مقدمة الطبعة الإلكترونية

حينما تكون ابنًا لمؤرِّخ، فإنك تكون مهمومًا بحفظ تُراثه الذي أنفق فيه عمرًا كاملًا؛ فتحافظ على تاريخ أبيك، وتحافظ على تاريخ جيل من الباحثين تَجسَّد في شخصه، وتحافظ على ملامحِ فترةٍ مهمة من تاريخ الوطن؛ لهذا فقد أخذتُ على عاتقي مهمةَ حفظ تراث والدي الأستاذ الدكتور «رءوف عباس حامد»، رحمة الله عليه، وظَل الأمر يُراودني — خاصةً بعد أن نفِدَت جميع النُّسخ الورقية — حول إمكانية حفظ هذا التراث وإحيائه من جديد، وإعادة نشره وتوثيقه في ذاكرة التاريخ والبحث الأكاديمي والنضال الوطني، واهتديتُ إلى التعاقُد مع «مؤسسة هنداوي للثقافة والنشر» لنشر أعماله الكاملة ضمن مكتبتها الإلكترونية الثمينة للتراث العربي.

ولكن عندما طلبَت مني المؤسسةُ كتابةَ مقدمةٍ للأعمال الكاملة، انتابَتني الحيرة؛ فأنا لست مُتخصِّصًا في الدراسات التاريخية لكي أكون مؤهَّلًا لكتابة مقدمة الأعمال الكاملة لأحد أساتذتها، فضلًا عن كوني أكتب عن أبي الذي يُمثِّل لي القدوة والمَثل الأعلى؛ وهو ما يجعل كتابتي مُنحازة له بكل تأكيد. فقرَّرتُ أن أكتب عن المؤرِّخ بعيون الابن؛ أستحضِر من الذاكرة البعيدة بعضَ الوَمضات، التي ما زالت عالقةً في ذهني، حول أعماله، التي كنتُ شاهدًا على بعضها وحكى لي أبي بعضَها الآخَر.

لم يكن وعيي قد تشكَّل بعدُ عندما نشَر أبي كتابه الأول «الحركة العُمَّالية في مصر ١٨٩٩–١٩٥٢م»، الذي كان أطروحته للماجستير، ثم صار مَرجعًا رائدًا في موضوعه؛ إلا أنني لا أنسى ما قصَّه عليَّ أبي لاحقًا حول ما تعرَّض له أثناء إعداده هذه الدراسة؛ فكان قد تَواصَل مع بعض قيادات الحركة العُمَّالية خلال العقود الماضية لتوثيق رواياتهم التي تُعَد مصدرًا مهمًّا حول نشاط هذه الحركة، لكن يبدو أن هذا التواصُل لم يَرُق للأجهزة الأمنية بسبب خضوع الكثير من هذه القيادات للمراقبة الأمنية، وتعرُّضهم للاعتقال في السابق بسبب نشاطهم؛ فاستدعَت المباحثُ أبي للتحقيق معه، وهدَّده قسم مكافحة الشيوعية بالاعتقال، لكنَّ تدخُّل أستاذه المؤرِّخ الكبير «أحمد عزت عبد الكريم» حالَ دونَ ذلك.

لا يَغيب عن ذاكرتي البصرية منظرُ الغرفة الممتلئة بمئات النُّسخ من كتاب «يوميات هيروشيما»؛ هذا الكتاب الذي عزَم على ترجمته عندما أقام في اليابان — بعد حصوله على درجة الدكتوراه — في مهمةٍ عِلمية مدعوًّا من معهد اقتصاديات البلاد النامية في طوكيو، وأثناء إقامته هناك بدأ اهتمامُه بتاريخ اليابان، فكان من ثمرة هذا الاهتمام تأليفُه عِدةَ أعمالٍ تتناول التاريخ الحديث لهذا البلد. كما أن قيامَه بزيارة مدينتَي هيروشيما وناجازاكي — المدينتَين اللتَين تعرَّضتا للقنبلة الذرية أثناء الحرب العالمية الثانية — وقراءاتِه بالإنجليزية عما تعرَّضتا له من جرَّاء القصف النووي، فضلًا عن ملاحظته افتقارَ المكتبة العربية إلى كتاباتٍ تُلقِي الضوء على هذه الجريمة؛ كانت سببًا رئيسًا في ترجمته مُذكِّرات الطبيب الياباني «متشهيكو هاتشيا» التي وثَّق فيها شهادتَه بصفته طبيبًا عَمِل على علاج المصابين في حادث القصف النووي لمدينة هيروشيما. وقد ضمَّ إلى الترجمة شهاداتِ بعضِ مَن عاصروا هذا الحادثَ الأليم، واستهلَّها بمقدمةٍ طويلة لخَّص فيها للقارئ العربي تاريخَ اليابان الحديث وصعود الفاشية، التي أدَّت باليابان إلى هذه النهاية الكارثية (وكان من عاداته المنهجية في الترجمة ألا يُترجِم سوى الأعمال التي يراها مهمة للقارئ وتفتقِدها المكتبةُ العربية، مُستهِلًّا الترجمةَ بمقدمةٍ تُوضِّح السياق التاريخي للعمل المترجَم أو تَنقُده). وبعد أن فرَغ من إعداد الترجمة لتَدخُل في طَور الطباعة والنشر، طبَع أبي الكتابَ على نفقته الخاصة عام ١٩٧٧م، وتَعاقَد مع مؤسسة «الأهرام» لتوزيعه، لكنه صُدِم بتعليماتٍ شفهية من المباحث العامة للناشرين بعدم طرحِ الكتاب للبيع في مصر، فما كان منه إلا أن أجرى اتفاقًا مع مكتبة «الخانجي» لتوزيع الكتاب في الدول العربية التي كانت تُسمَّى آنذاك جبهةَ الرفض، وهي «العراق، وسوريا، وليبيا، والجزائر»، وكانت القاعدةُ المعمول بها تَقضي بإرسال عِدَّة نُسخ إلى البلد المَعني للحصول على موافقة الرقابة، لكن الرد جاء واحدًا من البلاد الأربعة، وهو عدم السماح بدخول الكتاب! والسبب غير المُعلَن هو رغبةُ مصر وهذه الدول الشقيقة عدمَ إزعاج الولايات المتحدة! والطريفُ في الأمر أن الكتاب كان مُترجَمًا إلى الإنجليزية ومنشورًا في الولايات المتحدة قبل هذا التاريخ. ما زلتُ أتذكَّر هذه القِصة كلَّما ذهبتُ إلى بيت جَدي، وأتذكَّر معها منظرَ النُّسخ المكدَّسة في تلك الغرفة، التي كان ارتفاعُها يزيد عن طولي آنذاك.

تتداعى إلى ذاكرتي أيضًا تفاصيلُ أول عُطلة قضيتُها في أوروبا برفقة والدَي؛ فقد ادَّخر أبي لهذه العُطلة مبلغًا من المال أثناء إعارته بجامعة قطر، سمَح لنا بتأجير استوديو صغير قُربَ وسط لندن لعدَّة أسابيع، لكنني لم أتمتَّع بصحبة أبي في المتنزهات، التي كانت تُرافِقني فيها والدتي طوال هذه الأسابيع، إلا في عطلات نهاية الأسبوع؛ فقد كان يَقضي كل أيام العمل في دار الوثائق البريطانية (Public Record Office) يطَّلِع على الوثائق التي أتاحتها الحكومة البريطانية للباحثين طِبقًا لقانونها بعدَ عقودٍ من اعتبارها سِرية، ويَلتقط منها نُسخًا مصوَّرة لِما يراه مفيدًا لأبحاثه. لم تكن تلك الزيارة هي الوحيدة لأبي؛ فقد ظلَّ يتردَّد لاحقًا على دُور الوثائق في بريطانيا وأمريكا، وكان أغلبها على نفقته الخاصة، يَنهل منها ما يُلقي الضوء على تاريخ منطقتنا العربية، ويستعين بها في كتاباته، وقد دفَعه ذلك إلى التنويه في أحيانٍ كثيرة إلى التقصير الشديد الذي يَلمسه في طريقة التعامل مع الوثائق في مصر والتفريط فيها، إلى الدرجة التي تجعل بعض كبار المسئولين يأخذون حمولةَ شاحناتٍ من الوثائق إلى منازلهم عند ترْك مناصبهم باعتبارها «أوراقًا شخصية»، فنُفرِّط بذلك في أحد أهم مصادر دراسة تاريخنا، ولا يكون أمام الباحثين سوى وثائقِ الدول الأخرى التي شاركَت في صُنع الأحداث (بانحيازاتها المتوقَّعة)، وشهاداتٍ مُتفرقة لمن شارَك في الأحداث أو شَهِدها من المصريين.

ظل الدكتور «رءوف عباس» طوال حياته وفِيًّا للعمل الأكاديمي، ومُناضِلًا من أجل استقلال الجامعات؛ فبالرغم من مَيله إلى الفِكر اليساري فإنه ظلَّ حريصًا على عدم الانضواء تحت أيٍّ من الأحزاب أو التنظيمات اليسارية، بل كثيرًا ما كتَب عنها موجِّهًا النقد لها ولرموزها، كما كان ناشطًا في جماعة «٩ مارس» التي أسَّسها مجموعةٌ من الأكاديميين المصريين للدفاع عن استقلال الجامعات؛ فلا يُمحى من ذاكرتي إصرارُه الشديد على إتمام تحرير كتاب «الجامعة المصرية والمجتمع: مائة عام من النضال الأكاديمي ١٩٠٨–٢٠٠٨م»، الذي لم يَمنعه مرضُه الأخير واشتدادُ الألم عليه من إتمامه. وقد جاءت سِيرته الذاتية «مشيناها خُطى» التي نشَرها عام ٢٠٠٤م توثيقًا لهذا النضالِ وتنديدِه بالفساد في الجامعات المصرية. وعلى الرغم من الجرأة التي تَناوَل بها الأحداث مع ذِكر المشاركين فيها بأسمائهم، فإن ما ذكَره كان غَيضًا من فَيض؛ فقد آثر ألا يَذكر سوى الأحداث التي يَملك عليها دليلًا ملموسًا إذا ما طعَن أحدٌ في روايته، وكان هذا ما حدَث بالفعل؛ فقد لجأ بعضُ المذكورين في الكتاب إلى القضاء يَتهمونه بالإساءة، فجاءت جميعُ أحكام القضاء النهائية في صالحه.

بقي أن أتحدَّث عن أسلوب المؤرِّخ الكبير في العمل داخل البيت؛ لقد كان الدكتور «رءوف عباس» يكتب كل أعماله ويُراجِعها ويُعدِّلها بخط اليد، وبعد استكماله العملَ يبدأ في كتابته على الآلة الكاتبة الميكانيكية بمساعَدة والدتي قبل إرساله إلى الناشر، ليبدأ بعدَها في مراجعةِ المُسوَّدات التي تأتيه من المطبعة وتصحيحِها يدويًّا. كان أبي يمتلك آلتَين للكتابة؛ إحداهما عربية، والأخرى إنجليزية، وما زال صدى صوتِهما يتردَّد في أُذني، وما زالت صورة مكتبته الضخمة التي ضاقت بها غرفةٌ كاملة فامتدَّت خارجها، تتراءى أمام عيني، ولا تزالان تُشكِّلان معًا جزءًا من ذكريات طفولتي في منزلنا. وعندما حلَّ الكمبيوتر محلَّ الآلة الكاتبة استمرَّ يخُط أعماله كاملةً على الورق قبل كتابتها عليه، ولم يَقُم قطُّ بالتأليف مباشَرة على الكمبيوتر.

أتمنى لك عزيزي القارئ أن تجد في هذا الكتاب من الحقائق والآراء والتحليلات والأفكار ما يُرضي شغَفَك المعرفي، وأدعوك إلى مُطالَعة باقي الأعمال الكاملة للدكتور «رءوف عباس» التي تنشرها «مؤسسة هنداوي» إلكترونيًّا.

حاتم رءوف عباس
القاهرة، في ٢٢ يوليو ٢٠٢٢م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤