهي الشكل قانعًا بحاله لا يتداخل كغيره في أمور الدنيا، مجمل الملابس لا يزيد على ركوب الحمار في بعض الأحيان لبعض الأمور الضرورية، ولم يزل حتى تعلل وتوفي في هذه السنة، رحمه الله تعالى.

ومات العلامة المفيد المفوه المجيد الشيخ عبد الرحمن بن علي بن الإمام العلامة عبد الرءوف البشبيشي، نشأ في حجر والده وحفظ القرآن وحضر الأشياخ، وتفقه في مذهب أبيه وجده، وهم شافعيون واجتمع بالشيخ الوالد ولازمه ملازمة كلية وحضر عليه في مذهب أبي حنيفة، وحفظ كثيرًا من الفروع الغريبة في المذهب والرياضيات، وأقراني في حال الصغر شيًّا من القرآن وحروف الهجا، وكان به بعض رعونة فانتقل إلى مذهب أبي حنيفة وأخبر الوالد بذلك يظن سروره في انتقاله، فلامه على فعله وسمعته يقول له:

إذا المرء لم يدنس من اللوم عرضه
فكل رداء يرتديه جميل

وانحط قدره عنده من ذلك الوقت، وذلك بعد موت والده في سنة سبع وثمانين وماية وألف، وأملق حاله وتكدر باله وسافر بآخرة إلى دمياط وأقام بها مدة يفتي على مذهب الحنفية، وراج أمره هناك لشغور الثغر عن مثله ثم قدم مصر لأمر عرض له فأقام بمصر، وأراد بيع داره ليصرف ثمنها في شئونه فلم يجد من يشتريها بالثمن المرغوب، وكان إنسانًا حسنًا يذاكر بفوايد مع حسن المعرفة وصحة الذهن، وربما تعلق ببعض فنون غريبة ولذا قل حظه، وأنشدني لنفسه أبياتًا مدح بها قاضي الثغر واسمه محمد نصري، وبيت تاريخها هذا:

رجاء مذهب النعمان أرخ
بشرع محمد نصري مقدم

وهما تاريخان كما ترى، توفي — رحمه الله — في هذه السنة وحيدًا في داره وهو جالس.

ومات المجذوب المعتقد السيد علي البكري أقام سنينًا متجردًا ويمشي في الأسواق عريانًا ويخلط في كلامه، وبيده نبوت طويل يصحبه معه في غالب أوقاته، وقد تقدم ذكره وذكر المرأة التي تبعته المعروفة بالشيخة أمونة، وكان يحلق لحيته، وللناس فيه اعتقاد عظيم وينصتون إلى تخليطاته ويوجهون ألفاظه ويؤولونها على حسب أغراضهم ومقتضيات أحوالهم ووقايعهم، وكان له أخ من مساتير الناس فحجر عليه ومنعه من الخروج وألبسه ثيابًا ورغب الناس في زيارته وذكر مكاشفاته وخوارق كراماته، فأقبل الناس عليه من كل ناحية وترددوا لزيارته من كل جهة، وأتوا إليه بالهدايا والنذور، وجروا على عوايدهم في التقليد، وازدحم عليه الخلايق وخصوصًا النسا فراج بذلك أمر أخيه، واتسعت دنياه ونصبه شبكة لصيده ومنعه من حلق لحيته فنبتت وعظمت وسمن بدنه وعضم جسمه من كثرة الأكل والراحة، وقد كان قبل ذلك عريانًا شقيانًا يبيت غالب لياليه بالجوع طاويًا من غير أكل بالأزقة في الشتا والصيف، وقيد به من يخدمه ويراعيه في منامه ويقظته وقضا حاجتِه، ولا يزال يحدث نفسه ويخلط في ألفاظه وكلامه وتارة يضحك وتارة يشتم، ولا بد من مصادفة بعض الألفاظ لما في نفس بعض الزايرين وذوي الحاجات، فيعدون ذلك كشفًا واطلاعًا على ما في نفوسهم وخطرات قلوبهم، ويحتمل أن يكون كذلك فإنه كان من البله المجاذيب المستغرقين في شهود حالهم، وسبب نسبتهم هذه أنهم كانوا يسكنون بسويقة البكري لا أنهم من البكرية، ولم يزل هذا حاله حتى توفي في هذه السنة واجتمع الناس لمشهده من كل ناحية، ودفنوه بمسجد الشرايبي بالقرب من جامع الرويعي في قطعة من المسجد، وعملوا على قبره مقصورة ومقامًا يقصد للزيارة، واجتمعوا عند مدفنه في ليال وميعادات وقرَّا ومنشدين وتزدحم عنده أصناف الخلايق ويختلط النسا بالرجال، ومات أخوه أيضًا بعده بنحو سنتين.

ومات الوجيه المكرم والنبيه المفخم مصطفى بن صادق أفندي اللازجي الحنفي، ولد سنة أربع وسبعين وماية وألف ونشأ في حجر والده وحفظ القرآن وبعض المتون في صغره، وحفظ البرجلي والشاهدي ومهر في اللغة التركية وتفقه على أبيه، وقرا عليه علم الصرف وحضر على بعض الأشياخ، ولازم الشيخ محمد الفرماوي وأخذ عنه النحو، وقرأ عليه مختصر السعد وغيره برواق الجبرت بالأزهر، ثم تصدر للإفادة والمطالعة لطلبة الأتراك المجاورين برواق الأروام، ولبس له تاجًا وفراجة، وعمل له مجلس وعظ على كرسي بالجامع المؤيدي، وذلك قبل نبات لحيته، وكان وسيمًا جسيمًا بهي الطلعة أبيض اللون رابي البدن فاجتمع لسماع وعظه ومشاهدة ذاته كثير من أبناء العرب والأتراك والأمرا والأجناد، فيقرر لهم بالعربي والتركي بفصاحة وطلاقة لسان، وممن كان يحضره علي أغا مستحفظان وهام فيه وأحبه وصار يتردد إليه كثيرًا، ويذهب هو أيضًا إلى داره كثيرًا كما قيل في المعنى.

بروحي واعظًا كالبدر حسنًا
بديع ملاحة ساجي اللواحظ
ولا عجب به إن همت وجدًا
فكم قد هام ذو وجد بواعظ

وكان والده متوليًا على وقف إسكندر ومشيخة التكية بباب الخرق، فكان هو المتكلم على ذلك عوضًا عن أبيه، واتفق أنه حاسب المباشر على ذلك، وهو الشيخ أحمد الصفطه وطالبه بما تأخر عليه فماطله فأغرى به علي أغا المذكور، فطلب الشيخ أحمد المذكور ونكل به وأشهره وعلقه على شباك السبيل بباب الخرق بقاووقه وهيئته، واجتمع الناس للفرجة عليه يومًا كاملًا ثم أطلقه فاشتهر أمر المترجم وهابه الناس، وأكثر من الترداد إلى بيوت الأمرا وعظموه وأحبوه وأكرموه، لاتحاد الجنسية وارتباط الحيثية، ولما توفي مصطفى أفندي شيخ رواقهم انتبذ هو لطلب المشيخة، وذهب إلى مراد بك فألبسه فروة على مشيخة الرواق فتعصب أهل الرواق وأبوا مشيخته عليهم لحداثة سنه، واجتمعوا وذهبوا إلى مراد بك فزجرهم ونهرهم وطردهم فرجعوا بقهرهم وسكتوا، واستمر شيخًا عليهم يأتي إلى الرواق في كل يوم ويقرأ لهم الدرس كما كان من قبله، واشتهر ذكره وعظمت لحيته وصار ذا وجاهة عظيمة وسكن دارًا عظيمة جهة التبانة من وقف رواقهم، ودعا إليه الأعيان والأكابر، وعمل لهم ولايم وقدم لهم التقادم والهدايا، واحتفل به مصطفى أغا الوكيل وسعى له في أشغاله وكاتب الدولة في شأنه فأرسلوا له مرتبًا بالضربخانة وقدره ماية وخمسون نصفًا في كل يوم، واتسع حاله وأقبلت عليه الدنيا من كل جهة، ومات أبوه في سنة أربع ومايتين وألف، وكان ذا مكنة وحرص، فأحرز مخلفاته أيضًا وباع تركته وكان سليط اللسان في حق الناس، فاتفق له أنه لما حضر حسن باشا إلى مصر فحضر مرة إلى زيارة المشهد الحسيني، وجلس مع الشيخ السادات والشيخ البكري فدخل عليهم المترجم فجلس هنيهة ثم قام، فسأل عنه حسن باشا فأخبره الشيخ السادات عن أحواله وتكلمه في حق الناس؛ فأمر بنفيه فانزعج عليه والده، ثم ذهب إلى حسن باشا وكلمه فرق له ورحم شيبته وأمر برد ابنه، فرجع من ليلته ولم يزل يسعى ويتحيل حتى أحضر حسن باشا إلى داره وجدد معه صداقة وصحبة حتى كاد يأخذه صحبته، ولم يزل في فوعته وفورته حتى غار ماء حياته وانغلق عن الفتح باب قبره عند مماته، وهو مقتبل الشبيبة في هذه السنة.

ومات الشيخ المحترم المبجل الشيخ أحمد بن الإمام العلامة سالم النفراوي المالكي، نشا في حجر والده في رفاهية وتنعم ورياسة، ولما مات والده تعصب له الشيخ عبد الله الشبراوي وحاز له وظايف والده وتعلقاته وأجلسه للإقرا في مكان درس أبيه، وأمر جماعة أبيه بالحضور عليه وكان الشيخ علي الصعيدي من أكبر طلبة أبيه فتطلع للجلوس في محله، وكان أهلًا لذلك فعارضه الشيخ الشبراوي وأقصاه وصدر ولده لذلك مع قلة بضاعته ولثغة في لسانه، فحقد ذلك في نفس الشيخ الصعيدي سنينًا وكان المترجم ذا دهاء ومكر وتصدى للقضايا والدعاوي، واتخذ له أعوانًا واشتهر ذكره، وعد من الكبار وترددت إليه الأمرا والأعيان، وصار ذا صولة وهيبة، ولما ظهر شأن علي بك كان يرعى له حقه وحالته التي وجده عليها ويقبل شفاعته ويكرمه حتى إنه كان يأتي إليه بداره التي بالجيزة فلما مات علي بك، وانتقلت الرياسة إلى محمد بك وكان له عناية بالشيخ الصعيدي ويسمع لقوله، وكان السيد محمد بدوي بن فتيح القباني مباشر لمشهد الحسيني يعلم كراهة الشيخ الصعيدي الباطنية للمترجم فيرصد الوقت الذي يحضر فيه الشيخ الصعيدي عند الأمير، ويفتح مذاكرته والتكلم في حقه فيساعده الشيخ ويظهر المكمون في نفسه من المترجم، ويذكرون مساويه وقبايحه وما بيده من الوظايف بغير حق وما تحت نظارته من الأوقاف المتخربة حتى أوغروا صدر الأمير عليه فنزع منه وظايفه وفرقها على من أشاروا عليه بتقليده إياها وأهانه، فعند ذلك تسلطت عليه الألسن وكثرت فيه الشكاوى، وتجاسر عليه الأنذال، وتطاول عليه الأرذال، وهدموا بيته الذي بالجيزة؛ لأنه كان تعدى في بنايه وأخذ قطعة من الطرق التي يسلك منها الناس، فعند ذلك خمل ذكره وبرد أمره، استمر على ذلك حتى توفي في هذه السنة، غفر الله له وسامحه بمنه وكرمه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤