الطريق إلى هيروشيما

بدأ تحوُّل اليابان إلى دولةٍ حديثة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وما كاد القرن ينصرم حتى برزَت اليابان كدولةٍ صناعية امتدَّت أطماعها إلى البلدان الآسيوية القريبة منها، فاجتاحت كوريا واستعمرَتها وحققَت نصرًا عسكريًّا على روسيا القيصرية في عام ١٩٠٤م كان له دويٌّ كبير، ثم تطلعَت إلى الصين فبدأَت تدقُّ أبوابها منذ نهاية العقد الأول من القرن العشرين، وامتدَّ نفوذها إلى منشوريا ومنغوليا. غير أن اليابانيين وُوجِهوا بمقاومةٍ عنيفة من جانب حكومة الصين الوطنية، واضطُر قادة القوات اليابانية هناك إلى التصرف بصورةٍ إيجابية — على مسئوليتهم الخاصة — في مواجهة المقاومة الصينية، ونجحوا في تثبيت أقدام بلادهم في منشوريا باحتلالها في عام ١٩٣١م، فضربوا بذلك المثَل أمام الشعب الياباني الذي رأى في هؤلاء العسكريين أمله المنشود في إصلاح ما أفسدَته حكومات الأحزاب التي تعاقبَت على الحكم منذ نهاية الحرب العالمية الأولى في ظل الدستور الليبرالي القائم.

قيام الفاشية في اليابان

فقد تأثر الاقتصاد الياباني تأثُّرًا بالغًا بالكساد العالمي الكبير، في وقت كان السكان يتزايدون فيه بمعدَّل مليون نسمة كل عام، وعجزَت الحكومة عن توفير المواد التموينية الضرورية للسكان وإيجاد حل لمشكلة البطالة التي تفاقمت منذ عام ١٩٣٠م فكان ينضم ما يُقدَّر بأربعمائة ألف نسمة سنويًّا إلى جيش العمال العاطلين، أما الفلاحون فكانوا يقعون في ربقة الديون التي أثقلَت كواهلهم، وأصبح ريع الأرض لا يكفي لسد حاجة عائلاتهم وسداد ديونهم، وأفلس صغار التجار، وأخذ رأس المال يتركز في أيدي عائلاتٍ محدودة تحكمَت في اقتصاديات البلاد، واحتكرَت القطاع المالي والصناعي، ووقفَت وراء حكومات الأحزاب التي تبادلَت مقاعد السلطة، واختلفَت أسماؤها ولكنها اتفقَت في تعبيرها عن مصالح البرجوازية اليابانية وأصحاب المصالح الزراعية الواسعة.

وعجزَت الحكومة عن إيجاد حل لمشكلة الكساد الاقتصادي، فبدأَت صادرات اليابان في التناقص منذ عام ١٩٢٩م مما زاد من حدة المشاكل الداخلية والخارجية التي واجهَت السلطة، وارتفعَت الأصوات بانتقاد الفساد الذي استشرى في عهد الحكومات الحزينة منذ العشرينيات، ونعَت على هذه الحكومات تراخيها في مواجهة المقاومة الصينية للوجود الياباني في منشوريا ومنغوليا. وأصبح المسرح السياسي مهيَّأً لأولئك الذين كانوا يشككون في صلاحية نظام الحكم الحزبي القائم على أُسس الليبرالية الغربية، والقائلين بحاجة اليابان إلى قيادةٍ وطنية تُعيد الأمور إلى نصابها.

وازدادت خطورة المعارضة في عام ١٩٣١م، ولكن الشعارات التي رفعَتها لم تكن غريبة على الساحة السياسية في اليابان، فجذورها تمتد إلى عصر مايجي (١٨٦٧–١٩١٢م) الذي وُضعَت خلاله أُسس اليابان الحديثة. وتركَّزَت هذه الشعارات على الولاء المطلَق للإمبراطور، والاعتقاد بأن الشعب الياباني يتميز على سائر شعوب آسيا، فاليابان تُعَد — في نظرهم — أعظم بلاد العالم قاطبة؛ لأن الآلهة صنعَتها قبل صُنعها لبقية بلدان العالم، فهي بمثابة الابن البكر للآلهة، وهي أرض لها قداستها واحترامها، ومن ثَم وجب على أبنائها أن يعملوا على جعلها أعظم بلاد الدنيا، ولما كان أباطرة اليابان ينحدرون من نسل الآلهة فالولاء لهم واجبٌ مقدس يفرض على كل ياباني التضحية بالنفس من أجل الوطن والإمبراطور.

وقامت العديد من الجمعيات بالترويج لهذه الأفكار المستمدَّة من التراث الياباني التقليدي، ولكن عددها حتى العشرينيات كان محدودًا، وفي أواخر العشرينيات انتشرَت في جميع أرجاء البلاد، واتَّسع نشاطها في الريف — بصفةٍ خاصة — حيث تلقى مثل هذه الأفكار رواجًا بين جماهير الفلاحين، وقُدِّر عددها عند نهاية العشرينيات بما يربو على ستمائة جمعية، غير أنها كانت محدودة الأثر في المجال السياسي، فلم تؤثِّر بشكلٍ فعال على صُنع القرار والمؤسسات الحكومية والدستورية في البلاد، حتى كان حادث منشوريا في عام ١٩٣١م الذي كانت تقف وراءه إحدى هذه الجمعيات المتطرفة، فرجحَت كفة هذه الاتجاهات الشوفينية على ما عداها.

وحين اتسعَت قاعدة أصحاب هذه الاتجاهات سلَّموا زمام قيادتهم إلى العسكريين الذين كانوا يضيقون ذرعًا بالديمقراطية الليبرالية، ويميلون إلى سياسة التوسع العسكري. وكان ضباط الجيش والبحرية — وخاصة صغارهم — يتعاطفون مع هذه الجمعيات، وانضم بعضهم إلى عضويتها، واعتنقوا مبادئها، ورأوا في نظام الحكم الليبرالي — الذي عاشته اليابان في أعقاب الحرب العالمية الأولى وتركزَت فيه السلطة في يد البرجوازية وأصحاب المصالح الزراعية الواسعة — السبيلَ إلى انهيار البلاد وضياع هيبتها بين شعوب آسيا، وأيدَت جماهير الفلاحين المسحوقة هذا الاتجاه. ولمَّا كان الفلاحون عصب الجيش، وينحدر صغار الضباط من أصولٍ ريفية، فقد بدأ ضباط الجيش منذ عام ١٩٣١م يلعبون دور قادة الجماهير الريفية الذين يدافعون عن مصالح الفلاحين في مواجهة البرجوازية وخاصة الرأسمالية الكبيرة. فاعتُبِر العسكريون «الطليعة الوطنية الحقيقية» التي تستطيع تصحيح المسيرة السياسية للبلاد باسم الإمبراطور سليل الآلهة، وتحقيق سيادة الشعب الياباني على شعوب آسيا، وبناء كيان «اليابان العظمى».

ويتمثل هذا الاتجاه الوطني المتطرف بوضوحٍ في شخصية الجنرال آراكي ساداءو الذي انحدر من أصل متواضع، واشتغل قبل انخراطه في الجيش عاملًا بأحد معامل صلصة الصويا، وترقى في الجيش حتى وصل إلى مراتب الضباط، وأصبح وزيرًا للحربية فيما بين ١٩٣١–١٩٣٤م ولم يكن مظهره الرقيق المتواضع ينبئ عن أفكاره العسكرية الصارمة وإيمانه الشديد بالتضحية بكل شيء من أجل إعلاء شأن الإمبراطور، والتفاني في خدمة الأسرة الإمبراطورية سليلة الآلهة. وبذلك أصبح آراكي المتحدث الرسمي بلسان هذا الاتجاه السياسي الجديد في اليابان، الذي مهَّد الطريق لقيام الحكم الفاشي، وجلب للبلاد عداء شعوب آسيا والمصالح الإمبريالية الطامعة في تلك البلاد بانتهاجه سياسة التوسع على حساب شعوب آسيا. ووضع آراكي الإطار السياسي لهذا الاتجاه فأرجَعه إلى العقيدة اليابانية التقليدية التي تدعو إلى سلوك طريق الإمبراطور (Kado)، والالتزام الوطني (Kokutai) الذي يعني عندهم وحدة جميع القوى الشعبية على التراب الوطني وتحت سماء بلاد الآلهة على طريق الإمبراطور، تلك الوحدة التي تمتد — في رأيهم — منذ بدء الخليقة حتى الأبدية. وقد فسر ذلك على أن اليابان تلتزم برسالةٍ عالمية هدفها إرساء دعائم السلام في العالم، وهذا الالتزام يجعل اليابان مرتبطة بمسئوليةٍ خاصة تجاه شعوب شرق آسيا، فعليها أن تنقذ هذه الشعوب من الحكومات الضعيفة التي تعجز عن تحقيق الرفاهية لشعوبها، والحكام الذين أتاحوا للغرب فرصة استغلال شعوبهم، ولا يتم ذلك إلا بمد سلطة إمبراطور اليابان على هذه الشعوب من أجل خيرها والنهوض بها.
وتولَّت مهمة الترويج لهذه الأيديولوجية منظماتٌ خاصة مثل «جمعية ترقية الشعور الوطني Yuzonsha»، وبعض المفكرين الذين بشَّروا بها، مثل كيتا آكي وأوكاوا شومي اللذين تركزَت كتاباتهما حول ضرورة قيام حكمٍ مطلق بزعامة الإمبراطور يعمل على تدعيم القوة العسكرية للبلاد، وطالب بعض المفكرين الآخرين بعودة البلاد إلى الاقتصاد الزراعي ونبْذ الصناعة. وبالإضافة إلى هؤلاء كان يقف إلى يمين هذا الاتجاه الأرستقراطية اليابانية ذات الأصول الإقطاعية القديمة، وكبار ضُباط الجيش، وأقطاب البيروقراطية، وأصحاب رءوس الأموال الذين فضلوا التمسك بدستور عصر مايجي؛ لأنه يحقق — في رأيهم — المُضي على طريق الإمبراطور، ويركز السلطة في يد طبقةٍ معينة تتوفر لها النيابة الطبيعية عن الأمة اليابانية وتتمتع بمركز رب الأسرة في البيت الياباني، وبقاء السلطة في يدهم يضمن استمرار التقاليد اليابانية العريقة ويحقق الاستقرار للبلاد، ويجنبها نشوب القلاقل والثورات. ولكن مقاليد الأمور انتقلَت إلى الفريق الأول من صغار الضباط أبناء الطبقة المتوسطة الصغيرة أصحاب الاتجاهات الفاشية الذين أخذوا ينشرون مبادئهم من خلال المناهج التعليمية بهدف تنشئة جيلٍ جديد يؤمن بهذه المبادئ ويحرص على تطبيقها.

وقد بدأ الفاشيون زحفهم التدريجي إلى السلطة في مطلع عام ١٩٣٢م عن طريق العنف؛ فاغتالوا وزير المالية في آخر حكومةٍ حزبية، وبذلك سقطَت الحكومة، وسلَّم الإمبراطور زمام الحكم إلى الأميرال سايتو ماتوكو الذي كان ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية ويتمتع باحترام الجيش بقدر ما يتمتع بثقة كبار رجال البلاط وكبار أصحاب رءوس الأموال، فشكَّل حكومة ائتلافٍ وطني حاولَت أن تشق لنفسها طريقًا وسطًا بين دعاة الاعتدال وأنصار التطرف، وسار خليفته الأميرال أوكادا كيسوكي على نفس الدرب، ولكن الحكومات التي أعقبَته كانت أكثر تمثيلًا للاتجاه الفاشي فوزعَت معظم الحقائب الوزارية فيها على العسكريين من أصحاب هذا الاتجاه.

ولكن الانتخابات العامة التي أُجريَت في فبراير ١٩٣٦م جاءت مخيبة لآمال هؤلاء، فأسفرَت عن فوز الليبراليين المعتدِلين، وبعد أربعة أيام من إعلان نتيجة الانتخابات قام صغار الضباط من أنصار الفاشية بانقلاب في ٢٦ فبراير في محاولةٍ فاشلة للاستيلاء على السلطة، اغتيل خلالها بعض أقطاب النظام، ورغم فشل الانقلاب رُوعِي في تشكيل الحكومة الجديدة (٩ مارس) جانب الجيش الذي ازداد ثقله في الحياة السياسية، فاستُشير وزير الحربية في اختيار الوزراء من بين الشخصيات العسكرية والمدنية المعروفة بالاعتدال، وغيَّر حزب الأحرار موقفه من العسكريين فأخذ يظهر التأييد لهم، كما حدث تطوُّر هام جديد تمثَّل في تحمُّس البيوت الرأسمالية الكبيرة وعلى رأسها بيت متسوي للاتجاهات الفاشية المتطرفة، وخاصة الدعوة التي أطلقها أصحاب هذه الاتجاهات للتوسع على القارة الآسيوية، لِما قد تسفر عنه هذه السياسة من خدمة مصالح الرأسمالية اليابانية. ونتج عن ذلك اتجاه الحكومة إلى تركيز السلطة في يدها، وتجاهلَت المجلس النيابي (الدايت) الذي تقلص نفوذه وخفت صوته، فوافق على الاعتمادات الضخمة التي خصصَتها الحكومة في الميزانية للإنفاق على الأغراض العسكرية وخاصة البحرية. وازداد تدخُّل الجيش في الحكم عندما سقطَت الحكومة في يناير ١٩٣٧م، فرفض الموافقة على شخص وزير الحربية الذي عُيِّن في الوزارة الجديدة، فاستبدل به الأمير كونوي فومي مادو الذي يمتُّ بصِلة القرابة إلى البيت الإمبراطوري، فارتضى به الجيش باعتباره يرمز إلى سلطة البيت الإمبراطوري الذي يقود الأمة إلى الوحدة الوطنية.

واستمر الفاشيون في تهيئة المسرح السياسي لتقبُّل حكمهم وتحقيق أملهم المنشود في إقامة دكتاتوريةٍ عسكرية، فمارسوا الإرهاب ضد خصومهم السياسيين، وساعدَت الاغتيالات السياسية على تلاشي المعارَضة التي كانت تقِف حجَر عثرة في طريقهم إلى السلطة، ودعمَت الانتصارات العسكرية التي حققها الجيش في الصين موقفهم، وكسبَت لهم تأييدًا جماهيريًّا واسعًا، واضطُرَّت الأحزاب السياسية أن توقف نشاطها تحت ضغط العسكريين في عام ١٩٤٠م.

ولكن الفاشية اليابانية كانت تختلف في البنية عن نظيرتها في أوروبا، فعلى الرغم من نجاحها في تصفية الأحزاب السياسة الليبرالية عجزَت عن إقامة تنظيمٍ سياسي يرث تلك الأحزاب، كما افتقدَت الشخصية القوية التي تلعب دور الدكتاتور، لأن انفراد شخصٍ واحد بالسلطة يتنافى مع الأيديولوجية التي قام عليها النظام والتي تعتبِر الحكم حقًّا خالصًا للإمبراطور، وتعتبِر الحكومة أداة الإمبراطور في إدارة دفة البلاد. وعلى حين كانت المناصب الوزارية قسمةً بين البيروقراطية والجيش، ظلَّت الرأسمالية الاحتكارية تسيطر على اقتصاديات البلاد في صورة مجموعاتٍ احتكارية تعمل لحسابها الخاص دون تنسيق، وكانت أبرز هذه المجموعات متسوي وزايبا تسو، غير أنها اتفقَت في الدفاع عن مصالحها ضد اتجاهات تدخُّل الدولة في الاقتصاد، ولم تحاول الحكومات المتعاقبة التي شكَّلها البيروقراطيون والعسكريون فيما بين عامَي ١٩٣٧–١٩٤١م أن تفرض سياسة التدخل الاقتصادي أو الأخذ بالتخطيط الاقتصادي، رغم تمتُّع تلك الحكومات بسلطةٍ مطلقة، فأدارت أمور البلاد من خلال المراسيم الإمبراطورية والقرارات الوزارية التي كانت تُصدرها، وحولَت المجلس النيابي إلى هيئةٍ استشارية منزوعة السلطات، وتوسعَت في تعيين أعضائه والخروج على قاعدة الانتخاب. وكانت رئاسة الحكومة خلال تلك الفترة في يد البيروقراطية، وإن لعب العسكريون دَورًا بارزًا في تسمية رئيس الحكومة.

واختل هذا التوزان الدقيق بين البيروقراطية ورجال الجيش حين تورطَت اليابان في الحرب العالمية الثانية، فاحتل العسكريون مكان الصدارة في الحكم، وشكَّل الجنرال طوجو هيديكي الوزارة في أكتوبر ١٩٤١م، واستمر في السلطة حتى أكتوبر ١٩٤٤م وجمع في يده ثلاث حقائب وزارية هي: الحربية، والداخلية، والإنتاج الحربي، بالإضافة إلى رئاسته للوزارة والأركان العامة. وحتَّمَت ظروف الحرب فرْض القيود على النشاط الاقتصادي، وتحويل معظم القطاعات الصناعية لخدمة المجهود الحربي، وأشرفَت الدولة إشرافًا مباشرًا على إدارة الإنتاج خلال الحرب عن طريق وزارة الإنتاج الحربي. ولم ترفع الاحتكارات الرأسمالية إصبع المعارضة في وجه هذه الاجراءات، لأن الحرب التي خاضتها اليابان كانت دفاعًا عن الوجود الياباني في شرق آسيا ومصالح هذه الاحتكارات الرأسمالية في تلك البلاد.

التوسع الياباني في شرقي آسيا

فجَّر الغزو الياباني لمنشوريا في عام ١٩٣١م الصراع بين الصين واليابان، فعلى الرغم من محاولة اليابان إحياء حكم آخر الأسرات الإمبراطورية في الصين في الدولة الجديدة التي قامت على أسنَّة الحراب اليابانية باسم دولة منتشوكو بدعوى قيام حركة انفصالية صينية في الإقليم، عجزَت اليابان عن إقناع حكومة الصين الوطنية والدول الأوروبية صاحبة المصالح في الصين بالوضع الجديد، وانسحبَت من عصبة الأمم ردًّا على قرار عدم الاعتراف بالنظام الجديد في منشوريا الذي اتخذته العصبة (مارس ١٩٣٣م) واستمرت المقاومة الصينية حتى عام ١٩٣٧م، ولكن تحولًا كبيرًا حدث في موقف اليابان منذ ذلك التاريخ الذي يحدد أيضًا بداية تزايُد نفوذ العسكريين في السلطة، وحرصهم على اتباع سياسة التوسع العسكري لكسب مزيد من الأرض على الساحة السياسية في البلاد، فبدأَت حربٌ دامية غير معلَنة بين الصين واليابان بما عُرِف باسم حادث جسر ماركو بولو (يوليو ١٩٣٧م)، ما لبثَت أن التحمَت بالصراع العالمي الكبير في عام ١٩٤١م بعد حادث بيرل هاربر.

وبرَّر النظام الفاشي الياباني سياسة التوسع في الصين وجنوب شرقي آسيا بالحاجة إلى توفير الأمن للبلاد، فالصين تُنازع اليابان زعامة شعوب آسيا، والشيوعية المعادية للنظام الإمبراطوري تنشر لواءها في سيبيريا، والولايات المتحدة الأمريكية تبني أسطولًا قويًّا في المحيط الهادي ولا تخفي اهتمامها بالمنطقة فتبدي تحفُّظها على تقسيم الصين على الطريقة اليابانية. والسبيل الوحيد لتحقيق الأمن للبلاد إنما يكون بالسيطرة التامة على الصين وبلاد جنوب شرقي آسيا، لتوحيد المنطقة كلها تحت زعامة اليابان في مواجهة الزحف الغربي، ومن ثَم كان احتفاظ اليابان بقوةٍ عسكرية كبيرة ضرورة تفرضها اعتبارات الأمن القومي.

وبعد حادث جسر ماركو بولو الذي تحرشَت فيه قوةٌ يابانية بالحامية الصينية هناك في ٧ يوليو ١٩٣٧م، احتل اليابانيون إقليمَي «بي بنج» و«تين تسن»، ثم توغلَت قواتهم في منغوليا فاحتلَّت «كالجان» لتقطع بذلك خطوط المواصلات الرئيسية بين الصين وروسيا السوفياتية، وزحفَت قوةٌ يابانية كبيرة إلى «شنسي» و«شانسي» لتوجيه ضربةٍ قاضية إلى القوات الشيوعية الصينية هناك، غير أن الغزاة قُوبِلوا بمقاومةٍ عنيفة من جانب الشيوعيين الذين شنوا ضدهم حرب عصاباتٍ أنهكَت قواهم، وعندما دخلَت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب ضد اليابان عند نهاية عام ١٩٤١م كانت خطوط اليابانيين في هذا الإقليم متجمدة عند الحد الذي بلغَته في عام ١٩٣٨م.

وسيطر اليابانيون كذلك على وادي اليانجتسي، ثم قدَّموا شروطهم لحكومة الصين الوطنية (الكومنتانج) التي تضمنَت الاعتراف بسيطرة اليابان على المواقع الاستراتيجية الهامة، والاعتراف بمنتشوكو، وتكوين جبهةٍ اقتصادية تضم اليابان والصين ومنتشوكو، فرفض شيانج كاي شيك هذه الشروط جميعًا.

وحين يئس اليابانيون من إملاء شروطهم على حكومة الصين الوطنية، تجاهلوها وحاولوا إقامة حكوماتٍ صينية في الأقاليم الخاضعة لهم على نسق حكومة منتشوكو، فأعلنوا قيام «جمهورية الصين» في بكين (ديسمبر ١٩٣٧م)، ولكنها وُوجِهَت بحربٍ ضروس شنَّتها العصابات التي نظمها الشيوعيون في الشمال، فشكَّل اليابانيون حكومةً أخرى في نانكنج برئاسة «وانج تشنج وي» أحد رفاق صن يات صن وعضو الكومنتانج المنشق، وانضم إلى الحكومة عدد من أعضاء الكومنتانج المنشقين. وأعلنَت هذه الحكومة أنها الممثل الوحيد للشعب الصيني، وأنها ترى أن من مصلحة الصين أن تتعاون مع اليابان، وعقدَت معاهدة في نوفمبر ١٩٤٠م مع اليابان للدفاع المشترك ضد الشيوعية والتعاون في مجال التنمية الاقتصادية، واعترفَت ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا ورومانيا وغيرها من دول أوروبا الفاشية بحكومة وانج في يوليو ١٩٤١م.

وضمَّت المنطقة الواقعة تحت الاحتلال الياباني أقاليم غنية بالموارد الطبيعية تمتدُّ من وادي اليانجتسي فيما بين شنغهاي وهانكو جنوبًا حتى بي بنج وتشاهار شمالًا، وامتدَّت إليها سلطة حكومة وانج وخضع لها نحو ٢٠٠ مليون نسمة من السكان. وبدأَت اليابان استغلال المنطقة اقتصاديًّا، فتكونَت شركات للتجارة والصناعة والتعدين امتلك اليابانيون نصف أسهمها، وروجَت الدعاية لتهدئة السكان وتصفية شعور العداء نحو اليابانيين.

ورغم فقْد الصين لنصف أراضيها وأغنى أقاليمها بالموارد الطبيعية؛ فإن الوطنيين والكومنتانج أعادوا تنظيم صفوفهم في المناطق الداخلية، وأقاموا عاصمةً مؤقتة في تشنج كنج، ونقلوا إلى هذه المنطقة الإقطاعية المتخلفة المصانع والمدارس والجامعات؛ استعدادًا لحربٍ طويلة الأمد ضد الغزاة. وقاد الحزب الشيوعي الصيني المقاومة في الشمال الغربي، فاستطاع أن يرد اليابانيين على أعقابهم في أول هزيمة مُنوا بها حين طردهم من شانسي إلى سهل الصين الشمالي، ونظَّم الحزب الشيوعي إدارة الأقاليم الواقعة تحت يده. وما كاد يحل عام ١٩٤١م حتى كانت المنطقة المحرَّرة التابعة للحزب الشيوعي تضم حوالي ٥٠ مليون نسمة، ولكن الكومنتانج بدأ يتشكك في نوايا الشيوعيين رغم تحالفه معهم، وفي مدى صلاحية استراتيجية النفَس الطويل وحرب العصابات التي لجَئوا إليها، كما رفض الشيوعيون أن يسلموا الكومنتانج زمام أمورهم السياسية والعسكرية، وأثمرَت بذور الشك هذه انشغال كلٍّ من الطرفَين عن مقاومة اليابانيين واصطدامهما — أحيانًا — ببعضهما البعض.

وحاولَت بريطانيا أن تقنع الولايات المتحدة الأمريكية بالقيام بعملٍ مشترَك في الصين لإيقاف التدخل الياباني، ولكن الأخيرة كانت مشغولة بمعالجة آثار الكساد العالمي، تخشى التورط العسكري في المنطقة، وتفضِّل الركون إلى الأساليب الدبلوماسية، وفشلَت عصبة الأمم في إصدار قرار بفرض عقوبات على اليابان بسبب تميُّع موقف الولايات المتحدة وإيطاليا.

وأدى فشل الجهود الدولية لوضْع حدٍّ للتدخل الياباني في الصين إلى تشجيع اليابان على الْتماس حليفٍ على القارة الأوروبية، فوقَّعَت مع ألمانيا معاهدة دفاعٍ مشترك «ضد الخطر المتزايد للشيوعية» في نوفمبر ١٩٣٦م، ثم ما لبثَت أن وقَّعَت نفس المعاهدة مع إيطاليا، وبذلك ضمنَت عدم تدخُّل الاتحاد السوفياتي ضد الوجود الياباني في الصين، وازدادت القوات اليابانية ضراوة في مواجهة المقاومة الصينية التي لم تلِن قناتها. ولجأت اليابان إلى انتهاج سياسةٍ جديدة اعتبارًا من نوفمبر ١٩٣٨م، أطلقَت عليها اسم «النظام الجديد لشرق آسيا» مؤدَّاها إقامة تنسيقٍ بين اليابان ومنتشوكو والصين المحتلة في الأمور الاقتصادية. وفي إطار هذه السياسة شنَّت اليابان حربًا ضد المصالح الأجنبية غير اليابانية في الصين، فحاصرت مناطق الامتيازات الفرنسية والإنجليزية في «تين تسن» وأخذَت تفتِّش علانية الأوروبيين الداخلين إلى هذه المناطق أو الخارجين منها لتبرهن للصينيين على حقيقية الدعاية اليابانية؛ التي تقول بأن عصر السيطرة الأوروبية قد ولَّى، وأن اليابان حرَّرَت شعوب آسيا من السيطرة الغربية. ولم تسلَم من هذه الإجراءات المناطق التابعة لألمانيا حليفة اليابان، وكذلك مناطق الامتيازات التابعة للولايات المتحدة الأمريكية؛ مما أضر بالمصالح الرأسمالية الأمريكية ودفع الولايات المتحدة إلى إعلان إلغاء معاهدة التبادل التجاري مع اليابان.

وعندما شب أوار الحرب العالمية الثانية في أواخر صيف ١٩٣٩م أعلنَت اليابان حرصها على عدم التورط في ذلك «الصراع الأوروبي» وأنها ستبذل قصارى جهدها لحل المسألة الصينية. غير أن تلك الحرب الأوروبية أثَّرَت على الوضع السياسي في آسيا؛ فرغم وقوف الولايات المتحدة الأمريكية على الحياد — من الناحية الرسمية — كانت تمدُّ الدول الديمقراطية في أوروبا بالأموال والسلاح، وسقطَت هولندا وبلجيكا وفرنسا في يد الألمان في شهرَي مايو ويونيو ١٩٤٠م، وبدأَت بعد ذلك معركة بريطانيا. وأدَّت هذه التطورات إلى إطلاق يد اليابان في آسيا، فقد تغاضى الإنجليز عن الإمدادات اليابانية التي كانت تُنقَل إلى الصين الوطنية عبر هونج كونج وبورما، كما حصلَت اليابان على حق استخدام مطارات الهند الصينية الخاضعة لحكومة فيشي الفرنسية في مهاجمة جنوب غرب الصين، وأرسلَت بعثة تجارية يابانية إلى جُزر الهند الشرقية الهولندية في محاولةٍ فاشلة للحصول على المزيد من إمدادات البترول، وبذلك حاولَت اليابان استغلال الظروف الصعبة التي كانت تواجهها دول أوروبا الغربية في تدعيم مركزها الاستراتيجي، وتوجيه ضربةٍ قاضية إلى المصالح الاقتصادية لتلك الدول عن طريق مستعمراتها الغنية بالبترول والمطاط والبوكسيت والحديد في جنوب شرقي آسيا.

وكان العسكريون اليابانيون يضغطون على حكومتهم منذ مارس ١٩٣٩م لعقْد معاهدة تحالُف كامل مع ألمانيا، وأبدَت ألمانيا استعدادها للتجاوز عما لحق بمصالحها الاقتصادية في الصين من أضرار على يد اليابان من أجل عقد هذا التحالف الذي يدعم مركزها في أوروبا، غير أن معاهدة التحالف لم تُوقَّع نهائيًّا إلا في سبتمبر ١٩٤٠م وانضمَّت إليها إيطاليا باعتبارها شريكة ألمانيا في الحرب. وأصبح واضحًا أن الحلف الياباني-الألماني-الإيطالي يستهدف الولايات المتحدة الأمريكية بالذات، فقد علَّقَت ألمانيا الآمال على هذا التحالف للحد من تدفُّق الإمدادات الأمريكية على بريطانيا. أما اليابان فاعتبرَت الحلف بمثابة إنذارٍ موجَّه إلى الولايات المتحدة الأمريكية إذا ما فكَّرَت في التدخل ضد التحركات التي كان الجيش الياباني يزمع القيام بها.

ولكن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن وحدَها الشغل الشاغل لليابان، لأن الاتحاد السوفياتي قد يتدخل في شمال الصين إذا نقلَت اليابان نشاطها العسكري إلى جنوب شرقي آسيا، وخاصة أن الأخيرة فقدَت الأمل في بقاء الاتحاد السوفياتي على الحياد على تلك الجبهة منذ وقع صدام بين جيش كوانتونج الياباني والجيش السوفياتي على حدود منغوليا في أغسطس ١٩٣٩م، خسر فيه اليابانيون ١٨ ألف جندي بين قتيل وجريح، وتجددَت بذلك الاشتباكات بين الطرفَين، فأصبح من المحتمل أن يوسع السوفيات نشاطهم على الجبهة الصينية إذا شُغِل اليابانيون بالتوسع في جنوب شرقي آسيا. وبدأَت الدبلوماسية اليابانية نشاطها من أجل ضمان حيدة الاتحاد السوفياتي خلال توسُّع اليابان في جنوب شرقي آسيا، فدارت مفاوضاتٌ بين الطرفَين حول المناطق المتنازَع عليها على الحدود الصينية الشمالية، نجح خلالها ماتسوكو سايونجي وزير الخارجية الياباني في عقد معاهدة عدم اعتداء مع موسكو في ٣ أبريل ١٩٤١م، وبذلك ضمنَت اليابان سلامة مؤخرتها، وتفرغَت للبحث عن سبيلٍ لشل حركة الولايات المتحدة أثناء قيامها بتنفيذ سياستها التوسعية في جنوب شرقي آسيا وتصفية المقاومة الصينية.

وكانت سياسة الولايات المتحدة في المحيط الهادي ترمي إلى مقاومة الأطماع اليابانية، ففرضَت حكومة الرئيس روزفلت عقوباتٍ اقتصادية على اليابان حظرَت بمقتضاها تصدير البنزين والحديد الخردة والصلب إليها اعتبارًا من يوليو ١٩٤٠م. وتدهورَت نتيجة لذلك العلاقات اليابانية-الأمريكية، وفشلَت المفاوضات غير الرسمية التي دارت بين الطرفَين لرفع القيود التي فرضها الأمريكيون على التجارة بين البلدَين، ولكن الشروط التي قدَّمَتها الولايات المتحدة كانت تعني الحد من التوسع الياباني في شرقي آسيا، وكل ما أثمرَته هذه المفاوضات إتاحة الفرصة أمام الطرفَين للاستعداد للحرب.

وحين بدأَت ألمانيا غزو الاتحاد السوفياتي في ٢٢ يونيو ١٩٤١م دون أن يكون لدى حليفتها اليابان علمٌ مسبَق بتدابير الغزو، ترك هذا الحدث أثرًا فعَّالًا على الموقف الياباني، فعقد المجلس الإمبراطوري اجتماعًا في ٢ يوليو تقرَّر فيه اختيار مدى فاعلية معاهدة عدم الاعتداء مع السوفيات عن طريق التوسع في الهند الصينية، والاشتراك في الحرب الأوروبية للاستفادة من نتائج هزيمة السوفيات أمام ألمانيا التي بدَت — عندئذٍ — وشيكة الوقوع. فطالبَت اليابان حكومة فيشي الفرنسية بمنحها قواعد جديدة في الهند الصينية، وحين تلكأَت الأخيرة قامت باحتلال المستعمرة الفرنسية، وأعدَّت الخطط العسكرية للاستيلاء على الملايو وجزر الهند الشرقية والفلبين، وكانت البحرية اليابانية وقد بدأَت منذ مطلع عام ١٩٤١م تدريباتها على ضرب بيرل هاربر القاعدة البحرية الكبرى في المحيط الهادي.

غير أن أمريكا لم تقف مكتوفة الأيدي إزاء هذه التطورات، فوجَّه الرئيس روزفلت ضربة إلى المصالح المالية اليابانية حين أصدر مرسومًا بتجميد الأموال اليابانية في بنوك أمريكا كردٍّ على غزو اليابان للهند الصينية. وحاول رئيس الحكومة اليابانية أن يجتمع بالرئيس روزفلت؛ لتلافي وقوع الحرب بين البلدين، ولكن الحكومة الأمريكية لم تُوافق على اللقاء المقترَح إلا إذا أوقفَت الجيوش اليابانية تقدُّمها في الهند الصينية، وأصدرَت اليابان إعلانًا واضحًا عن نواياها في المنطقة، ففشلَت بذلك محاولات تأجيل الصدام بين البلدَين، وانتقل مركز الثقل داخل الحكومة اليابانية إلى جانب العسكريين، فشكَّل طوجو هيديكي وزير الحربية حكومةً عسكرية في ١٨ أكتوبر ووافق المجلس الإمبراطوري في ٥ نوفمبر على تقديم مقترحاتٍ جديدة إلى الولايات المتحدة لتسوية الموضوعات المتنازَع عليها، على أن تقبل الأخيرة هذه المقترَحات في موعدٍ أقصاه ٢٥ نوفمبر وفي حالة رفْض الولايات المتحدة لهذه المقترحات يتم الهجوم على بيرل هاربر ومانيلا وسنغافورة. وعندما رفضَت أمريكا الإذعان لهذه المقترحات شن اليابانيون هجومهم المشهور على بيرل هاربر في ٧ ديسمبر، فأعلنَت الولايات المتحدة وبريطانيا الحرب على اليابان في اليوم التالي، مما دعا ألمانيا وإيطاليا إلى إعلان الحرب على الولايات المتحدة الأمريكية في ١١ ديسمبر ١٩٤١م.

ويذهب بعض المؤرخين الأمريكيين إلى أن حادث بيرل هاربر كان من تدبير حكومة الرئيس روزفلت التي سعَت إلى إقناع الشعب الأمريكي بالدخول في الحرب إلى جانب دول غرب أوروبا الديمقراطية ضد دول المحور، فتراخت في اتخاذ الاحتياطات اللازمة لاتقاء الضربة اليابانية الأولى، رغم تمكن المخابرات الأمريكية من حل الشفرة اليابانية، وعلْمها المسبَق بمخططات اليابان العسكرية. ولا يقدِّم أصحاب هذا الرأي دليلًا مقنعًا على صحة وجهة نظرهم، فلو كان الحادث من تدبير الحكومة الأمريكية حقًّا لجاءت خسائره محدودة، ولَمَا ترتَّب عليه شل حركة الأسطول الأمريكي تمامًا في المحيط الهادي حتى تمكنَت اليابان من جني ثمار تلك الضربة المفاجئة، فاستولَت على هونج كونج وفورموزا والملايو والفلبين وجزر الهند الشرقية، ولم تبدأ أمريكا هجومها المضاد ضد التوسع الياباني في جنوب شرقي آسيا إلا في نوفمبر ١٩٤٣م.

التورط في الحرب وسقوط الفاشية

وقابلَت الولايات المتحدة اكتساح اليابان لجنوب شرقي آسيا بخطةٍ عسكرية التزمَت حدود الدفاع؛ حتى تتفرغ مع حلفائها لمواجهة هتلر، وتعيد بناء قواتها في المحيط الهادي وتنسيق خططها مع الحلفاء في مجال الاستراتيجية والإنتاج الاقتصادي. ثم انتقلَت بعد ذلك من موقف الدفاع إلى الهجوم، فشنَّت غارات جوية من حاملات الطائرات الأمريكية على الأسطول الياباني (٧، ٨ مايو ١٩٤٢م) نجحَت خلالها في إحباط محاولة اليابانيين قطْع خطوط الإمدادات الأمريكية لأستراليا عبْر جنوب المحيط الهادي، وحققَت أول انتصار على الأسطول الياباني في المعركة ميدواي Midway التي أغرقَت خلالها قاذفات القنابل الأمريكية ٢١ سفينة حربية يابانية (٤، ٧ يونيو ١٩٤٢م)، وبذلك حالت دون احتمال وقوع جزر هاوائي في يد اليابانيين.

وبدأ مد الانتصارات التي حققها اليابانيون في الانحسار اعتبارًا من عام ١٩٤٣م، حين شن الأمريكيون هجومًا شاملًا على المستعمرات اليابانية في المحيط الهادي فيما عُرِف باسم «معركة الباسيفيكي» التي امتدَّت حتى منتصف عام ١٩٤٥م، وتمكَّن الحلفاء خلالها من دحر القوات اليابانية في مجموعة الجزر المتناثرة في المحيط الهادي، وانتزاع بورما وسنغافورة والفلبين وغينيا الجديدة وأوكيناوا من أيديهم، وأنهكَت الغارات الجوية والغواصات الأمريكية الأسطول الياباني، فأغرقَت ما يُقدَّر بسبعمائة سفينة يابانية حتى نهاية عام ١٩٤٤م الذي بدأ الأمريكان عند منتصفه غاراتهم الجوية على المناطق الخاضعة لليابان في شمال الصين ومنشوريا. وأخذَت قاذفات القنابل الأمريكية منذ مطلع عام ١٩٤٥م تقصف المراكز الصناعية اليابانية الهامة في الجزر اليابانية ذاتها مثل طوكيو وناجويا وأوساكا وكوبي وغيرها، كما دمرَت العديد من المطارات في جزيرة كيوشو. وانضم الإنجليز إلى حلفائهم الأمريكيين في عمليات القصف الجوي للمدن اليابانية اعتبارًا من يوليو ١٩٤٥م، فقُدِّرَت الطلعات الجوية على المدن اليابانية بأكثر من ألفَي طلعة في اليوم الواحد، وفقدَت اليابان في الشهور الأخيرة من نفس العام ما قُدِّر بثلاثة آلاف طائرة و١٦٠٠ سفينة بين حربية وتجارية. وما كاد يحل أول أغسطس ١٩٤٥م حتى كانت اليابان قد فقدَت القدرة على القتال في الجو والبحر.

وحين توالت الهزائم على اليابان قرر المجلس الإمبراطوري في يوليو ١٩٤٤م تنحية الجنرال طوجو هيديكي من السلطة وتشكيل حكومةٍ عسكرية جديدة لمواجهة الموقف، ولكن هذه الحكومة عجزَت عن تغيير دفة النكسات العسكرية التي لحقَت بالبلاد، وتلَتها حكومتان عسكريتان أخريان لم تحرزا أي تقدُّم في هذا المجال، فشدد الحلفاء هجماتهم المكثفة على اليابان. وكانت خسارة اليابان للحرب أمرًا مسلَّمًا به، فجرَت اتصالات بين الحكومة اليابانية والروس في ١٣ يوليو ١٩٤٥م تنشد من السوفيات التوسط لدى الأمريكان والإنجليز لعقد معاهدة سلام وإنهاء حالة الحرب، غير أن السوفيات التزموا الصمت، فقد تعهد ستالين في مؤتمر يالتا (فبراير) بالهجوم على منشوريا وكوريا في أغسطس لاستنزاف الطاقة العسكرية لليابانيين ومنعهم من الاستفادة بقواتهم هناك في تدعيم الدفاع عن اليابان ذاتها؛ ولذلك تلكأ السوفيات في الرد على اليابانيين حتى ٨ أغسطس بعد تعرُّض هيروشيما للقصف الذري بيومَين اثنين رغم أن استخدام هذا السلاح الجديد تم دون علمهم، فلم يطلعهم حلفاؤهم الأمريكيون على ما يفيد امتلاكهم لهذا السلاح. وجاء الرد السوفياتي على طلب اليابان في صورة بلاغ من الحكومة السوفياتية أعلنَت فيه دخولها الحرب ضد اليابان اعتبارًا من اليوم التالي للبلاغ، وقطْع العلاقات الدبلوماسية بين البلدَين. وبعد هذا البلاغ السوفياتي بساعات قُصِفَت مدينة نجازاكي وقاعدتها البحرية بقنبلةٍ ذرية أمريكية ثانية، وشن السوفيات هجومًا كبيرًا على القوات اليابانية في كوريا ومنشوريا، فتحطمَت آمال العسكريين اليابانيين في عقْد سلامٍ مشرِّف، واضطُروا إلى القبول بشروط الحلفاء والتسليم لهم نهائيًّا في ١٤ أغسطس، ووقعَت معاهدة التسليم غير المشروط فوق ظهر السفينة الحربية الأمريكية ميسوري التي ألقَت مراسيها في خليج طوكيو (٢ سبتمبر ١٩٤٥م).

ولم يكن قرار التسليم غير المشروط ناتجًا عن تعرُّض مدينتَين من أكبر مدن اليابان وقاعدتَين من أعظم قواعدها البحرية للقصف الذري، أو عن دخول السوفيات الحرب ضد اليابان واجتياحهم كوريا ومنشوريا، ولكنه كان نتيجة تصدُّع النظام العسكري الفاشي منذ نهاية عام ١٩٤٤م بعدما خسرَت اليابان معركة الباسيفيكي وفقد النظام مبررات وجوده، وكان قرار التسليم للحلفاء يتوقف على انهيار الحكم العسكري، وقد أقدم الإمبراطور على اتخاذ هذه الخطوة، فأعلن بنفسه قرار التسليم بلا قيد ولا شرط فمارس بذلك سلطته لأول مرة في ظل نظام طالما اتخذ الولاء للإمبراطور سبيلًا لتدعيم سلطته، وأدار سياسة البلاد نيابة عن الإمبراطور الذي لم يكن يتمتع بسلطةٍ حقيقية، وكان المجلس الإمبراطوري الذي يخطط للسياسة العليا للبلاد ويضم أقطاب البيروقراطية وكبار العسكريين ورؤساء الحكومات السابقين يُصدر قراراته وفْق هوى الطغمة العسكرية الحاكمة، وبنزول قوات الحلفاء إلى اليابان أُلقِي القبض على أقطاب النظام العسكري الحاكم، وقُدِّموا للمحاكمة باعتبارهم مجرمي حرب، وشُكلَت في ٢٢ أبريل ١٩٤٦م حكومة برئاسة شيديهارا كيجيرو آخر من بقي على قيد الحياة من الشخصيات الليبرالية التي لعبَت دورًا بارزًا في الحياة السياسية قبل انجراف اليابان في تيار الفاشية، ووقع على كاهل حكومته عبء إصلاح ما أفسدَته الحرب وإعادة بناء اليابان وفق أسس جديدة خطَّط لها الأمريكيون ونفَّذها الساسة الليبراليون.

قصة القنبلة الذرية

وإذا كان الكتاب الذي بين أيدينا الآن يعالج حصاد سياسة التوسع على حساب شعوب جنوب شرقي آسيا والصراع الإمبريالي في المنطقة الذي انتهى بهزيمةٍ ساحقة ودشَّن سلاحًا رهيبًا جديدًا استُخدِم لأول مرة هو القنبلة الذرية؛ يجدر بنا أن نقف على أطراف قصة هذا السلاح ودوافع استخدامه.

بدأ اكتشاف الذرة في معامل معهد القيصر ولهلم في برلين عام ١٩٣٨م نتيجة دراسات قام بها العلماء الألمان لمتابعة تجارب في هذا المجال كان قد سبقهم إليها عالمٌ إيطالي هو إنريكو فيرمي في عام ١٩٣٤م، ووصلَت أنباء هذا الاكتشاف الجديد إلى أمريكا مع بعض العلماء الألمان الذين فروا من الاضطهاد النازي في ألمانيا، وأبلغ أينشتاين العالم الأمريكي الشهير هذا النبأ إلى الرئيس روزفلت في ١١ أكتوبر ١٩٣٩م، فلم يُعِر الأمر اهتمامًا، ولكنه ما لبِث أن اقتنع بضرورة أخْذ المسألة مأخذ الجد حين علم بالقوة الهائلة التي تنجم عن الطاقة الذرية، وأن استخدامها كسلاح في الحرب قد يقلب موازين القوى في العالم، فحرص على توفير السبل التي تحقق لأمريكا التوصل إلى امتلاك هذا السلاح قبل ألمانيا.

وشُكِّلَت على الفور لجنة من العلماء والعسكريين كانت تتبع الرئيس الأمريكي مباشرة، أُحِيط نشاطها بالسرية التامة، وحملَت اسم «مشروع مانهاتن». وخصص الرئيس الأمريكي جانبًا من المصروفات السرية الخاصة بالبيت الأبيض للإنفاق على هذا المشروع الذي اشترك فيه إنريكو فيرمي العالم الإيطالي سالف الذكر، فأُقيمَت ثلاثة معامل لأبحاث الذرة في ثلاث مناطق منعزلة بولايات نيومكسيكو وتينسي، وواشنجتون.

وفي الثاني من ديسمبر عام ١٩٤٢م توصلَت اللجنة إلى نتائج مؤكدة حول إمكانية استخدام هذه الطاقة الجديدة في صُنع قنبلةٍ ذرية، وبدأ الخبراء العسكريون وضْع تصميمات القنبلة بالتعاون مع العلماء، ووضعوا خطة لإنتاج نوعَين من هذه القنبلة أعطى أولهما اسمًا رمزيًّا هو «الولد الصغير» أما الآخر فأطلق عليه «الرجل السمين» وفي نفس الوقت أُعِيد النظر في تصميم الطائرة القاذفة (ب٢٩) بحيث تصبح مهيأة لحمل هذا السلاح واستخدامه، واختير فريقان من مهرة الطيارين المقاتلين للتدريب على هذه الطائرات في ظروف طبيعية مختلفة.

وتم إنتاج القنبلة في مطلع عام ١٩٤٥م، ووقع الاختيار على جزيرة تن يان لتصبح قاعدة لانطلاق أول عملية قصفٍ نووي في التاريخ، وتقع هذه الجزيرة على بُعد مائة ميل إلى الشمال من جزيرة جوام، وعلى بُعد نحو ١٥٠٠ ميل إلى الجنوب من جزيرة هنشو كبرى جزر اليابان التي تقع هيروشيما في جنوبها الغربي. وأُرِسلَت المجموعتان اللتان تدربتا على عملية القصف الذري إلى جزيرة تن يان مع سربَين من طائرات ب-٢٩ وقنبلتان ذريتان في ٢١ يونيو ١٩٤٥م، وأثناء وجودها بتلك القاعدة تمَّت تجربة أول تفجير نووي في التاريخ بصحراء نيومكسيكو في ١٦ يوليو، واطمأنَّت القيادة الأمريكية إلى فاعلية السلاح الجديد، وبدأ منذ ذلك التاريخ العد التنازلي لاستخدام القنبلة «الولد الصغير» في قصف مدينة هيروشيما، والقنبلة «الرجل السمين» في قصف مدينة نجازاكي.

وأقلع السرب الأول الذي يحمل «الولد الصغير» في صبيحة السادس من أغسطس متجهًا صوب هيروشيما، وكان يتكون من ثلاث طائرات (ب ٢٩) تحمل إحداها القنبلة، أما الثانية فتحمل بعض العلماء الذين اشتركوا في المشروع لتسجيل النتائج العلمية للقصف، وحملَت الطائرة الثالثة آلات التصوير وبعض الفنيين، وفي الساعة الثامنة والربع و١٧ ثانية ألقَت الطائرة الأولى القنبلة فوق هيروشيما المدينة التي كان يسكنها عندئذٍ نحو نصف مليون نسمة، وهبطَت القنبلة بمظلَّتَين ليُتاح لها فرصة الانفجار في الجو، وكان وزنها يبلغ خمسة أطنان وأُلقيَت على المدينة من ارتفاع ١٨٧٠ قدمًا، وبلغَت قوة انفجارها ما يعادل ١٣٥٠٠ طن من مادة اﻟ TNT شديدة الانفجار.

وفي صباح التاسع من أغسطس أقلع السرب الثاني من قاعدة تن يان يحمل القنبلة «الرجل السمين» والعلماء والأجهزة الفنية وآلات التصوير قاصدًا نجازاكي التي تقع غرب جزيرة كيوشو، وكان يسكنها ما يربو على ربع مليون نسمة، وأُلقيَت القنبلة على المدينة في الساعة الثامنة والنصف صباحًا فانفجرَت على ارتفاع ١٥٤٠ قدمًا لتُلحق بالمدينة دمارًا شاملًا.

لقد مر بنا أن اليابان خسرَت معركة المحيط الهادي تمامًا مع نهاية عام ١٩٤٤م، وحاولت أن توسط الاتحاد السوفياتي في عقد صلح مع الحلفاء في ١٣ يوليو ١٩٤٥م، أي قبل قصف هيروشيما بنحو ثلاثة أسابيع، وأنَّ تصدُّع الحكم العسكري جعل الإمبراطور يفكر جديًّا في التسليم، هذا بالإضافة إلى أن الأمريكيين كانوا يملكون مفتاح الشفرة اليابانية ويعرفون حقيقية الأوضاع في اليابان، فلماذا إذن أقدموا على استخدام السلاح النووي الرهيب ضدها؟

لقد كانت الحرب توشك على الانتهاء ويشرف العالم بانتهائها على عصرٍ جديد، وأصبح من الواضح أن إنجلترا وفرنسا فقدَتا زعامتهما التقليدية للعالم الديمقراطي الغربي لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، التي أنقذَت الغرب من الاندحار أمام الفاشية، فكان من المتوقَّع أن ترث الولايات المتحدة المكانة التي تمتَّعَت بها إنجلترا وفرنسا من قبل، كما ترث قَدرًا من المصالح الإمبريالية فيما وراء البحار يتكافأ مع حجم الدور الذي لعبَته في تدعيم مركز الديمقراطيات الغربية في مواجهة الفاشية، كما أصبح واضحًا كذلك أن الاتحاد السوفياتي قد اكتسب قوة وفعالية على مسرح السياسة الدولية نتيجة الصراع مع الفاشية، وأنه سوف يصبح القطب المقابل للولايات المتحدة الأمريكية باعتباره — عندئذٍ — القوة الاشتراكية الكبرى الوحيدة في العالم التي تتزعم البلدان الاشتراكية الأخرى، والتي تختلف مبادئها ومصالحها مع الإمبريالية، فكان ثمة احتمال حدوث مواجهة بين الطرفَين المتناقضَين في عصر ما بعد الحرب؛ لذلك حرصَت الولايات المتحدة الأمريكية أن تلفت نظر الاتحاد السوفياتي بصورةٍ عملية إلى ما لديها من قوةٍ رادعة تجعله لا يفكر في تحدي أمريكا المتحدثة بلسان المصالح الإمبريالية في عالم ما بعد الحرب، فكان قصف هيروشيما ونجازاكي خطابًا موجهًا إلى حليف اليوم الذي قد يصبح عدو الغد. كما أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت بحاجة إلى ميدانٍ حي لتجربة السلاح الجديد، لمعرفة مدى فعاليته، والتأثيرات التي تنتج عن الإشعاع الذري في البيئة والإنسان، فكان استخدام المدن اليابانية حقل تجارب للتفجير النووي يحقق لأمريكا هذه الغاية، كما يوفر عنصر الردع الذي يترك أثرًا نفسيًّا بالغًا على شعبٍ تحدى الولايات المتحدة، وحطَّم هيبتها ذات يوم، وتربى على تقبُّل سياسة القوة وتشبع بالروح العنصرية المستمدة من تراثه التقليدي.

ومهما كان الأمر، فإن استخدام القنبلة الذرية في ضرب هيروشيما ونجازاكي فتح الباب على مصراعيه لعصرٍ جديد، تسابقَت فيه القوى الكبرى على امتلاك الأسلحة النووية وتطويرها، حتى إن قوة قنبلة هيروشيما على ما سببَته من دمار تشبه عود الثقاب بالنسبة للأتون الملتهب، إذا ما قُورنَت بالتطور الذي أصبحَت عليه الأسلحة الذرية الآن، ولعبَت الذرة دورًا كبيرًا في الدبلوماسية الدولية وفي جانب الردع، وشجع العملاقان الذريان على انتهاج سياسة الوفاق. كما انضمَت لعضوية النادي الذرِّي في السنوات الأخيرة فرنسا والصين والهند وإسرائيل وباكستان، وتتطلع بعض الدول النامية الأخرى مثل إيران إلى الانضمام إليه.

مصادر يمكن الرجوع إليها

  • (1)
    Alperovitz, Gar: Atomic Diplomacy, Hiroshima and Potsdam New York 1965.
  • (2)
    Amrine, Michael: The Great Decision, The Secret History of the Atomic Bomb, New York 1969.
  • (3)
    Herbert Feis: The Road to Pearl Harbor, USA 1950.
  • (4)
    James David: The Rise and Fall of the Japanese Empire, London 1951.
  • (5)
    Maruyama Masao: Thought and Behavior in Modern Japanese Politics, ed by Ivan Morris, USA 1963.
  • (6)
    Richard Storry: The Double Patriots, A Study in Japanese Nationalism, USA 1957.
  • (7)
    Seiji G. Hishida: Japan Among the Great Powers, USA 1940.
  • (8)
    Stonier, Tom: Nuclear Disaster, New York 1963.
  • (9)
    Togo, Shigenori: The Cause of Japan, New York 1956.
  • (10)
    William Craig: The Fall of Japan, USA 1967.
  • (11)
    Yale. C Maxim: Control of Japanese Foreign Policy, A Study of Civil-Military Rivaly 1936–1945, USA 1957.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤