المقدمة

(١) هذه المسرحية

مسرحية ضجة فارغة — العنوان الذي اشتُهِرت به في اللغة العربية — كوميديا تتضمن لمسات جد واضحة، بحيث حار النقاد في تصنيفها إلى اليوم؛ إذ لا توضع في باب التراجيكوميديا، وقد يحتاج الناقد إلى ابتكار وصف جديد «لنوعها»، وتقترح كلير ماكيتشيرن (٢٠٠٦م) أن يكون النوع «كوميتراجيديا» (ص٥١) بعد أن أثبتت أن «جوهر المسرحية يتماس مع التراجيديا» في «الديناميات الاجتماعية» التي تعالجها (ص١٥). وربما إذا ترجمنا العنوان ترجمة أدق قائلين إنها ضجة حول تفاهات أو، إن زدنا الدقة فقلنا بالعامية المصرية إنها «هيصة ع الفاضي» أو «هيصة على ما فيش»، استطعنا أن ندرك صحة ما ذهبت إليه باربارا إيفريت (Everett) (٢٠٠١م) من أن المسرحية «تذكِّرنا، عنوانًا ومادةً درامية، بأن معظم البشر يقضون جانبًا كبيرًا من وقتهم في الصغائر أو في غير الجد، رغم ما تتسم به الحياة فعلًا من الجد، وبأن النسيج المعتاد للحياة الاجتماعية قد يكون بالغ الهُزال، وبأن خيوطه مغزولة من التفاهات إلى الحد الذي قد يجعلنا نشعر في حالات كثيرة أنه لا يكسو غير العدم» (ص٥٩). وتثبت إيفريت أن المسرحية تصور هذا «العدم» في إطار حقائق الواقع القائمة للحياة في العصر الإليزابيثي، والتي تشمل «من كُنَّ يُتَوَفَّيْنَ أثناء الوضع» والعلاقات السياسية المعقدة بين إنجلترا البروتستانتية وإسبانيا الكاثوليكية «ولا بد أن لقب دون جون كان يُذَكِّرُ الجمهور الإليزابيثي بسميِّهِ دون جون حاكم النمسا الذي كان إسبانيًّا أيضًا وابن سفاح لفيليب الثاني» (ص٦١). وهكذا تقيم إيفريت التوازن في ختام دراستها الرائعة بين الجانبين قائلةً إن المسرحية قد تسلينا «بالتفاهات» ولكنها تعالج في الوقت نفسه «قضايا جادة» (ص٦٧).

وقد تمتعت المسرحية بإقبال الجمهور على مشاهدتها منذ عرضها الأول في مطلع القرن السابع عشر، وهو الإقبال الذي يعزوه النقاد إلى ما يُسمَّى «الحرب المرحة» بين «القطبين» الشهيرين بينديك وبياتريس، والمقصود تراشقهما بالألفاظ الذي يشبه المنازلة الذهنية وينتهي بتسليم كل منهما للآخَر آخِر الأمر، وإن كانت الدراسات النقدية تركز في الأغلب الأعم على عناصر الجدِّ فيها، ومن ثَمَّ على الحبكة الخاصة بالشاب كلوديو والفتاة هيرو. ولكن وجود الجانبين معًا مهم، لأنه يتيح للمُخرج مثلما أتاح للمؤلف أن يقيم التقابل بين الجوانب المظلمة والجوانب المضيئة في حياة الناس، وتصوير انتصار التناغم في جوٍّ يشيع فيه الخوف والخبث — جو الحياة الاجتماعية في ذلك العصر وفي عصور أخرى — بحيث يكاد النقاد يجمعون على أن هذه أشد كوميديات شيكسبير «واقعية» من الزاويتين الاجتماعية والنفسية، فإمكان التناغم قائم على الدوام، وينبع من نزعة إنسانية صادقة، مهما تبلغ قوة «الشائعات» والوشاية التي تسري في المجتمع مسرى النار في الهشيم، حتى تكاد تدمر هوية الفرد نفسه، ومهما تبلغ سطوة المجتمع «الأبوي» التي يبالغ شيكسبير في تصويرها كأنما ليهدمها بسخريته، وولع هذا المجتمع بقيمة عفة المرأة ولعًا يكاد يصل إلى حد «الهاجس المَرَضِي» في نفوس الرجال.

(٢) تاريخ كتابة المسرحية

يرجح الدارسون أن المسرحية كُتِبت في أواخر عام ١٥٩٨م أو أوائل ١٥٩٩م، أي بعد روميو وجوليت وريتشارد الثاني وحلم ليلة صيف وتاجر البندقية، وقبل يوليوس قيصر، والليلة الثانية عشرة، وزوجتان مرحتان من وندسور والتراجيديات الكبرى (وكل هذه مترجَمة في هذه السلسلة) والترجيح قائم على أدلة تاريخية موثَّقة، وتعضده عدة ظواهر في أسلوب المسرحية ومادتها، وهو ما يتضح تفصيلًا في التعليق على لغة المسرحية في مكان لاحق من هذه المقدمة وفي الحواشي. فالنثر الذي يمثِّل ٧٠ في المائة من سطور المسرحية يبشِّر بالنثر الذي يمثِّل ٩٠ في المائة من زوجتان مرحتان، والنظم المقفَّى يربطها بروميو وجوليت والليلة الثانية عشرة وتاجر البندقية، أي إن المسرحية تشغل مكانًا وسطًا بين إنتاج شيكسبير المسرحي، ويُكثِر الدارسون من إقامة الروابط بين «النغمات» الساخرة فيما سبقها وما تلاها، خصوصًا في موقف شيكسبير إزاء العلاقة بين الجنسين وتبشيره بصورة «المرأة الجديدة» في عصر النهضة، فملامح هذه الصورة بادية في تاجر البندقية في إطار شعري (عند بورشيا) وتكتسب هنا إطارًا نثريًّا يقرِّبها من صورتها في زوجتان مرحتان.

(٣) المصادر

يجمِع الدارسون على أن الإشارة إلى المعالجات السابقة للحبكة الرئيسية «اسميًّا» بتعبير «المصادر» إشارة غير دقيقة، فأبسط مقارنة بين معالجة هذه الحبكة هنا وبين معالجاتها السابقة تمنع إطلاق هذا التعبير، لأن موضوع اتهام فتاة عفيفة في شرفها وإثبات براءتها كان موضوعًا أدبيًّا شائعًا إلى الحد الذي تتعذَّر معه نسبة ابتكاره إلى أديب بعينه، ولذلك يكثر الدارسون من إيراد تحليلات موسَّعة لهذه «السوابق»، بل لقد خصَّص ناقد كتابًا كاملًا لها أصدره عام ١٩٥٠م، واسمه تشارلز ت. براوتي (Prouty)، وتلاه جيفري بولو (Bollough) الذي ترجم وأعاد نشر بعض الفقرات المهمة، وأيضًا كينيث ميور (Muir) ولا شك أن الموضوع كانت له جاذبيته في نظر شيكسبير إذ عاد إليه في عطيل ثم في سيمبلين على اختلافهما، فهو يتميز باتساق البناء فنيًّا كما أنه يتضمن ما يُسمَّى «التبرئة الرمزية» لكل من تُتَّهَمُ — ظُلمًا — ثم تثبت براءتها، وهي رمزية لأنها تكشف ضعف الفرد إزاء ذلك البنيان المبهم الذي يُسمَّى المجتمع، وانسياق الناس وراء ما يسمعونه، خصوصًا لو كان وشاية تمس شرف أحدهم، فكأنما يسعى المجتمع إلى افتداء أخطائه من خلال افتراض خطأ فرد بعينه، وما أيسر أن يكون ذلك الفرد امرأة في مجتمع الهيمنة الذكورية.
ويورد براوتي ست عشرة معالجة سابقة لهذا الموضوع، من بينها ثماني مسرحيات فُقدت منها اثنتان، وليس من المحتمل أن يكون شيكسبير قد اطَّلع على الست الباقية، كما يورد ثماني قصص قد يكون اطَّلع على أربع منها، ومن الأرجح أنه لم يستفِد كثيرًا ببعضها، مثل مجموعة القصص المأساوية التي ترجمها فرانسوا دي بلفوريه. وأما أقرب هذه القصص إلى ضجة فارغة فهي الحكاية الثانية والعشرون من حكاية ماتيو بانديللو المنشورة عام ١٥٥٤م بالإيطالية، وهي الحكاية التي ترجمها دي بلفوريه مع إضافة ما يراه من عِبَرٍ تفيد القارئ، ويرجح زيتنر أن شيكسبير قرأها في أصلها الإيطالي، مؤكدًا أن شيكسبير كان لديه معجم جون فلوريو للغة الإيطالية، وأن نثر بانديللو لم يكن ليستعصي على من يجيد اللاتينية مثل شيكسبير.

وتدور وقائع هذه «الحكاية» في مسينا، وتبدأ بوصول بييرو، ملك أراجون مع زوجته وابنه الأكبر، وفرض سيطرته على جزيرة صقلية كلها بناءً على ما أوصى به البابا بعد المذبحة التي تعرَّض لها الكبراء الفرنسيون في الجزيرة، وهزيمة كارلو الثاني ملك نابولي. وعندما يستتب السِّلم نسمع تيمبريو، وهو شاب شجاع ثري من المقرَّبين إلى الملك بييرو، يحب فتاة تُدعى فينيشيا، وهي حسناء في السادسة عشرة من عمرها، وأبوها يُدعى ليوناتو، وهو نبيل سليل أسرة كريمة، لكنه، فيما يبدو، لا يتمتع بثراء أو امتياز خاص. ويحاول تيمبريو إغواءها فيلقى الصدود والتمنُّع، فيرسل إلى أبيها خاطبًا يخطبها له وينظر في ترتيبات عقد القران، وهو ما يوافق ليوناتو عليه.

ولكن هذا الزواج الوشيك يُفزع أحد أصدقاء تيمبريو، ويُدعى جيروندو، بسبب حبه الذي لم يُفصِح عنه للفتاة نفسها، ومن ثَمَّ يقرر أن يفسد «مشروع» الزواج، ويدبر حيلة يستعين فيها ببعض معارفه، ويرمي منها إلى إثبات فسق فينيشيا، ويتعهد بذلك إلى تيمبريو مشترطًا عليه أن يقسم على تكتُّم الأمر. وأما دليل إثباته فينحصر في بعض عبارات تحمل أكثر من معنى، إلى جانب مشاهدة رجل يتسلق سُلَّمًا يصعد عليه إلى غرفة خالية في قصر ليوناتو. ويقتنع تيمبريو بما سمع وشاهد فيرسل من يقول لوالد الفتاة إنها فاسقة وإن تيمبريو عَدَلَ عن الزواج بها. وأما ليوناتو فيتهم تيمبريو بأنه يخفي دافعه الحقيقي للعدول عن الزواج، وهو استهجان مصاهرة أسرة أقل ثراءً من أسرته. ولكن ليوناتو، على عكس ما يحدث في ضجة فارغة، لا يشك إطلاقًا في براءة ابنته، وإن كان يرثي لحاله، وربما كان هذا الرثاء قد دفع شيكسبير إلى استغلاله في كشف تقاليد مجتمعه (وإدانتها بتصويره في صورة والد مكلوم ثُلِمَ شرفُه). وتصاب الفتاة فينيشيا بصدمة عصبية تجعلها تشرف على الموت في رأي أطبائها، بل إن الأطباء يعلنون أنها ماتت، ولكنها تستعيد وعيها أثناء تغسيلها استعدادًا للدفن، ويدرك والدها صعوبة العثور على زوج لها بعد تلك الفضيحة فيقرر مواصلة استعدادات الجنازة الوهمية وإرسال فينيشيا مع أختها الصغرى بلفيوري إلى المنزل الريفي الذي يقيم فيه أخوه، وأن تمكث الفتاتان لديه حتى تكبر فينيشيا ويختلف مظهرها، بحيث يغدو من الممكن تزويجها ممن لا يعرفها، بعد إطلاق اسم جديد عليها هو لوسيلا.

ولكن تيمبريو يدرك بعد انتهاء مراسيم الجنازة أن دليل إثبات فسوق الفتاة دليل هزيل، كما ينتاب الندم أيضًا صديقه جيروندو فيعترف بذنبه لتيمبريو في الكنيسة التي أقيم فيها شاهد على قبر كُتِب عليه اسم فينيشيا، ويقدم إلى تيمبريو خنجرًا ويطلب منه أن يثأر لنفسه منه، ولكن تيمبريو يرفض قائلًا إنه لو كان يعرف أن جيروندو يحب فينيشيا مثله لعدل عن خطبته وأفسح له المجال. وبعد أن يتصالح هذان «الفارسان» بشرفٍ، كما يقول بانديللو، يقومان بزيارة ليوناتو طلبًا للصفح، ويضع تيمبريو نفسه «تمامًا في خدمة» ليوناتو، ولكن ليوناتو لا يطلب منه إلا أن يستشيره أولًا إذا عاد إلى التفكير في الزواج.

وبعد عام كامل يكتمل نضج فينيشيا ويزداد حُسْنها، وعندما يعود تيمبريو لزيارة المنزل الريفي لا يستطيع التعرف عليها، ويقبَل — دون تردد — اقتراح ليوناتو بأن يتزوجها. ويقيم ليوناتو مأدبة بهذه المناسبة، وتستمع فيها فينيشيا لحقيقة ما حدث ويتعرف عليها تيمبريو آخر الأمر، ولا يلبث جيروندو أن يطلب الزواج من بلفيوري أختها الصغرى ويوافق ليوناتو على الفور. وعندما يعود الزوجان مع زوجتيهما إلى مسينا يولم لهم الملك بييرو وليمة عظمى ويضفي على الجميع ألقاب التكريم ويغدق العطايا المالية عليهم أيضًا. ويختتم بانديللو حكايته بذكر العديد من أسر نبلاء صقلية ونابولي وإسبانيا التي يُفترض أنها غدت أصهارًا للأزواج. ويقول راوي القصة إنه يشعر بالحرج وهو يكيل المدائح لهؤلاء؛ لأنه يرى بعضهم بين من يستمعون إلى ما يرويه.

هذا ملخص بالغ الإيجاز لما أوردته «كتب المصادر»، الآنفة الذكر، أحببت أن أورده بسبب ما فيه من تشابه بالحبكة الرئيسية «اسميًّا» في ضجة فارغة، وكذلك بسبب الملامح السردية التي ترجِّح كفَّة ما في القصة من سمات درامية، أهمها المَشاهِد التي يتعذر تقديمها على المسرح، كالوصف المسهب للموكب الملكي، أو الغيبوبة التي انتابت فينيشيا فترة طويلة وإعلان وفاتها وتغسيلها وعودة الوعي إليها، أو المدائح التي يسرف الراوي في إغداقها على النبلاء الإسبان، ناهيك بما يستعصي على التصديق فيها. وعلى الرغم من هذه الملامح السردية التي تستعصي على المسرحة، فإن الحكاية كانت ذات مزايا تَفَوَّقَ فيها بوكاشيو من قبل، بل وفاق فيها أريوسطو الذي يورد بولو رأيًا لناقد إيطالي يُدعى باولو بيني الذي كتب في عام ١٦٠٧م يمتدح استخدامه لها و«براعته في عقد العقدة وحلها» ويعتبرها الصورة المثلى «لأجمل ألوان التارجيكوميديا قاطبة.»

وأما أهم مزايا الحكايات التي اجتذبت شيكسبير فكانت النغمة الواقعية أولًا وقبل كل شيء، ومن بعدها يأتي أسلوب النثر السلس، وأسلوب الملاحظة الدقيق القريب من الدوافع البشرية المألوفة؛ وهو ما يسهل نقله إلى خشبة المسرح، وما تفوق فيه بوكاشيو على الجميع. وأما عند بانديللو فإن رسمه للشخصيات الرئيسية أحيانًا ما يتناقض تناقضًا صارخًا مع الواقعية. ويكفي أن ننظر إلى شخصية تيمبريو نفسه وكيف تتناقض فيه مثالية النبلاء مع النزوع إلى إغواء الفتاة ومواقعتها، وكيف يتناقض ذكاؤه وخبثه في الإغواء مع سهولة انخداعه بالأدلة الهزيلة على خيانة الفتاة، وما يُبديه بعد ذلك من حسن النوايا وسلامة الطوية، والتناقض في تصوير جيروندو بين نُبل الصديق الصدوق وبين التحايل الخبيث على صديقه. وهذه تناقضات ليس من اليسير التغلب عليها، على عكس الصراع بين الحب وواجب الصداقة باعتبارهما موضوعات درامية.

وهكذا فرغم قبول شيكسبير لحكاية بانديللو، فإنه لم يقبل البطلين اللذين يصورهما، وكان تحويله لتيمبريو وجيروندو إلى كلوديو وبينديك يعني رفضه اعتبار إغواء المرأة وخيانتها أسسًا لا علاقة لها بالحكم على شخصية «الرجل»، أي رفضه القول بأن إغواء المرأة وخيانتها أمور «طبيعية»، ومن ثَمَّ تُعتبَر أمورًا ثانوية بالمقارنة بما تفرضه صداقة الرجال من مطالب عليا، ومهما يكن من عدم الاتساق في تلبيتها على نحو ما نرى في سلوك جيروندو، على سبيل المثال. ويقول شيلدون زيتنر (الذي أعتمد عليه في هذه المقارنة):

إن العلاقة بين تيمبريو وجيروندو تتحوَّل في شخصيتي بينديك وكلوديو من منافسة جنسية ذات نظرة استرجاعية تاريخية إلى تميز خُلُقي يستشرف المستقبل. فإن الظلم الذي تتعرض له هيرو، والسبب الذي يقوم عليه بالتبعية، يُقدَّم إلى الجمهور (الذي يحيط سلفًا ببراءتها) من خلال ردود الفعل المنحازة من جانب كلوديو، ودون بيدرو، وليوناتو، ومن خلال تردُّد بينديك في تصديق التهمة، ولهذا ما له من مغزًى. وفي مواجهتهم ينهض إخلاص بياتريس، القائم على العلم، وما يبديه الكاهن من حساسية ويرتكن إليه من المنطق. وأما في بانديللو فإن تعاطف ليوناتو لا يزيد عن شبه أسف على حاله، ولا تمثِّل خيانة فينيشيا — إلى حدٍّ كبير — إلا قصة فرعية أو قل فرعًا من فروع شجرة صداقة الفرسان النامية (ص٩).

ولا شك أن هذا تعديل جوهري في صلب الحبكة، على نحو ما سوف أبيِّن عندما أعرض مواقف النقاد المحدثين من المسرحية، ولكن زيتنر يقول بفارق آخر، مؤكدًا أن أهميته الأيديولوجية لا تقل عن ذلك، ألا وهو تغيير الإطار الأرستقراطي والحربي الذي تدور فيه قصة بانديللو، حيث نرى الملك بييرو الذي يطل من موقعه السامي على الأحداث، ويُنعِم بالمكرمات من ألقاب الشرف والأموال على أبطال القصة؛ إذ إن شيكسبير «يهدم» هذا الإطار ويعيد تركيبه بنبرات السخرية، أو قل حتى يجعلنا نسخر منه. ﻓ «الأمير» دون بيدرو ليس ملكًا، وغير مقترن بملكة، وليس له ولي للعهد. وقصة انتصاره يرويها رسول تسيطر على فكره مراتب التميُّز الطبقي ولا يكترث للقتلى من العامة. كما يتدخل دون بيدرو في الأحداث بدلًا من «مراقبتها» من علٍ، وعلى الرغم من أنه ينجح في خطبة هيرو لكلوديو، وفي الربط بين بياتريس وبينديك، فإنه يرتكب الأخطاء مثل الآخرين في المسرحية، ثم لا يعترض على النصيحة التي يقدمها بينديك إليه بأن يتزوج.

ويذهب شرَّاح آخرون إلى أهمية تعادل كلوديو وهيرو في المرتبة الاجتماعية والثراء، واختلاف تيمبريو عن فينيشيا في كلٍّ منهما عند بانديللو، ولكن هذ الاختلاف ليس جوهريًّا في قصة بانديللو أو في مسرحية شيكسبير، والواقع أن شيكسبير لا يُغفِل الوعي الطبقي، ولكنه يجعله مثار سخرية دون تركيز شديد عليه، فإنه لو فعل لأحدث تشويشًا في قضايا الجنسين التي تمثِّل مدار اهتمامه الرئيسي.

ويشير من رصدوا المعالجات السابقة للموضوع ومدى تأثُّر شيكسبير بها إلى احتمال تأثُّره بأريوسطو (في غضبة أورلاندو التي نُشرت عام ١٥١٦م وترجمها جون هارنجتون عام ١٥٩١م)، وذلك فيما يتعلق بقصة الوصيفة (أو الخادمة) داليندا التي تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ مارجريت عند شيكسبير. ولكن تعديلات شيكسبير تحوِّل الشخصية تحويلًا شبه جذري، فهي عند أريوسطو شخصية تقليدية تخون سيدتها في سبيل تحقيق طموحاتها الطبقية، وتُكتشَف خيانتها في النهاية ويُحكَم عليها بالانزواء في دير للراهبات ما بقي لها من العمر.
ويشير راصدو المعالجات السابقة أيضًا إلى احتمال تأثُّر شيكسبير بقصيدة ملكة الجان للشاعر الإنجليزي إدموند سبنسر. ففي طبعة ١٥٩٦م من هذا العمل (٢٢  /  ٤  /  ١٦–٣٨) يقص سبنسر قصة فيدون الذي يوشك أن يتزوج كلاريبيل، فيخونه رجل كان يفترض أنه صديقه واسمه فيليمون «إما حسدًا لي إزاء ما سأنعم به من خير/وإما لأنه بطبعه ميَّال إلى الشر» (٢٢  /  ٢-٣) وفي هذا ما يوحي بشخصية دون جون، ولكن مع اختلاف مهم، فإن فيليمون يحب كلاريبيل ويريدها لنفسه، وفي سبيل هذا يغازل خادمتها بريين ويقنعها أنها لا تختلف عن سيدتها إلا في الملبس، ومن ثَمَّ يدبِّر خُدعة لإقناعه «صديقه» بخيانة عروسه، وهي خدعة تماثل ما يصوره بانديللو وأريوسطو باستثناء عدم وجود النافذة، وتنجح الخطة، ويغضب فيدون فَيَدُسُّ السُّمَّ «لصديقه»، ويطارد الخادمة محاولًا طعنها بخنجر، ولكن السير جايون يدركه ويمنعه، مع أحد الحجاج الذي يُلقِي الدرس المعهود في سبنسر عن الاعتدال.
ويورد الدارسون «سوابق» كثيرة، من أهمها مجموعة قصص وأشعار تَحضُّ على مكارم الأخلاق، نشرها ويتستون عام ١٥٧٦م بعنوان الصخرة الصامدة ويتناول فيها الصعوبات الناشئة عن استراق السمع للمحادثات وسوء تفسيرها، وهو ما يحتمل تأثُّر شيكسبير به. وكذلك مسرحية كتبها إبراهام فرانس باللاتينية عنوانها فكتوريا (١٥٨٠–١٥٨٣م) ومسرحية بالإنجليزية عنوانها فيديل وفورتونيو يقال إن مؤلفها أنتوني منداي (١٥٨٥م) وتحاول كلٌّ من المسرحيتين استغلال ذيوع الصيت الذي حظيت به مسرحية الإيطالي لويجي باسكواليجي وعنوانها المخلصة (١٥٧٩م). ويرجح الباحثون أن شيكسبير لم يستفِد إلا قليلًا من هذه الأعمال إن كان اطَّلع عليها أصلًا.
ويجمع النقاد على أن الاتجاه الذي سارت فيه تعديلات شيكسبير على ما يمكن أن يكون استعارة من سابقيه أهم كثيرًا من تأثير هذه «الاستعارات» المفترضة؛ إذ إنه يقيم بناءً اجتماعيًّا جديدًا تكتسب فيه كل شخصية أبعادًا جديدة، خصوصًا على المستوى النفسي، بسبب ما ابتكره من شخصيات جديدة أهمها بياتريس وبينديك، اللذان يمثِّلان في رأي البعض حبكة ثانوية، وفي رأي البعض الآخر حبكة موازية، إلى جانب شخصيات «الحرس». وكانت «خيبة» الشرطة آنذاك مضرب الأمثال، وإقدام شيكسبير على جعل هذه الشخصيات قادرة على إحقاق الحق وإقامة العدل يدل على مدى السخرية الكامنة في موقفه، وإن كان بعض النقاد يرون حتى فيما أضافه شيكسبير تأثيرًا من مصدر غير مباشر ألا وهو كتب «السلوك القويم»، وهي كتب ترشد الناس إلى طرائق السلوك القويم والكلام المهذب. وكان من أشد هذه الكتب تأثيرًا كتاب بعنوان رجل البلاط كتبه الإيطالي كاستيليوني، وترجمه إلى الإنجليزية السير توماس هوبي عام ١٥٦١م. وذكرت باحثة في مطلع القرن العشرين أنه يتضمن نماذج الحوار «الذكي» أو التراشق المسرحي ما بين بينديك وبياتريس، أو ما يسمَّى «الحرب المرحة»، كما يروي رجل يُدعى الكونت لودوفيكو دي كانوسا في الكتاب المذكور كيف تحب امرأة رجلًا لأنها سمعت أنه يهيم بها حُبًّا، وكيف أن تلك المرأة تقبل حب ذلك الرجل وتراه جديرًا بحبها بسبب «إجماع الناس على هذا الرأي» (بولو ٢  /  ٧٩). ولكن ذلك مردود عليه بأن علاقة بياتريس بصاحبها بينديك لا تبدأ بسماع ما يقوله الناس؛ إذ كانت تربطها به علاقة سابقة (أي قبل بداية المسرحية، كما تقول) ثم انقطعت لأسباب غامضة، كما أنها لا تعدل موقفها عند «استراق السمع» إلى حديث هيرو وأورسولا إلا من حيث ما تُتَّهَمُ به من «قسوة»، ومن ثم فإن تغيير موقفها يقوم — كما يقول النقاد — على «آلية سيكلوجية» أشد تعقيدًا مما يرويه دي كانوسا المذكور. ومع ذلك فإن باربرا لوولسكي (Lewalski) تقول في مقدمتها لطبعة المسرحية الصادرة عام ١٩٦٩م (دوبوك، أيوا) إن كتاب كاستيليوني يُعتبَر معالجة سابقة لهذه المسألة من زاوية أعمق؛ إذ ترى في المسرحية ما تسميه «اتفاق أنساق الرغبة مع أنساق المعرفة» ومن ثم ترى أن المسرحية تدين بالكثير لصورة الحب التي ترسمها الأفلاطونية الجديدة، وهو ما يشرحه الكاردينال بيمبو في كتاب كاستيليوني المذكور (لوولسكي، ص١٤).
والحق أن السياق الأكبر للتراشق المسرحي هو شيوع الحوار «الذكي» في عصر النهضة باعتباره من وسائل إقامة الحجة ودحض أقوال المعارضين، وكان المعلمون يقومون بتوجيه طلابهم إلى الأساليب البلاغية اللازمة لذلك في الجامعتين الإنجليزيتين العريقتين (أوكسفورد وكيمبريدج) وهو ما يُرْوَى عن تعليم الشاعر ميلتون (انظر مقدمة الترجمة العربية للفردوس المفقود) ويتوسع جويل ألتمان (Altman) في كتابه مسرحية الذهن في العصر التيودوري: البحث البلاغي وتطور الدراما الإليزابيثية (بيركلي، كاليفورنيا، ١٩٧٨م) في إيضاح دور البلاغة في إبراز جانبي كل قضية من القضايا، ويفسر لنا هيمنة عنصر الحوار في القصص النثري وفي كتب تعليم البلاغة في عصر النهضة، والحوار في ضجة فارغة، خصوصًا بين بينديك وبياتريس، يدين بالكثير لهذا التراث، مثلما يدين للكاتب المسرحي جون ليلي (Lyly) بالأسلوب الذي اكتسب اسمه من أحد شخوصه وهو الأسلوب اليوفوي (Euphuistic) (نسبة إلى يوفيوس) (Euphues) ويتميز بالتوازنات التراكيبية المعقدة، وتقابل أطراف العبارات، والتقديم والتأخير، وأبنية الجمل المتوازنة، مما سوف نناقشه حين نعرض لقضية الأسلوب.

(٤) الأنماط الخاصة بكل من الجنسين

إذا كان الحوار، كما هو معروف، من ضرورات الدراما، فإنه يُستخدم هنا استخدامًا خاصًّا، خصوصًا الحوار «اليوفوي» أو القائم على أساليب البيان والبديع وعلم المعاني (وهو ما حاولت الالتزام بإبرازه قدر الطاقة في الترجمة العربية) إذ لا يقتصر دوره على الدلالة على الأنساق النثرية الخاصة بهذه المسرحية بل يُعتبر «وسيطًا» لتحديد الدور الخاص بكل من الجنسين، فليس الحوار هنا من الضرورات الشكلية للدراما وحسب، بل هو، كما تقول كلير ماكيتشيرن، «علامة مميزة للهوية الاجتماعية» (ص٢٧). ومن الأسباب التي تدفع إلى القول بأن بياتريس «خير من يتزوج بينديك» (٢  /  ١  /  ٣٢٤) هو أنها «تتحدث مثل الرجال في المسرحية إلى حدٍّ بعيدٍ» (ماكيتشيرن ٢٧) وهكذا فإن شيكسبير يقيم التعادل بين الجنسين من خلال اللغة، فاللغة تفصح عن مكنون النفس (مهما حاول المرء الكتمان) وتفصح عن ديناميات الذهن، وتتيح للمرأة أن تهزم الرجل مثلما تكشف عن خوف الرجل منها.

ولكن الإطار الذي يبدعه شيكسبير للشخصيتين اللتين ابتكرهما إطار ثقافي يمثِّل امتدادًا لما يُسمَّى بتراث الحوار أو المناظرة. فإذا كان كلٌّ منهما ينتمي شكليًّا إلى «نوع» مسرحي مألوف، وهو كاره الزواج وسليطة اللسان، فإنهما يشتركان في ارتيابهما بالحب الرومانسي الذي يتكوَّن من «رغبات ألطف وأرق» (١  /  ١  /  ٢٨٤)، كما يمثِّلان الوجهين المتقابلين لفكرة واحدة تقوم على إدراك حتمية الارتباط بالجنس الآخر والتخوف من هذا الارتباط إلى جانب الرغبة فيه! ومن هنا ينبع تعقيد تصوير شيكسبير للعلاقة بين بينديك وبياتريس، واختلافه عن النماذج «الأحادية» في التراث الأدبي لكاره الزواج وسليطة اللسان، وهو التراث الذي ترصده ليندا وودبريدج (Woodbridge) في كتابها المرأة والنهضة الإنجليزية: الأدب وطبيعة المرأة في الفترة ١٥٤٠–١٦٢٠م (أوربانا وشيكاغو ١٩٨٤م)، إذ تورد نماذج أدبية كثيرة لهذين النمطين في كتابات الفترة المذكورة، وأقصد بتعبير «الأحادية» أن الصور القائمة في التراث لهذه الشخصيات نمطية مبسَّطة ولا تتغيَّر. وانظر مثلًا ما ورد في كتاب بعنوان عن الزواج واختيار الزوجة: مناظرة ممتازة ممتعة فلسفية بين تاسو وأخيه، وهو الذي تُرجِم إلى الإنجليزية في عام ١٥٩٩م:

أرسل ديموثينيز ردًّا على صديقه الملك كورينثوس يجيب فيه على طلبه أن يسرد له الصفات التي يجب أن ينشدها في المرأة التي اعتزم الزواج بها، فكتب يقول: لا بد أولًا أن تكون غنية، حتى تمكِّنك من الحفاظ على مظهرك والتباهي أمام الناس، وبعد ذلك يجب أن تكون كريمة المحتد، حتى تشرف بنسبها، ثم يجب أن تكون صغيرة السن، حتى ترضيك، وأن تكون جميلة حتى لا تنشد صيدًا آخر، وأخيرًا أن تكون أمينة تتحلى بالفضيلة، حتى لا تتجشم عناء تكليف جاسوس بمراقبتها.

(مقتبس في ماكيتشيرن ص٢٩)

وإذا كانت هذه القائمة تتضمن الصفات التقليدية التي يسردها بينديك في ٢  /  ٣ فإن حديث بينديك (المنفرد) يختلف في رنة السخرية التي يقوم عليها أسلوبه؛ إذ يبدأ تأمله بإنكار الحب قائلًا إنه لن يهبط قط إلى مستوى هذا الحمق (٢  /  ٣  /  ٢٤-٢٥) ولكنه لا يستطيع أن يقاوم النظر فيما يمكن أن تكون عليه «صورة» زوجته، ويختتم أوصافه بما يبدو أنه نبذ للفكرة برمتها «لن تفلح امرأة واحدة في إرضائي حتى تجتمع فيها هذه الشمائل الحسنة كلها» (٢٧-٢٨)؛ ولكنه يستأنف تأملاته كأنما تستعصي مقاومتها. ونرى أن شيكسبير هنا يستخدم نمط كاره الزواج، ولكنه يفعمه بالحيوية في شخص رجل يكثر من الكلام وحسب، فكأنما يحتاج إلى الموقف التقليدي دفاعًا عن نزوعه إلى نقضه.

والواضح أن بينديك يرسم صورة لامرأة خيالية أو المرأة «الوهمية» في عصر النهضة — ما دامت تجمع بين الجمال والحكمة والثراء والفضيلة وهدوء الطبع وكرم المحتد وحُسن الحديث — ولم تكن هذه بالتي توصف في كتب الزواج الشائعة آنذاك؛ إذ كانت توصي في معظمها بتحاشي الطموح في اختيار الزوجة لأسبابٍ عملية واقعية. وكان أكثر ما تنص عليه تلك الكتب العجز عن تحقيق ذلك المثل الأعلى محذرةً من خضوع الرجل لسيطرة المرأة حين يضع عنقه في نير القران، كما كانت تقول إن إحدى العقبات الرئيسية لسعادة الرجل عدم انصياع الزوجة لنير الزواج، لفظيًّا أو جنسيًّا، أو لفظيًّا وجنسيًّا معًا. والواقع أن معظم كتابات عصر النهضة المعادية للمرأة تشترك في افتراض وجود صلة أو رابطة ما، بين مهارة التعبير اللفظي وبين الفجور، وتؤكد من ثَمَّ أن طلاقة لسان المرأة خطر يهدد ضمان انتماء الطفل لأبيه. وتقتطف ماكيتشيرن بعض أبيات وردت في كتاب للإيطالي بينديتو فاركي بعنوان شعار الغيرة وتُرجم إلى الإنجليزية عام ١٦١٥م، يقول فيها: «إن اللسان البطيء اللطيف دليل على العفة/ولكن سرعة الكلام وارتفاع الصوت من أدلة الخيانة/  والألفاظ تجرح القلب الباطن أكثر من السيوف/ونادرًا ما نجد بين ذلقات اللسان من تتمتع بالعفة» (ص٣٢). ويشير نقاد آخرون إلى أن المرأة المثالية في عصر النهضة كانت من تُشَاهَدُ ولا يُسمَع لها صوت، أو قل من حذقت فن الكتمان. وفي هذا الإطار تتجلى لنا جرأة شيكسبير في ابتداع امرأة تمتاز على الجميع بصدق إحساسها وصواب حدسها وقدرتها على الوفاء والإخلاص، رغم لسانها الذرب وصوتها المرتفع، فكأنما يتحدى شيكسبير ميراث عصر النهضة أو يرسم صورة جديدة للمرأة فيما يُسمَّى بواكير العصر الحديث.
وربما يَدْهَشُ البعض في عصرنا الحالي إذا تأمَّل مدى ما ورثه عصر النهضة من العصور الوسطى من أفكار تحطُّ من قدر المرأة، أو نظر في محاولات تبرير القول بأنها دون الرجل خَلْقًا وخُلُقًا، وكيف كان البعض يستند في ذلك إلى أن نساء الأرض ورثن طبع حواء، العاصية التي عوقبت على عصيانها بآلام الحمل والولادة، كما هو معروف، ولكننا سوف نفهم في ضوء ذلك ترديد الرجال في المسرحية ألفاظًا تنم على هذه الأفكار، وخصوصًا الفكاهات الخاصة بضعف المرأة وخيانتها. وقد أصدر باحث يدعى توماس لاكير (Laqueur) كتابًا عنوانه: ممارسة الجنس: الجسد بين الرجل والمرأة من اليونان إلى فرويد، (كيمبريدج، ماساتشوستس ١٩٩٠م) يحلِّل فيه الأصول التي كان يفترضها بعض من يزعمون العلم بالبيولوجيا في إقامة أسباب «دونية» المرأة في نظرهم، وهو نمط بيولوجي كانت له عواقبه «اللاهوتية» والسياسية. فالصورة النمطية المذكورة تقيم افتراض نقص المرأة في المنطق والطاقة الفكرية على أسس بيولوجية، وهو ما يعني صعوبة الطعن في هذه الصورة ما دامت قائمة على ما كان يعتبر «علمًا» وطيدًا منذ أيام جالينوس.

ومهما يكن من تكرار العبارات التي تستدعي هذه الصورة النمطية في المسرحية على ألسنة الرجال، فإن أفعال بينديك وبياتريس وأقوالهما من البداية إلى النهاية تطعن فيها بل تكاد تصيبها في مقتل. فالحدث الذي درج النقاد على اعتباره ثانويًّا، أي قصة الحب بين بياتريس وبينديك، يمثِّل في نظري الكفة الأخرى التي تكفل للميزان اعتداله في مقابل كفة التهمة التي وُجِّهت ظُلمًا لهيرو وتصديق كلوديو لحديث الإفك وانهيار والدها، إلى آخر ذلك من أحداث، أي إن اشتباك قصة بينديك وبياتريس بقصة هيرو في مشهد الكنيسة والمشهد التالي يمثل المحور الحقيقي للحدث، وفعل الأمر الذي تطلقه بياتريس في وجه بينديك «اقتل كلوديو» يمثِّل ما كان أرسطو يسميه نقطة «الانقلاب. وأظن أن أنجح لحظة في المسرحية اللحظة التي يستوثق فيها بينديك من صدق حدس بياتريس ويعاهدها على منازلة «صديقه» كلوديو تحقيقًا لرغبتها وثأرًا من الظلم الذي حاق بالفتاة البريئة. وهنا يتكشف لنا أن كل ما كان يقوله ويفعله هذان، باعتبارهما يمثِّلان نمط كاره الزواج والسليطة، لم يكن سوى قناع يخفي ذواتهما الحقيقية، وفيما يلي من أحداث وأقوال نجد أن الهوة تتسع بين ما يرى كل فرد نفسَه عليه أو يظن أنه «حقيقته» وبين حقيقته في الواقع على امتداد الفصلين الرابع والخامس بعد السطر ٤ / ١ / ٢٨٨.

والصورة التي يرسمها شيكسبير لبطلته بياتريس صورة متسقة من البداية للنهاية، وتمثِّل اختلافًا حاسمًا عن المعايير الراسخة في عصر النهضة لهوية كل من الجنسين، وتجمع الجماهير التي شاهدتها على المسرح، مثلما أجمع النقاد (باستثناء كامبل الذي يصفها في طبعته للمسرحية عام ١٨٣٨م بأنها «امرأة كريهة») على أنها أحب بطلات شيكسبير إلى القلوب، بسبب حيويتها وفيض إحساسها ولماحيتها، وإصرارها «الرشيق» الراسخ على المساواة الذهنية مع الرجال. ونحن نضحك من العبارات التي يصفها بينديك فيها فيقرنها بالوحوش أو يدعوها «لسان هانم» أو «سخرية هانم» قائلًا إن «كلماتها خناجر» (٢ / ١ / ٢٢٦) لأنها أوصاف لا تنطبق عليها، وهي تعترض على خضوع المرأة لزوجها بنبرات الهزل («أفلا يُحزِن المرأة أن تسودها قطعة من تراب الأرض؟ وأن تقدم حسابًا عن حياتها إلى مضغة من حمأ مسنون») (٢ / ١ / ٥٣-٥٤) ولكنه اعتراض لا يفصح عن سلاطة اللسان بقدر ما يفصح عن غضب حقيقي من جانب فتاة ذكية إزاء الأعراف الاجتماعية السائدة وما تفرضه من قيود على الذات، وبقدر ما يفصح عن لماحية ذهنية تتمتع بها من تقدِّر قيمة ذكائها. ويتأكد ذلك عندما يجدُّ الجِدُّ وتشهد واقعة تدرك فيها بحدسها الصادق ما حاق بالبريئة هيرو من ظلم، فإذا بالهزل يتحول إلى جِدٍّ «عجبًا! هل يخدعها بالذهاب إلى موعد عقد القران ثم يرميها بالتهمة علنًا؟ بالباطل والبهتان السافر والحقد القاهر؟ … «تتحدث مع رجل من النافذة!» رواية تقبل التصديق!» (٤ / ١ / ٣٠٢–٣٠٤، ٣٠٧) وقد مهَّد شيكسبير لهذا الموقف وما يفصح عنه من حزمٍ وعزمٍ من جانب بياتريس بالمشهد الذي يحيا فيه غرامها القديم بصاحبها بينديك، نتيجة استراق السمع (بحيلة مدبَّرة) إلى ما تقوله هيرو وأورسولا، وهو المشهد الذي ينتهي بإثبات براعتها اللفظية في نبذها للزهو والتكبر والاستعلاء على بينديك، فتقدِّم لنا ما يصفه النقاد أنه سونيتة ناقصة:

ما هذِي النَّارُ بآذَاني؟ هل حقٌّ ما سَمِعَتْهُ الآذانْ؟
أتُراني أُتَّهَمُ بأنِّي مُتكبِّرةٌ ساخرةٌ وإلى هذا الحدِّ أُدَانْ؟
وإذن فوداعًا يا سُخريةُ وداعًا يا زهو العذراءْ!
لا يكمن خلف تكبُّرنا وتعالينا مجدٌ بل محض هَبَاءْ!
لا تيأس يا بينديك مِنْ حُبِّكَ فلسوفَ أُبادِلُك غَرامكْ،
وأُرَوِّضُ قلبي البرِّيَّ الشَّاردَ بأيادي حُبِّكَ وهُيَامكْ.
إنْ كُنْتَ تُحِبُّ فسوف يَحُثُّكَ ما عندي من فرطِ حنانْ،
أنْ تَرْبِطَ ما بَيْنَ عَوَاطِفِنَا المَشْبُوبَةِ بِرِبَاطٍ قُدسيٍّ وقِرانْ.
الناسُ تقولُ بأنَّكَ تَتَمَتَّعُ بِشَمَائِلَ عُلْيَا وجَدِيرٌ بي،
وأنا مِنْ دُونِ كَلامِ النَّاسِ أُحِسُّ بذَلِكَ في قلبي.
(٣ / ١ / ١٠٧–١١٦)
ومن أهم ملامح تصوير شيكسبير لبطلته بياتريس أنه يقدم لنا صورة حية لا صورة نمطية، بمعنى أنها تتطور وتتغير، وتثبت أن ذرابة لسانها — الذي يمثِّل هنا لسان المرأة بصورة مطلقة — لا تنتقص من عفَّتِها، على عكس ما كانت كتب السلوك التي أشرت إليها آنفًا تقول به. وهي إذن صورة مقابلة للصورة التي نراها في هيرو، وهي التي يفترض أنها تمثِّل «المثل الأعلى» في تلك الأيام للمرأة، وهي صورة العفيفة الصامتة المطيعة. ونحن نجد أول إلماح لهذا في مشهد الرقص القصير الذي يبدأ في الفصل الثاني، المشهد الأول، السطر ٧٥. فعندما يطلب دون بيدرو الذي يضع على وجهه قناعًا أن يراقص هيرو، تفرض عليه شروطًا تشبه وصفها لنفسها قائلةً «بشرط أن تبطئ في خطوك، وتتلطَّف في نظرتك، وتلتزم الصمت» (٢ / ١ / ٧٧) فكأنما تعي وعيًا تامًّا ما تقضي به الأعراف التي عليها أن تلتزم بها، وهو ما يصفه هاري بيرجر (Berger) بأنه «نوع من الالتفات» أي الحديث بضمير المخاطب عن فكرة تنطبق على المتكلم ويلزم لها ضمير المتكلم («ضد الرقصة الخماسية: السياسات الجنسية والأسرية في ضجة فارغة»، مجلة شيكسبير الفصلية ٣٣، ١٩٨٢م) وهيرو تلتزم الصمت في بداية المسرحية باستثناء عبارة وحيدة تقولها في السطر ١ / ١ / ٣٤، وفي الفصل الثاني لا تقول إلا عبارة واحدة ٢ / ١ / ٥ قبل مشهد الرقص. وهي تنفِّذ الخطة التي وضعها دون بيدرو بدقة، ولكنها تفصح في المشهد المنظوم كله (٣ / ١) عن قدرة ذهنية نادرة وطاقة شعرية لا شك فيها، بل وتقدم بعض الصور «الملحمية» التي لا نجدها إلا لديها في المسرحية، وأظن أن ذلك مبعثه أنها تحادث امرأة، «وتسترق السمع» إليهما امرأة، أي إن موهبتها انطلقت من عقالها في رأيي بسبب غياب الرجال عن المشهد. وانظر هذه الصورة «الملحمية»:
إذْ أَنضَجَتِ الشمسُ زُهورَ العَسَلِ فطالتْ واجتمعتْ،
كيْ تمنَع شمسَ الصُّبحِ وتحجُبها، مثل رجالِ أميرٍ
كَرَّمَهُم وأحلَّهُمُو أعلى منزلةٍ فإذا بِهِمُو
يُبْدون استِكْبَارًا ويَثُورُونَ على سُلْطَةِ مَنْ أنشأَهُمْ!
(٣ / ١ / ٧–١٠)

وانظر أيضًا هذه الصورة الشعرية التي لا نجد مثيلها في حديث سواها:

هَا هيَ ذِي بِياترِيس — مِثلُ الطَّيْرِ الحاذِقِ
إذْ يَتَوَثَّبُ في حِرصٍ قُرْبَ الأرضِ — تتسلَّلُ كي تسْمَعَ ما نَحكِي.
(٣ / ١ / ٢٤-٢٥)

أو هذه الصورة «المعقدة» التي تُشبِّهُ فيها بريق العينين ببريق سيفين على صهوتي فرسين:

… إذا تَبْرُقُ
عيناها بِبَريقِ سُيُوفِ السُّخريةِ والاستهزاء على صَهْوةِ فرَسَيْن!
(٣ / ١ / ٥٠-٥١)

ولستُ أميل إلى قبول الرأي الذي يبديه بيرجر حين يزعم أن هيرو تحسد بياتريس وتبدي إعجابها بها في الوقت نفسه، أو أن هيرو تحب بياتريس وتكرهها في آنٍ واحدٍ، فذلك من باب التأويل الذي تصعب إقامة الحجة عليه من واقع المسرحية، فالواضح أن شيكسبير يتعمَّد إقامة المقابلات التي لا بد منها في الدراما، فكل دراما تقوم على الصراع، وما الحوار إلا صورة لفظية من المقابلة، والمقابلة تستدعي ما سبق أن ذكرته آنفًا عن فكرة التناظر أو المناظرات التي كان يقوم عليها التعليم في الجامعات القديمة. وشيكسبير لا يقدم مقابلات بين أنماط لأية شخصيات ثابتة لا تتغيَّر وقد ترمز لفكرة أو صورة أو عُرْفٍ من الأعراف، ولكنه يتيح لكل شخصية مجال حركة قد يضيق أو يتسع وفقًا لتطور الحدث المسرحي، وهو هنا يتيح لهيرو «الصامتة» أن تنطق بالشعر مثل بياتريس ومثل الرجال، وأن تتحدث عن بياتريس بالأسلوب «اليوفوي» الذي أشرت إليه آنفًا، وتعتمد في نظمها المضغوط على الطباق أساسًا إلى جانب عدد من الصور الشعرية التي تنسبها «اسميًّا» إلى بياتريس، ولكن الجمهور يستمع إليها بلسان هيرو نفسها:

… لم أشهَدْ يومًا رَجُلًا —
مهما يبلغْ مِنْ حِكْمَتِهِ وفُتُوَّتِه ووسَامَتِه أو نُبْلِه —
إلَّا وبياتريس قد جاءَتْ بِنَقيضِ صِفَاتِه! فإذا كانَتْ بَشْرَتُهُ بَيضاءْ
حَلَفتْ إنَّ الرَّجُلَ خليقٌ أن يَغْدُو أُختًا لا أكثرْ!
وإذا كانَتْ بَشْرَتُهُ سمْرَاء، قالتْ إنَّ الفِطرةَ شَاءَت أن تلهُوَ
بكيانٍ مَطْمُوسْ! فإذا كان طوِيلًا قالت: رُمْحٌ بِسِنانٍ سَيِّئ!
أو كان قصِيرًا قالت: صُورةُ قَزمٍ سَاءَت في فصِّ عَقيقْ!
إنْ كان فَصِيحًا قَالَت دوَّارة ريحٍ تَتَحوَّلُ مع كلِّ ريَاحْ
أو كان صَمُوتًا قالت جُلْمُودٌ ليسَ تُحرِّكُهُ أيُّ رياحْ!
(٣ / ١ / ٥٩–٦٧)

وانظر إلى براعة صياغتها لتعذر الإفصاح لبياتريس عن حقيقة مسلكها وعيوبه:

لكنْ هلْ يجرُؤُ أحدٌ أن يُبلِغَها بالأمر؟ إنِّي إنْ أنْطِقْ،
سَخِرتْ مِنِّي فغَدَوْتُ هَبَاءً، أو ضَحِكَتْ مِنِّي حتى أُصْبِحَ بَكْمَاءْ!
(٣ / ١ / ٧٤-٧٥)
وهذا جميعًا يؤكد ما أقول به عن عدم التزام شيكسبير بما يوحي به ظاهر المسرحية من تقديم شخصيات نمطية، فالظاهر أنه يقدم صورتين متضادتين للمرأة، ولكن الواقع أنه يهب كل صورة عناصر قوة تجعلها تنمو في «مجال الحركة» المتاح لها، بحيث تلتقي في الحدث الذي يعتبره النقَّاد رئيسيًّا من الناحية الشكلية على الأقل، وهو اتهام هيرو الظالم بالانحلال، وفيه يتسنى حتى لوالد هيرو — السنيور ليوناتو — أن يقدم صورة نمط آخر (نمط الأب الذي ثُلِمَ شَرَفُه) ثم «يتحرك» في مجال «حركة» جديد طلبًا لإنقاذ سمعته. أي إننا نشهد حتى في الأدوار التي لا يكاد يختلف أحد على طابعها النمطي بذور قوة تجعلها تكسر هذا الطابع وتبرز لنا من الخبايا ما كنا نجهله. وهو ما يَصْدُقُ أيضًا على كلوديو، الجندي الذي ينشد مصاهرة أسرة ثرية ويرى في هيرو عروسًا مناسبة، فهو يكشف عن جانب انحطاط ينم على ضعف فطري، ليس مرده إلى صغر سنِّه فحسب، بل ينتمي مثل الكثير من سمات الضعف الأخرى للتقاليد الاجتماعية والأعراف التي لا تجد غضاضة في اتهام أي امرأة بالفجور استنادًا إلى ما تغذوه الأفكار الموروثة من العصور الوسطى عن ضعف المرأة الفطري، ثم إذا به ينهار عندما يعلم ببراءتها وينتقل من نقيض إلى نقيض فيقبل أن يتزوج فتاة دون أن يرى وجهها، تكفيرًا عن ذنبه في التشهير بهيرو (التي يتصور أنها ماتت)، ومن ثَمَّ فهو لا يصور النمط الذي نعهده في كتابات عصر النهضة ولا كتابات الأدباء منذ القدم.
وهكذا نرى أن شيكسبير يكسر الأنماط الخاصة بكل من الجنسين من خلال تلاقي الحبكتين حبكة هيرو-كلوديو وحبكة بياتريس-بينديك، واشتباكهما الذي أسميته محور الحدث في المسرحية، وهو التلاقي أو الاشتباك الذي سوف أناقشه مناقشة تفصيلية عندما أتعرض لفنون البناء في هذه المسرحية، ولكنني سوف أتعرض قبل ذلك لصورة الديوث والقرون التي يقوم عليها كثير من الفكاهات اللفظية في النص، والتي قد لا تصبح فكاهات على الإطلاق في نظر من يقدم المسرحية اليوم، ويبدو لي أن شيكسبير كان يريد تعميق الوعي بهذه الصورة الموروثة من العصور الوسطى، ويريد تصويب سهامه إليها في الصميم عندما كتب زوجتان مرحتان من وندسور، بعد هذه المسرحية، وهي المسرحية التي أتصور أنه كتبها للطعن في تراث الخيانة الزوجية (لا لتصوير فولسطاف العاشق، كما أبيِّن بالتفصيل في مقدمتي للترجمة العربية) أو للطعن في «الأدبيات» التي تقوم على صورة الديوث، ومن ثَمَّ هدم صنم ورثه عصر النهضة من القرون الوسطى.

(٥) صورة الديوث

شاع في العربية المعاصرة استعمال لفظ «الدَّيُّوث»، مرادفًا للكلمة الإنجليزية (cuckold) وهي التي تعني من تخونه زوجته دون علمه، وأما الكلمة العربية فتقول المعاجم إنها تعني من لا يغار على أهله أو القَوَّاد على أهله. وإذن فإن الكلمة الإنجليزية الأقرب إليها (wittol) المنحوتة من (wit) التي تفيد العلم والمقطع الأخير من (cuckold) والفرق واضح ومهم، خصوصًا لأن قطبي المعرفة والجهل من الأقطاب المهمة التي يستند إليها بناء المسرحية، ولكنني أستخدم اللفظة العربية بمعناها الشائع، وهو الذي ذكرتُه أولًا، مثلما استخدمتها بالمعنيين جميعًا في ترجمة الكلمتين الإنجليزيتين الواردتين في زوجتان مرحتان (٢ / ٢ / ٢٨٣) وفي سطر واحد، الأمر الذي يدل على أن الفارق الدقيق الذي تورده المعاجم لم يكن يُراعَى دائمًا.
وتبدأ الباحثة جيل كيرن باستر (Paster) دراستها عن المسرحية وعنوانها «ضجة فارغة من منظور حديث» (١٩٩٥م) بالإشارة إلى شيوع تراث صورة الديوث والفكاهات القائمة على تلك الصورة في مسينا، المدينة التي تدور فيها أحداث المسرحية، ثم تنطلق في تحليل ما تنطوي عليه من استرابة الرجل بالمرأة في عصر شيكسبير متخذة منهج التحليل النفسي، وهو ما سوف نعرض له في سياق الاتجاهات النقدية، ولكن يكفي الآن أن أشير إلى ما تقوله من أن «الخوف من الارتباط بقرني الديوث ليس مقصورًا على الرجال، مثلما لا تُعتبَر مقاومة الزواج مقصورة على الهوية الذكورية» (ص٢١٦). والمفتاح الذي يفتح لنا باب هذه الظاهرة الغريبة لا يتمثَّل عندي في التحليل النفسي في المقام الأول، وإن كان منهجًا له وجاهته في ذاته، بل في البناء الذي يعتمد على الكشف والاكتشاف، فنحن في هذه المسرحية ما نفتأ نصادف كشفًا بعد كشف، كالكشف عن خبث دون بيدرو، والكشف عن الحب المتبادَل بين بينديك وبياتريس، والكشف عن عفة هيرو، بل والكشف عن وجهها نفسه في المشهد الأخير وهلم جَرًّا، و«الكشف عن المستور» إذن مبدأ بنائي توحي به صورة الديوث، وما أشاعته هذه الصورة من فكاهات على المستويين الشعبي والرسمي. وإذا لم يكن شيكسبير قد صوَّر لنا أي ديوث في أية مسرحية من مسرحياته، فقد قال الدكتور جونسون في معرض ملاحظة حول ختام المشهد الخامس من الفصل الثالث من زوجتان مرحتان، برنة أسف واضحة، «إن ولع مؤلفنا بصورة الديوث أشد من ولعه بأي صورة أخرى، فيما يبدو لي، ويندر أن يقدم لنا صورة شخصية «خفيفة» لا تحاول بث المرح بإشارة ما إلى الأزواج ذوي القرون» (جونسون عن شيكسبير، ص١٨٦).
ولم أقتنع بما يقوله معجم أوكسفورد الكبير عن أصل ارتباط القرون بالديوث، فتفسيره متكلَّف صعب التصوُّر، فرجعت إلى معجم بروور (Brewer) للعبارات والخرافات (طبعة ١٩٩٥م المنقحة) فوجدته يردُّ الارتباط إلى الإمبراطور اليوناني أندرونيكوس الذي كان كلما «فاز» بزوجة أحد الرجال أمر بوضع قرنين على باب منزله إشارةً إلى «تعويضه» بمنحة حقوق الصيد في أراضي ذلك الإمبراطور. وأما في الأدب فأشهر مصدر للفكرة قصة ديانا وأكتيون الواردة في مسخ الكائنات للشاعر الروماني أوفيد (٣ / ١٣٨–٢٤٩). والمعروف أن أكتيون كان من مهرة الصيادين، كما تروي الأسطورة، وحين وقعت عيناه مصادفةً على ربة الصيد العفيفة ديانا وهي تستحم عاقبته بأن حوَّلته إلى ظبي ذي قرنين، وهكذا طاردته كلابه وقتلته (انظر ترجمة الليلة الثانية عشرة والحاشية على ١ / ١ / ٢١–٢٣). وتقول كلير ماكيتشيرن إن الصورة التي يرسمها أوفيد تفيدنا في أنها «تربط ما بين القرنين وبين سلطة المرأة على الرجل» (ص٤٥) ثم تضيف في عبارة اعتراضية قائلةً «وبطبيعة الحال، ومن وجهة النظر «الصحيحة»، تُعتبَر أية سيادة أنثوية على الحياة الجنسية سلوكًا شَمُوسًا أو تمردًا، كما تُعتبر العفة من الممتلكات التي تُوَزَّعُ في خدمة التحالف الذكوري، إلى الحد الذي تصبح فيه ديانا نفسها ذات العفة «العدوانية» شبيهة إلى درجة بعيدة بالزوجة الخائنة ما دامت تسعى للتحكم فيمن تسمح له بالوصول إليها جنسيًّا» (ص٤٥-٤٦). وتشرح هذه الباحثة باستفاضة سر جاذبية القرنين في تلك الفترة، موضحة أنها تكمن في دلالات قرون الثيران في إنجلترا، وتتوسع في مسائل لغوية لا حاجة لنا للإفاضة فيها.

أما الوظيفة البنائية التي أشرت إليها آنفًا، وظيفة الكشف والتكشف، فأهم كثيرًا مما يولع به كثير من الباحثين، فالمجتمع الذي تقع فيه أحداث المسرحية مجتمع مظاهر وتظاهر، بمعنى أنه يقوم على إخفاء شيء وإظهار غيره، بل ويعتمد أيضًا في سبيل الحفاظ على المظهر بالتمويه بل والتضليل، ومن شأن الديوث أن يصبح بارزًا ومفضوحًا دون أن يدري، وخصوصًا فيما يتعلق بأدق شئون حياته الخاصة أو علاقته الحميمة مع زوجته، وعندما يخطر ذلك ببال بينديك، رجل المجتمع الذي ينفق كثيرًا على ملابسه ومظهره، يرتعد رعبًا، فهو يقول في هلع «وأما أن يستخدم القرن على جبهتي بوقًا لنداء كلاب الصيد، أو أن يُعلَّق البوق في حزام خفي على صدري فأنا أرفضه، وأرجو من جميع النساء أن يصفحن عني!» (١ / ١ / ٢٢٤–٢٢٦) وعندما يقول له دون بيدرو، الذي يظل عزبًا حتى النهاية (وفي هذا ما فيه من سخرية) «إن الزمن كفيل برضا الثور الوحشي بالنير في عنقه» (١ / ١ / ٢٤٣-٢٤٤) يرد بينديك قائلًا «قد يرضى الثور الوحشي، لكن إن رضي العاقل بينديك به، فانتزعوا قرني الثور واجعلوهما في جبهتي، وارسموا لي صورة قبيحة، واكتبوا تحتها بخطوط عريضة، مثل الخط المستخدَم في تأجير الجياد «انظروا! هذا بينديك، الرجل المتزوج»!» (١ / ١ / ٢٤٥–٢٤٩).

ومصدر الفكاهة إذن في صورة الديوث الخوف المَرَضِي من «الفضيحة» وبصفة خاصة ذلك «التشهير» الذي يخشاه بينديك؛ إذ يرسم الناس له صورة «مضحكة» في أذهانهم ما دام غافلًا عما أصابه في أهله، وهي الصورة التي يقدمها بينديك في تلك اللمحة الواقعية التي اقتطفها آنفًا، ويقول بعض النقاد إن مصدر الفكاهة لا يقتصر على أنه لا يرى أنه أصبح مُضْغَةً في الأفواه، بل يتجاوز ذلك إلى عدم رؤيته للقرنين على جبهته، فهو في عمًى مزدوج، وهو ما يلمح إليه بينديك حين يقسم أن يتجنب ذلك المصير قائلًا «أو فافقأ عيني بقلم شاعر شعبي يكتب المواويل، وعلِّق صورتي على باب ماخور رمزًا لرب الغرام الأعمى!» (١ / ١ / ٢٣٤–٢٣٦).

ومن الكلمات الأساسية في هذه المسرحية، والتي اضطررت إلى ترجمتها بأكثر من لفظة وفقًا لمعناها في السياق كلمة (wit) فمعناها القديم الذي لا يتردد شيكسبير في استخدامها فيه هو يدرك أو يعلم (والماضي القديم wist وهو اسم مفعول أيضًا) وأما المعاني الحديثة الأكثر شيوعًا في المسرحية فتتضمن الذكاء أو الفطنة، وسرعة البديهة أو حضور الذهن، وكذلك الظَّرف أو إتقان المُلحةِ، والظريف المتحدث بالمُلَحِ. ونحن نرى منذ البداية أن بينديك وبياتريس يتمتعان بقدرٍ من توقُّد القريحة (وهو يضم هذه العناصر جميعًا) يفوق ما يتمتع به غيرهما. ولذلك فخوفهما من أن يصبحا «غافلين» (أو من المغفلين) خوف طبيعي ينبع من إحساسهما بالخطر الذي يتهدد ما يتمتعان به من قدرة ذهنية متفوقة. فالحب في ذاته قد يعمي البصر، وكلٌّ منهما يخشاه في ذاته، وأيضًا لأنه قد يجعل الصب الوامق غافلًا عما قد يحيق به، وذلك هو السلاح الذي يقرر دون بيدرو استخدامه «للإيقاع» بهما، فإذا «وقعا» في الحب وقعا فيما يقع فيه غيرهما من «غفلة» أو كان من المحتمل أن يقعا فيها. والخدعة التي يتوسل بها، بمساعدة كلوديو، وأيضًا بمساعدة هيرو وأورسولا، تنتمي للكوميديا، على عكس خدعة دون بيدرو وبوراكيو التي تقنع كلوديو (ودون بيدرو نفسه) «بمعرفة» زائفة عن خيانة هيرو، ففيها بذور المأساة.
وهكذا فإن قيام صورة الديوث على الجهل والمعرفة يتيح لشيكسبير التلاعب بالصورة نفسها في الفكاهات، كما يتيح له استثمار المبدأ العام (أي الجهل في مقابل المعرفة) في بناء المسرحية، وهو البناء الذي يصفه برتراند إيفانز (Evans) في كتابه كوميديات شيكسبير (١٩٦٠م) بأنه يقوم على «تفاوت الوعي» أي تفاوت درجة الوعي بالحقيقة أو الواقع من شخص لآخر، ودون بيدرو يتصدى (في الحقيقة ودون أن يدري) لمهمة الكشف لكل من بينديك وبياتريس عن غرامهما الذي ينكرانه، وإن كان يتوسل في ذلك بخُدْعَة يتصور أنها أشقُّ من المهام التي فُرِضَت على هرقل «ألا وهي إقامة طود من الحب المتبادل» بينهما (٢ / ١ / ٣٣٦-٣٣٧) ويتوهم أن خُدعته هي التي سوف تأتي بالحب الذي لا أساس له في الواقع «وسوف نتلهَّى حقًّا حين يظن كلٌّ منهما أن الآخر يهيم بحبه، على خلاف الواقع» (٢ / ٣ / ٢٠٧–٢٠٩). وفي رأيي أن دون بيدرو يتعرَّض للخداع هو نفسه حين يظن أنه يخدع العاشقين، وذلك حين يتجاهل ما قالته بياتريس ردًّا عليه، وهذا هو الحوار:
دون بيدرو : أقبلي أيتها الليدي! تفضلي لقد خسرتِ قلب السنيور بينديك!
بياتريس : حقًّا يا مولاي! كان قد أعارني إياه فترة ما، وأعطيتُه فوائدَ القرض في صورة قلبين بدلًا من قلب واحد، وأقسم إنه كان قد كسبه مني ذات يوم في مباراة بِنَرْدٍ مغشوش، ومن ثَمَّ فمن حق معاليك أن تقول إنني خسرته!
(٢ / ١ / ٢٥٤–٢٥٩)
وذلك أيضًا ما يتجاهله ستيفن جرينبلات (Greenblatt) حين يقول في مقدمته لطبعة المسرحية عام ١٩٩٧م (نورتون، نيويورك):

إنهما يتزوجان نتيجة خدعة، وعلى الرغم مما يكنُّه قلباهما، ولولا الضغط الذي يدفعهما إلى الاعتراف بحبهما لظلَّا دون زواج … وهما دائمًا ما يلمحان للجمهور، على عكس الواقع، باحتمال اختلاف هوية كل منهما اختلافًا تامًّا عن هوية هيرو وكلوديو، أي بهوية بُنِيَتْ عمدًا لمقاومة الضغط المستمر من جانب المجتمع، ولكن هذا الضغط ينتصر في النهاية.

(ص١٣٨٦)

ولكن المحررين في أغلب طبعات المسرحية، ومعظم المحدثين، يشيرون إلى انشغال بياتريس بصاحبها بينديك منذ البداية، وأول كلماتها في المسرحية تفصح عن ذلك، فهي تسأل عنه، وتبرز اهتمامًا منذ السطور الأولى «برب الغرام» وكيف كان بينديك يتحدَّاه، وأما بينديك فالواضح أنه لم يهجر بياتريس إلا بسبب تردده أمام الزواج وخوفه من القيود التي يمثِّلها أو خوفه من فقدان حريته بسبب ارتباطه بالمرأة، وهو الخوف الذي ألمحت إليه آنفًا.

(٦) بناء الكوميديا

من السمات التي تميز الكوميديا، أو التي نعتمد عليها في تعريف الكوميديا، أنها تقوم على التوافق الذي يتعرض لبعض عوامل التنافر التي تتهدده، ولكنه يسود في النهاية، أو قل جو الصفاء الذي تعكِّره بعض الغيوم التي تنقشع آخر الأمر، أي إن الكوميديا تمثِّل النموذج المضاد لنموذج التراجيديا الذي وضعه أرسطو وورثه عصر النهضة من العصور الوسطى، ومن المفترض إذن أن شيكسبير قد ورثه فيما ورثه من أسلافه ومعاصريه، ويورد بعض الباحثين في تقاليد الكوميديا تعريفات تؤكد هذه النظرة، مثل التعريف الذي وضعه وليم ويب (Webbe) عام ١٥٨٦م في كتاب «حديث عن الشعر الإنجليزي» يقول فيه إن الكوميديا تقدم الصورة المضادة للتراجيديا التي تصور التحوُّل المأسوي من السعادة إلى الشقاء قائلًا «إن الكوميديا، على الجانب الآخر، كانت تقصد الغاية المضادة، فتبدأ بجو الشك والريبة القائم على بعض الاضطراب أو على مشكلة ما، ولكنها بفضل مصادفة موفقة من لون ما تنتهي دائمًا بالرضا والفرح لجميع الأطراف.» ولكننا نذكر أيضًا أن السير فيليب سيدني (Sidney) يرى أن «الكوميديا محاكاة للأخطاء المعتادة في حياتنا والتي يرسمها الشاعر في أحقر صورة ممكنة لها وأدعاها إلى السخرية منها حتى يكفل تنفير المشاهِد منها» (دفاع عن الشعر، طبعة ١٩٦٦م، ص٤٤) وإن كان سيدني أيضًا ينص على قدرة الكوميديا على إشاعة البهجة في النفس، ويتفق معه جورج بوتينام (Puttenham) في كتابه فن الشعر (طبعة ١٩٧٠م ص٤٧) في الغاية الإصلاحية والتهذيبية للكوميديا مثلما يتفق معه توماس لودج (Lodge)، أي إن الكوميديا كانت تمثِّل نوعًا من الهجاء الذي يُقصَد به الوعظ. والتعريف الأساسي الذي يقول بأن الكوميديا تصور الانتقال من الشقاء إلى السعادة، وبث الاطمئنان في النفوس بأنَّ بعد العسر يسرًا، تصفه كلير ماكيتشيرن بأنه المفتاح «البروتستانتي» للكوميديا، بمعنى أنه قائم على الإيمان بأن العناية الإلهية ساهرة وسوف تكفل خير البشر في النهاية (ص٥٢)، أي بأن له في النهاية أساسًا دينيًّا. وكان شيكسبير في حلم ليلة صيف متأثرًا فيما يبدو بهذا النموذج الكلاسيكي حين اعتمد على الحبكة التقليدية التي تصور المواجهة بين طموح الشباب العاشق، ومعارضة بعض القوى الاجتماعية لهذه العاطفة، ولكن هذه «الصيغة» نفسها قد تتضمن عناصر تربطها بالتراجيديا، كما يقول نورثروب فراي (Frye):

كان الكاتب المسرحي يحاول حتى في الكوميديا الجديدة أن يجعل الحدث المسرحي يقترب إلى أقرب نقطة ممكنة من الإطاحة التراجيدية بالبطل، ثم إذا به يعكس اتجاه هذا الحدث فجأة … وهكذا فإن «الحل» في الكوميديا الجديدة فيما يبدو يتمثل في تصوير نسق الموت والبعث بلمسات واقعية بارزة، حتى يتقلص كفاح البطل «الرباني» وتقتصر إعادة مولده على زيجة من لون ما، وعلى تحرير أحد العبيد، وانتصار الشاب على مناوئه الهرِم.

(منظور طبيعي: تطور الكوميديا والرومانس في شيكسبير، ١٩٦٧م، ص١٦٩)
ولكن شيكسبير، رغم اتفاقه بصفة عامة في كوميدياته السابقة بل واللاحقة على ضجة فارغةمع هذا التعريف «الكلاسيكي»، يدين هنا بديْن أكبر للطقوس الفولكلورية الأصيلة الخاصة بتجديد حياة المجتمع، فحياة الناس في هذه المدينة، مسينا، قائمة على العلاقات الاجتماعية الوثيقة المتشابكة في المقام الأول، وتستمد الكثير من جاذبية أحداثها مما ذكرت أنه «الطقوس الفولكلورية»، كما يذكر ل. س. باربر (Barber) في كتابه كوميديا شيكسبير الاحتفالية: دراسة للشكل الدرامي وعلاقته بالعادات الاجتماعية (برينستون، نيوجيرسي، ١٩٥٩م). والطريف هنا أن المسرحية لا تبدأ بمشكلة بالمعنى المألوف للمشكلة، على نحو ما نرى ترويض السليطة وحلم ليلة صيف بصفة خاصة، ولكنها تشترك مع تاجر البندقية التي كُتِبَتْ قُبَيْلَ كتابتها، ومع الليلة الثانية عشرة التي كُتِبَتْ بُعَيْدَها في أن «الاضطراب» الذي تبدأ به لا يرجع إلى والدٍ يفرض رأيه على أبنائه، ولا هي مشكلة مراتب اجتماعية، بل ينبع مصدر القلقلة أو الاضطراب من باطن الذات (انظر «كوميديا الشخصية» في كتابي فن الكوميديا، وفي قضايا الأدب الحديث ١٩٩٤م). «فعندما تبدأ أحداث المسرحية لا تصادفنا مشكلة بالمعنى المتعارف عليه، في الواقع» كما تقول ماكيتشيرن، إذ لا توجد عقبات أبوية أو اجتماعية لزواج كلوديو من هيرو، بل إن من يعنيهم الأمر حريصون على إتمام الزواج، وكذلك لا يوجد مانع «رسمي» لزواج بياتريس من بينديك، وتضيف ماكيتشيرن قائلة:

وإذن فإن المشكلة تنحصر، طبقًا لأعراف الكوميديا، في عدم وجود مشكلة، ومن ثَمَّ نجد أنفسنا في موقف من يتوقع مشكلة ما من لون ما، وعندما تأتي المشكلة، نجد أنها تأتي من داخل الشخصيات لا من خارجها، وإذا كانت أصول الشر عند دون جون غامضة (إن صح هذا التعبير) فإن قَطْعَهُ للطريق التي يسلكها الحب المخلص لا ينجح إلا باستغلال عناصر سافرة في سيكلوجية الذكور، وهي التي تبدو في المسرحية من الأمور المعتادة والمُسَلَّمِ بها («أظن أن هذه ابنتك»، «ذلك ما قالته لي أمها عدة مرات») (١ / ١ / ٩٩-١٠٠). وفي هذا الصدد نجد أن عوائق الحب أمام الثنائيين المذكورين تنشأ من المصدر نفسه، ألا وهو ارتياب الذكور في الإخلاص الجنسي الأنثوي وما يترتب عليه، أي نزعة الافتراس عند الذكور.

(ص٥٤)

وتأخير نشوء «المشكلة» يميز هذه المسرحية عن سواها إذن، مثلما يتأخر حلُّها، ولكن نشأتها وحلها جميعًا لا يسيران في طريق مستقيم بل في خطوط متعرجة، وهي التي أراها السمة الرئيسية للبناء الدرامي في ضجة فارغة، وإن كانت هذه الخطوط التي نتابعها بمتعة وقلق في الوقت ذاته تدور في إطار عام هو إطار الاحتفال والخلاص من المتاعب، إذ انتهت الحرب وأصبحنا قادرين في وقت السلم على تأمل أفراح المحبين (بالزواج)، وكل ما ينشأ هنا من التعقيدات التي تؤكد، كما يقول بعض النقاد، ما يعيب البشر من نقاط الضعف، يقابل شيكسبير بينها بنائيًّا وبين منابع قوة دفينة في الإنسان لا يوليها النقاد حقها من التحليل، وعندما خصَّصتُ قسمًا كبيرًا من هذه المقدمة للحديث عن قوة بياتريس لم أكن أغالي في وصف هذه القوة، فهي تعتمد على الحدس ظاهريًّا في دفع التهمة الظالمة عن هيرو، ولكنها تستند في ذلك إلى المنطق القائم على معرفتها الوثيقة بابنة عمها، وعندما تسخر من أصحاب الألقاب من الرجال الذين اتهموا هيرو ظلمًا أو صدَّقوا اتهامها دون تردد، فإنها تمثِّل موقف العقل الذي ينكره الجميع أو يستكثره على امرأة تنتمي إلى جنس شاع عنه أنه «عاطفي» أو نزَّاع إلى الحكم بمشاعره لا بعقله، وحين يستجيب لها بينديك فإنه يبرز قوة لا يتمتع بها كلوديو، وهي قوة الإيمان بحبيبته والقدرة على «الإصغاء» إلى ما تقوله. والتحوُّل الذي يصيب ليوناتو، الأب المكلوم، يشهد له بقوة لا يتمتع بها الأمير نفسه، وإذا كان الكاهن يتخذ موقف رجل الدين الذي يريد الخير دون أن يشغل باله بقضية الإدانة أو التبرئة، وكان قوله إنه يلمح لونًا ملائكيًّا في وجه الفتاة يهزم اللون الشيطاني (الأبيض/الأحمر) قول شاعر، فإنه يضمر أيضًا حدسًا صائبًا وإن لم يعلن عنه، وأعود فأؤكد أن موقف بياتريس هو الموقف الذي تتبلور فيه مصادر هذه القوة جميعها، وهو ما يعتمد عليه شيكسبير في جعلها تدخل المسرح في مشاهد متكررة فيما بين المشاهد الفكاهية والمأساوية، بحيث تمثل الخيط الذي يربط هذه بتلك، ويضمن تماسك البناء الدرامي من البداية للنهاية.

وما وصفته بالخطوط «المتعرجة» في البناء يعني أن خطوط النبرة شبه «المأسوية» أو الجادة تتقاطع مع خطوط النبرة «الكوميدية» أو الهازلة، بحيث ننتقل بسرعة من نبرة إلى نبرة، وبحيث يؤدي هذا الانتقال إلى تأكيد التضاد فيما بين السابق واللاحق، مع التوازي بين ثيمات الحبكتين، بمعنى أن الفكرة نفسها قد تُقدَّم بنبرة هزل يتلوها تصويرها بنبرة جِدٍّ، ونحن نسير في هذه الحلقات المتداخلة التي تشبه التكرار مع التنويع في الموسيقى من مشهدٍ إلى مشهدٍ، وذلك يختلف تمامًا عن المعهود في الأعراف المسرحية السائدة آنذاك حتى عند شيكسبير نفسه، فالمفترض أن تسير الحبكة في خط صاعد يصل بالأزمة إلى ذروتها قبل أن يأتي الحل، سواء كان يمثِّل نهاية سعيدة في الكوميديا أو مأساوية في التراجيديا، ولكننا نتابع هنا مَشاهِد تقدِّم لنا صورة بعض الشخصيات لأنفسها يتلوها صورتها في عيون الآخرين، وبذلك تتشكل أمامنا صور متجاورة للشخصيات، يتفق بعضها مع البعض، ويختلف بعضها عن بعض.

وإلى جانب ذلك، وهو الأهم، نشهد «تمثيل» الشخصيات أمام بعضها بعضًا، بحيث نشهد بعض الشخصيات تقوم بأدوار «تمثيلية» ذوات جمهور مزدوج: غيرها من الشخوص والجمهور الجالس في الصالة. فالمفترض في المسرح الكلاسيكي (بخلاف الملحمي) أن الجمهور في الصالة يسترق السمع (من خلال حائط رابع وهمي) إلى الشخوص أثناء الحدث الدرامي، ولكن كثيرًا من الشخوص هنا «يمثِّلون» مشاهد أو أدوارًا مرسومة بدقة حتى «يسترق» السمع إليهم غيرهم في المسرحية، إلى جانب الجمهور في الصالة. ولا يقتصر هذا، كما يقول النقاد، على أهمية «استراق السمع» وحسب، مثلما يسترق السمع بوراكيو أو خادم أنطونيو إلى حوار يسيء تفسيره أو فهمه، فذلك هو استراق السمع «المعتاد» أي العارض أو غير المدبَّر، ولكنه ينسحب على مشاهد عديدة يتصور الشخص فيها أنه يسترق السمع في حين أن الشخوص الذين «يمثلون» يقصدون إلى ذلك قصدًا، وأوضح نماذج هذه المشاهد، بطبيعة الحال، المشهد الذي «يؤلفه ويمثِّله» دون بيدرو وكلوديو وليوناتو (٢ / ٣) قاصدين أن يستمع إليهم بينديك (ظانًّا أنه يسترق السمع) وهو يقول لنفسه (ولجمهور الصالة) «لولا أن الرجل الأشيب هو الذي يتكلم لظننتُ أن في الأمر خدعة!» (١١٩-١٢٠)، والمشهد الذي «تؤلفه وتمثله» هيرو وأورسولا قاصدتين أن تستمع إليهما بياتريس (٣ / ١)، ويضاف إلى ذلك مشهد الحفل الذي يرتدي فيه الممثلون أقنعة وينجح فيه دون بيدرو في خطبة هيرو لكلوديو، والمشهد الذي لا يُقدَّم على المسرح بل يُروى لنا وتقوم فيه مارجريت بالتظاهر بأنها هيرو التي تتبادل كلمات الغرام مع بوراكيو تحت نافذة منزل ليوناتو، وكذلك تدبير كلوديو أن يلعب دور العريس الذي خانته عروسه وأن يقوم بإذلالها علنًا في الكنيسة، فهو لا ينفعل على الفور حين يتصور خيانة هيرو له بل يبيت ليلة يدبِّر فيها ما سوف يفعله في الغداة (٣ / ٢ / ١١١–١١٣). ولنا أن نضيف كذلك المشهد الطقسي عند القبر الوهمي لهيرو، ومشهد الرقص بالأقنعة، ثم الفتيات المقنعات الأربع في ختام المسرحية، فكلها صور متنوعة للشكل المسرحي، ومن ثَمَّ فهذه مسرحية يكتب شيكسبير فيها أدوارًا للشخصيات التي تمثِّل مَشاهِد «مسرحية» موجهة لغيرها في العرض نفسه، مثلما تعتبر مسرحية تدور حول دور المسرح في تشكيل هوية الفرد نفسه، حسبما تقول نوفا مايهيل (Myhill) في دراستها «دور الجمهور داخل ضجة فارغة والجمهور الذي يشاهدها» (دراسات في الأدب الإنجليزي، المجلد ٣٩، العدد ٢، ١٩٩٩م، الصفحات ٢٩١–٣١١)، وتؤكد فيها، مع اختلاف في زاوية المعالجة، الحجة التي تسوقها جين هاوارد (Howard) في كتاب «إعادة تقديم شيكسبير: النص في التاريخ والأيديولوجيا» (١٩٨٧م) وهي التي سوف نعود إليها.

(٧) الأسلوب

ذكرت أن التكرار مع التنويع سمة من سمات البناء، وأضيف هنا أنه سمة من سمات الأسلوب النثري الذي يستأثر كما قلت بنسبة ٧٠ في المائة من سطور المسرحية التي يبلغ عددها في الأصل الإنجليزي (في طبعة آردن) ٢٤٨٥ سطرًا، لبينديك منها نصيب الأسد (٣٩٩ سطرًا)، والنثر هو الوسيط المختار للشخصيات الرئيسية، وهو ما شجع دعاة التمييز بين الحبكة الرئيسية والحبكة الفرعية على تدعيم موقفهم، ما دام النظم الذي لا يتجاوز عدد سطوره ٧٥٠ من نصيب الأخيرة. وهذا مخالف لما درجنا عليه من اعتبار أن النظم من «امتيازات» الشخصيات الرئيسية الأرستقراطية وأن النثر ينتمي إلى شتى المتكلمين في الحبكات الفرعية. ويقول ميلتون كرين (Crane) في كتابه نثر شيكسبير ١٩٥١م، (الذي أعتمد عليه وأرجع إليه كثيرًا) إن النثر ينتمي إلى المجانين والطبقات الاجتماعية الدنيا: «كان النظم يمثِّل الشكل الذي جرى عليه العرف في المسرحية الإليزابيثية، وكان استخدام النثر دليلًا على عجز شخصية ما عن الاتساق مع أسلوب الحياة السائد» (ص٣). وعلى ما في مثل هذه الأقوال من الصحة، فإنها توحي ضمنًا بافتراض «انحطاط» النثر وشيوع «الفوضى» فيه، بل بأنه لا يوحي بالثقافة أو بالقدرة على التأنق في اللغة. وفي مقابل ذلك الافتراض يقول كرين إن النثر في الحقيقة أقرب إلى الإيحاء بسمات «طبيعية» مؤكدًا على أن «النثر، شكل الحديث العادي، يوحي بجو الواقعية؛ فمن يتحدثون بالنثر عند شيكسبير دائمًا ما يُذَكِّرُونَ الجمهور بوجود عالم أقرب ماديًّا إليه بصورة ما من العالم الشعري، حتى ولو لم يكن «العالم الحقيقي» للجمهور» (ص١٠٠).
ولا شك أن أقوال كرين تصدق إلى حدٍّ ما على ضجة فارغة، وانظر إلى أول سطرين في المسرحية «يقول هذا الخطاب إن دون بيدرو، أمير مقاطعة أراجون، قادم لزيارتنا الليلة هنا في مسينا» (١ / ١ / ١-٢). أو أول سطر في الفصل الثاني «ألم يحضر الكونت جون حفل العشاء هنا؟» (٢ / ١ / ١) أو «على شباك مخدعي كتاب، أحضره لي هنا في الحديقة» (٢ / ٣ / ٣) وقد تتسم لغة الشخصيات ذوات المنزلة الاجتماعية الثانوية بدرجة «نثرية»، مغرقة في «نثريتها»: «في غرفتك الخاصة «باروكة» جديدة تعجبني كثيرًا، لو أن لون الشعر كان «أغمق» قليلًا! وفستانك من طراز نادر المثال، بالحق! ولقد شاهدت فستان دوقة ميلانو الذي امتدحوه مدحًا كثيرًا … أقسم إنه لا يزيد عن رداء للمنزل إن قورن بفستانك!» (٣ / ٤ / ١١–١٥، ١٧) وأما النظم فهو مخصص إما للأحاديث «الرسمية» (أو التي تطمح أن تكون «رسمية») مثل خطبة كلوديو عروسه هيرو ورفضه إياها، وإما للحظات الانفجار الشعوري مثل إحساس ليوناتو بخيبة أمل قاتلة حين يقول له إن ابنته «فاجرة». وبصفة عامة نجد أن إيقاعات النثر في هذه المسرحية تسهم في رسم صورة للدنيا حافلة بتفاصيل الحياة اليومية.
ولكن هذا التمييز بين الشعر والنثر في شيكسبير ليس مطلقًا؛ إذ شهدنا في هنري الرابع، الجزء الأول، التي سبقت ضجة فارغة مباشرةً، شخصيتين تتميزان بروائع النثر وهما فولسطاف والأمير هال، أو بُعَيْدَ ضجة فارغة نستمتع بنثر هاملت الجميل، ولا يتسم النثر في ضجة فارغة بأنه مقصور على البسطاء، بل العكس هو الصحيح، بل إن البسطاء عندما يبذلون الجهد في «التسلق» الاجتماعي يحاولون تنميق أساليبهم ومجاراة الأذكياء الصفوة في الأناقة اللفظية، وقد نشفق على بعضهم (مثلما نشفق على مارجريت) أو نضحك (مثلما نضحك على إصرار دوجبري على الزجِّ بكلمات يراها براقة في حديثه، مع أنها تفسد المعنى، بل وقد تأتي بنقيضه، انظر الحواشي). وقد يبدو حديث «الفصحاء» في هذه المسرحية «تلقائيًّا» أو «مرتجلًا» ولكنه يمتاز في أحيان كثيرة بتنميق يقرِّبه من الأسلوب «اليوفوي» الذي أشرت إليه آنفًا، وهو الأسلوب الأدبي الذي اشتهر في عصر النهضة وينسب إلى جون لِيلِي، كاتب المسرح والقصة النثرية، وخصوصًا روايته «يوفيوس: تحليل اللماحية» (١٥٧٨م) وروايته النثرية الأخرى «يوفيوس وإنجلترا التي تنتمي إليه» (١٥٨٠م). وفي كل منهما شاب يُدعى يوفيوس (أي كريم المحتد) يناقش أصدقاءه مناقشات مستفيضة حول الصداقة والحب والمرأة وموضوعات فلسفية أخرى. ويتميز الأسلوب المنسوب إليه بحيل الإفاضة، وهي التوسُّع في المعنى بأساليب بلاغية مختلفة، مثل التوازي (المشرقان عليك ينتحبان/قاصيهما في مأتمٍ والدَّاني) والطباق (هناءٌ مَحَا ذاكَ العزاءَ المُقَدَّمَا/فما عَبَسَ المحزُونُ حتَّى تَبَسَّمَا) والتصالب الذي يعني إما قلب البناء في عجز العبارة عن صدرها (عَوَى الذئبُ فاستأنسْتُ بالذِّئبِ إذْ عَوَى)، وإما عكس ترتيب المعنى بين قضيتين (طَوَيْتُ بإحرازِ الفنُونِ ونيلها/رِداءَ شبابٍ والجنونُ فنون/فحين تعاطيتُ الفنونَ وحَظَّها/تبيَّن لي أنَّ الفنونَ جُنُونُ، من مجدي وهبة ص٦٦)، ومثل السلسلة المتصلة من الأسئلة الإنكارية (إلام الخلف بينكمو إلاما/وهذي الضجة الكبرى علاما/وفيمَ يكيد بعضكمو لبعض/وتبدون العداوة والخصامَا؟) أو التناظر في الأبنية اللغوية والاستنباطات المنطقية، إلى جانب الخصائص اللغوية للشعر مثل سجع البداية، والمقاطع التي يرجع بعضها أصداء بعض، وتكرار مادة الكلمة بلفظٍ مختلفٍ (هل شفَّه ما شَفَّني فانثنى/مُبَلْبَلَ البالِ شريدَ المنامْ) والقافية، والتورية، والعبارات المنسَّقة على أسس الجرس والبناء الداخلي، وغير ذلك من المحسنات البديعية التي قد يستعصي إدراكها على غير المتخصص. ونجد تتويجًا لهذه «المؤثرات السمعية» استعراضًا لقطوف المعارف التي تُعتبَر من ثمار المذهب الإنساني، مثل الإبجرامات، والحكم والأمثال، والإشارات إلى الأعمال الكلاسيكية، وضرب الأمثلة، والقصص الخرافية، والمعلومات المستقاة من التاريخ الطبيعي (البيولوجيا) والتاريخ. وبعبارة أخرى كان هذا النثر يمتاز بدرجة من التعقيد والثراء في لغة المجاز مثل أي نظم، وهو — وإن كان ينسب إلى الروايتين النثريتين المذكورتين، أو يقترن «باسم» جون لِيلِي — فلم يكن هو الذي ابتدعه، بل قل إنه هو الذي أشاعه وأكد ارتباطه بالمذهب الإنساني، وحَوَّرَ الفصاحة الذائعة في خطب شيشرون حتى تناسب من كانوا يدعون إلى ذلك المذهب ويريدون إقناع القرَّاء به. ولم يكن ثراء الأسلوب وما يكشف عنه من لماحية يقصد إلى إظهار الزينة البلاغية فحسب بل اتباع طابع «الاعتدال الأخلاقي»، كما يقول كرين الذي يؤكد أن اللماحية، كان من ظلال معانيها «القدرة على انطلاق فيض من الأفكار والكلمات الكافية لتطوير أي موضوع والتوسع فيه، إلى جانب سرعة الفهم وإدراك المقصود والاستعداد للرد بإجابة سريعة موفقة» (ص٩).
وكان من يكتب هذا اللون من النثر يطلق عليه تعبير «الذكي» أو «اللماح»، كما أشرت من قبل في تحليلي لصورة الديوث، ويظهر في أعماله بصورة القادر على الكتابة بسهولة، والمتصف بالاتزان والاعتدال وسرعة البديهة ورِقَّة الحاشية بصفة عامة، على نحو ما شاع عن الشاعر جون دَنْ، وتوماس ناش، وتوماس لودج، وبن جونسون، وقد ذاع أمر هذا الأسلوب وازدادت «موضة» الكتابة به في الفترة ١٥٩٠–١٦١٢م، وكان تقابله معارضة شديدة من جانب مناهضي البلاغة الشيشيرونية، ومن أشهرهم فرانسيس بيكون، كما يبين موريس كرول (Croll) باستفاضة في كتابه الأسلوب النثري الأثيني والباروك: حركة مناهضة شيشرون (برنستون، نيوجيرسي، ١٩٩٦م)، وهكذا نجد أن الموقف الذهني لكل من بينديك وبياتريس، وما يبديه كلٌّ منهما من «موضوعية» أو نزاهة، تتجلى فيه الصفات «الشخصية» لا اللغوية فقط لكُتَّاب أو عشَّاق هذا الأسلوب، ويتضح أن مقصد شيكسبير كان استخدامه في «التسلية» استخدامًا لا يخلو من رفضه أو السخرية منه على الأقل، فالأسلوب اليوفوي الحقيقي لا يناسب الدراما التي تعتمد على الحركة والسرعة ولا تتطلب تأمُّل الأبنية اللغوية، وسوف آتي بنموذج من رواية تشريح اللماحية المشار إليها، لأبيِّن للقارئ مدى عدم ملاءمة هذا الأسلوب للمسرح عمومًا، وأظن أنه لو لم تكن هذه كوميديا تقوم على السخرية من كل شائعٍ وذائعٍ، ما لجأ شيكسبير إلى محاكاته أصلًا. وللقارئ أن يتصور صعوبة ترجمة الأسلوب بصفة عامة، وهو ما كان يراه أستاذنا شكري عياد مثلًا أعلى، وهذا الأسلوب بصفة خاصة، ولكنني سأجتهد في التقريب حتى أبيِّن مغبة ما اصطُلِح على تسميته بالإفاضة والتوسع، فالبطل يوفيوس يلقي في الرواية المذكورة مونولوجًا طويلًا ترِد فيه الفقرة التالية التي تذكِّرنا بجو الريبة بالجنس الآخر الذي يسود ضجة فارغة:

مقصدي إذنْ أن أنصحَ الشبانَ الصِّغار والمبتدئين من المحبين بعدم النفخ على جَمَرات غرامِهم بالرغبة، بل بإطفائها بالازدراء. فإذا دَغْدَغَكَ الحبُّ صُدَّهُ كيْ لا يخنقَكَ، والصَّوْم خيرٌ لك من التُّخَمَةِ، والموتُ جوعًا خيرٌ من الاجتهاد في الإسراف، فإذا كانت بدايةُ الحبِّ تأتي بالبهجة، فإنَّ نهايته تأتي بالهلاك. إن الرَّشْفَة الأولى من النبيذ تُريح المعدة، والثانية تُلهِب الكبد، والثالثةُ تغشى الرأسَ بالأبْخِرة، وكذلك فإن الرشفة الأولى من الحب ممتعة، والثانية خطرة، والثالثة مهلكة. فإذا وجدت أنك قد أغوتك نظراتهن اللعوب، أو اجتذبتك حيلهن الخبيثة، سواء كنت مفتونًا بجمالهن أو عاشقًا لكمالهن، فاجعل ذاتك تتساءل: ما الذي أكسبه من تحقيق غرضي؟ بل ماذا أفقده في نوال متعتي؟ وإذا استسلمَتْ لي غادَتِي وغدَتْ عشيقتي، أفلا يُحتَمَلُ أن تصبحَ عشيقةَ آخرين؟

(لِيلِي، تشريح اللماحية، ص٢٤٨، في ماكيتشيرن ص٦٧)

وتقول كلير ماكيتشيرن إن هذه الفقرة جزء محدود من قطعة بالغة الطول يصل طولها إلى مئات السطور، ويكمن جانبٌ مهمٌّ من «بلاغتها» في قدرة المؤلف على مواصلة طرح موضوعه دون أن يفقد اهتمام القارئ، إلى جانب تلوين نسيج النص بدلائل على طاقته الابتكارية. فكان على الكاتب الذي يختار هذا الأسلوب أن يثبت معلوماته الموسوعية فيما يشير إليه وما يكرر ذكره دون الخروج عن إطار الموضوع، موازنًا بين التوسع بالاستطرادات وارتباط ما يقوله بموضوعه، وينطبق عليه وصف بينديك لفصاحة بياتريس بأنها «الطاقة على الركض والاستمرار دون مشقة» (١ / ١ / ١٣٥-١٣٦).

فإذا نظرنا إلى ضجة فارغة وجدنا فيها ما يذكِّرنا بالفقرة المقتطَفة آنفًا لا في الأسلوب فحسب بل في الموضوع أيضًا، مثل المونولوج الذي يهاجم بينديك فيه الحب، في مستهل ٢ / ٣ ويبدأ بقوله «أعجب كثيرًا حين أرى رجلًا يدرك حماقة من يكرس جهوده للحب، ويضحك من ضحالة هذه الحماقات عند الآخرين، ثم إذا به يصبح هو نفسه موضع احتقار ذاته بالوقوع في الحب!» (٢ / ٣ / ٨–١٠) وهو أطول مونولوج نثري في المسرحية (٢٧ سطرًا) لا ينافسه في الطول إلا المونولوج الذي يلقيه في آخر المشهد معلنًا عدوله عن موقفه. فالسخرية من الحب في شخص كلوديو في المونولوج الأول تمثِّل حجة متماسكة لها جانباها المعهودان عند كل أصحاب هذا الأسلوب، وأهم ما نحسُّه في هذه الحجة مناقشة بينديك لموقفه مناقشةَ مَنْ يريد أن يُقنِع نفسه بعكس ما يدعو إليه، وذلك ما يتميز به نثر لِيلِي الذي ينطوي على ما يشبه الحوار الداخلي، وهو الحافل بالأصداء والردود وبالأسئلة الإنكارية وإجاباتها، وبلحظات الانقلاب وتناظر بناء العبارات والأفكار، وإن كانت الفقرة المقتطَفة من شيكسبير تتميز بقدر أكبر من «المرونة» في الأسلوب والفكر معًا، لأنها تصور مشهدًا ساخرًا لشخص يناقش ذاته. صحيح أن بينديك يبني ثلاث جمل متوازية من حيث التركيب، وتتسم كلٌّ منها بالتوازن: «كنت أعرفه عندما … فإذا به اليوم … كنت أعرفه عندما كان … فإذا به الآن … كنت أعرفه عندما كان … فإذا به الآن …» (٢ / ٣ / ١١–١٩) وبعدها، حين يبدو لنا أن بينديك قد حسم المناظرة بقوله إنه لن يهبط إلى مستوى حُمق كلوديو حتى يمسخه الحب فيصبح مثل المحار في قوقعته، إذا به يستأنف المناظرة بتأمل صفات المرأة «في النساء الحسناء …» (٢٥) و«يستمر» بينديك في بسط حجَّته التي تتضمن ما يقيمها وما يقوضها في آنٍ واحدٍ، وإذا كان قد بدأ المونولوج بإبداء الحيرة والاستنكار إزاء «وقوع» جندي في شباك الغرام، فإن الجمهور يسمعه في نهاية المونولوج وهو يتأمل لون شعر المرأة! ولا شك أن الجمهور سوف يتوقع هنا (إن لم يكن قد عرف فعلًا) أن بينديك نفسه قد يصبح «موضع احتقار ذاته بالوقوع في الحب» (١٠). وهكذا فإن نثر شيكسبير يصور ذهنًا منقسمًا على نفسه.

ولا شك أن «الصراع» الذي يتسم به أسلوب «المبارزة» اللفظية اليوفوي يظهر في الحوار بوضوحٍ أكبر من المونولوجات، وانظر أول «مبارزة» من هذا النوع بين بينديك وبياتريس:

بينديك : عجبًا يا «سخرية هانم»! أمَا زلتِ في قيد الحياة؟
بياتريس : وهل يمكن أن تموتَ سخرية هانم وهي تتغذَّى على أنسبِ طعامٍ لها وهو
السنيور بينديك؟ بل إنَّ «مجاملة هانم» نفسها تتحوَّل إلى «سخرية هانم»

لو حَلَلْتَ بصحبتها!
بينديك : إذن فإن «مجاملة هانم» مارقة مرتدة! ولكن المؤكد أن جميع الفتيات
يهوينني، باستثنائكِ أنتِ فقط! وليتني أستطيع أن أقول إني لست قاسي

القلب! فالحق إني لا أحب أيًّا منهن!
بياتريس : ما أسعد حظ الفتيات! وإلا ابتلين بعاشقٍ مرذولٍ! وأنا أحمد الله وأشكره
على برود الطبع، إذ خَلَقه الله معادِلًا لطبعك! فأنا أوثر أن أسمع كلبي

ينبح غرابًا على أن أسمع رجلًا يقسم على حبي!
بينديك : أدعو الله ألا تتحوَّلي عن هذا الموقف قط، حتى ينجو رجلٌ ما من خدش
وجهِه بأظافركِ حتمًا!
بياتريس : لن يزيد الخدش الوجه سوءًا لو كان الوجه مثل وجهك!
بينديك : قدرتك على التكرار تؤهلك لتعليم الببغاوات!
بياتريس : طائر لساني الناطق أفضل من حيوان لسانك الأعجم!
بينديك : ليت جوادي يتمتع بسرعة لسانك وطاقته على الركض دون مشقة! لك أن
تستمري إذا شئت ولكنني والله انتهيت!
بياتريس : دائمًا ما تنتهي بخدعة كالحصان الذي يوقع الراكب عن متنه! فأنا أعرفك
من زمن طويل.
(١ / ١ / ١١٢–١٣٩)
ويجمع النقاد على أن الجمهور كان ولا يزال يستمتع بهذا الحوار الذي يمثِّل أولى السهام التي يطلقها كلٌّ من قوسه على الآخر، ويقول بريان فيكرز (Vickers) «إن التراشق اللفظي هنا يزيد عن كونه حيلة لغوية، فالواقع أنه يمثِّل أسلوب حياة لكل من بياتريس وبينديك، أو قل إنه منازلة لماحة يشتركان فيها وإنه استمر زمنًا طويلًا، كما يتبين لنا هنا بوضوحٍ وجلاء، وإنه من المحتمل أن يستمر» (الخصائص الفنية لنثر شيكسبير ١٩٦٩م، ص١٧٦). فنحن نلمح كيف يساعد الحوار الأسلوب اليوفوي على إبراز طاقاته الكامنة، إذ يلتقط أحد المتحاورين لفظًا من حديث صاحبه فيحَوِّرُهُ ويَرُدُّهُ بعد التحوير في صورة مضادة أو معكوسة أو ساخرة، وكيف يتبارى الاثنان في «تشويه» ما يقوله كلٌّ منهما ورَدِّه إليه في صورة أخرى، وهو ما يتعذَّر في النثر غير الحواري، وهو يتجلَّى في أحسن صوره إذن في الحوار بين الشخصيات الرئيسية، وأما الشخصيات التي تشغل مواقع اجتماعية دنيا فإن كلامها يفصح عن طموحها إلى محاكاة السادة من خلال محاكاة الأسلوب اليوفوي التي لا تنجح إلا في إثارة استهزاء «السادة» بها، والمقابلة بين أسلوب السادة «الراقي» (فكريًّا، ومن ثَمَّ لغويًّا) وبين أسلوب هؤلاء من الحيل التي يتوسل بها شيكسبير في إظهار قدرة اللغة على التلوُّن والتغيُّر، بل وقدرتها على تغيير صورة الواقع نفسه، فنحن نطل على الواقع من زاويتين متفاوتتين في لغة السادة ولغة الأتباع، وحين نتابع حوار أحد السادة مع أحد الأتباع نلاحظ ما تسميه الباحثة لين ماجنوسون «آلية التصحيح»، وهو ما يبدو في أوضح صورة في مَشاهِد الحرس بطبيعة الحال، ولكن أيضًا في حوار مارجريت مع سيدتها هيرو، ومع بياتريس، ومع بينديك نفسه، وتقوم حجة ماجنوسون (Magnusson) على أن المسرحية لا تقتصر على إظهار قدرة اللغة «على إنتاج الأخطاء وسوء الفهم». بل إن شخوصها يظهرون «آليات واسعة النطاق لتصحيح الأخطاء وللتعويض» عن ذلك. شيكسبير والحوار الاجتماعي: اللغة الدرامية والأدب الإليزابيثي، (كيمبريدج، ١٩٩٩م، ص١٥٨).

ولكننا نخطئ إذا قلنا إن أسلوب المسرحية كلها يوفوي، إذ إن شيكسبير، كما قلت آنفًا في هذا القسم، يقصد استخدام هذا الأسلوب استخدامًا لا يخلو من رفضه أو السخرية منه على الأقل، فنحن حقًّا «نتسلى» بالاستماع إلى الأبنية الأسلوبية اليوفُوِيَّة دون أن نأخذها مأخذ الجد، ونتابع تطارح الحجج في كل فقرة أو حوار يُوفُوِي بمتعة لا تتأتى لنا حين نتابع النثر المعتاد الذي يتصل بشئون الحياة اليومية، والذي ضَربتُ له أمثلة في مستهل هذا القسم. وعلى أية حال فنحن ننتقل ما بين النثر والنظم في غضون الأحداث المتتابعة حتى يسود النظم فجأة حين نصل إلى ما أسميته «المحور» الذي يحدد «الانقلاب» في المشهد الأول من الفصل الرابع.

ومعظم النظم يصادفنا بعد المشهد المذكور، وما يترتب عليه من عواقب، وإن كنا قد شهدنا لحظة بارزة في ختام المشهد الأول من الفصل الثالث (وهو المشهد المكتوب نظمًا) تعترف فيها بياتريس بحبِّها الدفين لبينديك، وتصوغ اعترافها في «السونيتة الناقصة» التي أوردْتُها آنفًا، ومن الطريف أن شيكسبير يأتي بأبياتها العشرة بعد سطرين موزونين مقفيين تقولهما هيرو قبل أن تخرج وهما:

لو صحَّ كلامُكَ كانَ الحبُّ كمِثلِ الرَّميةِ لا يقصدُها الرَّامي
فإلهُ الحُبِّ يُعِدُّ الأشراكَ لبعضٍ ولغيرهمو السَّهمَ الدَّامي
(٣ / ١ / ١٠٥-١٠٦)

ومن الطبيعي إذن أن تعبِّر بياتريس عن مكنون قلبها نظمًا، وإن كان تعبيرها لا يقتصر على الاعتراف بالحب أو نبذ التعالي والتكبر، بل يقوم — كما أوضحت لي سارة عناني — على إدراكها أنها جرحت إحساس شخص فاضل يضمر لها عاطفة نبيلة، فكان الوعي المفاجئ من وراء هذه السونيتة الناقصة، ومن ثَمَّ فإن النظم مؤشر على دفء المشاعر أو ما تسميه ماكيتشيرن الرومانس التقليدي (ص٧٤). ونحن نكتشف أن بينديك نفسه يكتب سونيتة مثلما تكتب بياتريس سونيتة يعترفان فيها بالحب، كلٌّ لصاحبه، ولا يُماطُ اللثام عن هذه النزعة الشعرية إلا في المشهد الأخير. والنظم في المسرحية يرتبط بالمشاهد «المنضبطة» صوريًّا، مثل مشهد الرقص بالأقنعة، ومشهد الضريح، واللقاء الأخير بين كلوديو وعروسه المنقبة. ويُستخدم النظم أيضًا في التهويمات والتأملات، مثل تأمل الكاهن لما سوف (أو ما يمكن أن) يحدث بعد إشاعة نبأ وفاة هيرو، ورثاء ليوناتو لحاله وما أصاب سمعته من الأذى في ٤ / ١ و٥ / ١، من جراء التهمة الظالمة الموجَّهة إلى ابنته. بل إن شيكسبير يخصص له أشد ألوان النظم جرأة في البناء وفي التعبير السيكلوجي، إذ يقوم على «تراكيب» تتجلَّى فيها ردود أفعاله العنيفة ودينامية الذهن المكلوم إلى جانب ثراء صوره الشعرية. وهكذا يتحوَّل النظم لديه إلى لغة الألم التي تبرز في أعمق اللحظات التراجيدية في المسرحية، وهي اللحظات التي وُكِلَتْ بطولتُها إليه وحده. ولكننا إذا قارنَّا ذلك بحيوية النثر وتنوعه وجدنا انحصارًا — أو شبه انحصار — لوظيفة النثر في إضفاء الانتظام على أنساق اللحظات التراجيدية حتى لا تتجاوز حدودها في الإطار الكوميدي العام.

ومعظم الصور الشعرية في ضجة فارغة مستقاة من عالم الحيوان. ومنذ البداية نسمع «الرسول» الذي يقص أنباء الحرب محاولًا محاكاة أساليب نثر سادته فيقول إن كلوديو «الذي يبدو حملًا ينهض بما تنهض به الأسود» (١ / ١ / ١٥-١٦) ثم نسمع أنه «طائر جريح مسكين» (٢ / ١ / ١٨٥) ثم أنه «عجل» (٥ / ٤ / ٥٠-٥١) ودون جون يقول إن هيرو «كتكوتة جميلة فعلًا» (١ / ٣ / ٥١) ويتهمها كلوديو بأنها جامحة جموح «حيوانات التدليل» (٤ / ١ / ٥٩) ونسمع دون جون يقول إن أخاه لم يرضَ عنه إلا بعد أن «كمَّم فمه» (١ / ٣ / ٣٠) مثل الكلاب كي لا يعض الناس، ثم يردف قائلًا إنه يرفض أن «يغرد» وهو «حبيس في قفص» (١ / ٣ / ٣١)، ويصف بينديك سرعة بديهة مارجريت بأنها تشبه «سرعة كلب الصيد» (٥ / ٢ / ١١) وإن كانت تنكر أن لسانها يجري «بسرعة فرس جامح» (٣ / ٤ / ٨٦) ويقول كلوديو إن «الدب» بينديك لن يشتبك في صراع مع «الدبة» بياتريس حين يلتقيان (٣ / ٢ / ٦٩-٧٠) ولكن بياتريس تشبِّهه «بالحصان» (١ / ١ / ١٣٨) ثم نقرأ أو نسمع تشبيهه «بالثور الوحشي» أولًا حين ينكر أنه سيقبل وضع النير في عنقه (١ / ١ / ٢٤٤)، وثانيًا حين يعلن كلوديو أن بينديك قد قبِل أن يكون كذلك حين قبِل نير الزواج (٥ / ٤ / ٤٤-٤٥)، ونسمع بينديك وهو يقول إن الحب سيمسخه فيغدو «كالمحار في قوقعته» (٢ / ٣ / ٢٢-٢٣) ثم يقارنه كلوديو «بالثعلب في جحره» (٢ / ٣ / ٤٠) ثم «بالسمكة» (٢ / ٣ / ١١٠) وبينديك يقول إن بياتريس مثل «وحش الهاربي» (٢ / ١ / ٢٤٨) وهيرو تُشَبِّهُ بياتريس «بالطائر الحاذق» (٣ / ١ / ٢٤) ثم «بالصقر البري النافر» (٣ / ١ / ٣٥) كما تشبِّهها أورسولا بالسمكة أيضًا (٣ / ١ / ٢٩) وتقول بياتريس إنها سوف تروِّض قلبها «البري الشارد» بأيادي حب بينديك (٣ / ٢ / ١١٢) ودوجبري، بطبيعة الحال، «حمار» (٤ / ٢ / ٧٥). وقد تعمَّدتُ أن أنسب كل صورة إلى قائلها حتى أبطل ما ذهب إليه المؤلفان آن طومسون وجون أ. طومسون Ann Thompson & John O. Thompson في كتابهما المهم الذي يتناولان فيه استعمال الاستعارة في شيكسبير وعنوانه شيكسبير: المعنى والاستعارة (برايتون، إنجلترا، ١٩٨٧م) من أن دلالة التشبيه بالحيوان يُقصَد بها إبراز الطابع الجسدي للحب البشري، أو تصوير البشر في صورة فرائس رب الحب وضحايا الوقوع في شِباكه، فالصور المذكورة ترد على ألسنة عدد كبير من الشخصيات، من السادة والأتباع، وفي مواقف متباينة، وقد لا تكون لها علاقة بالحب على الإطلاق، وذلك يبطل أيضًا زعم ماكيتشيرن بأن صور الحيوان توحي بالمسخ الذي يؤدي إليه الحب، استلهامًا لمسخ الكائنات الذي أبدعه أوفيد.
وسبب رفضي لهذه النتائج العامة المبنية على الجو العام الذي توحي به الصور الشعرية أو ما يُسمَّى في الكتاب المشار إليه آنفًا «المجال المانح» (donor-field) لهذه الصور أنها لا تشكِّل نسقًا خاصًّا، كما يسميه سيسيل داي-لويس، أو تبرز سياقات خاصة ذات معنى، بل هي متفرقة ومشتتة، إذ نصادفها في النثر والشعر، وفي الأسلوب اليوفوي، وفي الأسلوب الذي يُطمَح إليه عند الأتباع. كما تتفاوت وظائفها في السياقات التي ترِد فيها، فأحيانًا تفصح عن بعض عناصر الشخصية وأحيانًا تصور موقف «الصيد»، ولدينا في المسرحية موقفان يدبِّرهما البعض لتشجيع كل من بينديك وبياتريس على الإقرار بغرامهما، ويتصور مدبِّروهما أنهما يصيدان هذين العاشقين. وأحيانًا لا تزيد وظيفتها عن إبراز معنى معين خاص بالسياق، أو حتى تلوين الأسلوب. ومثلها في ذلك مثل الإشارات الكلاسيكية، كتشبيه بينديك لبياتريس بأنها «آته» ربة الشقاق (٢ / ١ / ٢٣٤) أو تكرار الإشارة إلى أسطورة هرقل في ٢ / ١ / ٢٣١، ٣ / ٣ / ١٣٣، ٤ / ١ / ٣١٩، أو إلى جوف رب الأرباب، (٢ / ١ / ٨٥) أو إلى ديانا «ربة هذا القمر السيار» وإلى «جموح الربة فينوس» (٤ / ١ / ٥٦–٦٠) حيث تنحصر دلالة الإشارة الكلاسيكية في إبراز التضاد بين العفة الظاهرة والعهر الكامن، أو مثل الإشارة إلى «رب الشموس فيبوس» (٥ / ٤ / ٢٦)، ومن ثَمَّ لا أرى أن للإشارات الكلاسيكية دلالة كساءِ العاطفة البشرية «الحيوانية» كساءً من «جلال» الأساطير الكلاسيكية، وهو ما تذهب إليه ماكيتشيرن مستشهدة بما يقول كلوديو:
قد خَطَر لَهُ في ظنِّي مَنظرُ ذاكَ الثورِ الوحشيِّ!
عَبَثٌ! لا تَخشَ هُنَا شيْئًا! فَسنَطْليِ طَرَفَيْ قَرنيكَ بعسجَدْ!
وستَشْهدُ قَارَّة أوروبا جَمْعاء وقَدْ ضحِكَتْ منكَ
كما ضَحِكتْ حسناءٌ تُدعَى أوروبا من جُوف الجبَّارْ
حين تقمَّصَ دوْرَ الثَّورِ العاشقِ وتحلَّى بالنُّبل.
(٥ / ٤ / ٤٣–٤٧)
فالواضح أن الصورة تتناول ثيمة أساسية من ثيمات المسرحية وهي التضاد بين المظهر والمخبر، وهو الذي تشير إليه الصورة المتكررة في المسرحية للديوث (انظر القسم الخاص بالديوث في هذه المقدمة)، وأجد أنني أقبل تفسير ديفيد أورميرود Ormerod في دراسته الممتعة (على قِصَرها) بعنوان «العقيدة والموضة في ضجة فارغة» (مجلة دراسات شيكسبيرية ٢٥ (١٩٧٢م) ص٩٣–١٠٥) وهو الذي يربط بين التركيز على الفكاهات الخاصة بالتضاد ما بين طراز الملبس أو الموضة التي تحدد المظهر الاجتماعي الخارجي وبين ما يؤمن به المرء أو ما يمثِّل حقيقته. ونصادف أول صورة من هذا اللون في أوائل المسرحية «إنه يعتبر عهد الصداقة طرازًا مثل طرز القبعات، ويتغير كلما تغير طرازها» (١ / ١ / ٧٠-٧١) ونسمع أن بياتريس «ربة الشقاق «آته» وإن اكتست أثوابًا خلَّابة» (٢ / ١ / ٢٣٤) كما نسمعها تقول إن الزوج الذي لا لحية له خليق بأن تلبسه فساتينها وتجعله وصيفتها الراقية (٢ / ١ / ٢٩). ويقول دون بيدرو إن بينديك «لا تبدو عليه مخايل الهوى، إلا إذا كان هواه التنكُّر في أزياء الأجانب» (٣ / ٢ / ٢٩-٣٠). والتنكر إذن مفتاح فهم الصورة الشعرية المقتطَفة آنفًا، والتنكر، كما سبق أن ذكرت، من سمات الحدث «الرئيسي» والحدث «الموازي» له في هذه المسرحية، وهو آفة اجتماعية تُعتبَر من ثيمات الحدث نفسه، ولذلك يصفه بوراكيو قائلًا إنه لص ممسوخ، وانظر كيف يتصور الحرس أن «ممسوخًا» هذا اسم شخص، وكيف تنشأ الفكاهات النابعة من هذا الخلط وإن كان مرماها جادًّا.

وينطبق مبدأ التضاد المذكور بين الظاهر والباطن على الأغاني ودورها في المسرحية، وأهم هذه أغنيتان: الأولى يغنيها بالتازار في ٢ / ٣، والثانية يغنيها منشدون محترفون وإن كان المفهوم أن كلوديو هو الذي كلَّفهم بالغناء (وربما كتب كلمات الأغنية أيضًا). أما الأولى فتمثِّل الكفة الأخرى للميزان الذي اختلَّ بسبب كثرة الإشارة إلى خيانة النساء، فالأغنية تؤكد أن «الرجل خئون دومًا شيمته الغدر/ … لا يثبت في حال واحدة أبد الدهر» (٢ / ٣ / ٦١، ٦٣) وهذا التأكيد على خيانة الرجل، مثلما تخون المرأة، يتصل بجوهر المسرحية، ويعتبر إضافة تتجاوز وظيفة «التجميل» أو التسرية بالموسيقى، وكما يقول و. ﻫ. أودن:

إن أغنية بالتازار تقلب أعراف أغاني العشق «السرينادية» رأسًا على عقب، وتأثيرها ينحصر في أننا لا ينبغي أن نأخذ صورة العاشق الحزين مأخذ الجد … وإذا تخيل المرء أن المشاعر التي تعبِّر الأغنية عنها تمثِّل انطباعًا عن شخصية ما، فإن الشخصية الوحيدة التي تناسبها هذه المشاعر هي شخصية بياتريس.

و. ﻫ. أودن، محاضرات عن شيكسبير، من تحرير آرثر كيرش، (برنستون، نيوجيرسي، ٢٠٠٠م، ص١١٥)

وأما الأغنية الثانية «أرجو يا ربة هذا الليل الصفح ببابك» (٥ / ٣ / ١٢ وما بعده)، فينشدها، كما قلت، منشدون مكلَّفون بهذه المهمة، وإن لم يكن كلوديو واضع كلماتها فهي تعبِّر عن وجهة نظره قطعًا كأنما كان هو الذي يغنيها، وهي أغنية ذات نبرات حزينة ثقيلة الوطأة لكنها تفقد كل قدرة على إشاعة الحزن لأننا نعرف أن هيرو حية ترزق، ولهذا السبب فإن ما يسميه العروضيون «القافية الثقيلة» (يضنينا/موتانا/دنيانا) قد تبدو مبالغًا فيها بعض الشيء، بل وأدعى للسخرية في الواقع، وخصوصًا ذلك الإلحاح على «الآهات» و«الأنَّات» التي نعرف أنها دون مبرِّر، حتى ولو كانت من وجهة نظر الشاب اليافع كلوديو، غير القادر على الإحساس العميق المتبصر، ومهما يكن من ندمه على التعجل باتهام هيرو بالخيانة. ومن ثَمَّ تنشأ مساحة تفصل بين هذه الأغنية وبين اللحظة التي تقال فيها، وإن كانت تلك المساحة تَصُبُّ في صُلبِ المفارقة التي يقوم عليها الحدث، وتسهم من ثَمَّ في تأكيد إطار السخرية العام للحدث الذي أعتبره واحدًا وإن كان ذا فرعين.

وأما الأغنية الصادقة الوحيدة في المسرحية فهي التي يحاول بينديك أن يغنيها في آخر حديث منفرد له على المسرح، وهي:

ربُّ الغرامِ عِنْدَنا
في عرشِهِ مِنْ فَوْقِنا
وإنَّه يعرِفُني، وإنَّه يَعْرفُنِي
وكيف يُرثَى لي هُنَا
(٥ / ٢ / ٢٦–٢٩)

والمعروف أنها كانت أغنية شائعة في ذلك العصر، مثلما كان اللحن الإيطالي المصاحب لها، وأجمل ما فيها دراميًّا أنها تسبق اعترافه بالحب لنفسه أولًا ثم لبياتريس، وهو الاعتراف الذي يُقِرُّ فيه أولًا أنه لا يجيد فن القوافي، ولا حتى «الطريق الممهد للشعر المرسل»، (٥ / ٢ / ٣٣) ويعلن عجزه عن مطارحة الغرام «بلغة الاحتفالات» كما يقول (٤٠) وإذا به يأتي في النثر بما عجز عنه في الشعر، إذ ينتهي المشهد بأن يقول لبياتريس حين تسأله إن كان سيصحبها إلى منزل عمِّها «سأحيا في قلبك، وأموت في حجرك، وأدفن في عينيكِ؛ وكذلك سأذهب معك إلى منزل عمِّك!» (٥ / ٢ / ٩٤-٩٥) والمفارقة بين الصور المجازية «التقليدية» أو اليوفوية وبين العبارة الواقعية الأخيرة تعلن انتصار النثر على الشعر الذي عجز عن نظمه بينديك.

(٨) الاتجاهات النقدية حتى القرن العشرين

كان أهم مظهر شَغَلَ النقاد منذ بداية الاهتمام النقدي بالمسرحية مزْجها غير المعتاد بين عناصر الملهاة والمأساة، وتغيُّر النظرة إلى هذا المزج في ذاته دليل على التحول الكبير في مسار النقد الأدبي والمسرحي على مدار القرون الماضية. ولم يكن النقاد الأوائل مسلحين بالأدوات النقدية التي تتيح لهم ما يتوافر الآن من مداخل فنية (خاصة بالإخراج) أو نفسية (مستقاة من علم النفس الحديث) أصبحت اليوم في متناول الجميع، ناهيك بثمار النظرية النقدية الحديثة من مذاهب اجتماعية وثقافية ونسوية. ولم نكن لنصل إلى التحليل العميق الذي وصل إليه ريتشارد ليفين (Levin) في كتابه تعدد الحبكات في الدراما الإنجليزية في عصر النهضة (شيكاغو، ١٩٧١م، ص٩٠–٩٣) لولا هذه المداخل. وانظر مثلًا إلى ما يقوله تشارلز جيلدون (Gildon) عام ١٧٠٩م في «ملاحظاته» التي أدرجها المحرر «رو» في طبعته لأعمال شيكسبير: «لا بد أن نصِف هذه المسرحية بأنها كوميديا، وإن كان بعض ما فيها من أحداث وأقوال ينتمي انتماءً أكبر إلى النغمة المأسوية، واتهام هيرو يصدمنا صدمة تتجاوز المقبول في المأساة أو الملهاة» (مقتطف في فيرنيس ص٣٤٧). ولم يختفِ هذا الموقف من المزج المذكور اختفاءً تامًّا، بل ما زلنا نقرأ من يعيبه إلى اليوم، ولكن هيمنة «حبكة» بينديك وبياتريس على خشبة المسرح كانت دائمًا ترجح كفة الكوميديا وتضمن إقبال الجمهور على مشاهدتها.
وكان من العوامل الأخرى التي شجعت على شيوع نظرة جليدون ومن اتَّبعه، وعلى امتداد القرن الثامن عشر، الميل إلى النظرة «الكلاسيكية» التي ترفض المزج بين «النوعين» وخير من يمثِّلها جون درايدن في مقال عن الشعر المسرحي (انظر درايدن والشعر المسرحي، مجدي وهبة ومحمد عناني، ١٩٦٣م، ١٩٨١م، ١٩٩٤م). فكان النقاد في ذلك العصر الذي اعتدنا وصفه بعصر الكلاسيكية الجديدة، ولنا أن نقارنه بعصر البعث أو الإحياء في الأدب العربي (أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين لدينا) يرجعون إلى الأسس الفنية للمسرح التي وضعها القدماء، وكان درايدن يستند إليها في رفضه للمزج المذكور قائلًا إنه ينافي «الطبيعة»، ما دام الإنسان لا يستطيع أن يضحك ويبكي في الوقت نفسه. وكان مفهوم الطبيعة في ذلك العصر، الذي خصَّص له بازل ويلي كتابًا كاملًا، يقوم على الأفكار التي أتى بها «العلم» لأول مرة، وآراء الفلاسفة الواقعيين، وكلها تؤمن بالتبويب والتصنيف وتأبى المزج والخلط. ولكن جيلدون ومن اتَّبعوه لم يخفوا إعجابهم بما نسميه اليوم تمثيل شيكسبير «الواقعي» للشخصية (وإذن فهو يحاكي «الطبيعة» محاكاةً صادقةً) إذ يضيف جيلدون أن شيكسبير «دائمًا ما يرسم صورًا متقَنة للنساء والرجال، حتى إننا نكاد نقنع أنفسنا أثناء القراءة أن كلام هذه الشخصيات حقيقي لا مُتخيَّل» (مقتطف في فيرنس ص٣٤٨). وسرعان ما أصبحت هذه النظرة سائدة، خصوصًا في القرن التاسع عشر بسبب انتشار قراءة الروايات النثرية.
وكان الاهتمام ببناء الشخصية من حيث صدق تصويرها، أي مماثلتها النفسية للواقع واحتمال وجود أمثالها في التاريخ أبرز ما تميز به النقد في القرن التاسع عشر، وكان هازليت من أوائل النقاد الذي اهتموا بشخصيات الحرس، وهي الشخصيات التي لم تحظَ بنصيبها «المعقول» من الدراسة إلا في العصر الحديث (انظر دراسات جون أوبري (Aubrey) في كتابه تراجم قصيرة من تحرير أ. ل. ديك، ١٩٤٩م، وهيو س. إيفانز (Evans) بعنوان «الكونستابلات الفكاهية: ما بين الخيال والتاريخ» في مجلة شيكسبير الفصلية ٢٠ عام ١٩٦٩م، وجون أ. ألن (Allen) بعنوان «دوجبري» في المجلة نفسها العدد ٢٤ عام ١٩٧٢م) إذ كتب هازليت في عام ١٨١٧م يقول:

«إن شيكسبير يبلغ حدَّ الإعجاز في تصوير دوجبري وفيرجيز في هذه المسرحية، إذ يقدِّم نموذجين باهرين للأخطاء الجذابة وسوء فهم المعاني، فهما يعتبران مثالًا باقيًا لما يكتسيه التظاهر والعجز عن الفهم واستعمال المنطق من وقار «رسمي»، ولا شك أن شيكسبير استنسخهما من واقع الحياة، ويبدو أن ذلك المثال قد صعد في المائتي سنة الماضية من أدنى مناصب الدولة إلى أعلاها.»

(وليم هازليت، شخصيات مسرحيات شيكسبير، ١٨١٧م، ص٣٠٣).
ويكاد هازليت ينفرد بين نقاد تلك الفترة باهتمامه بهاتين الشخصيتين، فمعظم النقاد في أثناء ما يُسمَّى بالحركة الرومانسية وحتى نهاية القرن تقريبًا كانوا يركزون على ما يُسمَّى مقومات شخصيتي بياتريس وبينديك أي على اللغة التي يستخدمانها ومدى لياقة سلوكهما بمعيار المبادئ الأخلاقية والاجتماعية في أيام شيكسبير وفي العصر الذي عاش فيه هؤلاء النقاد. ويورد فيرنيس نموذجًا للاعتراض على اللياقة كتبته مدام إنشبولد (Inchbold) في كتاب بعنوان المسرح البريطاني عام ١٨٢٢م تقول فيه: «لو أن بياتريس وبينديك كانا يتحليان بالأخلاق الفاضلة، أو كانا يعرفان حقًّا معنى الشرف والأدب، لما أقدما على استراق السمع ورفضا هذا التجسس، ولو امتنعا عن ذلك لتوقف حدث المسرحية» (ص٣٤٨). ولكن البعض كان لا يزال يعترض على «عدم لياقة» الفكاهات التي يتبادلانها ويفسر ذلك تفسيرًا تاريخيًّا بوضعها في سياقها أي في العصر الإليزابيثي دون غيره، أي كان يقال إن علينا أن نحكم على ما يُسمَّى باللماحية «تاريخيًّا» وحسب، كما قال إدوارد لانج (Lang) في مجلة هاربر عام ١٨٩١م (مقتطف في فيرنيس ص٣٦٢). وفي عام ١٨٩٨م كتب برنارد شو يقول إن ما نجده في شيكسبير من حسٍّ فكاهي يتسم بالغلظة أو الفظاظة، ولا يجعلنا نستسيغه إلا موسيقى الألفاظ أي الجرس الأخاذ في لغته، قبل أن يبلغ مرحلة النضج:
ربما كانت مسرحية ضجة فارغة أخطر شَرَكٍ يُنصَبُ للمثل المدير في كل ما يُقَدَّمُ من تأليف شيكسبير على المسرح، فليست بالمسرحية المأمونة مثل تاجر البندقيةأو كما تحب، بل ولا هي مسرحية جادة مثل هاملت، فنجاحها يتوقف على أسلوب إخراجها وتمثيلها، وهو ما يتوقف بدوره على مدى تمتُّع الممثِّل المدير بالوعي النقدي اللازم للتمييز دون رحمة بما يتظاهر المؤلف به وما يحققه فعلًا.
وأهم ما يُتَظَاهَرُ به في ضجة فارغة هو أن بينديك وبياتريس شخصان يتميزان بلماحية بارعة وقدرة على الإمتاع والتسلية. ولكنهما، بطبيعة الحال، ليسا كذلك على الإطلاق. فإن فكاهات بينديك يمكن قبولها في إطار الغناء الجماعي في قاعة حانة من الحانات، لكنه إذا تهور سيد مهذب فأطلق مثل هذه الفكاهات في منزل متواضع بالضواحي لا يزيد دخل صاحبه عن ٥٢ جنيهًا في العام ويحاول محاكاة المجتمع الراقي، فلن يدعوه أحد مجددًا للزيارة. فمنذ أول فكاهة يقول بينديك: «هل راودك الشك يا سيدي حتى تسألها؟» إلى آخر فكاهة له «لا توجد عصًا أشد جلالًا من عصًا في طرفها قرن» لا يثبت أنه لماح أو سريع البديهة، بل هو وغد سافل … ولقد قضى شاعرنا وقتًا طويلًا حتى استطاع أن يتخلص من الوهم الخاص بسكان الأقاليم، وهو الوهم الذي جعله مولعًا كل هذا الولع باستعراض قدراته في تصوير الممازحات بين العشاق.
(من مسرحنا في التسعينيات، مقتطف في كتاب شو يتحدث عن شيكسبير من تحرير إدوين ويلسون، نيويورك ١٩٦٨م، ص١٤١).

وهكذا نرى أن اعتراض النقاد على «انتهاك» شيكسبير لأعراف الكوميديا امتدَّ ليشمل اعتراضهم على ما كانوا يرونه «انتهاكًا» للسلوك المهذب، ولا شك أن عداء برنارد شو أو كراهيته لشيكسبير تدفعه إلى المبالغة، فليس بينديك «مهرجًا» محترفًا، وليست مطارحات بينديك وبياتريس إلا مطارحات فتى وفتاة يخفيان أو يقاومان انجذاب كل منهما للآخر بهذا الأسلوب، وليس تراشقهما المسرحي استعراضًا لمهارة شيكسبير بقدر ما يقصد به إثبات المساواة بين الجنسين في الطاقة الذهنية التي هي السمة البشرية الأولى.

وكانت شخصية بياتريس تمثِّل، بسبب نجاح الممثلات اللاتي لعبن دورها على المسرح، ما تتسم به المسرحية من خلطٍ للكوميديا بالتراجيديا، وتورد ماكيتشيرن مقتطفًا من كتاب كتبته مسز جيمسون (Jameson) بعنوان خصائص المرأة عام ١٨٣٣م، تركز فيه على صورة بياتريس عند شيكسبير:

يرسم شيكسبير في شخصية بياتريس صورة صادقة للفتاة الحسنة المفعمة بالحيوية في عصره … إذ تجتمع في بياتريس صفات الذهن الراقي والقوى الحيوية السامية، ويُذْكِي بعضها بعضًا مثل النار والهواء. ونجد في لماحيتها (وهي باهرة لكنها لا تدل على إبداع المخيلة) لمسة من الوقاحة، ولا يندر هذا بين النساء حين يتغلب الذكاء على طاقة التأمُّل والتخيُّل. ونجد في طبعها أيضًا عنصرًا محدودًا من سلاطة اللسان، وهجاؤها الفَكِه ينطلق بخفة وطيش فلا يُعْفِي موضوعًا — مَهْمَا يكن — من لذعه، ولو أن المؤلف أراد لنا أن نتعاطف مع هذه الشخصية لكان عليه أن يتعمق حقًّا في فهم المرأة. ولكن بياتريس برغم إرادتها الصلبة ليست شَرُودًا عاصية، وهي متقلبة المشاعر لكنها تتمتع بعمق الإحساس … وهي تأسرنا أسرًا تامًّا بما تبديه من حمية في ارتباطها الكريم بابنة عمها.

(مقتطف في ماكيتشيرن، ص١٢١-١٢٢)

وهكذا كان الحكم على بياتريس يتفق مع معايير العصر الخاصة بصورة الأنثى المثالية، كما كان مصير المسرحية يتوقف على أمثال هذه الأحكام. ولم يكن الجميع متفقين على أن شيكسبير كان على حقٍّ في تصوير هذه الشخصية، أي إنه كان يقدم نموذجًا صالحًا، وقد ذكرتُ من قبل أن كامبل، محرر طبعة ١٨٣٨م من أعمال شيكسبير قال إنها «امرأة كريهة»، والواقع أنه يؤكد في تقديمه لهذه الطبعة أنه غير متفائل بمستقبل العلاقة بين بينديك وبياتريس بعد الزواج، مشيرًا إلى أنه كان يعرف شخصيًّا اثنين مثلهما، وأن زواجهما قد انتهى بالانفصال!

ولا يدعو للدهشة إذن أن تؤدي معايير القرن التاسع عشر إلى تفضيل هيرو، الضحية البريئة للإفك، والتي تُعتبَر «صامتة» بالمقارنة ببياتريس، فإلى جانب الانفعال «بمأساتها»، وهو الذي ذكر رودريك بينديكس أنه لا يناسب الكوميديا (فيرنيس ٣٧٧)، نجد النقاد لا يعفون كلوديو من اللوم؛ فتصفه كاتبة ألمانية عام ١٨٦٢م بأنه «متغطرس، خائر العزم، متقلب الأهواء، وقادر على القسوة الشديدة إذا غضب» وتنتهي من ثَمَّ إلى أنه لا يصلح بطلًا للمسرحية، قائلةً إنه «أبغض الشبان طُرًّا» (فيرنيس ٣٧٤). ولم تبدأ معالجة موقف كلوديو من المنظور التاريخي وفي إطار الأعراف القائمة آنذاك، إلا في القرن العشرين حين كتبت نادين بيج (Page) دراستها عن «نبذ هيرو علنًا» في مجلة PMLA عام ١٩٣٥م، وكتب كيربي نيل (Neill) دراسته بعنوان «ضجة حول كلوديو: العريس المفترى عليه» في مجلة شيكسبير الفصلية عام ١٩٥٢م.
والملاحظ أن الجانب الأكبر من النقد في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كان منصبًّا على رسم الشخوص في ضجة فارغة، ويتناول احتمال وجود أمثالهم في الدنيا، ومدى جاذبية كل منهم، ومدى «لباقته» بمعنى اتفاقه مع المعايير السائدة في فترة ما. ولكننا نلمح أيضًا بعض الاهتمام بعناصر أخرى، في دراسات بالغة الندرة يحاول أصحابها وصف الشكل العام أو النوع الدرامي للمسرحية، ومن بينها ما يقوله كولريدج من أن المسرحية «تمثِّل إحدى محاولات شيكسبير القليلة لكتابة ما يمكن أن يُسمَّى الكوميديا المهذبة» (في هارتلي كولريدج، مقالات وحواش، ١٨٥١م، المجلد الثاني ص١٣٥) وإن كان كولريدج قد ذكر في حديثه عن الحبكة ما يلي في باب خصائص شيكسبير:
… ينبع اهتمامنا بالحبكة من اهتمامنا بالشخصيات، لا العكس، وما الحبكة إلا اللوحة الخلفية لها … فإذا نزعت من ضجة فارغة كل ما ليس جوهريًّا للحبكة، إما لأنه لا علاقة له تقريبًا بها وإما لأنه، على أحسن الفروض، مقحم عليها مثل دوجبري وزملائه، وكان يمكن تقديم ديدبانات وعسس بصورة أقل عبقرية، وإذا نزعت منها بينديك وبياتريس ودوجبري، ورد فعل الأول إزاء شخصية هيرو، فما الذي يبقى لديك؟ إن المحرك الأول للحبكة عند الكُتَّاب الآخرين هو الشخصية البارزة، وقد يكون ذلك هو الحال عند شيكسبير وقد لا يكون؛ فقد تُرسَمُ الشخصية عمْدًا لتشكيل الحبكة، وقد لا يُقصد بها ذلك. وهكذا نجد أن دون جون، القوة الدافعة في الحبكة، يقتصر المؤلف على عرضه علينا ثم ينحيه جانبًا.
(ص. ت. كولريدج، النقد الشيكسبيري، المجلد الثاني، ص١٩٩-٢٠٠)
وإذا كان كولريدج يربط بين الحبكة والشخصية، فإن النقاد واصلوا الهجوم على الحبكة باعتبارها متكلِّفة مصطنَعة، على عكس الشخصيات، والطريف في الأمر أن العيوب التي كانوا يرونها في «النوع» الدرامي للمسرحية، كانت تُعزى إلى عيوب في الشخصيات، وكان البعض يربط ما بين النقائص في شخصية كلوديو ومكانة المسرحية باعتبارها كوميديا. وفي مقابل ذلك نجد أن الذين يدافعون عن البراعة الفنية للمسرحية يدافعون عن الطابع الأخلاقي للشخصيات أيضًا مثل سوينبيرن (Swinburne) (دراسة لشيكسبير، ١٨٨٠م).
ويجمع النقاد على أن الصورة التي قدمتها الممثلة الذائعة إلين تيري لبياتريس أثَّرت في مفاهيم نقاد تلك الفترة لا لتلك الشخصية وحسب بل للمسرحية نفسها، وينطبق ذلك بطبيعة الحال على سوينبيرن، وقبل أن أترك القرن التاسع عشر أود الإشارة إلى ما كتبه لويس كارول (مؤلف كتاب أليس في بلاد العجائب) عن هذه المسرحية بعنوان «خطاب إلى إلين تيري»، وأوردته تلك الممثلة في سيرتها الذاتية «قصة حياتي» (د. ت) ويتساءل فيه عن سبب إحجام هيرو عن إثبات براءتها بإثبات وجودها في غير مكان الجريمة، وهو خطاب فكِه طريف.

(٩) اتجاهات النقد في القرن العشرين

وعلى امتداد القرن العشرين تغيَّر اتجاه النقد من التركيز على شخصية بعينها أو دلالة خاصة لجانب من جوانب المسرحية إلى التركيز على النوع المسرحي والمداخل الشكلية للدراما، تأثرًا بالمناهج «الكلية» الجديدة التي أتى بها النقد الحديث في مطلع القرن العشرين، ولكن ذلك الاتجاه لم يتبلور حقًّا إلا بعد إصدار براوتي كتابه الذي أشرت إليه آنفًا عن مصادر الحبكة عام ١٩٥٠م، إذ أتاح للنقاد النظر في سياقات أوسع وأرحب لدلالات المسرحية، على نحو ما بيَّنته في القسم الخاص بالمصادر. وفي النصف الثاني من القرن العشرين تكاثرت الدراسات التي تتناول ما لم يكن القدماء يتحدثون عنه مثل «المزج النغمي» النابع من المزج بين الكوميديا والتراجيديا أو المقابل له، وكيف يؤثر هذا المزج في وحدة الانطباع أو يثريها، وكان النقاد عادةً ما ينكرون الوحدة الأسلوبية ويترددون في القطع بتأثيرها في وحدة الانطباع المذكورة، أو في «التماسك الصوري» للمسرحية. وكان من وراء هذا الاتجاه ولا شك كتاب براوتي المشار إليه، حسبما نرى في دراسة ديفيد كوك (Cook) بعنوان «معبد البهجة نفسه: الحبكتان التوأم في ضجة فارغة»، (١٩٨١م)، وهي التي يذهب فيها إلى ما ذهبتُ إليه تقريبًا من أن «حبكة» هيرو وكلوديو تصبُّ في حبكة بينديك وبياتريس، مثلما تصبُّ الأخيرة في الأولى، بحيث تتضافر الحبكتان تضافرًا «بهيجًا»، وتلاه جون تروجوت (Traugott) (١٩٨٢م) الذي يركز لا على امتزاج التراجيديا بالكوميديا بل على امتزاج الكوميديا بالرومانس أو القصص الغرامي، إذ يعتبر أن كلًّا منهما نوع أدبي وإن كان شيكسبير مولعًا بالمزج بينهما، في دراسة له بعنوان «خلق رينالدو عقلاني: دراسة لمزج نوعي الكوميديا والرومانس في ضجة فارغة»، وهو يكثر من الرجوع إلى المصادر الخاصة بكلٍّ من الحبكتين، مثلما يفعل لوري أوزبورن (Osbourne) الذي يحلل تحليلًا وافيًا مدى انتفاع شيكسبير بمصادره، مقتطفًا فقرات منها وراجعًا إلى كتاب براوتي المذكور، في دراسته المهمة وعنوانها «الحركة الدرامية في ضجة فارغة: اقتران الحكاية الإيطالية بالكوميديا الإنجليزية» (١٩٩٠م) وهو ما يبالغ في الاتكاء عليه مارتن مويلر (Mueller)، الذي يحلل الدلالة الدرامية لتكرار بعض الثيمات التي استقاها شيكسبير من شتى مصادره، سواء كانت إيطالية أو إنجليزية، قائلًا إن التكرار مع التنويع أسلوب موسيقي برع فيه شكسبير، وعنوان دراسته «الحسان النائمة عند شيكسبير: مصادر ضجة فارغة وتأثير تكرارها». وقد لاحظت في هذه الدراسات جميعًا أنها لا تضيف الكثير إلى ما قاله كريك (Craik) عام ١٩٥٣م في مقال له بعنوان «ضجة فارغة» (ولم يكن يقصد به عنوان المسرحية بل مجادلات النقاد) من أن المسرحية تمثل مزيجًا خاصًّا «مقصودًا»، وأنه يندر أن يدرك القارئ جمال هذا المزج، وقد عادت بربارا إيفريت للفكرة نفسها حين قالت «إن شيكسبير يخلق إحساسًا روائيًّا بالواقع، إذ يبني عالمًا يعيش الناس فيه معًا حياة مشتركة قادرة على إقناعنا بصدقها اجتماعيًّا وسيكلوجيًّا، وتعتبر جديدة على الشاعر … وذلك بسبب قدرتها على الاحتفاءبالتناقضات وضم بعضها إلى البعض في كل مكان» («ضجة فارغة: الكوميديا غير الاجتماعية» ١٩٩٤م).
ويبدو أن المسائل الخاصة بالوحدة «الجمالية» لم تعد تحظى باهتمام النقاد، شأنها في ذلك شأن الانشغال السابق بالشخصية والأخلاق، ولكن محاولات إثبات التماسك البنائي لم تتوقف، وإن كانت قد تحوَّلت من النطاق الشكلي إلى نطاق الثيمات، ويظهر لنا شيكسبير (في الدراسات التي يبدو فيها هذا التحول) كاتبًا تشغله على امتداد المسرحية قضية مهيمنة تكفل الدينامية الدرامية اللازمة لتوحيد العناصر المتنافرة فيها، مثل قضية المعرفة التي أثارها أولًا أ. ب. روسيتر (Rossiter) في كتابه ملاك ذو قرنين عام ١٩٦١م، وتلته باربارا لوولسكي بدراسة عنوانها «الحب والمظهر والمخبَر: ضجة حول شيء ما» عام ١٩٦٨م تؤكد فيها أن شيكسبير كانت تشغله قضية «حقيقة» الواقع وسُبُل التيقُّن منها، فهي تختلف من منظور إلى منظور وفقًا لاختلاف الناظر وموقفه العام. وترى الباحثة أن شيكسبير يؤكد، رغم النهاية السعيدة، استمرار اختلاف المناهج المعرفية، وأهمية الوعي بهذا الاختلاف في عصر شيكسبير وفي كل عصر. وأما من تناولوا القضية بعدها فمنهم من يعمِّم مفهوم المعرفة، كما يفعل ريتشارد هنزه (Henze) في دراسة له بعنوان «الخداع في ضجة فارغة» (١٩٧١م)، ومنهم من يربط ما بين المناهج المعرفية والشكل المسرحي، مستقيًا دلالات فنية من استثمار هذه القضية في البناء الدرامي، وكيف يؤثر اختلاف وجهة النظر، ومن ثَمَّ اختلاف «نوع» المعرفة، في تحديد مسار الأحداث بل وفي تطور الشخصيات، مثل رالف بيري (Berry) في الكتاب الذي أصدره عام ١٩٧٢م بعنوان كوميديات شيكسبير: استكشافات للشكل، وخصوصًا الفصل الذي يسميه «مشكلة المعرفة» (ص١٥٤–١٧٤).
ومن القضايا «المهيمنة» الأخرى في نظر المحدثين قضية «طراز الملبس» الشائع وكيف يتحكم الطراز في تلوين الواقع في عيون الشخوص، وهي قضية تتصل بقضية المعرفة كما هو واضح، وأهم من ناقشها في نظري ديفيد أورميرود الذي سبق أن أشرت إلى دراسته الصادرة عام ١٩٧٢م، وتلاه ج. إيفانز (Evans) الذي يحلل معنى كلمة «طراز الملبس» وسياقات استخدامها في المسرحية، وكيف ترتبط بالأعراف الاجتماعية (انظر المراجع) عام ١٩٧٣م، وأخيرًا مايكل فريدمان (Friedman) الذي يركز على أسلوب دلالة تعبير «طراز الملبس» عند إخراج المسرحية، وكيف يبرز أداء الممثلين أهمية مظهر طراز الملبس لدى كل منهم (انظر المراجع).
ومن القضايا «المهيمنة» الأخرى عند النقاد قضية النميمة أو الوشاية بصفة عامة، وكيف يتحوَّل التشهير بإنسان إلى خلط الواقع بالوهم، ومن ثَمَّ كيف يؤدي ما درج عليه الناس من الخوض في سيرة بعضهم البعض إلى تحويل الوهم إلى واقع، وهي القضية التي بدأت مناقشتها جويس سيكستون (Sexton) في مقال لها عام ١٩٧٥م (وتقارن فيه استخدام التشهير في مسرحيتين من بينهما ضجة فارغة) ووصلت إلى ذروة العمق عند الباحثة س. ب. سيرازانو (Cerasano) التي كتبت دراسة عام ١٩٩٢ بعنوان «نصف دستة كلمات خطرة»، وأعيد نشرها في كتاب صدر عام ٢٠٠١م، يضم دراسات أخرى حديثة عن المسرحية (وهو الذي اعتمدت عليه)، ولما كانت سيرازانو تعالج القضية من وجهة نظر النقد النسوي، فسوف أرجئ مناقشتها إلى ذلك القسم. وتتصل بهذه القضية قضيتان أخريان تشتبكان معها، وهما قضية «المكانة الاجتماعية» والدور الذي تلعبه في المسرحية، وكيف أن «الشرف» في هذه المسرحية يعني احترام الناس، ومن ثَمَّ فهو قيمة اجتماعية لا قيمة أخلاقية، وهو المدخل الذي يناقش القضية منه مايكل تايلور (Taylor) في دراسة له عنوانها «ضجة فارغة: الفرد في المجتمع» عام ١٩٧٣م، ويعود إليها إليوت كريجر (Kreiger) في دراسة عنوانها «العلاقات الاجتماعية والنظام الاجتماعي في ضجة فارغة» عام ١٩٧٩م، ومن الزاوية نفسها. وتتفرع من هذه القضية قضية الحب الذي يعلي المساهمة في بناء المجتمع بإقامة علاقة وإنشاء وحدة اجتماعية جديدة هي الأسرة، وكيف تتعارض هذه النزعة مع «حب الذات» الذي يقاوم «التسليم» للحبيب، حتى ولو كان في ظاهره «فوزًا» بقلب الحبيب، وهو التعارض الذي يؤكد ستيفن روز (Rose) وجوده عند كل من بينديك وبياتريس، مبينًا أن حبهما المتبادَل يمثِّل انتصارًا للقيمة الاجتماعية على حب الذات، في دراسة له بعنوان «الحب وحب الذات في ضجة فارغة» (١٩٧٠م).
وقد تناول نقاد كثيرون الدور الذي تلعبه اللغة في المسرحية، وسبق لي أن عرضت لبعض الآراء في قضية النثر في المسرحية (في القسم الخاص بالأسلوب)، ولكن الكثيرين يعالجون قضية اللغة من زوايا أخرى أهمها كيف ترسم اللغةُ الشخصيةَ وكيف ترسم الواقع، وكيف تتحكم في فكر الإنسان، منذ أن أثار هذه القضايا ب. أ. يورجنسن (Jorgensen) في الفصل الخاص بالمسرحية في كتابه الانتصاف لكلمات شيكسبير عام ١٩٦٢م (ص٢٢–٢٤)، إذ عاد أنطوني دوسون (Dawson) إليها في مقال كتبه عام ١٩٨٢م بعنوان «ضجة كبيرة حول الدلالة» ويحلل فيه تحليلًا دقيقًا كيف يستغل شيكسبير وعي الشخوص باختلاف دلالات الألفاظ لا في «توليد» الفكاهات التي لا ترمي إلى التفكُّه وحسب، بل للدلالة على معانٍ أشد التصاقًا «بموضوع» المسرحية، بمعنى أن التلاعب بدلالات الألفاظ، على ما فيه من تسرية للجمهور، ليس تلاعبًا أجوف بل يضيف إلى الحدث الدرامي ويُعتبَر عاملًا من عوامل الدفع به وفق الحبكة العامة. وسار على النهج نفسه جون دراكاكيس (Drakakis) ولكن من منظور تفكيكي طريف، فهو يحاكي جاك دريدا في تناوله لروميو وجوليت، بتحليل التعارض الثنائي بين كلمتي «الثقة» و«التجاوز»، ويقترح إضافة هذا الثنائي إلى قائمة التعارضات الثنائية القائمة في المسرحية، مبينًا أنه ما دام كل منهما يختلف في اشتقاقه اللغوي، «فلا مناص من عدم تعريفهما تعريفًا إيجابيًّا يستند إلى مضمون كل منهما، بل تعريفًا سلبيًّا يستند إلى تضادهما مع الألفاظ الأخرى داخل النظام نفسه» وهكذا ينتهي إلى أن الأفكار (أو المُثُل) الأفلاطونية القائمة على «الثقة»، مثل الوحدة والتناغم، لا يمكن تعريفها إلا من خلال ما يمثِّل نقيضًا لها وهو «التجاوز» وصاحبه دون جون، وهو الذي تتفاوت صورته ما بين الديوث والعاهر والنغل. وعنوان دراسته هو «الثقة والتجاوز في الأحاديث المتبادَلة في ضجة فارغة» (١٩٨٧م).
وكان من الطبيعي بعد أن انحسرت موجة التفكيكية في التسعينيات أن يعود دارسو اللغة إلى ما أراه الطريق «المعقول»، فكتبت باحثة تُدعى مارتا سترازنيكي (Straznicky) دراسة عنوانها «شيكسبير وحكومة الكوميديا: ضجة فارغة» عام ١٩٩٤م، وتتناول فيها بعض مظاهر الكوميديا التي عرضت لها آنفًا ولكن من وجهة نظر استخدام اللغة، وهو ما أفيض فيه في الحواشي، وتلاها ستيفن دوبرونسكي (Dobranski) عام ١٩٩٨م بدراسة عنوانها «أطفال الذهن: الحكايات المجهضة في ضجة فارغة» ويجتهد فيها للتدليل بأدلة نصية على أن شيكسبير كان يقصد رسم علاقة سابقة بين بينديك وبياتريس (وربما حملت منه وأجهضت) ولكن ذلك ظل حبيس ذهنه، وتلته لين ماجنوسون في الدراسة التي أشرت إليها سابقًا عام ١٩٩٩م، وأخيرًا موريس هنت (Hunt) عام ٢٠٠٠م في دراسة عنوانها «إصلاح اللغة في ضجة فارغة» وجميع هذه الدراسات تدور في فلك «الشخصية» و«الحبكة» ولا تتعرض للغة من منظور علم اللغة الحديث، وأتمنى أن يستغل علماء اللغة ما اكتسبناه من هذا العلم بتعليمنا ما لم نكن نعلم عن اللغة في هذه المسرحية. وأما استخدام التراشق المسرحي (الذي ينم عن اللماحية أو سرعة البديهة) في المسرحية فلم أعثر إلا على دراستين تتناولانه، وقد بعُد العهد بهما، الأولى كتبها وليم كنج (King) وعنوانها «ضجة كبيرة حول شيء ما» ونشرت عام ١٩٥٣م، والثانية كتبها وليم ماكولام (McCollum) بعنوان «دور اللماحية في ضجة فارغة» عام ١٩٦٨م، وكلاهما يعرض للتوظيف الدرامي للفكاهات ودلالاتها في إبان عصرها وعلاقتها «بموضوع» المسرحية، ودورها في رسم الشخصيات، وسبق لي أن عرضت لذلك في الأقسام السابقة في المقدمة.
ولقد تعددت المداخل النقدية الحديثة في تناول المسرحية ومن بينها المنهج الشكلي الذي اقتصر حتى الآن على تناول لغة المسرحية من وجهة نظر تقليدية، مثل منهج جوناس باريش (Barish) في المقال الذي كتبه عام ١٩٧٤م بعنوان «النسق والغرض في نثر ضجة فارغة»، وهو مقال قصير، ومثل الكتاب الكامل الذي خصَّصه بريان فيكرز لمناقشة الخصائص الفنية لنثر شيكسبير ونشره عام ١٩٦٩م، وسبقت لي الإشارة إليه واقتباس بعض أقواله (في قسم الأسلوب)، ومن بينها أيضًا منهج التحليل النفسي، ولديَّ دراستان، الأولى للباحثة كارول كوك (Cook) (١٩٨٦م) وعنوانها «وليس فيها غير مظهر الشرف: قراءة الاختلاف بين الجنسين في ضجة فارغة»، وتبدؤها بالتركيز على الفكاهات الخاصة بالديوث باعتبارها دليلًا على القلق العميق عند الذكور من الشخصيات وعند بياتريس، وتفسِّره كوك بأنه يرجع إلى نشدان سلطة الذكر. وتقول إننا نجد في مقابل هذا أن هوية هيرو الصامتة عامة ما «تُكْتَبُ»، وتعاد «كتابتها» لمصلحة الذكور، إذ تُشَبَّهُ أولًا بديانا، ربة العفة، ثم بفينوس، ربَّة الشهوة، وفي النهاية عندما «تُبعث»، تُشَبَّه من جديدٍ بديانا، ولكن هذه النهاية كما تقول كوك تمثِّل إشكالية «إذ تظل هيرو ميتة عند بعثها، وتستولي عليها من جديد السلطة التي قتلتها، وهي صورة المرأة في أعين الرجال».
والدراسة الثانية التي ترتبط اسميًّا بالتحليل النفسي وإن كانت تضم عناصر ثقافية (ونسوية) عامة كتبتها جيل كيرن باستر وسبقت الإشارة إليها بعنوان «ضجة فارغة من منظور حديث» (١٩٩٥م) وتبدأ مثل الأولى بتحليل فكاهات الديوث «التي تشيع» على حد قولها في مسينا، ثم تحلل أول مونولوج لبينديك، وهو الذي يعلن فيه «مناهضته» للمرأة ومن ثم للزواج، قائلةً إنه يشجع على التفسير من منظور التحليل النفسي، ما دام بينديك يماهي علاقته بالأم بعلاقته بالمرأة (وبالزوجة) جامعًا بين الماضي والمستقبل، وبين الذكريات والمخاوف. وترجع الباحثة ذلك إلى أن سلطة الرجل تتعرض للتهديد بالاعتماد «المهين» على المرأة من جديد بعد أن استقل عن سلطة الأم واعتماده عليها، وتؤكد أن الخوف من المرأة في حالته أمرٌ شخصي بحت، فقَرْنا الديوث اللذان يخشاهما ينتميان إلى الجندي المهزوم الذي سلبه فرد آخر «بوقه» (وكانت الأبواق تُصنَع من القرون). وتوضح ذلك قائلةً:

وليس مما يدعو إلى الدهشة إذن أن ما يتوقعه بينديك من وداعٍ للسلاح يوازي نعي عطيل لفقدانه هويته البطولية بسبب ما يتخيله من خيانة دزدمونة الجنسية:

أما بحالي هذه فقل وداعًا يا طمأنينة! إلى الأبد!
وقل وداعًا للرضا وللكتائب التي تزهو رءوسها
بكل خوذة علاها الريش! وللمعارك الكبرى التي
يزهو الطموح بها فيبدو كالفضيلة! وقل وداعًا للأبد!
للصاهلات من خيولنا والصادحات من أبواقنا
وحافزات النفس من طبولنا والزاعقات من مزامير الجلاد في آذاننا!
(عطيل ٣ / ٣ / ٣٥٣–٣٥٨)

فالزواج يهدد الجندي، مثل بينديك وعطيل، بفقدان شكل ذي قيمة كبيرة من أشكال تفرُّده الذكوري؛ أي فقدان السيطرة والسلطة (ص٢١٦).

وتنتقل باستر من تحليلها النفسي إلى تحليل الخلفية الثقافية لعداوة المرأة (وهي تُعَرَّفُ هذه العداوة بأنها الحط المنتظم من شأن المرأة) بالحديث عن اصطدام «التقاليد الرسمية السلطوية» الخاصة بكراهة الزواج (وهي التي تنسبها إلى الكاثوليكية) بالمثل الأعلى البازغ وهو الزواج، على نحو ما سبق لي أن أشرت. وتقول إنها تختلف مع غيرها من النقاد «التقليديين» في رفض ما قالوا به من أن مقاومة بينديك وبياتريس للزواج ذات دلالة سيكلوجية، «حتى ولو عبَّرا عنها في لغتهما وسلوكهما بصورة سيكلوجية»، معلنةً أن حبهما من «خلق دون بيدرو» الذي يريد فرض سلطته على الجميع، مستشهدة بأقواله فقط (وهو ما سبق لي نقضه).

وتختتم باستر عرض قضيتها بأن تؤكد أن تاريخ عداوة المرأة يتطابق مع تاريخ الحب الرومانسي، وأن غرس بذور المشاعر المناهضة للمرأة كان دائمًا ما يتعايش مع جعل المرأة مثلًا أعلى، بل ويعتمد على هذا «التأليه» لها، مستشهدة بما يقوله هاورد بلوك (Bloch) في كتابه «العداء للمرأة في العصور الوسطى وابتكار الحب الرومانسي الغربي»، (شيكاغو، ١٩٩١م) من أن «العداء للمرأة والحب الرفيع تجريدان للأنثى يتآمران معًا ومنذ البداية، وحتى الآن، لغاية واحدة ألا وهي إخراج المرأة من التاريخ بإلغاء هوية الأفراد من النساء … وهكذا بتحويل المرأة إلى مثل أعلى» (ص١٩٦-١٩٧، في باستر ص٢٢١-٢٢٢). وهكذا فإن باستر تبدأ دراستها بمدخل نفسي وتنتهي بمدخل ثقافي (ونسوي) عام.
وأبدأ عرض الدراسات التي تطبق النقد النسوي المباشر بالدراسة التي كتبها هاري بيرجر الابن بعنوان «ضد الرقصة الخماسية: السياسات الجنسية والأسرية في ضجة فارغة» عام ١٩٨٢م وسبق لي أن أشرت إليها في سياق الحديث عن الأنماط الخاصة بكل من الجنسين، ويناقش فيها بيرجر مفهوم الزواج في المسرحية، وكيف ينشئ الذكور في المسرحية وعيهم «بالهوية الذكورية» القائمة بصفة أساسية على التضامن في «رابطة خاصة» يصفها بيرجر بأنها «نادي رجال مسينا» قائلًا إن تلك الرابطة عميقة الجذور في التاريخ:

ويمكن إرجاع أصول نسب نادي رجال مسينا إلى أيام مصر القديمة، وبابل، وهرقل، فهو يتبنى ويعيد تقديم طرز الملبس البالية في ذلك الزمن السحيق لأنه يشارك في المبادئ التي كان يقوم عليها عندهم مفهوم السلطة، وتجنب التكاليف، والخوف من المرأة وحبها في آنٍ واحدٍ، وهي المبادئ التي حافظت على تكامل المجتمع الذكوري «منذ غدت للصيف الأوراق على الأفنان». وإذا كان عشاق مسينا الرجال قد كتب عليهم تكرار التاريخ، فربما كان ذلك يرجع إلى أنهم يستعذبون الألم، ولا شك أن أزياءهم المختارة تنم على سوء فهمهم للسلطة، وولائهم للفن الجميل الذي يتمتع بتاريخ طويل وهو فن قهر الذات (ص٢٥).

ويقول بيرجر إن دون بيدرو، ومن يتبعونه ومن نزل ضيفًا عليهم، يشتركون جميعًا في نادي رجال مسينا، ما دامت المواقع التي يشغلونها (أو يعملون على أن يشغلوها) داخل هرم المراتب التي تحدد السلطة الذكورية تقوم على الأسس المستمدة من الماضي الذي يصوِّره الكتاب المقدس، ويدعمه التاريخ. ويتعمَّد بيرجر التلاعب بالألفاظ وإظهار ولعه بالتورية (وهو ما يناسب لغة المسرحية) في الإيحاء بأن مجتمعنا الحاضر الذي يحتفي بنوادي الرجال الخاصة به، والتي تتخذ صور الجماعات والمهن التي يهيمن الذكور عليها، قد «يكرر التاريخ» على غرار ما نرى في المسرحية.

والدراسة حافلة بالأفكار القائمة على «نادي الرجال»، منها أن الأيديولوجيا السائدة في المسرحية تقوم على التمييز بين الرجل والمرأة عند ارتكاب أي خطأ، فالمرأة مسئولة عن أي خطأ ترتكبه، على عكس الرجل، فالرجال عند اجتماعهم في غيبة النساء يقرُّون صراحةً بأنهم خونة، على نحو ما يعبِّر عنه بالتازار في أغنيته الشهيرة، ولكن ذلك لا يعني «استحقاقهم» للعقاب، وهم يتهمون هيرو ظُلْمًا، و«رَمْيُ المحصنات» ظُلمًا جريمةٌ كبرى، ولكن لوائح نادي الرجال تقول إن ذلك «خطأ في الحُكم مغتَفَرٌ» وحسْب (ص٢١)، وأما حين يُظَنُّ أن هيرو أخطأت، فعقابها الموت، ولو نفسيًّا، ومحاولة بياتريس الانضمام إلى نادي الرجال ذهنيًّا أي بمؤهلاتها الفكرية والشخصية تُقَابَل بمقاومة شديدة واستهجان.

كما يقدم بيرجر تحليلًا رائعًا لمشاهد الحراس الذين يمثِّلون في رأيه صورة فكاهية ولكنها صادقة لنادي رجال آخر، ويسوق الحجة الدامغة على أن أخطاءهم اللغوية لا تهدف وحسب إلى الإضحاك بل تفصح عن المفارقات التي يقوم عليها كل نادٍ للرجال، وحين يقول فيرجيز «الخلاص» ويقصد به «اللَّعْنَ»، فإنه يوحي ضمنًا بأن أعضاء نادي الرجال أو حتى «الأخيار» في المسرحية، جديرون بالخلاص واللعن معًا، ما داموا «يضمرون الولاء» (٣ / ٣ / ٥-٦) دون تحديد لمن يضمرون له «ولاءهم»، وينتهي من تحليله المسهب إلى القول بأن الحرس يجسد المبادئ التي تقوم عليها المعركتان اللتان تدور رحاهما في المسرحية، المعركة الدائرة بين الأجيال والمعركة الدائرة ما بين الجنسين.

وتناقش س. ب. سيرازانو في دراستها «نصف دستة كلمات» (١٩٩٢م) وسبقت الإشارة إليها، نادي رجال آخر تَكرَّر ظهوره وبإصرار على مرِّ التاريخ، وهو الذي تمثِّله المحاكم البريطانية، والحق أن جانبًا كبيرًا من النقد النسوي الذي ينشر في الصحف كثيرًا ما يبدأ عرض أحكام المحاكم بالهجوم على القيم البالية للقاضي الذي يرأس الجلسة. ولكننا، كما تقول سيرازانو، لا نستطيع أن نقبل هذه التعميمات ولا بد أن يتضح قصورها إذا وضعنا القضية برمتها في الإطار التاريخي الصحيح القائم على التحليل الدقيق للنظم القضائية وسجلات المحاكم المعاصرة، وإن لم يكن ذلك يعني الدفاع عن النظام القضائي الإنجليزي، ومن ثَمَّ تبحث سيرازانو في هذه الدراسة الأكاديمية موضوع التشهير باعتباره مفهومًا قانونيًّا في إنجلترا في عصر النهضة:

كان من عادة أبناء العصر الإليزابيثي ألا يسكت أحد على السباب أو القذف في حقه، بل يعتبر ذلك تشهيرًا به، ويرفع من ثَمَّ قضيةً على مَنْ سَبَّهُ حتى تنظرها المحاكم، وهكذا فلا بد أن ذلك كان مألوفًا لدى الجمهور الذي شاهد مسرحية ضجة فارغة، حتى ولو كان غريبًا غرابة شبه تامَّة عن معظم جماهير المسرح في القرن العشرين. ومن المهم لنا كذلك أن نفهم أن المرتبة الثانوية التي كانت المرأة تشغلها في عصر النهضة كانت تجعلها معرَّضة بصورة خاصة للسباب اللفظي.

وكان المتوقع أن تكون المرأة «عفيفة، صامتة، مطيعة»، وكانت القيمة الاجتماعية العليا لعفاف المرأة تجعلها عرضة لمزاعم الفسق والفجور. والواقع أن جميع قضايا السباب الخاصة بالمرأة تقريبًا كانت تتعلق باتهامها في أخلاقها الجنسية.

(ص٣٥)

وتضرب سيرازانو أمثلة من قضايا التشهير المعاصرة للمسرحية — وكان السباب المعتاد يتضمن القول بأن الشخص «سكير» أو «شهواني» أو «لص شهير» — إلى جانب ما تقول هيرو إنه «وصمات غير مشينة/ألصقها بابنة عمي»، وتدلِّل الباحثة على أن القول بوجود «وَصَمَات غير مشينة» وهْمٌ تنفيه الحقائق الاجتماعية والقانونية في ذلك الزمان. ومن خلال الرصد الدقيق الذي تقوم به الباحثة «للسوابق» اللغوية والقانونية، تنتهي إلى أن الخاتمة التي توحي بالتناغم ليست في الحقيقة إحقاقًا للحق بل كشفًا عن حقيقة الرجال. وبهذا المنهج تجمع دراستها بين احترام المصادر التاريخية وبين تأثير النقد النسوي، إذ تؤكد أدوار النساء في المسرحية مع الوعي في الوقت ذاته بألوان «الخطاب» السائدة في تلك الفترة. وأحب أن أورد ختام دراستها مترجمة:

ليست «إعادة تسمية» هيرو في الواقع إحقاقًا للحق أو إعادة تأكيد لذاتها الأولى، بل إنها تميط اللثام عن «حقيقة» الرجال، من خلال خلق واقع ثان:

هيرو الأُولى ماتَتْ مُتَّهَمةْ! لكنِّي أحيَا
واثقةً أنِّي عذراءُ وُثُوقي بحياتي.
(٥ / ٤ / ٦٤-٦٥)

وأخيرًا تبتكر هيرو اللغة الشخصية التي تحتاج إليها حتى تنجو من «تأليه» كلوديو لها وعواقبه الوخيمة، وكذلك عجز النظام القانوني العام عن الانتصاف للمرأة ممن ظلموها. أي إن هيرو تُحاكم لغة كلوديو، وبذلك تثبت أن «الوصمات المشينة» وهميةٌ قلبًا وقالبًا مثل المسرحية نفسها، وتتمكَّن بإقدامها على ذلك من إعلان إفلاس السلطة الأبوية للغة وعجزها عن السيطرة على المرأة.

(ص٤٨)
وقبل أن أعرض الدراسة المهمة عن «العداء للمسرح» التي كتبتها جين هوارد، وأشرت إليها من قبل، أود أن أشير إلى ما لاحظته في النقد الشيكسبيري في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، ألا وهو ميل النقاد إلى ربط كل مسرحية بسياقها التاريخي، مهما تكن جدة مناهجهم التحليلية أو مداخلهم، وأرجو أن يكون عرضي الموجز لبعض الدراسات الحديثة قد أوضح ذلك، ولكننا ما زلنا نجد قراءات بديعة لنصوص شيكسبير تتميز بالتوازن، بمعنى وضع ذلك كله في كفة وفي الكفة الأخرى تفهُّم عميق للتعقيدات السيكلوجية للمسرحية ووعي عام بالطابع الخيالي للنص، وهما عاملان يحرران العمل الأدبي إلى حدٍّ ما من سياقه التاريخي، ويفسران سر إقبال الجمهور على مشاهدة الضجة الفارغة حتى اليوم! والدراسة التي كتبتها باربرا إيفريت تمثِّل هذا التوازن، وعنوانها «ضجة فارغة: المسرحية غير الاجتماعية» ونشرتها في كتاب يضم دراسات أخرى عام ١٩٩٤م، ولن أعرض لها اكتفاءً بما قلته في مستهل هذه المقدمة.
تقول ماريون وين-دافيز (Wynne-Davies) في تقديمها للكتاب الذي حررته عام ٢٠٠١م، ويضم عدة دراسات نقدية عن ضجة فارغة وترويض السليطة، إن النقد الخاص بعصر النهضة تَعَرَّضَ في الثمانينيات لثورة عميقة نتيجة لمقدم التاريخية الجديدة، شارحةً أن هذا المدخل «كان يطعن في الأشكال الأولى للتحليل التاريخي إلى جانب التقليل من حصر التركيز على المكانة الطبقية والاقتصادية الذي يتميز به النقد الماركسي» (ص٤-٥) وأن دراسة جين هوارد وعنوانها «تقديم العداء للمسرح على خشبة المسرح: المؤثرات الأيديولوجية في ضجة فارغة» كان فصلًا من كتاب أصدرته عام ١٩٩٤م بعنوان «المسرح والكفاح الاجتماعي في أولى عهود إنجلترا الحديثة»، قائلةً إنها تستخدم فيه التاريخية الجديدة نقطة انطلاق لفحص عددٍ متنوع من المسرحيات التي كُتِبَت في أوائل العصر الحديث، كما تؤكد أن هوارد كانت من النقاد الذين ساعدوا على وضع نظرية التاريخية الجديدة، مستشهدة بالمقال الذي كتبته هوارد عام ١٩٨٦م بعنوان «التاريخية الجديدة في دراسة عصر النهضة» (مجلة النهضة الأدبية الإنجليزية ١٦)، كما تصف الدراسة التي سأعرض لها بأنها كانت ذات تأثير كبير باعتبارها نموذجًا بديعًا لتفسير — وفق التاريخية الجديدة — لمسرحية شيكسبير الكوميدية ويتميز باختلافه الجذري وطاقته الابتكارية (ص١٢٠). وسأبدأ عرضي بترجمة الفقرة الأولى من هذه الدراسة المطولة بسبب إلقائها الضوء على ما قالته المحررة المذكورة. تقول هوارد:

كانت قضية «ارتباط» أحد النصوص الأدبية بسياقه، سواء كان ذلك السياق لغويًّا أو اجتماعيًّا، من القضايا الكثيرة التي أعيد النظر فيها في إبان العقود الأخيرة من الدراسة الأدبية. وكان وضع النص الأدبي في سياقه كثيرًا ما يعني في الماضي تحويله إلى دليلٍ يشهد على شيء يُفتَرَض وجوده قبل ظهور النص، سواء كان ذلك الشيء فكرة أو حدثًا تاريخيًّا أو ظاهرة مثل ظاهرة الحراك الاجتماعي. وكانت لاستراتيجية القراءة المذكورة عواقبُ إشكاليةٌ متعددة، إذ كانت توحي، فيما يبدو، أولًا، بأن لكل نصٍّ سياقًا أوليًّا واحدًا يحدد دلالاته، وأننا نستطيع تثبيت معنى النص إذا حددنا له سياقه «الصحيح». وكانت توحي، فيما يبدو، ثانيًا، أن كل نص أدبي يمثِّل دائمًا استجابة أو مرآة تعكس صورة شيء سابق عليه وأهم منه في ذاته وقادر على شرحه وتوضيحه. وكان من شأن هذا إنكار دور المبادرة المنوط بالأدب في ضروب التحول الثقافي أو الكفاح الاجتماعي، كما كان يصادر إمكان تأثير الأدب في الجوانب الأخرى للتشكل الاجتماعي، إلى جانب تأثره بهذه الجوانب. ونرى ثالثًا أن استخدام النص الأدبي مثالًا لإيضاح السياق كان يدعو إلى تسطيح ذلك النص، ونفي تعدديته وتناقضاته في سبيل قراءة أحادية لعلاقته بخلفية سياقية واحدة.

(ص١٠٣)
أي إن أحد الفروق الهامة التي تميز التاريخيين الجدد عمن سبقوهم يكمن في إنكارهم حصر النظر إلى النصوص باعتبارها انعكاسًا لأحوال واقعها الاجتماعي مثلما يعكس سطح المرآة الأملس صور ما يقع عليه من أشياء، أي بصورة سلبية، فهم يرون أن النصوص الأدبية تمثِّل تفاعلًا إيجابيًّا مع الواقع وقد يؤدي ذلك إلى تغييره، وسبيلها إلى ذلك يتمثَّل في المعاني المتعددة والمتناقضة. وهكذا فإن ضجة فارغة، كما تقول هاورد، تصور، على مستوى معين، الاختلافات القائمة بين الطبقات وبين الجنسين، بل وتعيد تصويرها داخل المسرحية، بمعنى تقديمها في صور متتابعة، من خلال شخصيات مختلفة وأحداث متصلة، وهي الاختلافات التي لا يمكن إنكار وجودها داخل المجتمع، في سبيل تبرير مظاهر التفاوت في السلطة والتمتع بالامتيازات، وبذلك فهي ترمي إلى الحفاظ على الوضع الراهن الذي تسود فيه طبقة النبلاء «الأبوية». وقد طَبَعْتُ عبارة «على مستوى معين» بالبنط الأسود لأن ذلك لا يمثِّل إلا الجانب الظاهر من حدث المسرحية، فإلى جانبه يوجد مستوى آخر ترى هاورد أنه لا بد منه لتكامل الرؤية، وهو المستوى الذي تقوم فيه أساليب «المسرحة» بالدور الرئيسي، مثل «العروض المسرحية»، و«المسرحيات الداخلية»، والممثلين، و«مؤلفي المسرح» داخل النص، بدور معارض يتولى تقويض تلك الأيديولوجيا بالكشف عنها وفضحها. وتضرب الباحثة أمثلة كثيرة تشهد بصحة ما تذهب إليه، فَتَعَدُّدُ «وجهات النظر» من خلال المسرحة يتيح للمُشاهِد أن يرى الشيء ونقيضه، وأن يربط بين «الواقع» و«المتخيل» أو بين الحقيقي والوهمي، وبحيث يستمتع ببراعة الحيلة التي يتوسل بها شيكسبير في التوفيق بين التقاليد النمطية وبين أيديولوجيا الحب القائم على الاختيار الفردي كي تنتهي المسرحية بالزواج.
ويقول ف. ﻫ. ميرز (Mares) في مقدمته لطبعة نيوكيمبريدج للمسرحية إن ضجة فارغة تتفرد بين مسرحيات شيكسبير جميعًا في أن جماهير المسرح تحب بينديك وبياتريس (وهو يسميهما «الثنائي المرح») في حين أن نقاد الأدب والمؤرخين الثقافيين يجدون مصدرًا أكبر «للرزق» في قصة «الصغيرين» (كلوديو وهيرو) شبه المأسوية اللذين يضلِّلهما الأخوان الأميران. وهو يكاد يخصص مقدمته كلها لإعادة الاتزان إلى الكفَّتين بالاستناد إلى العروض المسرحية التي تعتبر صورة أصدق للنص، ما دام قد كُتِبَ للتقديم على المسرح. ولكنني أظن أن القارئ العربي سوف يرحب ترحيبًا أكبر بالاطلاع على شطحات النقاد، على نحو ما نجده في كتاب يطبِّق ما أسماه بعض النقاد المنهج «الأنثروبولوجي» في النقد المسرحي (والأدبي)، وسوف أحاول قدر الطاقة تلخيص حجته الرئيسية، حسبما فهمتُها، وعنوان الكتاب مسرح الحسد: وليم شيكسبير (أوكسفورد ١٩٩١م) ومؤلفه رينيه جيرارد (Gerard)، والحجة المذكورة تقوم على ما يسميه «استراتيجيات المحاكاة» في المسرحية، وهو يقيمها في إطار أوسع لتفسير السلوك البشري باعتباره قائمًا على طقوس معينة.
وتبسيطًا لمصطلحات جيرارد، أقول إنه يعني أن الإنسان يريد بوضوحٍ ما يريده غيره، وهكذا فإن «الحب القائم على ما تسمعه الأذن، والحب القائم على النظر بأعين الآخرين يعتبران صورتين من رغبة المحاكاة نفسها لدى الإنسان» (ص٨٢، وجيرارد يطبع بالخط المائل ما طبعته بالبنط الأسود). والأدلة النصية التي يوردها جيرارد هزيلة فليس بينديك — كما شرحت بالتفصيل — مماثلًا للمُحب الآخر عند شيكسبير، ديمتريوس، الذي يتحوَّل في آخر حلم ليلة صيف نتيجة تدخل الجان، وسبق لي أن أشرت إلى دراسة دوبرانسكي الذي يتوسَّع في تحليل علاقة بينديك السابقة ببياتريس. ولكن نظرية جيرارد تلقي ضوءًا أكبر على سلوك كلوديو، قائلًا إنه يعاني من نزعة استبطانية تشل يده، وتحرق ذاتها، وإن النقاد أساءوا فهمها فظنوها برودًا ونزعة انتهازية سطحية (ص٨٥). ويقول جيرارد إن كلوديو يعتمد اعتمادًا كاملًا على نموذج أو «وسيط» يبيِّن له ما يريده حقًّا. ويرفض بينديك أن يُطَمْئِنَهُ أي أن يؤكد له أن الفتاة التي يريدها جديرة بحبه، ولكن دون بيدرو يجيبه إلى ما يطلب، وترتفع «قيمة» الفتاة في نظر الناس حين يُظَنُّ أن الأمير يخطبها لنفسه، ولكن ذلك يجعل «الصغير» القلِق يتصور أن محاولته باءت بالفشل. ومن الغريب أنه حين يزول سوء التفاهم وتحظى خطبة كلوديو بالقبول، تنخفض «قيمة» الفتاة، وعندما يتحول «الرأي العام» ويصم الفتاة بالعار يسير كلوديو في «الركب» ويشارك الناس بل يفصح عن طبيعة هذا «الرأي العام» المتقلبة. وينتهي جيرارد إلى إصدار حكم عام يلخص حجته قائلًا:
إن ضجة فارغة مثال ناصع يوضح لنا سبل عمل المحاكاة التي تنتشر كالعدوى في مجتمع صغير … والموضوع الحقيقي لهذه المسرحية ما تتعرض له الحالة النفسية أو المزاج العام الجماعي من تغييرات، لا الفِعلة الخبيثة التي يُقْدِمُ عليها دون جون، وهي خُدعةٌ غليظةٌ فظَّةٌ (ص٨٨).
وربما أحس القارئ من قراءة هذه المقدمة ونظام تبويبها، وخصوصًا من عرضي لأهم ما كُتبَ عن المسرحية في العقدين الأخيرين، أنني عرضت «للمصادر» فقط في حدود ما أخذه أو استعاره شيكسبير منها وعَدَّله أو حَوَّره ليلائم هذه الكوميديا، دون أن أحاول الربط بينها وبين ما سبقها أو لحقها من أعمال الشاعر، مكتفيًا بما قاله كبار النقاد في هذا الصدد، ومركِّزًا على رؤيتي الخاصة للمسرحية، مهما يكن من تأثُّري بما قرأت من نقد. وأما من يريد التوسع في هذا أو ذاك مما لم أُفِض فيه، فيستطيع الرجوع إلى كتاب مهم في هذا الباب عنوانه كوميديا الحب عند شيكسبير، كتبه ألكسندر ليجات (Leggatt) عام ١٩٧٤م، وهو الذي يخصص فصلًا كاملًا للمسرحية، يحدد فيه موقعها بين كوميديات شيكسبير الأخرى، ويعتبرها محاولة تجريبية للحفاظ على «اتساع نطاق الحدث» (بمعنى وجود أكثر من «حبكة» واحدة) و«سلاسة» الأحداث، مثلما فعل في حلم ليلة صيف، ومنهجه يقوم على تحليل العناصر «المسرحية»، أي عناصر العرض المسرحي القائمة على مقومات درامية بدلًا من تناول «الثيمات» فيها، قائلًا إن المسرحية تقدم «تناغمًا بين عناصر متباينة»، إذ يجد في تقديم حبكة هيرو وكلوديو عناصر تقليدية بمعنى أنها «شكلية» محضة، وفي مقابلها العناصر «الطبيعية» في حبكة بياتريس وبينديك، ويخلص إلى القول بأن نجاح المسرحية يرجع إلى أنها تعالج «فكرة الحقيقة البشرية في قلب التقاليد».
وللتوسع في علاقة شيكسبير بمصادره يستطيع القارئ أن يرجع إلى كتاب الزيجات المبتورة في كوميديا شيكسبير لمؤلفته كارول توماس نيلي (Neeley)، عام ١٩٨٥م، وهو الذي سبق لي أن أشرت إليه، أو مقال لوري أوزبورن، الذي أشرت إليه من قبل أيضًا، وغيره، وأود أن أعرب هنا عما أدين به للباحثة كلير ماكيتشيرن، سواء ما قالته في دراستها الصادرة عام ١٩٨٨م بعنوان «شاهدة على والدها: دراسة مصدرية للنزعة النسوية عند شيكسبير» (مجلة شيكسبير الفصلية ٣٩) أو ما قالته في مقدمتها لطبعة آردن للمسرحية عام ٢٠٠٦م، فقد هدتني إلى مراجع لم أكن أتصور وجودها، ويستطيع القارئ أن يجدها في القائمة الببليوغرافية التي أضفتها في ذيل الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤