الفصل الخامس

عبقرية توماس إديسون التنظيمية

تتمتع المؤسسات بنطاق من الاختيارات بشأن كيفية تنظيم نفسها من أجل التحديات المتطورة باستمرار في الابتكار؛ مثل الهياكل والإجراءات التي تتبناها، والموظفين والحوافز التي تستخدمها. وتعكس هذه الأمور استراتيجية المؤسسة وأهدافها من الابتكار.

(١) إديسون

إننا نتذكر توماس إديسون (١٨٤٧–١٩٣١) بقدرته على الإبداع والابتكارات واسعة النطاق التي قدمها. فقد حصل على أكثر من ١٠٠٠ براءة اختراع، واخترع الفونوجراف والمصباح الكهربائي، وتوزيع الطاقة الكهربائية، من بين إنجازات أخرى بارزة، وحسن التليفون والتلغراف وتكنولوجيا الصور المتحركة. وأسس العديد من الشركات، منها جنرال إلكتريك. وكان مسئولًا أيضًا عن تمهيد الطريق لتطبيق أسلوب منظم للغاية يرتب عملية الابتكار، وهذا هو ما يعنينا هنا.

كان إديسون، مثل جوسايا وِدجوود، أصغر الأبناء في عائلة كبيرة ظروفها متواضعة، وقد تلقى قدرًا قليلًا من التعليم الرسمي، وبدأ العمل في سن مبكرة — ١٢ عامًا — وابتُلي بإعاقة الصمم التي أثرت في حياته وعمله. وكان إديسون يتسم بالمِثل بالتصميم على النجاح والاجتهاد في العمل، وكان يشترك مع وِدجوود في تقديره لتوماس بين، مما أثر أيضًا في نظرته الديمقراطية للعالم. وربما كان إديسون فظًّا وسريع الغضب وعديم الصبر، ولكنه كان أيضًا حسن المظهر وطيب القلب وكريمًا.

بدأ إديسون حياته العملية كعامل تلغراف، وبدأ يجري التجارب في أثناء مناوبة الليل حين لا يلاحظه أحد. حصل على أول براءة اختراع له، لمسجل تصويت كهربائي، عندما كان عمره ٢٢ عامًا. ونقلته شهرة اختراعاته من بداياته المتواضعة إلى الدوائر العالية. فعرض جهاز الفونوجراف على الرئيس هايس في البيت الأبيض في عام ١٨٧٨، وكان صديقًا مقربًا لهنري فورد. ويقال إنه أثر على فورد في إمكانية استخدام محركات البنزين. وكان شركاؤه في العمل الرأسماليين البارزين في هذا الوقت، مثل جى بي مورجان وأسرة فاندربيلت.

كان أسلوب إديسون في العمل شديدًا وقاسيًا. فكان يطالب بتحسين مستمر في الابتكارات من موظفيه، وكان يقلل من شأن المعارضة بكل ما أوتي من قوة. فحملته ضد التيار المتردد وتشجيعه للتيار المستمر، الذي كان اختياره المفضل لتوصيل الكهرباء، تدنت إلى مستوى بغيض لحرب دعائية حول مزاياهما النسبية للكرسي الكهربائي. فلم يتردد إديسون في عمل عروض لصعق الحيوانات بالتيار المتردد لإظهار مخاطره. واشتملت هذه العروض على الفيل توبسي سيئ الحظ، وإن كان سيئ الطباع، الذي صور إديسون وفاته في لونار بارك من أجل اكتساب قيمة دعائية إضافية. وأصبح التيار المتردد، أفضل النظم، هو المسيطر في نهاية الأمر، وتوضح جليًّا الطبيعة المحتدمة للمعركة بين هذه المعايير الفنية المتنافسة أهمية امتلاك النسخة المسيطرة.

حقق إديسون نجاحات تجارية ضخمة، إلا أنه كان له نصيب من الإخفاقات في المقابل. فكانت هناك تحولات باهظة نسبيًّا وغير مجدية إلى التعدين وصناعة الأسمنت. فشل في إدراك الاهتمام العام بشهرة الموسيقيين، عندما رفض لسنوات ذكر أسمائهم في التسجيلات. وبثقةٍ في نفسه، لم يصرح أبدًا بأنه فشل، ولكن بأنه اكتشف ١٠٠٠٠ طريقة لم تحقق نجاحًا.

كان امتلاك الملكية الفكرية ضروريًّا لإديسون؛ فكانت براءات الاختراع التي مصدرها الأبحاث التي تجري في مختبراته تنسب إليه بصرف النظر عن إسهامه. يقول أحد مساعديه الذي ظل يعمل معه وقتًا طويلًا: «في الواقع، إن إديسون اسم جمعي ويشير إلى عمل الكثير من الرجال.» ولحرصه الشديد على براءات اختراعه، كان يتجاهل أحيانًا الملكية الفكرية المنسوبة لآخرين. وكان يستخدم هو وشركاؤه في العمل بانتظام براءات الاختراع لإعاقة تطور المنافسين.

على الرغم من الاحتفاء به في حياته، وإطلاق الصحافة عليه اسم «الساحر»، فإنه واجه نقدًا عدائيًّا من منافسيه. وكان من بين النقاد نيكولا تيسلا الذي كان لديه كل الحق في الشعور بالمرارة؛ فكان تيسلا يعمل لدى إديسون عندما اخترع التيار المتردد، قبل تسويقه مع شركة ويستنجهاوس كوربوريشن. ادعى تيسلا أنه لم يحصل على الأجر الذي وُعِد به. وقد ندم إديسون في وقت لاحق من حياته على أسلوب معاملته له. ويفكر البعض أن السبب في عدم مضي إديسون قدمًا في التيار المتردد، على الرغم من إتاحة العديد من الفرص أمامه للقيام بذلك، هو أنه لم يخترعه بنفسه، وهي حالة من متلازمة «لم يُخترع هنا». وبعد وفاة إديسون، ذكر تيسلا للأجيال اللاحقة إهمال مديره السابق الشديد بأبسط قواعد النظافة الشخصية.

استُمد أسلوب تنظيم إديسون لجهوده الإبداعية من منهجه العام في الابتكار. فكان يتبع دائمًا مسارات متعددة للأبحاث، متمنيًا ترك الخيارات مفتوحة لحين ظهور المنافس الأقوى، عندما تكون الموارد والجهود مركزة. فمن خلال عمل إديسون في مشروعات متعددة في وقت واحد، كان يؤمِّن نفسه بحيث لا تعتمد تيارات الدخل المستقبلية على تطور واحد. فكان يدرك تمامًا كيف تؤدي ملاحقة مشكلة واحدة إلى أخريات — عادةً غير متوقعة تمامًا — وفهم قيمة الصدفة والمصادفة و«العارض».

بحث إديسون في إمكانية الجمع بين الأفكار المتعلقة بمجالات بحث مختلفة، وكانت لديه استراتيجية لإعادة استخدام المكونات المختبرة الخاصة بماكينات أخرى وتطبيقها كأساسات في تصميمات جديدة. وقال إديسون إنه استوعب الأفكار بسهولة من كل مصدر، وكان يبدأ دائمًا من حيث توقف الآخرون. فمن أجل اختراع وتسويق المصباح الكهربائي، على سبيل المثال، جمع بين الأفكار من خلال الاعتماد على شبكة من الباحثين والخبراء الماليين والموردين والموزعين. وعلى الرغم من أن فكرة المصباح الكهربائي كانت موجودة منذ عقود، فإن إديسون باستخدامه التيار الكهربائي منخفض الشدة، وفتيلة مكربنة، وفراغ عالي الجودة، اخترع منتجًا طويل العمر نسبيًّا. وكانت مبادئه تتمثل في إجراء تجارب ووضع نماذج أصلية كثيرة قدر المستطاع، على نطاق ضيق، وعمل تصميمات بسيطة قدر المستطاع. وبمجرد حدوث إنجاز، كان يدرك أنه سيتطلب قدرًا كبيرًا من الأبحاث والتجارب المستمرة من أجل تحويله إلى منتج ناجح. فقال إنه عادةً ما كان يستغرق من ٥ إلى ٧ سنوات حتى يكمل شيئًا، وتظل بعض الأشياء غير مكتملة مدة ٢٥ سنة، وعلى حد قوله: «العبقرية هي واحد بالمائة إلهام، وتسعة وتسعون بالمائة اجتهاد.»

أدرك إديسون أن القيمة الأكبر تعود إلى المتحكم في النظام الفني، وليس إلى منتِج مكوناته الفردية، الذي يعتمد على ضبط النظام. وظهر تفكيره في النظم جليًّا في تطوير صناعة توزيع الكهرباء التي بدأ تشغيلها في نيويورك في عام ١٨٨٢. فلإدراك إديسون لخوف الناس من الأشياء غير المألوفة، توصل بذكاء إلى توليفة بين الأشياء الجديدة والأشياء الموجودة بالفعل في نظامه الكهربائي. استخدم بنية تحتية معترف بها من أجل توصيل الكهرباء، منها وضع أسلاك تحت الأرض مثل مواسير الغاز واستخدام لوازم تشغيل الغاز الموجودة في المنازل.

كان منهج إديسون في تنظيم مختبراته البحثية يعتمد على خبرة الآخرين، كحال العديد من ابتكاراته. فصناعة التلغراف التي بدأ فيها إديسون حياته المهنية كان بها عدد من الورش البحثية الصغيرة المشتملة على عدد من معدات التجارب، وأجرى إديسون تجارب في إحدى هذه الورش في بوسطن. وعند وصوله إلى نيويورك في عام ١٨٦٩، استخدم ورشة أخرى قبل إنشاء مختبره في نيوآرك، لعمل تصميمه لماكينات تيكر لإرسال أسعار البورصة.

يكمن ابتكار إديسون التنظيمي في مدى وحجم الأنشطة البحثية التي تُجرى. فكان يستثمر موارد مالية وتكنولوجية في البحث عن الابتكار بقدر يفوق ما قامت به أي مؤسسة أخرى من قبل.

أسس إديسون مختبر مينلو بارك في عام ١٨٧٦ حتى يستطيع تكريس نفسه بالكامل «للعمل في الاختراع». وأحضر معه موظفين لا غنى عنهم، منهم مصمم وميكانيكي ومحاسب وخبير رياضيات وفني اختبار معادن وكيميائي ونافخ زجاج وكاتب حسابات. تقع مدينة مينلو بارك على بعد نحو ٢٥ كيلومترًا من مانهاتن، وكانت وقتها قرية صغيرة، وبحلول عام ١٨٨٠، كان ٧٥ شخصًا من سكانها الذين يصل عددهم إلى ٢٠٠ شخص يعملون لدى إديسون. وكانت بداية مينلو بارك بمكتب ومختبر وورشة ميكانيكا، وأضاف إديسون إلى ذلك على مر السنوات منزلًا زجاجيًّا واستديو تصوير وورشة نجارة ومبنى لإنتاج الكربون وورشة حدادة، وورشة ميكانيكا أخرى، وأضاف مكتبة.

في ذلك الوقت، كان عدد قليل فحسب من أفضل الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية يوجد بها مختبرات، وكانت سيئة التجهيز وتركز أساسًا على التدريس. في حين كان إديسون يمتلك معدات علمية جيدة، منها جلفانومتر عاكس باهظ الثمن، وإلكتروميتر، وآلات فوتومترية. وفي خلال بضع سنوات، أصبحت قيمة هذا المخزون من الأدوات ٤٠٠٠٠ دولار (بما يعادل ٨٩٠٠٠٠ دولار بأسعار ٢٠٠٨).

كان هدف إديسون هو الحصول على كل الأدوات والماكينات والمواد والمهارات اللازمة للاختراع والابتكار في مكان واحد. وكان ما ساعد دمج المهارات المتنوعة في مينلو بارك هو اندماجها الاجتماعي الوثيق مع المجتمع المحلي.

على أقصى تقدير، كان لدى إديسون أكثر من ٢٠٠ ميكانيكي وعالم وحرفي وعامل يساعدون في الاختراعات. وكان العمل ينظم في مجموعات تضم من ١٠ إلى ٢٠ فردًا، وكان كل منها يعمل في وقت واحد على تحويل الأفكار إلى نماذج أصلية صالحة للعمل. وبما أن كل شخص في الفريق كان لديه الهدف نفسه، كان التواصل والفهم المشترك في أعلى درجاته. وسجل إديسون خلال ٦ سنوات في مينلو بارك ٤٠٠ براءة اختراع. فكان يهدف إلى التوصل إلى اختراع صغير كل ١٠ أيام، واختراع آخر كبير كل ٦ أشهر أو نحو ذلك.

وفي عام ١٨٨٦، نقل إديسون مختبره الرئيسي إلى ويست أورانج في نيو جيرسي، من أجل زيادة حجم أبحاثه وقدرته التصنيعية. وكانت ويست أورانج أكبر بعشر مرات من مينلو بارك. ويصف جوزيفسون، كاتب سيرة إديسون، السبب وراء الانتقال بقوله على لسان إديسون:

سيكون لدي أفضل المعدات وأكبر المختبرات، ومرافق متفوقة على أي مرافق أخرى من أجل الاختراعات السريعة وزهيدة الزمن، والوصول بها إلى شكل تجاري له نماذج أنماط وماكينات خاصة … فالاختراعات التي كانت تستغرق من قبل شهورًا وتكلف مبالغ طائلة يمكن القيام بها الآن في غضون يومين أو ثلاثة وبتكلفة ضئيلة للغاية، حيث سأطرح كمًّا هائلًا من كل مادة تقريبًا يمكن تصورها.

أنتج مصنع إديسون الأجزاء الضرورية للأبحاث، فتطورت الأبحاث وأدت إلى صناعة الماكينات من أجل الإنتاج واسع النطاق في المصنع. فخلال اختراع الفونوجراف على مدار ٤٠ سنة، كانت الأسطوانات التي تُوصل إليها عن طريق الأبحاث تصنع في البداية من رقائق القصدير، ثم من مركب شمعي، ثم من البلاستيك. ولم يكن الاستخدام الأساسي النهائي للفونوجراف هو ما كان متصورًا في البداية. فبسبب هذا التعلم التكنولوجي والسوقي، ساعدته القدرة على زيادة حجم إنتاج بنيات جديدة على نحو سريع في الحصول على حصة كبيرة من السوق. ووظفت مصانع إديسون في نيويورك في إحدى المراحل أكثر من ٢٠٠٠ شخص، وهو واحد من أكبر الاهتمامات الصناعية في هذا الوقت. وعلى العكس من المختبرات عالية الأداء التي كانت قائمة، كانت مصانع الإنتاج الضخم هذه تقسم العمل على نطاق شامل، وأدى العمل المكرر وغير الماهر إلى العديد من النزاعات الصناعية.

أدى حجم الأنشطة في ويست أورانج حتمًا إلى مزيد من الأقسام والإدارات، مما استحوذ على المزيد من وقت إديسون. وعلى الرغم من إنتاجية ويست أورانج العالية، فإنه لم يضاهِ أبدًا الإنتاج الاستثنائي لفترة مينلو بارك.

جاء على لسان إديسون: «يساوي الرجل بضعة دولارات في اليوم إذا عملت كل أجزاء جسمه ما عدا رأسه، أما إذا أعمل عقله، فهو يساوي أي شيء يمكن لعقله إنتاجه.» وانتقد إديسون أيضًا «الأغبياء» و«البلهاء» انتقادًا لاذعًا، فقال: «إن الرجل الذي لا يعتزم تنمية عادة التفكير تفوته أعظم متعة في الحياة.» وكان يعيِّن خريجين، لكنه فضل بوجه عام غير المتخصصين على المتخصصين، ويشير البعض إلى أن هذا حد من التطور المستقبلي لمؤسسته البحثية. وكانت له أساليب خاصة في التعيين؛ ففي السنوات الأولى، كان يوجه المتقدمين للعمل معه إلى كومة من الخردة ويخبرهم بتجميعها وإخباره متى ينتهون من ذلك. وكانت الخردة مُوَلِّدًا، واجتاز كل من نجح في تجميعه اختبار التعيين. وفي السنوات اللاحقة، جمَّع استبيانات مستفيضة في المعرفة العامة، وكان يجب على المفتشين المحتملين اجتيازها قبل ترقيتهم.

fig8
شكل ٥-١: كان إديسون يشجع الترفيه، إضافة إلى العمل الجاد، وفي هذه الصورة عمال يحضرون جلسة «غناء».1

كان أسلوب إديسون يتمثل في تزويد الموظفين بمخطط عام لما يريده، ثم يتركهم ليقرروا أفضل السبل لتحقيق الأهداف. واشتهر بقوله: «بالطبع لا توجد قواعد هنا، فنحن نحاول إنجاز شيء.» وقال أحد موظفي إديسون: «لا يوجد شيء هنا خاص؛ فكل فرد له حرية الاطلاع على كل ما يستطيع، والرئيس سيخبره بما سيحدث لاحقًا.»

كان «يدير من خلال التجول» وتوجيه النصح للفرق وتشجيعها. وعمل إديسون ما يقرب من ١٨ ساعة في اليوم، وكان التمرين الذي يحصل عليه من المشي من طاولة اختبار لأخرى يعطيه «فائدة وتسلية أكبر … من التي يحصل عليها بعض أصدقائي ومنافسي من ممارسة رياضات مثل الجولف». ويصوره بالدوين، كاتب سيرته، بأنه كان «مجبرًا» على «التجول بتواضع ووضوح في الممرات ذهابًا وإيابًا، والتواجد في كل مكان، وعدم التوقف عن اختلاس النظر، وكان يشمر عن ساعديه، ويتساقط رماد سيجاره الذي لا ينتبه إليه على أكتاف عمال اللحام وقاطعي القوالب».

عمل الموظفون ساعات طويلة على نحو استثنائي، فقد اشتكى تيسلا من أنه في أول أسبوعين له تمكن من الحصول على ٤٨ ساعة نوم فقط. وتقول الأقاويل إن إديسون كان يعمل خمسة أيام وليالٍ متواصلة، لكن يحتمل أنها كانت ثلاثة، وكان معروفًا عنه أن أفضل وقت للاتصال به في المصنع هو بعد منتصف الليل. ويقول ميلر، أحد كتاب سيرته أيضًا: «كانت الجريمة الكبرى التي يرتكبها مختبر إديسون هي النوم، إذ كان هذا مصدرًا للخزي، إلا إذا لمح أحد الرئيس وهو يأخذ قيلولة، فحينها يتبعه الجميع.» وقد استُخدمت طرق شتى لصرف من يمشون في أثناء نومهم عن هذا التصرف، منها «جهاز إحياء الجثث»، وهو ضوضاء بشعة تصدر بجوار الأذن و«جهاز بعث الموتى»، الذي كان يتضمن على ما يبدو إشعال النار في النائمين باستخدام مادة متفجرة صغيرة.

ربما كان العمل مع إديسون خطيرًا؛ إذ فقد كلارنس دالي، مساعده الرئيسي، ذراعه ومعظم أصابع يده خلال تجارب على الفلوروسكوبي كاد يفقد إديسون فيها بصره. وذكرت الصحافة المحلية أن إديسون قال بشهامة إنه على الرغم من أن دالي لم يستطع تأدية أي عمل، فإن اسمه سيظل في كشف الرواتب.

وها هو جوزيفسون يفصح عن تسجيله لذكريات اثنين من موظفي إديسون؛ الأول: شاب متقدم للعمل، قيل له: «إن كل متقدم للوظيفة في حاجة لمعرفة أمرين: كم ندفع من راتب وعدد ساعات عملنا. حسنًا، نحن لا ندفع أي شيء ونعمل طوال الوقت.» فقبل المتقدم بالوظيفة. أما الثاني: وهو رجل يتذكر عمله لدى إديسون لمدة ٥٠ عامًا، فيتحدث عن تضحياته التي نتجت عن قضاء ساعات طويلة في العمل، ومنها عدم رؤيته لأولاده وهم يكبرون. وعند سؤاله عن سبب قيامه بهذا، أجاب: «لأن إديسون يجعل عملك ممتعًا؛ فجعلني أشعر بأنني أصنع شيئًا من أجله، وأنني لست مجرد عامل.»

وعلى الرغم من هذه الممارسات التي تبدو وحشية حاليًّا، فإن إديسون شجع قوى عاملة مبدعة ومنتجة. فكان الموظفون المهمون يحصلون على علاوات من أرباح الاختراعات، مع أن هذا الحافز لم يستمر ليحصل عليه نيكولا تيسلا. وكان يختلط بالموظفين أثناء الوجبات الخفيفة وتدخين السيجار وتبادل النكات وسرد القصص والرقص والغناء. فقد أقام مأدبة شهيرة لوجبة خفيفة في منتصف الليل، واشتمل المكان على لعبة سكة حديدية كهربائية للعب بها ودب أليف. يقول آندرو هارجادون، أستاذ الإدارة الأكاديمي:

قد يعمل أصدقاؤنا [المهندسون] لأيام متواصلة بحثًا عن حل لمشكلة ما، ثم يقطعون عملهم باستراحات متأخرة بالليل، يتناولون فيها الفطائر ويدخنون التبغ ويغنون الأغاني الفاسقة، ويقضونها حول الأرغن الضخم الذي كان يشغل أحد أركان المختبر.

قال أحد مساعدي إديسون، في قول مقتبس من ميلارد، إنه كان هناك «مجتمع صغير من أرواح شقيقة، كلها لشباب متحمسين لعملهم ومتوقعين لوقوع نتائج عظيمة»، ولا يمكنهم تمييز العمل عن الترفيه.

مع ذلك اشتكى تيسلا من تركيز إديسون على الفطرة والحدس أكثر من النظرية والحساب، وبدت الممارسات في المختبر أحيانًا عشوائية. وعند البحث عن أفضل مادة لفتيل المصباح الضوئي، اختبر مواد بعيدة الاحتمال بدايةً من شعر الحصان إلى الفلين ولحيات عماله. وعندما حدث الإنجاز باختراع المصباح المتوهج ذي الفتيل الكربوني، لم يدرك موظفو إديسون حجم اكتشافهم إلا بعد عدة شهور من الحدث.

بالرغم من ذلك، كان هناك تركيز وانضباط. وزعم إديسون أنه لم يكمل أي اختراع لم يفكر فيه من منظور الخدمة التي يقدمها، فيقول إنه كان يكتشف ما يريده العالم، ثم يواصل الاختراع. فكان لا بد أن يوجد تطبيق تجاري عملي للمشروعات. ومع اشتهار إديسون ﺑ «التخمين»، كان يصر على احتفاظ المساعدين في المختبر بسجلات مفصلة عن تجاربهم في أكثر من ١٠٠٠ مفكرة، وقد ساعد هذا أيضًا في تسجيل براءات الاختراع. وكان إجراء التجارب موسعًا؛ فاستُخدم ٦٠٠٠ نوع مميز من النباتات، خاصةً البامبو، من أجل الفتيلات المكربنة. وأجريت ٥٠٠٠٠ تجربة منفصلة لاختراع بطارية إديسون من الحديد والنيكل. وسجل أحد مساعدي إديسون، الذي عمل عن قرب من رب عمله، ١٥٠٠٠ تجربة في مشكلة معينة.

كانت ويست أورانج تحتوي على مكتبة شاملة تضم نحو ١٠٠٠٠ مجلد، وكان إديسون يقرأ باستمرار عن الأحياء والفلك والميكانيكا والميتافيزيقا والموسيقى والفيزياء والاقتصاد السياسي. وبالرغم من انتقاد إديسون لاستخفافه بالتعليم الرسمي، فإنه وظف عالمين بارزين في الرياضيات، وأصبح أحدهما أستاذًا في هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وعُرف أحد الكيميائيين الرئيسيين لديه ﺑ «لاوسون الأساسي» بسبب التزامه بالمبادئ العلمية الأساسية. والتقى إديسون بباستير والطبيب وعالم الفيزياء الألماني هيلمهولز، وأعجب بهما. وعمل جورج برنارد شو لحساب إديسون لبعض الوقت في لندن، وهو أمر غريب.

كانت الرسومات والمصنوعات مصادر مهمة للإبداع والتواصل. وقد ورد عن إديسون أنه قال: «يمكن العثور على الإلهام في كومة من الخردة. فأحيانًا يمكنك تجميعها بخيال بارع وابتكار شيء ما.» وفي عام ١٨٨٧، اشتهر مختبره باحتوائه على ٨٠٠٠ نوع من المواد الكيميائية، وكل أنواع المسامير الملولبة والأربطة والأسلاك والإبر والحيوانات، بدءًا من الجمال إلى حيوان المنك، والريش من الطواويس والنعام، والحوافر والقرون والأصداف وأسنان قرش. ووجد إديسون أنه من الأسهل التفكير في شكل صور بدلًا من التعبير بالكلمات. فعندما تعاقدت معه شركة ويسترن يونيون تليجراف في عام ١٨٧٧ من أجل تحسين التليفون الذي اخترعه ألكسندر جراهام بل، صنع أكثر من ٥٠٠ رسم تخطيطي أدت لتصميمه المعدَّل.

وإضافةً لجهود إديسون الداخلية، اجتهد في تنقيح شبكات أعماله وأبحاثه. فكان وسيطًا للتكنولوجيا، ينقل الأبحاث بين الصناعات. وإضافةً لتجاربه، أجرى أبحاثًا تعاقدية في صناعات التلغراف والمصباح الكهربائي والسكك الحديدية والتعدين. وعلى حد قول هارجادون:

أزال إديسون بهدوء الحد الفاصل بين التجارب التي أجراها للآخرين والتي أجراها لنفسه. فمن كان يدري إن طُبقت نتيجة أحد الأبحاث التعاقدية على مشروع آخر، أو إن استُخدمت المعدات التجريبية المصنوعة لأحد العملاء في عمل لعميل آخر.

ويرى هارجادون أن قدرته على الابتكار باستمرار تكمن في الطريقة التي عرف بها كيفية استغلال المشهد المتشابك في عصره.

كان منهج إديسون يتسم بالتجربة والخطأ والعمل الجاد والمثابرة والمنهجية والصرامة وثبات الهدف واستخدام الأذهان الحاضرة والمراقبة الدقيقة. فكان يؤمن بأن الابتكار لا ينشأ من العبقرية الفردية، بل من التعاون، وهذه القدرة على العمل معًا وعبر الحدود تنتج من ثقافة وبيئة داعمة، وعلاقات اجتماعية وصناعية.

عمل إديسون في المرحلة الانتقالية بين عصر المخترع الفردي العظيم، ومؤسسة الابتكار النظامية المشتركة. فابتكر شكلًا من أشكال المؤسسات يتوافق مع المجتمع التكنولوجي الحديث المستجد، الذي حاكته سريعًا شركات كبرى مثل بل وجنرال إلكتريك. وفي مقال في صحيفة نيويورك تايمز في ٢٤ يونيو ١٩٢٨، قُدر أن اختراعات إديسون أنشأت صناعات تقدر بنحو ١٥ مليار دولار (بما يعادل ١٨٨ مليار دولار بأسعار عام ٢٠٠٨). فكانت شهرته عالمية، وأطلق الرئيس هوفر على إديسون لقب «المتبرع لكل البشرية»، وعند وفاته طلب من الناس غلق الأضواء في «دقيقة ظلام» تكريمًا لذكراه. وبدأ نعيه في نيويورك تايمز في ١٨ أكتوبر ١٩٣١ على هذا النحو: «جعل توماس ألفا إديسون العالمَ مكانًا أفضل للحياة، وأدخل الرفاهية النسبية على حياة العامل.» فلا يمكن للمبتكر أن يقدم إسهامًا أكبر من هذا.

fig9
شكل ٥-٢: دعا الرئيس هوفر إلى إطفاء المصابيح الكهربائية في «دقيقة ظلام» في ذكرى إنجازات إديسون.2

(٢) أماكن العمل

كما أظهر إديسون بوضوح، يزداد احتمال حدوث الابتكار في المؤسسات التي تتطلع إلى المستقبل وتتقبل المخاطرة وتتحمل التنوع والإخفاق. فمكان العمل المتسم بالمرح والسعادة حيث الحوار والضحك شائعان ترتفع فيه احتمالية الابتكار عن مكان العمل الرسمي البيروقراطي المفتقر لأي مشاعر إنسانية إلى حد بعيد. فعندما يُرحَّب بالتعبير عن الآراء، لا تتولد الأفكار بانتظام أكثر فحسب، بل تُطبق سريعًا أيضًا. ويُعبَّر عن المعارضة عندما تُتاح لها الفرصة لتكون مثمرة بدلًا مما يتبعها من إطاحة بالقرارات.

إن آيديو شركة تتسم بمحل عمل شديد الابتكار يحاكي بعض الدروس المأخوذة من إديسون. فهي مقدم ناجح لخدمات التصميم والابتكار، وتوظف أكثر من ٥٥٠ فردًا في مكاتب لها في جميع أنحاء العالم. وبَنَت سمعة حسنة بأنها تساعد الشركات الأخرى في الابتكار في منتجاتها وخدماتها من خلال تطبيق أساليب مبتكرة جرى تعلُّمها في استوديوهات التصميم وبيئات مدارس التصميم. وتجمع الشركة بين «العوامل الإنسانية» والتصميم الجمالي مع المعرفة الهندسية بالمنتج من أجل إنتاج منتجات للشركات بدايةً من أبل وحتى نايك وبرادا. وتشتمل تصميماتها على فأرة الكمبيوتر وبالم بايلوت وعدد من الكاميرات وفرش الأسنان. وصممت الحوت الذي كان نجم فيلم «ويلي الحر». وأسهمت آيديو في تصميم أكثر من ٣٠٠٠ منتج، وتعمل على إنتاج من ٦٠ إلى ٨٠ منتجًا في وقت واحد. ووصفت مجلة فاست كومباني شركة آيديو بأنها «أشهر شركة تصميم في العالم»، ووصفتها وول ستريت جورنال بأنها «ملعب الخيال»، ووصفت مجلة فورتشن زيارتها إلى آيديو بأنها «يوم في جامعة الابتكار».

لكي تتعامل الشركة مع العديد من المشروعات المتنوعة، توظف كمًّا كبيرًا من المواهب، وتتمتع أيضًا بصلات مميزة بمعهد التصميم في جامعة ستانفورد. فهي توظف الخريجين من علم النفس والأنثروبولوجيا والميكانيكا الحيوية، إضافةً إلى التصميم الهندسي.

ويتمتع قادة آيديو بقدرهم العالي في مجتمع التصميم الدولي. فهم يزعمون أن لديهم ثقافة مبتكِرة — «ليس بها قدر كبير من التسلسل الهرمي، وتتمتع بعلاقات كثيرة، وتتطلب أقل قدر من الأنانية» — وهذه الثقافة تستخدم:

منهج تعاوني يختبر في وقت واحد رغبات المستخدم والجدوى الفنية وقابلية التطبيق على العمل، ويوظف عددًا من الأساليب من أجل تصور الفرص وتقييمها وتهذيبها من أجل التصميم والتنمية، مثل الملاحظة والعصف الذهني وعمل نماذج أولية سريعة والتطبيق.

تبيع آيديو مناهج تصميمها إلى شركات أخرى في شكل دورات ومواد تدريبية. فهي تمتلك مخزونًا ضخمًا — «صندوق ألعاب» — من الأدوات والتصميمات، من بين كم كبير من المنتجات التي يلجأ إليها (ويلهو بها) الموظفون عند البحث عن حلول لمشكلات جديدة. فهي شديدة البراعة في استخدام الأفكار المبتكرة التي طورت من أجل صناعة أو مشروع معين استخدامًا مرحًا لاكتشاف تطبيقها المبتكر في صناعات ومشروعات أخرى. ويسمح المرح في هذه البيئة بتبادل العناصر، والارتباط والدمج العرضي بين الأفكار غير المترابطة.

(٣) الهياكل

كان إديسون رائدًا لأسلوب التنظيم، لكن المؤسسات لديها نطاق واسع من الاختيارات بشأن كيفية هيكلتها لفرص الابتكار. فبعضها يختار أن تكون شديدة الرسمية والبيروقراطية، ويفضل بعضها الآخر أن تكون غير رسمية وغير مقيَّدة، ويحاول البعض القيام بالأمرين معًا، بتشجيع أقسام من المؤسسة على التصرف على نحو مختلف تمامًا عن الآخرين.

ميَّزت إحدى أوائل الدراسات عن الابتكار في المؤسسات، وهي دراسة بيرنز وستوكر في عام ١٩٦١، بين الأشكال الميكانيكية والعضوية للتنظيم. فكلاهما أشار إلى أن الأشكال الميكانيكية ملائمة للظروف المستقرة التي يمكن التنبؤ بها، وتلائم الأشكال العضوية الظروف المتغيرة والمواقف غير المتوقعة. وما زال المبدأ الأساسي العام مطبقًا؛ أن أسلوب تنظيم الأشياء يجب أن يكون ملائمًا للظروف والأهداف الخاصة بالابتكار. فعندما تكون التقنيات والأسواق سريعة التطور ومستقبلها غامضًا، توجد حاجة — كما في حالة مينلو بارك — إلى تشجيع التجربة والإبداع دون تقييدها بالبيروقراطية. وعندما تقل بعض هذه الشكوك، توجد حاجة لمنهج أكثر تخطيطًا من أجل تطوير المشروعات، مع ميزانيات وعمليات محددة للغاية ومهيأة لتقديم الابتكار. إضافةً إلى ذلك، يتغير شكل التنظيم المستخدم بمرور الوقت، مع ظهور قضايا ابتكار مختلفة. ومع تقدم عملية تطوير الابتكار، تنتقل الهياكل التنظيمية الداعمة من وضع «التفكك» إلى وضع «الإحكام».

(٣-١) البحث والتطوير

يمكن هيكلة البحث والتطوير بطرق متنوعة للغاية. فقد اعتمدت العديد من الشركات الرائدة في الماضي اعتمادًا حصريًّا على مختبرات ضخمة مشتركة للاضطلاع بأبحاثها؛ مختبر مينلو بارك واسع النطاق الخاص بهم. والنموذج على هذا الشكل من البحث والتطوير «المركزي» هو مختبرات بل، التي وظفت ٢٥٠٠٠ موظف في ذروتها، وحصلت على ٣٠٠٠٠ براءة اختراع. وحصلت على ست جوائز نوبل في الفيزياء، واكتشفت — ضمن أشياء أخرى — الترانزستور والتبديل الرقمي، وأقمار الاتصالات الاصطناعية، والراديو المتنقل الخلوي، والصور المتحركة الصوتية، وتسجيل الاستريو. وأدى أحد اكتشافاتها العلمية الأساسية إلى تطوير علم الفلك اللاسلكي. وتأسست هذه المختبرات في عام ١٩٢٥، وكان مقرها في نيو جيرسي، وكانت المجموعة البحثية الخاصة بشركة إيه تي آند تي، قبل أن تستحوذ شركة ألكاتيل لوسنت على هذه الشركة. ومع اشتهار هذه المختبرات بقوتها السابقة في الأبحاث الأساسية، انتقلت تدريجيًّا — شأنها شأن العديد من المختبرات المشتركة — نحو أبحاث تطبيقية أكثر.

إن النقد الموجه لهذا الأسلوب في التنظيم يتمثل من منظور الشركات في أسلوب ميل الأبحاث إلى الانفصال الشديد عن احتياجات العملاء، وبأن اتجاهه بوجه عام طويل الأمد للغاية. وفي المقابل، تخلع شركات أخرى صفة «المركزية» عن هياكل تنظيم البحث والتطوير، بدلًا من امتلاكها لمختبر مركزي، حيث توجد مختبرات بالقرب من شركات معينة أو عملاء معينين.

تتمثل المشكلة في هذا الشكل من الهيكلة في أن الأبحاث تميل إلى التركيز على القضايا قصيرة المدى، وتفوت فرص الابتكارات الأكثر جذرية أو إثارةً للفوضى. وتجمع بعض الشركات، من أجل تجربة الشكلين والحصول على فوائدهما، بين مختبر مركزي وعدد من المختبرات اللامركزية للبحث والتطوير، لكن هذا الاختيار متاح فقط لعدد قليل من الأغنياء.

تتخلى مؤسسات أخرى عن هياكل البحث والتطوير التنظيمية الرسمية إجمالًا. فعلى الرغم من امتلاك إنتل — شركة أشباه الموصلات — ميزانية للبحث والتطوير تقدر بمليار دولار، فلم يوجد لديها هيكل داخلي للبحث والتطوير قط. فهي تعتمد على شبكات داخل الجامعات والمجتمع التكنولوجي في سيليكون فالي لتوفير مدخلات الأبحاث. ويواجه مثل هذا الشكل «الشبكي» لتنظيم البحث والتطوير تحدٍّ يكمن في أن المؤسسات، لكي تستقبل المعرفة من أبحاث خارجية، تحتاج أن يكون لديها القدرة الداخلية على استيعابها. فهي بحاجة إلى مهارات من أجل فهم المعرفة القادمة من مصدر خارجي وتفسيرها واستخدامها، وعادةً ما تتطلب من خبرتها العميقة جذب شركاء أبحاث عالي الجودة.

يكمن التحدي التنظيمي في البحث والتطوير في العثور على التوازن بين الأبحاث ذات المدى الأطول التي تقدم خيارات جديدة ونظرات ثاقبة في التقنيات المحتمل إثارتها للفوضى، والأبحاث التي تتعامل مع المشاكل قصيرة المدى أو الحالية والمحددة بوضوح. وتبدو الشركات عادةً غير راضية بما لديها من هياكل بحث وتطوير أيًّا كانت. ففي الهياكل المركزية، تشعر الشركات بأن احتياجات العميل مهملة من حيث الأهمية، وربما تفقد الهياكل اللامركزية ابتكارات قيمة محتملة. وعندما يُستخدم الشكلان، تحدث توترات مستمرة حول مستويات التمويل النسبي وملكية المشروعات. وتكمن مشاكل البحث والتطوير الشبكي في إدارة المدخلات وجمعها من الأطراف المتعددة، والنزاعات حول ملكية حقوق الملكية الفكرية.

وصف هنري تشيزبراو في السنوات الأخيرة إحدى الاستراتيجيات التي تستخدمها الشركات من أجل تحسين العائدات على البحث والتطوير الداخلي والوصول للمشاركين الخارجيين من أجل الابتكار ﺑ «الابتكار المفتوح». وتُعد شركة بروكتر آند جامبل للمنتجات المنزلية مثالًا على «الابتكار المفتوح»؛ فهي شركة معتمدة على العلم، ولديها التزام داخلي قوي بالأبحاث. فتوصف استراتيجيتها ﺑ «التواصل والتطوير»، وبدلًا من الاعتماد بنسبة ٩٠٪ على استثماراتها البحثية كما في الماضي، فإنها تهدف إلى الحصول على نصف ابتكاراتها من خارج الشركة. وتدل الطريقة التي تجمع بها أبحاثها الداخلية مع العلاقات الخارجية على استراتيجية تحاول الاستفادة من طرق تكميلية لتنظيم الابتكار في الشركة نفسها.

كان للنمو السريع للقدرة البحثية في الصين والهند في السنوات الأخيرة القدرة على تغيير أساليب تنظيم العديد من الشركات متعددة الجنسيات للبحث والتطوير لديها. فتنشئ الشركات مختبرات في الخارج من أجل اعتماد منتجاتها وخدماتها في الأسواق المحلية، والاستفادة من خبرة بحثية محلية معينة، وإنشاء شبكات دولية للتعاون البحثي. وأنشأت العديد من الشركات الأمريكية والأوروبية مؤسسات بحث وتطوير ضخمة في الهند والصين، خاصةً في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. ويمكن أن تتغير الاستراتيجية التي تستخدمها هذه الشركات بمرور الوقت. فبدأت إريكسون — شركة الاتصالات السويدية — على سبيل المثال، الاستثمار في البحث والتطوير في الصين في ثمانينيات القرن الماضي؛ لأن ذلك ساعد في نيل عقود حكومية وكان دليلًا على النية الحسنة والالتزام. وازدادت نفقات البحث والتطوير في أوائل التسعينيات من القرن الماضي من أجل الاستفادة من العمالة البحثية الرخيصة والمساعدة في اعتماد منتجات إريكسون في السوق المحلية سريعة النمو. ولإدراك شركة إريكسون لجودة الباحثين الصينيين وإمكانياتهم، في كل من الشركة والجامعات المحلية، بدأت في أواخر التسعينيات في إنشاء مقر البحث والتطوير من أجل أسواقها العالمية في الصين. وفي أوائل القرن الحادي والعشرين، أُغلقت بعض مجموعات البحث والتطوير التابعة لها في جميع أنحاء العالم وانتقلت إلى الصين، وأصبحت مجموعات الأبحاث الصينية التابعة لشركة إريكسون مكونات رئيسة في جهود البحث والتطوير العالمية للشركة.

(٣-٢) تطورات جديدة

يُعد البحث والتطوير إحدى الطرق التي تنشئ بها المؤسسات خيارات من أجل المستقبل. وتُعتبر الطرق التي تنظم بها تطوير منتجها وخدمتها الجديدة ضرورية لتحديد مدى نجاحها في تحقيق خيارات المستقبل المتاحة لديها. وبينما يُعد البحث والتطوير بوجه عام المساحة التنظيمية للعلماء والمتخصصين الفنيين، عادةً ما يضم تطوير منتج وخدمة جديدة نطاقًا أوسع من الأفراد، من التصميم والتسويق وعمليات التشغيل. ويساعد هؤلاء المتخصصون في التعامل مع سبب شراء الأشياء وكيفيته، وما إذا كان يمكن صناعتها وتوصيلها وبأي تكلفة.

هناك العديد من الأدوات والأساليب المتاحة، مثل نظم «بوابة المرحلة» التي تدير عددًا من نقاط قرارات التوقف/الاستمرار في عملية التطوير، لتساعد في التخطيط للمنتجات والخدمات الجديدة. إن هذه الأدوات والأساليب مصممة لتساعد في الاختيار بين المشروعات المتنافسة، ولضمان أن المشروعات التي تحرز تقدمًا لديها موارد مناسبة. بيد أن هذه الأدوات لها حدود؛ فربما تكون مفيدة للغاية في إدارة عملية تطوير المنتجات، لكنها لا تخبرك بما إذا كانت هذه هي المنتجات المناسبة في المقام الأول. ويمكن أن تكون أيضًا إجرائية للغاية وتقتل المبادرة.

أجازت بعض المؤسسات، من أجل التغلب على تزمت البيروقراطية، «التهرب من عملهم»، أو السماح للموظفين بقضاء بعض الوقت في العمل على مشروعاتهم الخاصة. فمن خلال إعطاء الأفراد وقتًا — يمكن أن يمتد ليوم أو يومين في الأسبوع — خارج التزامات وظيفتهم الرسمية، تشجع الشركات عالية الابتكار، مثل جوجل وثري إم، الدافع الشخصي للابتكار والأفكار الجديدة على الظهور والازدهار.

هناك وسيلةٌ أخرى تُستخدم للتغلب بالحيلة على القيود التنظيمية المفروضة على الابتكار؛ تُسمى «أعمال الظربان». وكانت شركة لوكهيد أول من استخدم هذه الوسيلة من أجل تطوير الطائرات بسرعة وسرية في أثناء الحرب الباردة، ويُستخدم المصطلح لوصف مجموعة صغيرة شديدة الارتباط؛ تعمل على مشروع خاص، بتكتم شديد متعلق بتشغيل العمليات، داخل مؤسسة أكبر.

(٣-٣) عمليات التشغيل والإنتاج

كانت طرق صناعة المنتجات والخدمات الجديدة وتوصيلها محل اهتمام ابتكارات هائلة. فتعرض الإنتاج، على سبيل المثال، للأتمتة وشهدت عمليات التشغيل — وهي عمليات تحويل المدخلات إلى مخرجات — ابتكارات كبيرة في طرق تنظيم العمل. وساعد الابتكار في الإنتاج وعمليات التشغيل في إنشاء أسواق واسعة النطاق لمنتجات وخدمات عالية الجودة وذات أسعار مقبولة، مثل السيارات، والسلع والإلكترونيات الاستهلاكية، وأسواق السوبر ماركت، وسلاسل الفنادق.

يمثل تحليل آدم سميث لتقسيم العمل أحد المبادئ الرئيسة في تنظيم عمليات التشغيل والإنتاج. فبعد قراءة جوسايا وِدجوود لسميث، رأى كيف يمكن للجمع بين المتخصصين في مهام معينة، وبين تكنولوجيا قوة البخار الجديدة أن يحسن الإنتاجية في مصنعه. أشار سميث إلى أن تقسيم العمل مقيد بحجم السوق؛ فعندما تكبر الأسواق بالقدر الكافي، تأتي الفوائد من تقسيم العمل إلى أجزاء أصغر وتوظيف متخصصين مكرسين لمهام محددة بدلًا من الحرفيين الأكثر تكلفة أصحاب المهارة واسعة النطاق. وأشار أيضًا إلى أن التخصص أحد وظائف تقسيم العمل، لذا كلما زاد العمل الذي يمكن تقسيمه لعناصر أصغر منفصلة، زادت إمكانية توظيف متخصصين.

شرح سميث الفوائد الاقتصادية المستمدة من كفاءة تقسيم العمل. فيستطيع الأفراد، من خلال التركيز على نطاق أصغر من المهام، تحسين براعتهم والاضطلاع بالمهام بدقة وسرعة أكبر. فيحدث توفير في الوقت مع عدم وجود حاجة للانتقال من مهمة لأخرى. وعندما تكون المهام واضحة ومنفصلة، يمكن ابتكار ماكينات بسهولة أكبر لأتمتتها أو تحسينها من أجل زيادة الإنتاجية.

استخدم هنري فورد مبادئ التخصص والأتمتة في تطوير خط تجميع إنتاج السيارات من أجل السوق المستجد واسع النطاق في أوائل القرن العشرين. فكان هدف فورد هو التحكم الإداري الأكبر في عمليات الإنتاج الذي يفوق ما كانت تسمح به أشكال الإنتاج الحرفية السابقة. فكان الحل من وجهة نظره هو تطوير خط إنتاج غزير، به كميات مرتفعة من المنتجات موحدة المواصفات المصنوعة من أجزاء قابلة للتبادل. وتعلَّم فورد قيمة الأجزاء القابلة للتبادل من تصنيع كولت أرموري للمسدسات والإنتاج الغزير لمصانع البيرة، ومصانع التعليب، ومعبئي اللحوم. فجمع هذه المناهج وعدلها وبسطها من أجل إسراع الإنتاج وتوحيد الجودة على خطوط التجميع.

سمح نظامه بتقسيم العمل واختصاصه، مع توظيف العمال غير المهرة أو شبه الماهرين على ماكينات مرتفعة التكلفة مخصصة لصناعة أجزاء معينة، وكانت الإدارة والتصميم مسئولية محترفين مهارتهم محدودة. فاستبدلت الإدارة تحكم الحرفيين في العمل، وكانت سرعة العمل تظهر الحاجة لاستخدام المعدات لأقصى حد. ولأن الماكينات كانت باهظة الثمن للغاية، لم يكن من الممكن أن تتحمل الشركات تكلفة السماح لخط التجميع بالتوقف التدريجي، ثم التوقف التام. فأضيفت مخازن مؤن إضافية من المواد والعمالة إلى النظام لضمان سلاسة الإنتاج. وظلت التصميمات المعيارية في الإنتاج أطول وقت ممكن؛ لأن تغيير الماكينات كان باهظ التكلفة، مما نتج عنه استفادة المستهلك من انخفاض التكاليف ولكن على حساب التنوع والاختيار.

شعر إديسون، صديق فورد، بالفعل بالمشكلة التي يتسبب فيها العمل المتكرر الذي يفتقر إلى المهارة في النزاعات الصناعية التي كان يواجهها. وأظهرت شركة جنرال موتورز لفورد قيود منهجه التسويقي وفوائد إنتاج أنواع مختلفة من المركبات. وكان منهج ألفريد سلون في جنرال موتورز يهدف لإنتاج «سيارة لكل دخل وغرض». إلا أن الابتكار الحقيقي الذي يسمح بكل من الكفاءة في الإنتاج، واختيار واسع النطاق للعميل، واستخدام أفضل للمهارات، جاء من اليابان.

أدركت تويوتا بعد الحرب العالمية الثانية أنها لكي تحقق طموحها بأن تصبح صانعة سيارات عالمية، فإنها تحتاج لتسخير كفاءة أساليب الإنتاج الغزير الأمريكية، والجودة الحرفية لممارسات العمل اليابانية. وكانت أسواق السيارات اليابانية المحلية في هذا الوقت صغيرة وتتطلب تنوعًا واسعًا في المركبات، وكانت أساليب الإنتاج بدائية مقارنة بالموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان رأس المال الاستثماري نادرًا. وأصر عمال المصانع اليابانية النقابيون على الاحتفاظ بمهاراتهم، ولم يرحبوا بمعاملتهم كتكاليف متغيرة، مثل الأجزاء القابلة للتبادل في مصانع فورد وإديسون. وأدركت تويوتا مخاطر المهام المتكررة والمملة التي ينتج عنها إجهاد العمال أو إصابتهم، مع تراجع العائدات حرصًا على الكفاءة.

وفي عام ١٩٥٠، أمضى رئيس شركة تويوتا، إيجي تويودا، ثلاثة أشهر في مصنع روج الذي يمتلكه فورد في الولايات المتحدة الأمريكية. وانبهر بالإنتاج الإجمالي للمصنع، الذي أنتج في سنة واحدة عدد سيارات يفوق الذي صنعته تويوتا على مدار ١٣ عامًا مضت بنحو مرتين ونصف. ومع ذلك، في حين كان الإنتاج الإجمالي مبهرًا، رأى تويودا أن النظام كان يهدر الجهد والمواد والوقت. فلا تستطيع تويوتا تحمل إنتاج سيارات بمثل هؤلاء المهنيين قليلي المهارة، أو العمال غير الماهرين الذين يعملون على ماكينات باهظة الثمن وأحادية الهدف، في ظل وجود مستودعات من المخزون الإضافي وأجزاء يُكرر فيها العمل. فكانت أهداف تويودا تبسيط نظام الإنتاج في تويوتا، من خلال جمع بعض مميزات العمل الحرفي الماهر مع مميزات الإنتاج الغزير، لكن مع تجنب التكاليف المرتفعة للحرفة وتزمت نظم المصنع. وكانت النتيجة هي تطور نظام الإنتاج الهزيل لشركة تويوتا، بتوظيف فرق من العمال متعددي المهارات في كل مستويات المؤسسة، وماكينات آلية عالية المرونة تنتج كميات ضخمة من منتجات شديدة التنوع. فيقوم نظام تويوتا، بدلًا من امتلاك مستودعات من المخزون الاحتياطي مما يهدر الموارد، بتسليم المكونات في وقت استخدامها بالضبط.

يتوافر لفرق العمال في تويوتا الوقت لاقتراح تحسينات على عمليات الإنتاج في «حلقات الجودة»، وتمتلك تويوتا بضعة آلاف من حلقات الجودة التي تكمل عشرات الآلاف من مشروعات التحسين الصغيرة كل سنة. وتتصل حلقات الجودة بجهود التحسين المستمر (كايزن) بالتعاون مع مهندسين صناعيين. ويمثل التركيز على حل المشكلة جزءًا مهمًّا في وظيفة كل فرد، ويُشجع التدريب في أثناء الوظيفة والتعليم الجمعي والتطوير الذاتي.

إن نجاح الإنتاج الهزيل عدَّل من نظام تصميم السيارات وصناعتها ككل، وجعل تويوتا الشركة المنتجة للسيارات التي تقارن شركات التصنيع الأخرى نفسها بها. فأنتج الجمع بين الابتكار التقني والتنظيمي في نظام الإنتاج في تويوتا اقتصاديات ذات حجم ونطاق؛ أي كم وتنوع.

من التحديات المستمرة، البحث عن ابتكارات تساعد في الجمع بين اقتصاديات الحجم من خلال التوحيد القياسي مع اقتصاديات النطاق من أجل إرضاء اختيارات المستهلكين المتنوعة. والهدف النهائي في العديد من الحالات هو الإنتاج قليل التكلفة وطرح المنتجات في الأسواق التي يشعر الأفراد فيها بأنها موجهة حصريًّا إليهم وحدهم. وتواصل تويوتا استثمارها في الأتمتة والتقنيات الجديدة، مثل المواد المتقدمة والأساليب التي تدمج بين التصميم بمساعدة الكمبيوتر وبين نظم التصنيع المحوسبة المرنة. وتُستخدم مركبات الإمداد التي لا يديرها الإنسان لنقل المكونات والأجزاء، ويُستخدم التخزين بإدارة الكمبيوتر العمودي من أجل التخزين. وبالرغم من اهتمام الشركة بالمهارات وتشجيع حلقات الجودة، فمنتقدو نظام تويوتا يشيرون إلى سرعة العمل الشديدة التي، إضافةً إلى تأثيرها السلبي في صحة القوى العاملة، ربما تحول دون الابتكار. وسيعتمد التطوير الإضافي لنظام إنتاجها على توافقه مع ما يقبله موظفوها.

تبحث شركات الخدمات بالمثل عن الابتكار في عملياتها. فتقدم شركة الطيران منخفض التكلفة إيزي جيت مثالًا على «التخصيص الشامل» المبتكر، أو تقديم خدمة واسعة النطاق وفقًا لطلبات العملاء. بدأت الشركة في عام ١٩٩٥ بطائرتين مؤجرتين ونظام حجز هاتفي. وأطلقت موقعًا إلكترونيًّا في عام ١٩٩٧، وفي عام ١٩٩٩ باعت تذكرتها المليون عبر الإنترنت. وفي عام ٢٠٠٥، باعت تذكرتها المائة مليون. وكان استخدام الإنترنت جوهريًّا في نموها، بل دعم نموذج العمل في التسعير المعتمد على الوقت، حيث تتفاوت الأسعار وفقًا لطول الفترة التي تسبق الحجز ووفقًا للطلب، والمتطلبات شديدة الخصوصية للعميل، مثل أولوية الصعود على متن الطائرة والتعامل مع الأمتعة. وهو يسمح أيضًا بالاستفادة القصوى من استخدام الطائرة وتخفيض الأسعار من خلال عدم إصدار تذاكر. إنها واحدة من أكبر شركات البيع بالتجزئة عبر الإنترنت في أوروبا، حيث تباع ٩٥٪ من رحلاتها عبر الإنترنت، وتقدم أيضًا خدمات فندقية وتملك شراكة لتأجير السيارات. وتُحفظ كل وثائق الشركة على أجهزة خادم يمكن الوصول إليها من أي مكان في العالم. وأطلقت الشركة أداةً لسطح المكتب من أجل شخصنة معلومات الطيران والحجز.

يقدم سوبر ماركت تيسكو مثالًا آخر على الاستخدام المبتكر لعمليات التشغيل، واستخدام البيانات على عملائه المنتظمين البالغ عددهم ١٣ مليون شخص. فمن خلال التصنيف الفردي ﻟ ٢٥٠٠٠ منتج واستخراج بيانات السلوك الشرائي واستخدام بطاقات الولاء، تنشئ الشركة «ملف حمض نووي لنمط الحياة» خاص بكل عميل. وتُجمَع هذه الملفات معًا من أجل عمل دعاية محددة وموجهة. فيُراسل حاملو «بطاقة نادي تيسكو» الذين يبلغ عددهم ١٣ مليون شخص أربع مرات سنويًّا بتفاصيل مكافآتهم وقسائم العروض المصممة خاصة لملفاتهم الشخصية. ويُقدم سبعة مليون شكل مختلف من العروض، وترتفع نسبة تقبل العميل لها بمقدار من ١٠ إلى ٢٥ مرة عن متوسط ٢٪ للتسويق المباشر. وتُستخدم البيانات في التأكد من أن البضائع المتاحة في المتاجر الحالية والمستقبلية مصممة لتناسب الملفات الشخصية للعملاء المحليين.

(٣-٤) الشبكات والمجتمعات

كان إنشاء إديسون لصناعة الإضاءة الكهربائية مثالًا على الابتكار في نظام فني استُحدث داخل شبكة من المبتكرين. ويتضمن معظم الابتكار اشتراك أعداد من المؤسسات المتعاونة، ويجلب هذا من منظور المؤسسة الفردية فوائد وصعوبات. تتمثل الفوائد في قدرتها على الوصول إلى المعرفة والمهارات والموارد الأخرى التي لا تمتلكها. أما الصعوبات فتتمثل في غياب العقوبات التنظيمية لدفع الآخرين إلى القيام بما تريده.

إن مفتاح إنشاء شبكات فعالة هو بناء شراكات بدرجات عالية من الثقة. فهناك حاجة للثقة في الكفاءة الفنية للمشاركين، وقدرتهم على تنفيذ المتوقع منهم، ونزاهتهم بوجه عام في حماية معرفة الملكية، واستعدادهم للاعتراف عندما تسوء الأمور. وتبدأ المشاركات عادةً كنتيجة للعلاقات الشخصية، التي يمكن أن تنقطع عندما ينتقل الأفراد إلى وظائف أو مؤسسات أخرى. وعليه، تشمل الثقة الفعالة بين الشركاء امتداد الثقة بين الأفراد إلى ثقة بين المؤسسات، حيث تصير قيمة التعاون راسخة مؤسسيًّا: من النواحي القانونية والإدارية والثقافية.

في بعض المجالات، مثل البرامج مفتوحة المصدر، يُعد مجتمع المستخدمين هو المبتكر؛ فيكون في هذه الحالة مستخدمو المنتج أو الخدمة هم مقدمو المحتوى والتحسينات الجديدة. وبالرغم من بلاغة التعبير عن المشاركة غير المقيدة في العديد من هذه المجتمعات، فإن هناك حاجة إلى وجود درجة من التنظيم. فتُقدر ويكيبيديا، على سبيل المثال، جهود المساهمين في موسوعتها على شبكة الإنترنت بوضعهم في تسلسل هرمي، مع منح مكانة مهمة للويكيبيديين الذين وصلت إسهاماتهم إلى مستويات مرتفعة من الجودة والكم.

تزداد المؤسسات مهارةً في استخدام مواقع الشبكات الاجتماعية لويب ٢٫٠، ومواقع الويكي، والمدونات في أنشطتها الابتكارية. فهي تستخدم تحليلات الشبكات الاجتماعية، على سبيل المثال، من خلال الاستقصاءات أو تَتَبُّع مراسلات البريد الإلكتروني، من أجل فهم نقاط الالتقاء الشخصية والتنظيمية الأساسية في المؤسسة، والمساعدة في تحسين عملية اتخاذ القرار. وحتى تساعد التواصل فيما يُطلق عليه «الأنشطة الضخمة متعددة الأطراف»، تستخدم المؤسسات العوالم الافتراضية مثل «الحياة الثانية»، التي يصور فيها الأفراد أنفسهم في شكل قرناء. وتطرح هذه الأشكال الجديدة للتنظيم أسئلة حول شرعيتها في العمل، نظرًا لارتباطها الدائم «بالألعاب»، والنظم المناسبة للحوافز والمكافآت والملفات الشخصية لمهارة مستخدميها.

(٣-٥) المشروعات

يتألف جزءٌ كبير من الاقتصاديات الحديثة من مشروعات ضخمة ومعقدة للبنية التحتية، مثل شبكات الاتصالات عن بعد، وإنتاج الطاقة وتوزيعها، ونظم النقل للمطارات والسكك الحديدية والطرق السريعة. وتقتضي هذه المشروعات، التي عادةً ما تتكلف مليارات الدولارات، التنسيق بين أعداد كبيرة من الشركات التي تجتمع لتسهم بمهاراتها ومواردها المتنوعة في أثناء المراحل المختلفة من تقدم المشروع. وتشتهر هذه المشروعات بتجاوزها للتكاليف وحالات التأخير. فعلى سبيل المثال، تجاوز نفق المانش، الذي يربط بين إنجلترا وفرنسا، الميزانية بنحو ٨٠٪.

كان مشروع مبنى الركاب رقم ٥ في مطار هيثرو في لندن مشروعًا ضخمًا ومعقدًا للغاية، حيث كانت ميزانيته تبلغ ٤٫٣ مليارات جنيه استرليني، وكان يضم أكثر من ٢٠٠٠٠ شركة مقاولات. وتطلب المشروع الذي أشرفت عليه سلطة المطارات البريطانية، وهي العميل ومالك المطار ومشغله، تشييد مبانٍ رئيسة ونظام للمرور العابر وطريق وسكك حديدية ووصلات أنفاق، إلى جانب أكثر المطارات نشاطًا في العالم الذي يعمل بأكثر من طاقته. ويساوي حجم مبنى الركاب رقم ٥، حجم حديقة هايد بارك في لندن، وتبلغ سعته السنوية ٣٠ مليون مسافر. وبالرغم من تذكر الناس طوال الوقت للأيام الكارثية الأولى لتشغيله، حيث أضاعت شركة بريتش إيروايز ٢٠٠٠٠ حقيبة وألغت ٥٠٠ رحلة، فإن تصميم المشروع نفسه وتشييده كان ناجحًا وأُنجز في حدود الميزانية وفي الوقت المحدد. ونتج هذا النجاح من منهج مبتكر في إدارة المشروعات الضخمة والمعقدة.

اهتمت سلطة المطارات البريطانية بتعلم الدروس من مشروعات سابقة، وتأكدت من أن أي تقنيات مستخدمة قد أثبتت نجاحها بالفعل في مكان آخر، واختبرت المناهج الجديدة على مشروعات أصغر قبل تطبيقها على مبنى الركاب ٥. وحدثت استفادة من المحاكاة الرقمية وتقنيات بناء النماذج والتصور للمساعدة في دمج التصميمات والبناء. وارتكز نجاح مشروع مبنى الركاب ٥ على عقد بين العميل وسلطة المطارات البريطانية وكبار مورديها، ويختلف هذا العقد اختلافًا كبيرًا عن النماذج المعتادة في الصناعة، التي عادةً ما تكون تعارضية، وشجع التعاون والثقة ومسئولية المورد. وتحملت سلطة المطارات البريطانية المخاطرة التي ينطوي المشروع عليها، وكان العمل يُنفذ في فرق متكاملة خاصة بالمشروع مع موردي الصف الأول، وصُممت حوافز من أجل مكافأة الفرق عالية الأداء. ومع أن العمليات والإجراءات المفترض اتباعها كانت محددة وبشدة، فإن المشروع أُعد بطريقة تسمح للمديرين بمواجهة المشكلات غير المتوقعة، التي تنشأ حتميًّا في المشروعات المعقدة، بمرونة وعلى أساس خبرتهم السابقة.

إن الدروس المستفادة من مبنى الركاب ٥ هي أن النجاح في المشروعات الكبيرة والمعقدة يتطلب إجراءات روتينية وعمليات وتقنيات موحدة ومتكررة ومعدَّة بعناية، والقدرة على الابتكار من أجل التمكن من التعامل مع الأحداث والمشكلات غير المتوقعة. ويقتضي تنظيم المشروعات توازنًا حكيمًا بين أداء الإجراءات الروتينية وتشجيع الابتكار.

(٣-٦) الأفراد والفرق المبدعة

كما أوضح إديسون في مختبر مينلو بارك، يتطلب الابتكار جهدًا جماعيًّا يجمع الأفكار والخبرات المختلفة معًا. ويقتضي إنشاء الفرق اتخاذ قرارات بشأن أنسب توازن للمهارات في ظل المشكلات التي تُواجَه. ويتطلب أيضًا الاختيار بين القيمة النسبية للذاكرة التنظيمية، بإبقاء الأفراد معًا في فرق، والإنعاش بإدخال مهارات جديدة. وتميل الفرق التي تعمل معًا لفترات طويلة إلى أن تصبح منغلقة على نفسها ومحصنة ضد الأفكار المبتكرة التي تأتي من الخارج. أما الفرق حديثة التكوين أو التي تحتوي على العديد من الأعضاء الجدد، فلزامٌ عليها تعلُّم العمل معًا بفعالية، والتوصل إلى طريقة للعمل. وهناك مزايا كثيرة للتناغم بين الفرق، لكن يستلزم الابتكار أحيانًا وجود عناصر مثيرة للقلاقل، كحبة الرمل في المحار، تطرح العسير من الأسئلة وتعيد تنظيم الأوضاع.

ويجب أن يعكس تكوين الفرق أهدافها؛ فينبغي للفرق المكرسة للتوصل إلى ابتكار أكثر جذرية أن تكون أكثر إبداعًا ومرونة في أهدافها، مع حرية الاستجابة للفرص الناشئة وغير المحتمل توقعها. وهي تحتاج عادةً إلى دعم هائل من مستويات أعلى في المؤسسة، حيث لا تضيف أهدافهم سريعًا للمحصلة النهائية، وعليه تكون عرضة للانتقاد وممارسات خفض التكاليف. ويجب إيجاد توازن بين حوافز الأفراد والفرق؛ فعادةً ما تكون العوامل التي تشجع فعالية فريق الابتكار ذاتية، تتعلق بالرضا المهني والتقدير. أما العوامل التي تعوق الأداء فتكون أكثر إفادة، حيث تتعلق بأهداف المشروع وقيود الموارد. وكما وجد إديسون، فإن الموظفين سيعملون بجهد استثنائي عند إعطائهم الحافز المتمثل في وظائف ممتعة ومجزية ومقدرة.

لا يُعد الإبداع مهمًّا فقط من أجل تصميم شركات مثل آيديو، إذ يعتمد الابتكار في كل المؤسسات على أفراد وفرق مبدعة من أجل إنتاج أفكار جديدة، والإبداع مسألة تؤثر في عالم العمل بأكمله. وترى العديد من المؤسسات المعاصرة من خلال تحفيزها على الابتكار أن تشجيع الإبداع جزء محوري في تطورها وقدرتها على التنافس. ويقدم الإبداع وسيلة لجعل العمل أكثر جاذبية وتحسين مشاركة الموظفين الحاليين والتزامهم، كما يمثل استراتيجية فعالة في «التنافس على الموهبة» فيما بين الموظفين شديدي المهارة وكثيري التنقل.

يحتوي الإبداع على عنصر فردي وعنصر جماعي. ويخبرنا علماء النفس عن سمات المبدعين، وكيف تخرج الأفكار المبدعة من أفراد لديهم القدرة على التفكير على نحو مختلف ورؤية العلاقات والاحتمالات. ويقال إن المبدعين يتحملون الغموض والتناقض والتعقيد. ويشير العلماء المعرفيون، مثل مارجريت بودن، إلى أن الإبداع شيء يمكن لكل شخص تعلمه، وهو موجود في القدرات العادية التي نشترك فيها جميعًا، وفي الخبرة التي تكتسب بالممارسة، مما يجعلنا جميعًا نطمح إليه.

تبذل المؤسسات قدرًا هائلًا من الوقت والموارد على التدريب على الإبداع، وتحديد حوافز ومكافآت للإبداع الفردي. وتهتم أيضًا بتشجيع الإبداع في مجموعات، وبناء هياكل الفرق، والعمليات والممارسات التنظيمية، الأكثر تحفيزًا. وتجمع المجموعات بين وجهات النظر والمعارف المتباينة المهمة للإبداع والضرورية للتوليفات الجديدة في الابتكار. وركزت الأبحاث الحديثة في مجال الإبداع تركيزًا أكبر على الظروف التنظيمية والتجارية التي تشجع الإبداع، وعلى النظم والاستراتيجيات التي تشكل مظهره.

تصبح الأفكار الإبداعية ابتكارات مفيدة، عندما تُطبق بنجاح. فربما يكون الإبداع في حد ذاته ملهمًا ومحفزًا وبارعًا، لكن لا توجد قيمة اقتصادية حتى يُعرض في شكل ابتكار. ويأخذ الإبداع أشكالًا مختلفة في الابتكارات الإضافية والجذرية. وتشمل الابتكارات الإضافية عادةً شكلًا من الإبداع أكثر هيكلةً وإدارةً ورويةً. أما الابتكار الجذري، فيتطلب إبداعًا ربما لا يكون مقيدًا بالممارسات الحالية وطرق فعل الأشياء.

(٤) الأفراد

(٤-١) القادة

نادرًا ما يحدث الابتكار في المؤسسات دون التزام قادتها ودعمهم الواضح، مع أن هؤلاء القادة ربما تكون لديهم فكرة ضئيلة عن الطبيعة المحددة للتطورات الجديدة. ومن الجوانب الرئيسة للقيادة؛ التشجيع على إبداع أفكار جديدة وتطبيقها. وهناك مصادر للدعم يعثر عليها القادة، وهم أنفسهم مَن يوفرون الحماية من المعارضين للابتكار. فعندما تهدد الأفكار الجديدة الوضع الحالي، فإن المصالح الراسخة ستعارضها حتمًا. وعلى حد قول مكيافيلي في كتاب «الأمير»:

لا يوجد شيء أصعب في التخطيط، أو أخطر في الإدارة من إنشاء نظام جديد للأمور … فمتى توجد لدى أعداء المبتكر القدرة على مهاجمته، يقومون بذلك بشغف المؤيدين، ويدافع عنه الآخرون بفتور، لذا يكون المبتكر وحزبه عرضة للخطر على حد سواء.

أحد الدروس المستقاة من القادة المشهورين لمؤسسات مبتكرة، مثل إديسون، استحداثهم لثقافة داعمة، يُشجع فيها الموظفون على تجربة أشياء جديدة، ولا تثبط همتهم عندما يفشلون. ففي عام ١٩٤٨، لخص رئيس مجلس إدارة شركة ثري إم، ويليام ماكنايت، منهجه الذي ميز استراتيجية الشركة لعقود لاحقة بقوله:

مع نمو شركتنا، تتزايد ضرورة تفويض المسئولية وتشجيع الرجال والنساء على ممارسة مبادراتهم، ويستلزم هذا قدرًا كبيرًا من الاحتمال. فهؤلاء الرجال والنساء الذين نفوض إليهم السلطة والمسئولية، إذا كانوا أناسًا صالحين، فإنهم سيرغبون في أداء وظائفهم بطريقتهم الخاصة.

ستُرتكب أخطاء … والإدارة التي تنتقد الأشخاص على نحو هدام عند ارتكاب الأخطاء تقتل المبادرة. وحتى نضمن استمرارنا في تحقيق النمو، من الضروري أن يكون لدينا قطاع كبير من الأشخاص أصحاب المبادرات …

تقدم مدير شاب عصبي، ترأس مشروعًا فاشلًا ذات مرة باستقالته إلى هنري فورد. وكان رد فورد أنه لن يسمح لشخص بالرحيل من شركته والعمل لحساب منافس له بعد أن تعلم دروسًا قيمة بأمواله.

(٤-٢) المديرون

مثلما تحتاج ابتكارات معينة إلى قيادة داعمة على رأس المؤسسات، فإنها تحتاج أيضًا إلى «أبطال» إداريين متحمسين وأقوياء أو رعاة يضطلعون بمسئولية اتخاذ القرارات المهمة. وكما ينبغي لمديري الابتكار أن يكونوا أكفاء في إدارة الفرق، وتنسيق المسائل الفنية/المتعلقة بالتصميم، وتنفيذ العمليات والقرارات، يجب أن يكونوا ماهرين أيضًا في تأييد مزايا الابتكار، وممارسة الضغوط من أجل دعمه، وخلق رؤية عما سيفعله ويسهم فيه.

(٤-٣) الجسور التي تصل بين الحدود

أحد أهم الأدوار الفردية في الابتكار هو دور التواصل عبر الحدود، ويحدث ذلك عن طريق الشخص القادر على التواصل وبناء الجسور بين المؤسسات وداخلها. وكان هذا الشخص يُعرف في شركات التصنيع باسم أمين المعلومات التكنولوجي، وهو وأمثاله حريصون على اكتساب المعلومات أيما حرص — ويحصِّلونها عبر القراءة وحضور المؤتمرات والعروض التجارية — وهم ماهرون أيضًا في توصيل المعلومات المفيدة للقسم الذي يحتاج إليها في المؤسسة. وتجد المؤسسات أحيانًا صعوبةً في تبرير تعيين هؤلاء الأشخاص المسئولين عن التواصل. فإرسالهم في سفريات، وذهابهم إلى المؤتمرات، وحديثهم مع العديد من الأشخاص أمورٌ لا يقدرها أحيانًا القابعون خلف المكاتب أو طاولات العمل، إلا أن دورهم مفيد للغاية في الابتكار.

(٤-٤) الجميع

كانت أوراق الملاحظات اللاصقة واحدة من أنجح ابتكارات شركة ثري إم، وقد مُنح مبدعو الأساس الفني للابتكار، وكان الغراء غير اللاصق، التقدير والشكر الملائمين. وفي المقابل، كم تعرض قسم التسويق في الشركة للانتقاد واللوم الشديدين لادعائه عدم الإقبال على شراء المنتج. إلا أن موظفي المؤسسة الذين أدركوا إمكانيات المنتج وشجعوا استحداثه لم يحصلوا إلا على القدر الضئيل من التقدير. فعقب رفض فكرة الملاحظات اللاصقة من قسم التسويق، أرسل مبدعو المنتج عينات إلى موظفي سكرتارية مديري العموم في الشركة. ورأى هؤلاء الموظفون على الفور قيمة المنتج، وحصلوا على دعم رؤسائهم من أجل تطبيق الفكرة.

يؤثر الابتكار في كل فرد في المؤسسة، وهو إلى حد ما مسئولية كل فرد. وقد وفرت حوسبة العديد من المهارات الحرفية التقليدية، مثل صناعة الأدوات، فرص عمل لا تحتاج إلى مهارات خاصة أو إلى تعلُّم مهارات جديدة. وانتهج العديد من أصحاب الأعمال مسار عدم ضرورة أن يكون لموظفيهم مهارات خاصة — كما في حالة الآلات الميكانيكية ذات التحكم العددي — لكنها تعلمت فيما بعد مميزات تعلُّم المهارات الجديدة، وإعطاء العمال في المصنع حرية التصرف في المهام التي يؤدونها. ويعكس هذا قدرة الأفراد على التغيير والاستجابة على نحو مثمر ومبدع للابتكار، إذا أتيحت لهم الفرصة. فهذا يعطيهم، كما قال إديسون، متعة صقل القدرة على التفكير. وأدت قيمة الابتكار المستمد من العمال في المصانع إلى وصف البعض لها على أنها مختبرات أو أماكن لإجراء التجارب.

تتمثل إحدى الأدوات المهمة التي تُستخدم من أجل تشجيع الابتكار في استخدام برامج المكافأة والتقدير؛ فالعديد من المؤسسات تمتلك خططًا للمقترحات، وتحث شركات مثل آي بي إم وتويوتا موظفيها على طرح مئات الآلاف من الأفكار. وبذلك، يمكن مكافأة هذا ماديًّا أو من خلال تقدير الزملاء. وعادةً ما يكون أكثر شكل من أشكال التقدير فعالية هو تطبيق المؤسسة للفكرة التي خرج بها الموظف. وتُظهر قدرة الأفراد في جميع أنحاء المؤسسة على امتلاك أفكار مبتكرة والسعي وراء تطبيقها أن توجيه الابتكار ليست فقط مسئولية أصحاب المناصب العليا في تسلسل الوظائف الهرمي.

يحدث أفضل دعم للمبتكرين على اختلاف الأشكال في المؤسسات التي يجذب التزامها بتطوير الموارد البشرية وتدريبها، المديرين والموظفين الموهوبين الذين لا يخافون من التغيير، ويكافئهم ويحافظ عليهم، ويسترضي من يخافون منه. والمؤسسات المبتكرة لديها إجراءات تعيين، ونظم رواتب وحوافز، ومسارات للتقدم الوظيفي، من أجل ضمان التعيينات المناسبة للابتكار. ففي الوقت الذي يتفوق فيه بعض الأفراد في إبداع الابتكار، ويحتاجون إلى التشجيع والمكافأة، يجيد آخرون تصميم إجراءات تطبيقه، ويحتاجون إلى أشكال مختلفة من التقدير. ولا يزال آخرون يخافون بطبيعتهم من الابتكار، أو على الأقل من التغيير الكثير، حيث يرونه خطيرًا، وربما يعانون الضغط النفسي والأداء السيئ نتيجة لذلك. وإلى حد بعيد، تجذب سمعة المؤسسة بأنها مبتكرة الموظفين المحتملين الذين يريدون أن يصيروا مبتكرين، ويجب أن تدقق آليات الاختيار النظر في التعيينات غير المناسبة. ويجب دعم الموظفين الذين يجدون الابتكار مزعجًا، وإرشادهم خلال تعريفهم بالابتكار.

(٥) التكنولوجيا

في فترة الستينيات من القرن الماضي، بدأ بحث جوان وودورد فيما يتعلق بتنظيم المصنع في جنوب شرق إنجلترا يشرح العلاقة بين التكنولوجيا والتنظيم. فأوضحت كيف يتنوع التنظيم وفقًا للتكنولوجيا الأساسية الكامنة، سواءٌ أكان الإنتاج يأخذ شكل دفعات صغيرة أو كبيرة، أم إنتاج بالجملة، أم عمليات تدفق مستمر. واستبعد البحث الرأي القائل إن التنظيم ينتج من التكنولوجيا المستخدمة — الحتمية التكنولوجية — مشيرًا إلى مدى انتقاء الاختيارات، وهو الرأي الذي أقرته جوان وودورد. مع ذلك، فإن التكنولوجيا مؤثرة للغاية، وهناك علاقة بين طرق تنظيم الصناعات ومدى تمكنها من الاستفادة من الابتكار من خلال تقسيم العمل. وتتفاوت منتجات وخدمات الصناعات إلى حد بعيد، وعليه تتفاوت أساليب الإنتاج وعمليات التشغيل.

(٥-١) تقنيات الابتكار

أدرك إديسون قيمة الأدوات العلمية عالية الجودة، من ناحية، و«الخردة»؛ أي القطع الغريبة من الماكينات، ومجموعة كبيرة من المواد غير المعتادة، من ناحية أخرى. تحفز هذه الماكينات والمصنوعات الابتكار. ومثلما أعانت العديد من رسومات إديسون التخطيطية في تفكيره وتحسين توصيل أفكاره إلى الآخرين، يركز ابتكار تصميمات ونماذج أولية ملموسة الجهودَ ويقيم علاقات بين أفراد لديهم مهارات ووجهات نظر مختلفة. وفي كثير من الحالات، تنمو الأفكار من أجل الابتكار نموًّا عضويًّا، وعلى نحو متكرر حول تصميمات مستجدة ومحددة على نحو متزايد.

تحرك تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التصميم والعلاقات عبر الحدود في عالم رقمي، حيث يتحقق هدف إديسون في «استحداث سريع وزهيد لأحد الاختراعات، وإتمامه في صورة تجارية» بطرق لم يكن يتخيلها.

تجمع التقنيات الرقمية كلًّا من التصميم والتصنيع في نظم تصميم بمساعدة الكمبيوتر/تصنيع بمساعدة الكمبيوتر. وتُنقل معلومات التصميم الرقمي عن المنتجات الجديدة إلى المعدات المستخدمة في صناعتها. ويرشد النظام التصميمات بخصوص ما يمكن تصنيعه. وتساعد شبكة الإنترنت وشبكات المنطقة المحلية، ونظم تخطيط موارد المشروع، المؤسسات في جمع المدخلات المختلفة من أصحاب المهارات المختلفة تمامًا.

إن التوصل إلى طاقة حوسبة مذهلة، واستحداث برامج تسمح بدمج مجموعات البيانات المختلفة، وتصميم تقنيات تصور حديثة تُستخدم على نطاق واسع في صناعة ألعاب الكمبيوتر، كل ذلك أدى إلى نوع جديد من التكنولوجيا الداعمة للابتكار. ويُطلق على «تكنولوجيا الابتكار» هذا الاسم لأنها تساعد في الجمع بين مكونات عملية الابتكار المتنوعة. وتُستخدم في تحسين سرعة الابتكار وكفاءته من خلال الربط بين المدخلات المختلفة داخل المؤسسات وبينها. وتشتمل تكنولوجيا الابتكار على: مجموعة برامج الواقع الافتراضي المستخدمة لتساعد العملاء في تصميم منتجات وخدمات جديدة، وأدوات المحاكاة وصناعة النماذج المستخدمة لتحسين سرعة التصميمات الجديدة جوهريًّا، والعلوم الإلكترونية أو الحوسبة الشبكية التي تبني مجتمعات جديدة من العلماء والباحثين وتساعدهم في إدارة المشروعات التعاونية، وتكنولوجيا استخراج البيانات المتطورة التي تستخدم لتساعد في فهم العملاء وإدارة الموارد، والتكنولوجيا السريعة والافتراضية للنماذج الأولية التي تستخدم من أجل تحسين سرعة الابتكار. وتُستخدم هذه التقنيات معًا من أجل الجمع بين العملاء من ناحية، والباحثين العلميين من ناحية أخرى، على نحو أكثر فعالية في القرارات بشأن الابتكار.

تسمح تكنولوجيا الابتكار، من خلال نقل التجارب وإنشاء النماذج الأولية ونقلها إلى العالم الرقمي، للشركات بإجراء التجارب بثمن زهيد و«الفشل كثيرًا ومبكرًا». وتُعد تكنولوجيا الابتكار مهمة أيضًا للغاية في تصميم النظم الضخمة والمعقدة، مثل المرافق والبنية التحتية للمطارات، ونظم الاتصالات، حيث لا يمكن عادةً اختبار النماذج الأولية الكاملة.

ومن أهم جوانب تكنولوجيا الابتكار، كيفية مساعدتها في تقديم المعرفة وتصورها وتوصيلها عبر المجالات والفروع والمهن و«مجتمعات الممارسة» المختلفة. وللتوضيح، قارن بين تصميم مبنى جديد باستخدام الطرق التقليدية وتكنولوجيا الابتكار.

إن استخدام تكنولوجيا الابتكار يجعل البيانات المعقدة والمعلومات ووجهات النظر والتفضيلات الخاصة بالمجموعات المتنوعة واضحة ومفهومة. ويساعد التمثيل الافتراضي المهندسين المعماريين في تصور تصميماتهم النهائية، ويساعد في توضيح توقعات الزبائن عن طريق تمهيد الطريق لهم لاستيعاب شكل وطبيعة المبنى قبل بدء العمل فيه. ويستطيع الزبائن «التجول» داخل مبانيهم الافتراضية فيشعرون بتصميمها و«جوها» قبل وضع حجر واحد. وتخبر تكنولوجيا الابتكار المقاولين والبنائين بالمواصفات والمتطلبات، وتسمح للمنظِّمين، مثل مفتشي الحرائق، بالتقييم الواثق لاحتمال تلبية المباني للمتطلبات التنظيمية. ويمكن أن تسمح تكنولوجيا الابتكار للمشاركين المختلفين في عملية الابتكار، والموردين والمستخدمين، والمقاولين، والمقاولين من الباطن، ومدمجي الأنظمة ومنتجي المكونات، بالتعاون على نحو أكثر فعالية في توصيل منتجات وخدمات جديدة.

fig10
شكل ٥-٣: يتزايد استخدام التصور المحوسب وأدوات الواقع الافتراضي من جانب الهندسة والتصميم.3

يمكن أن ينتج عن استخدام تكنولوجيا الابتكار بعض الابتكارات المثيرة للغاية. فقد تُوفي عدد هائل من الأشخاص في مركز التجارة العالمي في عام ٢٠٠١ بسبب حجز الموجودين في المكان الذين كانوا يحاولون الهبوط من سلم الحريق من جانب رجال الإطفاء وهم يصعدونه. ولذا خضعت طرق جديدة للدراسة من أجل إخراج الأفراد من المباني العالية في الأحداث الخطيرة، مع استخدام تمثال الحرية في نيويورك كمثال. وأدت المحاكاة والتصورات المحوسبة لسلوك المباني والأفراد في حالات الطوارئ بمهندسي الحرائق إلى الاعتقاد بأن أكثر طريقة آمنة للخروج كان عن طريق المصعد. ولكنَّ تغيير الآراء الراسخة عن السلامة إلى: «في حالة الحريق استخدم المصعد» يتطلب قدرًا كبيرًا من الإقناع لملاك المباني، والسكان، والمهندسين، والمهندسين المعماريين، ورجال الإطفاء، والقائمين على تنظيم الأمور وقت وقوع الحرائق، والمسئولين عن التأمين. ومما ساعد على وجود فهم متبادل ومشترك لهذا التغير الجوهري، نقل التفاصيل من رسومات ومجموعات بيانات معقدة إلى صور محوسبة يسهل فهمها. استخدم مهندسو الحرائق عددًا من تقنيات المحاكاة والتصور الجديدة لتساعدهم في تغيير فهم هذه الأطراف المختلفة للسلامة في المباني المرتفعة، وتشجيع استكشاف مناهج مبتكرة للإجلاء السريع.

هوامش

(1) © US Department of the Interior, National Park Service, Edison National Historic Site.
(2) © Courtesy of the Library of Congress.
(3) © Courtesy of EON Reality, Inc.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤