الفصل الثاني

عواصف التدمير الخلاق لجوزيف شومبيتر

يعتمد كل تقدم اقتصادي واجتماعي في الأساس على أفكار جديدة تعارض الاستبطان وسكون الوضع الراهن، بإمكانيات التغيير والتحسين. ويحدث الابتكار عند طرح تفكير جديد بنجاح وتقدير المؤسسات له. فهو المجال الذي ينظم فيه ويُدار رسميًّا إبداع الأفكار الجديدة وتطبيقها. ويتطلب الابتكار ترتيبات متأنية وأهداف وفوائد مدروسة للأفكار الجديدة التي يجب تحقيقها وتنفيذها عمليًّا. فهو المسرح الذي تلتقي فيه متعة التجريب والتعلُّم بالحقائق التنظيمية للميزانيات المحدودة، والإجراءات الروتينية الراسخة، والأولويات المتنازع عليها، والخيال المقيد.

توجد العديد من الطرق لفهم الابتكار، وهي تقدم لنا نطاقًا واسعًا من الرؤى ووجهات النظر الثرية. فتنوع العدسات التحليلية المختلفة المستخدمة يعتمد على قضايا الابتكار المعينة التي يجري دراستها. فيحلل البعض مدى الابتكار وطبيعته، وإن كان أي تغيير إضافيًّا أم جذريًّا، وكيف يحافظ على استمرارية الأساليب الموجودة للقيام بالأشياء أم يعوقها، وإذا كان يحدث في الأنظمة الكاملة أم في مكوناتها. وتهتم تحليلات أخرى بكيفية تغير اهتمام الابتكار عبر الزمن، بمعنى تغيره من تطوير منتجات جديدة إلى تصنيعها، وأنماط نشرها، وكيف تسيطر أشكال تصميم معين، مثل أجهزة تسجيل الفيديو وتشغيل الموسيقى، على السوق، وكيف تحصل المؤسسات على قيمة من الابتكار.

(١) تعريف الابتكار

تقدم اللغة الإنجليزية تعريفات واسعة للابتكار، ربما تكون مفيدة ومربكة في الوقت نفسه. فتكون مفيدة من حيث إمكانية تغطيتها لنطاق واسع من الأنشطة، وتكون مربكة أيضًا للسبب نفسه، فيمكن استخدام الكلمة عشوائيًّا. فحتى التعريف البسيط نسبيًّا للابتكار الذي نستخدمه — وهو الأفكار المطبقة بنجاح — يثير تساؤلات؛ فما «النجاح»؟ إن الوقت عامل مؤثر، وربما تكون الابتكارات ناجحة في البداية ثم تفشل في آخر الأمر، أو العكس. وما الذي تشير إليه كلمة «مطبقة»؟ فهل تعني التطبيق داخل جزء واحد في المؤسسة، أم الانتشار دوليًّا بين مجموعة ضخمة من المستخدمين؟ وما مصادر «الأفكار»؛ كيانات أم أشخاص؟ فهل يستطيع أي شخص ادعاء ملكيته لها، خاصةً وأنها تجمع حتميًّا بين التفكير الجديد والحالي؟

تواجه تصنيفات الابتكار أيضًا صعوبات بسبب الحدود غير الواضحة والتداخلات بين الفئات. فالابتكار يحدث في المنتجات، على سبيل المثال في السيارات الجديدة أو المستحضرات الصيدلانية، وفي الخدمات، مثلًا في وثائق التأمين الجديدة أو المراقبة الصحية. إلا أن الكثير من شركات الخدمات تصف ما تقدمه على أنه منتجات، مثل المنتجات المالية الجديدة. ويحدث ابتكار أيضًا في العمليات التشغيلية؛ في طريقة توصيل المنتجات والخدمات الجديدة. وربما تأخذ هذه العمليات شكل المعدات والماكينات، وهي منتجات مقدميها، والخدمات اللوجستية في شكل وسائل مواصلات، وهي خدمات مقدميها.

توجد بعض المشكلات المشابهة في التعريف عند التفكير في مستويات الابتكار. فربما يكون ابتكار ثانوي في إحدى المؤسسات ابتكارًا أساسيًّا في أخرى. ويصعب عمليًّا وضع أي شيء عدا مقياس اسمي للاختلافات بين مستويات الابتكار، ويُفضل اعتبار التصنيف كنماذج مثالية على طول سلسلة متصلة. وتكون معظم الابتكارات تحسينات إضافية؛ أي أفكار تُستخدم في نماذج جديدة من منتجات وخدمات موجودة بالفعل، أو تعديلات على عمليات تنظيمية. وربما تشتمل على أحدث نسخ من حزم برمجية معينة، أو قرارات لانضمام المزيد من الممثلين من قسم التسويق لفرق التطوير. وتغير الابتكارات الجذرية طبيعة المنتجات والخدمات والعمليات، ومن الأمثلة على ذلك تطوير المواد الاصطناعية — مثل النيلون — وقرارات استخدام برمجيات مفتوحة المصدر لتشجيع تطوير المجتمع لخدمات جديدة بدلًا من القيام بذلك بملكية مسجلة. وعلى أعلى مستوى، توجد ابتكارات تحويلية دورية نادرة، تكون ثورية في تأثيرها وتؤثر في الاقتصاد بأكمله. ولعل تطوير استخدام البترول كمصدر للطاقة، أو ظهور الكمبيوتر أو الإنترنت، من الأمثلة على ذلك.

إننا نفكر في الابتكار على أنه أفكار طُبقت بنجاح في النتائج والعمليات التنظيمية. ويمكن التفكير في الابتكار على أنه عملي ونفعي؛ فنتائج الابتكار تكون منتجات وخدمات جديدة، أو تمثل العمليات التنظيمية التي تدعم الابتكار الذي تشهده أقسام مثل البحث والتطوير والهندسة والتصميم والتسويق. ويمكن التفكير في الابتكار من منظور مفهومه بصورة أكبر؛ فتكون نتائج الابتكار معرفة معززة وقرارات معدلة، أو تكون العمليات التي تدعم قدرة المؤسسات على التعلم.

ولقد اخترنا التركيز على الابتكارات بخلاف التي توصف بأنها «تحسينات مستمرة» والتي تميل إلى كونها روتينية وإضافية للغاية في طبيعتها. ومع أن هذه التحسينات الصغيرة تُعد مهمة تراكميًّا، فإن اهتمامنا ينصب بالأحرى على الأفكار التي توسع نطاق المؤسسات وتتحداها وهي تحاول البقاء والازدهار. فبالتركيز على الابتكارات التي تفوق المعتاد والتي توجد في كل من نتائج المجهودات التنظيمية والعمليات التي تنتجها، نرصد درجة كبيرة مما يُدرك بوجه عام على أنه ابتكار.

(٢) أهمية الابتكار

يجب النظر إلى السبب وراء الأهمية الفائقة للابتكار في سياق الطلبات المستمرة على المؤسسات المعاصرة وهي تواجه تحديات عالم معقد ومضطرب. فيكون الابتكار ضروريًّا من أجل استمرار بقائها وهي تناضل من أجل التكيف والتطور للتعامل مع الأسواق والتقنيات دائمة التغير.

في القطاع الخاص، يوجد دائمًا خطر ظهور منافسين جدد في الأسواق العالمية. أما في القطاع العام، فيستمر الطلب على الكفاءات والأداء المعزز، حيث تحاول الحكومات إدارة الطلبات، التي تفوق دخولها، على النفقات لتحسين جودة الحياة. ويُثار الحافز للابتكار داخل كل المؤسسات بمعرفة أنها إن لم تكن قادرة على الابتكار، فإن الآخرين قادرون، وهم اللاعبون الجدد الذين ربما يهددوا وجودها. وببساطة، إن أرادت المؤسسات أن تتقدم — تنمو وتتطور وتصبح أكثر ربحية وكفاءة واستدامة — فإنها بحاجة لتنفيذ أفكار جديدة بنجاح. فيجب عليها أن تكون دائمة الابتكار. وعلى حد قول عالم الاقتصاد جوزيف شومبيتر الذي عبر عنه بصراحة، فإن الابتكار «يقدم جزرة المكافأة الرائعة أو عصا الفقر المدقع».

ومن سمات الابتكار أنه يمكن أن يوجد داخل كل مؤسسة. ومع أن تكلفة الابتكار ربما تكون عالية للغاية — فربما تصل التكلفة، على سبيل المثال، حتى ٨٠٠ مليون دولار أمريكي لطرح مستحضر صيدلاني جديد — فإن الأفكار الجديدة يمكن تطبيقها بنجاح بثمن زهيد. فلا تعتمد الشركات عالية التقنية التي تُصنِّع أشباه الموصلات أو تعمل باستخدام التكنولوجيا الحيوية وحدها على الابتكار في مشاريعها التجارية، بل كل أجزاء الاقتصاد. فتبحث شركات التأمين والبنوك باستمرار عن أفكار جديدة للخدمات المقدمة للعملاء، وتستخدم المتاجر أسلوبًا حاسوبيًّا لإدارة الطلبات والمخزون، وتستخدم المزارع بذورًا وأسمدة وتقنيات ري جديدة، ويمكن أن تساعد الأقمار الصناعية في تحسين الزراعة والحصاد، وتوجد استخدامات جديدة لمنتجاتها، مثل الوقود الحيوي والأطعمة المفيدة المعززة للصحة. ويوجد الابتكار أيضًا في مجال البناء — في مواد وأساليب البناء الجديدة — وفي التغليف الذي يحفظ الأطعمة طازجة أكثر، وفي شركات الملابس التي تقدم تصميمات جديدة بسرعة أكبر وأسعار أقل. وتسعى الخدمات العامة للابتكار في الصحة والنقل والتعليم. وبينما قد لا يرغب المرء في الكثير من الابتكار في بعض المجالات، مثلما يحدث مع الشركات التي تستثمر أموال صناديق معاشاتنا أو تصمم الطائرات التي تنقلنا، فإن الشركة أو المؤسسة التي لا تستفيد من استخدام أفكار جديدة نادرة بوجه عام.

(٣) التحديات

إن تحديات الابتكار هائلة؛ إذ يشعر العديد من الأشخاص بعدم الراحة من التغيير الذي يحدثه الابتكار. وخاصةً، عندما يكون الابتكار واسع النطاق، يمكن أن تكون له آثار سلبية على الموظفين، بحيث يتسبب في الشك والخوف والإحباط. وتوجد لدى المؤسسات عقود اجتماعية ينمي أعضاؤها بموجبها الولاء والالتزام والثقة. ويمكن للابتكار أن يعطل هذا العقد من خلال إعادة توزيع الموارد، وتغيير العلاقات بين المجموعات، وتأكيد هيمنة جزء من المؤسسة بما يضر الأجزاء الأخرى. فيمكنه إرباك المهارات التقنية والمهنية التي يكتسبها الأفراد على مدار العديد من السنوات، والتي يرتبطون بها بشدة. ويعني سياقه التنظيمي أنه لا ينفصل عن ممارسة السلطة ومقاومتها.

إن معظم محاولات الابتكار تفشل، ويزخر التاريخ بمحاولات غير ناجحة لتطبيق الأفكار الجديدة — التي عادةً ما تكون جيدة للغاية — وتوصل إليها أفراد ومؤسسات. فيوضح التطوير المشئوم للسيارة الكهربائية التي تعمل بالبطارية الموفرة ذات الفوائد البيئية الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية في التسعينيات من القرن الماضي، كيف يمثل الابتكار تهديدًا خطيرًا للمصالح القائمة. اجتمع ائتلاف من المصالح السياسية والتجارية لمنع هذه الفكرة الجديدة من الوصول إلى السوق. وعلى الرغم من شعبية المنتج لدى المستهلكين، فإنه كان لزامًا عليه أن ينافس مصالح البنية التحتية القائمة للطاقة، وشركات النفط، وشبكات توزيع البترول، واستثمارات هائلة قائمة بالفعل لصناعة السيارات في تصنيع السيارات ذات المحركات التي تدار بالبنزين وصيانتها.

تحتاج المؤسسات للقيام بأشياء تسمح لها بالعمل على المدى القصير، من حيث استغلال معرفتها ومهاراتها الحالية، واستكشاف أشياء جديدة ستنمي القدرات من أجل دعم وجودها المستمر طويل الأمد في عالم متغير، وذلك في وقتٍ واحد. وتتطلب كل هذه الأمور سلوكيات وممارسات مختلفة ومتعارضة في بعض الأحيان. وبالفعل تواجه المؤسسات أحيانًا المفارقة المتمثلة في الحاجة لتطبيق أفكار جديدة تهدد الممارسات التي أدت لنجاحها الحالي. فإذا كان يفترض بالجنرالات خوض الحرب الأخيرة بدلًا من الحرب الحالية، فإن المديرين يعتمدون على أساليب القيام بالأشياء التي ساهمت في تقدمهم وتقدم مؤسساتهم في الماضي، بدلًا من الأساليب التي ستتعامل بفعالية أكبر مع المستقبل. ومنذ تأسيس إديسون لأول مؤسسة مخصصة لإنتاج الابتكارات في مطلع القرن التاسع عشر، أصبحت العديد من الطرق المختلفة لتنظيم ابتكار الأفكار الجديدة واستخدامها مفضلةً على فترات منتظمة. ومع تغير بيئة العمل، لم يعد يستخدم المختبر الكبير والمركزي المشترك الخاص بالبحث والتطوير، وفريق الابتكار الذي لا يمت لهذا المختبر بأي صلة (والذي يُطلق عليه أحيانًا اسم «قسم البحث والتطوير») بقدر ما كان عليه الحال في الماضي. فالبحث عن طرق لتحقيق التوازن بين الإجراءات الروتينية والابتكار متواصلٌ.

نادرًا ما تبتكر المؤسسات وحدها؛ فتقوم بذلك بالاشتراك مع آخرين، منهم موردوها والمستهلكون. فهي تبتكر في سياقات إقليمية وقومية معينة. فعلى سبيل المثال يوجد بُعد محلي دائمًا للوصول للمهارات والأبحاث الجامعية المؤيدة للابتكار، كما يُرى في حالة منطقة سيليكون فالي في كاليفورنيا وغيرها من مراكز الابتكار الدولية. وتؤثر سياسات وقوانين الحكومة في الابتكار، تمامًا كتأثير النظم القومية المالية والقانونية التي تؤثر في قضايا مثل إتاحة رأس المال الاستثماري القابل للمخاطرة، وخلق المعايير التقنية، وحماية حقوق الملكية الفكرية. توجد أيضًا أهمية كبيرة لإتاحة البنية التحتية لوسائل الاتصال والمواصلات وتكلفتها. فتزيد هذه العوامل من تعقيد الابتكار، ومن ثم تجعل عدم توقعه أكبر، حيث لا يكون المبتكرون متحكمين أو متحكمات أبدًا وبالكامل في مصيرهم. وتشير هذه العوامل أيضًا إلى الطبيعة التي يتفرد بها الابتكار جوهريًّا؛ فكل ابتكار يظهر في مجموعة ظروف خاصة به.

في كل العناصر الرئيسة للنظم الاقتصادية المعاصرة — في صناعات الخدمات والتصنيع والموارد وفي القطاع العام — يعتمد التقدم التنظيمي على امتلاك المعرفة والمعلومات أو الوصول إليها واستخدامها. فتعتمد قدرتك على المنافسة وتمتعك بالكفاءة على كونك مبتكرًا مع كل الموارد التي تمتلكها المؤسسات؛ من أشخاص ورأس مال وتكنولوجيا وطرق اتصالها بمن يساهمون فيما تقوم به ويستخدمونه.

(٤) التفكير في الابتكار

يشير عالم الاقتصاد الأمريكي ويليام بومول إلى أنه، عمليًّا، يمكن أن يُنسب كل النمو الاقتصادي الذي حدث منذ القرن الثامن عشر في الأساس للابتكار. فلقد اعتُرف بالتطبيق الناجح للأفكار داخل الصناعة على أنه المصدر الأساسي لتطورها منذ ذلك الوقت.

وشهد القرن الثامن عشر أيضًا بداية دراسة أهمية العلاقات بين التنظيم والتكنولوجيا والإنتاجية والاعتراف بها، مع نشر كتاب آدم سميث «ثروة الأمم» في عام ١٧٦٧. وقدم سميث تحليله الشهير حاليًّا لأهمية تقسيم العمل في مصنع للدبابيس، وهو الأمر الذي أثَّر في تنظيم وِدجوود لمصنعه. فأوضح سميث كيف أن التخصص في عمليات تصنيع معينة في إنتاج الدبابيس زاد كثيرًا من إنتاجية القوى العاملة، مقارنةً بالحال عندما كان الأفراد ينتجون كل دبوس بأنفسهم. فرجل وحده، حتى مع «أقصى جهد»، كان يستطيع إنتاج من دبوس واحد إلى ٢٠ دبوسًا كحد أقصى في اليوم، لكن مع تقسيم العمل، فإن العمالة «الضعيفة للغاية غير المكترثة بالآلات اللازمة» كان باستطاعتها إنتاج ٤٨٠٠ دبوس «عندما كانوا يبذلون جهدًا كبيرًا».

بعد مضي قرن، أدرك كارل ماركس بشدة أهمية الابتكار، ولكنه اهتم أكثر بنتائجه السلبية. وفي المجلد الأول من كتاب «رأس المال» قال:

لا تنظر الصناعة الحديثة أبدًا إلى الشكل الحالي لعملية الإنتاج أو تتعامل معه على أنه الشكل النهائي … فبمساعدة الآلات والعمليات الكيميائية والطرق الأخرى، يتحوَّل باستمرار ليس فقط الأساس التقني للإنتاج، بل أيضًا وظائف العامل والتوليفات الاجتماعية لعملية العمل.

يشير ماركس إلى أن إمكانيات التغير التكنولوجي كان يناقضها استخدامها في ظل النظام الرأسمالي، الذي أدى حتميًّا إلى قمع العمال. فأكد على أن الرأسمالية جعلت العمال أقل أهمية من الآلات، ولكنه اعتقد أن التكنولوجيا حملت إمكانية تحريرهم من عبء العمل الآلي والمتكرر وإثراء العلاقات الاجتماعية.

يُعد تأكيد ماركس على الأبعاد الاجتماعية القوية للتطور والاستخدام التكنولوجي من الموضوعات المتكررة في البحث في تاريخ الابتكار. فتوضح دراسة لتطور الميكنات الصناعية الأوتوماتيكية في الولايات المتحدة الأمريكية — على سبيل المثال — كم مرة شكلت القوى الاجتماعية المسيطرة التكنولوجيا. فالتحكم الأوتوماتيكي — أو العددي — في الماكينات الصناعية، كالمخارط، كان يمكن تحقيقه بعدة طرق لإعطاء مشغل الماكينة حرية التصرف إلى حد ما في كيفية استخدامها. وصُممت التكنولوجيا بحيث يكون التحكم داخل مكاتب التخطيط الهندسي، وليس في أيدي مشغليها. كان هذا أقل كفاءة على الجانب الاقتصادي، ولكنه كان متوافقًا مع توقعات المستهلك الأكبر لهذه التكنولوجيا الجديدة — القوات الجوية الأمريكية — ومن ثم عكس هياكل السلطة الحالية.

على مستوى أكثر شمولية، فإن كل الثورات السابقة في التكنولوجيا — في الطاقة البخارية والكهرباء والسيارات وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات — تطلبت تعديلًا هائلًا وملاءمة كبيرة في الصناعة والمجتمع. ويوضح عالِما الاقتصاد كريستوفر فريمان وكارلوتا بيريز كيف أن انتشار التقنيات الحديثة في التاريخ منذ الثورة الصناعية تطلب تعديلات هيكلية هائلة في الصناعة والمجتمع، وكذلك في الإطار القانوني والمالي، ونظم التعليم والتدريب على المهارات والمهن الجديدة، ونظم إدارة جديدة، ومعايير تقنية وطنية ودولية جديدة.

لقد أُدركت منذ وقت طويل أهمية «رأس المال البشري» الذكي. فمن خلال ملاحظة عالِم السياسة فريدريك ليست لتطور الصناعة الألمانية في منتصف القرن التاسع عشر، أعلن أن الثروة القومية تنشأ عن رأس المال الفكري؛ أي قوة الأفراد أصحاب الأفكار. وفي عام ١٨٩٠، أشار عالِم الاقتصاد البريطاني ألفريد مارشال إلى أن المعرفة هي أقوى محرك للإنتاج متاح للنظم الاقتصادية. وأشاد مارشال — واضع النظريات الاقتصادية الذي عايش الواقع على نحو استثنائي من خلال زيارته المنتظمة للشركات — بأهمية الابتكار، ونتذكره على وجه الخصوص بسبب تحليله لفوائد «تجميع» الشركات التقدمية في «مناطق صناعية».

إذا صح لأي عالم اقتصاد ادعاء أنه أول من أدرج الابتكار على نحو جوهري ضمن نظريته عن التطور، فإنه سيكون جوزيف شومبيتر (١٨٨٣–١٩٥٠)، الذي يظل إلى الآن أحد أكثر المفكرين المؤثرين في هذا الموضوع. فهو رجل متعدد الجوانب له تاريخ ثري، يشمل اشتغاله وزيرًا للمالية في النمسا في وقت من الأوقات، ومديرًا لبنك مفلس، وأستاذًا بجامعة هارفارد. يشير شومبيتر إلى أن الابتكار أطلق العنان «لعواصف التدمير الخلاق». فهو يأتي في عاصفة هائلة من التقنيات الثورية، مثل البترول والصلب، التي تغير الاقتصاد وتطوره جذريًّا. إن الابتكار مبدع ومفيد، فهو يخلق صناعات جديدة وثروة ووظائف، وفي الوقت نفسه يُعد مدمرًا لبعض الشركات القائمة والعديد من المنتجات والوظائف وأحلام أصحاب المشاريع التجارية المفلسة. ويرى شومبيتر أن الابتكار ضروري من أجل البقاء التنافسي:

التنافس من حيث السلعة الجديدة، والتكنولوجيا الجديدة، ومصدر التوريد الجديد، ونوع المؤسسة الجديد … التنافس الذي يفرض تكلفة حاسمة أو ميزة في الجودة والذي لا يضرب هوامش الربح ومخرجات الشركات الحالية، بل أُسسها وحياتها أيضًا …

fig2
شكل ٢-١: وضع شومبيتر الابتكار في قلب نظريته عن التنمية الاقتصادية.1

تغيرت آراء شومبيتر عن المصادر الرئيسة للابتكار خلال حياته، مما يعكس تغيرات في ممارسات مجال الصناعة. فأشاد نموذجه المبكر «مارك ١»، الصادر في عام ١٩١٢، بأهمية أصحاب المشاريع الفرديين النبلاء والمتحملين للمخاطر. وعلى النقيض، طوَّر نموذجه «مارك ٢» — الصادر بعد مرور ثلاثين عامًا — من دور الجهود المبتكرة المنظمة والرسمية داخل الشركات الكبرى. وفي خلال هذه الفترة، أصبح مختبر البحوث الحديثة راسخًا وبشدة، مبدئيًّا في الصناعات الكيميائية والكهربائية في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية. وبحلول عام ١٩٢١، كان يوجد أكثر من ٥٠٠ مختبر بحوث صناعية في الولايات المتحدة الأمريكية.

(٤-١) خمسة نماذج

أجرى فانيفار بوش — أول مستشار علمي للرئيس في الولايات المتحدة الأمريكية — واحدة من أولى الدراسات وأكثرها تأثيرًا عن العلاقة بين التقدم العلمي والابتكار الصناعي، وذلك بعد الحرب العالمية الثانية مباشرةً. وأيد بوش في تقريره: «العلم: الحد الذي لا نهاية له» سياسة قومية لأبحاث مفتوحة على نطاق واسع. وحقق الكتاب شعبية؛ فنُشر بتسلسل في مجلة فورتشن، وظهر بوش في الصفحة الأولى لمجلة تايم. وكان الرأي القائل إن الاستثمار في الأبحاث يقدم حلولًا لأصعب المشكلات ظاهريًّا، من موروثات تعاون بوش مع مشروع مانهاتن لتطوير القنبلة الذرية، الأمر الذي يرى الكثيرون أنه قلص الحرب بنجاح في المحيط الهادي. وبالرغم من أن الرأي القائل إن كل الابتكارات في المنتجات والعمليات أساسها أبحاث أساسية دءوبة يمثل تفسيرًا مبسطًا لتقرير بوش، فإنه أصبح المبدأ الأساسي في نموذج «الدفعة العلمية» للابتكار، وهو منظور تظل له شعبية لدى كثيرين في مجتمعات البحث العلمي حتى يومنا هذا.

ظهر رأي بديل أكد على أهمية الطلب في السوق كمصدر رئيسي للابتكار في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. ونتج هذا عن عدد من العوامل، منها دراسات أظهرت أنه في قطاعات مثل القوات المسلحة، تنتج المخرجات التكنولوجية من طلبات مستخدميها أكثر من أي ترتيبات علمية معدة مسبقًا. وفي الوقت نفسه، كانت أعداد مكاتب التخطيط المشترك الكبرى في ازدياد، مع إيمانها بالتصور الذي يقول إن أبحاث السوق الكافية بإمكانها تحديد المطلوب من العلم والتكنولوجيا الحديثة لتلبية احتياجات المستهلك. وعكس هذا ظهور العلوم الاجتماعية وما تدعيه من قدرات تنبئية. فعلى نقيض اعتناق العلم والتكنولوجيا بحماس في فترة ما بعد الحرب، ظهرت حركات اجتماعية — مثل حملة رالف نادر لأمان السيارات في فترة الستينيات من القرن الماضي، التي جاءت استجابة للتصميمات الخطيرة للسيارات — لتشكك في الاستخدام الذي صُنعت من أجله وتطالب بانتباه أكبر لاحتياجات المستهلك. وفي مجال الإسكان، أدى البحث في ديموجرافيا جيل طفرة الإنجاب إلى «تقديم» استراتيجيات على المستوى الدولي و«التنبؤ بها»، حيث كان يوجد سعي للابتكار ليساعد في تلبية الطلب المتزايد. وعُرفت هذه الرؤية باسم النموذج الابتكاري «التضخم الناتج عن الطلب».

يتقدم هذان النموذجان للابتكار تقدمًا خطيًّا؛ بحيث تؤدي الأبحاث إلى منتجات وعمليات جديدة تدخل إلى السوق، أو يؤدي الطلب السوقي على منتجات وعمليات جديدة إلى أبحاث لتطويرها. إلا أن الحجم المتزايد للأبحاث التي أُجريت في السبعينيات من القرن الماضي شكك في افتراض الخطية. فوجدت دراسات رائدة، مثل مشروع سابفو في جامعة ساسكس في المملكة المتحدة، اختلافات بين القطاعات؛ على سبيل المثال ابتُكرت الصناعة الكيميائية على نحو مختلف عن صناعة الأدوات العلمية. وتغير أيضًا نمط الابتكار بمرور الوقت. فطور أبرناثي وآترباك في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا نظرية دورات حياة المنتج، مع وجود مستويات عالية من الابتكار في تطوير المنتجات في البداية، ثم التقليل في مداها وإحلال مستويات عالية من الابتكار تركز على تطبيقها وعمليات إنتاجها في محلها. فلم يُنظر للابتكار على أنه أحادي الاتجاه، ولكن على أنه أكثر تكرارًا، مع حلقات التغذية الراجعة.

برزت القضايا التنظيمية وقضايا المهارات الكامنة وراء نموذج «الاقتران» الابتكاري في الثمانينيات من القرن الماضي، مدفوعةً في الأساس بالنجاح الملحوظ للصناعة اليابانية. فأظهرت دراسة لصناعة السيارات في هذا الوقت أن مصنعي السيارات اليابانيين أكثر كفاءة بمرتين من منافسيهم الدوليين في كل جانب من جوانب الأداء الابتكاري، مثل المدة المطلوبة لتصميم سيارة وصناعتها. وجاء تفسير ذلك في صورة منهج يوصف ﺑ «الإنتاج الهزيل»، الذي يناقض أساليب الإنتاج بالجملة المستخدمة في دول أخرى. ويرتكز الإنتاج بالجملة الذي قدمه هنري فورد على خطوط تجميع تنتج منتجات موحدة. واشتهر فورد بقوله: «بإمكانك الحصول على سيارة موديل تي بأي لون تريده ما دام أسود.» أما الإنتاج الهزيل، فقدم مرونة أكبر في خط التجميع، فسمح بصناعة نطاق أوسع من المنتجات. فهو يشتمل على نظام من العلاقات مع موردي المكونات يسمح لهم بالتوصيل في وقت التجميع مباشرةً، ومن ثم يقلل تكلفة الاحتفاظ بمخزون، ويزيد من سرعة الاستجابة لتغيرات السوق. وتطلب الإنتاج الهزيل أيضًا اهتمامًا بالغًا بمراقبة الجودة، التي أصبحت في العديد من المجالات مسئولية العمال العاديين.

عند تحليل الاختلافات بين أسلوب تنظيم الشركات اليابانية والغربية لنفسها حتى تبتكر، فإن التشبيهات المستخدمة في حالة الشركات اليابانية أنها تلعب الرجبي (مع أن لعبة كرة الشبكة مناسبة أيضًا لوصفها)، والشركات الغربية تقيم سباق تناوب. ففي الغرب، يتطلب الابتكار أن يبدأ قسم واحد من المؤسسة — مثلًا قسم الأبحاث والتطوير — العملية ويديرها لبعض الوقت، ثم يسلمها لقسم آخر، مثلًا القسم الهندسي، الذي يعمل عليها على نحو مماثل قبل تسليمها للتصنيع ثم التسويق. ولقد اعتُبر أن هذه العملية الخطية تستنفد الكثير من موارد الشركات اليابانية، مع احتمال وجود أخطاء جسيمة في نقل الأفكار والبيانات مع انتقال المشروعات من قسم لآخر في المؤسسة. ويمكن استخدام تشبيه لاعب الرجبي أو كرة الشبكة للإشارة إلى ذلك، حيث تتطلب هذه الألعاب التضافر المتزامن لأنواع مختلفة من اللاعبين، لهم مهارات وقدرات مختلفة، ويكون بعضهم ضخمًا وطويلًا لكنه بطيء بوجه عام، والبعض الآخر أصغر حجمًا لكنه يتمتع بالمهارة والسرعة، ويعملون جميعًا من أجل الهدف نفسه. فتتحد كل أقسام المؤسسة في أنشطة الابتكار.

إن التعاون بين الشركات اليابانية المبتكرة، وداخلها، كان سمة لقصة نجاحها في فترة الثمانينيات من القرن الماضي. فإضافةً إلى التعاون الشامل بين المستهلكين والموردين في المجموعات الصناعية نفسها، فيما يُطلق عليه كيرتسو، شجعت الحكومة اليابانية أيضًا التعاون بين الشركات المتنافسة. فحاول برنامج الجيل الخامس للحاسوب، على سبيل المثال، تشجيع مصنعي الكمبيوتر المتنافسين بشدة عادةً على التعاون في برامج أبحاث مشتركة. وهذا النموذج «التعاوني» لاستراتيجيات الابتكار وسياسات الابتكار العامة اتبعته أوروبا بحماس شديد في مجال تكنولوجيا المعلومات، والولايات المتحدة الأمريكية في مجال أشباه الموصلات.

وبحلول تسعينيات القرن الماضي، بدأ روي روثويل — أحد مؤسسي أبحاث الابتكار — في تحديد عدد من التغييرات التي تحدث في الاستراتيجيات التي كانت الشركات تستخدمها للابتكار والتقنيات التي استخدمتها لدعمها. فأشار إلى أن الشركات كانت تطور استراتيجيات ابتكار تتكامل إلى حد بعيد مع شركائها، بما فيهم «العملاء الأساسيون»، ومستخدميها كثيري الطلبات، ومشاركيها في تطوير الابتكار. وأكد كذلك على أهمية استخدام التقنيات الرقمية الجديدة، مثل التصميم والتصنيع بمساعدة الكمبيوتر، التي تربط بين أقسام الشركة المختلفة عند تطوير الابتكارات، وتساعد في ربط الأطراف الخارجية بجهود التطوير الداخلية. وأطلق روثويل على ذلك نموذج «التكامل والتواصل الاستراتيجي» للابتكار. إن الاتجاه نحو تكامل استراتيجي وتكنولوجي أكبر يدعم الابتكار مستمر باستخدام طاقة حوسبة هائلة، والإنترنت، وتقنيات تصور وواقع افتراضي جديد.

توجد سوابق لنماذج عملية الابتكار هذه في الاقتصاد الصناعي حيث ساد وجود الابتكار في مجال التصنيع. ونحن الآن نشهد وجود نظم اقتصادية تسودها الخدمات، حيث تمثل نحو ٨٠٪ من الناتج المحلي الإجمالي في معظم الدول المتقدمة. والنظم الاقتصادية التي تعتمد على الأشياء المادية الملموسة التي يمكن قياسها ورؤيتها تحولت إلى نظم تكون فيها المخرجات عديمة الوزن وغير مرئية. إضافةً إلى ذلك، وكما تُظهر الأزمة المالية العالمية التي حدثت في عام ٢٠٠٨، فإننا نعيش في عصر من الاضطراب والشك الاستثنائي حيث يحتمل تعرض أي من الصيغ والأساليب الراسخة للاختبار من الظروف المستجدة والطارئة. فستصبح نماذج الابتكار هذه في المستقبل أكثر محوريةً وتطورًا حيث ستكون مصادر الابتكار غير واضحة، والمؤسسات المشاركة غير معروفة مبدئيًّا، والنتائج مقيدة بشدة بالأشياء غير المتوقعة. وفي مثل هذه الظروف، سيكون من المهم تقييم ما إذا كان أي شيء نعرفه عن الماضي يمكن أن يرشدنا في المستقبل. وسيكون أيضًا من المفيد فهم كيف يمكن أن تساعدنا نظرية الابتكار.

(٥) النظرية

لا توجد نظرية واحدة وموحدة للابتكار، وما يوجد هو تفسيرات جزئية من علم الاقتصاد والعلوم السياسية وعلم الاجتماع والجغرافيا والدراسات التنظيمية وعلم النفس والاستراتيجيات التجارية مثلًا، ومن داخل «دراسات الابتكار» التي تعتمد على كل هذه النظم. وهذا أمر متوقع نظرًا لتأثيرات وطرق ونتائج الابتكار المتعددة. وستعتمد فائدة النظريات المختلفة على القضايا المعينة التي تتعرض للدراسة. فربما تكون النظريات من علم النفس أكثر فائدة عندما يكون الموضوع مبتكرًا فرديًّا، ومن الاستراتيجيات التجارية عندما يكون الموضوع الابتكار التنظيمي، ومن علم الاقتصاد عندما يكون الموضوع الأداء القومي للابتكار. ومن المهم التفكير في نظريات الابتكار لا لشرح القضايا المعاصرة فحسب — على أهميتها — ولكن أيضًا للتبصير باستخدامها المستقبلي في المساعدة في التعامل مع الاهتمامات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية الكبرى.

على مدار السنوات الأخيرة، ظهرت مجموعة من الرؤى التي تشترك في أساس نظرياتها عن الابتكار. وتشتمل هذه الرؤى على علم الاقتصاد التطوري وأُطر «القدرات الديناميكية» للاستراتيجية التجارية.

إن التحدي الذي يواجه أي نظرية للابتكار هو أنها لا بد أن تشرح ظاهرة تجريبية تأخذ مظاهر متعددة. ويجب أيضًا أن تحيط بتعقيدها وديناميكيتها وعدم يقينها، وهي خصائص تصبح معقدة عادةً بالطريقة التي ينتج بها الابتكار عن مساهمة العديد من الأطراف التي لديها برامج متباينة أحيانًا وغير راسخة تمامًا. وبهذه الطريقة، يوجد للابتكار خصائص مستجدة؛ فهو ينتج عن عملية جماعية ربما لا تكون نتائجها معروفة أو متوقعة عند بدايتها.

يرى علم الاقتصاد التطوري — وكذلك ما تركه شومبيتر من علم — أن الرأسمالية نظام ينتج تنوعًا مستمرًّا في الأفكار والشركات والتقنيات الجديدة التي يبدعها أصحاب المشروعات، والأنشطة المبتكرة للمجموعات البحثية. وتختار القرارات التي تتخذها المؤسسات والمستهلكون والحكومات من بين هذا التنوع. ويُروج لبعض هذه الاختيارات بنجاح، وتُطبق بالكامل في مؤسسات ومشروعات تجارية وتقنيات جديدة توفر الأساس والموارد للاستثمارات المستقبلية في إبداع التنوع. ويكون معظم التنوع والاختيارات التي يُستقر عليها من العوامل المسببة للاضطراب أو أنها لا تُروج بنجاح، ومن ثم يتميز النمو التطوري للاقتصاد بعدم يقين وفشل كبيرين.

تشتمل نظرية القدرات الديناميكية على طرق بحث الشركات عن الابتكارات واختيارها وضبطها ونشرها والتعرف عليها. فينصب تركيزها على المهارات والعمليات والهياكل التنظيمية التي تخلق الأصول غير الملموسة التي يصعب تكرارها وتستخدمها وتحميها، مثل المعرفة. وهذا المنهج في التعامل مع الاستراتيجية يعكس الديناميكية المستمرة للتكنولوجيا والأسواق والمؤسسات، حيث تكون القدرة على الشعور بالمخاطر وتحقيق الفرص — عندما تكون المعلومات مقيدة والظروف غير متوقعة — أساس الميزة المشتركة المستدامة.

تتقبل هذه التفسيرات النظرية للابتكار التعقيد والظروف المستجدة؛ فهي تشمل حقائق الابتكار المنظمة فوضويًّا والموجودة في النظم الاقتصادية التي تتسم بالتغير والمرونة الدائمين، وتكون استراتيجيات الشركات فيها تجريبية عادةً.

(٦) الوقت

يجب أن يوجد بُعد زمني لأي فهم للابتكار. فسواءٌ أكنا نفكر في النتائج وما حدث، أم في عمليات الابتكار وكيف حدث، من الضروري معرفة الفترة التي حدثت فيها. فالمقارنات بما كان يوجد قبل الابتكار تحدد مدى التجديد.

فإذا كان هناك ابتكار سابق لعصره، كما يمكننا القول على الأرجح في حالة السيارة الكهربائية التي تعمل بالبطارية، بصرف النظر عن كم المجهود المبذول، فإنه لن يحظى بالزخم المطلوب لانتشاره الواسع ونموه المستمر. وإذا استغرق أحد الابتكارات وقتًا طويلًا ليتطور، فربما يفشل بسبب ظهور فكرة أفضل أو أرخص. ففي بعض الأحيان، تتغير الأسواق والتقنيات بسرعة وتتخطى سريعًا ما كان يبدو في وقت ما فكرة جيدة. ولذلك، يجب أن تفكر المؤسسات المبتكرة في الجدول الزمني للأفكار الجديدة. ويمكنها القيام بذلك من خلال التفكير في وضعها بناءً على أنماط نشر الابتكار السابقة، واستخدام أدوات وأساليب من أجل تسريع الابتكار من خلال أساليب إدارة المشروع الرسمية التي تحدد تدريجيًّا مستويات الموارد المطلوبة. ويُخطط للعائدات من الاستثمار في الابتكار على مدى فترات من السنين، وتُتخذ القرارات بالاستثمار إذا أَدَرَّت عائدًا مناسبًا في فترة زمنية مقبولة. وتُدار المخاطر من خلال محاولات تقليل الفترة المستغرقة لتطوير الابتكار وتقديمه. ويُنظر عادةً للسرعة — لكن ليس دائمًا — على أنها ميزة. فضغط الوقت يقلل من فرص لحاق المنافسين بك أو تبديد الموارد هباءً. وبالرغم من ذلك، يؤدي التحرك بسرعة أكبر من اللازم إلى ارتكاب أخطاء والفشل في التعلم منها.

تُعد الآفاق قصيرة المدى مناسبة للابتكار التدريجي، ولكن هناك حاجة إلى الرؤى طويلة الأمد من أجل تقديم نظرة أوسع نطاقًا لمكان وسبب وكيفية حدوث الابتكار الجذري أو فشله. ويتطلب فهم العلاقات بين الاكتشاف العلمي والابتكار والتغيرات المجتمعية تفسيرًا تاريخيًّا عميقًا.

تستطيع المؤسسات المبتكرة — كما سنرى في حالة إديسون في الفصل الخامس — تحسين فرصها المستقبلية في النجاح من خلال خلق خيارات تسمح باتباع سبل محتملة مختلفة، وتأخير القرارات التي لا توجد حاجة لاتخاذها حتى وقت متأخر عندما تكون عواقبها أكثر وضوحًا. ويستطيع المبتكرون، من خلال تنظيم أنفسهم والتجهيز للاحتمالات غير المتوقعة، تغيير مسار الجداول الزمنية أو إعادة ضبطها. وكما قال لويس باستير عن الاكتشاف العلمي من خلال التجريب: «إنما يحالف الحظ صاحب العقل المستعد.»

تتفاوت معدلات الابتكار والانتشار تفاوتًا كبيرًا بين قطاعات الأعمال المختلفة. ففي مجال المستحضرات الصيدلانية — على سبيل المثال — يتطلب إدخال عقار جديد إلى السوق ما بين ١٢ و١٥ سنة، لكن الخدمات الرقمية الجديدة يمكن أن تتنامى إلى حد بعيد في غضون شهور. وتستطيع المؤسسات الوقوف على اختيارات استراتيجية بشأن ما إذا كان يجب عليها محاولة ريادة الابتكار في قطاعها أم اتباع الآخرين. يحظى الرواد أحيانًا بأفضل فرصة لجني أعظم المكافآت من أفكارهم. فشركة دوبونت الكيميائية — على سبيل المثال — قادت على الدوام شركات أخرى في إدخال منتجات جديدة إلى السوق لأكثر من قرن. إلا أنه ربما يصعب الحصول على «ميزة الرائد الأول» والحفاظ عليها. فعادةً ما تحمل مخاطر كبيرة، حيث إن السوق ربما لا يكون مهيأً بالكامل، وربما تتراكم تكاليف أعلى لتحفيز الطلب.

تختار مؤسسات أخرى التعلم من الرواد، فتقتضي بالابتكارات التي تبدو فعالة، وتتجنب أي مخاطر تلاحظها. فيستطيع التابع السريع الحصول على مكافآت ضخمة، مثلما كانت مايكروسوفت تستجيب بسرعة دومًا لابتكارات الآخرين الذين كانوا يتحملون المخاطر الأولية. ولا تتمتع الكثير من المؤسسات بالمهارات أو الموارد التي تجعلها من الرواد الأوائل أو التابعين سريعي التحرك. ومع ذلك، فإنها ربما تستفيد من الابتكار الذي يحسِّن المنتجات أو العمليات أو الخدمات أو يعدِّلها أو يوسع نطاقها. وأيًّا كان وضع المؤسسة كمبتكرة، ومهما كانت الاستراتيجية التي تريد اتباعها، فإن قدرتها على تقدير البعد الزمني من المحتمل أن يكون لها تأثير مهم على أدائها.

هوامش

(1) © Bettmann/Corbis.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤