تقديم

كانت مأساة هيروشيما إيذانًا ببداية عصرٍ جديد تلعب فيه الأسلحة الذرية دورًا هامًّا في حسم الصراع بين القوى الكبرى، وبداية لتسابُق من نوعٍ جديد يهدف إلى امتلاك أسرار هذا السلاح الرهيب وتطويره لتوفير الردع النووي من جانب كلا المعسكرَين اللذين برزا وجهًا لوجه في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهما: المعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي من جهة، والمعسكر الإمبريالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية من جهةٍ أخرى.

وهذا الكتاب الذي يسعدني تقديمه إلى قُراء العربية يمثِّل وثيقةً تاريخية إنسانية تصوِّر أبعاد المأساة والآثار التي ترتَّبَت عليها، وهي عبارة عن يومياتٍ حرَص على تدوينها شاهدُ عيانٍ عاصَر الحادث منذ بدايته صباح السادس من أغسطس ١٩٤٥م من موقع المسئولية كمديرٍ لمستشفى مصلحة المواصلات بالمدينة حتى آخر سبتمبر من نفس العام حين تسلمَت إدارة المستشفى لجنةٌ طبية أمريكية.

وصاحِب اليوميات هو الدكتور متشهيكو هاتشيا، وقد نُشرَت اليوميات أول ما نُشرَت باللغة اليابانية بمجلةٍ طبية كانت تُصدرها الإدارة الطبية بوزارة المواصلات اليابانية تحمل اسم «تي شن إيجا كو» ثم جُمعَت في كتابٍ نُشِر باليابانية وطُبِع عدَّة طبعات، كما قام الدكتور وارنر ولز عضو اللجنة الطبية الأمريكية التي تسلمَت إدارة المستشفى من الأطباء اليابانيين والأستاذ بجامعة نورث كارولينا الذي كان يُجيد اليابانية بترجمة الكتاب إلى الإنجليزية، وكان قد نجح في كسْب ثقة المؤلف وصداقته فحصل على موافَقته على الترجمة وأطلعه على كل جزء منها حتى جاءت صورةً مطابِقة لما نشره المؤلف باللغة اليابانية.

وقد طُبِع الكتاب بالإنجليزية بعنوان «يوميات هيروشيما» في عام ١٩٥٥م على نفقة جامعة نورث كارولينا، ثم صدرَت منه بعد ذلك خمس طبعات باللغة ذاتها، وهذه الترجمة التي أقدِّمها إلى قُراء العربية تعتمد على الترجمة الإنجليزية. وقد تُرجِم الكتاب إلى ١٧ لغة أخرى قبل أن نقوم بتعريبه.

وترجع صِلتي بالقضية إلى عام ١٩٧٢م حين دُعيتُ إلى اليابان كزميلٍ زائر بمعهد اقتصاديات الدول النامية بطوكيو، وجامعة طوكيو للدراسات الأجنبية لمدة عامٍ ونصف العام، فذهبتُ إلى هناك بنفسٍ مثقلة بهموم هزيمة ١٩٦٧م التي مُنينا بها في مواجهة مع ربيبة الإمبريالية العالمية؛ إسرائيل. وكان من الطبيعي أن أيمِّم وجهي شطر هيروشيما وناجازاكي لأشهد آثار بصمات الإمبريالية هناك. وعلِم برغبتي بعض الرفاق من أساتذة دراسات الشرق الأوسط بجامعة هيروشيما فوجهوا الدعوة إليَّ لزيارة المدينة. وهناك لم أشهد من آثار ذلك الحادث التاريخي الجلل سوى «متحف السلام» الذي يقع بالقرب من محطة سكة حديد هيروشيما وعلى غير بُعدٍ من نهر أوتا، كما شهدتُ أطلال المبنى الذي أُبقي عليه من مباني المدينة القديمة وهو مبنى متحف العلوم والصناعة الذي يطل على النهر ويحمل بصمات الدمار الذي حاق بالمدينة.

وهزَّت وجداني الآثار التي رأيتُها بمتحف السلام، ووقع في يدي كتاب «يوميات هيروشيما» فربطتُ — بحس دارس التاريخ — بين شهادة المؤلف وآثار المأساة الماثلة أمامي، وعقدتُ العزم على نقل هذه الوثيقة الإنسانية التاريخية إلى قُراء العربية، فزُرتُ هيروشيما ثلاث مرات خلال وجودي باليابان، طوفتُ خلالها بأرجاء المدينة لأستطلع معالم المسرح الذي دارت عليه حوادث الكتاب. وإن كانت هيروشيما التي رأيتُها عندئذٍ مدينةً جديدة بُنيَت على أنقاض ما خلَّفَته القنبلة الذرية من دمار، غير أنها أعانَتني على تصوُّر جو الحوادث، بقدر ما أعطَتني زيارة مركز مرضى الإشعاع الذري الذي يضم أنصاف الأحياء أو قل — إن شئتَ — أنصاف الموتى من ضحايا المأساة انطباعًا عن الأثر الذي تركه الحادث في الناس.

أما عن الكتاب الذي أضعه بين يدَي القُراء العرب فقد دوَّنه مؤلفه الدكتور هاتشيا على شكل يوميات كان يكتبها يومًا بيوم أحيانًا، أو يكتب حوادث بضعة أيام في وقتٍ واحد أحيانًا أخرى إذا حالت مسئولياته الجِسام كمدير لمستشفى المواصلات دون التماس فضلٍ من الوقت للكتابة. ويؤكد المؤلف أنه كان أمينًا في نقل الروايات التي سمعها فلم يزد عليها حرفًا، وفي التعبير عما شاهده دون مبالغة. واهتم بصفةٍ خاصة برصد المشكلات الطبية التي واجهَته والعاملين معه من الأطباء والممرضات بعد الحادث، فأفرد سطورًا عديدة من يومياته لأعراض مرض الإشعاع الذري التي كانت مجهولة له ولمساعديه في ذلك الحين، فهو يقدِّم من هذه الزاوية مادةً هامة للمهتمين بهذا الموضوع. ولكنه يهتم من ناحيةٍ أخرى بالتعبير بصدقٍ بالغ عن التمزق النفسي الذي عاناه الشعب الياباني بعد الهزيمة، ويُلقي أضواء من النقد المرير على نظام الحكم الفاشي الذي ورَّط اليابان في الحرب، ويعبِّر عن أمل الشعب الياباني — في ذلك الوقت — في مستقبَلٍ أفضل، وهو من هذه الزاوية يقدِّم مادةً بالغة القيمة للمؤرخ والسياسي على حدٍّ سواء.

ولم أشأ أن أقدِّم نص الكتاب دون أن أمهِّد ذهن القارئ العربي للموضوع فعقدتُ فصلًا بعنوان «الطريق إلى هيروشيما» بيَّنتُ فيه الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزَت النظام الفاشي في اليابان، والأطماع الإمبريالية التي ورطَت اليابان في الحرب العالمية الثانية، والأثار التي ترتَّبَت على الهزيمة، ومبررات استخدام الولايات المتحدة الأمريكية للقنبلة الذرية في الحرب ضد اليابان بالذات؛ رغم انهيار المقاومة العسكرية اليابانية فيما عُرِف بمعركة الباسيفيكي، حتى تتضح معالم الصورة وتجلو أمام القارئ جوانب هذه المأساة التاريخية.

ولما كان الكتاب قد حفل بالمصطلحات التي تتصل بالعادات والتقاليد اليابانية، فقد حرصتُ على شرحها بهوامش الكتاب في مواضعها في حدود ما توفَّر لي من معرفة بالتراث الياباني من خلال الدراسة والمعايشة.

وأضفتُ إلى النص الأصلي للكتاب ملاحق ضمَّنتُها شهادات بعض شهود العيان الذين عاصروا الحادث ترجمتُها عن كتاب بالإنجليزية أصدرَته في عام ١٩٧٢م لجنة تقصِّي الحقائق في هيروشيما ونجازاكي المنبثقة عن مجلس السلام الياباني واستكمالًا للفائدة.

وقد حفل الكتاب بالمصطلحات العلمية والطبية، واهتم مؤلفه بمعالجة أمور تتعلق بالدورة الدموية مما لا يتصل بمجال دراسة المؤرخ، ولكني وجدتُ من الزميل الدكتور عز الدين حرب أستاذ الكيمياء بكلية التربية بقطر وكلية العلوم بجامعة الأزهر كل عون، كما استفدتُ من علم صديقي الدكتور فتحي سعود أستاذ علم الحيوان بكلية التربية بقطر وكلية العلوم بجامعة عين شمس الشيء الكثير، فكم دارت بيننا أحاديث طويلة حول الدورة الدموية وتركيب الدم ودور الأعضاء المكونة للدم في جسم الإنسان، وغيرها من النقاط التي أجاب عن أسئلتي حولها بصبرٍ جميل وعلمٍ غزير، فأعانني ذلك على نقل ما كتبه المؤلف بأمانة ودقة، فإلى هذين الزميلَين الكريمَين أتوجه بالشكر والتقدير عرفانًا بالفضل.

ولا يسعني إلا أن أتقدم بالشكر والامتنان لجامعة هيروشيما التي استضافتني مرتَين خلال رحلاتي الاستطلاعية التي قمتُ بها لزيارة الأماكن التي أوردها الدكتور هاتشيا في هذا الكتاب، وأخص بالشكر قسم التاريخ بتلك الجامعة وأساتذة دراسات الشرق الأوسط الذين لم يدخروا جهدًا في تيسير مهمتي والإجابة عن الأسئلة التي طرحتُها عليهم برحابة صدر. كما أتوجه بالشكر إلى معهد اقتصاديات الدول النامية بطوكيو الذي يسَّر لي سبيل الزيارة الثالثة للمدينة.

وإذا كنتُ قد وُفِّقتُ في إخراج هذا الكتاب في ثوبٍ قشيب، فمردُّ ذلك إلى جميع من تفضلوا بتقديم العون لي، أما إذا كانت ثمة مآخذ أو هنات فلا يؤخَذ بجريرتها سواي.

الدوحة في ٣٠ مايو ١٩٧٧م
د. رءوف عباس حامد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤