يوميات هيروشيما

لمَّا كان الدكتور هاتشيا قد بدأ يومياته دون أن يتطرق إلى ذهنه فكرة نشرها، فلم يُعنَ بوصف المستشفى الذي كان مسرحًا لتلك اليوميات، أو إعطاء فكرة عن العاملين به الذين يمثلون الشخصيات الرئيسية في تلك اليوميات. أما المستشفى فهو مستشفى المواصلات بهيروشيما الذي كان يقوم على علاج موظفي وزارة المواصلات بمنطقة هيروشيما، وهم يشملون موظفي البريد والبرق والتليفونات. ولمَّا كانت هيروشيما تضم نصف مليون نسمة، وتُعَد عاصمة لمحافظة هيروشيما التي بلغ عدد سكانها عندئذٍ مليونَين؛ فإن هذا المستشفى كان يتمتع بأهميةٍ ملحوظة، وكان عدد العاملين به يبلغ نحو عشرين عضوًا بين طبيب وممرض، وبلغ عدد أسرَّته عندئذٍ ١٢٥ سريرًا، ولكن هذه الطاقة لا تعطي تحديدًا دقيقًا لحجم الخدمة التي يؤديها المستشفى، فإن عدد المرضى الخارجيين الذين كان يقوم على خدمتهم كبير جدًّا لا يقارَن بعدد أولئك الذين تستدعي ظروف مرضهم استبقاءهم بعض الوقت بالمستشفى.

وكان هذا المستشفى ملحَقًا بالمبنى الرئيسي لمصلحة المواصلات، وكلا المبنيَين كان شامخًا مَشيدًا بالخرسانة المسلحة، وبعد حادث قصف هيروشيما تحول مبنى المصلحة إلى مبنًى ملحَق بالمستشفى، وكان كلاهما يقع على بعد ١٥٠٠ متر من مركز تفجير القنبلة الذرية شمال شرق حدود المنطقة العسكرية الكبرى، التي كان يُطلَق عليها اسم «ثكنات هيروشيما العسكرية» والتي تحطمَت تمامًا نتيجة القصف، أما منزل الدكتور هاتشيا (صاحب اليوميات) فقد كان يقع على بُعد بضع مئات من الأمتار بالقرب من المستشفى.

وحتى حادث القصف بالقنبلة الذرية لم تكن هيروشيما قد تعرضَت للقنابل خلال الحرب، ولكن السلطات العسكرية رأت أن تعد العدة لاحتمال تعرُّض المدينة لغاراتٍ جوية فقامت بهدم آلاف المنازل حتى تُقيم مكانها طرقًا متسعة تساعد على مرور سيارات الإطفاء في حالة الطوارئ، وتم إجلاء الآلاف من سكان هذه المنازل. وتمشيًا مع هذه الإجراءات أخلى الدكتور هاتشيا المستشفى من مرضى القسم الداخلي وحولهم إلى مرضى خارجيين، حتى إذا تعرضَت المدينة لقصفٍ جوي كان المستشفى خاليًا تمامًا ومستعدًّا للطوارئ.

وفيما يلي قائمة بأسماء العاملين بالمستشفى، بالإضافة إلى بعض الشخصيات التي تبدو من حين لآخر بهذه اليوميات:

  • الدكتور آكي ياما، رئيس قسم الولادة وأمراض النساء.

  • الدكتور تشودو، طبيب بقسم الأسنان.

  • الدكتور فوجي، رئيس قسم الأسنان.

  • الدكتور هاتشيا، مدير المستشفى وصاحب هذه اليوميات.

  • الدكتور هانا أوكا، رئيس القسم الداخلي.

  • الدكتور هارادا، صيدلي.

  • الآنسة هينادا، ممرضة بالمستشفى.

  • الدكتور هينوئي، رئيس الصيادلة.

  • السيد إيجوتشي، سائق بمصلحة المواصلات.

  • السيد إيماتشي، موظف إداري بالمستشفى، كان يقوم في نفس الوقت بعمل كبير الطهاة.

  • السيد إيسونو، أصبح رئيسًا لمصلحة التليفونات بهيروشيما بعد مقتل السيد يوشيدا.

  • الآنسة كادو، الممرضة الخاصة للدكتور هاتشيا.

  • الدكتور كاتسوبي، رئيس قسم الجراحة.

  • الدكتور كيتاجيما، رئيس الإدارة الصحية بمدينة هيروشيما.

  • السيد كيتا أو، موظف إداري بالمستشفى.

  • الدكتور كوياما، مساعد رئيس قسم العيون بالمستشفى.

  • السيد ميزوجوتشي، كاتب سابق بالمستشفى، قام خلال الأحداث بالإشراف على الحي، وبدَور المدير الإداري للمستشفى، وموظف العلاقات العامة، والرجل الذي يتصدى لكل الملمات.

  • الدكتور موري سوجي، طبيب بالقسم الداخلي.

  • السيد أوكاموتو، رئيس قسم غرب هيروشيما بمصلحة المواصلات.

  • الدكتور أوكورا، طبيب أسنان.

  • السيدة سائيكي، وهي مصنَّفة كفرَّاشة (تمورجية) بالمستشفى، ولكن هذا التعريف لا يُنصف السيدة سائيكي؛ لأن هذه السيدة التي حُرمَت من أبنائها الثلاثة وزوجها الذين ماتوا جميعًا في الحرب ذات الشخصية القومية الممتلئة بالحزن، والتي تكافح شظف العيش والفقر، كانت تقوم بمهمة الصديق والمستشار للجميع، وتضفي من أمومتها الكثير على العاملين بالمستشفى والمرضى والزوار، فكان الجميع يُطلقون عليها اسم «الجدة العزيزة».

  • السيد ساساكي، جار الدكتور هاتشيا وصديقه.

  • الدكتو ساسادا، رئيس قسم الأطفال بالمستشفى.

  • السيد سيرا، رئيس مكتب العمل بالمستشفى.

  • السيد شيوتا، موظف بمكتب العمل.

  • الآنسة سوسوكيدا، رئيسة الممرضات.

  • الآنسة تاكاءو، ممرضة الجراحة الخاصة بالدكتور كاتسوبي.

  • الدكتور تاماجاوا، أستاذ التحاليل بكلية الطب بهيروشيما.

  • السيد يوشيو، رئيس الشئون العامة بالمستشفى.

  • السيدة يائيكو، زوجة الدكتور هاتشيا.

  • الآنسة ياما، رئيسة الممرضات بقسم الجراحة.

  • السيد ياما زاكي، موظف بمكتب العمل الذي تولى الإشراف على محرقة الجثث.

  • السيدة يوشيدا، زوجة الرئيس السابق لمصلحة التليفونات بهيروشيما.

٦ أغسطس ١٩٤٥م

كان الوقت مبكرًا، لا زال الصباح دافئًا جميلًا، وانعكس ضوء الشمس على أوراق الشجر، وبدَت السماء صافية فعكسَت الظلال على حديقة منزلي، بينما كنتُ أحملق شاردًا في السماء عبر الأبواب الواسعة في اتجاه الجنوب.

كنت لا أرتدي سوى الفانلة والسروال القصير، مستلقيًا على الأرض بغرفة المعيشة منهك القوى؛ حيث عُدتُ من المستشفى بعد أن سهرتُ ليلةً كاملة قمتُ خلالها بالعمل كمراقب للغارات الجوية بمستشفاي.

وفجأةً لمع بريق ضوء أمام عيني، ثم تكرر نفس المنظر، ولا أكاد أتذكر ما حدث على وجه الدقة، كل ما أذكره أن الفانوس الحجري الذي كان موجودًا في الحديقة أصبح مضيئًا، ولم أدرِ ما إذا كان هذا الضوء نتيجة اشتعال مغنسيوم أم نتيجة شرارات صدرَت عن الترام الذي يمر بجوار منزلنا.

اختفَت ظلال الحديقة وتحوَّل الجو الذي كان منذ قليل صحوًا مشمسًا إلى مظلمٍ معتم، ورأيتُ خلال الغبار الذي ملأ المكان الدعامة الخشبية التي قام عليها أحد أركان منزلي تميل بصورةٍ تهدد بانهيار السقف.

بدأتُ التحرك بذهول محاولًا الهرب، ولكن الأنقاض عاقت سبيلي، وتمكَّنتُ بعد جهدٍ جهيد من أن أصِل إلى الشرفة وأهبط الدرج إلى الحديقة، وأخذ الوهن يدبُّ في جسدي، فوقفتُ حتى أستجمع قواي لأكتشف بدهشةٍ بالغة أنني عارٍ تمامًا. ما أقبح هذا! أين سروالي وفانلتي؟ وماذا حدث؟

كان جنبي الأيمن مثخنًا بالجراح ينزف دمًا، وثمة شظية كبيرة تبرز من جرحٍ متهتك في فخذي، وشيء دافئ أُحس به في فمي، أما خدودي فقد تمزقَت وتحسستُ وجهي بحذر لأكتشف أن شفتي السفلى قد شُجَّت شجًّا واسعًا، وعلى رقبتي كانت هناك شظايا متناثرة من الزجاج أخذتُ أزيحها بصعوبةٍ بالغة وأتفحصها بذهول والدماء تخضب يدي.

تُرى أين زوجتي؟

فجأةً أخذتُ أصيح بانزعاجٍ شديد مناديًا عليها «يائيكو أين أنتِ؟»

واستمر الدم ينزف بغزارة، تُرى هل قطع شرياني السباتي؟ وهل سيظل دمي ينزف حتى أموت؟ ووجدتُ نفسي أصيح بخوف وفزع: «إنها قنبلة وزنها خمسمائة طن، يائيكو أين أنتِ؟ لقد سقطَت قنبلة وزنها خمسمائة طن.» وبرزَت يائيكو مكفهرة الوجه خائفة ممزقة الثياب والدم ينزف من جروحها، برزَت من تحت حطام المنزل تتحسس كوعها، حين رأيتُها هدأ روعي وحاولتُ أن أهدِّئ من روعها، فقلتُ: «سيصبح كل شيء على ما يُرام، كل ما علينا أن نفعله الآن أن نخرج من هنا بأسرع ما يمكن.» فأومأَت برأسها وأشرتُ لها أن تتبعني. وكان الطريق الأقصَر إلى الشارع يمر عبْر باب منزلنا الخلفي، ولذلك اضطُررنا أن نمر عبْر المنزل، نجري ونتعثر ونسقط ثم نجري مرةً أخرى حتى بلغْنا الطريق. وأثناء فرارنا أحسستُ أنني أدوس شيئًا ممددًا في الشارع، وحين نظرتُ إلى موضع قدمي اكتشفتُ أنني دستُ على رأس إنسان فصحتُ بجنون: «عفوًا يا سيدي عفوًا!» ولكنني لم أتلقَّ إجابة، كان الرجل ميتًا، وكانت الجثة لضابطٍ شاب سُحِق جسده تحت بوابةٍ حديدية ضخمة.

وقفْنا في الشارع فزِعَين خائفَين حتى شاهدْنا المنزل المقابل لبيتنا يتداعى دفعةً واحدة وتتناثر أنقاضه عند أقدامنا، وبدأ بيتنا يتهاوى بدَوره، وخلال دقيقةٍ واحدة انهار أيضًا؛ تاركًا سحابة من التراب وأخذَت بقية المنازل تتقوض وتتساقط ثم اشتعلَت النيران وزاد من لهيبها اشتداد الرياح التي بدأَت تهبُّ بقوة.

وأخيرًا تبادر إلى أذهاننا ألَّا نظل في الطريق هكذا، وأن نواصل السير حتى المستشفى، فقد فقدْنا منزلنا وأصبحْنا نعاني من الجراح، ونحتاج إلى العلاج، وفوق كل ذلك فإن واجبي يحتم عليَّ أن أكون بين الذين يعملون معي في المستشفى، ولكن هذا الخاطر قطعه إحساس بما أنا فيه. تُرى كيف أستطيع أن أؤدي واجبي وأنا مصاب إلى هذا الحد؟!

وبدأْنا السير نحو المستشفى، ولكني توقفتُ بعد أن قطعتُ نحو عشرين أو ثلاثين خطوة، فقد بدأَت أنفاسي تتقطع، وأخذَت دقَّات قلبي تخفت، وعجزَت قدماي عن حملي، وتملَّكني إحساسٌ شديد بالعطش، فرجوتُ يائيكو أن تبحث لي عن ماء، ولكنها لم تجد ماءً حولنا، واسترجعتُ قواي بعد قليل وبدأنا نسير من جديد.

كنتُ لا أزال عاريًا تمامًا، ولكني لم أشعر على الرغم من ذلك بالخجل، وأزعجني أن أكتشف أن التواضع قد زايلني، فعند منعطَف من الطريق، وجدْنا جنديًّا يقف في الشارع مذهولًا لا يدري ماذا يفعل، وكانت معه منشفةٌ كبيرة فوق كتفه، فطلبتُ منه أن يعطيني إياها لأستر بها عورتي، فناولَني الجندي المنشقة دون أن ينطق ببنت شفة، وبعد ذلك بقليل فقدتُ هذه المنشفة فخلعَت زوجتي يائيكو مريلة المطبخ ولفَّتها حول فخذي.

كنا نتجه نحو المستشفى ببطء شديد حتى تيبسَت قدماي وعجزتا تمامًا عن حملي، وفقدتُ القوة والرغبة في متابعة السير، فطلبتُ من زوجتي التي كانت إصاباتها أيضًا بالغة أن تذهب إلى المستشفى وحدها فرفضَت، ولكن لم يكن أمامنا خيار آخر، فذهبَت وحدها عساها تجد هناك من يستطيع حملي إلى المستشفى. نظرَت يائيكو إلى وجهي ثم أخذَت تجري نحو المستشفى دون أن تنبس بكلمةٍ واحدة، نظرَت إليَّ أثناء جريها مرةً واحدة ولوحَت بيدها ولكنها اختفَت تمامًا وسط الظلام، فقد كان الجو مظلمًا عندئذٍ، وبعد أن ذهبَت زوجتي شملني إحساسٌ شديد بالوحدة.

ويبدو أنني فقدتُ الوعي بعد ذلك؛ لأن كل ما أذكره أنه بينما كنتُ أرقد في الطريق اكتشفتُ أن جرح فخذي عاد ينزف بغزارة، وضغطتُ بيدي على مكان الجرح فتوقَّف النزيف وأحسستُ ببعض التحسن.

تُرى هل أستطيع المُضي في طريقي؟

وحاولتُ السير، كان ذلك بالنسبة لي بمثابة كابوسٍ مزعج، تختلط فيه مناظر جراحي مع الظلام مع الطريق، كان تحرُّكي بطيئًا، أمَّا ذهني فكان يعمل بسرعةٍ فائقة.

بعد وقتٍ وصلتُ إلى ساحةٍ واسعة، كانت المنازل قد أُزيلَت منها لفتح طريق لسيارات الإطفاء، وخلال الضوء الخافت استطعتُ أن أتبين ملامح مبنى مصلحة المواصلات حيث يقع المستشفى بجواره، فارتفعَت معنوياتي بعدما تأكدتُ أنه من السهل العثور عليَّ، حتى إذا قُدِّر لي أن أموت فلا بد أن يعثروا على جثتي.

وتوقفتُ لأنال قسطًا من الراحة، وأخذَت الأشياء من حولي تتضح رويدًا رويدًا، كانت أشباح الناس تبدو لناظري؛ بعضهم يسيرون كالأشباح، وبعضهم الآخر يتأوهون من الألم وقد رفعوا أذرعهم بعيدًا عن أجسامهم. وقد تدلَّت سواعدهم وتأرجحَت أكفُّهم، فبدَوا مثل خيال المآتة، فاحترتُ في تعليل سلوكهم هذا، حتى تبينتُ فجأةً أن أجسادهم محترقة، وأنهم يرفعون أذرعهم ليتجنبوا آلام احتكاك الجروح مع بعضها البعض، وبدَت أمامي سيدةٌ عارية تمامًا تحمل طفلًا عاريًا، فغضضتُ البصر وقلتُ لنفسي: «ربما كانا في الحمام العام عندما وقع الحادث.» ولكنني رأيتُ بعد ذلك رجلًا عاريًا، كما أنني كنتُ عاريًا، فأيقنتُ أن ثمة شيئًا غير عادي أدى إلى فقْد الناس لثيابهم. وإلى جانبي كانت هناك سيدة عجوز ترقد وقد انطبع على وجهها تعبير الألم دون أن يصدر عنها أي صوت. كان الجميع يشتركون في شيءٍ واحد هو الصمت المطبق.

وكل قادر على الحركة كان يتجه نحو المستشفى، فانضممتُ إلى هذه المسيرة الحزينة عندما استعدتُ بعض قواي حتى بلغتُ أخيرًا بوابة مصلحة المواصلات.

أحاطت بي الوجوه المألوفة، فقد كان هناك السيد إيجوتشي، والسيد يوشي هيرو وصديقي القديم السيد سيرا رئيس مكتب العمل، الذين هبُّوا لنجدتي وقد اختفَت سِمات البشر من وجوههم، تاركةً مكانها لتعابير الحزن والانزعاج عندما رأَوني مصابًا، ولكني كنتُ سعيدًا برؤيتهم وبمشاركتهم المسئوليات الملقاة على عاتقهم.

لم نضيِّع وقتًا في تبادُل التحيات فمدَّدوني على محفة وحملوني إلى داخل مبنى مصلحة المواصلات، وتجاهلوا ادعائي القدرة على المشي، وبدأتُ أعلم أن المستشفى قد امتلأ بالمصابين، مما دفعهم إلى استخدام مبنى المصلحة كمستشفى للطوارئ، واكتظَّت الحجرات والممرات بالمصابين الذين تعرفتُ على بعضهم؛ فقد كانوا من جيراني، وبدا لي أن جميع سكان الحي موجودون في هذا المكان.

دفعني أصدقائي عبْر إحدى النوافذ إلى حجرة الفراش التي كانت قد تحولَت إلى نقطة إسعاف، وكانت الحجرة تعجُّ بالفوضى، فقد سقط ملاط حوائطها، وتحطم أثاثها وملأت الأنقاض أرضيتها، وتشققَت حوائطها، وبدَت نافذتها المصنوعة من الحديد الثقيل تتأرجح وكأنها على وشك السقوط، فعجبتُ كيف يصبح هذا المكان ملائمًا لمداواة جراح المصابين.

وكان من المدهش أن يكون أول من تقع عليه عيني ممرضتي الخاصة الآنسة كادوا، والسيد ميزوجوتشي، والسيدة سائيكي العجوز، وأخذَت الآنسة كادو تفحص جروحي دون أن تنطق بكلمةٍ واحدة، لم يتكلم أحد، وطلبتُ منهم قميصًا وبيجامة فأحضروهما لي دون كلام، لماذا يلتزم كل الناس بالصمت؟

فرغت الآنسة كادو من فحص جراحي، وفجأةً أحسستُ بالنار تشتعل في صدري؛ فقد بدأَت تضع صبغة اليود على الجراح؛ فلم يكن هناك دواءٌ آخر باستطاعته أن يوقف النزيف؛ ولذلك كان عليَّ أن أتحمل آلام صبغة اليود، وحاولتُ أن أتغلب على الألم بالنظر عبر النافذة.

كان المستشفى يقع مقابل المبنى ويبدو لي طابقه الثالث وسقفه بوضوح، وبينما كنتُ أنظر إلى مبنى المستشفى لمحتُ شيئًا أنساني آلام جروحي، فقد كان الدخان يتصاعد من الطاقة الموجودة بالسقف، لقد كان المستشفى يحترق فصحتُ: «النار … النار … النار … المستشفى يحترق.» ونظر أصدقائي عبر النافذة ليجدوا أن ملاحظتي صحيحة، فقد كان المستشفى يحترق بالفعل، ودقَّت أجراس الإنذار، وأخذ الناس يتصايحون هنا وهناك، وكان صوت السيد سيرا، موظف مكتب العمل يعلو فوق الجميع، ويبدو أن صوته هو أول الأصوات التي سمعتُها في ذلك اليوم، وتلاشى حاجز الصمت، وتحول مجتمعنا الصغير إلى خلية للشياطين.

تذكرت أن الدكتور ساسادا رئيس قسم الأطفال عادني وواساني، ولكني لم أستطع الاستماع إليه بوضوح؛ فقد كانت أذني صماء، سمعتُ صوت الدكتور هينوئي ثم صوت الدكتور كوياما، كان كلاهما يُصدران الأوامر بإخلاء المستشفى، وبدَت أصواتهم في أذني مثل صيحاتٍ قوية تستحث من يتقاعسون عن العمل.

أضاءت ألسنة اللهب المتصاعدة من المستشفى السماء، وأصبح مبنى المصلحة ذاته مهددًا بالحريق، فأصدر السيد سيرا أوامره بإخلاء المبنى، ونقلوا محفتي إلى طرف الحديقة، حيث وضعوها تحت شجرة كريز قديمة، وصفُّوا بقية المرضى في الحديقة حتى اكتظَّت المنطقة وأصبح لا يوجد فيها مكان إلا لمن اتسمَت حالاتهم بالخطورة. لم يتكلم أحد، وكل ما كان يُسمَع وسط هذا الصمت المطبق هو أنين الكثير من الناس الذين أخذوا يتأوهون من الألم، ويجزعون من الخوف ينتظرون ما قد يحدث من الخطْب.

امتلأَت السماء بالدخان الأسود وبالشظايا المشتعلة، وارتفعَت ألسنة اللهب، وتحول الجو إلى جحيم؛ نتيجة هبوب الرياح التي كانت من القوة بحيث أطاحت بصفائح الصاج التي كانت تغطي بعض الأسطح، فكانت النيران تزمجر وتدور في كل اتجاه، وتطايرت قِطع الخشب المشتعل وأخذَت تتساقط من حولنا، وبينما كنتُ أحاول أن أبتعد عن النيران سقطَت جذوة ملتهبة على ركبتي، وكان ذلك كل ما استطعتُ عمله لتفادي الموت حرقًا.

وبدأ مبنى المصلحة يحترق، وأخذَت النوافذ تتحول إلى مربعات من اللهب، الواحدة تلو الأخرى، حتى غطَّت النيران المبنى كله، وأخذ يعلو صوت طقطقة الحريق، وتحول المنظر إلى جحيمٍ كامل.

تساقطَت النوافذ من حولنا، لتقذف بالتراب والرماد في أعيننا وأنوفنا، وجفَّت حلوقنا بسبب الدخان الذي ملأ رئتَينا، لم يعُد باستطاعتنا التحكم في السعال، وكان من الممكن نقلُنا من المكان، لولا أن بعض الثكنات الخشبية العسكرية بجوارنا بدأَت في الاشتعال وتحولَت إلى أتون ملتهب.

أصبحَت الحرارة تفوق قدرتنا على الاحتمال، ولم يكن أمامنا مفر من مغادرة الحديقة، فنجا أولئك الذين استطاعوا الفرار، واحترق من عجزوا عن الفرار. ولولا أصدقائي الأعزاء لكنتُ هالكًا لا محالة، ولكنهم أنقذوني مرةً أخرى، وحملوا محفتي إلى البوابة الرئيسة على الجانب الآخر من مبنى المصلحة، حيث تجمعَت مجموعة من الناس وجدتُ من بينهم زوجتي، ثم لحق بنا دكتور ساسادا والآنسة كادو.

شبَّت النيران في كل مكان حولنا نتيجة هبوب عاصفةٍ زادت النار لهيبًا وجعلتها تنتقل من مبنى إلى آخر، وما هي لحظة حتى كانت النيران تحيط بالمكان من كل جانب، وتحولَت الأرض المقابلة لمبنى مصلحة المواصلات إلى واحة وسط صحراء من النيران، وعندما أخذَت ألسنة اللهب تقترب منا ازدادت حرارة المكان، وإذا لم يكن بيننا من يقوم بتغطية أجسادنا بالماء؛ لما بقي منا أحد على قيد الحياة.

بدأتُ أفقد الوعي بسبب الحرارة الفظيعة، وكاد قلبي يتوقف، واختلطَت المناظر من حولي، فأخذتُ أتمتم بصوتٍ خافت من شدة الألم: «لقد شُوِي جسدي.»

وتناهت إلى مسامعي أصوات تبدو وكأنها قادمة من بعيد، ففتحتُ عيني لأجد الدكتور ساسادا يجس نبضي، تُرى ماذا حدث؟ حقنَتني الآنسة كادوا وبدأتُ أستعيد قواي تدريجيًّا، يبدو أنني كنتُ في حالة إغماء.

وأخذ المطر يتساقط، وكانت قطراته كبيرة بشكلٍ ملحوظ، وظن البعض أنها عاصفةٌ مرعدة هبَّت لتطفئ النيران، ولكن ذلك المطر كان متقلِّبًا فلم يستمر طويلًا حتى أمسكَت السماء عن الجود به.

تحول الطابق الأول بمبنى المصلحة إلى كتلة من اللهب وبدأَت ألسنة النار تتجه نحو واحتنا الصغيرة بجوار البوابة، فأدركتُ أنه لا حيلة لنا لتفادي هذه النيران.

وسقط بجوارنا إطارٌ حديدي خلعَته النيران من موضعه بالبناء، واتجهَت كرةٌ نارية نحوي واستقرَّت بجواري فأمسكَت النار بثيابي، ومرةً أخرى أغرقني أصدقائي بالماء ولبثتُ بعض الوقت لا أدري ما يدور حولي.

وكل ما أذكره أنني رأيتُ الدكتور هينوئي الذي حركني من مكاني فاشتعل جسدي بالألم نتيجة هذه الحركة.

وما أذكره أيضًا منظر مساحةٍ واسعة حولي، يبدو أن النيران قد خمدت وأنني ما زلت أعيش، لقد نجح أصدقائي في إنقاذي مرةً أخرى، وأفقتُ لأسمع صوت السيدة سائيكي العجوز الذي لا يمكن أن تخطئه الأذن تقول: «ابتهج يا دكتور سيصبح كل شيء على ما يُرام، لقد حُرِق الجانب الشمالي من المدينة بأكمله؛ ولذلك لن نخشى أن تتهددنا النيران مرةً أخرى.»

وكانت الطريقة التي تواسيني بها السيدة العجوز تجعلني أحس وكأنني ابنها، وكانت فعلًا على حق، فقد احترق الجانب الشمالي من المدينة بأكمله، وكانت السماء لا تزال داكنة، ولكني لا أستطيع أن أتبين ما إذا كان الوقت مساء أو ظهرًا، أو أن اليوم قد انقضى، فقد فقدَ الزمن معناه بالنسبة لي، وكل ما مر بي من ظروف يتزاحم أمام رأسي بشكلٍ رتيب رتابة الأبدية.

كان الدخان لا زال يتصاعد على الطابق الثاني من المستشفى، ولكن النار خمدَت فلم يكن ثمة شيء قابل للحريق لم تأتِ عليه النيران، ولكني علمتُ فيما بعد أنه قد تم إنقاذ محتويات الدور الأرضي من الدمار بفضل جهود الدكتور كوياما والدكتور هينوئي.

أما الشوارع فكانت خالية إلا من الموتى، وبدا بعضهم وقد جمَّد الموت حركته وهو في موضع الفرار، بينما البعض الآخر يفترشون الأرض وكأن ماردًا قذف بهم من علوٍّ شاهق.

أما هيروشيما فلم تعد مدينة، لقد تحولَت إلى ساحةٍ واسعة محترقة، واستوى كل شيء على الأرض شرقًا وغربًا، وبدَت الجبال التي تطل على المدينة أكثر قربًا من ذي قبل، وأخذَت تلال «أوشيتا» وغابات «نيجتسو» تبدو واضحة من خلال الدخان تشبه موقع الأنف والعيون من الوجه، وأصبحَت هيروشيما صغيرة المساحة بعد أن اختفَت منازلها.

تغيَّر اتجاه الريح وامتلأَت السماء بسحب الدخان، وفجأةً سمعتُ شخصًا يصيح: «طائرات … طائرات العدو!»

هل كان من الممكن أن يحدث هذا حقًّا؟ هل تركَت القنبلة التي قُذِفَت بها المدينة شيئًا لمثل هذه الغارة الجوية الجديدة؟ وقطع أفكاري صوتٌ أليف لدَي، كانت إحدى الممرضات تنادي الدكتور كاتسوبي، وصاحت السيدة سائيكي: «إنه الدكتور كاتسوبي، إنه بعينه.» وبدَت البهجة في نبرات صوتها وهي تستطرد قائلة: «جاء الدكتور كاتسوبي.»

كان الدكتور كاتسوبي هو كبير الجرَّاحين بالمستشفى، ولكن يبدو أنه لم يدْرِ بوجودنا، فقد كان المصابون يتزاحمون عليه، ونسينا كل شيء عن طائرات العدو، فقد كانت سعادتنا بالغة حين رأينا الدكتور كاتسوبي سليمًا معافى بيننا.

حملني أصدقائي إلى المستشفى، وكانت المسافة بين موضعي وبين المستشفى لا تزيد على مائة متر، ولكنها كانت كافية لتجعل قلبي يكاد يتوقف، وتزيد إحساسي بالألم ثم تصيبني بالإغماء، إنني أذكر المنضدة الصلبة التي كنتُ أنام عليها، والألم الشديد الذي أحسستُ به عندما خاط الدكتور كاتسوبي شفتي السفلى، ولكني لا أذكر شيئًا عن الجروح التي جاوز عددها الأربعين، والتي قام الدكتور كاتسوبي بخياطتها تلك اللية، ثم نقلوني إلى غرفةٍ مجاورة، وأذكر أنني أحسستُ بالراحة وبالرغبة في النوم، وكانت الشمس تغرب مخلفةً وراءها سماءً داكنة محمرة، فقد كانت ألسنة اللهب الحمراء تتصاعد من أحياء المدينة المحترقة إلى عنان السماء، وأخذتُ أنظر إلى السماء حتى غلبني النوم.

٧ أغسطس ١٩٤٥م

يبدو أنني نمتُ نومًا عميقًا؛ لأنه عندما فتحتُ عيوني كانت الشمس ساطعة تمامًا والجو حارًّا، فلم تكن هناك نوافذ أو ستائر تحجب الضوء، وأصمَّت أنَّات المرضى أذني. وكان كل شيء غارقًا في الفوضى، فقد غطَّت الأنقاض الأرض، وكانت الحوائط والسقوف محترقة، وبدَت وكأنها مكسوة ببذور السمسم تبدو عليها آثار الزجاج المتطاير وأُطر حديد النوافذ المتطاير أيضًا. وبجوار النافذة كان هناك دولاب للأدوات الطبية مقلوبٌ رأسًا على عقب، وبجواره مقعدٌ محطَّم خاص بعيادة الأنف والأذن والحنجرة، وقد سقط فوقه المصباح الكهربائي الذي كان يُستخدَم في الكشف على المرضى. وخلاصة الأمر أن العين لم تكن تقع على شيء سليم أو مرتَّب.

وكان الدكتور ساسادا الذي تحمَّل عبء رعايتي بالأمس يرقد على يساري، وظننتُ أنه قد سلِم من الأذى، ولكني اكتشفتُ الآن أنه أُصيب بحروقٍ بالغة، كانت الضمادات حول رأسه ويديه، وقد تورَّم وجهه الذي كان يحمل الكثير من براءة الطفولة؛ حتى إنه كان يصعب عليَّ أن أتعرف عليه إلا من صوته. أما زوجتي فكانت ترقد على يميني وقد غطى وجهها مرهمٌ أبيض جعلها تبدو كالشبح. وكان ذراعها الأيمن معلَّقًا في رقبتها. أما الآنسة كادو فقد أُصيبَت بجراحٍ طفيفة، وكانت ترقد بيني وبين زوجتي وتولَّت تمريضنا طوال الليل.

وحين لاحظَت زوجتي أنني استيقظتُ من نومي قالت لي: «يبدو أنك عانيتَ الكثير ليلة أمس.» فوافقَتها الآنسة كادو على ذلك وقالت: «إنني لا أذكر عدد المرات التي قمتُ فيها بفحص تنفسك.»

وشاهدتُ زوجة الدكتور فوجي تجلس بلا حراك على أريكة بجوار الحائط، كان وجهها يعبِّر عن الجزع واليأس، فالتفتُّ إلى الآنسة كادو وسألتُها عما حدث، فأجابت بأن السيدة فوجي لم تُصَب إصابةً بالغة ولكن طفلها مات خلال الليل، فسألتُها عن الدكتور فوجي فأخبرَتني أن ابنتهم الكبرى فُقِدَت فخرج في الليل يبحث عنها ولم يعد حتى الساعة.

جاء الدكتور كوياما ليستطلع أحوالنا، ولكن منظره وقد أحاطت برأسه الضمادات وتعلق ذراعه برقبته أثار أشجاني وجعل الدموع تطفر من عيني، فقد ظل يعمل طوال الليل، ولا يزال حتى الآن يعتني بالآخرين دون أن يهتم بنفسه.

كان الدكتور كاتسوبي جرَّاحنا وممرضته الآنسة تاكاءو يقِفان إلى جانب الدكتور كوياما الذي أصبح الآن مديرًا للمستشفى بالنيابة، وكان يبدو على الجميع الإعياء والتعب وبدَت ثيابهم البيضاء متسخة وملطخة بالدماء، وعلمتُ منهم أن السيد إيجوتشي سائقنا استطاع تشغيل مصابيح الطوارئ مستخدمًا في ذلك بطارية السيارة ومصابيحها الأمامية، واستطاعوا بذلك أن يُجروا العديد من العمليات الجراحية حتى خفتَت الإضاءة قبَيل طلوع النهار، وحين لاحظ الدكتور كوياما حرصي على الاطمئنان على سَير العمل قال لي: «يا دكتور كل شيء على ما يُرام.»

وفحصني الدكتور كاتسوبي، وبعد أن اطمأن على النبض قال لي: «لقد كانت جراحك متعددة، ولكن لحُسن الحظ كانت جميعها بعيدة عن الأماكن الحساسة بالجسم.» وشرح لي حالة الجراح التي أصابتني والطريقة التي عُولجَت بها ودهشتُ حين علمتُ أن كتفي كان مجروحًا جرحًا بالغًا، ولكني ارتحتُ كثيرًا لتفاؤله من إمكانية شفائي.

وسألتُ الدكتور كوياما عن عدد المرضى الموجودين بالمستشفى، فأجاب بأنهم يبلغون نحو مائة وخمسين مصابًا، وأن عدد من تُوفُّوا بالأمس كان محدودًا، ولكن هناك الكثير من المصابين لدرجة يصعب معها أن يجد المرء لقدمه موضعًا، وهم يفترشون الأرض في كل مكان حتى في دورات المياه. واستطرد الدكتور كاتسوبي قائلًا: «إن هناك نحو ستة يرقدون تحت السلم، ونحو خمسين يرقدون في حديقة المستشفى الأمامية.» وتناقَش الجميع في طريقة تنظيم المستشفى، أو على الأقل إخلاء الممرات من المرضى.

لقد أصبحَ المستشفى خلال ليلةٍ واحدة مكدَّسًا بالمرضى الذين ملَئوا المكان، وقد أُصيب غالبيتهم بحروقٍ بالغة، وقليل منهم كانوا يعانون جراحًا خطيرة، وكان الكثير من هؤلاء المصابين في وسط المدينة عندما حدث القصف فلم تستطيع أقدامهم أن تحملهم إلا إلى مستشفى المواصلات، أما أولئك الذين كانوا يعيشون بالقرب من موقع المستشفى، فقد قصدوه من أجل العلاج أو بحثًا عن مأوى؛ لأنه كان المبنى الوحيد في المنطقة الذي ظل قائمًا بينما تحطمَت جميع المساكن المحيطة به، فجاءوا إلى هذا الحطام مما أدى إلى ازدحام المبنى بالناس، ولم يكن ثمة صديق بجوارهم يقوم على خدمتهم أو يعد لهم طعامهم،١ وبذلك كان كل شيء في المستشفى في حالة فوضى، وزاد الحالَ سوءًا انتشار القيء والإسهال بين المرضى، كما أن أولئك الذين لم يكن في استطاعتهم المشي كانوا يتبولون ويتبرزون في أماكنهم، أما أولئك الذين كان باستطاعتهم المشي فالتمسوا موضعًا لقضاء حاجتهم خارج المبنى. ولذلك كان الأشخاص الذين يدخلون المستشفى أو يتركونه يدوسون الأوساخ التي انتشرَت في أرجاء المبنى، وخلال تلك الليلة امتلأ المدخل الأمامي للمستشفى بالبراز، ولم يكن باستطاعة هيئة التمريض مواجهة هذه الحالة لعدم توافر القصريات التي يمكن استخدامها في الفِراش، وحتى إذا وُجدَت فلم يكن هناك من يحملها إلى المرضى.

كان التخلص من جثث الموتى أسهل كثيرًا من عملية تنظيف الحجرات والممرات من البراز والأوساخ والقيء الذي كان من الصعوبة بمكان.

أما أولئك الذين أصابهم الحريق، فقد عانَوا الأمرَّين لأن جلودهم كانت مسلوخة، وتعرضَت حروقهم لحرارة الجو وللتلوث بالأقذار، ولكن كانت هذه هي الظروف التي على المرضى أن يعيشوا فيها، لقد كانت الحال على درجةٍ بالغة من السوء، ولكننا لم نكن نملك وسيلة لإنقاذ الموقف.

كان هذا الوضع الذي علمتُه من خلال حديثي مع أولئك الزملاء بينما كنتُ أرقد مريضًا، وهو أمر ليس من السهل مواجهته، فسألتُ الدكتور كاتسوبي: «متى أستطيع أن أقوم من مرقدي لعلِّي أقدر على معاونتكم.» فأجاب: «لن يكون ذلك قبل فك خياطة جروحك، ولن يتم ذلك قبل أسبوع على الأقل.» ثم تركني الجميع وانصرفوا قبل أن أنبس بكلمةٍ واحدة، ولكنهم لم يتركوني لأفكاري، فقد كان العاملون بالمستشفى يأتون الواحد تلو الآخر لرؤيتي، يُبدون اهتمامهم بجراحي ويتمنَّون لي عاجل الشفاء، وقد تأثَّرتُ لرؤية بعض هؤلاء الزوار وقد نالهم من الإصابات قدْرٌ لا يكاد يقل عما نالني، ولكنهم تحمَّلوا مشقة الحضور لرؤيتي، فجاء الدكتور نيشي مورا رئيس الجمعية الطبية بأوكاياما من بلدته التي تقع على بعد ٩٠ ميلًا من هيروشيما ليراني، فقد كان زميلًا لي في كلية الطب، كما كان رئيس فريق التجديف بالكلية الذي كنت عضوًا فيه، وما كاد يراني حتى اغرورقَت عيناه بالدموع ثم قال: «إنني أراك بخير يا صديقي الحميم، يا لها من مفاجأةٍ سارَّة! كيف حالك؟» ودون أن ينتظر إجابة مني استطرد قائلًا: «لقد سمعْنا ليلة الأمس أن هيروشيما هُوجمَت بسلاحٍ جديد، وأن الدمار كان محدودًا، هكذا قالوا لنا ولكني رأيتُ أن أحضر بنفسي لأتأكد مما حدث، فقد يكون باستطاعتي مدُّكم بما تحتاجونه من الأطباء، فركبتُ سيارة نقل وجئتُ إلى هنا. يا لفظاعة ما شاهدْناه عندما وصلْنا! هل أنت متأكد أنك على ما يُرام؟» ومرةً أخرى قبل أن أُجيب استطرد يقص عليَّ المناظر التي تحطم القلب والتي وقعَت عليها عيناه عندما دخلَت سيارة النقل المدينة، وكانت هذه أول التفاصيل التي وصلَت إلى مسامعنا جميعًا ولذلك استمعْنا إليه بانتباه.

وكل ما كنتُ أفكر فيه — أثناء الاستماع إليه — المخاوف التي قد تُساور أمي العجوز التي كانت تعيش في الريف بالقرب من أوكاياما، فلعلَّها تُصلِّي الآن من أجلنا، وما كاد الدكتور نيشي مورا يفرغ من روايته حتى طلبتُ منه أن يتفضل بطمأنة أمي وكذلك أختي التي تعيش في أوكاياما، وإبلاغهما أنني وزوجتي بخير. فأكد لي أنه لا بد فاعل ذلك، ووعدني قبل أن ينصرف بإعداد فريق من الأطباء والممرضات لمعاونتنا بمجرد الفراغ من جمعهم.

كما جاء الدكتور تابوتشي صديقي القديم من يوشيتا، وكانت الحروق قد أصابت وجهه ويديه إصاباتٍ طفيفة، وبعد تبادل التحيات سألتُه عما إذا كان يعرف حقيقة ما حدث، فقال إنه كان في الفناء الخلفي لمنزله يقلِّم بعض أغصان الأشجار عندما حدث القصف، وأن أول ما لاحظه ضوءٌ شديد أبيض اللون يخطف الأبصار، ثم موجة من الحرارة الهائلة التي أصابت خدَّيه، ثم حدث انفجارٌ رهيب جعله يطيح أرضًا، ولكنه لحُسن الحظ لم يُصَب بسوء، كما أن زوجته نجَت من الإصابة، أما بيته فقد انهار، كما تداعت المنازل الأخرى في المنطقة من حوله، ولكنهم رغم ذلك كانوا سعداء بالنجاة من الموت، كما أن ابنه ريوجي نجا بدَوره، وعرض عليَّ الدكتور تابوتشي أن ذهب معه إلى بيته قائلًا: «إن منزلي لم يعد حقًّا صالحًا للسكنى، ولكنه أحسن من هنا بكثير.» وكان من الصعب عليَّ أن أقبل عرضه الكريم، فحاولتُ الاعتذار بطريقةٍ لا تجرح شعوره قائلًا: «يا دكتور تابوتشي، أشكرك على هذا العرض الكريم، ولكن الدكتور كاتسوبي حذرني من الحركة، وأوصاني أن أظل على هذا الوضع حتى تلتئم جراحي.» فقبِل الدكتور تابوتشي اعتذاري بتردد، ثم تهيأ للانصراف فقلتُ له: «لا تذهب قبل أن تخبرنا بما تعرفه عن تفاصيل ما حدث بالأمس.»

قال الدكتور تابوتشي: «لقد كان منظرًا مخيفًا، كان المئات من الجرحى الذين يحاولون الهرب إلى التلال يمرُّون أمام بيتنا، وكان منظرهم لا تطيق العين رؤيته، فقد احترقَت وجوههم وأيديهم، وتورمَت وسُلِخَت مساحات واسعة من جلودهم، وتدلَّت من أجسامهم، وكانوا يسيرون كصفٍّ طويل من النمل، وطوال الليل استمر هذا الصف بلا انقطاع يمر من أمام منزلنا، ولكنه توقَّف في الصباح فوجدتُهم يتراصُّون على جانبَي الطريق بصورةٍ جعلَت من الصعب على المرء أن يسير دون أن يخطو فوقهم.»

كنتُ أستمع إلى رواية الدكتور تابوتشي مغمض العينين، بينما كانت تدور في رأسي صورة المَشاهد الفظيعة التي يحدِّثنا عنها؛ ولذلك لم أتمكَّن من رؤية السيد كاتسوتاني عندما جاء، ولم أتبين صوته إلا عندما سمعتُ شخصًا يعطس فنظرتُ حولي لأجد هذا الصديق القديم الذي عرفتُه منذ سنواتٍ طويلة، وأعرف أنه عاطفي، وما كدتُ أراه منهارًا حتى اغرورقَت عيناي بالدموع، لقد جاء من جي جوزن٢ ليراني، وحين شاهدَني على هذه الحال غلبَته عاطفته فانهار تمامًا.
التفَت السيد كاتسوتاني إلى الدكتور ساسادا وقال له بصوتٍ مهموم: «كان دخولي هيروشيما بالأمس أمرًا متعذرًا، وإلا لَما توانيتُ عن الحضور، وحتى اليوم لا زالت الحرائق مشتعلة في بعض الأماكن، لقد تغيرَت المدينة تمامًا، وحين بلغتُ جسر ميساسا٣ صباح اليوم وجدتُ كل شيء قد تبدل، لم يبقَ في المنطقة كلها مبنًى قائمًا سوى هذا المبنى الذي كان باستطاعتي رؤيته من بعيد.»

توقَّف مستر كاتسوتاني عن الحديث ليلتقط أنفاسه ثم استطرد قائلًا: «لقد سِرتُ بجوار سكة الترام لأصِل إلى هنا، ولكن الطريق كانت مملوءة بأسلاك الكهرباء وعربات الترام المحطَّمة، وكان القتلى والجرحى يرقدون هنا وهناك، وما كدتُ أصِل إلى الجسر حتى رأيتُ شيئًا فظيعًا لا يمكن تصديقه؛ رأيتُ رجلًا يجلس فوق درَّاجته وقد تفحَّم جسده وكان على ما يبدو يلتمس سبيلًا للفرار حين وقعَت الواقعة، إنه من الصعب أن نصدق أن مثل هذه الواقعة قد حدثَت!» وكرَّر هذه العبارة مرَّتَين أو ثلاث مرات، وكأنه يريد أن يُقنع نفسه بصحة ما رآه، ثم استطرد يقول: «يبدو أن معظم من ماتوا كانوا إما فوق الجسر أو تحته، فقد نزل كثيرون إلى مجرى النهر يلتمسون شربة ماء ثم ماتوا هناك، وقد رأيتُ بعينَي رأسي بعض الأحياء لا زالوا يقفون في مجرى النهر بين الجثث الطافية، ولا بد أن يكون المئات بل الألوف ممن التمسوا سبيلًا للفرار من الحريق باللجوء إلى النهر قد غرقوا، وكان منظر الجنود المصابين لا يقل بشاعة عن منظر أولئك الذين طفَت جثثهم وأجسادهم فوق مياه النهر، لقد رأيتُ الكثيرين منهم وقد احترقَت ظهورهم من أكتافهم حتى أعجازهم، وسُلخَت جلودهم، وبدا لحمهم لزجًا متهتكًا، ويبدو أنهم كانوا يرتدون خوذاتهم العسكرية لأن شعرهم لم يحترق، أما ملامحهم فقد اختلطَت جميعًا، لم تكن لهم وجوه فقد احترقَت عيونهم وأنوفهم وأفواههم واختفَت تمامًا من وجوههم، كذلك احترقَت آذانهم حتى أصبح من الصعب التمييز بين وجه الرجل وقفاه، وقد سألني أحد الجنود الذين احترقَت وجوهم وبرزَت أسنانهم أن أعطيه شربة ماء، ولم يكن باستطاعتي مساعدته في الحصول على الماء، كل ما استطعتُ صُنعه الصلاة من أجله، ولم أعُد أسمع صوته؛ فقد كانت رغبته في الماء هي آخر كلمةٍ نطق بها قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، إن الطريقة التي احترقوا بها تجعلني أتعجب، إذ يبدو أنهم قد فقدوا بزَّاتهم تمامًا.»

كان علينا أن نتيح الفرصة للسيد كاتسوتاني ليلتقط أنفاسه وهو يقص علينا هذه المشاهد الفظيعة، ولكن أحدًا لم يطلب منه أن يتوقف عن الحديث، وحين كان يقص علينا ما شاهده، تجمع البعض حولنا وجلسوا يستمعون إليه، وسأله أحدهم عما فعله عندما سقطَت القنبلة فقال: «كنتُ قد فرغتُ لتوِّي من تناوُل طعام الإفطار، وشرعتُ في إشعال سيجارة، عندما رأيتُ فجأةً بريق ضوءٍ أبيض، ثم سمعتُ صوت انفجارٍ رهيب، فهرعتُ إلى مأوى الوقاية من الغارات الجوية، ودفعتُ بزوجتي أمامي، وتأكدتُ أن ثمة شيئًا غير طبيعي قد حدث في هيروشيما، فصعدتُ بعد قليل فوق سطح البيت، ويمَّمتُ وجهي شطر هيروشيما لأرقب ما حدث، فرأيتُ سحابةً سوداء كبيرة تبدو مثل سحابة الصيف التي تنذر بالمطر الغزير، فأيقنتُ أن ثمة حادثًا خطيرًا قد وقع في المدينة، فهرعتُ إلى النقطة العسكرية الموجودة في هاتسوكايتشي،٤ وأخبرتُ الضابط بما رأيتُ، ورجوتُه أن يرسل بعض رجاله لمساعدة هيروشيما، ولكنه لم يأخذ الأمر مأخذ الجد، حملق في وجهي لحظة، وحملَت نظراته معنى التهديد، أتدرون ماذا قال لي؟ لقد قال: لم يحدث ما يدعو إلى القلق، إن قنبلةً أو قنبلتَين لن تُلحق الضرر بهيروشيما. كان من العبث أن أستمر في الحديث مع هذا الأحمق، لقد كنتُ ضابطًا مرموقًا بفرع جمعية الضباط السابقين بإقليمي، ولكني لم أدرِ ماذا أفعل، وقد ذهب الفلاحون الذين كانوا تحت إمرتي إلى الخدمة في جزيرة مياجيما، وبحثتُ عمَّن يساعدني في تكوين كتيبة إنقاذ ولكني لم أجد أحدًا، وبينما كنتُ أبحث عن أفرادٍ أنظمهم لهذا الغرض بدأ موكب الجرحى يصل إلى القرية فسألتُهم عما حدث، فكان كل ما استطاعوا قوله أن هيروشيما قد دُمِّرَت وأن جميع سكانها يغادرونها، فركبتُ درَّاجتي وأسرعتُ بها نحو إيتسوكايتشي، وما كدتُ أصِل إليها حتى كانت الطريق تعج بالناس، فحاولتُ أن أقف منهم على جلية الأمر، ولكن أحدهم لم يستطع أن يعطيني إجابةً شافية، وعندما كنتُ أسألهم: من أين أتوا؟ كانوا يشيرون بأصابعهم في اتجاه هيروشيما ويقولون: «من هناك.» وعندما سألتُهم: إلى أين يتجهون؟ كانوا يشيرون إلى مياجيما ويقولون: «إلى هناك.» كلهم كانوا يقولون نفس الشيء، لم يكن بين مَن رأيتُهم حول إيتسو كائتشي مَن أصابَتهم الجروح أو الحروق الخطيرة، ولكني ما كدتُ أصل إلى كوستسو حتى وجدتُ الناس هناك يعانون من إصاباتٍ بالغة، وكلما اقتربتُ من هيروشيما تزداد نسبة المصابين حتى وصلتُ إلى كوئي٥ لأجد الناس في حالةٍ يُرثى لها، لم يكن باستطاعتي النظر حتى إلى وجوهم، وكانت رائحتهم مثل رائحة الشَّعر المحترق.»

توقف السيد كاتسوتاني عن الحديث قليلًا وتنفَّس بعمق، ثم استطرد قائلًا: «لم تكن المنطقة المحيطة بمحطة كوئي محترقة، ولكن مبنى المحطة والمنازل المحيطة به كانت محطمة تمامًا، وامتلأَت أرصفة المحطة بالجرحى الذين كان بعضهم واقفين والبعض الآخر راقدين، وجميعهم يصرخون طلبًا للماء، وبين الفينة والفينة كنتُ أسمع صوت طفلٍ ينادي أمه، لقد كان جحيمًا حقيقيًّا، كان جحيمًا حقيقيًّا واليوم لم يتغير الحال عما كان عليه بالأمس. ألم يأتِ الدكتور هانا أوكا إلى المستشفى أمس؟ لقد رأيتُه يعبر خط الترام عند نهايته في كوئي متجهًا نحو المستشفى، ولكني لا أعتقد أنه قد تمكَّن من الوصول إلى هنا وسط النيران.»

فأجاب البعض: «لا لم نرَه حتى الآن.»

فهزَّ السيد كاتسوتاني رأسه ذات اليمن وذات الشمال وأكمل حديثه قائلًا: «تركتُ محطة كوئي وذهبتُ إلى مدرسة كوئي الابتدائية، كانت المدرسة عندئذٍ قد تحولَت إلى مستشفى طوارئ، وقد اكتظَّت بالجرحى، حتى فناء المدرسة كان يعج بالموتى والمحتضَرين الذين بدوا وكأنهم أسماك (بكلاه) منثورة على الأرض حتى تجف. لقد كان منظرهم وهم مستلقين تحت الشمس الحارقة يدعو إلى الشفقة، ولكني أستطيع أن أؤكد أنهم كانوا يعانون سكرات الموت … وقبَيل حلول المساء بينما كنتُ أقطع الطريق الرئيسي عائدًا من حيث جئتُ، إذا بي ألتقي بأختي التي يقع بيتها في إيتسوكايتشي، وكنتُ أظنها قد ماتت، ولكني وجدتُها على قيد الحياة، كانت سعيدة بنجاتها ولم تنطق بكلمةٍ واحدة، كل ما كانت تستطيع أن تفعله هو أن تبكي وكأنها تبكي بدموع الفرح، وساعدَني بعض ذوي القلوب الرحيمة على عمل محفة لها وحملتُها إلى بيتي في جي جوزن قرب مياجيما جوتشي، حتى قريتي التي تبعد كثيرًا عن هيروشيما تحولَت إلى جحيم وغصَّت المعابد بالجرحى.»

فرغ السيد كاتسوتاني من رواية كل ما شاهده، وترك غرفتنا، لكنه بدلًا من أن يعود أدراجه إلى منزله بقي في المستشفى لمساعدة المرضى.

لقد جعلَتني القصص التي رواها الدكتور نيشي مورا والدكتور تابوتشي والسيد كاتسوتاني لا أشك في أن هيروشيما قد دُمِّرَت عن بكرة أبيها، لقد وقعَت عيناي على ما يُثبت أن الدمار كان كبيرًا، ولكن ما ذكروه لي كان أبشع من أن يُصدَّق، وعندما كنتُ أفكر في الجرحى الذين يركضون تحت أشعة الشمس المحرقة يصرخون طلبًا للماء، كان يغمرني إحساس بالإثم لوجودي فوق سرير المرض، وشعرتُ بالأسف لأولئك المرضى الذين تركْناهم يرقدون على الأرض العادية في دورات المياه، وقلتُ لنفسي: إذا لم أكن قد أُصِبتُ إصابةً بالغة لكان باستطاعتي أن أفعل شيئًا بدلًا من رقادي بين المرضى وانشغال زملائي وأصدقائي بي، وأنا هكذا جريح بلا حول ولا قوة، يا له من مأزق لا أستطيع بسببه أن أصنع شيئًا!

ولحُسن الحظ قطع أفكاري السوداء ظهور الدكتور هانا أوكا طبيب القسم الداخلي الذي ذكر لنا السيد كاتسوتاني أنه رآه بالأمس عند إيتسوكايتشي، فقد انتهبتُ على صوته وهو يناديني قائلًا: «دكتور هاتشيا إنك لا تعلم مدى سعادتي أن أراك بخيرٍ بعد ما حدث لهيروشيما، إن من نجوا نجوا بمعجزة.» فأجبتُه قائلًا: «لقد انزعجْنا عليك يا دكتور هانا أوكا لأن السيد كاتسوتاني أخبرَنا منذ لحظات أنه رآك متجهًا إلى هيروشيما عندما كان في محطة كوئي بالأمس، أين كنتَ وكيف استطعتَ الوصول إلى هنا؟» فأجاب قائلًا: «إنني شخصيًّا أتعجب كيف استطعتُ الوصول إلى هنا، دعني أقص عليك ما حدث، لقد أخبرني البعض أن ثمة سلاحًا جديدًا عبارة عن قنبلةٍ خاصة سقطَت بالقرب من هيكل جوكوك،٦ فإذا صح ما قيل لي فإن هذه القنبلة على قدرٍ كبير من القوة؛ لأنها محت كل شيء كان قائمًا فيما بين هيكل جوكوك ومستشفى الصليب الأحمر ودمرَته تدميرًا، ورغم أن مستشفى الصليب الأحمر أُصِيب بأضرارٍ بالغة فإنه لا يزال قائمًا، والمنطقة فيما وراء المستشفى باتجاه يوجينا أصابها قدْرٌ قليل من التدمير، وقد توقفتُ عند مستشفى الصليب الأحمر الذي كان يعج بالمرضى، وقد أحاط به الموتى والمحتضَرين من كل جانب حتى جسر مي يوكي، وفيما بين مستشفى الصليب الأحمر ووسط المدينة لم أجد شيئًا قُدِّرَت له النجاة من الحريق، فكل ما كان يقع بتلك المنطقة تحوَّل إلى هشيم، وكانت عربات الترام في كواياتشو وكاميياتشو تقف محترقة وقد اكتظَّت بعشرات الجثث المتفحمة التي يتعذر التعرف على أصحابها، كما رأيتُ خزانات المياه الخاصة بالإطفاء ممتلئة بالموتى الذين بدَوا وكأنهم قد سُلِقوا في تلك الخزانات، وفي أحد تلك الخزانات شاهدتُ رجلًا مصابًا بحروقٍ بالغة وبجانبه جثة لرجلٍ آخر وكان يشرب من مياه الخزان المختلطة بالدماء، ولم يكن باستطاعتي أن أمنعه من ذلك لأنه كان فاقد الرشد، وفي أحد الخزانات أيضًا كان عدد الموتى يملأ الخزان تمامًا حتى إنه لم يكن هناك مكان لموضع قدم في الخزان، ويبدو أنهم لفظوا أنفاسهم الأخيرة بينما كانوا يجلسون في الماء، وحتى حمام السباحة بمدرسة المحافظة الإعدادية كان مملوءًا بجثث الموتى، ويبدو أنهم قد اختنقوا عندما كانوا يقفزون إلى الماء هربًا من النيران لأنه لم تكن تبدو عليهم أثر حروق، ولم يتسع حمَّام السباحة لجميع من حاولوا الدخول فيه؛ لأن الكثير من الجثث كانت حول الحمام من كل جانب وقد تدلَّت رءوسها في الماء. ورأيتُ في الحمام بعض الناس الذين لا زالوا على قيد الحياة يقفون وسط الماء وقد أحاطت بهم جثث الموتى من كل جانب، كانوا قد فقدوا قواهم لدرجة لم تمكنهم من الخروج، وكان ثمة أناس يحاولون مساعدتهم ولكني أعتقد أنهم ماتوا هناك. آسف إذا كنتُ قد أزعجتُك بهذه القصة ولكنها حقيقية، ولا أدري كيف استطاع من قُدِّر لهم النجاة أن يفروا من هذا المصير الأليم.» ثم توقَّف الدكتور هانا أوكا عن الكلام، وأحسستُ أنه يريد أن ينصرف لأداء واجبه، فرأيتُ أنه من الجرم إبقاؤه بجواري لأستمع إلى المزيد من التفاصيل.

وأخذَت تلك الروايات التي قصَّها عليَّ زُوَّاري العديدين تتبلور في ذهني لترسم صورةً لما حدث، ولتوضح لي ما أصبحَت عليه هيروشيما بعد هذا الحادث المفجع.

وما كاد الدكتور هانا أوكا يغادر الغرفة حتى جاء الدكتور آكي ياما رئيس قسم الولادة وأمراض النساء بالمستشفى لزيارتي، ولم يكن مُصابًا، غير أنه بدا متعَبًا منهك القوى فقلتُ له: «اجلس قليلًا لتسريح لعلَّك عانيتَ الكثير، تُرى أين كنتَ عندما حدث القصف؟»

فقال: «كنتُ قد غادرت منزلي عندما وقع الحادث رأيتُ بريقًا يخطف الأبصار تبِعه صوت انفجارٍ مروع فاستلقيتُ على ظهري ثم ملأ السماء سحابٌ أسود كذلك الذي نراه في الصيف قبل هبوب العواصف، فصِحتُ: «لقد فعلوها وها هو الآن قد حدث.» ونظرتُ نحو منزلي لأجده قد انقلب رأسًا على عقب؛ فاختلطَت السقوف بالحوائط بالأبواب، وتحطَّم كل شيء بصورةٍ لا يمكن معها إرجاعه إلى ما كان عليه، وما هي إلا لحظات حتى توافد الجرحى إلى منزلي ووقفوا في صفوف طويلة، فمكثتُ أفحصهم وأعالجهم حتى قبل مجيئي إلى هنا بلحظات، ونفد كل ما كان عندي من أدوية وضمادات، فلم أستطع متابعة أداء الواجب، ولا زال نحو عشرين أو ثلاثين شخصًا يقفون في صفٍّ أمام منزلي وليس هناك من يأسو جراحهم، إن أحدًا لا يستطيع صُنع شيء من أجلهم، ولن أتمكن من علاجهم إلا إذا حصلتُ على مزيد من الأدوية.»

كان من طبيعة الدكتور آكي ياما الانشراح والسرور، ولكنه كان يبدو في تلك اللحظة مذهولًا، وجاء الدكتور كوياما إلى حجرتي كان الدكتور آكي ياما يتحدث معي، فسمع معظم ما قاله وعلَّق على حديثه قائلًا: «إنني أستطيع أن أتصور ما عانيتَه لأنني أعرفك تمامًا.» فتنهد الدكتور آكي ياما وقال: «إنني لا أعي شيئًا، فاليوم بالنسبة لي كان كالأمس تمامًا، فلا حد لهذا الفيض الزاخر من الأرواح التعسة التي تقف أمام منزلي تطلب العون، إنهم يحاولون الوصول إلى كابي٧ ولكنهم لن يستطيعوا ذلك ولن أستطيع أن أصنع شيئًا من أجلهم، كما أن أحدًا لن يستطيع صُنع شيء من أجلهم.»

ولما كان بيت الدكتور آكي ياما يقع في ناجاتسوكا فقد كونتُ فكرة عما آل إليه الحال بتلك الضاحية، فإنها لم تكن أحسن حظًّا من منطقة كوئي، وتخيلتُ طوابير الجرحى الذين يسيرون في صمت وكأنهم أجساد بلا أرواح، وعندما يُسألون من أين جاءوا يقولون «من هناك.» وعندما يُسألون عن وجهتهم يقولون «إلى هناك.» تخيلتُهم وهم يتوسلون طلبًا للماء، وسمعتُ أنَّاتهم ورأيتهم يُحتضَرون، ربما كنتُ أعاني مما يعانون، فقد عبَّر أصدقائي بدقة عن كل ما شاهدوه.

وعلمتُ أن المرضى الموجودين بالمستشفى فقدوا شهيتهم للطعام تمامًا، وأنهم أخذوا يتقيئون الواحد تلو الآخر ويعانون من الإسهال. تُرى هل هذا السلاح الجديد الذي سمعتُ عنه يحتوي على غازٍ سام، أم أنه يحتوي على جراثيم قاتلة؟ وطلبتُ من الدكتور هانا أوكا أن يبلغني بحوادث القيء والإسهال ويتأكد مما إذا كان أولئك المرضى تبدو عليهم أعراض مرضٍ معدٍ، فبحث الأمر وجاء ليخبرني أن الكثير من المرضى لا يعانون من الإسهال فقط، ولكنهم أيضًا يتبرزون دمًا، وأن بعضهم تبرز دمًا أكثر من خمسين مرة خلال الليل، مما جعلني أعتقد أنهم يعانون من دوسنطاريا أميبية، ولم يكن أمامنا الخيار سوى أن نعزلهم عن بقية المرضى الذين لا تبدو عليهم هذه الأعراض.

فوضتُ الدكتور كوياما نائب المدير مسئولية إقامة محجر لغزل هؤلاء المرضى، فوقع اختياره على مكان بجوار الجانب الجنوبي من المستشفى، واستطاع بمعاونة بعض الجنود أن يقيم ما يمكن أن نسميه عنبرًا خارجيًّا، وما كنا نصنعه لم يكن علاجًا للموقف، ولكننا كنا نرضي ضمائرنا بعمل كل ما باستطاعتنا عمله.

لقد وقع على عاتق الدكتور كاتسوبي ومعاونيه واجبٌ صعب، فلم يكن بين المرضى من لا يحتاج إلى جراحةٍ سريعة، وكان جميع الأطباء والممرضات مشغولين بمعاونته، حتى الكتبة والفراشين عاونوا في إجراء تلك الجراحات، كما تم تنظيم من يستطيع الحركة من المرضى والاستفادة بهم في المعاونة على تمريض زملائهم، وإذا كان قد حدث تقدمٌ فإنه لم يكن ملموسًا، رغم أن ما صنعه الدكتور كاتسوبي كان من ضروب المعجزات.

وتم تنظيف الممرات وإخلاؤها من المرضى حتى يسهل استخدامها، ثم ما لبثَت أن ازدحمَت بالمرضى الجدد الذين قصدوا المستشفى، وكان من الصعب منع الناس الذين جاءوا إلى المستشفى بحثًا عن أصدقائهم أو أقاربهم، فالآباء يلطمون خدودهم ويصرخون مُنادين على أطفالهم الذين قد يكونوا بين مَن ضمَّهم المستشفى، والأزواج يبحثون عن زوجاتهم، والأطفال يبحثون عن آبائهم. وكانت إحدى النساء المسكينات تسير بلا هدف في المستشفى ذاهلة تنادي طفلها وكان نداؤها يمزِّق القلوب، ولكن أحدًا لم يجرؤ على منعها، وثمة سيدة أخرى كانت تقف عند مدخل المستشفى تصرخ بما يشبه الأنين مناديةً شخصًا تعتقد أنه موجود بالمستشفى، وكان نداؤها يملأ النفس بالأسى، كما توافد الكثير من سكان الريف للبحث عن أصدقائهم وأقاربهم كانوا يتجولون بين المرضى يفحصون الوجوه جيدًا حتى تضايقْنا من سلوكهم ومنعناهم من دخول المستشفى.

وسمعْنا جلبة خارج المستشفى، وحين سألتُ عن السبب علمتُ أن الدكتور كوياما أحضر ثلة من الجنود لتنظيف مبنى مصلحة المواصلات الذي أتت عليه النيران حتى يستطيع استخدامه كملحق للمستشفى، وبدأَت الحياة تدبُّ في الصيدلية التي يرجع الفضل في تزويدها بالدواء اللازم إلى عناية الدكتور هينوئي والسيد ميزوجوتشي، وبدأ المستشفى يعرف نوعًا من النظام، فقد تم عمل شيء إيجابي ولعلَّنا بعد قليل نستطيع السيطرة على الموقف.

وعلمتُ من السيد سيرا مدير مكتب العمل بالمستشفى أن ستة عشر مريضًا تُوفُّوا خلال الليل، وأنه لف جثثهم بملاءات بيضاء ووضعها بجوار مدخل المستشفى، فساءلتُ نفسي تُرى هل نستطيع الاحتفاظ بهذه الملاءات في هذه الظروف الحرجة، ولكني ترددتُ في الاعتراض على ما صنعه السيد سيرا؛ لأن تصرفه على هذا النحو كان انعكاسًا للشعور بحرمة الموتى، وحين علمتُ أن الفرقة التي أرسلها الجيش لنقل الجثث من أمام المستشفى قد ألقت بالجثث والملاءات داخل سيارة نقلٍ دون مراسم دينية؛ رأيتُ أنه من الأفضل الاحتفاظ بالملاءات فالأحياء أكثر احتياجًا إليها من الموتى.

كان المرضى يأتون إلى المستشفى من كل حدب وصوب، ولما كنا لا نبعد كثيرًا عن مركز التفجير فإن الذين قصدوا مستشفانا كانت إصاباتهم بالغة وحالتهم خطيرة، أما أولئك الذين كانوا بالمستشفى فقد كانت حالتهم أحسن بكثير ممن ظلوا خارجها رغم اكتظاظ المكان بهم، وكان منظر الأطباء والممرضين في لباسهم الأبيض يبعث الطمأنينة في نفوسهم، يبكون عند سماع كلمة مواساة، ويلهجون بكلمات الشكر عند حصولهم على خدمةٍ بسيطة. كانوا جميعًا يعانون الكثير، ويثقون أن الأطباء والممرضات سيبذلون أقصى الجهد لرعايتهم، كما أن المستشفى بالنسبة لهم كان أفضل مأوى وسط الدمار الذي لحق بالمدينة، فسُرِرنا لعلامات الرضى التي بدَت على المرضى، ولكننا لم نشعر أبدًا أننا استطعنا أن نصنع شيئًا ذا قيمة لهم.

واستطاع السيد إيماتشي ومعاونوه بمطبخ المستشفى إعداد وجبة من الأرز المسلوق في بداية اليوم، وكانوا يوزعونها على المرضى في الجرادل، ويطعمونهم إياها بملاعق خشبية كبيرة، وكانت هذه الوجبة الصغيرة بالنسبة لي أهم عمل في ذلك اليوم. وأعادوا تقديم وجبة أخرى بعد الظهر، فأحسستُ أن ملء الفم الذي أصابني من هذا الأرز قد ملأني بالعافية وجعلني أشعر بإمكانية الشفاء، ولكن كان هناك الكثيرون ممن كانوا أضعف من أن يستطيعوا تناوُل هذا القدْر القليل من الأرز، فزاد الجوع من وطأة المرض عليهم.

وأقبل الليل دون أن يكون لدَينا ما يفترشه المرضى سوى قطع من الحصير وُضعَت فوق الأرض، وأخذَت آلام الجروح تتزايد، ولم يكن لدَينا كميةٌ كافية من المسكنات لتُعين المرضى على تحمُّل الألم، وعانى المرضى من ارتفاع درجات الحرارة، وأخذوا يصرخون طلبًا للماء، ولكن لم يكن لدَينا من يقدِّم لهم الماء ليروُوا ظمأهم بسبب قلة العاملين بالمستشفى.

كما أن الدكتور هارادا أحد الصيادلة نُقِل إلى المستشفى مصابًا بحروقٍ بالغة، ثم جاء بعده ابن السيدة سائيكي العجوز بنفس الحالة، واضطُررنا إلى عزل الآنسة هينادا إحدى الممرضات لإصابتها بإسهالٍ حاد منذ بداية النهار، ونظرًا لعدم وجود من يقف على تمريضها فقد اضطلعَت أمها بهذا العبء رغم أنها كانت تعاني هي الأخرى من حروقٍ باللغة، وجاءني السيد ميزوجوتشي ليخبرني أن الآنسة هينادا وأمها قد أصبحَتا في حالةٍ يُرثى لها، وأنه لا يحتمل بقاؤهما على قيد الحياة، وأن ابن السيدة سائيكي العجوز قد فقد الوعي.

لقد قضيتُ اليوم كله أستمع إلى روايات زُواري عن الدمار الذي حدث بهيروشيما، والمناظر الفظيعة التي شاهَدوها، رأيتُ أصدقائي جرحى وقد تشتتَت عائلاتهم وتدمَّرَت منازلهم، وكنت أعرف تمام المعرفة الصعاب التي تُواجه مرءوسي، وأعلم كيف ناضلوا ببسالة لمواجهة ما لا طاقة للبشر لتحمُّله من صعاب، كنت أعرف ذلك جيدًا، كما كنتُ أعرف أن هؤلاء المرضى قد علَّقوا كل آمالهم على ما يمكن أن يصنعه الأطباء والممرضات من أجلهم، تُرى من كان يعلم الحقيقة المرة؛ أننا كنا بلا حيلة مثلهم تمامًا!

وما لبثَت قُدْرتي على فهم مبلغ البؤس الذي يعانيه الناس ومشاركتي لهم الألم والضِّيق أن جعلَتني أستسلم للأمر الواقع وأتقبل كل ما أسمعه بهدوء ورباطة جأش، لم أكن أصدِّق يومًا ما أن باستطاعتي تحمُّل مثل هذا، لقد اعتدتُ في خلال يومين على هذا الجو المشبَع بالفوضى واليأس.

شعرتُ بالوحدة ولكنها كانت وحدة لا إنسانية، أصبحتُ جزءًا من ظلام الليل، لم يكن هناك راديو ولا كهرباء ولا حتى شموع، كل ما كان هناك من ضوء كانت تعكسه النيران التي كانت ترتفع ألسنتها في بعض أطراف المدينة، وكل ما كنتُ أسمعه من أصوات هو صوت أنَّات وتأوهات المرضى، كما كنتُ أسمع هذيان من كانوا يعانون من الحمَّى ينادون أمهاتهم، أو صوت إنسان يئن حينًا ويصرخ حينًا آخر: «إن الألم لا يمكن احتماله، إنني لا أطيق الألم.» تُرى أي نوع من القنابل تلك التي حطَّمَت هيروشيما؟!

وحاولتُ أن أتذكر أحداث صباح يوم الكارثة، لقد كانت هناك بضع طائرات ولكن ذاكرتي لم تسعفني بعددها، فقبل انطلاق صفارات الإنذار كان هناك صوت طائرةٍ واحدة، وإلا فلماذا سكتَت صفارات الإنذار ولماذا لم تنطلق خلال الدقائق الخمس أو الست السابقة على حدوث القصف؟ ورغم ما بذلتُ من جهدٍ ذهني لم أستطع الربط بين هذه الوقائع وبين الدمار الذي حدث، ربما كان سلاحًا جديدًا فإن معظم زُواري تكلموا بغموض عن «سلاحٍ سري» و«سلاحٍ جديد» و«قنبلةٍ خاصة» كما ذكر أحدهم أن هذه القنبلة هبطَت بمظلَّتَين قبل أن تنفجر، وكائنًا ما كانت تلك القنبلة فإنني لا أستطيع أن أدرك كنهها؛ لأن هذا القدر من الدمار الذي أحدثَته لا يمكن تعليله، كل ما نملكه حكايات لا تزيد عن الإشارة إلى السحاب الذي انتشر في الجو فغمر كل شيء.

ثمة شيء واحد يمكن تأكيده هو أن هيروشيما قد دُمِّرَت كما دُمِّر معها الجيش الذي كان معسكِرًا فيها، واختفَت أحياؤها، كما اختفَت القيادة العامة للجيش الثاني، والكلية العسكرية التي كانت تضم الكثير من الشباب، والقيادة العامة للقطاع الغربي وفِرق المهندسين، والمستشفى العسكري، لقد تحطَّم أمل اليابان، خسرْنا الحرب، لن تستطيع الآلهة أن تأخذ بأيدينا! وما هي إلا لحظات حتى تنزل القوات الأمريكية إلى أراضينا، وعندما يحدث ذلك لا بد أن يدور القتال في الشوارع، وقد يتحول مستشفانا إلى مركز للهجوم أو الدفاع، ألم يذكروا لي في الصباح أن الجنود قادمون لتحويل مبنى مصلحة المواصلات إلى قيادة. تُرى هل هُزِمنا حقًّا؟ ولكني لم أجد جوابًا لهذه التساؤلات جميعًا.

كان الدكتور ساسادا والآنسة كادو وزوجتي يغُطون في النوم، وحسنًا فعلوا، ولكن النوم زايلَني وسمعتُ وقْع أقدام، ثم ظهر رجل بالباب بدا شبحه وسط الظلام وقد رفع ذراعيه وتدلَّت يداه مثلما كان حال مرضى الحروق الذين رأيتُهم وأنا في الطريق إلى المستشفى، وحين اقترب مني رأيتُ وجهه أو على الأصح رأيتُ ما كان في يوم من الأيام وجهًا أضاعت النيران ملامحه، كان الرجل أعمى ضل طريقه إلى دورة المياه، فصِحتُ به وقد ملأني الفزع: «لقد أخطأتَ الطريق يا سيدي.» فعاد المسكين أدراجه واختفى وسط الظلام، وأحسستُ بالخجل لتصرفي معه على هذا النحو، ولكني كنتُ خائفًا حقًّا، وأصبحتُ متوتر الأعصاب أكثر من ذي قبل، وفقدتُ كل أمل في النوم.

كانت السماء تضيء من حين لآخر في اتجاه الشرق، ويبدو أن صياحي أيقظ زوجتي لأنها نهضَت بعد قليل وتركَت الغرفة، ربما كانت تريد الذهاب لدورة المياه، ولكنها عادت بعد برهة فسألتُها عما حدث، فقالت لي إن الردهة مليئة بالمرضى، حتى إنها لم تستطع أن تتفادى أجسام المرضى فخطَت فوقهم، وكان عليها أن تعتذر بصفةٍ مستمرة لأولئك المساكين، ثم داست على قدم شخص وعندما اعتذرَت له لم تتلقَّ منه جوابًا، لقد داست فوق قدم رجل ميت؛ ولذلك كانت خائفة تحس بقشعريرة في جسدها وتحركَت لتنام بالقرب مني.

٨ أغسطس ١٩٤٥م

بدأ اليوم حارًّا صافي السماء، وكانت درجة الرطوبة عالية فأحسستُ بالعرق اللزج يتصبب من تحت إبطي وبين أفخاذي، كما بدأ الدخان يتصاعد من الطابق الثاني، وكان وجه الدكتور ساسادا أكثر تورُّمًا منه بالأمس فانبثق الدم من ضمادات ذراعَيه ويديه، وأحسستُ بالعطف عليه عندما تذكرتُ أن هاتَين اليدَين قد صنعتا الكثير لتأسي جراح المرضى طوال اليومين الماضيَين.

وسمعتُ جلبة بالخارج جعلَتني أتذكر مريضًا نسيتُ أن أذكره بالأمس، فقد كنتُ أسمعه يمشي خلال الليل بين الحين والآخر، وكذلك صباح اليوم كان يمشي هنا وهناك، وكنتُ أسمعه بصفةٍ خاصة عندما كان يرتطم بالسور أو بالمبنى، وسألت الآنسة كادو: «هل تناول طعامه؟» فأجابت: «لا عليك يا دكتور فهناك الكثير من أوراق البطاطا بالحديقة، ولا أعتقد أنه سيعاني من الجوع ما دامت هذه الأوراق متوفرة.» أما هذا المريض الذي كنا نتحدث عنه فهو حصان أصابه الحريق بالعمى، ومن كان يراه على هذه الحال كان لا يملك سوى أن يعطف عليه، وبذلك أبقيناه بالحديقة بجوار نافذة حجرتنا.

وكانت تلك الحديقة ملعبًا للتنس، ولكني فكرتُ منذ زمنٍ بعيد في تحويلها إلى حديقة، وزرعتُها بالبطاطا، ووجدتُ متعة في هذه المحاولة، وأصبحَت بطاطتي موضوعًا للتندُّر بين العاملين بالمستشفى.

قلتُ للآنسة كادو: «ألا تظنين أنه من الأفضل أن نخرج البطاطا من باطن الأرض؟ أعتقد أنها قد نضجَت الآن.» فضحك رفاقي ونسينا تعاستنا للحظة.

بدأ مفصل قدمي اليسرى يؤلمني، فنظرتُ إليه لأكتشف أنه يبدو مبتلًّا لزجًا داخل ضمادة، ولاحظَت الآنسة كادو ذلك فغيرَت الضمادة، وبعدما انتهَت من ذلك شعرتُ بالتحسن، وحين كانت تغير الضمادة لاحظتُ أن هناك رباطًا لاصقًا على ركبتي اليسرى، فدهشتُ لأنني لا أذكر أنه قد أصابتني أية حروق، ثم تذكرتُ فيما بعدُ الجذوة الملتهبة التي ارتطمَت برجلي عندما كنتُ أرقد بالحديقة بجوار مصلحة المواصلات حين شب الحريق الهائل.

ازدادت قابليتي للطعام هذا الصباح وكنتُ أبدو أحسن حالًا، كما كانت روحي المعنوية مرتفعة، ونسيتُ الأفكار السوداء التي سيطرَت على ذهني طوال الليل، وحضر الدكتور كاتسوبي مبكرًا، وبدلًا من أن أبادله التحية سألتُه أن يحدد الموعد الذي يمكنني فيه مغادرة الفِراش، فأخبرني مرةً أخرى أنني أحتاج على الأقل إلى أسبوع حتى تفك خياطة الجروح، وأن عليَّ ألا أثير موضوع مغادرة الفِراش مرةً أخرى قبل مرور تلك الفترة، وقال لي: «إنك لا تطيق صبرًا، يجب عليك أن تحمد الله لأنك لا زلتَ حيًّا.» لم يكن قد دار بخلدي حتى ذلك الحين أنه كان من الممكن أن أموت، ولكن عندما صرَّح لي الدكتور كاتسوبي بذلك تأكدت أن إصاباتي كانت أسوأ مما أظن، وسألتُ الدكتور كاتسوبي وأنا أحاول أن أُبدي عدم المبالاة: «هل كانت حالتي سيئة إلى هذه الدرجة؟» فقال: «لقد كنا جميعًا قلقِين عليك، لعلَّك لم تتحقق من كمية الدماء التي فقدتَها، لقد ظللتَ في غيبوبةٍ معظم الليل، وكانت زوجتك والآنسة كادو والدكتور ساسادا والدكتور كوياما وأنا، كنا جميعًا نتناوب الجلوس بجوارك طوال الليل.» فأجبتُ محاولًا أن تبدو كلماتي عادية: «إذن ليس من الغريب أنني لا أكاد أتذكر ما حدث تلك الليلة.»

لقد كان عليَّ أن أقنع بالراحة، فقد كان الدكتور كوياما يدير المستشفى بكفاءة لا يتطرق إليها الشك، وكان يحيطني علمًا بما يعترضه من مشاكل، ويسألني الرأي حيث كان لا يجب أن يتخذ قرارًا منفردًا. فعلى سبيل المثال عندما وصلَنا بلاغ من الدكتور تشودو أحد أطباء الأسنان بمستشفانا يفيد أنه وأسرته كانوا يختبئون في التلال التي كانت تقع خلف أوشيتا فلم تُصَب عائلته بسوء ولكنه أُصِيب بحروقٍ بالغة وطلب منا أن نرسل من يحمله إلى المستشفى، دبرَت وسيلة نقله إلى المستشفى على الرغم مما كنا نعانيه من نقص في الإمكانيات. كما تلقَّينا تقريرًا مفاده أن قسم الشئون الاجتماعية بمصلحة المواصلات لديه ما بين مائتَين وثلاثمائة حصير للنوم من الممكن أن يزود بها المستشفى، ورغم أن هذه الحصُر كانت قصيرة الطول وأن المستشفى كان مكتظًّا بالمرضى ومن الصعوبة بمكانٍ إزاحة المرضى من أماكنهم لوضْع الحصير تحتهم؛ أحسستُ والسيد سيرا أن الحصول على تلك الحصُر ضرورةٌ ملحَّة بالنسبة لنا، حتى ولو اضطُررنا في سبيل استخدامها إلى إخلاء الممرات من المرضى.

تأكدَت اليوم الشائعة التي ترددَت حول مصرع السيد يوشيدا مدير مصلحة المواصلات، فقد تم التعرف على جثته المتفحمة من بكلة حزامه، وعُثِر على الجثة بالقرب من المستشفى، وتم حرق بقاياها أمام مصلحة المواصلات، لقد فقدْنا بموته صديقًا رقيقًا مخلصًا. كما مات أيضًا شخصٌ آخر من الشخصيات البارزة هو عمدة أتسوكا.

وعلمتُ أيضًا أن نبأ مصرعي كان قد ذاع، فقد أخبرني بذلك صديقان قديمان هما السيد ناجاءو وزوجته اللذان يقيمان في نيشي هارا عندما حضرا لزيارتي وزوجتي هذا الصباح وكانا سعيدَين لتأكدهما من نجاتي.

وخلال اليوم بُذِل جهدٌ كبير لإعادة تصنيف المرضى تبعًا لطبيعة مرضهم ونوعية جراحهم، كما عُثِر على الكثير من الموتى بين المرضى، وإن كانوا أقل ممن ماتوا بالأمس، فشعرتُ بضرورة التخلص من جثث الموتى حتى نخلي مكانها لمن بقوا على قيد الحياة، وجعلني ذلك أغيِّر من نظرتي للأمور؛ فقد كان الناس يموتون بسرعة، مما جعلني أتوقع الموت وأعتبره أمرًا واقعًا وأحترمه، واعتبرتُ الأسرة التي لم تفقد سوى شخصَين من أفرادها أسرةً محظوظة، تُرى كيف أستطيع أن أرفع رأسي بين مواطني هيروشيما ومثل هذه الأفكار تجول بخاطري!

بدأ الجنود يعملون مرةً أخرى في تطهير مبنى مصلحة المواصلات، وقد تناقشتُ مع الدكتور كوياما حول إمكانية استخدامهم في تطهير أحد طوابق المبنى وإعداده لنقل المرضى الذين تكدسوا في دورات المياه وممرات المستشفى إليه، وبينما كنا نناقش هذا الموضوع جاء الدكتور هانا أوكا ليبلغنا أن حالات الإسهال الدموي تتزايد، وأن بعض المرضى تبرزوا إسهالًا دمويًّا أكثر من ستين مرة منذ مطلع نهار هذا اليوم. وبناءً على ذلك فإن الحاجة إلى تحويل مصلحة المواصلات إلى ملحق للمستشفى أصبحَت أمرًا غير عاجل، فإن ما نحتاج إليه هو توسيع مساحة المحجر الذي نعزل فيه هؤلاء المرضى عن غيرهم؛ ولذلك طلبْنا من الجنود أن يساعدونا في هذه المهمة.

ثم عادت مشكلة إعادة تنظيم المستشفى موضوعًا للنقاش بيننا من جديد، لأن النيران التي دمرَت الطابق الثاني من مبنى المستشفى خمدَت تمامًا، وأصبح من الممكن استخدام ذلك الطابق، وقبل الحريق كانت بهذا الطابق أربعة عشر حجرة مقامة بفواصل خشبية أتَت عليها النيران تمامًا وحولَت الطابق إلى قاعةٍ واحدة فسيحة.

وأصبحَت المشكلة الآن تتركز فيمن نبدأ بنقلهم من المرضى إلى الطابق الثاني لأن حالة هذا الطابق كانت أسوأ من الطابق الأول، على الرغم من ازدحامه بالمرضى، وأخيرًا قررنا أن نبدأ بأنفسنا، وأن يكون المصابون من العاملين بالمستشفى هم أول من يُنقَل إلى الطابق الثاني؛ ليفسحوا مكانهم في الطابق الأول لبقية المرضى.

وكنتُ أول من نُقِل إلى الطابق الثاني، وبينما كنت محمولًا على المحفة تفحصتُ المكان بعيني، كانت الأرض ممتلئة ببقايا ثلاثين سريرًا حديديًّا تحت الرماد الأبيض المتخلف عن احتراق مراتب القش التي كانت فوق تلك الأسِرَّة، ولم يكن بين حطام الأسرة ما يصلُح للاستخدام، ولكن بعد أن قضيتُ يومين راقدًا على الأرض الصلبة العارية كان منظر هذه الأسِرَّة المحطمة يبدو بالنسبة لي رائعًا، وأُعِد لزوجتي يائيكو فِراش بجواري من بقايا سرير كان أقل التواءً من غيره، ووضع الحصير الذي كنا ننام عليه فوق أطُر تلك الأسِرة، وبدأنا نتقبل الحياة في هذا المكان دون ضجة، ولحق بنا الدكتور ساسادا والآنسة سوسوكيدا والآنسة أوموتو، وتبعهم المرضى من العاملين بالمستشفى الواحد تلو الآخر، حتى تحولَت القاعة الفسيحة إلى مكانٍ مؤنس، ربما اشتكى البعض من الرماد أو المواسير وأسياخ الخرسانة الحديدية التي تدلَّت من السقف، ولكن مثل هذه القاعة كانت أكثر مكان بالمستشفى تطهيرًا من البكتريا بعد الحريق الذي أصابها، وامتازت تلك القاعة بوجود فتحات نوافذ واسعة بحوائطها الأربعة تتيح رؤية كل ما يحيط بالمكان في كل اتجاه، فلم يكن هناك نوافذ أو ستائر ولا حتى ضلف زجاجية لتقي المرضى الهواء أو تقلل من حدَّة الضوء، وكانت العين تقع على حطام هيروشيما في الشرق والجنوب والغرب، فكنا نرى بوضوحٍ جزيرة نينوشيما٨ في خليج هيروشيما، وبالقرب من وسط المدينة الذي يقع على بُعد ١٥٠٠ متر من موقع المستشفى، كان باستطاعتنا أن نرى الحطام الأسود لأكبر مبنيَين كانا في المدينة «محلات فوكويا» ومبنى «جريدة تشو جوك»، وبدا جبل هيجي ياما الجميل المقدس الذي يطلُّ على القسم الشرقي من المدينة أكثر قربًا من ذي قبل، حتى غدا وكأنه يقع إلى جانب المستشفى، ولم تكن ثمة مبانٍ باقية إلى الشمال من المستشفى.

وبدأتُ أفهم ما عناه أصدقائي بقولهم إن هيروشيما قد دُمرَت، فلم يبقَ من مباني المدينة سوى تلك التي أُقيمَت بالخرسانة المسلحة، وقد أتيتُ على ذِكر اثنين من هذه المباني، وعلى مرمى البصر تحولَت المدينة إلى صحراء تناثرَت عليها الأنقاض والأحجار وقرميد السقوف، وكان عليَّ أن أُعيد النظر في مفهوم كلمة الدمار لأبحث عن كلمةٍ أخرى تعبِّر أصدق تعبير عما أراه أمامي، لعلَّ كلمة «الخراب» أكثر انطباقًا على واقع الحال، ولكني في الحقيقة لم أجِد بين ما أعرفه من الكلمات كلمةً واحدة تصدق على ما شاهدتُه من فوق سريري الحديدي المتداعي.

رأيتُ الجنود يعملون بهمة في توسيع محجر المستشفى، كان أحدهم يردد إحدى أغنيات العمل والآخرون يرددون الغناء، واستطاعوا أن يضيفوا إلى مساحة المحجر ١٢٠٠ متر مربع جديدة، وبالإضافة إلى ذلك أقاموا مرحاضًا خارجيًّا أحاطوه بالحصير من كل جانب، ولم تكن تلك الحصُر تحجب شيئًا، فقد كان باستطاعة من ينظر إليها من موقعي أن يرى ما وراءها.

وهبَّت نسمةٌ لطيفة عبْر فتحات النوافذ، فجعلَت أجسادنا المحمومة تشعر بالانتعاش، لقد تخلَّصنا من الضيق والفوضى اللذين كانا طابع الطابق الأول، كما أن الضوء الذي ملأ جوانب القاعة رفع معنوياتنا، وكان لمنظر الأفق المتسع من حولنا تأثيرٌ طيب على نفوسنا.

لقد ظننا أننا قد تركْنا المكان الأفضل بالمستشفى لمرضى الطابق الأول. ولكني تبينتُ الآن أننا انتقلنا إلى مكانٍ أفضل، فقررتُ أن نترك هذا المكان الجديد للمرضى الآخرين في أقرب فرصة.

وقبَيل حلول المساء هبَّت رياح جنوبية خفيفة حملَت إلينا رائحةً تشبه رائحة شواء السردين، ودهشتُ لتلك الرائحة، حتى ظننتُ أنني واهم حتى أخبرني معاوني أن هناك فريقًا من رجال وزارة الصحة يتولى إحراق جثث الموتى، فنظرتُ عبر النافذة لأشاهد العديد من الحرائق التي تناثرَت في مختلف أحياء المدينة، وكنت أظنُّها من قبلُ بقايا حرائق الأنقاض. وباتجاه نيجتسو كان هناك حريقٌ كبير حيث قُدِّرَت الجثث بالمئات، وحين تأكدتُ أن تلك النيران هي محارق جنائزية شعرتُ بقشعريرة في جسدي وانتابني إحساس بالتقزز.

أما المباني الخرسانية التي كانت تقع بالقرب من وسط المدينة فقد ظلَّت النيران مشتعلة فيها من الداخل وتعكس في كبد السماء ظلالًا مخيفة.

ظل العاملون بالمستشفى يواصلون الليل بالنهار مدة ثلاثة أيام دون راحة؛ ولذلك أفسحْنا لهم مكانًا بالطابق الثاني ليعملوا في نوبات ويقضي بعضهم فترة الراحة بيننا، وجاء الدكتور كوياما لينام، وقبل أن يستغرق في النوم أبلغَني ببعض ما حدث خلال اليوم، فذكر لي أن جنودًا جاءوا إلى المستشفى في الصباح يطلبون بعض الضمادات للجيش الثاني العام، وعبثًا حاول العاملون بالمستشفى إقناعهم أن ما لدَينا من ضمادات دون حاجتنا بكثير، ولكنهم أصروا على الاستيلاء على معظم ما عندنا من تلك الضمادات، لقد كان تصرُّف هؤلاء الرجال أقرب إلى سلوك قُطاع الطرق منه إلى الجنود، وما فعلوه كان منافيًا تمامًا للوعود المتكررة التي تلقَيناها من الجيش لمَدِّنا بكل ما نحتاج إليه من معدَّات للطوارئ عندما يحدث هجوم على المدينة، ولكن هؤلاء الجنود لم يأتوا من الجيش الذي كان معسكِرًا في هيروشيما، ولم يبقَ عددٌ كافٍ من الجنود الذين أُنِيط بهم معاونة المستشفى على أداء رسالته، ولم يكن باستطاعة الجيش أن يوفر الأفراد الذين يقومون على خدمة الجرحى العسكريين التابعين للقيادة المحلية، والذين أفسحنا لهم مكانًا بإحدى دورات المياه، وعندما حضر ضابط اتصال القيادة لرؤيتهم لم يكن لديه مكانٌ أفضل لينقلهم إليه، وشكرَنا كثيرًا حين هيأْنا لهم مكانًا بحجرة الفرَّاشين؛ ولذلك أعتقد أن الجنود الذين استولوا على رصيدنا من الضمادات ينتمون إلى قطاعٍ آخر من الجيش.

وثمة شيء أثار انزعاجنا، فقد أخبرني الدكتور كوياما أن بعض الجنود أتَوا من جهةٍ غير معلومة، وقضوا النهار كله ينظفون مبنى مصلحة المواصلات، وأنه قد أُشيع أن قيادة الجيش ستنتقل إلى المبنى لتتولى الدفاع عن هيروشيما في حالة تعرُّضها للغزو. واتفقنا في الرأي على أنه إذا أقام الجيش قيادته في هذا المكان فإن المستشفى سيصبح هدفًا لمزيد من القصف وقد نموت جميعًا إذا وقع مثل هذا الأمر.

وبعدما غادر الدكتور كوياما القاعة استغرقتُ في التفكير في هذه المسائل وشعرتُ بالضيق ولم أستطع النوم، كنت أسمع تأوهات المرضى خلال الليل وصراخهم طلبًا للماء وأنينهم، وسمعتُ حركة أحد مرضى الدوسنطاريا المعزولين الذي ترك موقعه ليبحث عن ماء يشربه خلف مبنى المصلحة، وتناهى إلى مسامعي صوت رجل فظ ينهره ويأمره بالعودة إلى مكانه حتى لا تنتقل عدوى الدوسنطاريا إليه، وكان هناك صوتٌ يصرخ طلبًا للماء بين الفينة والفينة، وكلما مر جانب من الليل أخذ هذا الصوت يخفت تدريجيًّا، وسألتُ الممرضة عمن يكون هذا المريض، فأخبرَتني أنه ضابطٌ شاب يبدو أنه من أسرة كريمة؛ لأنها عندما كانت تستجيب لرجائه وتُقدِّم له الماء كان يشكرها بعبارات مهذبة.

وقد أثار هذا الضابط الشاب في ذهني ذِكر زيارةٍ قام بها ابن عمي الكابتن أوراب لمنزلنا في الثاني من أغسطس، حيث قضى وزوجته اليوم معنا، وكان الكابتن أوراب قد جُنِّد كطبيبٍ عسكري بعد تخرُّجه من كلية الطب بقليل، وعندما رأيتُه كان قد قضى في الخدمة نحو ست أو سبع سنوات في شمال ووسط الصين، وقد بدَت عليه معالم الانضباط والشجاعة. وكنتُ متشائمًا لا أرى للحرب نهاية، وأفضيتُ إليه بهذا الإحساس، قلتُ له إنني أشعر أننا سنخسر الحرب لأن كل شيء يسير من سيئ إلى أسوأ، وأن الجنود لم يعودوا منضبطين مثلما كان الحال من قبل، وأبديتُ له مخاوفي من أنه إذا تعرضَت هيروشيما للقصف فإن ما لدَينا من مَدافع مضادة للطائرات لن يكون مجديًا، لأن نظام دفاعنا يركز على مواجهة حالات التعرض للقصف بالقنابل المحرقة، وكان في تقديري أن العدو لن يستخدم مثل هذه القنابل في قصف هيروشيما التي يخترقها العديد من الأنهار، وعند هذا الحد كان ابن عمي يستمع لحديثي بهدوء، ثم عقَّب على ما قلتُه بقوله: «يا أخي لا تقلق فإن رئيس الأركان العامة ذكر لنا أنه مهما بلغ انتقاد المواطنين للجيش فإن الجيش سيردُّ على هذه الانتقادات بتحقيق النصر.»

وبينما كنت أرقد وسط الظلام وجدتُ نفسي أردد تلك العبارة التي قالها ابن عمى: «الجيش سيردُّ على الانتقادات بتحقيق النصر.» تُرى أين ابن عمي الآن ليتني أراه، باستطاعته أن يوفر لنا كل ما نحتاجه من إمدادات طبية، ولعلَّ الكابتن أوراب مشغول الآن، وإلا لحضر على الأقل للاطمئنان عليَّ بعد كل ما حدث.

٩ أغسطس ١٩٤٥م

كان اليوم منذ بدايته حارًّا صحوًا، ولكن أشعة الشمس لا تصِل إلينا مباشرة في الدور العلوي مثلما كان الحال في الدور السفلي، كما هبَّت نسمة عليلة على قاعتنا جعلَت الجو أفضل بالنسبة لنا منه بالأمس.

وأحسستُ بتحسُّن حالة فمي هذا الصباح، ويبدو أن جروح شفتي وخدي تلتئم بصورةٍ مُرضية، وكان التحسن ملحوظًا حتى إنني طلبتُ وجبة من الأرز بدلًا من الأرز المهروس الذي كنت أتناوله من قبل، وكانت الآنسة كادو شديدة الاهتمام بي، فقامت بجنْي بعض ثمار البطاطا التي كنت قد زرعتُها وأعدَّتها لي، ولم أكن أتصور يومًا ما أن البطاطا حلوة المذاق إلى هذا الحد.

وعلى الرغم من أن ذراع زوجتي كان لا يزال معلَّقًا؛ فإن حالتها تحسنَت هذا الصباح وبدأَت تعتني بي، وأدهشَتني حين طلبَت بعض المرهم الأبيض ووضعَته على حاجبَيها لتُخفي موضع حاجبَيها المحترقَين، وكان إحساسها بالانتعاش علامةً مطمئنة، أما حالة الدكتور ساسادا فكانت أكثر سوءًا هذا الصباح؛ إذ ارتفعَت درجة حرارته وزاد وهنًا على وهن.

وقبل أن تتوسط الشمس كبد السماء بدأ الزوار يفِدون علي، وكان من بينهم جندي قوي البنية يحمل كميةً ضخمة من الأربطة والأدوية التي ينوء بحملها شخصٌ واحد، فتلقَيناه بالترحاب، وكان الملازم تاناكا الذي يخدم في فرقة آكاتسوكي قد أرسله بهذه الأشياء، وكان سروري حين علمتُ أن الملازم تاناكا بخير يعدل سروري بهذه الإمدادات الطبية التي كنا في أمسِّ الحاجة إليها. وكنت قد تعرفتُ على الملازم تاناكا عن طريق ابن عمي الكابتن أوراب، فنالت مروءتُه ونجدتُه تقدير الجميل.

وثمة مفاجأة أخرى حدثَت في ذلك اليوم، فقد زارني سعادة السيد أوكاموتو رئيس القطاع الغربي بوزارة المواصلات، وكنت قد سمعتُ الكثير عنه من قبل دون أن أحظى بلقائه، هو رجلٌ اجتماعي ودود ما لبث أن بعث مرآه الطمأنينة في نفسي، وعندما اكتشفتُ مصادفةً أنني كنت تلميذًا بنفس المدرسة الثانوية التي تخرَّج هو فيها بمدينة أوكاياما قبلي بنحو ست سنوات، سقطَت حواجز الكلفة بيننا، واستغرقْنا في حديثٍ شيِّق حول تلك الأيام الخوالي، وكان السيد أوكاموتو في طريقه إلى هيروشيما عندما تعرضَت المدينة للقصف، وكان من المقرر أن يصِل إلى المدينة في نفس يوم القصف، غير أن نحلة لدغَته بالقرب من كوري وهي مدينة تقع على بعد ٢٥ ميلًا إلى الجنوب من هيروشيما، ولهذا السبب لم يستطع متابعة السفر إلى هيروشيما، فأدَّت لسعة النحلة هذه إلى إنقاذ حياته. وخلال حديثي معه جلستُ في فِراشي دون أن أدري، وحين غادر القاعة اكتشفتُ أن جلوسي لم يترتب عليه أي شعور بالألم، فقلتُ لنفسي إذا كان باستطاعتي أن أجلس فلا بد أن يكون باستطاعتي أن أقف. وانتظرتُ لحظة انشغال رفاقي بالقاعة عني وحاولتُ الوقوف ولكن الغرز بدأَت تؤلمني، فخذلَتني آلامها عن تحقيق أملي في ترْك الفِراش، ورقدتُ مرةً أخرى، ولكن هذه المحاولة ملأَتني بالثقة. معنى هذا أنه بمجرد أن أتخلص من الغرز فإن باستطاعتي مزاولة نشاطي من جديد.

أما تقرير الدكتور هانا أوكا اليوم عن حالة المرضى فكان أكثر تفصيلًا من ذي قبل، ومما لفت نظري في هذا التقرير أن جميع المرضى قد ظهرَت عليهم نفس الأعراض بغض النظر عن نوع الإصابة التي لحقَتهم، فجميعهم كانوا يشكون من فقدان الشهية، وغالبيتهم كانت تعاني من الغثيان، وعُسر الهضم المصحوب بالغازات، وكان أكثر من نصفهم يعانون من القيء.

وكان الكثير من المرضى قد بدا عليهم التحسن اليوم، ولكن حالات الإسهال استمرَّت بشكلٍ حاد ومتزايد، ومما كان يدعو إلى الانزعاج ظهور الدم في براز المرضى الذين كانوا يعانون فقط من الإسهال، وأخذَت مشكلة عزل هؤلاء المرضى عن غيرهم تزداد صعوبة.

وكان أحد المرضى ذوي الحالات الخطيرة يشكو من قرحة في فمه أمس واليوم، وبدأ عددٌ كبير من البثور الصغيرة يظهر في فمه وتحت جلده، وكان تشخيص حالته موضع حيرتنا لأنه جاء إلى المستشفى يشكو من الإعياء والغثيان ولم يكن مصابًا بأية إصابات.

وهذا الصباح بدأَت تظهر البثور الصغيرة تحت الجلد عند عددٍ آخر من المرضى، وكان الكثير منهم يسعل ويتقيأ دمًا بالإضافة إلى الدم الذي كان يختلط بالبراز، وكانت هناك سيدةٌ مسكينة تنزف من فرْجها، ولم تكن تلك الأعراض التي بدَت على هؤلاء المرضى معروفة من قبل، وإلا لالتمسْنا عذرًا لأولئك الذين بدا عليهم أعراض الاختلال العقلي قبل أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة.

رأى الدكتور هانا أوكا أنه من الممكن تقسيم المرضى إلى ثلاث مجموعات:
  • (١)

    المرضى الذين يشكون من الغثيان والقيء والإسهال وتظهر عليهم بعض علامات التحسن.

  • (٢)

    المرضى الذين يشكون من الغثيان والقيء والإسهال بدرجةٍ ثابتة.

  • (٣)

    المرضى الذين يعانون من الغثيان والقيء والإسهال وبدأَت تظهر تحت جلدهم وفي أماكن مختلفة من أجسادهم البثور الصغيرة.

ومهما كان نوع الإصابة التي لحقَت بهؤلاء المرضى كالحروق والجروح فإن تلك الأعراض الغريبة لا يمكن أن نُرجعها إلى إصاباتهم، كما أن هناك الكثير من المرضى الذين خلَت أجسادهم من الإصابات وشاركوا هؤلاء في نفس الأعراض.

إن السبب الوحيد المحتمل لهذه الأعراض الغريبة التي ظهرَت على المرضى ربما يرجع إلى تغيُّرٍ مفاجئ حدث في الضغط الجوي، فقد قرأتُ ذات مرة عن النزيف الذي ينجم عن الصعود إلى مناطق شديدة الارتفاع أو الهبوط في أعماق البحار بسرعةٍ بالغة نحو القاع، ولمَّا كانت مثل هذه الحالات لم تمرَّ بي فإنني لم أكن أعلم بأعراضها، غير أنني لا أستبعد هذا الاحتمال؛ فإن التغيير في الضغط الجوي له علاقة بالأعراض التي تبدو على مرضانا، فعندما كنت طالبًا بجامعة أوكاياما شاهدتُ تجربة أُجريَت في غرفة للضغط الجوي، وظهرَت أعراضٌ شبيهة على من قاموا بالتجربة عندما كان يتم تغيير الضغط الجوي فجأة.

إنني لا أستطيع أن أذكر الآن بصورةٍ إيجابية أننا سمعْنا صوت انفجار عندما قُصِفَت المدينة ذلك الصباح، ولا أذكر أنني سمعتُ أصواتًا وأنا في الطريق إلى المستشفى، رغم أن المنازل كانت تتساقط من حولي فقد بدا المشهد وكأنني أعبُر خلال صورةٍ حزينة صامتة متحركة، وأولئك الذين سألتُهم عما شاهَدوه شارَكوني نفس الإحساس، أمَّا الذين شاهَدوا الانفجار من ضواحي المدينة فقد وصفوه بالكلمة اليابانية «بيكادون»٩ فكيف يمكن تفسير عجزي وعجز الآخرين عن سماع صوت الانفجار ما لم يكن قد حدث تغيُّر مفاجئ في الضغط الجوي جعل مَن كانوا بالقرب من مركز الانفجار يُصابون بصممٍ مؤقَّت، تُرى هل من الممكن أن نعلل ظاهرة النزيف التي تفشَّت بين مرضانا على هذا النحو؟

ولمَّا كانت جميع المراجع والمجلات الطبية التي في حوزتنا قد احترقَت فلم تكن ثمة وسيلة لمراجعة النظريات الطبية سوى مراقبة المرضى أنفسهم؛ ولذلك طلبتُ من الدكتور كاتسوبي أن يستطلع ما إذا كانت هناك شواهد أخرى تضاف إلى ما لاحظْناه أثناء طوافه على المرضى.

وقد سُررتُ كثيرًا حين أحسستُ أن رغبة الاطلاع العلمي قد نشطَت من جديد في ذهني؛ ولذلك لم أتوانَ عن سؤال كل من زارني عن حادث القصف، وكانت إجاباتهم جميعًا تبدو غامضةً مبهَمة، ولكنهم اتفقوا جميعًا في نقطةٍ واحدة؛ هو أن ثمة سلاحًا جديدًا قد استُخدِم ضد مدينتنا، وأصبحَت معرفة كُنه هذا السلاح مسألةً محيرة لنا؛ لأننا لم نفقد مراجعنا فحسب، بل فقدنا الصحف والتلفزيونات وأجهزة الراديو أيضًا.

تم إحضار الدكتور تشودو طبيب الأسنان الذي تحدثتُ عنه من قبلُ، وذكرت أنه هرب مع أسرته إلى تلال أوشيتا وخصصنا له ولأسرته استراحة عيادة الأسنان، وسألتُ الممرضة التي اشتركَت في نقله إلى المستشفى عن حاله، فعلمتُ منها أن حالته خطيرة وأن جميع أجزاء جسمه احترقَت، وأنها لا تعتقد أنه سيعيش، أما زوجته وابنته فلم يصبهما سوء. يا له من مسكين! فقد جاء هو أسرته منذ قليل من أوكيناوا إلى هيروشيما وليس لهم هنا أقارب وأصدقاؤهم قليلون، تُرى ماذا يحدث لعائلته إذا مات.

وبينما كنت أرقد في فِراشي وأفكر في حالة الدكتور تشودو جاءت السيدة سائيكي العجوز ووقفَت بجوار فِراشي، وحين نظرتُ إلى وجهها الشاحب المتجهم عرفتُ ما تريد أن تقوله لي، لقد مات ابنها، مات أكبر أبنائها ووحيدها الذي بقي لها في هذا العالم. كانت تأمل بالأمس في أن يحضر إلى المستشفى والآن رحل عنها، أما زوجة ابنها وابنها الثاني فقد ماتا يوم «البيكادون» ولم يبقَ لها أحد، وغطَّت السيدة وجهها بيدَيها وانفجرَت باكية، ولكن نشيجها كان أضعف من أن يُسمَع ولم أستطع الكلام للحظة؛ لأن حلقي كان قد جف، وحين استطعتُ أن أتمالك نفسي قلتُ لها: «لا تقلقي أيتها الجدة، سأتولى رعايتكِ من الآن.» ووقفَت السيدة سائيكي العجوز برهةً تبكي بهدوء ثم قالت: «أرجوك أن تقف بجانبي يا دكتور.» وغادرَت القاعة في الطريق إلى الطابق الأرضي دون أن تضيف كلمةً أخرى إلى ما قالته.

وعُدتُ أفكر في الدكتور هارادا الذي كان جسده محترقًا تمامًا فيما عدا فروة رأسه، وقد تقيحَت حروقه وجعلَت جسده يبدو أحمر اللون، بينما كانت دائرة من الشعر الأسود تكسو الجزء الذي لم يحترق من رأسه، وكان يبدو من بعيد وكأنه يرتدي وعاء للطهي على رأسه، لقد كان هو والدكتور تشودو بالقرب من حديقة أسانو سنتاي١٠ عندما حدث الانفجار. وقبل أن ينقضي اليوم تُوفِّي الدكتور هارادا وحملَت أسرة زوجته جثته إلى منزلهم في كابي.

أما الدكتور أوكورا أحد أطباء الأسنان بالمستشفى فقد خرج هذا الصباح ليبحث عن زوجته التي فُقدَت منذ اليوم الأول للقصف، وعاد فيما بعدُ يحمل بعض العظام التي عثر عليها في آخر مكان شُوهدَت فيه زوجته. وكان السيد ياما زاكي الموظف بمكتب العمل لا يزال يبحث عن ابنته دون جدوى، أما الدكتور فوجي فقد عثر على ابنته ولكنها كانت في حالةٍ خطيرة وتُوفيَت في منزل أحد أصدقائه في ميدوري.

لم تكن هناك أنباءٌ طيبة هذا اليوم، فالدكتور موري سوجي الطبيب بالقسم الداخلي كان لا يزال مفقودًا، ولمَّا كان يعيش بالقرب من مركز الانفجار فقد افترضْنا أنه وجميع أفراد أسرته قد قُتِلوا، كما أن ثلاثة من ممرضاتنا لقِين حتفهن، أما الآنسة هينادا فكانت تُحتضَر رغم أنها تبدو بصحةٍ جيدة قبل أن تصاب بالإسهال، وقبَيل المساء مات الضابط الشاب الذي سمعتُه ليلة الأمس يطلب الماء، ولم تستطع أمه التي جاءت من محافظة ياماجوتشي أن تراه قبل أن يلفظ آخر أنفاسه، وأُعطِي فِراشه في المحجر لفتاةٍ صغيرة كانت تصرخ منادية أمها بصوتٍ تتفتت له الأكباد.

وحل الظلام ولم يكن هناك مصدر للإضاءة فيما عدا النيران التي تبدو عند محارق الجثث، وأخذَت رائحة الجثث المحترقة تزكم الأنوف من جديد، وكان المستشفى هادئًا ولكن القسم الذي عُزِل فيه بعض المرضى كان يقطع سكونه صراخ الفتاة الصغيرة بين حين وآخر: «أُمَّاه إنني أتألم، إنني لا أستطيع أن أتحمل الألم.» ولم أستطع أن أذوق للنوم طعمًا قبل طلوع الفجر.

١٠ أغسطس ١٩٤٥م

هبَّت نسمةٌ باردة عندما استيقظتُ في الصباح، وبعد أن تبادلْنا تحية الصباح سألتُ رفاقي عن مدى تقدُّم صحتهم خلال الليل، فرفع رءوسهم أولئك الذين بدأَت أحوالهم تتحسن، ورفع البعض الآخر أيديهم، ولحُسن الحظ قضَوا جميعًا ليلة بلا مضاعفات.

وخارج المستشفى كان الناس يبحثون بين الأنقاض عن أصدقائهم وأقاربهم، وإلى الجنوب على طول خط الترام الذي كان يربط ما بين هاتشوبوري وهاكوشيما كان الناس يسيرون في خطٍّ لا نهاية له في الطريق من وإلى التلال والقرى المجاورة يبحثون عن الأفراد والممتلكات التي فقدوها.

وبلغَتني رسالة تتعلق بالآنسة ياما كبيرة ممرضات قسم الجراحة، مفادها أنها تعاني من مرضٍ خطير وترقد بأحد المخابئ بالقرب من يوكوجاوا، فأنميتُ هذا الخبر إلى الدكتور كاتسوبي والآنسة تاكاءو لأنهما من أقرب الأصدقاء إليها، وما كادا يسمعان هذا النبأ حتى هرعا للبحث عنها، وكانت الآنسة تاكاءو على عجلة من أمرها حتى إنها لحقَت بالدكتور كاتسوبي وقد ارتدَت صندلًا قديمًا لا يمكن أن يبقى في أقدامها أكثر من خمس دقائق، فقلتُ لها: «إنك لا تستطيعين الذهاب بهذا الصندل حتى يوكوجاوا فخذي حذائي.» فقبِلَت العرض ولبسَت حذائي وأخذَت تجرُّه جرًّا في الطريق خلف الدكتور كاتسوبي، ولا أدري كيف استطاعت الاحتفاظ بحذائي في أقدامها؛ لأنه كان كبيرًا لدرجةٍ تكفي أن تضع كلتا قدمَيها في فردةٍ واحدة، وكنت أراها عبْر النافذة وهي تتأرجح وتميل ذات اليمين وذات الشمال لتلحق بالدكتور كاتسوبي بقوامها الممتلئ وروحها المرحة، فبدَت مثل الإله إيبيسو إله الثروة، وكانت نعم الرفيق للدكتور كاتسوبي.

تناولتُ هذا الصباح أرزًا مسلوقًا بدلًا من الأرز المهروس، وأحسستُ بمدى التغير الكبير الذي طرأ عليَّ حين استقر الأرز في معدتي، وشعرتُ أن باستطاعتي أن أصنع شيئًا، فقلتُ لنفسي لماذا لا أنتهز فرصة غياب الدكتور كاتسوبي وأحاول أن أمشي مرةً أخرى، وكان سروي بالغًا عندما وجدتُني أمشي دون ألم، وكانت الغرز لا تؤلمني كثيرًا مثلما كان الحال بالأمس، وبعد بضع خطوات أصبحتُ مقتنعًا أن المسألة تحتاج إلى تدريب، وبينما كنت أختبر قدرتي على المشي سمعتُ وقْع أقدام فالتفتُّ ورائي لأجد السيد ميزوجوتشي يتجه نحو فِراشي صائحًا: «يا دكتور يجب أن تكون أكثر حرصًا حتى لا ترهق نفسك، هل أستطيع أن أتحدث معك في بعض الأمور؟» فأجبتُ: «بكل تأكيد.» فقال: «إن رصيدنا من اللوازم الطبية قد بدأ ينفد، ونقوم الآن بتوزيع القَدر القيل الذي يتوفر لدَينا بين المرضى الخارجيين ومرضى القسم الداخلي، ولكن المرضى الخارجيين ازدادوا عددًا وبعد حين لن يكون لدَينا ما نقدِّمه لهؤلاء وأولئك، والكمية التي سُلِّمَت لك بالأمس كانت الإضافة الوحيدة إلى رصيدنا منذ حدث القصف، والمخازن الاحتياطية التي تقع في جي جوزن وياجوتشي لا يمكن الوصول إليها.»

فقلتُ له: «قل للدكتور كوياما أنني أريد أن أراه إذا لم يكن مشغولًا لعلَّني أجد عنده مخرجًا من هذا المأزق.»

وجاء الدكتور كوياما فكرَّرتُ على مسامعه ما قاله لي ميزوجوتشي وسألتُه الرأي ففكر مليًّا ثم قال: «لا أعتقد أن باستطاعتنا الوصول إلى حلٍّ لهذه المشكلة ما لم نتلقَّ عونًا من الخارج، ولعلَّك تعلم أن مكتب المحافظة وعدَنا بالمساعدة.» فأجبتُه قائلًا: «إذن فلنغلق القسم الخارجي لنحتفظ على الأقل بما لدَينا من مخزون لعلاج مرضى القسم الداخلي.»

فأجاب الدكتور كوياما بقوله: «إن مثل هذا التصرف لن يكون مجديًا فإن من يترددون على العيادة الخارجية لا تقل حالتهم سوءًا عن مرضى القسم الداخلي وإذا رفضْنا علاجهم فأين يذهبون؟»

عند هذا الحد فقدتُ أعصابي وصحتُ قائلًا: «لقد مرَّت أربعة أيام ولم نتلقَّ أي إمداداتٍ طبية حتى الآن، وحتى إذا أوفى مكتب المحافظة بوعده فإن الإمدادات التي سيرسلها لنا لن تكون كافية، إن لديك الكثير من المشاكل التي تحتاج إلى حلٍّ داخل المستشفى، وليس عليك أن تهتم بكل عابر سبيل يطرق بابك، لا بد أن تغلق العيادة الخارجية لا بد أن تغلقها اليوم فورًا.»

ويبدو أن الدكتور كوياما أحس أن جروحي وعدم استطاعتي النوم وقلقي على أوضاع المستشفى قد جعلني فاقدًا الاتزان، لأنه حاول تهدئتي، فكنت أستجيب له أحيانًا وأنفعل غاضبًا أحيانًا أخرى. وفي النهاية اضطُر أن يستسلم وينزل على رغبتي، ربما خوفًا من أن أفقد اتزاني نهائيًّا، فوعدني بأن يعلِّق إعلانًا على باب العيادة الخارجية بما يفيد إغلاقها.

وما كاد الإعلان يُلصَق على باب العيادة الخارجية حتى جاءت الشرطة وبعض موظفي مكتب المحافظة يسألوننا عن الدافع وراء اتخاذ مثل هذا الإجراء، وكان تأثير هذا القرار عليهم مثيرًا للعواطف، فالتمسوا منا أن نستمر في خدمة مرضى العيادة الخارجية من أجل مواطني هيروشيما، فقلنا لهم إنه يسرُّنا أن نكون في خدمة المواطنين، ولكن إمداداتنا توشك على النفاد ولم يبذل أحد جهدًا في تعويضها، فوعدونا بتدبير ما نحتاجه من إمدادات إذا كان ذلك هو العائق الوحيد في سبيل خدمة مرضى العيادة الخارجية.

ولعلَّ إصراري على تثبيت الإعلان على باب العيادة الخارجية لم يكن إجراءً طائشًا، وقبل أن يُغيِّروا موقفهم أرسلتُ الدكتور هينوئي إلى إدارة الصحة بمكتب المحافظة ليتسلم الإمدادات التي وعدونا بها، ولكن ما أعطوه له لا يستحق الذكر، فالكمية التي عاد بها لم تكن أكبر حجمًا من دموع العصفور. هكذا أحسسنا بخيبة الأمل، لقد أدرك موظفو الإدارة المحلية حقيقة موقفنا فكيف يتوقعوا منا أن نعالج المرضى بدون أدوية ويرسلون لفافة مثل تلك التي عاد بها الدكتور هينوئي، إنها إهانةٌ، ما في ذلك شك.

وكان الدكتور هينوئي والسيد ميزوجوتشي يبدوان أكثر ارتياحًا منا جميعًا، فاستمَعا إلينا بصبر حتى قلنا كل ما عندنا، ثم أشارا إلى أننا لم نُخدَع في مناورتنا مع سلطات المحافظة، وقال الدكتور هينوئي: «إننا على الأقل نعرف الآن موقع الإدارة الصحية، ونعلم أن رئيس تلك الإدارة لا يزال على قيد الحياة، وقد قالوا لي إنه كان بمنزله عندما حدث القصف ولم يُصَب بسوء، اللهم إلا كسرًا بأحد أضلاعه، فلماذا لا يذهب أحدنا لمقابلته وإطلاعه على جلية الأمر، إنني على ثقة أن باستطاعته تقديم العون لنا.»

ولم يكن هناك اعتراض على هذا الاقتراح؛ لذلك أرسلنا الدكتور كوياما مندوبًا عنا لمقابلة رئيس الإدارة الصحية في منزله. حقيقةً إنني كنت أعرف الرجل منذ كنا زميلَين في الدراسة، وكان يُدعَى الدكتور كيتاجيما، غير أن الدكتور كوياما حين قابله بمنزله لم يحظَ منه بفرصة لشرح موقفنا وعرْض مشاكلنا، فقد كان الرد الذي تلقَّاه من الدكتور كيتاجيما رئيس الإدارة الصحية هو: «إنك لا بد أن تفتح العيادة بأمر المحافظ.» فرد عليه الدكتور كوياما قائلًا: «إن مهمة مستشفانا معالجة المرضى من موظفي وزارة المواصلات وعائلاتهم، ونحن الآن نتولى علاج مواطني هيروشيما بدوافع إنسانية، وليس بيننا وبين المحافظ أية رابطة، فنحن لا نخضع إلا لوزارة المواصلات ولا شأن للمحافظة بنا؛ ولذلك لا أجد داعيًا لإطاعة أوامرك التي تُلقيها علينا باسم المحافظ حتى لو قام بتلبية طلباتنا، إن كل ما نطلبه هو الإمدادات، إمدادات طبية لمعالجة كل شخص يحتاج إلى علاج، بغض النظر عن نوع العلاقة التي تربطنا به.»

فتغيرَت لهجة الدكتور كيتاجيما وأخذ يستخدم عبارات أكثر لطفًا استمدَّها من لهجة أوكاياما وهو يتحدث إلى الدكتور كوياما فقال له: «كفى، كل ما أرجوه منك أن تفتح العيادة باسم الإنسانية وسأبحث أمر إمدادك بما تحتاجه من إمداداتٍ طبية وأطباء وممرضات وكل ما من شأنه معاونتكم.»

وإذا كان لي أن أستعمل تعبيرات الدكتور كوياما؛ فقد رأى أنه لا داعي للتصارع باللسان مع رئيس الإدارة الصحية، وعاد إلى المستشفى وهو مقتنع أن الدكتور كيتاجيما سيَفي بالوعد، وسعدنا جميعًا بما سمعْناه، فقد انتصرَت وجهة نظرنا ونزعنا الإعلان من على باب العيادة.

كانت الآنسة ياما لا تزال بخيرٍ عندما أحضروها إلى المستشفى، وعلمنا منها أنها كانت في طريقها إلى المستشفى عندما حدثت «البيكا» ورغم أنها كانت مغطاة جزئيًّا بمظلة فقد أُصيبَت بحروقٍ بالغة، وفقدَت ثيابها، ولم يكن لدى الدكتور كاتسوبي سوى أملٍ ضئيل في شفائها.

أما السيد شيوتا الموظف بمصلحة المواصلات فقد أُصيبَ بالقرب من نيجتسو١١ ويرقد الآن بمنزل أحد أصدقائه في هيساكا، وجاءنا رسول من قِبَله يسألنا عما إذا كان من الممكن إحضاره إلى المستشفى. فطلبْنا منه أن يحضره على عجَل.

وبدأ الناس الذين كانوا قد الْتجَئوا إلى القرى والضواحي المحيطة بالمدينة يعودون، وسمعوا أن المستشفى على استعداد لاستقبالهم، فتركوا أماكنهم بالمعابد والمدارس والبيوت والمخابئ ميممين شطر المستشفى، ولم يكونوا قد حصلوا على علاج أو إسعافات من قبل، وكانت أجسامهم واهنة ويتضورون جوعًا، ولما كان المكان أضيق من أن يتسع لهم فقد لمسْنا الحاجة إلى ضرورة إعداد مبنى المصلحة وتحويله إلى ملحق للمستشفى، وأعطينا لموظفي المصلحة وعائلاتهم الحق في أولوية الانتقال إلى مبنى الملحق، أما المرضى الآخرين فقد هيأنا لهم مكانًا بالمستشفى، وبذلك نقلنا زوجة السيد يوشيدا رئيس المصلحة الذي مات وهو في الطريق إلى الملحق، وكانت تلك السيدة المسكينة قد اعتُبرَت في عداد المفقودين، غير أنها تمكنَت وقت الحادث من الهرب إلى منزلها في كوماتشي بعد أن لحقتها بعض الإصابات فأعددنا لها فِراشًا بغرفة الاستقبال التي كانت ملحقة بمكتب زوجها الراحل.

ازداد تدفُّق الناس على المستشفى حتى أصبحنا لا نستطيع السيطرة على الموقف، وكان سرورنا عظيمًا عندما وصل إلينا الدكتور نوريوكا — الذي كان يعمل بمستشفى المواصلات بأوساكا — فجأةً على رأس مجموعة من المساعدين يحمل كلٌّ منهم بعض الإمدادات الطبية، وكان حضورهم كالغيث وقت الجفاف، فالدكتور نوريوكا طبيبٌ ماهر حاذق، أسرع إلى العمل هو وجماعته، وكانت مهارته وتفاؤله يبعثان الحماس في النفوس، وأحسسنا أن وجودهم قد دعم مركزنا.

وعلى النقيض من ذلك وصلَتنا مجموعة من المساعدين الطبِّيين الذين ليست لديهم الخبرة الكافية للعمل؛ ولذلك لم يستطيعوا عمل شيء، وجاءوا بأيدٍ خالية من الإمدادات الطبية، وكنت على وشك أن أقول لهم إننا كنا نقدِّر ما أبدَوه من نوايا طيبة إذا عبَّروا عن هذه النوايا بالعمل، أما الدكتور نوريوكا وجماعته فعلى العكس من ذلك أمدوا قلوب المرضى الواجفة بالقوة والأمل.

منذ وقع حادث القصف وقلوبنا لا تكاد تستقر بين ضلوعنا، ولكن الدكتور نوريوكا استطاع أن يعيدها إلى موضعها بفضل همته وسجاياه، كان جادًّا في عمله قوي الملاحظة، وكان فوق ذلك متحمسًا نشيطًا واتسع وقته لعلاجنا، كما أننا تعملنا منه الشيء الكثير، ولأول مرة منذ وقعَت الواقعة أحسستُ أننا بدأنا نسترد رباطة جأشنا.

جاء الليل وكانت الليلة الأولى التي لم نشم فيها رائحة الموت، ولست أدري ما إذا كان ذلك بسبب تغيُّر اتجاه الريح أم بسبب تناقُص عدد محارق الجثث في المدينة، فقد بدأ يتناقص عدد من يموتون كل يوم، ولم يمت اليوم سوى شخصَين فقط.

وأحضر لي السيد ميزوجوتشي مصباحًا صنعه من طبق من الصاج وفتيل من أربطة الجروح وزوَّده بالنفط الخام، ولكن الضوء المنبعث من هذا المصباح كان يبدو باهرًا؛ أنار السقف والحوائط وشع في أرجاء القاعة الفسيحة. كان هذا هو أول ضوء نراه منذ «البيكا»، لقد نسينا تألُّق الضوء في الليل.

جلس السيد ميزوجوتشي بجانبي بضع دقائق يتحدث إليَّ، فأخبرني أنه رأى رجلًا يحاول انتزاع قماط جندي مصاب بالعمى فمنعه من ذلك، ثم أخبرني عن الآنسة هينادا والآنسة سوسوكيدا، وكان يحدثني بصوتٍ منخفض قائلًا: «يمر الوقت ونعود مرةً أخرى إلى الليل، إن السيدة التي ترقد بجواري تحدثَت معي بطريقةٍ ودِّية لطيفة، ولم أستطع معرفتها إلا في الصباح؛ فقد اكتشفتُ أنها الآنسة سوسوكيدا، كان وجهها متورِّمًا فلم أستطع التعرف عليها إلا حين عرَّفَتني هي بنفسها …»

وغرقتُ في النوم وأنا أستمع إلى حديث ميزوجوتشي.

١١ أغسطس ١٩٤٥م

كان اليوم حارًّا منذ الفجر، والسماء صافية، واستطعتُ أن أنام طوال الليل لأول مرة منذ حادث القصف؛ ولذلك أحس بالانتعاش، ونظرتُ حولي لأجد أن الآنسة ياما نزلَت بقاعتنا وكان فِراشها يقع بين فِراش الآنسة أوموتو والآنسة سوسوكيدا اللتَين كانت حالتهما خطيرة، وكانت الآنسة ياما هي الوحيدة التي لم تستطع رفع رأسها عندما تفقدتُ رفاق القاعة، لم أرَ سوى قفاها لأنها كانت تخفي وجهها بعيدًا عني، فقلت لها: «إذا لم يكن باستطاعتك أن ترفعي رأسكِ فارفعي يدكِ؛ فإن كان باستطاعتكِ رفْع يدكِ فإن ذلك يعني أنك في طريق التحسن.» فردَّت عليَّ برفع يدها، وحاولتُ تشجيعها قائلًا: «لا بأس فستعبُرين هذه المحنة فما زلتِ ممتلئة بالحياة، وإذا كان باستطاعتكِ أن ترفعي يدك فإن معنوياتك سوف ترتفع ويساعدك هذا على الشفاء.»

لم يمت أحد خلال الليل، وانضم إلينا ثلاثة من زملائنا الذين كنا نعتقد أنهم قد فُقِدوا، كان الجميع يبدو عليهم التحسن هذا الصباح، وأصبح الإفطار يبدو حلو المذاق عن ذي قبل عندما أحضره لنا السيد ميزوجوتشي، وما كدنا نفرغ من تناوُل الإفطار حتى عصفَت الريح، وأخذ طلاء الحوائط المحترق يتساقط فوقنا، كما بدأَت تتساقط من السقف أيضًا، تمامًا كما تتساقط زهور الكرز، ولم يستطع الدكتور ساسادا أن يحمي وجهه بيديه التي اختفت داخل الأربطة وكان أكثرَنا تعرُّضًا لأذى التراب وطلاء الحوائط.

وعندما توقفَت الريح كنا قد نفضْنا التراب والرمال عن أنفسنا نوعًا ما، ولكننا كنا نشعر بالضيق، فقد كانت صلعتي تبدو خشنة ومكسوة بالرمال، كما أن لحيتي التي طالت لعدم تمكني من حلاقتها أصبحَت بيضاء في لون الجليد، وشعرتُ بحاجتي إلى الاغتسال والحلاقة كما لم أشعر من قبل.

لقد تسببَت الريح في إيذائنا، وأثارت ضيقنا؛ ولذلك عندما مر بنا الدكتور كاتسوبي ورأى ما أُعانيه من ضيق، رق لحالي وقام بغيار جروحي، وبدا عليه السرور، وقام — لدهشتي البالغة — بإزالة الغرز قبل الموعد الذي كان قد حدده من قبلُ بيوم، فأحسستُ بتحسُّنٍ كبير بعد الغيار الجديد، فالتخلص من الضمادات التي كانت تنبعث منها روائح كريهة وإزالة الغرز جعلني أحس بالراحة، ونسيتُ ما سبَّبَته العاصفة الترابية لي من متاعب.

وبينما كنت أرقد مستمتعًا بالراحة دخل علينا الملازم تاناكا الضابط الشاب الذي أرسل لنا كمية من الإمدادات الطبية أول أمس، وبعد أن بادلَني التحية عبَّرتُ له عن تقديري لكرمه، وسألتُه عما حدث لكتائب الفرقة الثانية التي ينتمي إليها، والتي كانت ثكناتها تقع خلف المستشفى، فأجابني بقوله: «لقد كان ثمة ما يزيد على أربعمائة مجنَّد في الخدمة الطبية يعسكرون هناك، جاء معظمهم إلى هنا عقابًا لهم على مخالفات ارتكبوها، وقد مات معظمهم.» فسألتُه عما إذا كانت لديه أخبار عن ابن عمي الكابتن أوراب، فأجاب: «لقد أخبرني البعض أن الكابتن أوراب قد أُصِيب بجرح في مؤخرة رأسه، وأُرسِل إلى أوجينا للعلاج، وهذا هو كل ما أعرفه عنه لأن الاتصالات بين القوات سيئة للغاية، ومن بقوا على قيد الحياة تشتتوا هنا وهناك بصورةٍ يصعب معها الاتصال بهم.»

وثمة سؤال أخير كنت أخاف أن أسأله للملازم تاناكا يتعلق بإشاعةٍ سرَت بين الناس مؤداها أن روسيا دخلَت الحرب ضد اليابان، وأنها شنَّت هجومًا كبيرًا على منشوريا واجتاحتها، وقد أيد الملازم تاناكا هذه الإشاعة غير أنه لم يكن لديه تفاصيل عنها.

كان هذا أمرًا لا يمكن تصديقه؛ فقد أصبحْنا الآن محاطين بالأعداء من الأمام ومن الخلف، ومن المؤكد أنه لا أمل لنا في النصر، وشعرتُ بكابوسٍ ثقيل يجثم فوق صدري.

وعلمْنا خلال النهار أن سلاحًا جديدًا غامضًا استُخدِم في ضرب ناجازاكي وأسفر عن نتائج مماثلة تمامًا لِما حدث في هيروشيما، فقد كان مصحوبًا ببريقٍ شديد، وبصوت انفجارٍ مدوٍّ. أصبحَت كلمة «بيكادون» واحدة من مفردات اللغة اليابانية، وعلى الرغم من أن السيدة سائيكي العجوز التي كانت داخل المدينة عندما حدث القصف ظلَّت تستخدم تعبير «بيكا»؛ فإن أولئك الذين كانوا خارج المدينة أصروا على تسمية الحادث بالبيكادون. واستقرَّت الكلمة الأخيرة كمصطلحٍ أطلقه الناس على السلاح الغريب.

وبعد أن بلغَتنا أنباء قصف ناجازاكي، جاءنا رجل من فوتشو١٢ ذكر لنا أن اليابان تملك هذا السلاح الغريب ولكنها حتى الآن كانت تحيطه بسريةٍ بالغة، ولم تستخدمه ليقينها أنه سلاح يكفي اسمه لإثارة الفزع والرعب، وأضاف الرجل أن هجومًا خاصًّا قام به الأسطول استخدم فيه هذا النوع من القنابل في ضرب أراضي أمريكا ذاتها، وزعم أن معلوماته عن هذه الغارة مستمدة من مصدرٍ موثوق به بالقيادة العامة، وأن الغارة قام بها سرب من الطائرات ذات الست محركات من قاذفات القنابل العابرة للمحيط، وأن اثنتين من طائرات هذا السرب لم تستطيعا العودة إلى قواعدهما، ومن المعتقَد أن هاتَين القاذفتَين قد نجحتا في إصابة أهدافها، ونفَّذَتا مهمتهما بنجاحٍ مؤكد.

إذا أصاب سان فرانسسكو وسان دييجو ولوس أنجلوس ما أصاب هيروشيما؛ تُرى ماذا تكون عليه هذه المدن الآن من الفوضى؟ أخيرًا استطاعت اليابان أن ترد الصاع صاعَين. وتغيَّر جوُّ القاعة لأول مرةٍ منذ ضُرِبَت هيروشيما، كان كل من فيها يفيض بِشرًا وسعادة، وكان أولئك الذين يعانون إصاباتٍ بالغة أكثرَ الموجودين سعادة، وبدأَت الفكاهات تُسمَع، وغنَّى البعض نشيد النصر، بينما دعا الآخرون للجنود بالتوفيق، واعتقد كل فرد الآن أن التيار قد أصبح في صالح اليابان.

صممتُ على مغادرة الفِراش ما دامت جروحي قد التأمَت لأتابع بنفسي موضوع الإمدادات الطبية التي وعدَنا بها مدير الإدارة الصحية بالأمس، وكان أحسن ما يمكن عمله هو أن أتوجه بنفسي إلى الإدارة الصحية التي كانت تقع في مبنًى مهدَّمٍ بمنطقة ياماجوتشي بالقرب من وسط المدينة.

تلقَّى الدكتور هينوئي تعليمات بمرافقتي والعناية بي، ولمَّا كنتُ أعاني من الضعف والهزال فقد عرض عليَّ أن يحملني إلى هناك فوق دراجته، فلم أعترض على ذلك، وما هي لحظات حتى بدأْنا الرحيل.

كانت المسافة بين المستشفى والإدارة الصحية تبلغ نحو ميل، فوجدتُ أنه من الأفضل أن أنتهز هذه الفرصة لأرى عن قربٍ ما حدث للمدينة. وعندما غادرْنا المستشفى مررنا بالمرحاض الخارجي الذي ذكرتُه من قبل، وكانت حالته تثير التقزز؛ إذ كان المرضى الذين يستطيعون المشي يقضون حاجتهم فيه، رغم أننا رجَوناهم أن يقضوها في مكانٍ بعيد عن المستشفى، وكان المكان يُنظَّف كل صباح، ولكن الأرض كانت تمتلئ مرةً أخرى بالبراز، وتفوح من المكان روائح كريهة. وحين بعُدنا عن المستشفى تخلصْنا من الروائح الكريهة التي كانت تُزكم أنوفنا، لنعاني من متاعب السير في طريق تعترضه الأنقاض، وكنا نحمل الدراجة أكثر مما نركبها، فقد تساقطَت أسلاك الترام والأعمدة التي كانت تحملها في عرض الطريق، وكان علينا أن نزحف بين الحين والآخر تحت الأسلاك أو فوقها وبين أسلاك التليفون والكهرباء المتشابكة، لنواجَه بالدعامات المهدمة والحوائط المتداعية، فإذا تخلصْنا من كل تلك العوائق وجدْنا الطريق ممتلئة بالحفر.

وإذا لم يكن مبنى الإدارة الصحية واضحًا أمامنا لكانت تلك الرحلة الشاقة أكثر إرهاقًا لنا، لقد كان مبنى الإدارة الصحية على مرمى البصر خلف كل تلك الأنقاض، وحين جلسْنا لنستريح ذات مرةٍ لاحظ الدكتور هينوئي أنه يبدو أننا لن نبلغ غايتنا، لأننا حين كنا نتفادى الانقاض كانت الطريق تبعدنا كثيرًا عن موقع الإدارة الصحية.

واستعنتُ على متاعب الطريق بتفحُّص الأنقاض التي تتراكم على جانبَيه، فالحوائط المهدمة، ومواسير المياه المحطمة تكشف عن موقع الحمامات، وقِطع الصيني المتناثرة تدلنا على موقع المطابخ، والستائر الثمينة المطرزة الممزقة ترشدنا إلى نوع الحي الذي نمرُّ به، فقد كان المكان موطنًا للطبقة الثرية في المدينة، وكنت أعرف معظم سكانه، ولكن المكان بدا غريبًا بالنسبة لي، ولم أستطع أن أحدِّد على وجه الدقة الأماكن التي كان يسكنها من أعرفهم في هذا الحي.

شاهدْنا العظام المحترقة، وشممنا مرةً أو مرتَين رائحة اللحم البشري المحترق، فهذه العلامات المميزة للموت كانت تبدو واضحة طول الطريق وسط هذا الركام، وشد ما ضايَقني رؤية لُعب الأطفال المحترقة وسط حطام المنازل.

وأخيرًا وصلْنا إلى مبنى البنك المتهدم الذي اتخذ مقرًّا للإدارة الصحية بطريقة ياماجوتشي، وتوقفنا قليلًا لننظر إلى المنطقة الواقعة خلفنا، فإلى الشمال كانت يقع المستشفى ومبنى مصلحة المواصلات يقفان وحدهما وسط الحطام، وخلفهما تقع تلال أوشيتا وقد احترقَت سفوحها وأصبحَت عارية من الأشجار.

دخلْنا البنك من بابٍ خلفي، ووجدنا أنفسنا داخل ردهةٍ واسعة بها حشدٌ كبير من الناس، حتى بدَت وكأنها خلية نحل، والْتقينا برئيس الإدارة كيتاجيما واثنين من مساعديه، وكانوا يجلسون على مقاعد محطمة، ويضعون أوراقهم فوق صناديق برتقال قديمة، وحين رآني كيتاجيما عقدَت الدهشة لسانه لحظة ثم ارتسمَت على وجهه علامات السرور وتعانقْنا وأخذْنا نتحدث معًا بلهجة أهل أوكاياما، قال لي: «لقد كنتُ لحُسن الحظ في بيتي عندما سقطَت القنبلة، وكل ما أصابني كسورٌ بسيطة ببعض الضلوع، تُرى ماذا حدث لك؟ هل أنت بخير؟ أعتقد أننا محظوظان لأننا بقينا على قيد الحياة.»

وبينما كنا نتحدث سويًّا استأذن الدكتور هينوئي وأخذ يتجول في المكان، وجمع الإمدادات التي كنا في أمسِّ الحاجة إليها، والتي وعد الدكتور كيتاجيما بتدبيرها من قبل، وحين حققَت زيارتنا هدفها استأذنَّا من الدكتور كيتاجيما وعُدنا أدراجنا إلى المستشفى.

وأثناء سَيرنا بالطريق قلتُ الدكتور هينوئي:«إن مرضانا ليسوا وحدهم الذين يعانون من الدوسنطاريا، فقد أبلغَني كيتاجيما أن جميع المستشفيات الموجودة بالمنطقة تعج بمرضى الدوسنطاريا، كما أخبرني أن بدروم محلات فوكويا تحول إلى مركز للإسعافات الأولية، فدعْنا نلقي عليه نظرة ونحن في طريقنا إلى المستشفى.»

فأومأ الدكتور هينوئي برأسه موافقًا، عندما بلغْنا محلات فوكويا توقفنا هناك، وكانت النظرة إلى البدروم كافية، فقد كان المكان مظلمًا كريهًا مما دفعَنا إلى تغيير رأينا فعدلْنا عن تفقُّده، وعُدنا إلى الطريق الذي يقود إلى المستشفى.

وتابعْنا السير دون أن يتحدث أحدنا إلى صاحبه، فقد بلغ بنا الإرهاق حدًّا كبيرًا، وغلب الشعور بالاكتئاب، فحرارة الجو، وحالتنا الصحية، ومنظر الخرائب حولنا، تركَت جميعًا أثرها على جسدَينا وروحَينا، كما أن المعلومات المتفرقة التي جمعناها من الدكتور كيتاجيما لم تساعدنا على تغيير نظرتنا إلى الموقف، فقد قتل البيكادون ثمانين طبيبًا من بين المائة والتسعين طبيبًا الذين كانوا يعملون في هيروشيما، ومعظم من ماتوا كانوا من أصدقائي، كما لم أستطع التخلص من تأثير ما شاهدتُه في بدروم محلات فوكويا، وكان من أكبر المحلات في هيروشيما وموضع فخر المدينة، فإذا به قد تحول إلى حطامٍ مشوَّه المعالم. سقطَت نوافذه، وتحول المبنى من الداخل إلى كهفٍ كئيب مظلم، وأصبح الناس الذين كانوا يقصدونه لشراء ما يحتاجون إليه، يرقدون اليوم بداخله يعانون من المرض، كانت أنَّاتهم وتأوهاتهم لا تزال ترن في أذني.

لقد كان مستشفانا جنة بالقياس إلى ما شاهدتُه، فهو صغيرٌ حقًّا ولكنه منير وجيِّد التهوية، وحتى المرضى الذين كانوا يرقدون في دورة المياه تحت السلم كان مكانهم أفضل بكثير من زملائهم الذين كانوا يرقدون في محلات فوكويا، وأصبحتُ — بعد أن لمستُ سوء الأوضاع — أفهم سبب شعور مرضانا بالراحة والسعادة لوجودهم بالمستشفى، إن لدَينا ما يمكن أن نصنعه لتحسين الخدمة لمرضنا، وبدأَت معنوياتي ترتفع من جديد.

وسألتُ الدكتور هينوئي عما إذا كان قد حصل على كل ما نحتاج إليه من الدكتور كيتاجيما، فردَّ بالإيجاب، وكسرَت إجابته حاجز الصمت، وقال إنه ذهب إلى الدكتور فوجي مورا ووجد منه كل غيرة وعون، وقال له إن باستطاعتنا أن نحصل على كل ما نحتاج إليه مما لديهم من إمدادات. وأكد هينوئي أن موقفنا سيتحسن كثيرًا عما قبل.

وحتى يؤكد الدكتور هينوئي أن معنوياته مرتفعة ابتسم وأخذ يثرثر طوال الطريق، حتى قادَتنا ثرثرته مرةً أخرى إلى غابة الأسلاك التي اجتزناها من قبل، ولكنها كانت بالنسبة لنا أقل صعوبة في الاجتياز، وأخيرًا عُدنا إلى قاعدتنا.

وبعد أن استرحتُ قليلًا، قررتُ أن أتفقد المرضى بالمستشفى، تُرى ماذا سيقول المرضى حين يشاهدون مدير مستشفى المواصلات يرتدي سراويل قذرة وقميصًا ممزَّقًا ويبدو أسوأ حالًا من أفقر فلاح بالقرية؟ ربما كانت مثل هذه الأفكار مثار إزعاج لي قبل البيكادون، أمَّا الآن فلا شيء يهم؛ إذ لا يبدو إنسان في هيئة طبيب مثلما أبدو الآن. وقبل أن تذهب بي الأفكار بعيدًا، كان من السهل عليَّ أن أتأكد أنني رغم مظهري الرث كنت أبدو من أحسن الناس مظهرًا بالمستشفى.

شعرتُ بالخجل لأنني كنت أبدو أحسن مظهرًا عندما لاحظتُ بؤس وشقاء الناس من حولي، فهنا سيدةٌ عجوز على شفا الموت لا شيء يستر جسدها سوى فانلة، وشاب احترق جسده يجلس عاريًا تمامًا إلا من قطعة حصير تغطي جزءًا من جسده، وهناك أمٌّ شابة تُحتضَر وقد تفحم صدرها بينما ينام طفلها فوق ذراعها يرضع من ثديها، وفتاةٌ شابة جميلة احترق جسدها كله فيما عدا وجهها ترقد في بِركة من الدماء والصديد، وجنديٌّ عارٍ تمامًا إلا من سروال قصير يرقد فوق حصير ملطَّخ بالدماء، وآخرون يرتدون أسمالًا صنعها ذووهم من الستائر ومفارش الموائد مما استطاعوا العثور عليه في المنطقة المحيطة بالمستشفى.

لقد تعبتُ من كثرة ما حاولتُ تشجيع هؤلاء التعساء، كنت أقول لهم: «إننا على الرغم من سوء الأحوال، وما نعانيه من نقصٍ في التجهيزات، فإن هذا المستشفى هو أحسن مكان للعلاج في هيروشيما، هذا ما علمتُه من مدير الإدارة الصحية بالمحافظة اليوم، فأرجو أن تتذرعوا بالصبر.»

لم أكن أقصد المباهاة بهذا الكلام، فإن مستشفانا قد لقي تقدير الإدارة الطبية بالمحافظة، وإذا كانت المستشفيات الأخرى بالمدينة على نفس المستوى الذي رأيتُه في محلات فوكويا، فإن هذا التقدير لا مبالغة فيه. وعندما كنا في المدينة قابلتُ السيدة ياناجي هارا، وهي أرملة صديقٍ قديم، كانت هذه السيدة شديدة الهزال وقد فقدَت كل شيء أثناء الحادث: منزلها، وملابسها، وأصبحَت وحيدة في هذا العالم تعيش بعيدًا عن موطنها الأصلي في جزيرة شيكوكو، فسألتُها: «أين تقيمين الآن يا سيدة ياناجي هارا؟»، فأجابت والدموع تملأ عينها: «في محلات فوكويا.» وكان للبؤس الذي بدا عليها، ولنبرات صوتها الحزينة وهي تقول لي هذه العبارة وقعٌ أليمٌ في نفسي، فلم أستطع أن أجد من الكلمات ما أواسيها به سوى أن أقول لها: «حسنًا، إنني مسرور لأنك على الأقل بخير ولم تصابي بسوء.» فردَّت عليَّ بحزنٍ شديد: «نعم، ولكني ما زِلتُ في فوكويا.»

إن ما سمعتُه ورأيتُه اليوم ملأني بالثقة، وجعلني أشيد بمستشفانا أمام المرضى، وربما كنت لا أستطيع الجهر بهذا إذا تجولتُ بين المرضى قبل ذهابي إلى المدينة.

كان الدمار في المدينة أكبر كثيرًا مما كنت أتصور، فقد أدَّت هذه القوة الغامضة إلى تقويض دعائم المباني المشيدة بالخرسانة المسلحة، وتركَتها مثل السلة المحطمة، وإذا كانت قد تركَت المستشفى قائمًا فإنها لم تبقِ على أثاثه ومعدَّاته وأدواته.

بَريقٌ مفاجئ، وانفجار، ثم زلزالٌ عارم، ونارٌ متأججة، تتابعَت على المدينة كل الظواهر التي تعبِّر عن الدمار والموت.

أويتُ إلى فِراشي ملتمسًا بعض الراحة، غير أني كنت متوترًا للغاية فلم أشعر بلذة الراحة، لقد أثارتني مَشاهد اليوم، فلم أعُد أُحِس بالإرهاق والتعب، وجعلَتني الأفكار التي دارت في رأسي أكاد أقف على حافة الجنون.

وأخذتُ أمشي جيئةً وذهابًا في القاعة، وبدأَت الريح تهبُّ تحمل معها الغبار وتُسقط طلاء الحوائط، فكان المنظر طبيعيًّا بالنسبة لي ومُلائمًا تمامًا لحالتي النفسية، وتزاحمَت الأفكار في رأسي، وضايقَني أحد الأسلاك الكهربائية الذي يطل من ماسورة بالحائط. ولستُ أدري لماذا صممتُ على قطعه رغم أنه لا يشكل عائقًا، فأخذتُ أشدُّه فتخرج من الماسورة لفائف السلك وألقيها من حولي، حتى أصبح السلك مكوَّمًا حولي دون أن تبدو نهايته، إذا استطعتُ التخلص من الأسلاك والمواسير والسراير المحطمة، فإن القاعة سوف تتسع، ونستطيع أن نفرشها بالحصير، وننقل إليها خمسين أو ستين من المرضى الآخرين، عندئذٍ يستطيع كل من يرقدون في الدور الأرضي الصعود إلى هنا والتمتع بالمنظر واستنشاق الهواء والاستمتاع بالضوء، غير أني وحيد لا أجد من يعاونني.

وبدأتُ أهدأ تدريجيًّا، تمالكتُ نفسي، وأصبحتُ أكثر اضطرابًا، إننا نحتاج حقًّا إلى مساحةٍ أوسع، ولكن من الأجدى أن نعمل على تنظيف الحجرات الأخرى التي لا تزال ممتلئة بالركام، والتي لم نستخدمها بعد، فإذا استطعنا تحقيق ذلك توفرَت لدَينا أماكن تكفي لإيواء مائة مريض بكلا المبنيَين.

واطمأنَّت نفسي فتمددتُ على فِراشي، ولكن ما شاهدتُه طوال اليوم ظلَّت صورته ماثلةً أمامي، وشرد فكري نحو السيدة ياناجي هارا، وعجبتُ كيف تستطيع أن تعيش بعد اليوم، لقد ذكَّرني منظرها بأمي، وجعلني أتساءل: تُرى هل استطاع الدكتور نيشيمورا أن يبلِّغها رسالتي؟

وعُدتُ أفكر في المناظر التي شاهدتُها في المدينة بعد ظهر اليوم، إنني لم أرَ مثل هذا الدمار ولا مشهد أولئك التعساء من قبل.

وتذكرتُ الموتى، إن التخلص من جثثهم كان عملًا كبيرًا، تذكرتُ هذا بعد «البيكادون»، فقد قال لي الدكتور هينوئي إنه عندما ذهب يبحث عن أقاربه في اللية الأولى كانت الجثث قد سُحبَت من الشوارع الرئيسية.

تذكرتُ الحكايات التي سمعتها في اليوم الأول، ما أضعف الإنسان أمام قوى الدمار، فبعد «البيكا» تضاءل حجم الناس إلى أدنى مستوى من الضعف البدني والنفسي، أولئك الذين كانوا على قدر من القوة البدنية ساروا في اتجاه الضواحي والتلال البعيدة بنفوسٍ منكسرة وقلوبٍ محطمة، وعندما كانوا يُسألون من أين جاءوا كانوا يشيرون إلى المدينة ويقولون: «من هناك.» وعندما كانوا يُسألون عن وجهتهم كانوا يشيرون إلى الاتجاه المقابل للمدينة ويقولون: «إلى هناك.» كانوا محطَّمين ومشتَّتين يتحركون ويتصرفون بطريقةٍ آلية.

لقد أدهشَت تصرفاتهم كل من رأوهم على هذه الحال، وهم يسيرون في صفوفٍ طويلة مذهولين في الطريق الضيقة غير المعبَّدة، ويقصدون وجهةً واحدة. ولم يستطع من شاهدوهم الوقوف على حقيقة ما حدث، لم يدركوا أنهم يشهدون شتات الناس الذين كانوا يسيرون دون وعي.

وبالنسبة لأولئك الذين تحطمَت نفوسهم مع تحطُّم المدينة كانت الطرق ووسائل الانتقال لا أهمية لها، تبِع بعضهم خط السكك الحديدية، وسار الآخرون بالغريزة يقتفون آثار الأقدام بحقول الأرز، بينما وجد البعض الآخر أنفسهم قابعين في مجرى الأنهار الجافة، اتخذ كلٌّ منهم وجهته الخاصة بحثًا عن مجهول.

ويبدو أنني قد قضيتُ وقتًا طويلًا مع هذه الأفكار مع مُضِي الليل، فلم تكن لدَينا ساعات ولا تقاويم.

١٢ أغسطس ١٩٤٥م

استيقظتُ عند الفجر ولكني ظللتُ مستلقيًا في فِراشي حتى أشرقَت الشمس.

قضيتُ ليلةً مسهدة بسبب الآلام التي لحقَتني نتيجة السير لمسافاتٍ طويلة بالأمس، وشعرتُ اليوم بالإرهاق والكسل، وأخذَت عضلاتي تؤلمني، وكلما حاولتُ تحريك مفاصلي أتأوَّه من شدة الألم، ولأول مرةٍ منذ حادث «البيكا» اقتنعتُ بضرورة بقائي في الفِراش. وبينما كنت أرقد في فِراشي أغمغم وأحك ذقني جاءت الآنسة كادوا وعرضَت علي أن تحلق ذقني، فسألتها بجفاء: «من أين لك بشفرة الحلاقة؟»، ثم شعرتُ بالخجل لخشونتي في الحديث معها، ولمَّا كنت أرغب في التخلص من لحيتي فقد استطردتُ بلهجةٍ أكثر لطفًا: «لو تفضلتِ بحلق ذقني فسأكون مدينًا لك بالشكر.»

كانت الآنسة كادو قد حوَّلَت مقصًّا قديمًا إلى موس حلاقة ثم انهمكَت في العمل، وكان عليَّ أن أتحمل ألم الحلاقة بهذا المقص، وشجعَتني شعرات ذقني التي أخذَت تتساقط على التذرع بالصبر، ولكن الآنسة كادو عانت الكثير بسبب عدم صلاحية المقص في هذا العمل، ولِطول لحيتي، ويبدو أن بقية المرضى الذين كانوا معي في القاعة لم يستريحوا لمتابعة عملية الحلاقة، فقد كنت أتأوَّه من حينٍ لآخر، وأطلب من الآنسة كادو أن تتوقف، بينما هي تطيِّب خاطري بقولها: «اصبر قليلًا.»

حضر الكابتن فوجي هارا لزيارتي، وهو صديقٌ قديم من بلدتي أوكاياما تخرَّج في كلية البحرية بإيواكوني،١٣ وترقَّى حتى أصبح قائدًا لسفينةٍ حربية، وقبل أن تغرق سفينته كان يزورنا كلما ألقى مراسيها بقاعدة كوري١٤ البحرية، وكان دائمًا يخبرني بكل ما يتعلق بسَير الحرب فيما لا يتجاوز نطاق السرية العسكرية، وعندما كنت ألاحقه بالأسئلة حول تلك الموضوعات كان كثيرًا ما يلوِّح بيدَيه ويضحك، وكنت أكِن احترامًا كبيرًا للكابتن فوجي هارا، وأرى فيه ضابطًا شابًّا ذا مستقبلٍ مرموق.

اقترب فوجي هارا من فِراشي وقال: «يا دكتور هاتشيا، إنني سعيدٌ جدًّا أن أراك وزوجك على قيد الحياة، تُرى أي تجربة تلك التي اجتزتموها؟»

فأجابت زوجتي: «إنها مفاجأةٌ سارَّة أن نراك، كيف استطعتَ أن تنجو من «البيكادون»؟» فردَّ عليها بقوله: «لقد كنت أتلقَّى تدريبًا في إيواكوني عندما سمعتُ «الدون» فنظرتُ إلى الشرق تجاه هيروشيما، ورأيت دخانًا كثيفًا يتصاعد مثل المطر الغزير، وقدَّرتُ أن المدينة قد قُصِفَت.»

وقبل أن يكمل الكابتن فوجي هارا كلامه قاطعَته زوجتي قائلة: «لقد كان الخوخ الذي أحضرتَه لنا من أوكاياما في اليوم السابق على «البيكا» حلو المذاق، لقد أكل كلٌّ منا ثمرةً واحدة منه، ثم احتفظْنا بالباقي، ولكننا فقدْناه في الحريق ضمن ما فقدْنا من أشياء أخرى.»

فسألها الكابتن فوجي هارا: «أين كنتِ عندما حدث الانفجار؟»

فأجابت: «كان الدكتور يستريح بغرفة المعيشة، وكنت أقف في المطبخ بجوار النافذة الزجاجية، وهذا هو ما أصابني.» وأشارت زوجتي إلى الجروح التي سببها لها الزجاج المتطاير.

كان الكابتن فوجي هارا قد عرج على بيتنا لزيارتنا في طريق عودته من أوكاياما في اليوم السابق على القصف، وأحضر لنا سلةً مملوءة بالخوخ الذي تشتهر به محافظة أوكاياما، وقضى الليل عندنا، وغادر البيت في صباح اليوم التالي بسرعة دون أن يغسل وجهه ليتمكن من اللحاق بأول قطار متجه إلى إيواكوني، وتذكرتُ الخوخ فسال لعابي بمجرد تذكُّره.

علَّق الكابتن فوجي هارا على حديث زوجتي قائلًا: «إن فقْد الخوخ شيءٌ بسيط، فبقاؤكما على قيد الحياة في حد ذاته معجزة؛ فإن انفجار قنبلةٍ ذرية شيءٌ مهول.»

فانتفضتُ جالسًا في فِراشي صائحًا: «قنبلةٌ ذرية! ماذا؟! أهي تلك القنبلة التي سمعتُ أنها تستطيع أن تفجر «سايبان» بما لا يزيد عن عشرة جرامات من الهيدروجين؟»

فأمَّن فوجي هارا على كلامي وقال: «لقد علمتُ ذلك من مستشفى البحرية في إيواكوني، إنهم يدرسون إمكانية معالجة بعض ضحايا هيروشيما الذين يعانون من مرضٍ غامض.»

ولأن فوجي هارا ليس طبيبًا فإنه لم يستطع أن يخبرنا عن كنه هذا المرض، ولكنه أكَّد أن من بين أعراضه نقصًا في عدد كرات الدم البيضاء، وظننتُ بيني وبين نفسي أن فوجي هارا قد تلقَّى معلوماتٍ غير صحيحة حول حادث القصف، ولكن عندما قال ذلك حرصتُ على الاستماع إليه باهتمام، فأخذتُ أحثه على ذكر المزيد من التفاصيل، ولكني لم أستطع أن أعرف منه أكثر من ذلك، ولم يحد عن رأيه في أن ضحايا القنبلة الذرية الموجودون بمستشفى إيواكوني يعانون من نقصٍ في كرات الدم البيضاء. وقبل أن يتركنا فتح حقيبته وأخرج زجاجة من الويسكي وبعض السجاير، وقال لنا بلهجة اعتذار إن هذا شيءٌ بسيط ولكن من الصعب الحصول على مثل هذه الأشياء اليوم.

وبعد أن تركنا الكابتن فوجي هارا، قررتُ أن أحاول الحصول على مجهر لأتأكد من صحة ما ذكره لي. ولكن الحصول على مجهر كان أمرًا آخر؛ فإن جميع مجاهر المستشفى كانت عديمة الفائدة، فقد تحطمَت عدساتها، وكُسرَت حواملها، وتذكرتُ أن الدكتور موري سوجي يحتفظ بمجهرٍ داخل خزانة المستشفى، وحين ذهبتُ لإحضاره وفتحتُ الحقيبة التي كان بداخلها وجدتُه محطمًا، كما اكتشفتُ فيما بعد أن جميع أجهزة كرات الدم قد تحطمَت كذلك، وأيقنتُ أنني إذا كنت بحاجة إلى مجهر فإن علي أن أحصل عليه من خارج هيروشيما.

أما حالة دكتور ساسادا فكانت تنتقل من سيئ إلى أسوأ، وازداد وجهه تورُّمًا حتى بدا مثل الفطائر ذات السطح اللامع، وقد غُطِّي بمسحوقٍ أبيض، وأخذ الصديد الدموي ينضح من ضمادات يدَيه وجبهته، وكانت الآنسة سوسوكيدا تعاني نفس الشيء رغم أن يدَيها لم تكونا متورمتَين بدرجةٍ كبيرة، ولكن وجهها كان يشبه قناع المهرج، أما السيد شيوتا الذي أُدخِل إلى المستشفى خلال الليل فكان يبدو كغريقٍ ظل في الماء وقتًا طويلًا، فوجهه متضخِّم، وأطرافه متورِّمة، وكان يتنفس بصعوبةٍ بالغة، ولا يُوجَد بين هؤلاء من يعاني حروقًا بالغة سوى الآنسة ياما التي احترق أكثر من نصف جسدها، وبدَت كأنها دميةٌ متسخة فوق كومة من القمامة، فحالتها ميئوس منها إلى حدٍّ ما، أما حروق الآنسة أوموتو فلم تكن على درجة من الاتساع كحروق الآنسة ياما، ولكنها كانت أعمق فتجاوزَت الجلد وأتلفَت العضلات.

كان هؤلاء جميعًا أسوأ حالًا من الآنسة ساساكي ومن زوجتي، وقد أطلقْنا على الآنسة ساساكي اسم «موموتشان» لأن خدَّيها كانا مشربَين بالاحمرار مثل الخوخ، وقد أصابها جرح برأسها، ولكنها الآن آخذة في التحسن. أما زوجتي التي كانت تعاني حروقًا متوسطة الدرجة وتهتُّكًا ببعض مناطق الجسم فكانت تخطو نحو الشفاء، وقد أصبحَت قبيحة الصورة بدون حواجبها، وكانت ذراعها لا تزال معلقة برقبتها، ولكنها تصر أنها بخير.

أما الدكتور كوياما الذي عمل كنائبٍ لمدير المستشفى منذ وقع «البيكادون»، فكانت رأسه وذراعه لا تزالان ملفوفتَين بالضمادات، وأولئك الذين أُصِيبوا بجروح في عنبرنا كانت حالتهم آخذة في التحسن، أما أولئك الذين أُصِيبوا بحروق فكانت أحوالهم تزداد سوءًا.

ولم يسترح ضميري لما أصاب الدكتور ساسادا، فإذا لم يحاول حمايتي على نحو ما فعل لنجا مما أصابه، ولن أنسى أنه عالج الكثير من المرضى قبل أن يكتشف أن جراحه بالغة الخطورة، وها أنا ذا أتماثل للشفاء بينما حالته تزداد سوءًا.

جاء الدكتور ساسا كي من مستشفانا بأوساكا ليحل محل الدكتور نوريكا، وهو أيضًا من أحسن العاملين بذلك المستشفى، وقد برهن على أنه خير خلف للدكتور نوريكا، ولسْنا مدينين لهذين الطبيبَين بعنايتهم الفائقة للمرضى فحسب؛ بل نحمد لهما توفير الإمدادات الطبية، ومدَّنا بمجموعة من المعاونين الذين حضروا معهما.

وزارَتنا فيما بعدُ السيدة شيما عمتي التي تقيم في سايجو، وقالت لي ولزوجتي يائيكو: «لماذا تَبقيان هنا؟ إن لدَينا مكانًا لكما في منزلنا، وعمكما يصر على أن تعودا معي إلى البيت.» وكان قد سُمِع صوت الانفجار في سايجو على بعد أميال عبْر الجبال التي تقع وراء هيروشيما، وقالت إنهم سمعوا بعد ذلك أن هيروشيما قد قُصِفَت، ولم يكترثوا للأمر، ولكن عندما أُبلِغوا أن عليهم تدبير أماكن لإيواء الجرحى الذين ستحملهم العربات إلى المدينة شملَتهم جميعًا حالة فزع، وكانت عمتي هذه كالفونوغراف الذي لا يتوقف أبدًا، وسألتُها عن ابنها إيزو، فتوقفَت طويلًا قبل أن تجيب: «آه لقد عاد إلى المنزل سالمًا دون أن يُصاب بخدْش وكان الوقت ليلًا، ولم يمكث طويلًا ليقص علينا كيف عاد وأي طريقٍ سلك، وفي اليوم التالي عاد إلى هيروشيما، إنك تعرف السيد واطنابي الذي يعمل بمتجر زوجي وابنَه، حسنًا لقد أصابَتهما حروقٌ أمام محطة هيروشيما، وحالتهما سيئة لدرجةٍ يصعب معها عمل شيء من أجلهما.»

ورغم ثرثرتها التي لا تنتهي فقد سعدتُ لرؤيتها، على الأقل حين عرضَت عليَّ أن تأخذ يائيكو معها، فإذا لم يكن باستطاعتي الآن أن ألبِّي دعوتها فقد أصبحتُ أعرف أين أرسل يائيكو بمجرد أن تسمح حالتها الصحية بالسفر.

وعندما هدأ كل شيء شرد فكري مرةً أخرى إلى حديثي مع الكابتن فوجي هارا، إن التفكير في أن هيروشيما قد قُصِفَت بقنبلةٍ ذرية مسألةٌ جديرة بالاهتمام، وقد أنهيتُ خبرها إلى كل من رأيتهم.

وقبَيل المساء قمتُ بجولاتٍ بين المرضى في الدور الأرضي، وكانت حالة المرضى المصابين بالحروق تُماثِل حالة أولئك الذين يرقدون في الطابق العلوي، أما الذين كانوا يشكون من قبلُ من فُقدان الشهية والغثيان والقيء والإسهال الدموي فقد كانت حالتهم آخذة في التحسن، بينما ساءت حال اثنين أو ثلاثة من المرضى الذين كانوا يشكون من أعراض نزلةٍ معوية، ولم تكن جروحهم البالغة أو إصاباتهم ذات علاقة بتلك الأعراض، وينطبق ذلك على أعراض جديدة بدأَت تظهر على الجرحى وغير الجرحى على حدٍّ سواء، فقد كان الكثيرون يشكون من قرحةٍ كريهة مؤلمة تنزف في أفواههم وحناجرهم، وكان الجميع يعانون من الحُمى، ولكن لم يكن باستطاعتنا تقدير درجات حرارتهم لِعدم وجود ترمومترات لدَينا، كانت جراحهم آخذة في الالتئام، فيما عدا أولئك الذين أُصِيبوا بكسورٍ مضاعَفة، فقد أخذوا ينزفون، وكان من الضروري أن تُجرَى عمليات بتر الذراع أو الرجْل لبعض المرضى للحيلولة دون حدوث نزيفٍ دموي لهم.

وآلمَتني امرأةٌ عجوز رأيتُها في تلك الجولات لأنها أخذَت تطلُب منا أن ننهي حياتها، لم تكن مصابة بجروح، كما لم تشكُ ألمًا، وكان الجميع يعملون على راحتها احترامًا لسنِّها، غير أنها كانت تطلب من كل مَن يقترب منها أن ينهي شقاءها، فتقول بصوتٍ خفيض متواصل: «أرجوكم دعوني أموت، إذا لم يأتِ بوذا إليَّ فأرسلوني إليه، دعوني أزور بوذا، أرجوكم دعوني أرقد إلى جواره.» كان أفراد عائلتها قد قُتِلوا جميعًا فأصبحَت وحيدة في هذا العالم، ولكن آخرين في مثل حالتها كانوا صامدين في مواجهة الظروف.

وفي الممر شاهدتُ السيد كيتاءو الذي كان يعمل في مكتب العمل مع السيد سيرا، كان فِراشه بالطابق العلوي، ولكنه كان يذهب ويجيء بصورةٍ يبدو معها مشغولًا، فعجبتُ لذلك، غير أني علمتُ أنه يُشرف على محرقة المستشفى، وبينما كنت أتحدث معه جاء المستر يامازاكي يستعلم عما إذا كانت المحرقة جاهزة للعمل في الليل، فأجاب السيد كيتاءو: «كل شيء جاهز.» ثم استدار نحوي وقال: «يا دكتور هاتشيا أرجوك إذا لم يكن لديك مانع أن تحضُر لترى كيف نقوم بحرق الجثث، لقد قمتُ بهذا العمل كثيرًا، إنني خبير به.»

وضايَقني أسلوب السيد كيتاءو الفاتر، ولكني لم أعلِّق على كلامه، وأومأت برأسي مشيرًا إليه بأن يدلني على الطريق، وكانت المحرقة تقع على بعد ثلاثين مترًا خلف سور المستشفى بجوار حمَّامٍ خارجي ومضخة مياه كان يستعملها موظفو المستشفى، وأُحضرَت جثة المريضة التي ماتت خلال الليل من المشرحة، وقد استخدم السيدان كيتاءو ويامازاكي أحد الأبواب كنعش لحمل الجثة، وسُجيَت الجثة فوق بعض حطام المكاتب وصناديق البضائع وبعض المواد الأخرى التي يمكن إشعالها، وغُطيَت الجثة بلوح من الزنك، ثم أُشعلَت النار، وما كادت ألسنة اللهب تتصاعد حتى وجدتُ نفسي أعقد يدي تحت ذقني مصليًا بطريقةٍ عفوية من أجل الميت. إن المرء لا يستطيع أن يقبل مواجهة حرق الجثث دون اكتراث، إذا تذكرنا أن الكثيرين قد ماتوا بمعدَّلات تفوق الحد الطبيعي، غير أنهم لم يلقَوا الخدمة الجديرة بالموتى، فلم يكن هناك كاهن يتولى الصلاة على هذه الروح التي رحلَت، وضايقَتني هذه الحقيقة كثيرًا، وقطَع حبل أفكاري صوتٌ صادر من الحمام يسأل السيد كيتاءو: «كم جثة حرقتَها اليوم؟» فأجاب: «واحدة فقط.» فقلتُ لكيتاءو وقد عجبتُ لهذا الأمر: «هل حرق الجثث أصبح أمرًا عاديًّا حتى إن المرء يستطيع أن يستحم بجوار المحرقة ويسأل مثل هذا السؤال؟» فأجابني السيد كيتاءو بنبرة اعتذار: «نعم أعتقد أننا أصبحنا قساة القلوب.»

وكنت على وشك أن أقول إنني لم أكن أتصور أن الناس جميعًا قد أصبحوا قساة إلى ذلك الحد، ولكني أمسكتُ عن ذلك؛ فقد تذكرتُ أن الذين يموتون بمستشفى المواصلات يتمتعون على الأقل بميزة حرق جثثهم على انفراد، على عكس أولئك الذين كانوا يموتون في الأماكن الأخرى.

كانت تربطني صلةٌ وثيقة بالمريضة التي أُحرقَت جثتها هذا المساء؛ فقد كانت هيروشيما منطقةً عسكرية لسنواتٍ طوال، وكانت هذه المرأة المسكينة أرملة ضابطٍ متقاعد، كان كغيره من الضباط لا يشعر بالسعادة إلا حين يسمع صوت الطلقات النارية، وحين يستعرض الجنود، ويسمع دقات الطبول، وصوت البروجي، وكانت هيروشيما منطقةً محببة لأولئك الرجال، وكان يسكن بجوار مستشفانا مجموعة من ضباط الجيش وموظفي الحكومة المتقاعدين، أما تلك المرأة فكانت تتمتع بحب جيرانها واحترامهم، واعتبرها جنود الفرقة الثانية جدة هيروشيما، وكانت تنفق معاشها الكبير ومدخراتها لمعاونة هذا الجندي أو ذاك، وتركَت ملامحها المستديرة غير المميزة انطباعاتٍ محببة عند الجيران وبين عنابر مستشفانا. كانت كثيرًا ما تبعث البهجة في قلوب المرضى الذين يعانون من المرض والوحدة، وكانت بمثابة القائد لجيشٍ صغير من أرامل رجال الجيش، اكتسبَت شعبيةً بالغة، حتى معسكرات الاعتقال كانت مفتوحةً أمامها، وكثيرًا ما قصدَتها لزيارة المعتقلين هناك، وكان أكثر الجنود قسوة يصبح أمامها طفلًا وديعًا، وقبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة تذكرتُ كل ذلك وأنا أقف بجوارها، أحاول أن أسرِّي عنها، ولم يكن باستطاعتها أن تراني؛ لأن جفونها كانت متورمة وعيونها مغمضة، غير أنها ميزَت صوتي، قلتُ لها: «أيتها الجدة إن أصدقاءك بجوارك، كانت هيروشيما خير مكان يمكن أن نعيش فيه؛ لأنك كنت تفكرين في الناس قبل أن تفكري في نفسك. إن الموت يقترب، ولكنكِ يجب أن تتصرفي كجنديٍّ شجاع، إنكِ تموتين ميتةً كريمة، لأن الجروح التي أصابتكِ كانت أثناء أدائك للواجب.»

ولفظَت السيدة العجوز أنفاسها بهدوء، والآن وأنا أنظر إلى وجهها كنت أسال نفسي عما إذا كانت هناك جدةٌ أخرى يمكن أن تحل محلها.

عدتُ إلى المستشفى وكان من العبث أن أفكر بالنوم فقد كنتُ مكتئبًا وكان الجو هذه الليلة حارًّا والهواء ساكنًا ساخنًا شديد الرطوبة، لأن النسمة التي كانت تهبُّ من البحر في المساء لم تعرف طريقها إلينا تلك الليلة، ولم يعرف جسدي طوال اليوم حتى هذه اللحظة سوى الرطوبة والعرق، فأحسستُ بالإشفاق على الرجال الذين عليهم أن يعملوا في هذا الجو الخانق، ولم يذُق أيٌّ من رفاقي في القاعة للنوم طعمًا؛ ولذلك كنتُ أسمع أحاديثهم وسط الظلام فسألتُهم: «لماذا كان عدد الناس في الشوارع محدودًا اليوم؟»

وأجاب أحدهم: «ربما لأن اليوم هو يوم الأحد.»

فتعجبتُ واستطردتُ قائلًا: «يوم الأحد! إنني لم أكن أعتقد ذلك، ففي غيبة التقويم تتساوى الأيام بعضها مع بعض.»

وقال صوتٌ آخر: «ليس يوم الأحد سببًا كافيًا لأنْ يكون الناس على هذه الدرجة من القلة، فقد قال لي البعض إن أولئك الذين جاءوا إلى هيروشيما بعد «البيكا» قد مرضوا ومات بعضهم.»

وارتفع صوتٌ آخر يؤكد ما قاله صاحب الصوت الأول: «أجل لقد سمعتُ شائعات أن غازًا سامًّا قد أُطلِق على هيروشيما، وأن هذا الغاز يقتل كل من يستنشقه.»

واشترك آخرون في المناقشة فلزمتُ الصمت، وأخذتُ أستمع لهم وأفكر فيما يقولون.

كانوا يؤكدون أن غازًا سامًّا أو جراثيم مهلكة قد أُطلقَت على هيروشيما، وحاولتُ أن أُبعد هذه الأفكار عن رأسي، ولكن هذه الإشاعات تدعو للإزعاج، وربما كان الذي قُصفَت به المدينة هو قنبلة غازٍ سام، فإنني أذكر أن هناك من ماتوا في خلال يومين أو ثلاثة بعد أن كانت تبدو عليهم علامات الصحة قبل أن يشكوا من المرض.

وتذكرتُ الأشخاص الذين ماتوا وهم يمرضون المصابين، وسمعتُ عن أناسٍ كانوا موجودين خارج منازلهم عندما وقع الحادث وماتوا رغم أنهم لم يُصابوا بجروح، بينما ظل أولئك الذين كانوا داخل المنازل وأُصيبوا بجروحٍ بالغة على قيد الحياة، فإذا كان ثمة غازٌ سام قد استُخدِم ضد المدينة لمات الجميع، إن الذي أدَّى إلى وفاة هؤلاء الناس لا يمكن أن يكون غازًا سامًّا، لكن من السهل أن ترى كيف تنتشر الإشاعات. وكلما ازداد تفكيري ازددتُ حيرة، وبقيتُ على هذه الحال حتى غلبني النعاس.

١٣ أغسطس ١٩٤٥م

يومٌ آخر شديد الحرارة، ساطع الشمس.

بعد الإفطار استعرتُ دراجة ومضيتُ بها قاصدًا إدارة المحافظة، فكانت رحلتي هذه المرة مختلفة عن تلك التي رافقني فيها الدكتور هينوئي، لأنني كنت أقوى وكانت جراحي لا تؤلمني كثيرًا، جميلٌ أن يشعر المرء بالتحسن، وأن يجد نفسه في غير حاجة إلى معاوَنة أحد. كانت الأسلاك الكهربائية والعقبات التي عاقت الطريق أول أمس ما زالت موجودة، ولكن أكوامها كانت أقل ارتفاعًا من ذي قبل. فحَصتُ في الطريق عربة ترام محطمة، واكتشفتُ بدهشةٍ بالغة أن محركها شديد البساطة، ولكن حب الاستطلاع زايلني عندما وقعَت عيناي على بقايا جسدٍ متفحم مكوَّم في أحد أركان العربة، فقد جعلني هذا المشهد أُحسُّ بالذعر، ولم أستطع أن أتمالك نفسي إلا عندما بعدتُ كثيرًا عن موقع عربة الترام.

ولمَّا كنت قد سمعتُ أن القنبلة سقطَت بالقرب من مدخل هيكل جوكوك فقد اتجهتُ إلى المكان ودهشتُ حين وجدتُ مدخل الهيكل (توري) لايزال قائمًا، كما أن الميدالية المدلاة من وسطه كانت في موضعها، أما بقية الأشياء في المنطقة المحيطة بالمكان فكانت إما محطمة أو مدمرة.

أما جسر أيوي١٥ الذي كان مشيدًا من الصلب على أحد فروع نهر أوتا فكان معوجًّا ومتداعيًا، حتى إن سطحه المقوَّى بالمسلح تشقَّق وسقط في النهر، وبلغ من تشقُّقه وتحطُّمه حدًّا جعل أنقاضه تترك في قاع النهر حفرًا ضخمة، وكان منظره على هذا النحو يبعث على الأسى؛ لأن هذا الجسر الجميل كان أحد معالم المدينة.

وفيما وراء الجسر على الضفَّة الشرقية للنهر كان يقع متحف العلوم والصناعة بقبَّته البرونزية، وهو مبنًى كان يرمز إلى الاسم الشاعري لهيروشيما «ميزنوميياكو» (مدينة الماء) كان من أجمل بنايات هيروشيما، وقد طارت قبته البرونزية، وتشرخَت حوائطه المشيدة بالطوب والحجارة، وتداعت دعائمه، وقضَت النيران على محتوياته، وتوقفتُ قليلًا لاستطلاع آثار الدمار التي أصبحَت شاهدًا على ما حدث للمدينة البائسة وشعبها التعِس.

عُدتُ أدراجي متتبعًا خط الترام حتى وصلتُ إلى إدارة المحافظة، وكان الدافع إلى قدومي إلى المحافظة هذا الصباح استطلاع الأخبار؛ ولذلك كانت أذناي تصغيان لكل ما يقال بمجرد وصولي إلى المكان.

كان عدد العاملين بالإدارة قد ازداد عما كان عليه أول أمس، وكان بين العاملين الجدد بعض الوجوه المألوفة لي، وبعد أن تبادلْنا التحيات طلبتُ مقابلة الدكتور كيتاجيما، فقادوني على الفور إلى مكتبه، وبعد أن شكرتُه على استجابته السريعة لطلباتنا وإمدادنا بالأطباء والممرضات، سألتُه عن إمكانية حصولنا على المزيد من الإمدادات الطبية، غير أني رأيتُه مكتئبًا، فسألتُه وقد انتابني شعور بالخوف من احتمال أن تكون الأنباء التي سأسمعها منه غير سارَّة: «هل حدث شيءٌ ما؟» فأجاب الدكتور كيتاجيما: «لا شك أنك علمتَ أن قنبلةً ذرية قد أُسقطَت على هيروشيما، لقد علمتُ أن أحدًا لن يستطيع الإقامة في المدينة خلال الخمسة والسبعين عامًا القادمة.» فأجبتُه مبرِّرًا تشاؤمه: «لقد ماتت إحدى ممرضاتنا فجأةً بالأمس.»

وبعد أن انتهى حديثي معه ضايقَني أن أتأكد من صحة ما اعتقدتُ أنه كان إشاعةً سخيفة بالأمس، لقد كنتُ بالأمس وبعد حديثي مع الكابتن فوجي هارا عاقدًا العزم على أن أحتفظ بهدوئي مهما كانت الأخبار التي أسمعها، والآن وجدتُني فجأةً أصل إلى استنتاجاتٍ دون أن تتوافر لدي معلوماتٌ كافية حولها.

وحاولتُ أن أغيِّر مجرى الحديث، فسألتُ الدكتور كيتاجيما: «وماذا عن أخبار الحرب في منشوريا؟» فأجاب: «إن الأمور لا تسير على ما يُرام والعدو أصبح الآن في كوريا.»

وتركتُ إدارة المحافظة مكتئبًا وحيدًا ممتلئًا بالشكوك، وعُدتُ إلى المستشفى لأخفي ضيقي ويأسي.

تُرى ماذا أصنع مع المرضى؟ وماذا سيكون الأمر بالنسبة للعاملين معي وعائلاتهم؟! هل سأخبرهم بحقيقة الأمر حتى يهربوا ولا أصبح مثقَل الكاهل بالمسئولية؟ وبعد أن فكرتُ مليًّا وصلتُ إلى قناعة بأن فرارهم لن يجدي نفعًا.

وقلتُ لنفسي: «فكِّر في الأيام التي مرَّت منذ وقع «البيكا»، لقد مضى أكثر من أسبوع ولم يمت أحد فيما عدا تلك الممرضة، وجروحي تلتئم، وأشعر بالقوة تسري في بدني يومًا بعد يوم، فمن المحال أن نصدق أن هيروشيما لا يمكن أن يسكنها أحد لمدة ٧٥ عامًا! مثل هذه المعلومات لا يمكن أن تكون صحيحة، لعلَّها دعاية قصد من ورائها العدو أن يفُتَّ في عضد أناس أصبحوا الآن عُزَّلًا من السلاح. إن تصديق هذا الأمر من التفاهة بمكانٍ؛ فها أنا ذا أتحسَّن يومًا بعد يوم، على الرغم من وجودي بالقرب من مركز البيكا، أثرثر وأتكلم دون أن يبدو عليَّ شيء غير طبيعي.» واستعدتُ تدريجيًّا رباطة جأشي.

لا يُوجَد شيء في الدنيا أقل استقرارًا من فكر الإنسان، وخاصة عندما يكون الذهن مكدودًا، وبغضِّ النظر عن الاتجاهات التي تأخذنا إليها أفكارنا؛ فإن الذهن يظل نشيطًا متوقدًا يفكر ببطء أحيانًا وبسرعة البرق أحيانًا أخرى، وكانت القوة والضعف تختلطان في ذهني وكذلك التماسك والتمزق، وكنت أقول لنفسي: «إذا كان يجب أن تموت فعليك أن تموت ميتة الرجال.» وكنت أتفحص جسدي فلا أجد أي عضو فيه تبدو عليه علامات الموت، فيقول لي الجانب الصلب في نفسي: «حتى الآن أنت بخير، وما زلتَ حيًّا، دعْك من هذا كله واسترح قليلًا، ودع ذهنك يرتاح.» إذا تغلبَت القوة الكامنة فيَّ على عوامل الضعف تمتعتُ بالهدوء حتى يرفع الضعف رأسه من جديد.

كان هناك شخصٌ ملتحٍ يقف بالقرب من باب القاعة، ويجول ببصره داخلها، واستقرَّت عيناه أخيرًا عليَّ، فاقترب من فِراشي، وأخذ يحك هذا الغريب لحيته ويحملق بعينَيه ثم يغمضهما، وقد بدا الشحوب على وجهه، كان هذا الرجل الغريب هو السيد كاجي تاني رئيس مكتبٍ صغير للبريد بإقليم ياماجاتا، كنت قد زرتُه منذ سنوات عندما كان مريضًا، وتوليتُ علاجه، ولم أستطع أن أفهم سبب وجوده سوى أن يكون قد جاء للاطمئنان على صحتي، وحين أيقنتُ أن مثل هذا الرجل صاحب القلب الطيب قد جاء من ذلك المكان البعيد تاركًا بيته وأولاده ليراني أحس قلبي بالارتياح.

كان الحديث صعبًا مع السيد كاجي تاني، وكلما حاول أن يعبِّر عن استعداده للمساعدة كان يبدو عليه الارتباك، وأخيرًا وضع في يدي صندوقًا للطعام (بنتو) وأصر أن آكله عن آخره، كان هذا البنتو يحتوي على وجبةٍ شهية عبارة عن كُرات من الأرز المطبوخ بكل كُرة منها إحدى ثمار البرقوق الحمراء.

زارني الدكتور هوري اليوم، وهو من إقليم سان إن الذي يقع إلى الشمال الغربي من هيروشيما، ودهش كغيره حين رأى حجم الدمار الذي لحِق بالمدينة، ولم يكن يتوقع حدوث مثل ذلك.

وبعد انصراف الدكتور هوري نزلتُ إلى الطابق السفلي فوجدتُ المرضى يتناقشون في الإشاعات التي سمعتُها بإدارة المحافظة، ولكن لم يبدُ عليهم التأثر بتلك الإشاعات.

فهناك من يقول منهم: «ما هذا الهراء! كيف يقال إن هيروشيما لن تصلح للسكنى خلال اﻟ ٧٥ سنة القادمة؟»

وكانت حالة الدكتور تشودو طبيب الأسنان أسوأ من ذي قبل، حتى إنه لم يستطع التعرف عليَّ، ولم تكن عبارات المواساة التي قلتُها له ذات قيمة. وعلمتُ أن السيدة يوشيدا التي كانت ترقد بالطابق الثالث من مبنى المصلحة تنتقل حالتها من سيئ إلى أسوأ، فذهبتُ إلى غرفتها متوكئًا على عصًا حيث كان الوهن لا يزال يدبُّ في أوصالي، وقدَّمَني لها السيد يوشيو رئيس الشئون العامة، وعلمتُ أنها أُصيبَت بمنزلها الذي يقع بكوماتشي، وهي ضاحيةٌ صغيرة إلى الجنوب الشرقي من هيروشيما، وكانت تعاني جراحًا بالغة نتيجة الزجاج المتطاير الذي أصابها في ذراعيها، ولم يكن كل جرح من جروحها يزيد طوله على ٥ سم، ولكنها آخذة بالالتئام، غير أنها كانت مكفهرة الوجه، وقد اكتسَت بشرتها ببقع زرقاء، وتبدو شديدة الإعياء، وبالإضافة إلى ذلك كان نبضها ضعيفًا، وتشكو التهابًا بالحلق، وإن كانت لا تبدو عليها أعراض الإسهال الدموي، ولم أستطيع أن أجد شيئًا غير عادي في حلْقها وفمها سوى ورمٍ بسيط. كنت في حيرة لا أستطيع تشخيص حالتها، حين سألني السيد يوشيو عن رأيي حاولتُ التملص من الموقف، وقلتُ له: «ليس ثمة ما يدعو إلى الخوف، وحالتها ليست سيئة، ولكن عليك مراقبتها!» كان ما قلتُه أقرب إلى كلام المنجم منه إلى كلام الطبيب الذي يجب أن يعرف تمامًا ما يفعله، ولكن … تُرى هل كان باستطاعتي أن أقول أكثر من ذلك؟

وعندما غادرتُ الغرفة تبينتُ أن السيد يوشيو كان يبدو أكثر مرضًا من السيدة يوشيدا، وساءلتُ نفسي: «تُرى من سيموت منهما قبل الآخر؟» لقد بدَت على الرجل أعراض الشيخوخة خلال العشرة أيام الماضية.

وبالقرب من مدخل مبنى المصلحة قابلتُ صديقًا قديمًا هو السيد كوباتا الذي كان يبحث عن أخيه منذ وقع «البيكا» على الرغم من كبر سنه، وكان يحتفظ برصيدٍ مدهش من الحيوية، وتحدَّثنا معًا لحظة فروى لي بعض ما شاهده في المدينة، ولكن إحدى تلك الروايات ظلَّت ثابتة في ذاكرتي، فقد قال لي: «رأيتُ أربعًا من تلاميذ المدارس الإعدادية بالقرب من مركز التفجير في تنجم-ماتشي، وكانت حروقهم بالغة، وبدا عليهم المرض والتعاسة، كانوا يجلسون في دائرةٍ صغيرة على جانب الطريق، فسألتُ بعضهم عن منزله، فأجاب بأن منزله كان في ذلك الموقع، وطلب مني أن أقول لأمه أو أخته إذا رأيتهما ألا يبذلا جهدًا في البحث عنه أو عن أصدقائه لأنهم سيموتون، وأومأ الباقون برأسهم موافقين على كلامه، وكانت حالة هؤلاء الأولاد محزنة للغاية، ولم يكن باستطاعة أحد أن يصنع لهم شيئًا، وهكذا تُرِكوا بلا مأوى تحت الشمس الحارقة يرقدون فوق التراب والحصى، فاغرورقَت عيناي بالدموع، وسألني أحدهم أن أدبِّر لهم شيئًا يستظلون به، فاستطعتُ أن أحضر لهم بعض الحصير، وحصلتُ من بعض الجنود على قطَع من ألواح الصاج، وصنعتُ لهم مأوى، وسألتُ أحدهم عن مكان منزله ولكنه كان ضعيفًا، حتى إنه لم يستطع أن ينطق سوى بكلمة «يا»، ولذلك لم أتأكد إذا كان يقصد «يانو» أو «ياجي» أو «ياجا»، وكانت معي بعض ثمار الطماطم فقطعتُها وعصرتُها في أفواههم، فكانوا يبتلعون العصير بصعوبةٍ بالغة، ولكنهم جميعًا كانوا يرددون عبارة «لذيذ … لذيذ.» ورجاني أحدهم أن أحضر لهم ماءً، ولما لم يكن لديَّ وعاء، وعدتُهم بأن أقوم بإحضار الماء في قبعتي، واستطعتُ أن أسقيهم، وتركتُهم بعد أن وعدتُهم بالبحث عن مركز إسعافٍ يتولى علاجهم، وكانت معي بعض أقراص من الجنتان١٦ فأعطيتُها لهم، غير أني لم أجد مركز إسعاف، وبذلتُ أقصى جهدي في البحث عن أخي طوال الليل، غير أن صورة أولئك الأولاد التعساء لم تفارق ذهني، وعندما غادرتُ بيتي صباح اليوم التالي أخذتُ معي بعض الأشياء التي قد يكون أولئك الأولاد في حاجة إليها، وبحثتُ عنهم حتى وجدتُهم، وجدتُهم جميعًا ولكن بعد أن فارقوا الحياة وقد تكوَّمَت جثثهم في نفس الدائرة التي تركتُهم فيها في الليلة السابقة.»

وكانت لدى السيد كوباتا الكثير من الحكايات المشابهة.

وعندما عُدتُ إلى فِراشي وجدتُ المدير العام للمنطقة قد حضر لزيارتي للمرة الثانية منذ أُصبتُ، وأبدى ارتياحه لتحسُّن صحتي، وحاول أن يبدو مبتهجًا متفائلًا عندما أثرْنا موضوع الحرب، ولكنه قبل أن يتركني اعترف أن فرصة اليابان الوحيدة في كسب الحرب لن تتحقق إلا بالآلاف من الطائرات والقنابل الذرية، ولم يكن لديَّ ما أعلِّق به على كلامه، وسألتُه عما إذا كان باستطاعته أن يدبِّر لنا إمداداتٍ طبية من الجيش الغربي، فوعدني بأن يبذل ما في وسعه بهذا الصدد.

ودارت معظم أحاديث المساء حول الأفكار التي شاعت، والتي تذهب إلى أن هيروشيما لن تصلح للسكن خلال ٧٥ عامًا، وكانت هذه الإشاعة قد بدأَت تحظى بالتأكيد بالنظر إلى حالة الأشخاص الذين لم تبدُ عليهم أي إصابات، ومع ذلك أخذوا يعانون سكرات الموت حين ظهرَت عليهم أعراض النزيف الشرجي ونزيف الأنف والبصاق الدموي والقيء الدموي، وظهرَت البثور على شكل طفحٍ جلدي فوق أجسادهم، واتفقَت غالبية القوم على أن سبب تلك الأعراض يرجع إلى أن ثمة غازًا سامًّا أُطلِق على المدينة وما زال ينبعث من بين حطامها، وعدلتُ عن استنتاجي الذي كنت قد توصلتُ إليه من قبل، حيث كنت أظن أن حالات الوفاة هذه نجمَت عن قنبلة جراثيم سببَت الدوسنطاريا، لأن عدد الذين كانوا يشكون من الإسهال والبراز الدموي كان يتناقص، كما عدلتُ عن نظريتي السابقة التي قادتني إلى الاعتقاد أن تلك الأعراض ترجع إلى حدوث تغيُّرٍ مفاجئ في الضغط الجوي نتج عن الانفجار الهائل الذي حدث.

كان الهواء ساكنًا ساخنًا رطبًا، وكان الحصير الذي أنام عليه ساخنًا كذلك، فأخذتُ أتصبب عرقًا، وآلمَتني رأسي وأحسستُ أن أذنَيَّ ساخنتان، ربما كان بسبب إجهاد ذهني بالتفكير.

وتنهدتُ وقلت: «يا له من جوٍّ حار!» فأجاب الدكتور ساسادا وهو يلتفتُ نحوي: «إنه حار أليس كذلك!» أما السيد شيوتا الذي كان يرقد بالقرب مني فقد أكَّد وجهة نظرنا، وكان قد استطاع أن يُحضر ستارة من الورق نصبها حول فِراشه لتقيه من حرارة الشمس فسألتُه: «أتَشعر بالتحسن الآن؟» فأجاب شاكرًا: «إنني أحسن من ذي قبل.» فقلت: «ماذا تصنع خلف هذه الستارة الممزَّقة؟» فأجابني ضاحكًا: «يا دكتور أيهمُّك أمري إلى هذا الحد؟!» وسمعتُ صوت قهقهته وراء الستار، كانت زوجة السيد شيوتا تضحك بجانبه، كما سمعتُ صوت ضحكات في المطبخ عند نهاية الممر، وذهبتُ لأستطلع جلية الأمر، فوجدتُ السيدة سائيكي العجوز والسيد ميزوجوتشي يتحدثان معًا، فبادلتُهما أطراف الحديث حتى ساعةٍ متأخرة من الليل.

١٤ أغسطس ١٩٤٥م

يومٌ آخر حار!

انطلقَت صفارات الإنذار في الصباح الباكر، وأخذ رجل من العاملين بالمصلحة ينطلق بين عنابر المرضى يعلن عن وقوع غارةٍ جوية، خشية ألا يكون بعضنا قد سمع صفارات الإنذار، ولم يحاول أحدنا أن يترك فِراشه، فاستلقى الجميع ساكنين ينظرون عبر النوافذ، ولا بد أن تكون قد دارت بخلد الجميع نفس الأفكار، هل من الممكن أن يحدث ذلك مرةً أخرى بعد كل ما خلفَته تلك الغارة المشئومة من آثار؟

وما هي إلا لحظة حتى سمعْنا أزيز الطائرات المزعج، وعندما أخذ يتعالى صوتها توقعْنا أنها قادمة من الجنوب صوب خليج هيروشيما، وحاولتُ أن أرقبها من فتحة النافذة، ولكن شخصًا بخارج المبنى رآني وصاح بي أن أنزل إلى الدور الأرضي. وكان الصوت يملؤنا إحساسًا بالهزيمة.

وحاوَل المرضى القادرون على الحركة أن يلتمسوا ملجأ من الغارة، أما العاجزون عن الحركة فقد ظلوا في فِراشهم، وأحسستُ بالعجز عن صنْع شيء لهم، ولكن فكرةً مرَّت بخاطري، وقد رأيتُ موظفي مصلحة المواصلات وعائلاتهم يرقدون في الطابق الأرضي بمبنى المصلحة، فأسرعتُ إلى البدروم حيث كان جمعٌ كبير من المرضى يحتشد هناك، ولم يكن بينهم أحد من العاملين بالمستشفى، وأيقنَت أن بقائي بين المرضى الذين يرقدون بلا حيلة في العنابر يعطي مثلًا سيئًا للمستشفى، فإذا كان الموت سيزورنا مرةً أخرى، فإن مكاني يجب أن يكون في العنابر بين المرضى. فتركتُ البدروم وأخذتُ أحث كل من أقابله أن يسرع بالمعاونة في حمل المرضى إلى البدروم، وحملتُ معهم كل من استطعْنا نقْلهم، واتخذتُ من وسط المستشفى مقرًّا لي، أما أولئك الذين ظلوا في أماكنهم فكانوا ساكنين يحملقون عبر النوافذ وينصتون خائفين إلى أزير الطائرات التي تعبُر فوق المدينة.

وأخذَت أرجُلي ترتعش، ففكرتُ — بطريقةٍ لا شعورية — أنْ أحتمي خلف إحدى الدعامات القوية، ثم اهتزَّت الأرض فجأة، وسمعْنا صوت انفجار القنابل المخيف، وصوت طلقات المدفعية المضادة للطائرات، وأحسسنا بالراحة حين تبيَّنَّا أن صوت القنابل وطلقات المدافع المضادة للطائرات كان يأتي من ناحية الغرب، أصبح واضحًا أن هدف الغارة الجوية كان المطار الحربي بقاعدة إيواكوني البحرية.

وأخذ الصوت يتلاشى حتى اختفى نهائيًّا، واستعدْنا السكينة، ولم يكن بيننا مَن لم يشعر بالامتنان لأن حياته أُنقذَت من جديد، ورقدتُ في فِراشي قليلًا والأفكار تتزاحم في رأسي، كم يصعب على الإنسان الذي نجا من الموت بمعجزة ذات مرة أن يواجه الموت مرةً أخرى. ففي يوم «البيكا» لم أكن أفكر في الحياة، ولكنني اليوم كنت أتمنى أن أظل على قيد الحياة، وكان الموت بالنسبة لي شيئًا رهيبًا.

زارني السيد ساساكي جارنا الذي يقع منزله في مواجهة منزلي على الجانب الآخر من الشارع وأحضر معه هدية من «الآيو»،١٧ ويمكن أن تتخيل مدى سروري بهذه الهدية الثمينة؛ فإن طعم هذه الأسماك الصغيرة يبعث على الارتياح. كان السيد ساساكي يعيش في بيت أحد أصدقائه في ياماجوتشي حيث تقع الإدارة الصحية في المحافظة عندما انفجرَت القنبلة، وكان محظوظًا حين استطاع الهرب من المنزل قبل أن ينهار سقفه، واتجه بدرَّاجته عبْر الشوارع المظلمة في منتصف الطريق إلى المدينة عندما وجد النيران تطوق المنطقة كلها، وما كاد يصل إلى هاكوشيما حيث يقع المستشفى بالقرب من المنطقة التي كنا نقيم فيها حتى وجد من المستحيل أن يواصل التقدم وسط النيران، فلجأ كغيره من جيراننا إلى تلال أوشيتا، وقد انهار منزله ساعة خروجي وزوجتي إلى الشارع فارَّين من منزلنا، وقد لقيَت والدة السيد ساساكي مصرعها تحت أنقاض المنزل، ولكن بقية أفراد الأسرة استطاعوا الهرب رغم الإصابات التي لحقَت بهم، وإذا لم أكن قد أُصبتُ ربما كان باستطاعتي أن أنقذ والدته، لأن البيت انهار تحت أقدامي. وقبل أن ينصرف السيد ساساكي أخبرني أن بيانًا هامًّا سيُذاع بالراديو غدًا، وأن جميع المواطنين قد طُلِب منهم الاستماع إلى ذلك البيان، فأيقنَّا أن هذا البيان لا بد أن يكون على درجةٍ كبيرة من الخطورة.

أعد العاملون بالمستشفى مطعمًا بالطابق الثاني بعد أن حوَّلوا مخزن الصيدلية إلى حجرة لتناوُل الطعام، وفي أحد أركان الحجرة كانت لا تزال هناك كميةٌ كبيرة من بيكربونات الصوديوم المحترقة، كانت تضمها أكياسٌ زِنة كلٍّ منها خمسون كيلوجرامًا، وفي وسط الحجرة أُعِد مكان للطهي، وكانت الوجبات تُقدَّم فوق بقايا المقاعد والمكاتب والصناديق التي تناثرَت وسط الحجرة، وكان المرضى القادرون على الحركة يتناولون وجباتهم بانتظام في أطباق تم تجميعها من خرائب البيوت، أما المرضى الذين لم يكن باستطاعتهم الانتقال إلى المطعم فقد كانت تُنقَل إليهم الوجبات في فِراشهم فوق الصواني المحترقة.

تناولتُ طعام الغداء ظُهر اليوم مع زوجتي والآنسة كادو بمطعم المستشفى، ودار حديثنا حول «الآيو» اللذيذ الذي أحضره لنا السيد ساساكي صباح اليوم، أما المرضى الذين لم يستطيعوا مغادرة فِراشهم فكانوا يُخدَمون بطريقةٍ خاصة في مواقعهم، وكان من عادتي أن أستريح قليلًا بعد تناوُل الغداء، ثم أقوم بجولات لتفقُّد أحوال المرضى، ولم تكن جولاتي هذه تشبه الجولات التي يقوم بها الأطباء في المستشفيات الجامعية، حيث يحيط بهم المساعدون والممرضات، وتتبعهم العربة الصغيرة التي تحمل الأدوية والمستلزمات الطبية، فقد كنت أقوم بهذه الجولات وحيدًا، مرتديًا بنطلونًا قديمًا وقميصًا، لا تبدو على هيئتي سوى مظهر الطبيب المحترف، ولم يكن ملبسي يختلف عن ملابس الآخرين بالمستشفى، فقد كنا جميعًا نرتدي ما تُقدِّمه لنا إدارة الغوث بالمدينة، ولم يكن ثمة داعٍ للشكوى من تبايُن نوعية الملابس التي تُقدَّم لنا. ولم تكن جولاتي هذه ذات قيمةٍ طبية، فلم يكن باستطاعتي أن أُقدِّم للمرضى سوى الابتسامات وعبارات المواساة للبعض، وأمزح أحيانًا مع البعض الآخر.

اعتدتُ أن أزور السيدة يوشيدا في بداية جولاتي، وعندما أحنيتُ رأسي محيِّيًا حين كنت أقيس نبضها لم ترُدَّ تحيتي بإحناء رأسها كما جرَت العادة، فلم يكن باستطاعتها أن تفعل ذلك، وكان لهذا دلالةٌ سيئة، فقد تدهورَت حالتها هذا الصباح، وأصبح وجهها يجمع ما بين اللون الأزرق واللون الرمادي.

زرتُ مرضى الطابق الأرضي حيث كان يرقد نحو خمسين أو ستين من موظفي مصلحة المواصلات وعائلاتهم، ولما كنت أعرفهم جميعًا معرفةً جيدة فقد كنت أحس بينهم أنني بين أفراد عائلتي، وقد أُعِد الحصير الذي يرقدون عليه ليتسع لشخصَين معًا أو أربعة أو ستة أشخاص، ولحُسن الحظ كانت جروح معظمهم طفيفة؛ ولذلك عاونونا في تمريض أولئك الذين كانت حالتهم خطيرة، أما الفتاة الجميلة التي تحدثتُ عنها من قبل فكانت ترقد فوق حصيرٍ منفصل عن الآخرين، ورغم أن حالتها كانت خطيرة فقد ابتسمَت حين رأتني مقبِلًا نحوها، وكانت شُجاعةً متفائلة على عكس غيرها من المرضى الذين كانوا أحسن حالًا، وحروقها لم تنجم عن البيكا، ولكنها احترقَت حين حاولَت إنقاذ أفراد أُسرتها الذين حاصرَتهم النيران داخل المنزل، وكانت لا تزال ترقد في ضماداتٍ ملطَّخة بالدماء والصديد، وقد تلطخَت ساقاها وفخِذاها بالبول والبراز، وقبل أن أغادر المكان أوصيتُ شخصًا بالعناية بها وتوفير النظافة والراحة لها بقدر الإمكان.

وبعد ذلك فكرتُ في إيجاد وسيلة لتغيير ضمادات مرضى الحروق الذين لم يكن باستطاعتهم العناية بأنفسهم، وكان هذا العمل المؤلم الشاق يستغرق ساعةً كاملة لتغيير ضمادات كل مريض، وقد دفعَتنا قِلة الممرضات في الأيام الأولى التي أعقبَت القصف إلى وضع آنيةٍ كبيرة ممتلئة بالمحلول الخاص لتطهير الجروح بالقرب من مدخل المستشفى، وثبَّتنا فوقها لوحاتٍ شرحْنا فيها للمرضى كيفية استخدام هذا المحلول في تطهير الحروق، وكيفية تغيير الضمادات، وكنا قد طبقْنا هذا النظام في اليوم التالي للقصف، فكان الناس يقفون في صفوفٍ طويلة طوال النهار أمام آنية المحلول المطهر ينتظرون دَورهم لينالوا نصيبًا منه واستطعنا تجهيز ١٨٠ لترًا من هذا المحلول يوميًّا؛ ولذلك أصبح المرضى وزوارهم على درجة من المهارة في تغيير الضمادات كل يوم، لأننا نبهْنا عليهم أنه إذا لم يتمَّ تغيير الضمادات كل يوم فإن انتزاعها يصبح صعبًا مؤلمًا ويترتب عليه النزيف. واليوم كان هناك جمعٌ كبير من الناس يقفون أمام آنية المحلول، بينما تتعالى صرخات البعض حين يلامس المحلول جروحهم، أما المرضى الذين كانت حروقهم بالغة فقد تولى أمرهم جهاز العاملين بالمستشفى.

وبعد مغادَرتي مبنى الملحَق اتجهتُ إلى المستشفى، وكانت المرأة العجوز ما زالت تجلس في الممر ترقب الطريق تنتظر حضور شخصٍ ما، وحين رأتني سألَت بصوتٍ ينضح بنبرات الحزن: «يا دكتور لم يحضُر أحد ليراني، فمتى أستطيع أن أغادر المستشفى؟» فقلتُ لها بنبرةٍ رقيقة: «أيتها السيدة العجوز تذرعي بالصبر، لا يجب أن نيأس من الحياة حين نُصاب بالمرض.»

كان السير في الممرات أسهل اليوم من ذي قبل؛ لأن عدد المرضى أخذ يتناقص، ولكن الكثيرين كانوا ما زالوا يرقدون في دورات المياه أو تحت السلم؛ ولذلك كان علينا أن نقوم ببعض الترتيبات التي تُيسِّر نقْل مثل هؤلاء المرضى إلى الطابق الثاني.

وبعد أن أنهيتُ جولاتي غادرتُ المستشفى للبحث عن قصرية لمحتُها بين حطام أحد المنازل أثناء تجوالي، وبينما كنت أبحث عنها وجدتُ كمية من الأطباق الصينية ولوازم المائدة في مطبخ أحد المنازل المحترقة، كما عثرتُ على سلطانيتَين للأرز، وساطور بدون مقبض، فحملتُ كل ذلك إلى المستشفى، وأهديتُه إلى السيدة سائيكي قائلًا: «أيتها الجدة، لقد عثرتُ على كنزٍ منذ قليل، هذه كمية من الصيني وجدتُها بين حطام منزل، فلماذا لا تكلفي أحد الأشخاص بالبحث عن مثل هذه الأشياء؟ لو فعلتِ ذلك لتوفرَت لديكِ أدواتٌ كثيرة للمطبخ ولحجرة الطعام.»

وخرجتُ مرةً أخرى بحثًا عن المزيد من الأطباق، ونسيتُ كل شيء عن القصرية، وبينما كنتُ أحفر وسط الرماد، اكتشفتُ وجود الكثير من قطع الصيني الذي كان في يوم من الأيام فازاتٍ ثمينة، كما عثرتُ على أكواب لتقديم الشاي في حفلات الشاي اليابانية التقليدية، وكثير من الأشياء الأخرى، ولكنها جميعًا كانت محطمة لا يمكن إصلاحها.

وحين أحسستُ بالتعب عدلتُ عن مواصلة البحث عن الكنوز التي نحتاج إليها، وأقنعتُ نفسي أن مثل تلك الكنوز لا يمكن العثور عليها بالبحث، وإنما يُعثَر عليها بالصدفة.

كان رفاقي في القاعة مشغولين بمناقشة ما ذكره السيد ساساكي عن ذلك البيان الهام الذي سيُذاع في الغد، ويحاول كلٌّ منهم أن يخمِّن فحوى ذلك البيان، ورفضتُ الاشتراك في تلك المناقشات؛ لأنني أحسستُ أن هناك الكثير مما يجدر بنا الاهتمام به، وأنه لا مجال للتكهن بما سيحدث في المستقبل، وبالإضافة إلى ذلك لم يكن لدَينا راديو، فكنتُ أعد ذلك خيرًا، فنحن نعيش بدون ما يُسمَّى بمنافع الحضارة، وقد جعلني هذا أشعر بشيء من الحرية بصورةٍ قد لا يحس بها الآخرون الذين يتمتعون باستخدام التليفونات وأجهزة الراديو ويحصلون على الصحف اليومية؛ ففقْدنا لكل شيء خلال الحريق، وتجريدنا من كل هذه الأدوات، ليس شرًّا مطلقًا، فقد أحسستُ بإلهامٍ لم أكن أشعر به منذ زمنٍ بعيد.

وقبَيل المساء رأيتُ السيد ميزوجوتشي يدخل غرفة الطعام حاملًا شمعةً موقدة، فتبعتُه ووجدتُ السيدة سائيكي هناك، واستمتعنا في تلك الغرفة التي كانت تتراقص فيها الظلال مختلطة بالنور المنبعث من تلك الشمعة بالراحة وشعور الصداقة الذي يفتقده المرء في العنبر الكبير المتسع المفتوح، وجرَّنا الحديث كالعادة إلى «البيكا»، ولمَّا كان السيد ميزوجوتشي يهوى الكلام فقد أخذْنا نستمع إليه إذ يقول: «أيتها الجدة غيرَت الريح اتجاهها عندما كنتُ في حديقة المصلحة، وأخذَت كرات النار تتجه نحوي فهربتُ من الخوف نحو البوابة الخلفية للحديقة، وكان معي بعض الفتيات، واستطعنا بصعوبةٍ أن نصل إلى ضفَّة نهر أوتا. لم أرَ في حياتي مثل ذلك الحشد من الناس، كان من الصعب على المرء أن يتحرك بسهولة بينهم، كان كلٌّ منهم تقريبًا يعاني حروقًا بالغة، ويبدو منظرهم مزعجًا، وأحسستُ بالشفقة على امرأة كانت عارية تمامًا.» ثم التفتَ نحوي وقال: «لقد كنتَ أيضًا يا دكتور هاتشيا عاريًا. إنك تستطيع التعاطف مع هؤلاء الناس، واعتقدتُ أن هؤلاء الناس قد فقدوا ملابسهم أثناء محاولاتهم الخروج من تحت أنقاض المنازل فتمزقَت تلك الملابس أثناء تلك المحاولات.»

وبينما كان يتحدث كانت السيدة سائيكي تحملق بعينَيها وتومئ برأسها بين الحين والآخر وتندو عنها كلمات تعبِّر عن التعجب. وسألني السيد ميزوجوتشي: «أين كنتَ يا دكتور في ذلك الوقت؟» وكررَت السيدة سائيكي نفس السؤال، فأجبتُهم: «كنتُ بالمنزل، وأعتقد أنني كنتُ مرتديًا ملابسي الداخلية، ولكن عندما هربتُ من البيت لم يكن على جسدي شيء، حتى سروالي كان قد اختفى. كنت قد عُدتُ من نوبة عمل في مركز الوقاية من الغارات الجوية انتهَت في الرابعة صباحًا، وبعدما تركتُ العمل ذهبتُ إلى منزلي لأنال قسطًا من الراحة، ولأمرٍ ما لم أستطع النوم، فتمددتُ شارد الذهن في غرفة المعيشة، وأذكر أنني سمعتُ صوت صفارات الإنذار يتردد ذلك الصباح، وكنتُ أتأهب لارتداء ملابس الوقاية من الغارات الجوية عندما انطلقَت صفارات الإنذار من جديدٍ تُعلن انتهاء الغارة.»

وقبل أن أكمل حديثي قاطعَني السيد ميزوجوتشي بقوله: «أيتها الجدة، إن ثمة خبراتٍ خاصة يمر بها الإنسان بعد القصف تتصل بموضوع الملابس، لاحظي ذراع الآنسة أوموتو، لقد كانت ترتدي ملابس بيضاء بأكمام بيضاء وكان على أكمامها بعض النقوش السوداء ولذلك احترقَت ذراعاها، فإذا كانت ترتدي ملابس بيضاء بأكمام بيضاء ربما نجت من الحريق، أعتقد يا دكتور أن الملابس الملونة ضارة، أليس كذلك؟! لقد قيل لي إن الملابس الملونة تلتقط النار بسرعة.»

فعقَّبتُ على كلامه قائلًا: «يا سيد ميزوجوتشي، هل سمعتَ ما قاله الدكتور هينوئي؟ لقد ذكر أنه شاهد فوْر حدوث البيكا جنديًّا يجري وقد تحولَت ملابسه إلى أسمال، كما أن يدَي الدكتور ساسادا قد احترقتا بشكلٍ بالغ، وما زال يذكر منظر النار حين اشتعلَت فيها ولا يتذكر شيئًا آخر، ولعلَّ نقطة الضعف تتصل بحالة جروحه التي تبدو بالغة السوء.» فتنهد السيد ميزوجوتشي وقال: «ربما كان الأمر كذلك.»

وغطَّت السيدة سائيكي وجهها بيدَيها وأخذَت تتمتم: «يا للفظاعة … يا للفظاعة!» وصبَّت بعض الشاي لنا، وجلسْنا قليلًا ندخِّن، وما هي إلا لحظة حتى استأنف السيد ميزوجوتشي روايته، وهو مشهور بيننا بالقدرة على قص الحكايات: «ثم أيتها الجدة أخذَت النيران تزداد في اتجاه النهر، وما هي إلا لحظاتٌ معدودة حتى كانت ألسنة اللهب تتجه نحونا، ولم يكن لدَينا وسيلة تمكننا من عبور النهر إلى الضفَّة الأخرى؛ ولذلك نزلْنا إلى النهر حتى نبَّهَتنا تلك الفتاة — التي كانت تعمل في المصلحة والتي تنتمي إلى قرية سينو — إلى أنه من الممكن أن نعبُر النهر سباحة وقفزَت في النهر، وأخذْنا نسبح خلفها، ولم يكن أمامنا فرصة للشعور بالتعب لأن قطع الأخشاب المشتعلة المتطايرة كانت تقذفها الريح نحونا، وأدَّت إلى اشتعال النار في المنازل الواقعة على الضفَّة الأخرى للنهر، فأصبحْنا محصورين بين سياجَين من النيران على كلتا الضفتَين. ولحُسن الحظ كانت المياه ضحلة بالقرب من الضفَّة الأخرى من النهر، ومن ثَم استطعنا أن نرقد تحت الماء وأن نغطي رءوسنا بالماء من حين لآخَر لنقي أنفسنا الحرارة الشديدة. حقيقةً أيتها الجدة لم أشعر بالخوف يومًا مثلما شعرتُ في ذلك الحين.»

وكانت السيدة سائيكي العجوز تومئ برأسها بين الفينة والفينة مرددة عبارات الدهشة والتعجب، بينما لزمتُ الصمت وظللتُ أصغي إلى حديثه.

«حاول المئات من الناس أن يجدوا ملجأ في حدائق أسانو سنتاي العامة، وتحقَّق لهم ذلك لفترةٍ قصيرة، ولكن النار دفعَت بهم تدريجيًّا إلى الاقتراب من النهر شيئًا فشيئًا حتى تجمَّعوا عند ضفَّته، وظلوا ينظرون إلى النهر، وكان هناك ضابط يقف نصف عارٍ وسط النهر وقد اختفى نصف جسده تحت الماء، يحمل في يده سيفًا ويصرخ في الناس مهدِّدًا إياهم بالقتل إذا فكروا في عبور النهر إلى الضفَّة الأخرى، وظننتُ لأول وهلة أن هذا الضابط قد جُن، ولكني أيقنتُ بعد ذلك أنه كان يحاول إنقاذ الناس وأنه كان حكيمًا بقدْر ما كان شجاعًا، إنك تعلم يا دكتور أن النهر في هذه النقطة عميق، كما أن تياراته كثيرة الدوامات، وقد مات الكثير من الناس في الأعوام السابقة على الحادث عندما حاولوا عبوره من تلك النقطة، وأعتقد أن هذا الضابط كان يحاول منع الناس من القفز في النهر عند هذا الموضع الخطير. ورغم أن مجرى النهر كان يبلغ نحو المائة متر عرضًا في الجزء المقابل للحدائق العامة؛ فإن كرات النار التي يحملها الهواء من الضفَّة الأخرى أضرمَت النار في أشجار الحدائق، وأصبح هؤلاء المساكين عرضة للموت إذا ظلوا في الحديقة، وعرضة للغرق في النهر إذا قفزوا فيه. لقد كنتُ أسمع صراخهم وبكاءهم، وفي بضع دقائق بدَءوا يتساقطون في النهر، قفز المئات تلو المئات في النهر وسحبَتهم الدوامات إلى ذلك الموقع العميق، وماتوا غرقًا. كان المنظر يفوق كل خيال، أما أنا فظللتُ أرقد في موضعي بالقرب من ضفَّة النهر، أسكب الماء بين الحين والآخَر فوق رأسي عندما يصبح لفْح النار وألسنة اللهب أكثر من أن تُطاق.»

وجعلَت رواية السيد ميزوجوتشي السيدة سائيكي العجوز تمتلئ حزنًا، وخشيتُ أن يتوقف عن تكملتها مراعاةً لشعورها، وكنتُ مشتاقًا لسماع بقيَّة القصة فأخذتُ أحث السيد ميزوجوتشي على الكلام قائلًا: «وماذا حدث بعد ذلك؟»

«أخذْنا نتحرك تحت الماء الضحل حتى بلغْنا بعد عناءٍ شديد جسر توكيوا لنحتمي به من النار، وأثناء محاولاتنا الوصول إلى الجسر لمحتُ رجلًا مسكينًا ينام في الماء يعاني من الضعف ربما لفقْده كميةً كبيرة من الدم، حتى إنه لم يستطع أن يغطي جسده بالماء، فرجاني أن أغطي جسده بالماء، فتوقفتُ قليلًا وحفرتُ حفرة في باطن الجسر ووضعتُ جسده فيها وغطيتُه بالرمال المبللة، وأعتقد أن التيار قد جرفه فغرق كغيره من الآلاف الذين غرقوا في ذلك اليوم، وحين خفَّت وطأة النيران عُدتُ إلى المستشفى برفقة فتاتَين قابلتُهما بالصدفة ينتميان إلى قريتي، وكان لقائي لهما ضربة حظ، لأنني كنتُ قد أرسلتُ زوجتي وأسرتي إلى القرية، وعندما أخذ السيد كيتاءو الفتاتَين إلى القرية زار أسرتي وأخبرهم أنني بخير، ومنذ ذلك الحين زارتني زوجتي وعلمتُ منها أن قريتنا الصغيرة سينو١٨ تكتظ بالمرضى والجرحى.»

قدمتُ سيجارة إلى السيد ميزوجوتشي، وبعد أن التقط منها بضعة أنفاس سألني عن مصدر تلك السجاير، فقلتُ له إن ضابطًا بحريًّا أحضرها لي، فعلَّقَت السيدة سائيكي العجوز على ذلك بقولها: «يا دكتور لا ريب أنك محظوظ، فقد أحضر لك البعض سجاير، وأحضر لك اليوم السيد ساساكي سمكًا، كما أحضر لك هذا المساء السيد ناجاءو طماطم، فاهدأ بالًا ولا تفكر في شيء، فأنت رجلٌ محظوظ لأن لديك الكثير من الأصدقاء، يجب أن تشكر السماء على ذلك، فإذا لم تفعل هذا كان ذلك تحديًا للسماء.» وحاول السيد ميزوجوتشي أن يوقفها عن متابعة مثل هذا الكلام بقوله: «أيتها الجدة، إن في وجهكِ دملًا صغيرًا.» فردَّت عليه السيدة سائيكي وهي تهرش حول موضع الدمل: «إنه صغيرٌ جدًّا، ولكنه يؤلمني، غير أني لا أكترث له.» ثم استطردَت تحكي قصتها مع البيكا فقالت: «أما بالنسبة لي فقد كنت أنظِّف ماكينة الخياطة أمام المستشفى وفجأةً لمع ضوءٌ أبيض أمام عيني، فانبطحتُ أرضًا، ثم أظلمَت الدنيا من حولي وظننتُ أن المستشفى قد انهار فوقي، وحاولتُ أن أجعل جسدي ينكمش بقدر المستطاع، وبعد قليلٍ نظرتُ من خلال أصابعي فاكتشفتُ أنني لا زلت أستطيع الرؤية، ولا تدري مقدار سعادتي عندما تبينتُ أنني لا أزال على قيد الحياة، فقد ظننتُ أنني فارقتُ الحياة.» وارتسمَت على وجهها ابتسامةٌ سعيدة.

١٥أغسطس ١٩٤٥م

هذا يوم إذاعة البيان الهام، وعلى الرغم من إحجامي عن المشاركة في التنبؤ بمضمون البيان، فقد توصلتُ في النهاية إلى استنتاجٍ شخصي مؤدَّاه أن البيان الذي سيُذاع سوف يعلن غزو العدو لشواطئنا، وأن القيادة العامة للجيش ستأمرنا بالقتال حتى النهاية. يا له من أمرٍ ميئوس منه!

وفي هذه الحالة باستطاعتي الهرب إلى المنطقة الجبلية القريبة، ولكن تُرى أي طريقٍ أسلك؟ إذا سرتُ بمحاذاة خط سانيو فقد أتعرض للخطر، وربما كان من الأسلم لو اتبعتُ خط هامادا أو خط جي إيبي إلى قلب جبال تشوجوك؛ فإن لي أصدقاء كثيرين في المدن الجبلية الصغيرة بتلك المنطقة، مثل ميوش وشوبارا وسيجو طوجو وأوجي ويوشي. وربما كان من الأفضل أن أذهب إلى أوجي حيث كنا قد هجَّرْنا ولدنا إلى هناك، أو إلى يوشي حيث تقيم والدتي، ولكن ما الفرق بين الأمرَين؟ لقد سمعتُ صديقي القديم الدكتور آكي ياما الذي اشترك في عمليات سان شي العسكرية يقول أكثر من مرة: «إن الجانب الذي يلتجئ إلى الجبال هو الذي يخسر الحرب.»

لقد بدأ الجيش يخسر منذ أبريل، وفقد معظمُ الجنود أسلحتهم وهبطَت معنوياتهم، ولم يُسمح سوى بتهجير الأطفال والمسنِّين من المدن، وتم تنظيم فِرق الدفاع الشعبي من بين الذين بقوا بالمدن وكانت أعمارهم لا تتجاوز الأربعين، وإذا دعا الأمر يمكن تحويلنا جميعًا إلى قوات دفاعٍ شعبية، ولكن الشرطة العسكرية كانت تُراقب تعليقات الناس وتصرفاتهم خلال الشهور الأخيرة، وأصبحَت سلطة الشرطة العسكرية أكثر استبدادًا من ذي قبل، وفي المناطق التي تقرَّر اتخاذها ممرات لفِرق الإطفاء أو منافذ لتقهقُر القوات أُزيلَت المنازل دون اكتراثٍ لأحد، كان الخطأ يُعالَج بالمزيد من الأخطاء، والآن يوشك العدو على النزول فوق أرض اليابان، إن مجرد توارُد هذه الفكرة في خاطري يجعلني أحس بالألم.

لقد حُطمَت هيروشيما، ونحن نعمل الآن بأقصى طاقاتنا للمحافظة على حياة الناس وسط الدمار، لم يعُد لدَينا ثكنات للجيش، بل أصبحْنا بلا جيش، فقد هرب الجيش وتركنا بلا حماية، حتى العدد القليل من الجنود الذين أُسندَت إليهم مهمة الحفاظ على الأمن تركوا مواقعهم عندما كانوا يسمعون أصوات صفارات الإنذار، كما اختبأ الكثير منهم خلف مبنى المستشفى.

وحتى قبل حدوث البيكا كانت الترسانة البحرية ومعظم الثكنات العسكرية خالية من الجنود، وتم إجلاء عائلات الضباط عن المدينة منذ أبريل، أما المواطنون فلم يُسمَح لهم بالهجرة إلا بعد شهر أبريل، وحين تقدمتُ بطلب للهجرة خارج المدينة رُفِض طلبي.

وسواء كان للجيش ثكنات وقلاع في منطقة الجبال أو لم يكن؛ فإن ثمة حقيقةً مؤكَّدة هي أننا تُرِكنا دون دفاع أو حماية، وأخذَت المسائل التي كان عليَّ ألا أفكر فيها تتزاحم في رأسي.

سمعْنا من ينادي بالتجمع بمبنى مصلحة المواصلات حيث تم تدبير راديو لينقل إلى الحضور البيان الذي سيُذاع، وعندما وصلتُ إلى القاعة كان المكان غاصًّا بالناس فوقفتُ مقابل المدخل أنتظر سماع البيان، وما هي إلا دقائق حتى بدأ صوت الراديو يعلو محدِثًا ضوضاء لا يمكن تبيُّنها، ولم تستطيع آذاننا سوى الْتقاط عبارة من هنا وأخرى من هناك، وسمعتُ فيما سمعتُ عبارةً تبدو وكأنها «تحمل ما فوق الطاقة»، ثم سكنَت الجلبة وانتهَت إذاعة البيان.

والتفَت إلينا السيد أوكاموتو الذي كان يقف بجانب الراديو وقال: «كان البيان يُذاع بصوت الإمبراطور نفسه، وقد ذكر لتوه أننا خسرنا الحرب، وأنني أطلب منكم أن تنصرفوا إلى أداء واجباتكم حتى يصدر إشعارٌ آخر.»

كنت مستعدًّا لسماع بيانٍ يطلب منا أن نحفر الخنادق ونواصل الحرب حتى النهاية، ولكن هذه الرسالة غير المتوقعة تركَتني في حالة ذهول، لقد كان الذي سمعْناه صوت الإمبراطور، وقد قرأ على مسامعنا الإعلان الإمبراطوري بالاستسلام! لقد عجز ذهني عن مواصلة التفكير، وجمدَت الدموع في مآقيَّ وانتبهتُ كغيري من الموجودين بالقاعة عند سماع أن البيان قد أُذيع بصوت الإمبراطور، فلبثنا بعض الوقت بلا حراك صامتين، وأظلمَت الدنيا في عيني، واصطكَّت أسناني، وأحسستُ بالعرق البارد ينحدر فوق ظهري، وبعد قليلٍ عُدتُ بهدوء إلى المستشفى ورقدتُ في فِراشي، بينما كانت تتردد في أذني أصداء عبارة «معركة خاسرة.» وأخذ هذا الصوت يعلو ثم يعلو.

وخيَّم السكون على القاعة لوقتٍ طويل، ثم حطَّم السكونَ فجأةً صوت نحيب، ونظرتُ حولي فلم أجد نظرات الكبرياء تبدو في أعين رفاقي، ولكن تعابير اليأس والخذلان كانت ترتسم على وجوههم، وبالتدريج بدأ الناس يهمسون، ثم ارتفعَت أصواتهم بالكلام. وتناهى إلى أسماعنا صوت شخص يصيح في الخارج: «كيف خسرنا الحرب؟!» وتبعَته أصواتٌ أخرى تردد عباراتٍ غاضبة متباينة:

«إن الجبان وحده الذي يفر الآن!»

«لا بد أن تكون لخديعتنا حدود!»

«إنني أقبل أن أموت، ولا أرضى أن أُهزَم!»

«من أجل ماذا كنا نتحمل المعاناة؟!»

«إن أولئك الذين ماتوا في الحرب لن تتمتع أرواحهم بالسلام في السماء بعد الآن!»

وتحوَّل السكون في المستشفى فجأةً إلى زئير، ولكن الناس كانوا أعجز من أن يستطيعوا شيئًا، أصبح الكثيرون ممن كانوا من كبار دُعاة السلام، وأولئك الذين فقدوا حماسهم للحرب بعد البيكا، يصيحون مطالِبين باستمرار الحرب، ولكن الاستسلام أصبح حقيقةً مؤكَّدة لا مناص منها. ولم يكن هناك ما يستطيع تهدئة روع الناس الذين تلقَّوا النبأ، ولما كانوا قد فقدوا كل شيء، ولم يعُد لديهم ما يخشون من فقْده، فقد استسلموا للخذلان واليأس. وانتابني نفس الشعور، إن علينا أن نحارب حتى الموت، كيف نعيش في ظلال الخوف والرعب؟ أليس من الأفضل أن يموت الإنسان من أجل بلاده، ومن أجل عزة تاجها، بدلًا من أن يعيش للعار والخذلان؟

إن كلمة «استسلام» كان لها وقعٌ أليم على النفس يفوق بكثير وقع قصف مدينتنا بالقنبلة الذرية، وكلما تعمقتُ في التفكير كلما ازددتُ إحساسًا بالمرارة والبؤس.

ولكن أمر الاستسلام صدر عن الإمبراطور، فعلينا أن نصدع للأمر، إن إقدامه على تحمُّل ما فوق الطاقة لا يحمل سوى معنًى واحد؛ أننا كأمةٍ يجب أن نتذرع بالصبر، رددتُ كلماته مرَّاتٍ بيني وبين نفسي، ولكن لم يغيِّر هذا من الواقع الأليم شيئًا، ولم أستطع التخلص من اليأس الذي اعتراني، وأخيرًا وجدتُني أفكر في أمرٍ آخَر.

عندما أُعلنَت الحرب منذ أربع سنوات، لم يكن هناك من لا يشعر بالاطمئنان إلى ما سوف تسفر عنه من نتائج، ولكن أحدًا لم يفكر عندئذٍ فيما حدث اليوم. تُرى لماذا لم يُطلَب من الإمبراطور أن يتحدث إلى الأمة عندئذٍ؟ لم يُطلَب منه ذلك لأن طوجو كان وحده المسيطر على الأحداث، يصنع كل ما يحلو له. إن صدى نبرات صوته الحادة لا تزال تتردد في أذني.

وبدأتُ ألوم الجيش بيني وبين نفسي: «كيف كنتم تعاملون الإمبراطور؟ لقد أعلنتم الحرب برغبتكم عندما بدا لكم أن نتيجتها ستكون لصالحكم، ولكنكم عندما بدأتم تفقدون الحرب أخفَيتم خسائركم عن الشعب، وعندما عجزتم عن مواصلة الحرب اتجهتم إلى الإمبراطور، هل يمكن أيها القوم أن تعتبروا أنفسكم جنودًا؟ ليس أمامكم الآن سوى أن تقدموا على «الهراكيري»١٩ لتضعوا حدًّا لحياتكم.»

وسمعتُ شخصًا يصيح وكأنه يردد صدى أفكاري: «الجنرال طوجو كان عظيمًا وعنيدًا وغبيًّا، عليك أن تشق بطنك بيدك يا طوجو وتموت!»

أثارتني الانفعالات والضوضاء التي سادت المستشفى، ففكرتُ في الهرب، وما كدتُ أصِل إلى البوابة الخلفية بمبنى المصلحة حتى سمعتُ صوتًا يناديني: «يا دكتور، ماذا حدث؟» وأعاد إليَّ هذا السؤالُ رباطة الجأش التي فقدتُها، وخجلتُ من نفسي لأنني كنت على وشك الهرب، وعُدتُ إلى مبنى المصلحة وإلى مرضاي.

كانت جولاتي اليوم بعيدة كل البعد عن الطابع المهني، فلم أستطع التركيز ذهنيًّا على مشاكل المرضى، ولكني وقفتُ عند فِراش كل مريض، وبذلتُ أقصى الجهد لتهدئة مخاوفهم، وكررتُ القول لكل شخص رأيتُه: «يبدو أن الأمور لا تسير على ما يُرام، ولكن الإمبراطور أصدر أمرًا، وعلينا واجب الطاعة.»

كانت الممرضات تنصرفن إلى أداء واجباتهن وكأن شيئًا لم يحدث. لقد جعلَتني هذه الوجوه البريئة التي تعمل بهدوء أشعر بأن جوًّا من الكبرياء لا زال يحيط بنا، وهدَّأن كثيرًا من روعي.

افتقدتُ السيدة العجوز التي كانت ترقد بالقرب من مدخل المستشفى، فذهبتُ إلى مكتب العمل، وسألتُ السيد سيرا والسيد كيتاءو عنها، فترددا لحظةً ثم قالا لي: «لقد ماتت ليلة الأمس، ماتت دون أن تعلم بنبأ الاستسلام، ونحن سعداء لذلك.» واستوقفني جندي في الممر ليسألني: «يا دكتور ماذا عساي أن أصنع؟» فأجبتُه بقولي: «إنني لا أعرف موقع قيادتك، ولكنك تستطيع البقاء حتى تشفى، ولا عليك، دعِ المسئولية لي.» فسألني: «متى سينزل العدو قواته؟» فأجبتُ: «إننا لا نهتم بذلك، فأنت مريض على أي حال، ودعني أشرح ظروفك إذا اقتضى الأمر، وإذا دعت الحاجة إلى فرارك، فسأيسر لك سبيل الهرب، ولكني أستحلفك بكل عزيز ألا تيأس، فقد يتأثر بحالتك بقية الجنود، ويتفشى اليأس بينهم.» فأجابني الجندي وقد ارتسمَت علامات الارتياح على وجهه: «سيدي سأطيع أوامرك.» وحيَّاني بلطف، ومضى يجر بنطلونه الملطَّخ بالدماء.

قُدِّم لنا طعام العشاء، ولكني اكتفيتُ بتناوُل كوب من الماء الساخن لفُقداني للشهية، وأويتُ إلى فِراشي، وبدأَت بقايا الروح المعنوية التي كنت أحتفظ بها تتلاشى مع غروب الشمس، كان كل رفاقي في القاعة قلقين على الإمبراطور، وشاركتُهم أيضًا نفس الشعور، كنت أشعر بالأسف كلما تذكرتُه، وتركتُ فِراشي وذهبتُ إلى الشرفة واتَّكأتُ على سياجها، ويمَّمتُ وجهي شطر الشرق، ثم صليتُ من أجل استقرار نفس الإمبراطور.

أخذتُ أتمشى قليلًا، ثم التمستُ مجلسًا، وأخذتُ أحملق في الخرائب المحيطة بالمكان، كان القمر يبدو وحيدًا، ويتألق فوق مياه نهر أوتا تاركًا حزامًا باهتًا من الضوء، بينما كان يطل فوق المدينة التي يلفها الظلام، وبدَت ملامح جبل فوتا باياما الداكنة تبدو مقابل السماء المظلمة تجاه الشرق. إذا هُزِمَت أمة من الأمم فإن مظهر الأنهار والجبال فيها يبدو حزينًا، وتملَّكني إحساسٌ شديد بالوحدة، وأخذتُ أعاني انفعالات الهزيمة ومرارتها، واستغرقتُ في التفكير في المستقبل.

١٦ أغسطس ١٩٤٥م

كان اليوم منذ بدايته صحوًا.

لم ينعم كل من في قاعتنا بالراحة ليلة الأمس؛ فإن أمل مواصلة الحرب بدَّده الحزن والألم اللذان سببَتهما لنا الهزيمة، وأخذْنا نترقب وصول العدو إلى بلادنا، وكان الجميع يشعرون بالضيق، وخلال الليل ألقَت طائرات «دوبل زيرو» التي انطلقَت من قاعدة هيرو٢٠ منشوراتٍ تدعو إلى الاستمرار في الحرب وعدم الاستسلام.

وبلغَتنا ضمن مَظاهر المقاومة أنباء قيام الأسطول الإمبراطوري بهجوم في مياه شيكوكو، وظنها البعض أنباءً تبشِّر بالخير، ولكني كنت أخشى أن تكون هذه محاولة من جانب الضباط الصغار لإظهار الشجاعة وإرضاء كرامتهم العسكرية، وهتف بعض المرضى فرحين عندما بلغَتهم تلك الأنباء، ولكني شعرتُ بالرثاء لأولئك الذين فضَّلوا الموت على الاستسلام، وانقسمَ المستشفى فريقَين حبَّذ أحدهما الاستسلام؛ بينما رفضه الفريق الآخر.

زارنا هذا الصباح أحد زملاء الدكتور ساسادا في الدراسة، وكان يعمل بمحطة الإذاعة في طوكيو قبل الاستسلام، وأخبرنا أن المفاوضات التي انتهت بالاستسلام بدأَت في ١٠ أغسطس، وأنه ترك طوكيو في محاولة لتحويل ما لدَيه من أموال إلى أموالٍ منقولة عن طريق شراء بعض الأشياء؛ خشية تجميد العملة اليابانية وتخفيض قيمتها مثلما حدث في ألمانيا، ولم يكن لديَّ ما أخشى عليه، فقَدتُ كل شيء، ولم يكن يشغلني سوى أمر الهزيمة المحزنة، فباستطاعتي أن أعيش دون هموم، وأن أتمتع بكرم ومعاونة أصدقائي. وقبل قصف المدينة بالقنبلة الذرية كان لديَّ ما يعوضني عن المكاسب التي يحققها زملائي الأطباء الذين كانوا يزاولون المهنة دون الارتباط بوظيفة، فقد كانت وظيفتي لا بأس بها؛ إذ كنت أعمل لدى الحكومة بمرتبٍ كبير جعلني لا أكترث لأعباء المعيشة المتزايدة، كما أن عملي بالحكومة جعلني أتخلص من جنون الصراع من أجل الكسب، فرغم أن راتبي محدود كنت أتوقع الحصول عليه كل شهر، أما إذا كنت رجل أعمال، أو طبيبًا حرًّا، فربما لقيَت هذه المسألة بعض اهتمامي، وباعتباري موظفًا حكوميًّا ارتاح بالي من هذه الناحية.

كنت مشغولًا هذا الصباح بمحاولة إعداد سجلٍّ لكل مريض من المرضى الذين ما زالوا بالمستشفى، فقد كان من الصعوبة بمكانٍ أن نفكر في إعداد مثل هذه السجلات قبل ذلك، لأن كل واحد من العاملين بالمستشفى كان يبذل أقصى ما يستطيع من جهد للعناية بالمرضى وتلبية طلباتهم العاجلة، ولن أنسى ما حيِيتُ الجهد الخارق الذي بذله الدكتور كوياما ومعاونوه في إنقاذ ما يمكن إنقاذه بالمستشفى دون أن يفكروا في أنفسهم، أو في أن ينالوا قسطًا من الراحة، واستجاب الدكتور كاتسوبي لطلبي فأخذ على عاتقه مسئولية إعداد السجلات الخاصة بالمرضى، وأوصيته أن يسجل فيها كل ما يمكن تسجيله من ملاحظات موضوعية، وتولى معاونَته الدكتور هانا أوكا والدكتور آكي ياما. لم يكن لدَينا مجهر أو أدوات معمل أو حتى مختبر، ولكن تسجيل تاريخ وأعراض الحالات التي نتولى علاجها قد يصبح يومًا ما أمرًا في غاية الأهمية، فلم يحدث قبل ذلك في تاريخ العالم أن قُصِف شعب بقنبلةٍ ذرية نتج عنها مثل هذا الدمار الذي كنا نعانيه.

تدهورَت حالة السيدة يوشيدا، واستُدعِيتُ لرؤيتها قبل القيام بجولاتي العادية، وبلغَت حالتها ذروة السوء، فقد تورَّم فمها من الداخل وتقرح، وتورَّمَت لوزتاها بصورةٍ حادة، وفُتِحَت جروحها التي كانت تبدو من قبلُ في طريق الالتئام، وتجلَّط فيها الدم الفاسد، وتغطى جسدها ببثورٍ مدببة انتشرَت تحت الجلد، وازداد وجهها شحوبًا وزرقة، كما أن نبضها كان منخفضًا بدرجةٍ كبيرة، وبدَت في حالةٍ ميئوس منها.

ذهب السيد ميزوجوتشي والدكتور هينوئي بإحدى العربات منذ الصباح الباكر لإحضار الطعام اللازم للمستشفى، وحين اجتمعتُ والسيدة سائيكي العجوز والآنسة كادو وزوجتي لتناوُل العشاء لم يكونا قد عادا بعد، فأحسستُ بالقلق على سلامتهما، وأخذَت السيدة سائيكي العجوز تحاول طمأنتي مؤكدة أنهما سيعودان بعد حين.

وبينما كنت في الظلام بلغَتني أنباء وقوع شغب عند محطة هيروشيما بعد إعلان الاستسلام، ويبدو أن ناظر المحطة وموظفيها ظلوا يعملون بهمَّة ونشاط لتسهيل نقل المعدات العسكرية بأقصى سرعةٍ ممكنة، ولكن بعد الاستسلام شرب ناظر المحطة ومعاونوه كميةً كبيرة من «الساكي»٢١ حتى الثمالة، وأثاروا الشغب، ولما كنت أعلم أن ناظر المحطة العجوز رجل يحب الشراب فقد تخيلتُ مدى ما يمكن أن يحدث منه في مثل تلك الحالة، وأيقنتُ أن حفلات شرابٍ جماعي كهذه لا بد أن تكون قد أُقيمَت في مختلف أنحاء اليابان.

عادت الآنسة كادو وزوجتي إلى القاعة، بينما ظللتُ جالسًا بحجرة الطعام، على حين كانت الجدة العجوز تغسل الأطباق. إنه من السهل أن يشعر الإنسان بالانشراح خلال النهار حيث يكثر المحيطون به، ولكن عندما يحل الليل يقيم الظلام جدارًا من الكآبة حول الإنسان، ويصبح من الصعوبة بمكانٍ تفادي الأفكار السوداء. تُرى أي فوضى يمكن أن تحدث في طوكيو الآن؟ هل انقسم الجنود على أنفسهم، وأصبح يقاتل بعضهم بعضًا بعدما فقدوا الانضباط وأخذوا يُعملون السلب والنهب؟ وهل قام الضباط والجنود الذين لم يستطيعوا مواجهة الهزيمة والاستسلام بالانتحار على طريقة «الهراكيري»؟ تُرى ما الذي يفكر فيه الإمبراطور الآن؟

ويبدو أن صدى أفكاري قد تبينَته السيدة سائيكي العجوز؛ لأنها توقفَت عن غسل الأطباق وقالت وهي تشير بإصبعها إلى السن الوحيدة التي بقيَت في فمها: «يا دكتور، كم أشعر بالأسى من أجل الإمبراطور، إنه لم يكن مسئولًا عن إعلان الحرب.»

وصدَّقتُ على كلامها، وأحسستُ بالكراهية الشديدة للعسكريين الذين كنت أتحمس لهم بالأمس، لقد خدعوا الإمبراطور والأمة اليابانية، بعد ما حدث لهيروشيما حاولوا إخفاء الحقيقة عن الشعب، فلم يعلنوا أن المدينة قد دُمِّرَت بقنبلةٍ ذرية، وعلى حين كانوا يعلمون أنهم في الطريق إلى الهزيمة تجاهلوا الشعب رغم أن واجبهم كان يحتِّم عليهم إطلاع الشعب على حقيقة الأمر.

عاد السيد ميزوجوتشي في ساعةٍ متأخرة من الليل مثبَّط الهمة، وأخبرنا أن الاضطراب والفوضى يعمَّان المدينة.

١٧ أغسطس ١٩٤٥م

يومٌ صحوٌ آخر.

نمتُ لمامًا ليلة الأمس لأنني كنت قلقًا على مصير الإمبراطور، وأعترف أني هوَّلتُ الأمر وأعطيتُه أهميةً أكبر من الهزيمة ذاتها، فقد كان ضحية العسكريين الذين لم يتورعوا عندما لحقَت بهم الهزيمة عن إلقاء المسئولية كلها على كاهله، فقد استطاع هؤلاء العسكريون الذين ادعَوا الولاء للإمبراطور أن يسيطروا تدريجيًّا على الأمة كلها.

لقد استُخدِم اسم الإمبراطور كرمز للولاء الوطني وكوسيلة للسيطرة على مقاليد الأمور قبل أن يستطيع الشعب تبيُّن الحقيقة، كما أن طبقة الضباط التي كان عليها أن تخصص وقتها كله للاستبسال في القتال تحولَت إلى طبقةٍ مستعلية متعجرفة، حتى تلاميذ المدراس العسكرية كانوا ينشئون على الاعتقاد بأنهم فئةٌ ممتازة ينتمون إلى طبقةٍ معينة؛ ولذلك كان يملؤهم الغرور والصلافة والتعالي على كل من هم دونهم، ولم يكن تلاميذ المدارس العسكرية بمجرد الْتحاقهم بتلك المدارس يخاطبون الجنود العاديين بأكثر من عبارة «أنت» أو «أنت هناك»، ولم يراعوا يومًا ما كرامة الإنسان ولم يعيروها اهتمامهم، وإذا حاول جندي عادي أن يُثبت شخصيته لجأ الضابط إلى إذلاله إلى حد استخدام العقوبة البدنية، فإذا اعترض أحد الجنود على هذه المعاملة كان الضباط — حتى أولئك الذين يحملون أدنى الرتب بما في ذلك تلاميذ المدارس العسكرية — يواجهونهم بعجرفةٍ قائلين: «أوامرنا هي أوامر الإمبراطور، يجب أن تفهموا ذلك دائمًا.»

لذلك كان العسكريون ينفِّذون مشيئتهم سواء كانت حقًّا أم باطلًا، أما كبار الضباط فكانوا يشبهون الآلهة، وفي ظل نظامٍ كهذا كان أكثر الضباط صلافة وعجرفة واستعلاء وقدرة على البطش يصل إلى أعلى الرتب، ومن بين هؤلاء الضباط الكبار كان يُختار رؤساء الأركان العامة للجيش، فلم تعرِف الحنكة والحكمة وبُعد النظر طريقًا إليهم، وتصرفوا مثل الخنازير البرِّية تمامًا في كل عمل تصدَّوا له، فخيَّم الجهل على عقولهم حتى فقدوا كل حيوية لديهم، ولكنهم رغم ذلك لم يسلموا بالأمر الواقع، ولم يستمعوا إلى صوت العقل خشية فقدان السلطة والهيبة.

وعاش الجنود والشعب ومعهم الإمبراطور تحت نير هؤلاء وعانوا منهم الشيء الكثير، وإلا لَما اضطُر الإمبراطور أن يعلن الاستسلام بنفسه، ولَما أخذ المسئولية كلها على عاتقه بدلًا من تلك الطغمة العسكرية الطاغية.

بدأت جولاتي مبكرًا هذا الصباح، كانت السيدة يوشيدا لا تزال على قيد الحياة، ولكنها كانت أشد وهنًا من ذي قبل، وعندما سألني السيد أوشيو رأيي لم أملك الشجاعة الكافية للتعبير عن رأيي في حالتها بصراحة، وتركتُ الغرفة وأنا أشعر بالتهرب من صديقي.

كانت مفاجأة سارَّة بالنسبة لنا حين حضر الدكتور هيروشي موري يا زميلي القديم في الدراسة، الذي يعمل بمستشفى المواصلات في طوكيو، ومعه كميةٌ كبيرة من الإمدادات الطبية والمعونة، لقد كان عرَّيف الصف عندما كنا بالمدرسة الابتدائية منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا حين رأيتُه آخر مرة، وقال حين رآني مندهشًا: «عظيم أن أراك على قيد الحياة فإننا لم نكن نعلم في طوكيو ما إذا كنتَ حيًّا أم ميتًا، كل ما علمناه، أن هيروشيما قد دُمِّرَت عن بكرة أبيها، وقد استبد القلق بالدكتور هاسيجاوا والدكتور ميكي على مصيرك، وسيُسرَّان كثيرًا عندما يعلمان أنك ما زلتَ حيًّا، لقد أحضرتُ لك بعض الإمدادات الطبية.» وشرع يعرض أمام ناظريَّ محتويات بعض اللفافات التي جاء بها، وكانت تضم الملاقط الطبية والمقصات وبعض المستلزمات الطبية المصنوعة من المطاط، وكان يحمل معه آلة تصوير، وحين علم بما أصابني من جروحٍ طلب مني أن أسمح له بالتقاط بعض الصور وأنا في الفِراش، فحذرتُه قائلًا: «يا دكتور موري يا حذارِ أن تراك الشرطة العسكرية أثناء التقاطك الصور لهيروشيما؛ فقد يسبب لك ذلك المتاعب.» غير أنه لم يكترث لتحذيري، وبعد أن التقط لي بعض الصور وأنا عارٍ تمامًا، التقط بعض الصور الأخرى من النوافذ، كما التقط صور بعض العاملين بالمستشفى، ثم غادر المستشفى للتجول في المدينة لاستطلاع ما آل إليه حالها.

علمتُ من الدكتور موري يا أن الحال قد هدأَت في طوكيو، وعلمتُ منه فوق ذلك أن الإمبراطور أعلن بيان الاستسلام على مسئوليته الخاصة؛ لأنه أراد أن يجنِّب الشعب المزيد من المعاناة، فأثرَت هذه المعلومات فيَّ تأثيرًا شديدًا وكانت تُخالف تمامًا افتراضاتي السابقة.

جاءنا عدد من الزوار بعد الظهر، ولستُ أدري إذا ما كانوا قد جاءونا بأنباء صحيحة أم مجرد إشاعات، فقد أخبرني أحدهم أن أحد صغار الضباط قد طارد وزير الحربية، وأنه اضطُر إلى الاختباء في أحد مراحيض القصر الإمبراطوري حيث انتحر هناك على طريقة «الهراكيري». كما أخبرني آخَر أن المجلس الإمبراطوري قد دُعي للاجتماع لمناقشة شروط الاستسلام، وحاول وزير الحربية أن يثني الإمبراطور عن إعلان الاستسلام، وأن الإمبراطور رفض ذلك على أساس أنه مسئول بالدرجة الأولى عن سلامة الأمة أكثر من مسئوليته عن نفسه أو عن الجيش.

قمتُ بجولاتٍ أخرى في المستشفى بعد الظهر، واكتشفتُ أن واحدًا على الأقل من بين كل خمسة أو ستة من المرضى أصبح يعاني من البثور المدببة تحت الجلد التي بدَت من قبلُ على جسد السيدة يوشيدا، وكانت تلك البثور كبيرة عند البعض وصغيرة عند البعض الآخر، ولم يستطع المرضى الذين يعانون من البثور الصغيرة اكتشافها، فقد كانت تبدو كنقاط حمراء تحت الجلد، أما أولئك الذين كانت بثورهم كبيرة فقد سألوني عنها، وما لبثتُ أن اكتشفتُ أن الإصابة بتلك البثور تنتشر بشكلٍ واضح بين أولئك الذين كانوا بالقرب من مركز انفجار القنبلة، وأن الكثير ممن لم يصابوا بجروح قد بدَت عليهم أعراض تلك البثور، ولما كانت تلك البثور لا تصحبها الحكة أو الألم فقد كنتُ في حيرة من أمرها، وعجزتُ عن تشخيصها، وأخبرتُ الدكتور ساسادا والسيد شيوتا عن هذا التطور الجديد عندما عُدتُ إلى فِراشي، فاقترحوا عليَّ أن أفحص نفسي ففعلتُ وأحسستُ بالراحة حين اكتشفتُ أن جلدي نظيف تمامًا.

وأثناء تناوُل العشاء علمتُ أن فرقة من الطالبات ستأتي من الريف إلى المستشفى في الغد لمعاونتنا، كما أن المحافظات الأخرى وعدَت بمدِّنا بالمساعدين اللازمين لتدعيم الهيئة الطبية بالمستشفى، كما علمتُ أيضًا أن الناس يتوافدون على هيروشيما لإزالة الأنقاض من الطرقات.

١٨ أغسطس ١٩٤٥م

بدأ اليوم صحوًا، ثم ما لبثَت السماء أن تلبدَت بالغيوم، وأمطرَت السماء مطرًا كنا في أمسِّ الحاجة إليه.

بدأت جولاتي التفقدية مبكرًا، وقد تناقص عدد الموتى بشكلٍ واضح، ولكن في كل يوم كان يُتوفَّى شخص أو شخصان من بين المرضى، وفي كل حالة من تلك الحالات كانت البثور التي تبدو على شكل نقاط تحت الجلد تتزايد قبل وقوع الوفاة، وأخذ عدد المرضى الذين بدَت عليهم تلك الأعراض يزداد، وقد ازدادت تلك الأعراض عند السيدة يوشيدا عما كانت عليه بالأمس، وارتسمَت على وجهها علامات الموت، وأصبحَت جروحها جافة لا تنزف دماء، وأخبرتُ السيد أوشيو أنني لا أعتقد أنها سوف تعيش حتى المساء.

كما بدَت تلك البثور الحمراء على مرضى العيادة الخارجية اليوم، وظهر أحد الأعراض الأخرى؛ فقد بدأ شعر الكثير من هؤلاء المرضى يتساقط دفعةً واحدة، كما أن لون بشرتهم تغير، ولو كان لدَينا مجهر لاستطعنا تحليل الدم لعلَّنا نتوصل إلى خيط يقودنا إلى حقيقة تلك الأعراض.

عندما عُدتُ إلى فِراشي وجدتُ الدكتور ساسادا يفحص صدره، وعندما رآني غطى نفسه كما لو كان لا يريدني أن أعرف ما يفعله، فلم أحاول أن أتدخل في أموره الخاصة رغم أنني أعرف أن أعراض البثور بدأَت تظهر عليه، وكان يحاول إخفاء هذه الحقيقة عني، وهو أمر كان من السهل تبيُّنه عندما ينظر المرء إلى وجهه، فلم أشأ إزعاجه، وتظاهرتُ بالبحث عن شيءٍ ما في فِراشي ثم غادرتُ القاعة.

وفي الطابق الأرضي قابلتُ السيد هيروهاتا الذي كان يجلس على أريكة فجلستُ بجواره، وكان السيد هيروهاتا يعمل بمصلحة التليفونات، وقد حدث انفجار القنبلة أثناء مزاولته العمل، وعلى الرغم من أن مبنى المصلحة يقع على بعد نحو ٤٠٠ مترٍ من مركز الانفجار فإنه لم يُصَب بسوء فسألتُه: «كيف استطعتَ أن تنجو من الإصابة بينما قُتِل وأُصيب كل من تواجدوا في المكان؟»

فأجاب: «لقد حمَتني حوائط المبنى الخرسانية من الإصابة، ولكن الأشخاص الذين كانوا يقفون بالقرب من النوافذ لقوا مصرعهم على التو أو ماتوا بعد ذلك بقليلٍ نتيجة إصابتهم بالحروق أو الجروح، وكانت نوبة الليل تغادر المبنى لتحل محلها نوبة النهار عندما حدث الانفجار، وقد مات نحو أربعين شخصًا قرب مدخل المبنى، كما مات على التو نحو خمسة عشر موظفًا من العاملين بقسم الإنشاءات كانوا يمارسون التمرينات الرياضية الصباحية ولا يرتدون سوى سراويل قصيرة.» ثم استطرد قائلًا: «يا دكتور إن الإنسان الذي يموت حرقًا يتضاءل حجمه، أليس كذلك؟ إن هؤلاء الأشخاص بدَت جثثهم بعد الانفجار وكأنها جثث أطفال، هل هناك سبب لسقوط شعري وإحساسي بالوهن؟ إنني قلق يا دكتور لأنني علمتُ أنني سوف أموت حتمًا؛ فقد حدث ذلك لبعض الأشخاص الذين نجوا من الإصابة عند حدوث البيكا.»

فأجبتُه بقولي: «يا سيد هيروهاتا أعتقد أنه لا داعي للقلق، لقد مررتَ كغيرك من الأشخاص بتجربةٍ فظيعة، وبالإضافة إلى ذلك فقد واصلتَ العمل ليلًا ونهارًا بالمصلحة بعد كل ما حدث، فماذا كنتَ تتوقع؟ عليك أن تذهب إلى منزلك وتلزم الراحة بالفِراش دون أن تفكر في شيء، وتناول ما لذ وطاب من الطعام.»

لم يكن هناك ما يمكن أن يقال لهذا الرجل، فطريقة جلوسه وحديثه ولون جلده كانت تشير إلى أنه مشرف على الموت، ولكني كنت عاجزًا عن إنقاذه.

وصلَت فرقة الطالبات التي ستتولى معاونتنا هذا الصباح، وقمنا بتنظيف عنابر المرضى تحت إشراف الممرضات، وأصبح كل شيء بالمستشفى نظيفًا مرتبًا.

مطرٌ خفيف يسقط بالخارج.

نُقِل فِراشنا إلى غرفةٍ أخرى هذا الصباح حتى يمكن الاستفادة بالقاعة الواسعة التي كنا نشغلها لإيواء بعض المرضى الذين يشغلون الدور الأرضي، وكانت حجرتنا الجديدة صغيرة ولكنها أحسن ترتيبًا، فقد أُعِد فِراش لخمسة أشخاص على شكل صف بجوار النوافذ، وفِراش لثلاثة أشخاص بجانب الحائط الملاصق للممر، وشغل الدكتور ساسادا فِراشًا من تلك المجاورة للحائط حتى يكون بعيدًا عن لفحات الهواء، فقد كانت جروحه لا تزال تؤلمه ولا يناسبه سوى هذا المكان، ووُضِع فِراشي في مواجهة الدكتور ساسادا حيث كان باستطاعتي أن أحظى بالنسيم، ووُضِع فِراش زوجتي يائيكو بجواري، يليه فِراش الآنسة كادو، يليه فِراشٌ آخَر تُرِك شاغرًا ليستخدمه الطبيب المناوب في المساء أو في الليل وليُستخدَم كمقعد للزوار في النهار. أما السيد شيوتا والآنسة ياما والآنسة سوسوكيدا فقد وُضِع فِراشهم في الممر. وكان لحجرتنا الجديدة مدخلان، ووُضِع كرسيٌّ محطَّم ومكتب بجوار فِراشي لأستخدمهما عندما أستقبل الضيوف، وكان المكان يبدو مريحًا، ووجودنا بجوار بعضنا البعض أعطانا إحساس بالانتماء والاطمئنان. أما النوافذ فكانت تقع إلى شرق الجنوب الشرقي أي أن موقعها يختلف عن موقع الغرفة الأخرى التي كنا نشغلها بنحو ٩٠ درجة، فأصبح باستطاعتنا أن نرى محطة هيروشيما ومحطة كائيتا التي تقع خلفها وهي المحطة الثالثة في الطريق من هيروشيما إلى كوري، كما أن قريتَي سينو وهاتشي هن ماتسو أصبحتا على مرمى البصر، كما كان باستطاعتنا أن نرى الجبال التي تقع إلى جانب خط سانيو والقرى المتناثرة عند سفوحها. وذكَّرني منظر الجبال التي تقع وراء الأفق بتلك القرية الجبلية التي تقع بالقرب من أوكاياما حيث كانت تقيم أمي وولدي، ولما كان كل شيء قد دُمِّر تمامًا فيما بين المستشفى ومحطة هيروشيما فقد كان باستطاعتنا أن نرى قطارات السكك الحديدية وهي تمر بالقرب من الطرف الشمالي الشرقي للمدينة، وبينما كنت أرقب المحطة من النافذة رأيتُ قطارًا يصل إليها ويقف عندها وقد اكتظ بالبشر، وبلغ الزحام درجةً كبيرة حتى بدا الناس من بُعد وقد تعلقوا بالقطار من الخارج، فكان منظر القطار يبدو وكأنه خلية نحل أو شجرة مثقلة بالثمار، حتى مخزن الفحم الملحق بالقاطرة كان مغطًّى بالركاب، وما كاد القطار يصل إلى المحطة حتى بدأ الركاب يتبولون من النوافذ، بينما نزل آخرون للتبول بجانب القطار، وبينما كنت أرقب هذا المنظر الغريب وأحمد الله لأنني أُوجَد بعيدًا عن هذا الزحام الشديد؛ انطلقَت صفارات القطار وبدأ السيرَ من جديد دون أن يخلف وراءه إلا القليل من الركاب، غير أنهم لم يكترثوا لذلك وواصلوا السير على أقدامهم ببطء وهم يتألمون. كم يصبح الإنسان ذليلًا عندما يخسر الحرب!

كانت القطارات تأتي كل يوم مكتظة بالركاب، حتى قطارات البضائع كانت تنوء بحمولة من البشر.

كانت نافذتي الجديدة تقع فوق مدخل المستشفى، وبذلك كان باستطاعتي أن أرى كل قادم ومغادر دون أن أترك مكاني، وجاءت إلى مدخل المستشفى سيدة في نحو الثلاثين من عمرها تحمل شكوى من زوجها الذي يعمل بمصلحة المواصلات مؤداها أن راتبه أقل من أن يغطِّي نفقات الطعام، لقد كان الناس يقاسون من نفس الشيء طوال الحرب ولكنهم بعد وقوع الهزيمة رفعوا أصواتهم بالشكوى، وكانت المرأة تصرخ وكأنها فقدَت عقلها.

بلغَتني أنباءٌ سارة مفادها أن زوجة السيد أوكورا لا تزال على قيد الحياة؛ إذ عندما حدث الانفجار تقوض المنزل فوق السيد أوكورا وزوجته ولكنه استطاع أن ينجو بنفسه، وسمع زوجته تصرخ طلبًا للنجاة، وقبل أن يعود لإنقاذها كان البيت قد أصبح شعلةً متأججة من النيران فاضطُر إلى العدول عن محاولة إنقاذها، وعندما خمدَت النيران عاد إلى حطام المنزل فوجد بعض العظام المتفحمة في المكان الذي سمع منه صوت زوجته وقت الحادث، فأحضر تلك العظام واحتفظ بها خلف المستشفى، ثم حمل العظام ليلة الأمس إلى عائلة زوجته بالريف، وهناك وجد زوجته صحيحةً معافاة، فقد استطاعت بوسيلة أو بأخرى أن تنجو من الحريق، والْتقطَتها دوريةٌ عسكرية ساعدَتها في الوصول إلى قريتها، وكانت هذه القصة أغرب من الخيال، ولكنها جعلتني أوقن أنه لا يجب أن يستسلم المرء لليأس.

عندما حل المساء قمتُ بجولاتٍ أخرى في المستشفى فوجدتُ أن حالة مرضى البثور تزداد سوءًا، وكان كل واحد من المرضى يفحص جسد زميله بحثًا عن تلك البثور الحمراء، وبدا الجميع وكأنهم يعانون من «عقدة البثور»، وانتقل الخوف إليَّ ففحصتُ كل مكان في جسدي عندما عُدتُ إلى فِراشي، وشعرتُ بالطمأنينة عندما وجدتُ جلدي خاليًا من تلك الأعراض، إنني حتى الآن لا أزال بخير.

١٩ أغسطس ١٩٤٥م

كان اليوم صحوًا بصفةٍ عامة وإن تخلله بعض السحاب وترددَت أصداء الرعد من بعيد.

كانت القطارات تمر على بُعد نحو مائة متر من المستشفى، وكنت أسمع بين الحين والآخر صوت قطارٍ قادم، فجلستُ في فِراشي وأخذتُ أرقب القطارات التي كانت تسير في كلا الاتجاهَين مكتظة بالجنود المسرَّحين، لقد كان منظرها يؤكد وقع الهزيمة.

حتى الجنود الذين كانوا يعسكرون بجوار المستشفى بأعدادٍ كبيرة نسبيًّا تركوا مواقعهم ورحلوا إلى قراهم، وزادت رغبة الناس في مغادرة المكان والرحيل إلى مدنهم وقراهم، وانتقلَت العدوى إلى المرضى المدنيين فغادر المستشفى الكثير منهم ممن كانوا يقدرون على الحركة بالكاد، ولجأ الكثيرون إلى الهرب حتى يتحاشوا رؤية وجوه الأعداء.

ارتفعَت اليوم معنويات السيد شيوتا؛ فقد أصابه الإمساك لعدة أيام ثم عادت أمعاؤه إلى طبيعتها اليوم فشعر بالارتياح، وكنت قد نصحتُه أن يتجنب الانفعال والتوتر حتى يتخلص من تلك الحالة، وفي كل يوم كنت أُلقي عليه محاضرة في كيفية التخلص من تلك الحالة، وكان يضحك هو والمحيطون به عندما أتحدث إليه في مثل هذا الموضوع، فإذا كان قد استمع لنصيحتي لَتجنَّب الكثير من المعاناة.

أما الآنسة ياما فكانت حروقها كثيرة وغطَّت الضمادات جسدها، وكانت تصرخ كلما غيرَت شقيقتها — وهي ممرضة أيضًا — ضماداتها، وكنت أقدِّر لها ما تعانيه من آلام، ولكني أحسستُ بالرثاء لحال شقيقتها أكثر من حالها.

أما السيدة سوسوكيدا التي كانت جروحها أقل خطورة من جروح الآنسة ياما فكانت تجز بأسنانها دون أن تنبس بكلمة أثناء تغيير ضماداتها، فقد كانت أقل عنادًا من الآنسة ياما على الرغم من أن حروقها كانت تسبب لها الآلام وتهدد حياتها بالخطر، وكانت ابنتها هي التي تتولى تغيير ضماداتها، غير أنها لم تصرخ ولو مرةً واحدة. ومن الطريف على أي حال أن ترى امرأتين تعانيان من نفس الآلام تصرخ إحداهما دائمًا بينما تتحمل الأخرى الألم بهدوء.

قام الدكتور كاتسوبي بتغيير ضمادات الدكتور ساسادا وضمادات زوجتي وضماداتي وتألمتُ أثناء رفْع الضمادات لأن الشريط اللاصق كان ينتزع الشعر معه، فقد حاول الدكتور كاتسوبي ألا يؤلمني وأخذ ينتزع الشريط ببطء ولكن انتزاع الشريط بسرعة كان من الممكن أن يجنبني آلام انتزاع الشعر.

ماتت السيدة يوشيدا اليوم، وكان آخر ما شكَت منه العجز عن الرؤية، وازداد عدد المرضى المحتضَرين في المستشفى، وكانوا جميعًا يشكون من البثور، غير أننا كنا عاجزين عن اكتشاف أسباب تلك الأعراض.

بينما كنت أرقد في فِراشي الليلة سمعتُ أصوات حشرات بالدور الأرضي؛ إذ كانت الصراصير الصغيرة تصفر، وبدا المكان موحشًا. وبينما كنت مستلقيًا في فِراشي سمعتُ صرخةً مدوية في الدور الأرضي فأسرعتُ بالنزول لأجد سيدة من مرضانا قد أصابها مس من الجنون، كانت تقف كالشبح وسط العنبر المظلم وقد تهدَّل شعرها وتصرخ بأعلى صوتها، مما جعل المرضى الذين يقيمون معها في نفس العنبر يشعرون بالفزع، بينما كان شقيق تلك السيدة يحاول تهدئتها فيقول لها هامسًا: «يا أختاه، إن الجميع نائمون أرجوك أن تهدئي، إنك تزعجين الناس.» وحين أيقنتُ من استحالة تهدئتها أمرتُ بإعطائها حقنتَين من المورفين، فتقيأَت مرتَين بعد وقتٍ قصير ثم غطَّت في نومٍ عميق، ورثيتُ لأخيها الذي كان يعتقد أن ما أصابها علامة على دنو أجلها.

ولما كان النوم قد فارق جفوني فقد أخذَت الأفكار تتزاحم في رأسي، بعد البيكا كنا نعتقد أن الذين أصابتهم الحروق أو الجروح سيتماثلون إلى الشفاء عندما نعالجهم، ولكننا اقتنعنا الآن بعدم صحة هذا الاعتقاد، فبعد أن تحسنَت حالة بعض المرضى بدَت عليهم أعراضٌ جديدة عجَّلَت بوفاتهم، ومات الكثيرون دون أن نفهم سبب موتهم، فتملكَنا اليأس؛ إذ لم يكن باستطاعتنا تشخيص الأعراض التي بدَت على المرضى خلال الأيام الأخيرة، وخاصة تلك النقط الحمراء والبثور.

لقد تُوفِّي المئات من المرضى في الأيام الأولى التي أعقبَت الحادث، ثم انخفض معدَّل الوفاة، ولكنه الآن آخِذ في الارتفاع من جديد. وكانت الأعراض التي بدَت على من تُوفُّوا في الأيام الأربعة أو الخمسة التي أعقبَت البيكا هي: الضعف الشديد، وفُقدان الشهية للطعام، والتجشؤ والإسهال والقيء، وكانت أعراض الضعف العام وفقدان الشهية أكثر شيوعًا بين المرضى، يليها الإسهال ثم القيء، أما المرضى الذين كانت حالتهم بالغة السوء فقد عانوا من تلك الأعراض الخمسة مجتمعة. وبمرور الأيام كان فقدان الشهية والإسهال هي الأعراض البارزة التي بدَت على المرضى الذين لم تتحسن حالتهم.

وملاحظةٌ أخرى نتبينها من متابعة تلك الحالات هي أن أعراض الاضطرابات المعوية الشديدة لا صلة لها بالحروق والجروح؛ فقد أخذ بعض المصابين بالحروق يُشفَون بسرعة! أما المرضى الذين بدَت عليهم تلك الأعراض ولم تلحق بهم إصابات فقد ساءت حالتهم وماتوا، وكان الكثير ممن تُوفُّوا يعانون من الإسهال الدموي الشبيه بالدوسنطاريا، بينما كان الآخرون يشكون من البول الدموي والبراز الدموي. كما أن الالتهابات الرحمية الشديدة عند المريضات التي كنا قد شخصناها خطأً على أنها اضطرابات وظيفية كانت تنتشر عند النساء، وبعض من ظلوا على قيد الحياة لمدة أسبوع ماتوا نتيجة الْتهاب الفم واللوزتَين، والآن عادت أعراض التهاب الفم إلى الظهور من جديد إلى جانب البثور، وارتفع معدَّل الوفاة مرةً أخرى. وسارت حالات البثور على نفس النهج الذي لاحظناه على المرضى الذين أُصيبوا بأعراض الاضطرابات المعوية، ولا تربطها أي علاقة بنوعية الجروح التي أصابت المرضى، كما أن أولئك الذين لم تلحقهم أي إصابات وكانت حالتهم طيبة لدرجة معاونتهم للممرضات في تمريض زملائهم المصابين أخذَت تبدو عليهم أعراض النقاط الدموية تحت الجلد، وكان لدَينا نماذج عديدة من حالات الأفراد الذين كانوا أصحَّاء ثم ظهرَت عليهم أعراض البثور وماتوا قبل أولئك الذين كانت حالتهم الصحية متدهورة منذ البداية، لقد كانت تلك البثور نذير شؤم بالنسبة لنا.

ومن الواضح الآن أن الدوسنطاريا الوبائية لا علاقة لها بالأعراض المحيرة التي رأيناها، وازداد احتمال ارتباط تلك الأعراض بتناقُص عدد كرات الدم البيضاء الذي يمكن إرجاعه إلى تأثير التهاب اللوزتين، غير أنني لم أعلم من قبلُ أن التهاب اللوزتين ناتج عن نقص في كرات الدم البيضاء.

تُرى ما سبب ظهور تلك البثور؟

كان هذا ما يجب أن نتوصل إلى معرفته، ولكن لم يكن باستطاعتنا التخلص من المأزق الذي وقعنا فيه، فماذا نستطيع أن نفعل؟ وماذا سيحدث بعد ذلك؟ أليست هناك إجابة شافية لكل هذه التساؤلات؟ وهكذا حرمَتني تلك الأفكار من النوم حتى الصباح.

٢٠ أغسطس ١٩٤٥م

طقسٌ صحوٌ بوجهٍ عام، غائم نسيبًا.

وصل هذا الصباح المجهر الذي كنا في أمسِّ الحاجة إليه من مستشفى المواصلات بطوكيو مع رسولٍ خاص أرسله الرئيس إيكوتا، أحد الرؤساء السابقين لمصلحة المواصلات. ولم أضيِّع وقتًا في استخدامه في فحص دماء المرضى بادئًا بالأفراد الستة الذين تضمهم قاعتنا، وكان عدد كرات الدم البيضاء في حالتهم يبلغ نحو الثلاثة آلاف كرة في السنتيمتر المكعب، أي أقل من المعدَّل الطبيعي الذي يتراوح بين ستة آلاف وثمانية آلاف كرة في السنتيمتر المكعب، وتولى الإشراف على فحص الدم الدكتور كاتسوبي والدكتور هانا أوكا حيث عمل كلٌّ منهما على فحص دماء أكبر عددٍ ممكن من المرضى، وكان عدد الكرات عند بعض المرضى ٦٠٠، بينما كان عددها عند الغالبية العظمى منهم يبلغ نحو الألفَين، وكان عدد الكرات عند أحد المرضى الذين بلغَت حالتهم حدًّا كبيرًا من الخطورة ٢٠٠ كرة فقط، وقد تُوفِّي هذا الشخص بعد أخْذ عينة الدم منه. وبدا واضحًا لأول وهلة أن المرضى الذين تتناقص عندهم عدد كرات الدم البيضاء هم الذين يعانون أعراضًا حادة، أما عن المرضى الذين أصابتهم الحروق والجروح فقد كنا نتوقع أن يكون عدد كرات الدم البيضاء عندهم أكثر من غيرهم غير أن الفحص لم يُثبت صحة ذلك الاعتقاد، وتأكدَت شكوكي حول هذا الموضوع، وقد شخَّصنا حالة من يعانون مرض الدم على أنها «أجرانو لوسيتوسيس» أو بعبارةٍ أخرى: حالة اندحار لكرات الدم البيضاء، وفي مثل تلك الحالة لا بد أن يكون ثمة مادةٌ سامة سببَت حدوثها، ولم يكن الاستنتاج الذي وصلتُ إليه دليلًا على فطنتي، فقد كنا بصدد حالة «أجرانو لوسيتوسيس» نتجَت عن شيءٍ مجهول، وإليها يرجع سبب أورام اللوزتين والتهاب الحلق.

وقد فحصتُ حالة كل واحد من المرضى الذين يشكون من تلك الأعراض وتبينتُ أن معظمهم كانوا يسكنون بالمنطقة القريبة من المستشفى، كما اكتشفتُ أن عدد أقارب المرضى أكثر من المرضى أنفسهم، ولم أدرِ ماذا نفعل إزاء هذا الموقف، فقد كان من الصعب علينا أن نوفر الطعام للمرضى، فما بالنا ونحن مطالبون بتوفير الطعام لأقاربهم الذين لم يكن لهم مأوى سوى المستشفى، ولا نملك سوى إبقائهم بها لأنهم لا يجدون مكانًا آخر يلجَئون إليه، فلا عجب أن أصبح المستشفى مكتظًّا بالسكان. وكانت تلك الحال لا تختلف عن غيرها في الأماكن الأخرى، فقد علمتُ من السيد ساجادا وهو صديق من جي جوزن زارني اليوم وأحضر لي معه قميصًا وبنطلونًا جديدًا وحذاء، علمتُ منه أن كل هيكل ومعبد ومدرسة ومنزل يكتظ بضحايا «البيكا»، وأن حالة هؤلاء الضحايا كانت أسوأ من حالتنا بكثير، فلم يتلقوا علاجًا طبيًّا أو ملابس أو ضمادات ولم يُقدَّم لهم سوى القليل من الطعام، وعلى النقيض من ذلك كان من يقيمون بمستشفانا موضع رعاية الأطباء والممرضات، كما أن الدكتور هينوئي والسيد ميزوجوتشي بذلا أقصى جهدهما لتوفير الدواء والطعام لهم.

وغمرني إحساسٌ بالغبطة والزهو وأنا أرتدي البنطلون الذي لا يكاد يبلغ الركبتَين والقميص المحاك باليد، اللذين تركهما لي صديقي، فقد سرَّني أن المرضى الذين يقيمون بالمستشفى وعائلاتهم أحسن حظًّا من غيرهم ولذلك يفضِّلون البقاء معنا.

٢١ أغسطس ١٩٤٥م

يومٌ صحو السماء.

ازداد عدد الزوار بمرور الأيام وكان كلٌّ منهم يقص علينا ما رآه أو سمعه، كما كانوا يطلعوننا على وجهات نظرهم فيما حدث، وسمعتُ القصص التي كانوا يصرُّون على روايتها لنا من الصباح حتى المساء، وكثيرًا ما سُئلتُ عن مكان وجودي ساعة حدوث البيكا، وقبل أن يعطوني فرصة الحديث كانوا يروون لي تجاربهم الخاصة مع ذلك الحادث الجلل، ويحاول كلٌّ منهم أن يضفي على تجربته الخاصة طابعًا فريدًا، كما أن بعضهم كانوا يقصون حكاياتٍ غريبة.

وقد ذكر لنا أحد الزوار أن محطة الإسعاف التي أُقيمَت بمكتب العمل في هيجي ياما كانت في حالة فوضى، تفوح منها رائحة الحروق التي أصابت المرضى الذين كانوا يشبهون الأخطبوط٢٢ المسلوق، وأكد أنه لم يرَ في حياته أجسادًا متقرحة مثل أجساد أولئك المرضى، واستطرد هذا الرجل قائلًا: «يا دكتور هل تعتقد أن باستطاعة الإنسان أن يرى بعين برزَت من موضعها؟ … لقد رأيتُ رجلًا خرجَت عينه من موضعها نتيجة إصابةٍ لحقَت به وكان يقف وقد وضع عينه على راحة يده، وجمد الدم في عروقي حين لاحظتُ أن تلك العين تبدو وكأنها تحملق فيَّ، هل تعتقد يا دكتور أن تلك العين كانت تراني؟»

ولم أحر جوابًا ولكني سألتُه: «هل رأيتَ صورتك بوضوحٍ على حدقة العين؟»

فأجاب الزائر: «لا، فلم أكن قريبًا من ذلك الرجل إلى تلك الدرجة.»

ولحُسن الحظ قطع المناقشة وصول صديقٍ قديم هو الدكتور ياسوهارا الذي يقيم في تاماشيما وكان كبير الجرَّاحين بمستشفانا منذ عامَين أو ثلاثة أعوام مضَت، وما إن رآني حتى قال: «يا دكتور إن هذا مكانٌ غير آمن، ويجب ألا تظل هنا، تعالَ معي إلى بيتي، إنك لا يمكن أن تشفى في مثل هذا المكان.» وكنت على يقين أن الدكتور ياسوهارا عاطفي إلى حدٍّ بعيد وأنه قد يأخذني رغم أنفي إلى حيث يريد، غير أن حماسه قد فتر عندما رأى زوجتي والسيد شيوتا والآنسة ياما والآنسة سوسوكيدا، فقد أكد له منظر أولئك الأصدقاء القدامى أنني لست وحدي الذي يعاني من تلك الحالة، فاستدار إلى صندوقٍ كان يحمله وقد ترقرقَت الدموع في عينه، وقال بصوتٍ مؤثر: «لقد أحضرتُ لك هديةً صغيرة، صندوق من الخوخ.» وبعد أن سألنا عن بقية الأصدقاء في المستشفى والمصلحة أخبرَنا أن ابن عمي الكابتن أوراب قد مات، وأن أصدقاءنا القدامى ورفاقنا في الدراسة الدكتور آكاماتسو والدكتور أوسوجي يُعتبَران في عداد المفقودين. لقد اعتدتُ على سماع مثل تلك الأنباء المحزنة فلم تعُد تؤثِّر في نفسي.

تناولْنا خوخ أوكاياما اللذيذ الذي أحضره لنا الدكتور ياسوهارا مع وجبة الغداء.

عقدتُ العزم على تسجيل تطوُّر حالة المرض عند أكبر عددٍ ممكن من المرضى خلال جولاتي التفقدية بعد ظهر اليوم، ولكن الأمور كانت مربكةً محيرة فلم أدرِ من أين أبدأ، وقد استيقظَت المرأة التي أصابها الجنون ليلة الأمس وأخذَت تصرخ بكلماتٍ غير مفهومة، وزاد عدد المرضى الذين بدَت عليهم أعراض البثور، وشكا البعض من تساقُط الشعر بكمياتٍ كبيرة فقمتُ بتسجيل بعض الحالات:
  • السيد ساساكي: في الثالثة والخمسين من عمره، ذكر، دخل المستشفى يشكو من انقباض في الصدر، انتشرَت البثور في ذراعيه بعد ذلك، وحجم كلٍّ منها مثل بصمة إصبع الخنصر، حرارته ٣٩° مئوية، فقد جزءًا كبيرًا من شعره، حالته سيئة.
  • السيدة هامادا: أنثى، في السابعة والأربعين من عمرها، أُصيبَت في منزلٍ يقع في تبو-تشو على بعد كيلومتر واحد من مركز الانفجار، كانت تشكو من القيء والضعف العام والصداع والعطش الشديد فور وقوع الانفجار، واستمرَّت تلك الأعراض لمدة أربعة أيام مصحوبة بفقدان الشهية والإسهال، تحسنَت حالتها تدريجًا واعتقدْنا بشفائها في ١٥ أغسطس فيما عدا فقدانها للشهية من حين لآخر، ثم تفاقمَت تلك الحالة في ١٨ أغسطس ١٩٤٥م، وأخذَت تنتقل من سيئ إلى أسوأ، وعندما دخلتُ المستشفى بالأمس كان جلدها جافًّا وتغطِّي البثور صدرها وأكتافها وذراعيها، وتشكو من عدم القدرة على الابتلاع، ورائحة أنفاسها كريهة، حالتها بالغة السوء.
  • الآنسة كوباياشي: أنثى، في التاسعة عشر من عمرها، أُصيبَت في شارعٍ بحي هاتشوبوري على بعد ٧٠٠ متر من مركز الانفجار، تقيأَت عدة مرات أثناء محاولتها الهرب، عانت من الضعف العام خلال الأيام الثلاثة التي أعقبَت الحادث، بالإضافة إلى الإسهال والاضطرابات المعوية، وأخذَت حالتها في التحسن بعد ذلك واستعادت شهيتها، غير أنها ظلَّت ملازمة الفِراش بسبب الضعف العام، ثم ساءت حالتها بشكلٍ عام في حوالي ١٨ أغسطس وأُدخلَت المستشفى، وبعد دخولها ظهرَت عليها أعراض البثور، نبضها عادي، لا تُعتبَر حالتها سيئة.

سقوط الشعر عرَضٌ غريب ولكننا لا نفهم كنهه، ودون أن أدري أمسكتُ بحفنة من شعر رأسي وأخذتُ أشدها، لم يكن برأسي الكثير من الشعر ولكني حين انتزعتُ بعضه بالقوة شعرتُ بالألم، وأخذتُ أفحص رءوس المرضى بعناية فتبينتُ أثر الشعر المتساقط بدرجاتٍ متفاوتة في كثير منهم، وكانت حالة الآنسة كوباياشي والسيد ساكاي من أبرز تلك الحالات، لقد ظهر عرَضٌ جديد يجب أن نأخذه في الاعتبار، وكنت أكثر الناس قلقًا بسبب هذه الظاهرة.

أمَّا الفتاة الجميلة الشابة التي احترق جسدها كله دون وجهها فلم تبدُ عليها تلك الأعراض الجديدة، وكانت لا تزال ترقد في بِركة من القيح، وحالتها تميل إلى الثبات، لا يبدو عليها التحسن أو التدهور، ونظرًا لعدم وجود من يعتني بها من أقاربها فقد أوليتُها عنايةً خاصة في كل جولة من جولاتي، وحاولتُ أن أحث المرضى الآخرين على العناية بها، وكانت تقدِّر لي اهتمامي بها وتبتسم كلما رأتني، ورغم أن جسدها كان أسود متسخًا غير أن ابتسامتها كانت تحمل الكثير من معاني الجمال، وزاد من جمال وجهها بَريق سنٍّ ذهبية كانت تتألق مع ابتسامتها.

وعندما عُدتُ إلى فِراشي أخبرتُ رفاقي بظاهرة فقدان الشعر التي بدَت على المرضى، وحاولتُ أن أجذب كميةً أكبر من شعري، وفعل رفاقي نفس الشيء، أصبح كل إنسان بالقاعة يشد شعر رأسه، ولكن شعرهم لم يسقط، كما أنني عجزتُ عن انتزاع بعض الشعر هذه المرة من رأسي، حين تأكدنا من أننا لا نعاني من ذلك العرض الجديد، اقتنعنا أننا في طريقنا إلى الشفاء واحتفلنا بهذه المناسبة بتناوُل بعض الخوخ، وعندما أكلتُ الثمرة التي أصابتني أحسستُ أنها قد أزالت المرارة من حلقي، وكلما تذكرتُ ذلك الخوخ اللذيذ يسيل لعابي.

ظهرَت أعراض الحمَّى على زوجتي يائيكو وأعطيتُها قرصًا من الأسبرين.

٢٢ أغسطس ١٩٤٥م

يومٌ صافي السماء.

استيقظتُ قبل طلوع النهار بوقتٍ طويل، ولم أستطع مواصلة النوم، بينما غرق رفاقي في سباتٍ عميق، وتركتُ فِراشي ووقفتُ في الشرفة أرقب الشمس عند شروقها، كانت السماء صافية والجو حارًّا! ولبثتُ بالشرفة حتى اكتمل شروق الشمس، وفكرتُ في الخروج لاستطلاع الخرائب التي تقع مكان قيادة الفرقة الثانية التي كانت تعسكر بالجزء الملحَق بقلعة هيروشيما.

وفي الطريق إلى تلك الخرائب شعرتُ بالحاجة إلى التبول فتلفتُّ حولي بحثًا عن مكان لقضاء الحاجة فعثرتُ على مرحاضٍ نظيف، سُررتُ لأن ذلك المرحاض كان أنظف بكثير من مرحاض المستشفى الذي لم يكن سوى حفرة في الأرض محاطة بحوائط من الحصير كما ذكرتُ آنفًا، ولما كان هذا المرحاض الذي اكتشفتُه يقع على مسافةٍ قريبة من المستشفى فقد عقدتُ العزم على استخدامه من الآن فصاعدًا.

توقفتُ عند خرائب مخازن الجيش إلى الجنوب من المستشفى فعثرتُ على بقايا دراجتَين ناريتَين مغطَّاة بالحجارة المهدمة وقرميد الأسقف، ولكن لم تكن هناك أسلحة، وعجبتُ كيف استطاع الجيش أن يجلو عن ذلك المكان، كان هناك قبل حادث القنبلة مخزنٌ خشبي بالقرب من الجانب الجنوبي من مبنى المصلحة، وقد اشتعلَت النار أول ما اشتعلَت فيه فلم يبقَ منه شيء سوى قطَع مبعثرة من قرميد السقف، وانتقلَت النار من ذلك البناء الخشبي إلى المستشفى والمصلحة، ورغم أن الجيش كان قد دَمَّر دون داعٍ العديد من المنازل في المنطقة تحسُّبًا للحرائق؛ ترك هذا البناء الخشبي القابل للاشتعال في موضعه، على الرغم من أن جميع المنازل التي كانت تقع على بعد خمسين مترًا من المستشفى قد أزيلَت جميعًا، ولهذا السبب لم يحترق المستشفى عن آخره، ولكن هذا المحزن الخشبي الذي لا قيمة له تُرِك في موضعه ليكون سببًا في الدمار الذي حدث لمباني المستشفى والمصلحة والإصابات التي حدثَت لنا.

ومن السهل أن يفهم القارئ سر كراهيتنا لقادة الجيش، فقد كانت غلظتهم وغباؤهم لا يعرفان حدودًا، ولم تراعِ حقوقنا الشخصية، ولم نكن ندري متى سيُسمَح لنا بإيقافهم عند حدهم والتعبير عن إرادتنا، وحدث ذات مرة أن أُوقِف السيد ميزوجوتشي عند محطة هيروشيما واستجوبه أحد أفراد الشرطة العسكرية، وعندما تأكد من عدم وجود سبب لمؤاخذته صفعه على وجهه لمجرد أن سحنته تشبه الكوريين.

بعدما غادرتُ خرائب هذه المنطقة المهجورة التي ترمز إلى الاستبداد عُدتُ إلى المستشفى لتناوُل طعام الإفطار، وحين كانت السيدة سائيكي العجوز تُقدِّم لي الأرز بادرتني بالحديث وقد ارتسمَت على وجهها علامات الاهتمام: «يا دكتور لقد سمعتُ أن فِرق سلاح المهندسين مستعدة أن تعطيك ما تريد من القمصان والبزات العسكرية، فلماذا لا تذهب أنت والسيد ميزوجوتشي لإحضار ما يسد حاجة المرضى والمستشفى؟ إن لديهم الكثير؛ فالجيش يملك كل شيء.» ثم فتحَت ذراعيها إلى أقصى ما تستطيع، واستطردَت تقول: «سيعطونك مثل هذا القدر، فلديهم البطاطين والبزات العسكرية والأحذية المخزونة في تلالٍ ضخمة، صدِّقني إن لديهم كل شيء؛ فالجيش يملك الكثير!»

ولما كان السيد ميزوجوتشي قد تحقق من مدى صدق تلك الإشاعة فقد أدلى بدلوه في الحديث قائلًا: «أيتها الجدة، لقد كان بعض تلك الأشياء متاحًا حتى الثامن عشر من هذا الشهر، ولكنهم الآن لن يعطونا شيئًا، ورغم ذلك يمكننا أن نحاول معهم.» ثم التفَت نحوي وقال: «لا زال لديهم مخزونٌ كبير، فإذا توجهنا إلى ضابط القيادة بسلاح المهندسين وشرحنا له مدى حاجتنا إلى تلك الأشياء من أجل المستشفى ربما استطاع أن يفعل شيئًا من أجلنا، وعلى أي حال فلا بأس من المحاولة.» فوافقتُ على اقتراح السيد ميزوجوتشي وعزمنا على التوجه إلى قيادة سلاح المهندسين بعد ظهر اليوم.

امتلأت العيادة الخارجية بالمرضى الذين جاءوا يطلبون فحص دمائهم، وشاهدتُ بين من ينتظرون دَورهم في الممر اثنين لم يبقَ في رأسهما إلا القليل من الشعر، كما رأيتُ السيدة مائي أوكا التي كانت تعمل من قبلُ ممرضة بالمستشفى وقد فقدَت زوجها خلال الحادث وجاءت إلى المستشفى لفحص حالتها؛ حيث كانت تشكو من الإعياء، ونظرةٌ واحدة إلى تلك المرأة المسكينة الواهنة الهزيلة ذات الوجه الكالح والعينَين الذابلتَين كانت كافية للتأكد من دنو أجلها، لقد جاءت إلى المستشفى تنشد العون، غير أنه لم يكن باستطاعتنا أن نصنع شيئًا من أجلها.

لم يطرأ تغيُّرٌ ملحوظ على حالة مرضى القسم الداخلي اليوم، ولما كنت أقوم بجولاتٍ مستمرة بالمستشفى؛ فقد استطعتُ أن أميز بين المرضى وأقاربهم الذين يلازمونهم ولم يكن ثمة مشكلة سوى أن عدد أقارب المرضى كان يفوق عدد المرضى أنفسهم، وكان هؤلاء الأقارب يغادرون المستشفى في الصباح بحثًا عن العمل ثم يعودون إليها في المساء، وبذلك كانت عنابر المستشفى أشبه ما تكون بمنطقةٍ سكنية مليئة بالمرضى، ونظَّمَت كل عائلة من العائلات حصير «التتامي» الذي تتخذه فِراشًا لها بصورةٍ تسمح بجمع أفراد الأسرة الواحدة بجوار بعضهم البعض، وكانت تلك التتامي تحيط بموضع الموقد وآنية الطبخ، وتولى السيد نوماتا الإشراف على عنابر المرضى بمبنى الملحق، بينما تولى السيد كيموتو الإشراف على عنابر المرضى بالمستشفى، وكان عملهما نموذجًا لما بذله رجالي من جهد لتوفير مكان الإقامة لهذا الخليط من الناس تحت سقفٍ واحد.

أصبحَت حالات الصلع التي انتشرَت بين المرضى تثير مخاوفنا الآن أكثر من حالات البثور، وقد ساءت حال السيدة هامادا اليوم ففقدَت شعرها جميعًا وازدادت البثور تحت جلدها، أما الآنسة كوباياشي فقد سقطَت صريعة الحمَّى وتورمَت حنجرتها وأخذَت تشكو من الإعياء وضيق التنفس والآلام المعوية، وأصبح رأسها الأصلع يشبه القرع الأصفر، وغطَّت البثور جسدها بأحجامها المختلفة، وأصبحَت حالتها هي والسيدة هامادا في غاية السوء. أما السيد ساكاي المريض الذي تحدثتُ عنه بالأمس فقد بدا رأسه وكأنه حليق، أما الآنسة كوباياشي التي كانت قد فقدَت شعرها في وقتٍ مبكر؛ فقد بدأ ينبت لها شعرٌ أسود وجعل رأسها يبدو وكأنه مطلي بالحبر، واشترك هؤلاء المرضى الثلاثة هامادا وكوباياشي وساكاي في المعاناة من الصلع والبثور، فتساءلتُ: «تُرى من سيموت منهم قبل صاحبه؟»

لم تكن لدَينا وسيلة لتقدير حجم الإصابة بالبثور؛ لأنه ما لم تبدُ أعراضها على المرضى فقد تمر دون أن نلحظها، كما أننا لا نملك وسيلة للتأكد من العلاقة بين ظهور البثور وحدوث الصلع؛ لأن كلتا الحالتين كانتا تظهران على المريض الواحد خلال ساعات، وعندما يُصاب بهما المريض دفعةً واحدة تصحبهما أعراض إعياءٍ شديد.

بعد تناوُل الغداء قمتُ والسيد ميزوجوتشي بزيارة قائد سلاح المهندسين، وحاولتُ أن أبدو حسَن الهيئة، ولكن ذلك كان من الصعوبة بمكان، فقد كان بنطلوني وقميصي متسخَين، وكانت قيادة الفرقة الخامسة بسلاح المهندسين تقع في ضاحية هاكوشيما على شبه جزيرةٍ بين فرعَين من فروع نهر أوتا إلى الشمال مباشرة من المستشفى، وكان منزلي يقع بنفس الضاحية، وقبل حادث القصف كنت أظن أن تلك الضاحية كبيرة المساحة، ولكنها بدَت أصغر مما كنت أظن بعدما قُوِّض معظم منازلها ودُمِّر ما بقي من المنازل تدميرًا شديدًا، وكانت المخازن الرئيسية للفرقة تقع عبر النهر ويصلها بالضاحية جسر كوهي، وقابلَنا عند نهاية الجسر جندي يعرف السيد ميزوجوتشي من قبل عرض علينا أن يقودنا إلى مكان القائد.

سرْنا عبر منطقة كانت تحيط بها الأسلحة والمعدات من الجانبَين حتى بلغْنا مدخل مغارةٍ حُفِرَت في بطن التل؛ حيث طلب منا الجندي الانتظار ثم دخل المغارة وعاد بعد قليل وبصحبته قائد الفرقة، وقد دهشتُ عندما رأيتُ الجندي والقائد عزلًا من السلاح فشعرتُ بالاكتئاب حين أيقنتُ أن جنودنا قد جُرِّدوا من سلاحهم، إن هذا المنظر يرمز إلى الهزيمة التي مُنينا بها.

كان القائد متقدمًا في السن تبدو الكآبة على وجهه، فشعرتُ بالرثاء لحاله، ولم أدرِ كيف أبدأ الحديث إليه، انحنيتُ محيِّيًا، وتولى السيد ميزوجوتشي تقديمي له، ثم استعدتُ رباطة جأشي وأخذتُ أحدِّثه عن المستشفى وما يقع على عاتقي من مسئولياتٍ؛ بادئًا بذكر تفاصيل ما حدث يوم البيكا حتى اليوم، وأنهيتُ حديثي بطلب المساعدة.

واستمع الضابط العجوز إلى حديثي بأدبٍ جم، وعندما فرغتُ منه أجابني بصوتٍ خفيض ونبراتٍ ضعيفة قائلًا: «حتى يوم ١٧ كانت لدي أوامر بتوزيع ملابس الجيش وبعض المعدات الأخرى. أما الآن فقد تغيرَت هذه السياسة وتلقيتُ أوامر أخرى تقضي بتسليم تلك الأشياء إلى إدارة المدينة لتتولى مسئولية توزيعها على المواطنين.»

فسألتُه: «أليس من الممكن أن تقدِّم لإدارة المدينة الملابس والبطاطين والأشياء الأخرى الضرورية لتغطية حاجة مائتَين من المرضى وأن تشير إلى وجوب تسليم هذه الأشياء إلى مستشفانا؟» فوافق الضابط العجوز على اقتراحي ووعد ببذل ما في وسعه لتحقيق رغبتنا، فشكرناه على لطفه وأحنينا رءوسنا بالتحية ثم عُدنا أدراجنا.

في الطريق إلى المستشفى ألقيتُ نظرة على المعدات التي كانت تبدو كنوزًا بالنسبة لنا. كان هناك الكثير من الأشياء، بلط ومصابيح بحرية، وأواني للطهي، ومكاتب ومقاعد وصناديق كُتِب عليها عبارة «أحذية»، مكدسة في أكوامٍ تكاد تبلغ عنان السماء، بالإضافة إلى تلال من البطاطين والبزات العسكرية وصناديق كبيرة تحوي مصنوعاتٍ جلدية، وبدا لنا أن هذه الأشياء كفيلة بتوفير الكساء لجميع مواطني هيروشيما، فإذا استطعنا أن نحصل على بعض تلك الأشياء لمستشفانا لوجدْنا حلًّا لإحدى مشاكلنا الرئيسية. وأثناء عودتنا أخذتُ أبحث في ذاكرتي عمن يستطيع من بين معارفي أن يتوسط لنا في هذا الموضوع، ولكني لم أتذكر أحدًا، ولهذا قررتُ أن أوفد السيد ميزوجوتشي إلى إدارة المدينة ليبلِّغ المسئولين هناك بما دار في مقابلتنا مع قائد فرقة المهندسين، ويلتمس منهم العون قبل أن يخرج الأمر من أيديهم.

وبعد العشاء أطلعَني الدكتور كاتسوبي والدكتور هانا أوكا على النتائج الأولية لتحاليل الدم التي قاموا بإجرائها، ولم يكن باستطاعتهم استخدام المجهر في الليل لانقطاع الكهرباء عن المستشفى منذ حادث القصف؛ ولذلك اقتصر عملهما طوال اليوم على فحص ٥٠ حالة فقط، وتراوح عدد كرات الدم البيضاء عند الأشخاص الذين أُصيبوا بمنطقة أوشيتا على بعد ثلاثة كيلومترات من مركز الانفجار ما بين ٣٠٠٠ و٤٠٠٠ كرة، أما المرضى الذين كانوا أكثر قربًا من مركز الانفجار فكان عدد كرات الدم البيضاء عندهم أقل من ذلك، فبلغ عدد كرات الدم البيضاء عندهم ألفًا، أما المرضى الذين اشتد بهم المرض فقد كانت كرات الدم البيضاء عندهم أقل من الألف، وكلما كان موقع الإصابة أقرب إلى مركز التفجير كلما نقص عدد كرات الدم البيضاء، فإذا استطعنا فحص دماء بضع مئات من المرضى لكان بمقدورنا أن نبيِّن العلاقة بين البعد عن مركز التفجير وعدد كرات الدم البيضاء. غير أن موقع مركز التفجير لم يكن محدَّدًا بدقة؛ لأن القنبلة الذرية لم تنفجر على الأرض٢٣ وإنما انفجرَت في الهواء؛ ولذلك لم تترك آثارًا محددة في موقعٍ بعينه. وقد ذكر البعض أن القنبلة انفجرَت فوق جسر أيوي، بينما ذكر البعض الآخر أنها انفجرَت فوق مكتب بريد هيروشيما أو مستشفى شيما أو متحف العلوم والصناعة أو مدخل هيكل جوكوك، ولما كنا لا نستطيع ترجيح أحد تلك الآراء؛ فإنه لا يمكننا أن نحدد مركز التفجير بدقة. وقد أجمعَت معظم الآراء على اعتبار مدخل هيكل جوكوك مركزًا للتفجير، ولكني أعتقد أن ذلك المركز يقع إلى الجنوب من الهيكل؛ ولذلك افترضنا أن تلك المنطقة هي مركز التفجير.

وقد دفعَتنا النتائج الأولية لفحوص الدم إلى المزيد من حب الاستطلاع، فتلك هي المرة الأولى التي نواجه فيها عدوًّا مجهولًا هو قنبلة الذرية، وأثارتني نتائج التحايل حتى إنني لم أستطع النوم طوال الليل إلا لمامًا.

٢٣ أغسطس ١٩٤٥م

يومٌ صافي السماء وإن بدَت بعض السحب في الأفق وتهب نسمات عليلة.

بدأتُ يومي بزيارة المرحاض الأنيق الذي اكتشفتُه بالأمس، وعندما عُدتُ إلى الحجرة كان السيد شيوتا متجهِّمًا يرقبني من النافذة، والسيد شيوتا هذا هو مديرنا السابق الذي أُعِيد إلى وظيفته منذ بضعة أيام، وكلما أُتيحَت له فرصة الخروج من المصلحة كان يعود إلينا بكيسَين بكلٍّ منهما خمسون علبة من السجاير، ولا أدري من أين أو كيف كان يحصل على تلك السجاير، ولكننا كنا نسعد بها، ولم أرَ مثل هذه الكمية من السجاير إلا في محلات البيع، ولم أحلم يومًا بالحصول على مثلها، وكنا نحتفظ بتلك العلب لنستمتع بكرم السيد شيوتا، وقد شاركنا الاستمتاع بها مدمنو التدخين من المرضى، وساعدَت تلك السجاير معاونينا من الطلبة على أداء خدماتهم على الوجه الأكمل، فلم يكن باستطاعتنا أن نفعل شيئًا دون أن يؤمِّن لنا السيد شيوتا مئونتنا من السجاير، وهو أمر لم يكن متاحًا لمواطني هيروشيما في تلك الأيام.

تحسنَت حالة الدكتور ساسادا اليوم فأصبح باستطاعتنا أن نرى وجهه البريء وراء تلك القشرة التي يختلط لونها بالأحمر والبني، وكان تحسُّنه طفيفًا، كما أن البثور التي ظهرَت في صدره والتي حاول أن يخفيها عنا شُفيَت تمامًا، أما حروق الآنسة ياما فما زالت تؤلمها ولكن لم تبدُ عليها أعراض البثور أو الصلع، وقلَّ الرشح من حروق الآنسة سوسوكيدا وتحسنَت حالة وجهها، وهبطَت درجة حرارة زوجتي، غير أنها لا تزال تعاني من القشعريرة ولكنها لا تبدو في حالةٍ سيئة، وقد ابتهجنا جميعًا لاختفاء البثور من صدر الدكتور ساسادا؛ لأن ذلك يعني أنها لا ترتبط دائمًا بالموت، وهو استنتاجٌ جعلنا نمتلئ بهجةً وتفاؤلًا.

وحوالي الساعة العاشرة زارني صديقي السيد إيسون، وكان نبأ تعيينه رئيسًا لمصلحة المواصلات مفاجأة لي، وكان يشغل من قبل منصب رئيس القسم الطبي بوزارة المواصلات عندما الْتحقتُ بخدمة المصلحة، ونال احترامي لعلمه وكفايته في إدارة المستشفيات، وكان قلقًا بسبب الإشاعات التي تواترَت عن أن هيروشيما لن تصبح صالحة للسكن قبل ٧٥ عامًا فلم أتوانَ عن بث الطمأنينة في نفسه.

كان الجو في العنابر الأخرى يختلف تمامًا عن الجو في قاعتنا هذا الصباح فإن المرضى الذين لم يصبهم الصلع كانوا قلقين على مصيرهم يشدُّون شعرهم من حينٍ لآخر، أما أولئك الذين أصابهم الصلع فقد ظنوا أنهم قد أصبحوا على أعتاب الموت، ويجب أن أعترف بمشاركتهم هذا الشعور رغم أن اختفاء البثور من جسد الدكتور ساسادا قد أقنعني أنه لا صلة بين تلك الأعراض وبين الوفاة. وحدث أثناء مروري بالمستشفى أن استوقفني أحد المرضى قائلًا: «يا دكتور، إن شعري قد خف أليس كذلك؟» فأجبتُه بقولي: «لقد ولدتُ بشعرٍ خفيف وقضى الزمن على جزءٍ آخر من شعري، ولعلَّك تعلم كما أعلم أنا أيضًا أنه لا علاقة بين الشعر وطول العمر.» ولكن هذه الإجابة كانت تُخفي ما أعانيه من الخوف، فلم أقل للمريض إنني كنت أشد شعري مثل الجميع لأتأكد من أنه لن يسقط، كنت في قرارة نفسي قلقًا إلى حدٍّ كبير، ولم ينطلِ تظاهري بالشجاعة على أحد، وكلما حاولتُ أن أخفي حقيقة شعوري فضحَتني تعابير وجهي.

واكتشفتُ خلال جولاتي أن أولئك الذين لم تبدُ عليهم أعراضٌ أخرى غير الصلع قد بدَءوا في التحسن، وأُصيب أحد مرضى العيادة الخارجية بالصلع تمامًا، ولكنه لا يشكو من الإعياء، غير أن الصلع لا يعني أن وفاة المريض أمر لا مفر منه. وقد تجولتُ بين المرضى مراتٍ ومرات، أطيِّب خاطرهم، وأهدِّئ من روعهم، دون أن أستطيع أن أقدِّم لهم العلاج الناجع. أما المرضى الثلاثة الذين وصفتُ حالتهم بالأمس فقد ازدادوا وهنًا على وهن، وانتشرَت البثور في أجسادهم، وكان السيد ساساكي أشد الثلاثة مرضًا وإعياءً، ربما ذلك بسبب تقدُّمه في السن، فأصبح أصلع تمامًا هو والآنسة كوباياشي، أما شعر السيدة هامادا فقد خف قليلًا، ومن الصعب أن نقرر إذا كانت ستصبح صلعاء تمامًا أو لا.

وكان بين مرضى البثور من اختفَت بثورهم مثل الدكتور ساسادا، بينما كانت البثور عند البعض الآخر تتناقص، وليس لدَينا دليل حتى الآن أن ثمة علاقةً بين سقوط الشعر والبثور المنتشرة تحت الجلد، وربما ارتبط الصلع بالحالة الصحية العامة للمريض أو العكس.

قمتُ هذا الصباح بإضافة حالةٍ جديدة إلى سجل العيادة:

السيد أوتاني، ذكر، السن خمسون عامًا، أُصيب في الطابق الثاني بمبنى إدارة التموين في هاتشوبوري على بُعد ٧٥٠ مترًا من مركز التفجير، تقيَّأ نحو خمس عشرة مرة فور سقوط القنبلة، وكان يشكو من الصداع والإعياء، تحسنَت حالته بعد أسبوع وأصبح قادرًا على المشي مرةً أخرى، يشكو من التهاب اللثة، منذ يومين أو ثلاثة أيام أصبحَت حالته سيئة، لا تبدو عليه أعراض الصلع ولكن البثور تنتشر في جسده.

وتعد حالة هذا الرجل مماثلة لحالة الكثيرين الذين تماثلوا للشفاء ثم تدهورَت صحتهم بعد ذلك، وإذا صح ذلك فإنه يعنى أن الأشخاص الذين يبدون الآن في حالةٍ طيبة قد يمرون بنفس المرحلة.

انتهيتُ من جولاتي وذهبتُ لتناوُل طعام الغداء، ولم يكن هناك بحجرة الطعام سوى السيدة سائيكي العجوز، فقلتُ لها أثناء جلوسي لتناوُل الطعام: «أيتها الجدة، إن عدد المرضى الذين ساءت حالتهم في ازدياد، إنني لا أهتم كثيرًا لحالة أولئك الذين فقدوا شعرهم، ولكني قلق على أولئك الذين يشكون من تورُّم الحلق والحمَّى؛ إذ لا يبدو عليهم التحسن ولا أمل لهم في النجاة، حتى إذا تحسنَت حالتهم نوعًا ما فإنها لا تلبث أن تسوء من جديد.» واستمعتُ إليَّ الجدة التي تحملَت كل مشاكلنا بصبرٍ وتوقفَت برهة وهي تعد الشاي لتقول: «يا دكتور، يجب أن تعتني بنفسك أولًا، فالإرهاق في العمل في مثل تلك الظروف غير مستحب، وأنت تعمل فوق طاقتك، إن لون وجهك أصبح لا يعجبني، يجب عليك أن تبحث عمن يساعدك ويخفف عنك بعض العناء.» ووضعَت الجدة كوب الشاي أمامي وبعد أن شربته دخَّنتُ سيجارة ثم عُدتُ إلى غرفتي. وقلتُ للدكتور ساسادا والسيد شيوتا: «إن السماء تبارك هذه القاعة، إن السماء تباركها، ولكن مرضى الطابق الأرضي حالتهم سيئة إنه أمر مزعج، فالذباب ينتشر بينهم، ويغطي السقوف مثل بذور السمسم، وإذا اقتربتَ من المرحاض رأيتَهم يتدفقون عليه في جلبةٍ كبيرة، حتى إن السيدة سائيكي العجوز تسميهم الذباب الآدمي (نيمباي)، أتدرون لماذا؟ لأنها رأت الناس يذبونهم كما يذبون الذباب.» وضحك رفاقي غير أني واصلتُ الحديث بضيق: «إذا كنتم لا تصدقوني انزلوا إلى الطابق الأرضي وانظروا بأعينكم.» فرد السيد شيوتا قائلًا: «إننا نعلم هذا جيدًا ولم نضحك منك، ولكننا ضحكنا من التعبير الساخر الذي أطلقَته السيدة سائيكي عليهم، ربما كانت على حق ولهذا السبب رأيناك تختار المرحاض الذي يقع خارج المستشفى.» فأجبتُ: «جرِّبه مرة يا سيد شيوتا وقارن بينه وبين مرحاض المستشفى لتعرف أيهما الأحسن، ولكني أنصحك أن تنتظر حتى يحل الليل إذا أردتَ أن تقضي حاجتك.»

وجاء الدكتور كوياما بينما كنا نضحك ونمزح حول موضوع المرحاض والذباب الآدمي الذي حدثَتني عنه السيدة سائيكي، وبدا عليه الضيق فقال متعجبًا: «كدتُ أفقد صوابي؛ فإن محاولة تنظيم فِرق الإسعاف من الصعوبة بمكان، ولا أستطيع أن أحصل منهم على عملٍ مفيد، لأنهم يجلسون ويثرثرون في مسائل لا تتصل بعملهم، ألا يكفي هذا العبث؟»

وشرع الدكتور كوياما في إعطائي بعض التفاصيل حول نظام العمل بالمستشفى حتى يغير موضوع الحديث، فذكر لي أن الدكتور فوجي طبيب الأسنان يتولى الإشراف على عيادة الجراحة الخارجية، أما الدكتور هانا أوكا فيدير العيادة الطبية الخارجية، بينما كان الدكتور آكي ياما يشرف على عنابر المستشفى وملحق المستشفى بمبنى المصلحة، ويتولى توجيه الأطباء الخارجيين الذين جاءوا لمساعدتنا، وتفرغ الدكتور كاتسوبي لغرفة العمليات والعناية بالمرضى في العنابر الداخلية، أما الممرضات فقد مارسْن عملهن في هذا المكان أو ذاك كلما دعَت الحاجة إلى الاستفادة بجهودهن، وتولى الدكتور كوياما إدارة عيادة العيون بالإضافة إلى واجباته الإدارية.

وسألتُ الدكتور كوياما عن ملاحظاته حول مرضى عيادة العيون، فذكر لي أن قاع عيون المرضى الذين كانوا ينظرون إلى الطائرة ساعة إلقائها القنبلة قد احترق، ويبدو أن بريق الضوء الناجم عن تفجير القنبلة اخترق حدقات عيونهم وأصابهم بالعمى، وأن معظم حالات حروق قاع العين من الدرجة الثالثة؛ ولذلك لا أمل في شفائهم، أما أولئك الذين أصابتهم الحروق في وجوههم أو أجسامهم فكانوا أحسن حظًّا، فإذا كانت وجوههم قد شُوِّهَت فإنهم على الأقل ما زالوا يحتفظون بنعمة البصر.

عانت زوجتي من الحمَّى من جديد، وازداد ارتجافها فأعطيتُها أقراصًا من الأسبرين والبيراميدون.

٢٤ أغسطس ١٩٤٥م

جوٌّ لطيف بشكلٍ عام.

كان الليل مرتعًا للبعوض، ونتيجةً لذلك لم أذُق طعم النوم إلا لمامًا، ورأيتُ فيما يرى النائم حلمًا مزعجًا؛ رأيتُني في طوكيو عقب وقوع زلزالٍ مدمِّر أسِير وسط تلال من أشلاء الموتى، وكانت جميع الجثث تنظر إليَّ، ورأيتُ عينًا فوق راحة فتاة، ثم طارت تلك العين في السماء فجأةً واتجهَت نحوي، وحين نظرتُ إلى السماء رأيتُ العين أكبر بكثير من حجمها الطبيعي، وأخذَت تحوم حول رأسي بينما كانت حدقتها متجهةً نحوي، ولكني كنت عاجزًا تمامًا عن الحركة.

واستيقظتُ على إحساسٍ بضيق التنفس، وكان قلبي يدق بعنف، ويبدو أنني كنت ألتقط أنفاسي بصعوبةٍ بعد هذا الحلم المفزع، لقد تأثرتُ كثيرًا بالقصة التي سمعتُها عن ذلك الرجل الذي كان يحمل عينَيه على راحة يده في نقطة إسعاف هيجي ياما.

واستلقَيتُ على فِراشي محاوِلًا أن أتذكر اسم الرجل الذي قص عليَّ تلك القصة، ولكني لم أستطع تذكُّر اسمه، كنت أعرف الرجل تمام المعرفة، وأعرف مكان عمله ولكني لا أذكر اسمه، وقد أزعجني عدم القدرة على تذكُّر الأسماء، وهي ظاهرةٌ بدَت بشكلٍ واضح بعد البيكا، وكانت الأسماء تطرأ على ذهني أحيانًا ثم تختفي تمامًا أحيانًا أخرى، وكثيرًا ما كنت أتذكر الأسماء ولا أكاد أتذكر الملامح، فإذا استمر الأمر على ذلك الحال ربما بلغتُ حد الجنون.

وتذكرتُ تقرير الدكتور كوياما عن المرضى الذين فقدوا البصر نتيجة تركيزهم النظر على القنبلة ساعة البيكا، وحالتهم لها ما يبررها، فقد تلفَت أعصاب عيونهم تمامًا، ولكني لم أُصَب بشكلٍ مباشر، رأيتُ البريق حقًّا، لكن الإشعاعات المحرقة لم تصِبني بسوء، وظلَّت عدسات عيني سليمة. وربما كان البيكا يسبب تلف الأجهزة حتى لو أصابها بشكلٍ غير مباشر، ولعلَّ الضعف أصاب عيني نتيجة البيكا، ولا أعتقد أنني أعاني حالة إعياءٍ رجعي، تُرى هل من الممكن أن يحدث ذلك بالنسبة للعيون؟ وهل هناك علاقةٌ بين تلك الظاهرة وعدم القدرة على تذكُّر الأسماء وملامح الوجوه؟ وهل ستتحسن حالتي أم ستلازمني هذه الحالة حتى نهاية العمر؟ وعندما أشرق الصباح كنت في حالةٍ سيئة، أوقن أن الشفاء لن يعرف طريقه إليَّ.

ولم يخفف الإفطار كثيرًا مما أعانيه، ولذلك عُدتُ إلى فِراشي بعد الإفطار، وأخذتُ أحملق عبْر النافذة شارد الذهن، فوقعَت عيناي على شاحنةٍ تتجه نحو المستشفى، ونسيتُ كل متاعبي، كانت الشاحنة محملة باللوازم التي طلبناها من فرقة سلاح المهندسين، وبعد تفريغها أصبحَت هناك كومةٌ هائلة من الأشياء أمام باب المستشفى تشمل المناشير والبلط وأواني الطبخ والحبال والدلاء والمصابيح والأحذية والفئوس والسكاكين والمكاتب والعديد من الأشياء الأخرى، يا لها من معونةٍ ثمينة!

وساهم في تفريغ تلك الحمولة كل قادر على الحركة من المرضى وأقاربهم، ونالوا كل ما يحتاجون إليه، وكان إقبالهم كبيرًا على أدوات الطهي، ولم أشأ أن أتخلف عن الركب، فحصلتُ لنفسي على إناءٍ أبيض للأرز تتوسطه نجمةٌ زرقاء، وطبقٌ أبيض تزينه رسوم الكريز، وعم الفرح والابتهاج جميع من بالمستشفى، وانقلب سكون عنابر المستشفى إلى ضوضاء وصخب لم نعشهما منذ البيكا، فتعالت الأصوات والضحكات، وأصبح المرضى الذين كانوا يطهون طعامهم في علب الصفيح يقتنون الآن أواني جديدة وأطباق جديدة وضعوها بجوار وسائدهم، وسعد فريق الصيانة بالمستشفى بالحصول على المناشير والبلط؛ فبمقدورهم الآن أن يوفروا لنا كل ما نحتاجه من أخشاب للوقود، وأصبح لدَينا معدات للطهي وأواني للطعام لأول مرة منذ وقع البيكا، كما تتوفر لدَينا الآن الآلات والأدوات اللازمة لتوفير حاجتنا من الأخشاب.

ولم أستطع أن أقوم بجولاتي المعتادة هذا الصباح، فقد اختلط الحابل بالنابل في المستشفى؛ ولذلك قمتُ بتلك الجولات بعد الظهر.

تُوفِّي السيد ساكاي بعد أن اشتكى في لحظاته الأخيرة من ضيق التنفس وفقدان الرؤية، كما ماتت السيدة هامادا بنفس الطريقة، أما الآنسة كوباياشي فقد بلغَت درجة حراتها ٤١° ولكنها كانت لا تزال على قيد الحياة، وساءت حالة فمها المتقيح وأخذَت تعاني من ضيق التنفس، ومنذ الصباح داهمَتها آلامٌ معوية حادة، ولم نستطع التحقق مما إذا كانت تعاني من التهابٍ بريتوني أو تهتُّكٍ في المعدة، أما السيد أونومي فقد زاد وهنًا على وهن، وغطَّت البثور جسده، كما أخذ يعاني من سقوط الشعر هذا الصباح، أما المرضى الذين أصبحوا صلعى تمامًا أو الذين كانوا في طريقهم إلى الصلع؛ فلم تبدُ عليهم أعراضٌ جديدة. وأكد هذا استنتاجنا أن الصلع لا يعني بالضرورة دنو الأجل. وتحسنَت حالة الدكتور ساسادا والسيد شيوتا، أما الآنسة ياما والآنسة سوسوكيدا فلم تتجاوز حالتهما حد الخطورة، وإن كانت تميل إلى الثبات، واستمرَّت زوجتي تعاني من الحمَّى والرعشة، ولم أملك من وسيلةٍ لعلاجها سوى الأسبرين. وبعد العشاء تبادلتُ أطراف الحديث مع السيد ميزوجوتشي والآنسة كادو والسيدة سائيكي العجوز بحجرة الطعام، وعلمتُ منهم أن الناس هاجموا مخازن سلاح المهندسين، وكانوا مثل قبائل البربر يجرون العربات ويحملون فوقها كل ما تصل إليه أيديهم. وعلمتُ أن جانبًا من الإمدادات التي وصلَتنا اليوم وتُركَت أمام المستشفى قد سُرِق. لقد أصبحَت هيروشيما مدينةً مضطربة، ولكني لم أدهش لسماع تلك الأخبار؛ فلم تكن هناك قوات لحفظ الأمن بالمدينة، غير أني شعرتُ بالخجل لأعمال السلب والنهب التي حدثَت.

رأيتُ ضوءًا يتراقص أمام نافذتي في وقتٍ متأخر من الليل، وحين نظرتُ من النافذة تبينتُ أنهم يحرقون جثتَي السيد ساكاي والسيدة هامادا، وكان ظل الحمام يتأرجح خلف محرقة الجثث.

٢٥ أغسطس ١٩٤٥م

غيومٌ في الصباح الباكر ما لبثَت أن انقشعَت ثم أصبح السماء صحوًا.

استيقظتُ وذهبتُ إلى مرحاضي الخاص، وفي طريق العودة إلى المستشفى توقفتُ عند المكان الذي أحرقَت فيه جثتا السيد ساكاي والسيدة هامادا، ولم تكن عظام الجماجم تحترق تمامًا من قبلُ لعدم توافر الأخشاب لدَينا، أما الآن فقد توافرَت الأخشاب بعد حصولنا على المناشير والبلط ولم يبقَ من الجثتَين سوى رماد أبيض.

عسكرَت جيوش من الذباب حول مدخل المستشفى، وكلما خطا المرء خطوةً طار الذباب في سحُبٍ سوداء، وكان صوت طنينه فظيعًا، ورأيتُ كومة من الذباب فوق بعض عظام السمك، فمددتُ عصًا وحركتُ تلك العظام لأجد تحتها كمياتٍ ضخمة من الدود الأبيض، وما كدتُ أرفع العصا بعيدًا عن موضع العظام حتى عاد الذباب يتكوم فوقها بشكلٍ مخيف، ولم يكن ذلك الذباب ذبابًا آدميًّا (نيمباي) على حد تعبير السيدة سائيكي العجوز، ولكن ليس ثمة فرق على أي حال، فالذباب يتواجد داخل المستشفى كما يتواجد خارجه، ولا نملك وسيلة للقضاء عليه، فمع رداءة الجو وانتشار القاذورات إلى درجةٍ كبيرة يتهيأ له مرتعٌ خصب، وكان الذباب أقل مضايقة بالطابق الثاني منه بالطابق الأرضي. كنا لا نرى ذبابةً واحدة حولنا بعد البيكا، ولكننا الآن نغرق في خضم من الذباب والبعوض، وقد ناقشْنا هذه المشكلة أثناء تناوُل الإفطار على أمل أن نجد فكرة عند أحدنا تفيد في التخلص من تلك الحشرات، ولكن السيدة سائيكي العجوز ضربَت رأسها بيدها وقالت: «إنه ذبابٌ آدمي تقمصَته أرواح الموتى؛ ولذلك لا يمكن مواجهته، إنه يملأ الطابق الأرضي والمطبخ، حتى إن المرء لا يكاد يفتح فمه دون أن يتفادى اندفاع الذباب فيه.» وفكرْنا في إحراق المناطق التي يتوالد فيها الذباب حول المستشفى بالبنزين، ولكن من أين لنا به وقد أصبح البترول أثمن من دم الإنسان؛ ولذلك عدلْنا عن الفكرة، كما أن الذباب كان يتكاثر في الخرائب المنتشرة في المدينة كلها؛ ولذلك لا يحتمل أن تثمر الجهود التي نبذلها في هذا الصدد.

تلقَّينا اليوم حمولةً جديدة من المعونة العسكرية التي قدمها لنا سلاح المهندسين، ولكن تلك الحمولة كانت أقل نفعًا من حمولة الأمس، فيما عدا بعض أواني الطهي وأحد المواقد وبعض المكاتب القديمة المتآكلة، وتضمنَت حمولة اليوم صناديق ممتلئة بأعلام اليابان الصغيرة، وأخرى تحتوي على بعض الأدوات ذات اللون الكاكي، كما ضمَّت بعض الصناديق أشياء صغيرة كان من بينها مصابيح تعمل بالبطارية داخل أكياس من الجلد.

وكان الأشخاص الذين يأتون إلى المستشفى أو يغادرونها يأخذون بعض الأعلام وبعض الأدوات ذات اللون الكاكي، وكان الأطفال يلعبون بالأعلام ويجرون هنا وهناك ملوِّحين بها متصايحين ضاحكين بسعادةٍ غامرة. وراقبتُ من نافذة غرفتي الناس وهم يأخذون بعض تلك الأشياء التي كُوِّمَت أمام المستشفى، كان بعضهم ينظر ذات اليمن وذات الشمال خلسةً قبل أن يلتقط ما يريد، بينما كان البعض يلتقط الشيء ثم ينظر ذات اليمن وذات الشمال وينصرف، على حين كان البعض الآخر يهجم على تلك الأشياء يجوس بينها بطريقةٍ تبعث على الاشمئزاز ويختطف ما تصل إليه يده ثم ينصرف مسرعًا. كانت تلك الدراما الصغيرة تعكس طبيعة وتربية هؤلاء وأولئك، وكان القليل من الناس يقف أمام كومة المعدات ثم يسأل بعض العاملين بالمستشفى عما إذا كان باستطاعته أن يأخذ بعضًا منها، وجعلني هذا النوع الأخير من الناس أشعر أن الخير ما زال موجودًا في هذا العالم، كما جعلني أعقد العزم على مراجعة نفسي قبل الإقدام على سلوك أي مسلك.

وفي جولاتي هذا الصباح اكتشفتُ أن جميع مرضى القسم الداخلي يعانون الآن من البثور والصلع، ورغم ذلك لم تتدهور أحوالهم، مما جعل التفاؤل يعم جميع عنابر المستشفى، وقد سألني الكثيرون عما إذا كان شعرهم سينبت من جديد، ورغم أنني لم أكن على يقين من ذلك كنت أردُّ بالإيجاب، ولم يكن من الأمانة أن أتصرف على هذا النحو، ولكن عزائي الوحيد أن كلماتي كانت تبعث السرور في نفوس هؤلاء المرضى.

وقليلٌ من بين مرضى البثور والصلع من جفَّت حلوقهم وارتفعَت حرارتهم وكانت حالة هؤلاء المرضى سيئة، وعدد كرات الدم البيضاء عندهم أقل من غيرهم، أما السيد أونومي فكان يعاني ألمًا مبرحًا نتيجة سقوط الشرج، وازدادت البثور في صدره، وساءت حال فمه وارتفعَت درجة حرارته، وبدَت حالته سيئة بوجهٍ عام، غير أن الآنسة كوباياشي كانت أسوأ منه حالًا، فما زالت تعاني آلامًا معوية وحالتها سيئة بوجهٍ عام، ورغم أنها لم تقاوم يدي حين قمتُ بفحصها إلا أن لمسات أصابعي كانت تسبب لها ألمًا مبرحًا، كان فمها وحلقها جافَّين متورمَين، ولم يكن باستطاعتها ابتلاع أي شيء، وبلغَت درجة حرارتها ٤١°، ورجتني أن أيسِّر لها سبيل الموت.

وكان كلٌّ من السيد أونومي والآنسة كوباياشي قد اشتكيا من التجشؤ وفقدان الشهية بعد البيكا، ثم عانيا من القيء والإسهال بعد ذلك، ولكن حالتهما تحسنَت بعد أسبوع، ثم أصابتهما البثور والصلع منذ أربعة أو خمسة أيام، وازداد شعورهما بالألم المصحوب بالتهاب الفم وتورمه، وأصبح واضحًا أن هذه المجموعة من الأعراض بالإضافة إلى انخفاض عدد كرات الدم البيضاء الذي اتفقا فيه تحدد جميعًا تشخيص حالتهما.

أما الدكتور ساسادا فكان آخذًا في التحسن، وفكرْنا في السماح له بمغادرة المستشفى، واستمرَّت حالة الآنسة ياما والآنسة سوسوكيدا على ما كانت عليه دون تحسُّن.

دخل السيد كادويا مدير إدارة الشئون الاجتماعية بمصلحة المواصلات المستشفى بعد أن ظهرَت عليه أعراض الإسهال، وكان قد نُقِل إلى مصلحة المواصلات بهيروشيما بعد البيكا، فنقلتُ زوجتي إلى فِراشٍ في الممر حتى نخلي مكانها للسيد كادويا، وكان الإسهال عنده مصحوبًا بآلام معوية شديدة، وظننتُ أن حالته ستتحسن لأنه لم يكن موجودًا بهيروشيما عند انفجار القنبلة.

وبعد تناوُل العشاء تبادلنا أطراف الحديث حول الآثار التي ترتبت على تفجير القنبلة الذرية، وكان الاعتقاد السائد بيننا أنه إذا كانت تلك القنبلة تحوي غازًا سامًّا فإن الموت لا بد أن يكون ظاهرةً عامة، ولاحظ البعض أن من جاءوا إلى هيروشيما بعد البيكا ظهرَت عليهم أعراضٌ شبيهة بتلك الأعراض التي ظهرَت على أهالي هيروشيما الذين كانوا يقيمون بها عند وقوع الكارثة، وذكرتُ حالة رجلٍ جاء من جيون إلى هيروشيما بعد البيكا ثم مات بتلك الأعراض، كما لاحظتُ أن التهاب اللوزتين والحلق وجفاف الفم كان عرضًا سائدًا بين أولئك الذين نجوا من الإصابة وظهرَت عليهم تلك الأعراض بعد قيامهم بتمريض المصابين، وأُشِيع أن الكثير من الناس الذين كانوا يحتمون داخل مبانٍ خرسانية قُرب مركز التفجير قد نجوا من الإصابة في بداية الأمر ثم ماتوا بتلك الأعراض بعد ذلك نتيجة قيامهم بالعمل وسط الخرائب. وعاد القلق يسيطر على الجميع من جديد، وعجزنا عن بعث الطمأنينة في نفوس من أُصيبوا بالصلع والبثور، فمخاوفهم لها ما يبررها.

انقضَت ستة أيام على الفحص الأول الذي أجريناه للدم، وعلينا أن نكرر الفحص مرةً أخرى في الغد، وعقدتُ العزم على أن أُعد تقريرًا بنتيجة الفحص في كل عنبر من عنابر المستشفى، وأن أضمِّن تلك النتائج في تقريرٍ شامل يتضمن العلامات والأعراض التي بدَت على مرضانا مع وصف ما يطرأ على حالتهم من تطوُّر، فقد يساعد ذلك على استعادة الطمأنينة إلى النفوس، واقتنعتُ أن مثل ذلك التقرير الذي يعتمد على ملاحظاتنا سيفعل الكثير لإزالة مخاوف المرضى. وأويتُ إلى فِراشي لأنعم لأول مرةٍ بنوم عميق.

٢٦ أغسطس ١٩٤٥م

جوٌّ غائم ممطر طوال اليوم.

كنت منهمكًا في كتابة ملاحظاتي حول أعراض المرض بعد تناوُل الإفطار عندما اندفعَت إحدى الممرضات إلى الحجرة لتبلغني نبأ احتضار الآنسة كوباياشي، وما كدتُ أصل إليها حتى كانت قد فارقَت الحياة.

وكانت تشكو باستمرارٍ من آلامٍ باطنية مبرحة منذ الصباح الباكر، رغم أن بطنها كانت قد ترهلَت قليلًا، ولم نلاحظ عليها أعراض الالتهاب البريتوني، تُرى هل كانت تشكو من التهاب البنكرياس أو من فتقٍ نتيجة حمْلٍ خارج الرحم؟ لقد كان المرضى الآخرون يشكون من آلام البطن ولكن حالتها كانت أكثر إيلامًا من غيرها، وقد تناقشتُ مع الدكتور كاتسوبي حول الاحتمالات المختلفة للمرض ولم نصِل إلى نتيجةٍ أفضل من تلك التي بدأْنا بها، وكان ثمة سبيلٌ واحد للوصول إلى الحقيقة، فقلتُ للدكتور كاتسوبي: «يجب أن نشرح الجثة فهذا هو السبيل الوحيد للتعرف على هذه الحالة.» فوافقني الدكتور كاتسوبي على هذا الاقتراح وهو مستغرق في التفكير.

حل ميعاد فحص الدم بالنسبة لنا، فنزلتُ مع الدكتور كاتسوبي إلى العيادة الخارجية بالطابق الأرضي، وعلمْنا من الدكتور هانا أوكا أن أولئك الذين كانوا بالقرب من مركز التفجير لا زال عدد كرات الدم البيضاء عندهم منخفضًا، أما أولئك الذين كانوا على بُعدٍ يتراوح بين ثلاثة إلى أربعة كيلومترات من مركز التفجير فقد كان عدد كرات دمائهم البيضاء متزايدًا. وسررتُ حين علمتُ أن عدد كرات دمي البيضاء أخذَت تتزايد من ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف، وربت الدكتور هانا أوكا على كتفي وقال: «إن كل شيء على ما يُرام الآن يا دكتور.»

وحين عُدتُ إلى جحرتي أخبرتُ الجميع أن خلايا دمي البيضاء قد تزايَد عددها وحثثتُهم على الذهاب لإجراء الفحص، وقد كان لهذا النبأ وقعٌ طيِّب عندهم، وبينما كنت أتحدث مع من حولي فرِحًا جاءني من يبلغني أن الرئيس إيسونو يريد أن يراني، فذهبتُ إلى مكتبه لأجده قلقًا مرتاعًا، وبادرني بالسؤال دون تحية: «يا دكتور هاتشيا هل أنت بخير؟ إن لون بشرتك لا يبدو طبيعيًّا، هل صحيح أن الناس الذين جاءوا إلى هيروشيما بعد البيكا سيلقَون حتفهم؟ وهل يجب أن نترك المصلحة ونذهب إلى مكانٍ آخر؟ إن العاملين معي ينتابهم القلق ولا يُقبلون على العمل كما يجب، فما رأيك؟» فأجبتُه بقولي: «أيها الرئيس إيسونو، أعتقد أنك منزعج لأنك نُقلتَ إلى هنا من مكانٍ آخر، أما نحن الذين لم نترك هذا المكان منذ وقع الحادث الأليم فقد اعتدنا الظروف التي نعيشها، ولم نعد نشعر بالضيق نحوها، وقد سمعتُ مثلك تمامًا أن الناس لن يستطيعوا الحياة هنا طوال الخمسة والسبعين عامًا القادمة، ولكنه هراء، انظر إليَّ لقد عاصرتُ الحادث من بدايته ولم يبقَ مكان في جسدي دون إصابة، وها أنا ذا أسترد صحتي، ويحدث نفس الشيء لبقية العاملين معي، فلم يمُت منا أحد، وعدم انتظام موظفيك في مزاولة أعمالهم راجع إلى ارتباطاتهم المنزلية وإلى ما يقع على عاتقهم من مسئولياتٍ عائلية عاجلة، وأنت تعلم — كما أعلم أيضًا — أن كل بيت فقد واحدًا أو أكثر من أفراد الأسرة أو لحقت بهم الإصابات، أما الذين قضوا نحبهم فقد كانوا أقرب الناس إلى مركز التفجير، وثمة علاقة بين تأثير القصف والأعراض التي بدَت على المرضى والتي تطورَت على شكل بثور أو صلع، وسنقوم بتشريح جثة أحد هؤلاء المرضى اليوم، ونحن قلقون على حال المرضى وليس على غيرهم ممن جاءوا إلى هيروشيما بعد سقوط القنبلة، وأعترف لك أننا لا نعرف سبب تلك الأعراض كما أننا لا ندري ماذا نفعل.»

وحاولتُ أن أطمئن الرئيس إيسونو غير أني لم أنجح في ذلك، فقد استطرد قائلًا: «إذا لم يكن باستطاعتك أن تصنع شيئًا فإن عدد العاملين سوف يتناقص ثم لا نجد بعد ذلك من يقوم بالعمل، وأعتقد أن ما يجب أن نفعله لاستعادة ثقة العاملين هو أن ننقل المصلحة إلى مكانٍ أكثر أمنًا، فربما كانت السموم لا تزال تنتشر في المدينة.»

فأجبتُه بحدَّة: «إنني أعلم أن هناك من يقول إن جو المدينة مسمَّم، ولكنها أكذوبة، وهذا المستشفى خير مثال لعدم صحة هذه المعلومات، فلم يمُت منا أحد بعد، ولن يدرك الموت أحدًا.»

فأجاب الرئيس إيسونو بلهجةٍ تنضح بالشك: «إنني أعجب لذلك!» فاستطردتُ قائلًا بحماس: «أيها الرئيس، ثِق تمامًا أن كل شيء سيصبح على ما يُرام، وفي نيتي أن ألصق تقريرًا في مكانٍ يستطيع كل فرد أن يقرأه لإزالة مخاوف الناس التي ثارت نتيجة الإشاعات الكاذبة التي انتشرَت في المدينة.» فأجاب الرئيس متعلقًا بالأمل: «حسنًا، أرجوك أن تفعل هذا.»

كان الرئيس إيسونو المسكين يحاول أن يصدِّقني بصعوبةٍ بالغة وأفكاره شاردة، فقلتُ له وأنا أغادر المكتب: «دعِ الأمر لي.»

عقدتُ العزم على ألا أدخر جهدًا في سبيل الوصول إلى الحقيقة، وأن نلصق بيانًا بالنتائج التي نتوصل إليها حتى يصبح بمقدور كل إنسان أن يطلع عليه في صبيحة الغد.

تناولتُ طعام الغداء، وبينما كنتُ أهم بالذهاب إلى حجرتي نادتني السيدة سائيكي العجوز قائلة: «يا دكتور، إن الدكتور كاتسوبي يبحث عنك، لقد تركتُه واقفًا أمام غرفة الأشعة، وتجده في انتظارك هناك.»

وجدتُ الدكتور كاتسوبي في حجرة الأشعة مع جثة المريضة المسجَّاة فوق منضدة، وكان يهم بتشريحها، فانحنيتُ احترامًا لروح المتوفاة، واتجهتُ نحو المائدة، وفتحتُ بطن الجثة لأجدها ممتلئة بسائل دموي، فصِحتُ متعجبًا: «إنه أمرٌ غريب يا دكتور كاتسوبي، فهي حالة تهتُّك البنكرياس.» فهز الدكتور كاتسوبي رأسه قائلًا وقد أخذَت يده تجول داخل تجويف البطن: «لا أعتقد أن البنكرياس هو السبب.»

كان الطحال ضامرًا، أما الكبد فكان بُنيًّا داكنًا وقد اكتسى ببقعٍ دموية صغيرة، وتمددَت الشعيرات الدموية للمعدة والأمعاء، واكتسَت الأمعاء ببقعٍ مخاطية دموية كالكبد تمامًا، ووجدْنا بين الشريان الحرقفي كميةً كبيرة من السائل الدموي، وكلما حرك الدكتور كاتسوبي يده داخل تجويف البطن انبثق بعض هذا السائل الدموي خارجها.

واتضحَت أسباب ما كانت تعانيه تلك المرأة المسكينة من آلام باطنية، كما اتضحَت أسباب وفاتها؛ فإن هذه البثور التي أخذَت شكل النقاط الدموية الحمراء لم تكن منتشرة على الجلد فقط ولكنها كانت تكسو الأحشاء جميعًا، وتجلَّى ذلك بوضوحٍ بعد فحص معدتها وأمعائها وكبدها وغشاء التجويف البطني.

كما لاحظنا أمرًا آخر؛ فإن الدم لم يتجلط داخل تجويف البطن رغم مرور بعض الوقت على الوفاة، ولعلَّ السبب في ذلك فقدان الدم خاصية التجلط، وذلك يرجع إلى تناقص عدد صفائح الدم بقدر ما يرجع إلى نقص كرات الدم البيضاء، وقد أبديتُ وجهة نظري هذه للدكتور كاتسوبي فوافقني عليها.

لقد علمنا من تشريح جثةٍ واحدة الشيء الكثير، وإذا كنا قد لجأنا إلى التشريح قبل ذلك لما احترنا في تعليل الأعراض التي بدَت على مرضانا، ولم أقتنع يومًا ما بأهمية التشريح مثلما اقتنعتُ به في ذلك الحين.

وقضيتُ بقية النهار في إعداد التقرير، وحين جاء المساء كنت لا أزال أعالج البيانات الخاصة بالعلاقة بين المسافة بين مواقع المرضى ومركز التفجير ونتائج فحص الدم لأقوم بإعداد تقريرٍ مختصَر يتضمن ما شاهدتُه وسمعتُه وما احتوَته سجلَّات المرضى. ووجدتُ صعوبة في التعبير بالكتابة عما أريد، ومزقتُ الكثير من الأوراق، حتى استطعتُ أخيرًا أن أنجز التقرير في ساعةٍ متأخرة من الليل.

وفيما يلي نص البيان الذي دفعتُ به إلى السيد ميزوجوتشي ورجوتُه أن ينسخه على فرخٍ كبير من الورق يلصق نسخة منه في كل مكان بالمستشفى والمصلحة قبل طلوع النهار:

بيانٌ حول مرض الإشعاع الذري

مستشفى المواصلات بهيروشيما
  • (١)

    لم يحدُث تغيُّر في دماء الأشخاص الذين يعملون في المدينة بعد حادث سقوط القنبلة الذرية ممن لم يتواجدوا بها وقت حدوث البيكا، ولم يُكتشَف أي تغيُّر في دماء الأشخاص الذين كانوا موجودين ببدروم مصلحة التليفونات عند حدوث البيكا، ويُرجَى من الأشخاص الذين تنطبق عليهم هذه الحالة الاستمرار في عملهم كالمعتاد.

  • (٢)

    تبيَّن أن الأشخاص الذين يُعانون من نقص في خلايا الدم البيضاء كانوا بالقرب من مركز تفجير القنبلة، وهم موظفو مصلحة التليفونات، وموظفو مكتب التلغراف، والأشخاص الذين كانوا يقيمون في المناطق المجاورة لتلك المصالح، أما الأشخاص الذين كانوا يعملون بمصلحة المواصلات عند وقوع الانفجار فإن خلايا دمهم البيضاء طبيعية وقد تنقص قليلًا عن المعدَّل الطبيعي.

  • (٣)

    لا يبدو ثمة علاقة بين الإصابة بالحروق البالغة وتناقُص خلايا الدم البيضاء.

  • (٤)

    لا يحمل فقدان الشعر بالضرورة أية دلالة تُنذر بالخطر.

  • (٥)

    على الأشخاص الذين يعانون من نقص في خلايا الدم الأبيض تجنب الإصابة بالجروح والإجهاد؛ لأن مقاومة أجسامهم ضعيفة.

  • (٦)

    على أولئك الذين أُصيبوا بجروح أن يتأكدوا من عدم إصابتهم بمرض الإشعاع الذري، أما المصابون فعليهم مداومة العلاج حتى لا تتسرب العدوى إلى مجرى الدم.

  • (٧)

    وفقًا للتقارير التي نقلَتها السلطات عن جامعة طوكيو؛ لا يبدو أن ثمة إشعاعات يورانيوم متبقية في المدينة.

انتهى.

(توقيع)
متشهيكو هاتشيا
المدير
مستشفى هيروشيما للمواصلات

وجدتُ صعوبةً بالغة في النوم لأن فِراشي كان مبتلًّا بسبب الأمطار، وقضيتُ معظم الليل أطارد البعوض.

٢٧ أغسطس ١٩٤٥م

جوٌّ غائم ممطر.

اليوم العاشر بعد المائتَين يقترب؛٢٤ لذلك نتوقع هطول موجة من الأمطار، وقد أصبح المبنى كله مبتلًّا نظرًا لعدم وجود نوافذ زجاجية تقي الغرف من الأمطار، وكانت المياه تنساب على الأرض وأصبح الفرش مبتلًّا، وزاد البعوض والذباب من ضيقنا ومتاعبنا.

لم أكن قد اغتسلتُ منذ وقع البيكا بسبب ما أعانيه من جروح، وكان جرح فخذي متهتكًا حتى إن اللحم كان بارزًا خارج الجلد مثل ورق الشوجي الممزَّق، وأصبحَت رائحتي كريهة بسبب العرق، حتى أصبحتُ أتأفف من نفسي كلما اقتربَت ذراعاي أو ركبتاي من أنفي، وكان جسدي لزجًا يتصبب عرقًا هذا الصباح، وبعد تناوُل الإفطار طلبتُ من السيدة سائيكي العجوز أن تعاونني على الاغتسال بقطعة من الإسفنج وقليل من الماء الساخن؛ فلم يكن لدَينا صابون للاغتسال، واستغرق تنظيف جسدي من الأوساخ التي علقَت به وقتًا طويلًا وشعرتُ بعده بالراحة.

عندما أخلو إلى نفسي أتجه إلى التفكير في أشياء كثيرة، فها هي ذي السقوف السوداء المحترقة، والجدران التي أتت النيران على طلائها، والنوافذ التي تفتقر إلى الزجاج، بينما قبع «الكونرو» أو الموقد الياباني الصغير الذي يعمل بالفحم النباتي يعلوه إناء الشاي المكسو بالهباب وقد تغطى بطبق بدلًا من غطائه المفقود، وبجواره سلة من الغاب تختلط فيها أطباق الأرز التي كان الجيش يستعملها يومًا ما بأكواب الشاي دون تمييز، فذكَّرَتنني هذه الأشياء بآلام الحرب.

وأخذتُ أفكر من ناحيةٍ أخرى في تلك الحجرة التي تتعدد ألوانها ويندر أن يجد المرء مثلها، إن كل ما نستعمله من أشياء يحمل بصمات القنبلة الذرية، فكل إناء أو وعاء كان إما مكسورًا وإما محترقًا، وكانت مائدة الطعام التي نتناول عليها وجباتنا يومًا ما مكتبًا قديمًا متهالكًا، ترك الزجاج المتطاير على سطحه خطوطًا وفجوات، ولا تزال بعض قطع الزجاج مرشوقة في سطحه، فبدا وكأنه مطعَّم بالزجاج بيد عاملٍ محترف، واحتلَّت الصناديق ذات اللون الأصفر التي تحتوي على بعض أعلام الجيش أحد أركان الغرفة، وكانت السيدة سائيكي العجوز تستخدم هذه الأعلام لتجفيف الأطباق ومسْح الأرض، وعلى أحد الأرفف كان هناك ترمس ممتلئ بالماتشا٢٥ أحضره السيد ميزوجوتشي من بيته في سينو منذ يومَين مؤكدًا أن فيتامين «ج» الذي يتوفر في هذا النوع من الشاي يفيدني صحيًّا، وعندما شربتُ بعض الماتشا عادت إلى ذهني ذكرى الأيام الخوالي، وحتى كوب الشاي المكسور أو الهاشي٢٦ القديمة التي استخدمتُها في تقليب الشاي لم تُفقد الماتشا نكهته وشذاه. تذكرتُ ذلك كله عندما رأيتُ الترمس الفارغ قابعًا فوق الرف، وجعلَتني تلك الذكرى أفكر في بيتي وأكواب الشاي التي كانت لدَي قبل حادث القنبلة، أثارت تلك الذكريات الأشجان في نفسي.

أثناء جولاتي بالمستشفى أمس علمتُ أنه ليس لدَينا تيتانوس نقدِّمه للمرضى ومن بينهم الجرحى الذين كانت جراحهم ملوَّثة، وكيف حدث ذلك! هل قضَت البيكا على جراثيم التيتانوس؟ أم أننا أغفلنا التيتانوس في غمرة الفوضى التي عانينا منها؟ وعقدتُ العزم على أن أجد إجابة لهذه التساؤلات.

لم تتحسن حالة الإسهال التي عانى منها السيد كادويا، واعتقد البعض أنه يعاني من الدوسنطاريا، بينما رأى آخرون أنه يعاني من نزلةٍ قولونية، ومهما كان الأمر فقد كثُر تردُّد السيد كادويا على المرحاض، وعلى الرغم من ذلك كان يتمتع بروحٍ مرحة؛ فكان يمزح مع رفاقه حول مكوثه في المرحاض وقتًا طويلًا، ويبدو أن معاناة الناس من البيكا جعلَت شر البلية عندهم ما يُضحك.

غادر الدكتور ساسادا المستشفى بعد الظهر، ولمَّا لم يكن هناك ما يأخذه معه لم يتطلب الرحيل إعدادًا مسبقًا، والتفت إلى السيد شيوتا قائلًا: «نحن السابقون يا سيد شيوتا.» فابتهج السيد شيوتا عند سماعه كلمة الوداع هذه.

جاءتنا اليوم فرقة الأطباء والممرضات من كلية الطب بأوكاياما على رأسها الدكتور ياداني، وهو زميلٌ قديم كان يدرس معي على يد الأستاذ إينادا، وكان هذا الفريق يتكون من ثمانية ممرضات واثنين من طلبة الطب، وكان بين الممرضات بعض الوجوه المألوفة لي، وعندما علمتُ أن هذه المجموعة ستُقيم معنا لمدة أسبوع، وأنهم أحضروا معهم المجاهر، أحسستُ أن جيشًا كبيرًا جاء لمعاوَنتنا؛ فإن الحصول على هذه المساعدة القيِّمة كان بالنسبة لنا كما يقول المثل الياباني القديم بمثابة «تسليح الشيطان بقضيبٍ من الحديد.» وقد أنساني الابتهاج لرؤيتهم عبارات التحية الواجبة، ورأى السادة سيرا وكيتاءو وميزوجوتشي أن نقدِّم لهم أفضل ما لدَينا من طعام وفِراش، وتنازل الأصحَّاء من الأطباء والعاملين بالمستشفى عن فِراشهم لأعضاء الفريق الذين خصصنا لإقامتهم ملجأً بالقرب من المستشفى، فقد ضاق المستشفى بمن فيه، حتى إننا كنا نستخدم حجرات الكشف وحجرة العمليات بقسم أمراض النساء لإيواء المرضى.

وتخصيص مثل هذا المكان لضيوفنا ليس من اللياقة بمكان، ولكنه كان أفضل ما يمكن عمله لهم، إذا وضعْنا في الاعتبار رجلًا كالدكتور كاتسوبي مثلًا الذي كان يستخدم فِراشًا قديمًا محترقًا بإحدى دورات المياه بالطابق الثاني، وكانت حوائط المرحاض الذي ينام فيه ملطخة بالدماء وتكسو أرضه قِطع الزجاج والأنقاض، وكانت نافذته محطمة، ورغم ذلك ظل قانعًا بفِراشه هذا دون أن يشكو أو يتأفف، أما بقية العاملين بالمستشفى فكانوا ينامون حيثما وجدوا مكانًا خاليًا كل ليلة، إما فوق أحد المكاتب، وإما على أحد الكراسي، ونادرًا ما كان المرء منهم ينام في مكانٍ واحد ليلتَين متتاليتَين.

غير أن مشكلة توفير الفِراش الكافي للضيوف ظلَّت مستعصية على الحل، فلجأنا إلى إدارة المدينة وطلبنا توفير ما يكفي لإيواء خمسة عشر شخصًا، فاستجابوا لنا وأرسلوا إلينا بعض البطاطين والملاءات، والبزات العسكرية، وبذلك توفَّر لدَينا بعض البطاطين التي تزيد عن حاجتنا، فوُزعَت علينا وأصابني منها اثنتان، ثبتُّ واحدة منها على النافذة لتقي فِراشي مياه الأمطار، واستخدمتُ الأخرى كسجادةٍ فرشتُها على الأرض المبتلة بجانب الفِراش.

شغلَتني تلك المسائل اليوم عن القيام بجولاتي المعتادة بالمستشفى حتى حل المساء، وبعد أن خلوتُ إلى نفسي قليلًا بدأتُ أشعر بألمٍ حاد في فخذي الأيمن، ولستُ على يقين من مبعث هذا الألم، فلعلَّها الرطوبة أو الإجهاد الشديد، غير أنني فضلَّتُ أن أخلد للراحة في الفِراش. وعندما عُدتُ إلى حجرتي دهشتُ حين رأيتُ الدكتور ساسادا هناك فسألتُه متعجبًا: «ماذا تفعل هنا؟ لقد ظننتُ أنك غادرتَ المستشفى!» فأجابني السيد شيوتا ضاحكًا: «لقد غادر المستشفى بالفعل، ألم ترَ السيارة السوداء الأنيقة التي أخذَته من هنا؟» فسألته: «إذن ماذا حدث؟» فانفجر الدكتور ساسادا والسيد شيوتا في الضحك وعلمتُ أطراف القصة خلال الفترات التي توقَّفا فيها عن الضحك ليلتقطا أنفاسهما، فقد تولى أحد الأشخاص مسئولية تأجير سيارة لتنقل الدكتور ساسادا إلى منزله بصورةٍ لائقة، وما كادت السيارة تقترب من حدود مدينة هيروشيما في طريقها إلى بلدته حتى أوقفها رجال الشرطة العسكرية عند أحد الجسور، وتم ضبط السيارة وقائدها، فقد اكتشفوا أنها كانت تابعة للبحرية وأن السائق سرقها واستخدمها كسيارة أجرة. وبعد اعتقال السائق تُرِك الدكتور ساسادا على الجسر، ولم يكن أمامه مفر من العودة إلى المستشفى. ورغم جو المرح الذي أحاط بالقصة فقد شعرتُ بالأسى لما أصاب الدكتور ساسادا من المتاعب، غير أني سُررتُ لرؤيته مرةً أخرى.

كنا أقل ضيقًا بالبعوض هذه الليلة، فقد عثر البعض على قطعة من خشب الكافور أحرقناها في أوعيةٍ خاصة حول المستشفى، وحالت البطانيات التي استخدمناها بين المطر وفِراشنا، وعندما أويتُ إلى الفِراش كانت فخذي تؤلمني وما هي لحظات حتى أدركني النعاس.

وفي ساعةٍ متأخرة من الليل استيقظتُ من النوم على وقع أقدام شخص يصعد الدرج ويتحدث بصوتٍ مرتفع محدِثًا جلبةً مزعجة، كان هذا الشخص هو الدكتور تاماجاوا أستاذ الباثولوجي في كلية الطب بهيروشيما، واستطعتُ أن أميز صوته قبل أن يصل إلى الغرفة، وكان زميلًا لي بكلية الطب بأوكاياما، وأصبحْنا منذ ذلك الحين صديقَين حميمَين، وقد كنا نتنافس معًا في الثرثرة وتبادُل الأحاديث لأن كلَينا مغرم بالمناقشات. وما كاد الدكتور تاماجاوا يلتقط أنفاسه حتى وجَّه إليَّ الحديث دون أن نتبادل التحية: «هاتشيا، هل تعلم أنني ذهبتُ إلى إدارة المحافظة اليوم وعلمتُ من أولئك الحمقى أنهم لن يسمحوا بتشريح الجثث في هيروشيما؟ يا لهم من أغبياء عتاة!» فقلتُ له: «لقد تأخرتَ كثيرًا يا تاماجاوا.» وطفق الدكتور تاماجاوا يعرض خطته فقال: «يا لها من سياسة حمقاء أيمنعون تشريح الجثث؟ ألا تعتقد أن هذا التصرف يدل على الغباء؟ كيف نستطيع الوصول إلى حقيقة ما يعانيه الناس من أمراض إذا لم نلجأ إلى التشريح؟ ألا توافقني على ذلك؟» فقلتُ له: «اهدأ بحق السماء، إنني أوافقك على رأيك بكل تأكيد، ووجودك معنا منحة من السماء، وترحيبنا بك يفوق ترحيبنا بأي إنسانٍ آخر.» كان الوقت متأخرًا فدعوتُه إلى النوم في فِراشي.

٢٨ أغسطس ١٩٤٥م

السماء ملبدة بالغيوم.

كان البيان الذي أصدرتُه بالأمس بخلاصة تجاربنا مع مرض الإشعاع الذري بالغ الأثر، فقد جاءتنا منذ الصباح الباكر مجموعة من الصحفيين وحاولتُ أن أجيب على أسئلتهم بقدر المستطاع حول المرضى، والأعراض التي يشكون منها وتشخيص تلك الأعراض، وخططنا التي رسمناها للعناية بهم في المستقبل.

وزارني بعد ذلك صديقي الحميم السيد ياماشيتا الذي كان يعمل بمصلحة البريد قبل البيكا، وكان معروفًا بذوقه الأدبي الرفيع وبمقدرته الفائقة على كتابة «الواكا»٢٧ وكثيرًا ما كان يبدي ملاحظاتٍ قيمة حول ما كنتُ أكتب من مقالات في إحدى المجلات المحلية التي كانت تصدر عن مصلحة المواصلات تحت اسم «هيروشيما تي يو»، ويوميات طبية كنتُ أنشرها تحت اسم «داروما طوطورا»٢٨ ويمكنك أن تتصور مبلغ سعادتي عندما رأيتُ هذا الصديق الأديب القديم. وبينما كنتُ أُعد له كوبًا من الماتشا، أخذتُ أقص عليه ما عانيتُه من تجارب شخصية وغير شخصية سجلتُها منذ كان حادث سقوط القنبلة الذرية، وبعد أن شرب السيد ياماشيتا كوب الماتشا في رشفاتٍ سريعة شرد ذهنه قليلًا ثم وجَّه إليَّ سؤالا عما أكتبه، فأجبتُه بقولي: «إنك تعلم أن الكتابة بالنسبة لي ليست أمرًا سهلًا، فما زلتُ أعاني من ذلك، ربما زادت معاناتي، فخبرتي بالكتابة محدودة، ولاريب أنه ينقصني الكثير، وأحيانًا أكتب يومياتي أولًا بأول، وأحيانًا أخرى أكتبها كلما سنحَت لي الفرصة بعد مرور بضعة أيام، هل تكتب شيئًا الآن يا سيد ياماشيتا؟» فردَّ قائلًا: «لقد كنتُ أكتب يومياتي بانتظام حتى حادث البيكا، ولكني توقفتُ عن الكتابة منذ الحادث، فقد مات ولدي ياشوشي، وتحطم بيتي؛ ولذلك أعيش حياة يأس وقلق.» فسألتُه: «هل تسمح بإلقاء نظرة على يومياتك فلا ريب أنها ستساعدني كثيرًا في متابعة الحوادث السابقة على سقوط القنبلة، وأريد أن أعرف على سبيل المثال ما كان يجري في أوشيتا.» فأجابني برقَّة: «يسرني أن أطلعك على يومياتي وسأحضرها لك خلال أيام.»

وبعد أن عاد السيد ياماشيتا أدراجه انصرفتُ إلى العمل، فقد خفف من أعبائي وصول الفريق الطبي من كلية الطب بأوكاياما الذين اضطلعوا بمسئولية متابعة حالة المرضى، وتفرغتُ بذلك للإدارة، وتركتُ مهمة الخدمة الطبية لضيوفنا.

اتفق الدكتور كاتسوبي مع الدكتور ياداني على أن يختص طالبا الطب باستطلاع تاريخ المرضى والكشف الطبي وفحوص الدم ومتابعة اختبارات المعمل، وقد برهن هذان الطالبان على كفايتهما ومقدرتهما، وكان أحدهما ابن الأستاذ هاتا الأستاذ بجامعة أوكاياما، أما الآخر فكان نجل السيد أوجاوا الكاتب المشهور.

أما ممرضات أوكاياما فكُنَّ متعاونات مقبلات على العمل بالاشتراك مع ممرضاتنا، وأصبح المستشفى بفضلهن قريب الشبه بالمستشفيات، فقد كان الأطباء والممرضات الذين ضمهم الفريق يرتدون ملابس بيضاء ناصعة، بينما كانت ملابسنا ممزقةً متسخة.

لقي الدكتور تاماجاوا ترحيب الجميع، ولكن قدومه جعلنا نواجه مشكلة تدبير المكان الذي يمكن استخدامه كمشرحة يزاول فيها عمله، فلم يكن هناك مكانٌ خالٍ بالمستشفى الذي يكتظ بمن فيه، وبقي مكانٌ واحد لا مناص من التفكير فيه؛ هو كشكٌ خشبي تركه الجنود بالقرب من الباب الخارجي للمستشفى، فصحبتُ الدكتور تاماجاوا إلى هناك، وحين رأى المكان أبدى ارتياحه وأكَّد صلاحيته للعمل كمشرحة، ودون أن يضيع وقتًا عمل الدكتور تاماجاوا على تحويل الكشك إلى مشرحة ومعمل للفحص الباثولوجي، وحوَّل بعض النوافذ والألواح الخشبية إلى مائدة للتشريح، ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى تحول هذا الكشك إلى معمل لم أرَ له مثيلًا من قبل، ولم يعد ثمة ما يضايق الدكتور تاماجاوا سوى عدم وجود مادة للدراسة.

وبعد تناوُل طعام الغداء تبينتُ أن رصيدنا من السجاير يوشك على النفاد، وسألتُ السيد شيوتا عما إذا كان باستطاعته حل هذه المشكلة، فأجابني بقوله: «لا عليك، اترك الأمر لي فسأحضر لك كل ما تحتاجه منها.»

وشعرتُ بالارتياح، ووزعتُ ما تبقَّى لدَينا من السجاير على مدمني التدخين بما فيهم الدكتور تاماجاوا الذي ارتسمَت على وجهه علامات السرور، فلم يكن باستطاعته متابعة التدخين بنفس القدر الذي اعتاده من قبلُ نتيجة ارتفاع أسعار السجاير ارتفاعًا جنونيًّا؛ ففي مدينة هيروشيما المدمرة كانت النقود أقل قيمة من السجاير، واستُخدمَت السجاير كوسيلة للتبادل في المعاملات.

مرَّ يومان دون أن أقوم بجولات في المستشفى، فقمتُ اليوم بإحدى الجولات، وكان البيان الذي أصدرتُه حول مرض الإشعاع الذري معلقًا في مكانٍ بارز أمام مدخل مبنى المصلحة. أما عنابر المرضى فكانت نظيفةً مرتبة، وتفقدتُ أحوال المرضى فوجدتُ أن السيد أونومي المريض الذي يعاني من البثور الدموية والتهاب الحلق وسقوط الشرج قد أصبح في حالةٍ يُرثى لها، متورم الوجه، وعاد الجرح الصغير بجوار أذنه ينزف من جديد بعد أن كان قد الْتأم، فأدركتُ أنه على شفا الموت.

أما الفتاة الجميلة الشابة التي كان جسدها محترقًا فما زالت على حالها، ولم تظهر عليها أعراض الصلع أو البثور، وكان جيرانها بالعنبر يبذلون أقصى جهدهم لخدمتها. ووجدتُ أن ثمة مرضى جددًا قد أُدخِلوا إلى المستشفى يشكون من البثور الدموية، غير أن حالتهم لا تبلغ حد السوء.

غادرتُ مبنى المصلحة إلى المستشفى، واستنتجتُ من تلك الجولة أن عدد المرضى قد تناقص خلال اليومين الماضيَين رغم أن عدد المقيمين بالمستشفى لم ينقص بسبب عائلات المرضى التي كانت تلازمهم، وكان بينهم عائلتا ياسوئي وأواتاني اللتان أعرفهما منذ سنوات. وقبل أن أغادر العنابر اكتشفتُ حالةً آلمتني كثيرًا؛ فبعد وفاة الدكتور تشودو في الثالث عشر من هذا الشهر متأثرًا بحروقه ظلَّت زوجته وطفلته في المستشفى، ولم تكن تبدو على السيدة تشودو أي علامات المرض، كما لم تلحق بها أي إصابات وبدَت عليها علامات الصحة، ولكني دهشتُ حين رأيتُها اليوم راقدة في الفِراش، فسألتُها عن شكواها فأجابت بصوتٍ خافِت — بلهجة أهل أوكيناوا أو كيوشو، لستُ أدري — بما يفيد أنها تعاني من ضيق في التنفس، وهبوط في النبض، فحاولتُ أن أواسيها مؤكدًا لها أن كل شيء سيصبح على ما يُرام، وأن عليها أن تكون رابطة الجأش من أجل طفلتها. ويبدو أن ورود ذكر الطفلة على لساني فجَّر عندها جرحًا دفينًا، فالتفتَت نحو الطفلة المسكينة التي كانت ترقد بين أحضانها وأخذَت تبكي، وفتَّت بكاء هذه المرأة المسكينة قلبي، تُرى من يعتني بطفلتها إذا أصابها مكروه؟ وتركتُ المكان حتى أُهدِّئ من روعي، ولكن أحدًا لم يُلاحِظ النقاط الدموية الداكنة التي أخذَت تنتشر على صدر المرأة المسكينة.

أضفى الدكتور تاماجاوا بروحه المرحة جوًّا من البِشر في المستشفى وحجرة الطعام، وقد استطاع أن يجعل السعادة ترتسم على وجوه من حوله، حتى طعامنا بدا حلو المذاق بالنسبة له، وكثيرًا ما كان ينهاني عن التبذير إلى هذه الدرجة، وبعد تناوُل طعام العشاء تناول أطراف الحديث وراح يخبرنا عن المشاكل التي واجهَته في أوكاياما بعد حادث القنبلة، وكانت الطريقة التي يقص بها حكاياته والفكاهات التي تتضمنها تلك القصص تبعث البِشر والمرح في نفوسنا، وحدَّثنا عن نوادر كثيرة طريفة صادفَته حتى غرق الجميع في الضحك، ولم تكن تلك النوادر غربية عليَّ، فقد سمعتُها منه مرارًا من قبل، ولكنها كانت جديدة على رفاقي؛ ولذلك لزمتُ الصمت طوال الحديث، وما لبث رفاقي أن نسوا أن الدكتور تاماجاوا أستاذ له مكانته وراحوا يتحدثون معه دون تكلُّف.

ساءت حالة زوجتي هذا المساء وبلغَت حرارتها ٤٠٫٥ درجة، وكانت تشكو من ضيق في التنفس، وبينما كانت الآنسة كادو تناولني سماعة الكشف وأخذتُ أتفحص صدرها تظاهرتُ بعدم الاهتمام، وقلتُ لها: «يبدو أنكِ أُصبتِ بنزلة بردٍ مرةً أخرى، لقد توقعتُ ذلك أمس عندما رأيتُك تنامين مع الآنسة كادو في فِراشٍ واحد.»

وبينما كنتُ أستمع إلى صدرها أحسستُ بوجود التهاب في الرئة اليمنى، فأسرعتُ بالبحث عن الدكتور هينوئي رئيس الصيادلة لأسأله عما إذا كان لديه دواء التريونون أو أقراص السلفاميد، وقد أحسستُ بالراحة عندما علمتُ منه أن لدَينا رصيدًا من هذا الدواء، وعندما عُدتُ إلى الحجرة طلبتُ من الآنسة كادو أن تعاونني في نقل زوجتي إلى حجرة الدكتور ياتاني حتى تكون بمنأى عن الرياح والأمطار. كان يجب عليَّ أن أهتم بحالة السعال والبصاق التي كانت تعاني منها، ولكن نظرًا لأنها لم تكن تشكو ألمًا فقد تغاضيتُ عن تلك الأعراض المبكرة للالتهاب الرئوي.

تُرى هل يمكن أن تنجو زوجتي من الالتهاب الرئوي بعد أن عاشت مأساة البيكا؟ ولماذا لم أوليها عنايةً أكبر من قبل؟ كيف أستطيع الحياة وحيدًا؟ وكيف أواجه عائلتي إذا حدث شيء لزوجتي؟

قمتُ بترتيب العلاج لزوجتي يائيكو وطلبتُ من الآنسة كادو أن تحقنها بالجلوكوز والتريونون.

٢٩ أغسطس ١٩٤٥م

طقسٌ غائم تتخلله بعض فترات من الصفاء.

لم أستطع النوم خلال الليل بسبب القلق على زوجتي، تُرى لماذا لم أتنبه في الصباح إلى الرطوبة التي سببها المطر المتواصل والبرودة التي تنذر باقتراب الخريف؟ إذا لم تُصَب زوجتي بالرجفة ولم تبتل فربما نجت من الالتهاب الرئوي.

يجب أن أفكر في أمر بقية المرضى أيضًا فقد يحدث لهم نفس الشيء، فليس بينهم من يستطيع جسمانيًّا تفادي الإصابة بالالتهاب الرئوي، لقد وزَّعْنا حقًّا البزات العسكرية الصوفية الثقيلة على المرضى من النساء، وأعطينا البزات الكاكية الخفيفة للمرضى من الرجال ولكن هذا لا يكفي، لا بد من الحصول على عددٍ آخر من البطاطين يكفي لتدفئة جميع الموجودين بالمستشفى.

وأخذتُ أفكر في طلب معونةٍ أخرى وقد وصلَتنا كمية من أحذية الجيش وزَّعناها على المرضى من الرجال، بدا الجميع قانعين، ولكن النساء ما لبثن أن جأرن بالشكوى لأنهن لم ينلن منها شيئًا، وواصلن الاحتجاج حتى وعدتُهن بأن تكون معونة الأحذية التالية من نصيبهن، وعجبتُ لطمع الناس وتطلعهم إلى المساواة مهما كان الأساس الذي تقوم عليه تلك المساواة، فالنساء يعلمن أن أحذية الجيش قد لا تناسبهن، وعندما قلنا لهن ذلك خلال المناقشات التي دارت معهن، قلن إنهن يُردن نصيبهن من الأحذية ليأخذْنها معهن لأزواجهن وأطفالهن أو يقُمن بإهدائها لأقاربهن، وقد ضايقني هذا الموقف لأن أحدًا لم يكن يدفع أجر الإقامة أو الطعام أو العلاج. وعندما وزَّعنا الملابس عليهم راعَينا مبدأ المساواة ولكن هذا لم يكن كافيًا، فالنساء يُردن نصيبهن من أحذية الجيش كالرجال تمامًا.

وكأن السماء استجابت لدعائي الصامت، فقد تلقَّينا هذا الصباح شحنةً جديدة من المعونة العسكرية، وسعدتُ حين علمتُ أنها تتضمن الناموسيات والبطاطين والأحذية والشباشب، وتأكدتُ من توزيع هذه الأخيرة على النساء.

لم تكن هناك بطاطين كافية لكل شخص؛ لذلك طلبتُ كميةً أخرى منها ووزعتُها على المرضى.

وعند الظهر سمعْنا أن وثيقة الاستسلام بلا قيد أو شرط ستُوقَّع في أوائل سبتمبر على ظهر البارجة ميسوري في خليج طوكيو، فسألتُ من نقل إليَّ النبأ: «هل سيحضر رئيس الوزراء وأعضاء مجلس الوزراء توقيع الوثيقة أم أن الإمبراطور سيوقعها بمفرده؟»

وقال أحدهم متعجبًا: «تُرى ماذا يحدث لو أُخِذ الإمبراطور أسيرًا؟» فانزعجَت السيدة سائيكي العجوز، واندفعَت تقول: «لا تقل مثل هذا الشيء الفظيع، إن الإمبراطور لم يرتكب جرمًا.»

وقال آخر: «يُشاع أن الإمبراطور سيؤخَذ إلى ريوكيوس وسيظل حبيسًا هناك.»

فقالت السيدة سائيكي العجوز بنبراتٍ حزينة وهي تضع خدها فوق راحتها وتشير كعادتها بإصبع يدها تجاه السن اليتيمة التي بقيَت في مقدمة فمها: «إنهم يريدون أن يأخذوه بعيدًا تمامًا كما فعلوا في سالف الزمان.»

ربما كان هذا الأمر مستحيلًا، وفكرتُ في ذلك وأنا أستمع إلى المناقشات التي تدور بين مَن حولي، ولكن ما هو المستحيل؟ إننا نستطيع الرجوع إلى التاريخ لنبحث عن أمثلةٍ مشابهة: لقد قضى نابليون أيامه الأخيرة في سانت هيلانة، كما عُوقِب القياصرة والأباطرة بالنفي من بلادهم حين حلَّت بهم الهزيمة، إن كل ما يجب أن نفعله هو أن ننتظر ونترقب، فكل شيء ممكن أن يحدث لأمةٍ نزلَت بها الهزيمة.

وصليتُ من أجل الإمبراطور، من أجل بقائه على أرض الوطن موقنًا أن أسره فوق تلك البارجة سيكون نهاية كل شيء.

وأخذتُ أتفقد المرضى بالمستشفى حتى أخلص ذهني من عناء هذه الأفكار السوداء وأنسى للحظاتٍ قلقي على حالة زوجتي، كان المرضى سعداء بالمعونات التي وُزعَت عليهم، خاصة النساء اللاتي حصلن الآن على نصيبهن من الأحذية تمامًا كالرجال، وانحنَت بعضهن أمامي شاكرات، ولمَّا كانت حالتي النفسية لا تسمح بتقبُّل ثنائهن ومشاركتهن الابتهاج فقد كنتُ أردُّ عليهن بحدَّة وخشونة قائلًا: «هذه الأشياء قدمتُها لكُنَّ إدارة المدينة فتوجَّهوا بالشكر إليها وليس لي.»

ازداد عدد المرضى الذين بلغَت أحوالهم حد الخطورة، وكانوا جميعًا يعانون من شيءٍ واحد هو البثور الدموية، ومات السيد أونومي بعد نزيفٍ حاد من أنفه وشرجه، كما ماتت الآنسة ني شي التي دخلَت المستشفى منذ يومَين، وكانت لحظاتها الأخيرة مليئة بالأنين والألم. وانتهَت جولتي التفقدية دون أن أرى السيدة تشودو، وأصابني الجزع حين عملتُ أنها ماتت، لم أصدِّق ذلك فقد رأيتُها في الممر هذا الصباح، تُرى ماذا يمكن أن يحدث لطفلتها؟

كان الدكتور تاماجاوا يتأهب للعمل، سِرتُ الهوينى نحو حجرة المشرحة، فراعني منظر آلاف الذباب التي كانت تطير كلما أحسَّت بموضع قدم لتستقر فوق الأرض من جديد، وكان الدكتور تاماجاوا منهمكًا في العمل يعاونه السيد أوجاوا طالب الطب بجامعة أوكاياما في تسجيل الملاحظات، ووقفتُ لحظةً أراقب الدكتور تاماجاوا وهو يعمل بخفة ومهارة لعلَّه يستطيع أن يتوصل إلى سر وفاة مرضانا، فإذا استطاع التوصل إلى هذا السر فقد يكون بمقدورنا أن ننقذ المرضى الآخرين من هذا المصير.

وعقدتُ العزم على مقارنة نتائج التشريح بالأعراض الإكلينيكية، فعُدتُ إلى المستشفى لدراسة سجلات هؤلاء المرضى الذين تُشرَّح جثثهم. لقد ماتت الآنسة كوباياشي نتيجة نزيفٍ باطني حاد، أما السيد أونومي فقد مات نتيجة نزيفٍ حاد من الأنف والشرج، تُرى هل كان النزيف أيضًا السبب في وفاة السيدة تشودو والآنسة ني شي؟ إذا كان الأمر كذلك، فكيف حدث هذا النزيف؟

وكان سجل الآنسة ني شي يتلخص فيما يلي:

ني شي إيميكو، أنثى، العمر ١٦ عامًا، تم الكشف عليها لأول مرة في ٢٨ أغسطس ١٩٤٥م، تشكو من الإعياء الشديد والبثور والأرق، وعند سقوط القنبلة كانت بالطابق الثاني من مبنى مكتب التليفونات المركزي، وهو مشيد بالخرسانة المسلحة، ويقع على بعد ٥٠٠ متر من مركز التفجير، الأثر المباشر للإصابة: عدم وضوح الرؤية والضعف العام والقيء المستمر، ثم عانت في الأيام الثلاثة التالية من الغثيان والإعياء، وتماثلَت للشفاء تدريجيًّا، غير أنها لم تبرأ تمامًا، وعادت لممارسة الأعمال الخفيفة رغم إصابتها بالإسهال والضعف العام، وظهرَت عليها أعراض الصلع الحاد في ٢٣ أغسطس ١٩٤٥م وزادت وطأة حالة الإعياء التي أصابتها كما زادت حدة آلام البطن خلال ليلة ٢٧ أغسطس، حيث لوحظَت البثور لأول مرة.

نتيجة الكشف: متوسطة القامة، التغذية سيئة، لون الجلد شاحب ما بين الأسود والبني، جاف، عددٌ كبير من البثور على الصدر والأطراف، تبدو على الوجه علامات الاحتضار، السطح الداخلي لجفون العين يشير إلى وجود أنيميا حادة، الفم طبيعي من الداخل، الأنفاس واهنة مع عدم تردُّد صدى الطرق على تجويف الرئتَين، يبدو القلب متضخمًا، النبض ضعيف وسريع بمعدَّل ١٣٠ في الدقيقة، التنفس ٣٦، درجة حرارة الجسم ٤١، تقلُّص، ماتت في ٢٩ أغسطس ١٩٤٥م نتيجة ضيقٍ حاد في التنفس.

وحالة هذه الفتاة تمثِّل النموذج الشائع لحالة جميع المرضى الذين ماتوا خلال اليومين أو الثلاثة أيام الماضية، وكانوا جميعًا على مسافةٍ أقل من ألف متر من موقع التفجير عندما سقطَت القنبلة، وبناءً على ذلك أصبح واضحًا تمامًا أن المرضى الذين كانوا أكثر قُربًا من موقع التفجير أكثر تعرُّضًا للوفاة من غيرهم.

كنت متلهفًا لمعرفة نتيجة تشريح جثة السيدة تشودو والآنسة ني شي والسيد أونومي، فعُدتُ إلى غرفة التشريح قبَيل المساء لأطَّلع على ما توصَّل إليه الدكتور تاماجاوا من نتائج، ولم أعرف منه سوى القليل لأن الأمر يتطلب عدة أيام حتى يستكمل التحاليل ويصل إلى نتائج نهائية، كما أن عدم وجود الكهرباء يجعل نتيجة التحليل تستغرق وقتًا طويلًا، وحتى أيسِّر له سبيل العمل ليلًا بحثتُ في المستشفى عن شموع وطلبتُ من السيد سيرا أن يبذل قصارى جهده لتوفير مصدر للإنارة بالكهرباء (وكنتُ قد لاحظتُ أن الكهرباء قد وصلَت أخيرًا إلى نيجتسو وأوشيتا على الضفَّة الأخرى من النهر).

لم تتغير الحالة العامة لزوجتي يائيكو، وكنتُ قد وضعتُ فوقها ناموسيةً تقيها عتو الرياح، وصرخَت عندما حقنتُها بالجلوكوز والتريونون على ضوء شمعة، وصممتُ بعد ذلك أن أطلب من الآنسة كادو أن تتولى حقنها؛ لأن الطبيب لا يُحسن عادة علاج أفراد أسرته.

كنتُ والدكتور ساسادا والسيد شيوتا نجلس حول المائدة بعد تناوُل العشاء وقد لفَّنا الحزن، فقد بعثَت حوادث الوفاة اليوم الاكتئاب في نفوسنا، ولكن وفاة السيدة تشودو كانت أشد وقعًا علينا، وما زال منظرها حين رأيتُها بالممر ماثلًا في ذهني، وقلتُ هامسًا: «تُرى ماذا يحدث لطفلتها؟»، فأجاب السيد شيوتا: «ألم تسمع أن السيدة فوجي زوجة طبيب الأسنان ستتبنى الطفلة؟» وكنتُ قد نسيتُ أمر السيدة فوجي، وجعلني النبأ الذي سمعتُه من السيد شيوتا أحس ببعض الراحة؛ فإن التبني قد يوفِّر حلًّا لمشكلة الطفلة وللسيدة فوجي على السواء، فقد فقدَت هذه السيدة المسكينة طفلًا وُلِد بعد البيكا بوقتٍ قليل، كما أن ابنتها الكبرى ماتت محترقة.

وفي ساعةٍ متأخرة من الليل استيقظتُ على صوت الدكتور تاماجاوا الصاخب كعادته عندما عاد من المشرحة لينام، وقال دون أن يُلقي عليَّ تحية المساء: «سأحتاج إلى عددٍ أكبر من زجاجات العينات يا هاتشيا، فثمة حالة وفاة الليلة.»

فوعدتُه بأن أبذل قصارى جهدي لتوفير ما يطلبه.

٣٠ أغسطس ١٩٤٥م

جوٌّ ملبَّد بالغيوم ممطر بين الحين والآخر.

أُحرقَت جثة السيدة تشودو خلال الليل، ولما كان الجو ينذر بالمطر فقد ذهبتُ في الصباح الباكر إلى المحرقة لأجمع رمادها وبقايا عظامها، وقد جرَت العادة على استخدام قارورةٍ خاصة لهذا الغرض، وهو ما لم يكن متوفرًا لدَينا، فجمعتُ الرماد والعظام في صندوق من الكرتون حصلتُ عليه من الصيدلية، وجمعتُ عظمةً من كلٍّ من الرأس والوجه والصدر والأطراف ووضعتُها في الصندوق وكتبتُ اسمها فوق بطاقةٍ ثبتُّها عليه وسلمتُه لمكتب العمل.

حاولتُ تدبير بعض الأواني الخاصة بعينات التشريح تلبية لطلب الدكتور تاماجاوا، وتذكرتُ البطاريات الزجاجية القديمة (التي تُستخدَم في التليفونات) المكدَّسة قُرب مدخل مصلحة المواصلات، فذهبتُ إلى هناك وانتقيتُ نحو عشرٍ منها، وتحولَت هذه البطاريات إلي آنية للعينات بعد أن أفرغناها من أصابع الكربون وغسلناها جيدًا لتنظيفها مما علق بها من حامض الكبريتيك، ثم جمعتُ من الصيدلية كل الزجاجات الخالية التي كان باستطاعة الصيدلي الاستغناء عنها. وفي نفس الوقت بحث الدكتور تاماجاوا بين أنقاض المنازل حتى عثر على آنيةٍ كبيرة (هيباتشي) تكفي لاحتواء عينات ثلاث جثث.

وظننتُ أن الوقت أصبح ملائمًا للوقوف على نتائج التشريح، فسألتُ الدكتور تاماجاوا عما إذا كان باستطاعتي أن أُلقي نظرة على ما دوَّنه من ملاحظات، فأجاب بعد لحظات من التفكير كعادة كبار العلماء: «من الأفضل أن تنتظر حتى تتوفر لدَي الفرصة لدراسة خمس أو ست حالات.» ولم تُفلح محاولاتي في دَفعه لتغيير موقفه.

آلمَتني فخذي بضعة أيام، ولكن جراح وجهي وكتفي وظهري الْتأمَت تمامًا، ولم تعُد تسبب لي المتاعب، غير أن جرح فخذي يؤلمني بشدة رغم أنه في طريقه إلى الالتئام، وأدركتُ أن الطقس الرطب له علاقة بهذه الحالة، كما أن نشاطي الزائد عن الحد مسئول عن هذه الآلام، وقد عانيتُ من جرح فخذي هذا الصباح بعد أن بذلتُ جهدًا محدودًا، فصممتُ على التزام الفِراش، ولما كنتُ لا أريد أن أبقى بلا عمل فقد أرسلتُ إلى الدكتور كاتسوبي طالبًا بعض عينات الدم حتى أقوم بفحصها بينما يُتاح لفخذي قسط من الراحة.

وافق الدكتور كاتسوبي على طلبي وأرسل لي بعض الشرائح التي تحمل عينات الدم وأحد المجهرَين اللذَين حصل عليهما المستشفى، فثبتُّ المجهر فوق المنضدة أمام النافذة وجلستُ لمزاولة الفحص، وكنتُ أظن أنه من السهل الجلوس في الفِراش واستخدام المجهر، غير أنني عدلتُ عن الفكرة، فقد مضى وقتٌ طويل لم أستخدم خلاله مجهرًا؛ ولذلك اختلطَت الأشياء أمام ناظري، ووجدتُني عاجزًا عن التركيز، ولا أدل على ذلك من أن فحص ثلاث عينات فقط استغرق مني ثلاث ساعاتٍ كاملة، وكانت هذه العينات قد أُخذَت من مرضى بلغَت حالاتهم حد الخطورة، وقد وجدتُ في هذه العينات الثلاث أن عدد كرات الدم البيضاء يتراوح بين ٧٠ و٨٠ كرة، وحتى هذه لم تكن تبدو طبيعية، وبدت كرات الدم الحمراء طبيعية في البداية، ولكن حين دققتُ النظر اكتشفتُ أنه تبدو عليها أعراض نموٍّ غير طبيعي، ولم أعثر على نواةٍ لخلايا الدم البيضاء. لقد كان تناقُص عدد كرات الدم البيضاء متوقَّعًا، ولكني حتى الآن لم أكن أدري أن كرات الدم الحمراء تتأثر هي الأخرى بالمرض واستنتجتُ أن الدورة الدموية كلها تتأثر بالمرض بشكلٍ يؤدي إلى التأثير على النخاع والطحال والغدة الليمفاوية والكبد حيث يتم تكوين كرات الدم، وكلما نظرتُ إلى العينات عبر المجهر كلما وجدتُ صعوبةً بالغة في ملاحظة كرات الدم، فقد كان بصري عاجزًا عن التمييز بين المرئيات، واضطُررتُ إلى النظر عبر النافذة بعض الوقت حتى تُزايلني هذه الحالة، فكنت كالولد الذي يكره الاستذكار وينشغل عنه باللهو فلم أستطع الانكباب على العمل وقتًا طويلًا، وكان ذهني يشرد دائمًا فيما يحيط بي من أشياء، فإذا مر شخص مثلًا التمستُ العذر لنفسي وتجاذبتُ معه أطراف الحديث.

وما هي إلا لحظات حتى فقدتُ الصبر على العمل وتركتُ المجهر فوق المائدة، وعجبتُ لما أصابني، إنني أرى الأشياء جيدًا ولكني لا أستطيع التمييز بينها، وحاولتُ أن أُلقي المسئولية على عيني ولكن ذهني كان يتحمل نصيبًا كبيرًا من المسئولية، فلم يُصقَل بالاطلاع لفترةٍ طويلة، ولُمتُ نفسي للاحتفاظ بالمجهر بينما هناك من يستطيع استخدامه خيرًا مني. واستغرقتُ في التفكير فيما أصابني منذ يوم البيكا، فخشيتُ أن أكون قد فقدتُ الحواس الخمس، وتذكرتُ أني لم أشعر بآلام الجروح التي أصابتني يومئذٍ إلا عندما خيطت، وأكد جميع زُوار المستشفى أن المنطقة كلها كانت تفوح بها رائحةٌ كريهة، فأدهشني ذلك لأنني لم أشم تلك الرائحة، ويبدو أن حاسة الشم عندي كانت مفقودة، فلم أتأثر بالأوساخ والأقذار المحيطة بي ولا بالذباب والبعوض الذي كنتُ أتضايق منه قبل الحادث، كما أن حاسة الذوق عندي أصبحَت أيضًا على قدرٍ من الضعف، غير أنها عادت إلى حالتها الطبيعة فيما بعد، كما أن أذني استعادت قدرتها على السمع لأنني لم أعد أجد صعوبة في فهم ما كان يقال لي، وأحيانًا كانت حاسة السمع عندي تبدو أكثر حدة، ولعلَّ هناك حاسةً سادسة جعلتني أواصل العمل رغم تعطُّل حواسي الأخرى مثل التمييز بين المرئيات.

وعند حلول المساء جاء السيد ميزوجوتشي إلى الحجرة وقد بدَت على وجهه علامات الانزعاج، فسألتُه عما وراءه من أخبارٍ ملتمسًا في ذلك الفرصة للتخلص من المجهر ومن أفكاري المضطربة، فذكر لي أنه لا يستطيع أن يستمر في أداء واجبه كمسئول عن توفير الإمدادات للمستشفى والمرضى ما لم يستطع الحصول على سيارةٍ خاصة بالمستشفى، وذكر لي أن هناك سيارات تقف أمام المستشفى تملكها بعض المصالح الحكومية الأخرى ولكنهم يرفضون إعارتها لنا إلا إذا حصلوا على نسبةٍ معينة من الإمدادات الخاصة بالمستشفى، وقال لي إن جانبًا كبيرًا من معونة الجيش لا تزال خارج حدود المدينة ولا تتوافر وسيلة لنقلها، وستتعرض للتلف بسبب الأمطار أو تذهب إلى جيوب الانتهازيين الذين يثرون على حساب معاناة الناس.

وأسِفتُ لهذه الأخبار، فمثل هذا المسلك يُضيف عناءً كبيرًا إلى ما يُعانيه شعبٌ مُني بالهزيمة، فالجشعون والانتهازيون أصبحوا الآن يحكمون المدينة، ولم يسبق لنا أن شهدنا مثل هذه الظاهرة، وأصبح أملنا الآن معقودًا على ظهور زعيمٍ شريف يهبُّ من بين هذا الركام والفساد ليعيد الأمور إلى نصابها، وتذكرتُ مثلًا صينيًّا قديمًا يقول: «إن السمكة الكبيرة لا تعيش إلا في الماء العكر.» وقد كنا جميعًا أسماكًا صغيرة تعيش في المياه النقية التي جرَت في عصور مايجي وتاشيو وشووا،٢٩ ولعلَّ مياه تاريخنا وقد أصبحَت الآن مكدَّرة توفِّر البيئة الملائمة لنمو سمكةٍ كبيرة، فقد تظهر بيننا شخصيةٌ ذات شأن تعيد بناء اليابان من جديد.

ورغم أن مثل هذه الأفكار الفلسفية لم تحل المشاكل التي واجهَت السيد ميزوجوتشي وتيسِّر له سبيل العمل فقد جعلَتني أشعر ببعض الراحة النفسية.

سمعْنا بعد تناوُل وجبة العشاء إشاعة عن احتمال توصيل الكهرباء إلى المستشفى، وأن ثمة أسلاكًا تمد، وأن المستشفى سيضاء بالكهرباء خلال أيام، وقد انطلقَت هذه الإشاعة عندما لاحظ أحد الأشخاص وجود سلكٍ أصفر يمر بطريق هاتشوبوري في اتجاه المستشفى، ثم اتضح فيما بعد أن هذه الأسلاك كانت خطًّا تليفونيًّا أقامه الجيش لاستخدامه الخاص.

أيقظني الدكتور تاماجاوا من النوم في ساعةٍ متأخرة من الليل ليبلغني أنه وجد تغييراتٍ كبيرة في جميع أعضاء الجسم في الحالات التي قام بتشريحها.

٣١ أغسطس ١٩٤٥م

جوٌّ ممطر في الصباح الباكر يتراوح بين الصفاء والأمطار بقيَّة اليوم.

كان أول ما فعلتُه هذا الصباح أن اتجهتُ إلى شرفة السطح وأحنيتُ رأسي نحو الشرق مصلِّيًا من أجل الإمبراطور، فقد رأيتُ فيما يرى النائم حلمًا أزعجني خلال الليل؛ إذ شاهدتُ جمعًا كبيرًا من الناس احتشد ليشاهد الإمبراطور وهو يعتلي ظهر البارجة ميسوري الراسية في خليج طوكيو، وكان السيد جرو سفير الولايات المتحدة يقود الإمبراطور إلى غرفة المحاكمة، ثم بدأ البحَّارة يرفعون مراسي السفينة استعدادًا للإقلاع، وما هي إلا لحظات حتى كانت السفينة قد اختفَت من الأفق، ثم تغيَّر المنظر فشاهدتُ السفينة عند الضفَّة الأخرى من نهر أوتا حيث تقع حديقة أسانو سنتاي وقد امتلأ جسر النهر بالآلاف من ضحايا القنبلة الذرية، وما كادت البارجة ميسوري ترفع مراسيها حتى ألقَى هؤلاء بأنفسهم في النهر وأخذوا يسترحمون البحَّارة ويرجونهم إبقاء الإمبراطور على أرض الوطن، بينما سبح بعضهم في اتجاه السفينة بجنونٍ محاولين منع البحَّارة من رفع مراسيها. وعند هذا الحد استيقظتُ من النوم مفزَعًا خائفًا وقد تفصَّد جسدي عرقًا، لقد كان عقلي الباطن نشطًا أثناء النوم، واجتمعَت فيه أطراف القصص التي سمعتُها عن ضحايا القنبلة في حديقة أسانو سنتاي، مع أطراف الأحاديث التي دارت حول مصير الإمبراطور والاستسلام، ولكن السفير جرو لم يتبادر إلى ذهني منذ زمنٍ بعيد، ولكنه كان يرمز بالنسبة لنا إلى الجماعة التي حاولَت أن تحول دون قيام الحرب عند بداية اندلاعها.

لم يكن الجو أقل رطوبة أو كآبة اليوم عنه في الأيام السابقة، ولكن فخذي كانت آخذة في التحسن، ربما لأنني اعتكفتُ طوال يوم أمس.

توجهتُ إلى العيادة الخارجية فوجدتُ المرضى يصطفُّون لفحْص دمائهم، وكان الدكتور هانا أوكا وطالبا الطب منهمكين في فحص العينات، ولمحتُ على المنضدة أمامهم زجاجةً تحمل بطاقة كُتِب عليها «لفحص صفائح الدم»٣٠ فسألتُ الدكتور هانا أوكا عن ذلك، فذكر لي أن الكثير من شرائح العينات تخلو تمامًا من صفائح الدم، فسألتُه عما إذا كان الدكتور كاتسوبي يواجه نفس المشكلة، فأكد لي أن جميع الحالات التي فُحِصَت كانت إما خالية من الصفائح أو تحتوي على عددٍ ضئيل منها.

وذكَّرَتني ملاحظات الدكتور هانا أوكا بالحالات التي تم تشريحها، فلعلَّ السبب في عدم تجلُّط الدم راجع إلى تناقُص صفائح الدم، فأسرعتُ بإبلاغ هذه النتيجة إلى الدكتور تاماجاوا. فرد عليَّ متعجِّبًا: «إذا كان الأمر كذلك فإننا نعرف الآن سبب عدم تجلُّط الدم بعد مرور سبع ساعات على حدوث الوفاة.» وتركتُ الدكتور تاماجاوا غارقًا في التفكير وكأن ملاحظتي قد أعطَته مفتاحًا لحل لعزٍ محير، وراح يقلِّب بعض الأعضاء التي استخرجها من بعض جثث المرضى وقد امتلأت بالبثور الدموية الحمراء وأكد لي أن نقص صفائح الدم مسئول عن ازدياد البثور إلى هذا الحد، وكانت تلك ظاهرةٌ سائدة في الحالات التي تولَّى الدكتور تاماجاوا تشريحها، وكذلك الحالة التي كان الدكتور كاتسوبي قد قام بتشريحها، ويحدد الفحص الإكلينيكي لتلك الحالات الفوارق بين درجات الإصابة ودون الحاجة إلى استخدام المجهر؛ فإن نتيجة فحص وتشريح تلك الحالات أثبتَت أن الوفاة نتجَت عن نزيفٍ داخلي ونقص في عدد صفائح الدم.

فالآنسة كوباياشي التي ماتت في السادس والعشرين من هذا الشهر نتيجة آلامٍ باطنية حادة وضيق في التنفس كانت تعاني من نزيفٍ حاد في البطن، وانتشرَت البثور داخل البطن وخارجها. أما السيدة تشودو التي ماتت في التاسع والعشرين فقد كانت تعاني نزيفًا في جدار القلب، والسيد ساكاي الذي مات في نفس اليوم نتيجة ضيق في التنفس ثبت بالتشريح وجود البثور بالقفص الصدري وتجويف البطن، أما السيد أونومي فقد مات إثر نزيفٍ حاد من الأنف والشرج، والسيد ساكي نيشي الذي مات بالأمس كان يعاني من بثورٍ كثيفة بالقفص الصدري، كما أن البثور كانت تكسو رئتَيه وجميع أحشائه، ولما كانت أُسرته قد أصرَّت على عدم استئصال مخه فلم نستطع أن نعرف ما إذا كان يعاني نزيفًا في المخ.

لقد كان النزيف سبب الوفاة في جميع الحالات التي تم فحصها، وكثافة البثور التي تُعَد بمثابة العرَض الخارجي للنزيف لا علاقة لها باتساع مصدر النزيف في الأحشاء، كما أن النزيف الداخلي كان يتفاوت من عضو إلى آخر داخل الجسد الواحد، فقد ينزف أحد هذه الأعضاء بينما لا يتأثر الآخر، وكانت أكثر الأعضاء تأثُّرًا بالنزيف الداخلي الكبد والطحال؛ ففي الحالات التي تم تشريحها كان حجم الكبد والطحال فيها أصغر من المعتاد بوجهٍ عام.

وحتى الآن كنا نعتقد أن تناقُص عدد كرات الدم البيضاء هو السمة الغالبة على مرض الإشعاع الذري، ولكننا تبينَّا الآن أنه واحد من تلك السمات التي تشمل صفائح الدم أيضًا، فاختفاء الصفائح مسئول عن النزيف، والنزيف هو السبب المباشر للوفاة.

لقد تغاضَينا عن فحص صفائح الدم لأن تقديرها كان من الصعوبة بمكان، على حين كان تقدير كرات الدم البيضاء أقل صعوبة، ونحن نعلم الآن أن جميع أعضاء الجسم المكوِّنة للدم ذات صلة بالمرض، فكرات الدم البيضاء وصفائح الدم وحتى كرات الدم الحمراء تتأثر جميعًا بالمرض، فقد اكتشفنا تغيُّراتٍ غير عادية كثيرة طرأَت عليها نتيجة المرض، ولكن هذه التغيرات قد تحدث بسبب الأنيميا الناتجة من النزيف؛ لذلك لم نكن على ثقة من ارتباطها بالمرض، أما الصلع فراجع إلى اضطراب عملية تغذية بصيلات الشعر، لقد أصبحَت الآن الصورة الباثولوجية لمرض الإشعاع تُلقي الضوء على حقيقة ذلك المرض.

تنبهتُ على صوت السيدة سائيكي العجوز وهي تقول: «يا دكتور، ماذا حدث لك لقد نسيتَ تناوُل طعام الغداء وقد أصبحَت الآن الساعة الرابعة، لا يجب أن تُهمل نفسك إلى هذا الحد فلن تُقيم السجاير أودك، إنك تؤذي صحتك بهذه الطريقة.» فأجبتُها برقَّة: «لقد اكتشفْنا أيتها الجدة بعض المسائل التي كانت تحيرنا من قبل.» فسألَتني عما إذا كنا نستطيع الآن علاج المرض، غير أني لم أحر جوابًا.

وبعد تناوُل الغداء الذي أعدَّته لي السيدة سائيكي أحضرَت لي ماءً مغليًّا فقمتُ بإعداد الماتشا لجميع رفاقي بالحجرة، وقد بدَت عليهم علامات التحسن اليوم، فتماثل الدكتور ساسادا والسيد شيوتا للشفاء، وتوقَّف الإسهال الذي كان يعاني منه السيد كادويا، وتجاوزَت السيدة سوسوكيدا والآنسة ياما مرحلة الخطر، أما زوجتي فقد زايلَتها الحمَّى وتحسنَت حالتها بشكلٍ عام، وقد قضَينا جانبًا كبيرًا من الليل مستغرقين في الضحك بسبب الطرائف التي كان يقصُّها علينا الدكتور تاماجاوا.

أول سبتمبر ١٩٤٥م

يومٌ ممطر غائم.

ابتلَّ فِراشي من المطر هذه الليلة، ولكني كنت أغطُّ في نومٍ عميق فلم أكتشف ذلك إلا في الصباح، وظهرَت عليَّ نتيجةً لذلك أعراض نزلة بردٍ حادة.

عندما استيقظتُ من النوم كانت السماء تمطر بانتظامٍ مطرًا مدرارًا، وزادت متاعبي عندما أحسستُ بالعجز عن بلوغ المرحاض الخاص الذي اعتدتُ الذهاب إليه كل صباح، وبعدما انتظرتُ وقتًا طويلًا حتى تخف حدة المطر لم أجد مفرًّا من استعارة مظلة والتوجه إلى مرحاض المستشفى، وقد راعَتني قذارة المكان والعدد الهائل من البعوض الذي كان يظلله، وأيقنتُ أن هذه المسألة لا تحتمل البقاء بلا حل وإلا تعرضنا لوباء الدوسنطاريا الأميبية. وبعد تناوُل الإفطار ذهبتُ إلى مكتب العمل على الرغم من الصداع الشديد والسعال اللذين عانيتُ منهما، وناقشتُ المسألة مع السيد سيرا والسيد كيتاءو فعلمتُ منهما أنهما حاولا حل هذه المشكلة مع مصلحة المواصلات، ولكنهما لم ينالا سوى وعدٍ ببناء مرحاضٍ صحي، ولكن هذا الوعد لم يُترجَم إلى عملٍ جاد، فطلبتُ منهما أن يقوما بصبِّ بعض المطهرات كالليزول في تلك الحفرة لمنع انتشار العدوى والقضاء على الذباب، فوافقا على ذلك ولكنهما اعتذرا لعدم وجود أي مطهرات من هذا النوع بالمستشفى، وأنهما لم يستطيعا الحصول على كميةٍ منها. وكان من الواضح أن هذَين المسكينَين يبذلان جهدًا يفوق طاقة البشر لتلبية حاجات المستشفى. وأحسستُ بالتعب فسحبتُ صندوقًا خشبيًّا وجلستُ فوقه وسألتُهما عن الأحوال بصفةٍ عامة، فذكرا لي أن الآنسة تاكامي والسيد ياماموتو قد عادا إلى العمل بعد أن شُفِيا من جراحهما، وأنهما حصلا على كمية من أسلاك الكهرباء، وأن عمال إدارة الكهرباء أبلغاهما أنه سيتم توصيل الكهرباء إلى المستشفى قبل نهاية هذا اليوم، فسعدتُ لهذا النبأ، لأن الإنارة الكهربائية ضرورةٌ ملحَّة بالنسبة لنا. وتبادلتُ معهما أطراف الحديث لحظة، وقبل أن أغادر مكتب العمل جاءتني رسالةٌ مفادها أن الدكتور تسوزوكي الذي ينتمي إلى قسم الجراحة بالجامعة الإمبراطورية بطوكيو سيزورنا في الثالث من سبتمبر لمناقشة المشاكل المترتبة على إصابات الإشعاع الذري.

زاد عدد العاملين بالمستشفى هذا الصباح بانضمام طبيبَين من أطباء هيروشيما إلينا على سبيل التطوع، وكان أحدهما هو الدكتور ناجاياما الذي كان يُزاول المهنة في ضاحية هاكوشيما القريبة من هيروشيما، أما الآخر فهو الدكتور إيتا أوكو الذي كان يدير عيادةً بأحد أحياء المدينة، وكلاهما في مطلع العقد الخامس من عمره، وكانا قد أُصيبا بالحروق ثم شُفِيا فرحبنا بهما.

وعندما حان موعد الغداء لم أشعر بالرغبة في الطعام، فأويتُ إلى فِراشي بعد ارتشاف الماتشا وقد جعلني مذاق الشاي المر ودفؤه أُحس ببعض التحسن.

زارني بعد ظُهر اليوم ممثِّل للجمعية الطبية بأوساكا يُدعى الدكتور هوري، وقد استاء لِما أصاب هيروشيما من دمار، ولاحظ أن حجم الدمار يفوق ما كان يتصوره وما ورد بالتقارير الرسمية التي أُبلغَت إليه قبل مغادرته أوساكا. وبعد أن أبدى أسفه لِما حدث سألني عما فعلناه لمواجهة ما ترتب على الحادث من مشاكل طبية، فأجبتُه قائلًا: «يجب أن تعلم أن ٧٢ طبيبًا من بين ١٩٠ طبيبًا كانوا موجودين بهيروشيما يوم البيكا قد قُتِلوا أو فُقِدوا، ومن ثَم تستطيع أن تستنتج ما كانت عليه حال الخدمة الطبية في المدينة بعد الحادث، ولكني أستطيع أن أخبرك بالوضع بالنسبة لمستشفانا، فبفضل شجاعة وجهود هيئة المستشفى وموظفي المصلحة الذين كانت إصاباتهم طفيفة استطعنا مواجهة الموقف، فقد تصدوا لخدمة المرضى الذين كانوا يتدفقون على المستشفى، وزاد من صعوبة مهمتهم اندلاع النار في مبنى المستشفى ومبنى المصلحة المجاور له.» فسألني الدكتور هوري عما فعلناه بالمرضى الموجودين بالمستشفى عند سقوط القنبلة، فأجبتُه بأنه لم يكن لدَينا مرضى بالقسم الداخلي لأننا قمْنا بإخلاء المستشفى خلال الأسبوع الأول من يونيو ونقلْنا المرضى إلى مكانٍ أكثر أمنًا لضمان سلامتهم، حتى تصبح المستشفى خالية لمواجهة الطوارئ في حالة وقوع كارثة.

فسألني الدكتور هوري عن دواعي إقدامي على إخلاء المستشفى فقلتُ له: «ربما لم تكن الدواعي التي دفعَتني إلى إخلاء المستشفى بذات بال، ولكن الشك ساورني عندما لاحظتُ أن الجيش قام بإخلاء المدرسة العسكرية المجاورة للمصلحة ونقَل طلابها إلى منطقة المرتفعات المجاورة للمدينة، كما أن الجيش أخذ ينقل مخازنه ومستودعاته التي تقع جنوبي المدينة، هذا بالإضافة إلى تعدُّد الغارات الجوية على المدينة وترحيل الجنود خارجها، وترْك عدد محدود منهم بالثكنات، غير أن هؤلاء كانوا بلا حيلة فاستنتجتُ من ذلك كله أن الجيش يفكر في الجلاء عن المدينة في حالة تعرُّضها للهجوم، كما أن ثمة شيئًا آخر دفعني إلى اتخاذ قرار إخلاء المستشفى، فعندما كانت مدننا الكبرى تتعرض لقصفٍ شديد، ردَّدَت الصحف بيانات تقول إن الخسائر المترتبة على هذا القصف محدودة، ودفعني ذلك إلى القلق على مصير مدينتا، كما أن هذا المستشفى يتمتع بموقعٍ لا يُحسَد عليه؛ إذ تحيط به المنشآت العسكرية من كل جانب، وفي حالة تعرُّض المدينة للقصف قد يصاب المستشفى بطريق الخطأ بدلًا من القيادة العسكرية، ولم تكن هناك استعدادات كافية للدفاع المدني، ألا تعتقد أن هذه كلها مبررات كافية لاتخاذ قرار الإخلاء؟ لقد طلبتُ أيضًا من مرضى العيادة الخارجية أن يغادروا المدينة إذا استطاعوا، وعندما سقطَت القنبلة الذرية كان المستشفى خاليًا إلا من بعض الحراس المدنيين الذين استخدموا الطابق الثاني من المستشفى كمأوى لهم.» ثم سألني الدكتور هوري عن الجراح التي تبدو في وجهي فقصصتُ عليه قصة تلك الجروح، وأجبتُ عن أسئلته التي دارات حول ظروف الإصابة، وقد راقني الحديث إليه؛ فهو رجلٌ هادئ الطبع ذكي متعاطف معنا، فشعرتُ بالارتياح لهذه الزيارة.

قبَيل المساء بدأتُ أتفقد عنابر المرضى، والْتقيتُ في الممر الذي يقع بين قسم الأشعة وحجرة الفرَّاشين بالسيد كيتاءو والسيد يامازاكي وبعض الممرضات وهم يلاعبون ابنة السيدة تشودو التي تُوفيَت، وعلمتُ أنهم سيرسلون الطفلة إلى دار حضانة في أوجينا لأن السيدة فوجي التي تبنَّت الطفلة لا يتوافر لديها الحليب الكافي لإطعامها، وقد ثبَّت السيد يامازاكي صندوقًا فوق دراجته ليحمل فيه الطفلة إلى دار الحضانة، فلم أتمالك نفسي من الانفجار في البكاء؛ فإن حال هذه الطفلة اليتيمة التي مات والداها بعد معاناة الألم ذكَّرني بظروف وفاة أمها، ولكني شعرتُ بالطمأنينة لأن هذه الطفلة تتمتع بحب الناس، ولأنها قد تجد الراحة في الدار التي ستأويها.

بعد تناوُل طعام العشاء، جلسنا حول المائدة وتجاذبنا أطراف الحديث، وكانت إشاعة نفي الإمبراطور هي الموضوع الرئيسي لحديثنا، حتى بدأ رفاقي ينصرفون الواحد تلو الآخر إلى حجرة النوم وتركوني وحدي في حجرة الطعام، ولما لم أجد من أتحدث إليه أويتُ إلى فِراشي، ولكني لم أستطع النوم؛ لأن الفِراش كان لا يزال رطبًا، كما أن مشكلة طفلة السيدة تشودو سيطرَت على تفكيري، وجرَّني التفكير في أمر هذه الطفلة إلى تذكُّر اليتامى الذين خلَّفهم حادث القنبلة، لقد كان بالمستشفى طفلة في الثامنة من عمرها فقدَت جميع أقاربها كما ماتت جدتها التي كانت آخر من بقي على قيد الحياة من أسرتها، وصبي في الثالثة عشرة من عمره مع أخته التي تبلغ الثامنة من عمرها، جاءا إلى المستشفى ليبحثا عن والدَيهما فعثرا على أمهما وشقيقهما الأكبر، ولكنهما ماتا بعد ذلك وتركا هذَين الطفلَين وحدهما في هذا العالم، وقد تبنَّى السيد ميزوجوتشي أولئك الأطفال المهذبين الأذكياء الذين أصبحوا موضع اهتمام كل فرد في المستشفى، وجرَّني التفكير في هؤلاء اليتامى إلى تذكُّر ولدي وأمي التي تتولى رعايته وزاد إحساسي بالوحدة والحزن، ولم يطرق النوم جفوني إلا في ساعةٍ متأخرة من الليل.

٢ سبتمبر ١٩٤٥م

زخَّات مطر.

كان المستشفى هادئًا هذا الصباح، وقضيتُ وقتًا طويلًا مستلقيًا على فِراشي محملقًا في الأفق عبر النوافذ المحطمة في قوس قزح الذي ارتسم في السماء إيذانًا بسقوط زخَّات المطر، وقطعَت السيدة سائيكي العجوز خلوتي حين جاءت إلى الحجرة تناديني قائلة: «ماذا حدث لك يا دكتور، طعام الإفطار جاهز، وما زلتَ راقدًا في الفِراش حتى الآن!»

تمطَّيتُ وتثاءبتُ ثم نهضتُ من الفِراش في إثر السيدة سائيكي العجوز في الطريق إلى حجرة الطعام، حاولتُ أن آكل ولكن الطعام كان لا طعم له بالنسبة لي، فأعددتُ كوبًا من الماتشا ولكنه كان عديم الطعم، فلم أستسغ طعامًا أو شرابًا، وكلما حاولتُ أن أتناول شيئًا عافته نفسي، فتجرعتُ دواء للمعدة وتحاملتُ على نفسي حتى عُدتُ إلى حجرتي لأرقد من جديد، كان أنفي مزكومًا وأحسستُ بثقلٍ في رأسي، فقد أصابتني نزلة بردٍ حادة، ولكني لم أكن أستطيع الرقاد حتى أبلَّ من المرض، فغادرتُ الفِراش قاصدًا مبنى المصلحة. كان كل شيءٍ هادئًا هناك كما هو الحال في المستشفى، وحين سألتُ عن سر ذلك الهدوء قيل لي إن اليوم هو الأحد، حتى الآن كانت الأيام بالنسبة لي لا معنى لها، وكان هذا اليوم عندي أول يوم منذ وقع البيكا يترك أثرًا في نفسي دون غيره من أيام الأسبوع، لقد أصبح يوم الأحد منذ الآن يوم الراحة بالنسبة للعاملين بالمستشفى، غير أني لم أسترح له؛ فقد اعتدتُ على الجلبة والضوضاء اللذين عاشهما المستشفى، وهذا السكون المطبق يجعلني أشعر بالانقباض.

كان السيد أوشيو رئيس الشئون العامة يجلس وحيدًا في حجرته وقد بدا أكثر تقدُّمًا في السن أكثر من ذي قبل، ولم يكن مكتبه أحسن منه حالًا، فقد كان يشغل حجرةً أنيقة جميلة قبل البيكا، ولكنه الآن يقيم في حجرةٍ كئيبة اكتسَت جدرانها بالهباب تشبه تمامًا غرفة المطبخ في منزلٍ حقير، لقد كان رجلًا عجوزًا أصابته الحروق يشغل حجرةً تحمل آثار الحريق. وحاولتُ أن أشيع جوًّا من البشر رغم الأفكار التي جالت برأسي، فامتدحتُ علامات الصحة التي ادعيتُ وجودها على وجه السيد أوشيو، وقلتُ له إنه محظوظ لأن مكتبه لم يُدمَّر تمامًا كما دُمرَت بقيَّة حجرات المصلحة، فردَّ على عباراتي هذه بقوله: «كيف لا أكون محظوظًا وأنا أنام في فِراشٍ جافٍّ فكما ترى أضع فِراشي بجوار الحائط المقابل للنافذة حتى أتفادى مياه المطر، لماذا لا تنقل فِراشك إلى هنا فكم يسعدني أن تكون معي؟»

فشكرتُه ووعدتُه بأن أنتقل إلى غرفته إذا لم يتوقف المطر، وتحدثْنا قليلًا ثم عُدتُ إلى المستشفى.

وجدتُ الدكتور تاماجاوا جالسًا في حجرة الطعام يعد بعض الملاحظات حول نتائج التشريح، ونظر إليَّ من فوق نظارته قائلًا: «يوافق غدًا عيد ميلادي كما يوافق موعد محاضرة الدكتور تسوزوكي.» ثم عاد إلى الانشغال بمذكراته دون أن يزيد شيئًا، فعُدتُ إلى حجرتي حتى لا أعطله عن العمل حيث كان الدكتور ساسادا والسيد شيوتا يتحدثان عن الطقس، وعلمتُ أن السيد ميزوجوتشي قد دبَّر مسكنًا في سينو ليقيم فيه الدكتور ساسادا، وأن الدكتور ساسادا يعتزم مغادرة المستشفى من جديدٍ عندما يتوقف المطر عن الهطول، كما أن السيد شيوتا يتأهب لمغادرة المستشفى بدَوره، ففكرتُ في مغادرة المستشفى أيضًا، ولكن يقيني أن مكاني هنا جعلني أطرد هذه الفكرة من رأسي.

٣ سبتمبر ١٩٤٥م

زخَّات مطر.

لم تلُح في الأفق علامات توقف المطر؛ ولذلك خيم على المستشفى جوٌّ من الكآبة، فقد أصبح كل شيء مبتلًّا، وكنا جميعًا نرتجف حتى العظام، ونُضحَت حوائط المبنى بالمياه وابتلَّت ثيابنا وفِراشنا وأخذَت رائحة العطن تفوح من كل شيء، وبالأمس قام السيد إيماتشي والسيد يامازاكي بإقامة حمامٍ خاص للعاملين بالمستشفى قرب مدخل المطبخ وقد استخدما في إقامته أنبوبًا حديديًّا قديمًا وبعض الصخور وصفائح الزنك، وباستطاعتنا أن ننعم الآن بحمامٍ ساخن يجعلنا نتمتع براحة الأعصاب والذهن إذا توفرَت لدَينا الأخشاب الجافة، لأن معظمنا لم يغتسل منذ وقع البيكا، فإذا استطعنا أن نغتسل كل يوم وننعم بدفء الحمام فإن ذلك سيعيننا على تحمُّل متاعب المطر.

أثناء عودتي من المرحاض هذا الصباح لمحتُ كلبًا هزيلًا كئيب المنظر يسير فيما بين مبنى المصلحة وسور المستشفى وقد أمسك في فمه شيئًا عثر عليه، اكتشفتُ أنه بعض الخضروات التي ربما يكون قد عثر عليها بالقرب من مطبخ المستشفى، يا له من منظرٍ يدعو إلى الأسى! لقد أصبحَت الكلاب في هيروشيما نباتية، وكان معظم شعر الكلب قد تساقط فاستنتجتُ أنه يعاني من مرض الإشعاع الذري أيضًا. لقد كان هذا الكلب بمنظره الكئيب يرمز إلى ما أصاب المدينة بعد سقوط القنبلة.

ذهبتُ إلى حجرة الطعام مبكرًا لتناوُل الإفطار والتمتع بالحديث مع السيدة سائيكي، فقد كان تفاؤلها وانشرح صدرها يبعثان القوة في نفسي.

لما كان الدكتور تسوزوكي يعتزم إلقاء محاضرة حول مرض الإشعاع الذري بعد ظهر اليوم؛ فقد ذهبتُ إلى عنابر المرضى بعد الإفطار وقضيتُ معظم الوقت في مراجعة بطاقاتنا واستطلاع أحوال المرضى وكتابة بعض الملاحظات حتى أكون على استعداد للتعقيب على محاضرته إذا سنحَت الفرصة، فوجدتُ أن هناك بعض المرضى الجدد الذين أُدخِلوا إلى المستشفى ممن يعانون البثور ولكنهم يختلفون عن المرضى الآخرين لأنهم يصرون على أن حالتهم كانت طبيعية بعد سقوط القنبلة، ولم يشعروا بأعراض المرض إلا منذ ثلاثة أو أربعة أيام، وكان بعضهم قد بدأ يفقد شعره.

بعد تناوُل الغداء قصدتُ خرائب بنك جي إيبي في ياماجوتشي بصحبة طالبَي الطب وأطباء المستشفى سيرًا على الأقدام لنستمع إلى المحاضرة التي يُلقيها الأستاذ الدكتور تسوزوكي، وكان قد انقضى وقتٌ طويل منذ تجولتُ آخر مرة في المدينة المدمَّرة المخربة، فتأثرتُ كثيرًا عندما رأيتُ أكواخًا أُقيمَت وسط الحطام هنا وهناك، ومعظم هذه المنازل كانت مُقامة من عروق الخشب وألواح الصاج.

وبعد قليلٍ بلغْنا المبنى الخرساني الذي يشغله بنك جي إيبي على خط الترام بالقرب من إيناري باشي، وكان من المقرَّر أن تُلقَى المحاضرة بإحدى حجرات الدور الثاني التي كانت نوافذها تطل على خرائب هيروشيما من جهة الخليج، ولاحت في الأفق جزيرة نينوشيما بوضوحٍ تام كما لو كانت تقع على الجانب المقابل لمبنى البنك، وبدَت أحياء أوجينا وإيبا واضحة للعيان صوب الجنوب وكأنها تقع على بعد خطوات من مبنى البنك، فشدَّني منظر مدينة هيروشيما المحطمة وقد بدَت صغيرة المساحة وكأنها إحدى القرى الصغيرة التي يسكنها الصيادون، وكأنها لم تكن يومًا ما تلك المدينة الكبيرة التي تطل على خليج هيروشيما.

أدهشني أن أجد عدد الحاضرين محدودًا، ويبدو أن ظروف المطر منعَت الناس من الحضور للاستماع إلى المحاضرة، وإن كانت قِلة عدد الحاضرين ترجع إلى تناقُص عدد الأطباء في مدينة هيروشيما، وكان بين الحاضرين بعض الأصدقاء القُدامى فتبادلْنا التهنئة بالبقاء على قيد الحياة.

جاء الدكتور كيتاجيما رئيس الإدارة الطبية بصحبة الأستاذ تسوزوكي ومعهما الدكتور مياكي أستاذ الباثولوجي وآخرون لم أكن أعرفهم من قبل، وبعد مقدَّمةٍ قصيرة بدأ الدكتور تسوزوكي أستاذ الجراحة بجامعة طوكيو الإمبراطورية في إلقاء محاضرته، فبدأ بمناقشة النظريات التي تكمن وراء تطوُّر القنبلة الذرية، ثم تحدَّث عن مدى القوة التي تنجم عن تفجيرها، وانتقل إلى الأثر الذي تركَته قنبلة هيروشيما، والإصابات التي نجمَت عن ارتفاع درجة الحرارة بعد التفجير، وآثار الإشعاع، ثم ناقش أخيرًا موضوع امتصاص الإشعاعات.

وبعد أن انتهى الدكتور تسوزوكي من إلقاء محاضرته قام الدكتور مياكي بإلقاء محاضرةٍ حول النتائج التشريحية التي ترتَّبَت على فحص جثث مرضى الاشعاع الذري، ولم يخرج ما ذكره عما توصلْنا إليه في مستشفانا، وقد ضايقني بعض الشيء لسبقه في إعلان هذه النتائج قبلنا، غير أني شعرتُ بالإشفاق عليه لأنه واجه نفس المتاعب التي واجهْنا، وقد استمتعتُ بصفةٍ خاصة بحديثه عن تأثير الإشعاع في الدم، فقد كانت لدَينا الكثير من التساؤلات حول هذا الموضوع، وبذلك جاءت خلاصة أفكار المُحاضر مطابقةً تمامًا لما توصلنا إليه في المستشفى ومؤكدة له.

وأثناء عودتنا إلى المستشفى فكرتُ في ضرورة تلخيص وتنظيم النتائج التي توصلنا إليها، فقد كان الدكتور تاماجاوا منهمكًا في أبحاثه الباثولوجية، ولم أشأ أن أخذله بالتوقف عن الأبحاث الإكلينيكية، وعندما عُدتُ إلى حجرتي جمعتُ ملاحظاتي وحاولتُ ترتيبها، وكلما بذلتُ الكثير من الجهد كلما بدَت المهمة صعبة، وأخيرًا عدلتُ عن محاولتي بعدما تملكني اليأس، ولعلِّي أستطيع مواصلة العمل بصورةٍ أحسن إذا اكتفيتُ بتحليل الإحصاءات وتلخيص ما توصلنا إليه من استنتاجات بدلًا من محاولة ترتيب ملاحظاتي المبعثرة المختلطة ببعضها البعض.

بعد تناوُل العشاء قصصتُ على الدكتور ساسادا والسيد شيوتا ما سمعْناه بعد ظهر اليوم، وكان الدكتور ساسادا يريد مغادرة المستشفى بفارغ الصبر، وضايقه استمرار هطول الأمطار الذي حال بينه وبين الرحيل إلى سنيو.

تحسَّنَت حالة زوجتي هذا المساء، وقد سُررتُ عندما سمعتُها تمزح مع بعض المرضى الآخرين؛ ولذلك طلبتُ من الآنسة كادو أن تتوقف عن حقنها بالتريونون على أن تقوم بمراقبة حالتها بضعة أيام.

٤ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم ممطر.

أنفقتُ معظم فترة الصباح في ترتيب أوراقي وتجميع البيانات الإحصائية الضرورية لكتابة تقريرٍ يتضمن ما توصلنا إليه من نتائج، ثم عاد إليَّ الارتباك مرةً أخرى، وفقدتُ المثابرة على العمل فأهملتُه، وإن كنت على ثقةٍ أن ما توصلنا إليه من معلومات نتيجة متابعتنا لأحوال المرضى كفيل بكتابة تقرير يفوق كل ما كتب عن الظروف التي واجهَتها المدينة؛ فإن الباحثين الذين أتَوا من خارج المدينة لم يمكثوا فيها إلا وقتًا قصيرًا، فلم تُتَح لهم فرصة الاطلاع على حقيقة الأوضاع ومتابعة حالات المرضى مثلما أُتيحَت لأولئك الذين أقاموا طوال الوقت في المدينة، غير أني لم أستطع حتى الآن أن أبدأ في كتابة التقرير، فاسترحتُ قليلًا لارتشاف بعض أكواب الشاي وتدخين السجاير.

وحين عُدتُ بعد تناوُل طعام الغداء إلى مكتبي لمتابعة العمل في إعداد التقرير، حضر فجأةً ضيف لم أكن أتوقع قدومه ولكني رحبتُ بمقدمه، هو السيد هاشي موتو، وكان الرجل قد تطوع لمساعدتنا بضعة أيام بعد حدوث البيكا، وأسعفني عندما جئتُ إلى المستشفى مصابًا، كما قام بمساعدة الدكتور كاتسوبي عندما أجرى لي العملية الجراحية.

وعندما سقطَت القنبلة كان السيد هاشي موتو داخل عربة من عربات الترام التي تعمل على خطوط الضواحي، وكانت تلك العربة قد غادرَت للتو محطة إيتسوكايتشي٣١ في الطريق إلى هيروشيما، ولما كان التيار الكهربائي قد قُطِع فور سقوط القنبلة، فقد اضطُر السيد هاشي موتو أن يسير على الأقدام حتى محطة كوئي، ومن هناك وصل إلى هيروشيما متتبعًا خط الترام، وما كاد يصل إلى المستشفى حتى تحولَت المدينة إلى ألسنة من اللهب، وكُلِّف بمعاونة الدكتور كاتسوبي والممرضات في تنظيف غرفة العمليات، ثم أُسندَت إليه مهمة جمع الأخشاب لاستخدامها في غلي الماء اللازم لتطهير أدوات الجراحة.

وما كدتُ أراه حتى بادلتُه التحية بحرارة وقلتُ له: «إنني مدين لك بالكثير يا سيد هاشي موتو، فلولا معاونتك لما استطاع الكثير هنا البقاء على قيد الحياة.»

فتقبَّل كلماتي بتواضُعٍ جم، وحاول أن يهون من قيمة ما أداه لنا من خدمات، وعلمتُ منه أن أحدًا لم يكن يتوقع لي النجاة، وأنه يعزى الفضل في بقائي على قيد الحياة إلى العناية الفائقة التي أولاني إياها الأطباء والممرضات. ويبدو أن هذا الحديث قد أوقع السيد هاشي موتو في الحرج فحاولتُ أن أغير الموضع بسؤاله عن التجربة التي مر بها عندما سقطَت القنبلة.

فأجاب بعد أن أطرق مليًّا: «لقد كانت تجربةً مهولة، كانت عربة الترام قد غادرَت لتوها محطة إيتسوكايتشي، وكانت تسير بمحاذاة مستشفى مياكي للجراحة عندما سمعتُ دويًّا هائلًا (دُن)، وتوقفَت عربة الترام فجأةً، وقفز كل من فيها وعدَوا نحو المحطة، فخشيتُ أن تكون المحطة أكثر تعرضًا للخطر فعدَوتُ نحو الطريق العام، عندئذٍ رأيتُ سحابةً ضحمة ترتفع فوق هيروشيما، وعلى جانبَي تلك السحابة الكئيبة كانت تتناثر سحابات صغيرة جميلة تبدو وكأنها شاشات ذهبية.

وكانت الساعة العاشرة صباحًا عندما وصلتُ إلى كوئي، وبلغتُ يوكوجاوا نحو الظهر، وكان كل شيء قد احترق فيما بين يوكوجاوا وهيروشيما وبدأ يتساقط مطرٌ غزير، فاحتمَيتُ بأحد المنازل التي لم يدركها الحريق حيث كانت هناك سيدة عجوز تصرخ منادية ابنتها التي خرجَت من الدار ولم تعد، ويبدو أنها كانت ملتحقة بإحدى فِرق العمل، وعندما وصلتُ إلى جسر ميساسا الذي يعبُره الخط الحديدي كانت قوائم الجسر تحترق، وعند نقطة الحراسة الأولى شاهدتُ رجلًا ميتًا وكثيرًا من الناس يجلسون داخل صهاريج المياه يلتقطون أنفاسهم بصعوبة، يا له من منظرٍ مفرغ! وكانت الساعة الرابعة بعد الظهر عندما وصلتُ إلى مبنى المصلحة، وما كدتُ أصِل إلى المصلحة حتى كان حذائي قد بَلِي نتيجة سخونة الأسفلت وذوبانه.

ولا أكاد أذكر عدد القنابل التي أُلقيَت على المدينة، ولكني أتذكر جيدًا أنني شاهدتُ مظلَّتَين تهبطان من السماء، وكان هناك نحو عشرين أو ثلاثين جنديًّا يرقبونها معي وهم يصفقون فرِحين وقد ظنوا أن الطائرة ب-٢٩ قد أُصبَيت وأن طياريها يحاولون النجاة.»

واستمر السيد هاشي موتو يقص أطرافًا من تجربته خلال الأيام الأولى التي تلت القصف، ثم استأذن في الانصراف. وبعد أن تركني حاولتُ أن أتصور في ذهني السماء الجميلة التي تزينها السحب الذهبية التي وصفها، فعندما كان يُبدي إعجابه بمنظر السماء، كنا نحن نحاول النجاة من الموت تحت أنقاض بيوتنا التي كانت تتداعى، كما كنا نسير على غير هدًى في شوارع المدينة التي لفَّها الظلام. لقد كانت رؤية الناس للبيكا داخل المدينة تختلف تمامًا عن رؤية غيرهم له خارجها، فبدَت السماء لمن كانوا داخل المدينة مكسوة بسحابٍ أسود داكنٍ جعل الناس يتلمسون طريقهم بصعوبة، أما من كانوا خارج المدينة فقد شاهدوا سماءً ذهبية اللون جميلة المنظر، وإن كانوا قد سمعوا صوت انفجارٍ رهيب.

لقد أعجبني في رواية السيد هاشي موتو دقة ملاحظته، فقد وصف السحابة بأنها كانت كبيرةً سوداء اللون متعددة الطبقات تتفتح مثل نبات عشِّ الغراب، ولكني لم أسمع من قبلُ أنه كان يحيط بتلك السحابة سحابات أخرى تختلف عنها في اللون. لقد سمعتُ عرضًا من أولئك الذين كانوا يقيمون خارج هيروشيما مثل سكان فوتشو وفورويتشي٣٢ أن السماء كانت جميلة، ولكني تبينتُ الآن سر جمال السماء يوم ذاك، فهذا الجمال الذي بدا لمن راقبوا المشهد من الخارج كان يُخفي تحته الدمار للمدينة العظيمة والموت لسكانها.

٥ سبتمبر ١٩٤٥م

جوٌّ غائم في بداية اليوم ثم ما لبثَت الغيوم أن انقشعَت وأصبح السماء صحوًا.

مر اليوم العاشر بعد المائتين الذي يحدد بداية موسم التيفون٣٣ دون أن يحدث ما يكدِّر الصفو، ربما كان المطر يعوق هبوب العواصف، ولكن الرياح بدأَت تهب بقوةٍ محدثة ضوضاء شديدة؛ لذلك كان نومي متقطعًا ليلة الأمس بسبب زئير الرياح، وحلمتُ أن شيئًا ما يطاردني، ولكن عندما استيقظتُ في الصباح كنت خالي الذهن تمامًا.

تناولتُ طعام الإفطار مع كوبٍ مركَّز من الماتشا، وسمعتُ أن بعض الصحف اليومية قد وصلَت إلى المصلحة، فذهبتُ إلى هناك لعلِّي أقرأ شيئًا عن الاستسلام، ولكن خاب ظني عندما علمتُ أن الصحف لم تصِل بعد، كما أن السيد أوشيو لم يسمع شيئًا سوى أن الاستسلام غير المشروط كان موضع قبول هيئة الأركان ووزير الخارجية، وعلمتُ أن ما قمنا به من جهود منذ البيكا قد أُبلِغ إلى وزارة المواصلات في تقريرٍ شامل، فسعدتُ لسماع ذلك النبأ وتمنيتُ أن تكافئ الوزارة العاملين معي على ما بذلوا من جهد.

عُدتُ إلى حجرتي وقضيتُ بقية فترة الصباح في كتابة بعض الملاحظات عندما زارني السيد ماتسوموتو محرر جريدة سان جيوكيزاي (الصناعة والاقتصاد).

رتبتُ النتائج الإكلينيكية التي توصلنا إليها بنفس الطريقة التي صنَّف بها الأستاذ الدكتور تسوزوكي أنواع الحالات التي عرض لها في محاضرة الأمس وهي: جروح الانفجار، وحروق بريق الضوء، ومرض الإشعاع، وكانت تنقصني المعلومات عن المرضى الأوائل الذين أُدخِلوا إلى المستشفى لأننا لم نكن نحتفظ عندئذٍ بسجلاتٍ خاصة، كما أن المرضى الذين كانوا موضع اهتمامي ماتوا جميعًا، غير أنه يتوافر لدَينا سجلات لنحو مائتي حالة أُدخلَت المستشفى فيما بعد. وقمتُ بترتيب هؤلاء وفقًا للأعراض والشواهد ونتيجة فحص الدم والمسافة بين مواقعهم عند الإصابة ومركز التفجير، وكانت محاضرة الدكتور تسوزوكي والدكتور مياكي ذات قيمة بالغة لأن معاملنا وأدواتنا كانت قد دُمرَت تمامًا، كما فقدْنا الاتصال بالعالم الخارجي، فكنا نجهل تمامًا المعلومات العلمية والفنية الضرورية لاستخلاص النتائج. وقضيتُ فترة بعد الظهر في إعداد جدولٍ كبير على مسطح من الورق حصلتُ عليه من المصلحة، ولم أتوقف عن العمل إلا للحظات ودَّعتُ فيها الدكتور ساسادا وتناولتُ وجبةً سريعة. وعند حلول المساء بدأتُ أدفع ثمن التركيز الشديد والإفراط في التدخين فالْتهب حلقي وآلمَتني معدتي، فتناولتُ بعض الغرغرة وتجرعتُ قليلًا من بيكربونات الصودا فأخذ حلقي يتحسن، وبعد أن تجشأتُ عدة مرات أحسستُ بالراحة في معدتي وأويت إلى فِراشي.

٦ سبتمبر ١٩٤٥م

سماءٌ صافية ينتشر فيها السحاب أحيانًا ثم ما يلبث أن ينقشع.

سطعَت الشمس اليوم وأصبحَت السماء زرقاء صافية والهواء نقيًّا لأول مرة منذ أسابيع، ورأينا الشمس مرةً أخرى بعد غيابٍ طويل فوضعْنا كل شيء راطب أو مبتل في الشمس مثل الفرش والملابس حتى الأعلام الملونة التي حصلنا عليها من سلاح المهندسين، فأضافت إلى المنظر لمسة من الألوان المتعددة وشيئًا من البهجة.

وحاول السيد شيوتا الاستفادة من هذا اليوم المشمس في الإعداد للرحيل، وقد رحل الدكتور ساسادا بالأمس، واعتزام السيد شيوتا الرحيل اليوم ملأني حزنًا رغم يقيني أن من مصلحتهما ترك المستشفى.

غادر السيد شيوتا المستشفى بعد الظهر وبرفقته زوجته المخلصة والآنسة ميازاكي فتركوا فراغًا في مجموعتنا الصغيرة من الصعب أن يُملأ من جديد، وبعد رحيلهم بقليلٍ تلقَّت المستشفى معونة من الجيش تتكون من جوالات السكَّر التي يزن كلٌّ منها ما بين ١٠٠ و١٥٠ كيلوجرامًا وقد جاءت هذه المعونة في وقتها فقد طال بنا الشوق إلى الحلوى، وتمنينا لو كان معنا الدكتور ساسادا والسيد شيوتا لينالا نصيبًا منها.

واصلتُ العمل في إعداد أوراقي قبَيل المساء مستعينًا بخريطة للمدينة رُسمَت عليها دوائر تقع على بعد ٥٠٠ و١٠٠٠ و١٥٠٠ و٢٠٠٠ متر من مكتب بريد هيروشيما الذي اعتُبِر مركزًا لمنطقة التفجير، ثم حاولتُ أن أحدد موقع كل مريض من المرضى الذين تتوافر لدَينا سجلات عن حالتهم ساعة الإصابة. كان هذا العمل أصعب مما كنت أتوقع، فمعلوماتنا عن المواقع كانت تقريبية، كما أن خطوط الخريطة كانت غير واضحة لدرجةٍ يصعب معها تحديد الكثير من الأماكن، وراحت عشرات الأفكار تتسابق في ذهني أثناء العمل لتحول بيني وبين التركيز على نقطةٍ واحدة لفترةٍ من الوقت، فتوقفتُ عن العمل يائسًا، وتناولتُ دواءً منومًا، وأويتُ إلى الفِراش.

كانت حالة زوجتي اليوم أحسن من ذي قبل، فقد تماثلَت للشفاء تقريبًا، كما أن الآنسة ياما والسيدة سوسوكيدا كانتا في طريقهما للتحسن، وقبل أن أغط في النوم شعرتُ بالقلق عندما تذكرتُ أن الدكتور ساسادا والسيد شيوتا قد رحلا عنا.

٧ سبتمبر ١٩٤٥م

جوٌّ غائم.

استيقظتُ من نومٍ عميق مرتاح الذهن، وأحسستُ لأول مرةٍ منذ البيكا بالقدرة على التركيز؛ ولذلك فحصتُ نحو عشر حالات قبل تناوُل الإفطار.

وبعد تناوُل الإفطار فحصتُ عشرين حالةٍ أخرى قبل أن يقطع خلوتي قدوم بعض الزائرين، ولكني واصلتُ العمل بعد انصرافهم. وقبل الظهر كنتُ قد فرغتُ من دراسة نصف ما لدَينا من حالات.

واصلتُ العمل بحماسٍ ملحوظ بعد تناوُل الغداء، وبدأَت تتضح معالم الدراسة أمامي بصورةٍ شيقة، فرتَّبتُ جداول المسافات بين مواقع الإصابة ومركز التفجير كالتالي: ٥٠٠متر فأقل، و٥٠٠–١٠٠٠ متر و١٠٠٠–٢٠٠٠ متر و٢٠٠٠ متر فأكثر. ووجدتُ سهولةً كبيرة في تحديد مواقع المرضى عند الإصابة، وعندما دُعيتُ لتناوُل العشاء كنت قد انتهيتُ من فحص ١٧٠ حالة.

لقد أصبح واضحًا أن هناك علاقةً وثيقة بين تناقُص كرات الدم البيضاء والقرب من مركز التفجير، وقد بدأتُ بإعداد هذا الجدول لأنه كان أسهل جزء في الدراسة، ثم قمتُ بعد ذلك بمقارنة العلاقة بين الأعراض والمسافة من موقع التفجير، وقسمتُ الحالات المختلفة إلى مجموعتَين: حالات الإصابات الشديدة، وحالات الإصابات البسيطة، واستفدتُ من هدوء الليل وبرودته فلبثتُ أعمل حتى الثالثة صباحًا ثم تناولت منوِّمًا وأويتُ إلى فِراشي.

٨ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم مع سقوط أمطار على فتراتٍ متقطعة.

استيقظتُ حوالي الساعة الثامنة منتعشًا مستعدًّا لمواصلة العمل، فاتضح لي بصفةٍ عامة أن أقرب المصابين إلى مركز التفجير هم أولئك الذين ظهرَت عليهم أكثر الأعراض حدة، أما أولئك الذين أُصيبوا على مسافاتٍ أبعد فقد كانت إصابتهم أقل خطورة، كما أن الأعراض التي بدَت عليهم كانت أقل منها عند غيرهم، وعلى كل حال كانت هناك استثناءات قليلة، فبعض المرضى الذين كانوا بالقرب من مركز التفجير ظهرَت عليهم أعراضٌ محدودة، وكانت كرات دمهم البيضاء تكاد تكون طبيعية. وعندما درستُ تلك الحالات كلٌّ على حدة توصلتُ إلى معرفة السبب؛ فقد كان هؤلاء المرضى يحتمون داخل مبانٍ خرسانية أو خلف أشجارٍ ضخمة أو غيرها من الحواجز القوية.

تلقيتُ اليوم بعض الصحف، كانت جميعًا تحمل مقالاتٍ حول الإصابة بالإشعاع الذري، كتب أحدَها الدكتور تسوزوكي، فوجدتُني موزعًا بين الرغبة في قراءة تلك المقالات والميل إلى الاستمرار في مواصلة دراستي الخاصة، وأخيرًا نحَّيتُ الصحف جانبًا وعُدتُ إلى مواصلة العمل.

وبعد الغداء حاولتُ أن ألخِّص نتائج بحثي في تقريرٍ قصير، ولكني اكتشفتُ أن مثل هذا العمل أصعب بكثير من جمع المادة، وبذلتُ أقصى الجهد، غير أني عجزتُ عن ترجمة أفكاري، وكنتُ لا أزال أعمل عندما حل المساء، وأخيرًا بدأ ذهني يتَّقد في وقتٍ متأخر من الليل، وأخذ قلمي يتحرك على الورق بثبات، وغدَت الكتابة بالنسبة لي أسهل من ذي قبل، فواصلتُ الكتابة مبهورًا بوضوح الأفكار وسهولة التعبير، وما كاد الليل ينتصف حتى فرغتُ من إعداد التقرير.

وظننتُ أن باستطاعتي النوم بعمقٍ هذه الليلة، ولكن ذهني كان لا يزال نشطًا فلم أستطع النوم دون أن أتناول دواءً مهدئًا.

٩ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم مع انقشاع السحب أحيانًا.

استيقظتُ في الثامنة صباحًا، وواصلتُ إعداد التقرير حتى حان موعد الإفطار، ولكن ما بدا لي رصينًا ليلة الأمس عندما كنت منهمكًا في الكتابة وجدتُه اليوم غثًّا هزيلًا. فقد انطلقتُ كالصاروخ غير أني سقطتُ كما تسقط العصا، أو مثلما يقول المثل القديم: «رأس تنين وذيل ثعبان.» فتملكني الضيق وأخذتُ أبذل الجهد لقصِّ رأس التقرير وإطالة ذيله، غير أنه كان بعيدًا عن الرصانة، ولكني استطعتُ أن أُدخل بعض التعديلات عليه حتى استقام شكله، وإن ظلَّت صورته لا تبعث الرضا في نفسي.

وعندما جاء الصحفي السيد ماتسوموتو بعد الغداء بقليلٍ لاستلام نَص التقرير طلبتُ منه أن يمهلني يومًا آخر لأرمم صدعه وأصلح من شأنه، فضحك وطلب أن يقرأ التقرير أولًا، وما إن فرغ من قراءته حتى طمأنني بقوله: «يا دكتور، إنه تقريرٌ ممتاز، وسأوليه عنايتي، ثم أُعيده لك بعد النشر.» وقبل أن ينصرف الْتقط لي صورة وأنا أحمل التقرير في يدي، ونصُّه كالتالي:

القنبلة الذرية والإشعاع الذري

ما مدى قوة القنبلة الذرية التي أحرقَت هيروشيما وأهلها، ودمَّرَت التلال، وقتلَت الأسماك في الأنهار؟ لقد كانت بريقًا أبيض نجم عنه أثرٌ مدمر. إنني واحد ممن بقوا على قيد الحياة من أهل المدينة، وصلتُ بالكاد إلى المستشفى عقب سقوط القنبلة، وقد غطَّت جسدي الدماء التي أخذَت تنزف من جروح أُصِبتُ بها نتيجة تطايُر الزجاج. كان منزلي يقع على مسافةٍ تتراوح ما بين ١٧٠٠–١٨٠٠ متر من مركز التفجير، بينما كان المستشفى يقع على مسافة ١٥٠٠–١٦٠٠ متر من ذلك المركز، وظننتُ أني ميتٌ لا محالة بعد ما لحقني من إصابات، فعقدتُ العزم على أن أموت في المستشفى. وعندما وصلتُ إلى المستشفى لم تكن النيران قد اشتعلَت بعد، وكان أول سؤال وجهتُه للناس هناك هو: «هل قُتِل أحد؟» ثم رُحتُ في غيبوبةٍ كاملة، ووضعني زملائي على محفة، وأصبحتُ منذ ذلك الحين عبئًا عليهم، ينقلونني هنا وهناك في محاولة لإنقاذي من ألسنة اللهب التي أخذَت تنتشر من حولنا. ولحُسن الحظ لم تقتل القنبلة أحدًا من العاملين بالمستشفى بسبب بُعدها عن مركز التفجير، كما أن البناء كان قويًّا متينًا، غير أن العاملين بالمستشفى أُصيبوا بجروح، ورغم إصاباتهم ناضلوا ببسالة يجمعهم شعور الأخوة الذي أمدَّهم بالقدرة على مواجهة الموقف وأدهشني هدوءهم ورباطة جأشهم رغم أن الموت كان يهددهم في كل لحظة. وأود أن أعبِّر هنا عن امتناني الشديد لهم. وكنت أتمنى خلال اللحظات الحرجة أن أحظى بالهدوء والطمأنينة اللذين رأيتُهما على وجوه الممرضات. ومنذ ذلك اليوم حتى الآن أصبحتُ أعيش في مستشفى جيد التهوية، وكان بمقدوري أن أعبِّر عن إحساس المريض والطبيب في نفس الوقت، وحاولتُ أن أدرس التغيرات التي تطرأ على حالات مرضانا أولًا بأول.

لقد كان انفجار القنبلة حادثًا عرضيًّا وقع في لحظةٍ محددة، ولكنه غيَّر مجرى حياة مواطني هيروشيما، فلقي من كانوا بالقرب من مركز التفجير حتفهم، أما أولئك الذين كانوا على مسافةٍ بعيدة عن مركز التفجير فأخذوا يتماثلون للشفاء. لقد مر شهر على الحادث عالجنا خلاله ودرسنا حالات نحو خمسة آلاف مريض، ولا زلنا نواصل العمل. ويمكنني أن ألخص النتائج التي توصلنا إليها في الوقت الحاضر على النحو التالي:
  • (١)

    أولئك الذين كانوا على بعد ٥٠٠ متر من مركز التفجير خارج بيوتهم ماتوا في الحال أو لفظوا أنفاسهم الأخيرة بعد أربعة أو خمسة أيام.

  • (٢)

    بعض من كانوا داخل مبانٍ تقع على بعد نحو ٥٠٠ متر من مركز التفجير نجوا من الموت حرقًا نتيجة احتمائهم بتلك المباني، غير أن الكثيرين منهم ظهرَت عليهم أعراض ما يسمَّى ﺑ «مرض الإشعاع الذري» في فترةٍ تراوحَت ما بين يومَين إلى خمسة عشر يومًا من تاريخ الحادث، وما لبثوا أن ماتوا. وأعراض هذا المرض هي: الإعياء، والقيء، والبثور، والإسهال الدموي.

  • (٣)

    أولئك الذين أُصيبوا في مناطق تقع على بعد ٥٠٠–١٠٠٠ متر ظهرَت عليهم أعراضٌ شبيهة بتلك التي ظهرَت على من أُصيبوا بالإشعاع الذري في حدود دائرة اﻟ ٥٠٠ متر، ولكن أعراض هذا المرض ظهرَت عليهم متأخرة وبشكلٍ أقل حدَّة، غير أن معدَّل الوفاة بين هذه المجموعة كان عاليًا.

  • (٤)

    قمتُ بدراسة مواقع الإصابة بالنسبة لمرضى القسم الداخلي وعددٍ كبير من مرضى العيادة الخارجية، فاتضح لي أن معظمهم قد أُصيب على مسافةٍ تتراوح ما بين ١٠٠٠–٣٠٠٠ متر من مركز التفجير، وبين هذه المجموعة كانت الأعراض التي ظهرَت على من يقتربون من مركز التفجير أكثر حدَّة من غيرهم، وقد مات بعضهم، غير أن حالة معظمهم تميل إلى الثبات أو التحسن.

  • (٥)

    عانى عددٌ كبير من المرضى من سقوط الشعر بعد أسبوعين من وقوع الانفجار، وبعض هؤلاء المرضى كانت حالتهم معقولة، أما بعضهم الآخر فكانت أحوالهم سيئة.

  • (٦)

    تمثَّلَت نتائج الفحص الإكلينيكي لمرضى الإشعاع الذري في تناقُص عدد كرات الدم البيضاء، كما أثبت الفحص الباثولوجي وجود تغيراتٍ كبيرة في مكونات الدم وخاصة نخاع العظام، وقد مات كل مَن أُصيب إصاباتٍ بالغة خلال الشهر الماضي، أما المرضى الذين يعانون من نقصٍ في كرات الدم البيضاء وظلوا على قيد الحياة حتى الآن، فلم يطرأ تغييرٌ ملحوظ على حالتهم، ويميل بعضهم إلى التحسن.

وقد علمْنا مؤخرًا أن الصحف ومحطات الإذاعة الأمريكية قد تناولَت الآثار التي تترتَّب على القصف الذري، غير أننا لا نستطيع الوقوف على هذه المعلومات لعدم وجود جهاز راديو لدَينا، كما أن الصحف لا تصل إلى هيروشيما. وقد انزعج الناس في بداية الأمر عندما علموا أن المنطقة التي تُصاب بالقنبلة الذرية لا تصلح مكانًا للسكنى لمدة ٧٥ عامًا، وبسبب تلك الإشاعة يتردد الناس المقيمون على أطراف المدينة في دخولها والعيش فيها؛ ولذلك فإن مبنى المستشفى ومصلحة المواصلات يقفان وحدهما وسط الدمار الذي حل بالمدينة، كما أننا نفتقر إلى المعونة الخارجية، وحتى نستطيع مواجهة تلك الإشاعة قمنا عند نهاية شهر أغسطس بإجراء فحوصٍ طبية على الأفراد القلائل الذين قدموا من الضواحي إلى المدينة بعد حادث القنبلة، ولم نكتشف وجود ظواهر غير عادية في هذه الحالات، فقد كان عدد كرات دمهم البيضاء في حدود المعدَّل الطبيعي أي من ٥٠٠٠–٧٠٠٠ خلية، كما أننا فحصْنا بعض الأفراد الذين كانوا بالقرب من مركز التفجير، مثل الأشخاص الذين كانوا في بدروم مكتب التليفونات، والأشخاص الذين كانوا يحتمون داخل مخابئ الوقاية من الغارات الجوية، وكذلك بعض الأفراد الذين كانوا يحتمون داخل آلياتٍ حصينة، وكانوا جميعًا يتمتعون بقدرٍ طبيعي من كرات الدم البيضاء وحالتهم الصحية طبيعية، وقد دفعَتنا هذه النتائج إلى الاعتقاد بأن جو هيروشيما لم يصبح مسمومًا أو ملوثًا بعد حادث القنبلة الذرية.

وأعلنَّا نتائج هذه الدراسة على جميع العاملين بمصلحة المواصلات لتشجيعهم على العودة إلى أعمالهم دون الخوف من احتمال الإصابة بأضرارٍ صحية، وقد زار الأستاذ تسوزوكي ومجموعة من خبراء طوكيو مدينة هيروشيما وبعد أن درسوا الوضع وصلوا إلى نتائج شبيهة بما توصلْنا إليه، واستنكروا الإشاعة التي تقول إن هيروشيما لن تصلح للسكن خلال الخمسة والسبعين عامًا التالية.

كما أن جميع العاملين بالمستشفى دون استثناء قد لحقهم قدر من الإصابات، ورغم ذلك ظلوا بالمدينة واستمروا في متابعة عملهم بالمستشفى الذي لا يبعد كثيرًا عن مركز التفجير، وانقضى شهرٌ كامل على قيامهم بالعمل، وعدم حدوث مضاعفات لنا دليل على أن هذه الإشاعة لا أساس لها من الصحة.

ولا يملك المرء سوى أن يعجب لقوة تلك القنبلة التي استطاعت تدمير مدينة هيروشيما وقتْل وإصابة نحو نصف مليون من سكانها، لقد هُزِمنا في حربٍ علمية، ولم نُهزَم في حربٍ تعتمد على القوى البشرية، وإذا أمعنَّا الفكر في الماضي والمستقبل فسنجد مسائل كثيرة في حاجة إلى إعادة نظر.

ويمكن تنشيط مكونات الدم عن طريق العلاج وتناوُل العناصر اللازمة للجسم لتحقيق هذه الغاية، وقد أوصى الدكتور تسوزوكي الأستاذ بجامعة طوكيو الإمبراطورية باستخدام فيتامين ج عن طريق الحقن، وتناوُل الأطعمة الغنية بهذا الفيتامين، وشرائح الكبد الطازج أو المطهو، ونقل الدم والعلاج بالبروتين غير المتجانس، والكي.٣٤ ونقوم باستخدام هذا العلاج الذي أوصى به الأستاذ تسوزوكي، وقد اتبعتُ المثل الصيني — القائل بأن المريض الذي يتمتع بشهيةٍ طيبة لا يمكن أن يموت — في معالجة عشر حالات، فقدَّمنا لهؤلاء المرضى الطعام المحتوي على فيتامين ج دون أن نحقنهم أو ننقل الدماء إليهم، وأولينا جروحهم وحروقهم عنايةً خاصة، فبدأَت هذه المجموعة في التحسن بشكلٍ ملحوظ أكثر من أولئك المرضى الذين قدَّمنا لهم طعامًا عاديًّا وعالجناهم بالحقن ونقل الدم.

وعلى ذلك فإن من كانوا في هيروشيما عند وقوع حادث القنبلة يجب أن يُفحَصوا طبيًّا باستمرار، فإذا ظهرَت على أحدهم أعراض مرض الإشعاع الذري، مثل تناقُص كرات الدم البيضاء، فعليه أن يلزم الراحة التامة، وأن يتناول الكثير من الطعام الجيد. وحتى أولئك الذين لا تبدو عليهم أي أعراض يجب عليهم أن يأكلوا أكثر من ذي قبل. أما المرضى فعليهم أن يكثروا من الأكل بقدر المستطاع، وإن اتباع مثل هذا العلاج المنزلي ضمانٌ أكيد للشفاء طالما نعاني من نقصٍ في الأطباء والمعدات الطبية.

ودعوتُ من قلبي أن ينجح السيد ماتسوموتو في تنقيح مقالي فيقطع أرجُل التنين دون أن يترتب على ذلك تغيير المعنى. ولا أدرى لماذا لم أصِر على أن يمهلني يومًا آخر أتولى فيه تنقيح المقال بنفسي، ولكن لا جدوى الآن فعليَّ أن أترقَّب نشره وما سيترتب عليه.

١٠ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم وأمطار متقطعة.

استغرقتُ في نومٍ عميق ليلة الأمس بعدما تخلصتُ من التوتر الذي لازمني خلال كتابة المقال، ومرَّ الصباح بهدوء، وأخذتُ أطوف بأرجاء الحجرة وأشرب الشاي وأتبادل الفكاهات مع السيدة سائيكي العجوز وغيرها ممن رأيتُهم.

وبعد الظهر قمتُ بتفقُّد أحوال المرضى، ولكن لم يكن لدَي ما أفعله وخاصة أن جميع المرضى فيما عدا موظفي المصلحة كانوا تحت رعاية الدكتور ناجاياما والدكتور إيتا أوكو، ورأيتُ الآنسة فوتاكامي إحدى ممرضاتنا تجلس فوق مقعدٍ أمام حجرة الفرَّاشين وتحملق في الفضاء، كانت هذه الممرضة صحيحة البدن هادئة تعمل بجد ونشاط منذ التحقَت بقسم الأسنان بالمستشفى، وكانت تعمل ليل نهار منذ وقوع البيكا دون أن تنال قسطًا من الراحة؛ ولذلك بدا عليها الضعف والوهن والهزل، وحين اكتشفَت أنني أرقبها احمر وجهها خجلًا وانصرفَت في الحال. إن نشاط البنات اللائي يعملن بالمستشفى مثل هذه الفتاة هو الذي جعلنا نتمكن من إعادة الأمور إلى نصابها، ويجب علينا أن نقدِّر لهن جهودهن، فاجتمعتُ بالسيد سيرا مدير مكتب العمل لننظر في الوسيلة التي نستطيع بها مكافأة هؤلاء، وقد أيَّد الفكرة، وأحسستُ بالارتياح حين وجدتُه يسجل كل الساعات التي قضاها موظفو المستشفى في العمل وعلمتُ منه أنه ينوي تقديم تلك الكشوف إلى وزارة المواصلات.

وفي الطابق العلوي قابلتُ السيد أويوكوتا أحد أعضاء مجلس المدينة الذي جاء لزيارة بعض المرضى، وحين زارنا في الشهر الماضي كان يعاني من جراحٍ بالغة في قدمَيه وكان بادي الإعياء، أما اليوم فقد بدَت عليه علامات الصحة. فتجاذبنا معًا الحديث حول أحوال المدينة، وأطلعتُه على تطور الحال في المستشفى، فقلتُ له: «إن المستشفى في النهار يختلف عنه في الليل؛ فخلال النهار لا يتواجد بالمستشفى سوى المرضى، وعندما يحل المساء يفد إلى المستشفى أفراد عائلات المرضى الذين يقضون اليوم في العمل، ويتحول المستشفى إلى فندقٍ مجاني لهؤلاء الذين لا يجدون مكانًا يأويهم، ولكننا لا نستطيع أن نتحمل هذا الوضع إلى ما لا نهاية، فإذا استطعنا الحصول على بعض الخيام العسكرية الكبيرة لاستطعنا أن نقيم معسكرًا يأويهم في خرائب ثكنات الجيش الجنوبية، ونزيح عن كاهلنا عبء إطعامهم وإيوائهم.» فراقت له الفكرة وطلب مني أن أمهله حتى يتدارس الموضوع مع إدارة المدينة.

وعندما عُدتُ إلى حجرة الطعام وجدتُ في انتظاري خمسة عشر خطابًا فوق المنضدة كان من بينها ستة أو سبعة خطابات أرسلها إليَّ بعض أصدقائي القدامى من أوكاياما، أعربوا فيها عن ابتهاجهم حين علموا أنني ما زلتُ على قيد الحياة. ولم أشعر بالسرور لتلقِّي خطابات الأصدقاء فحسب؛ بل سُررتُ حين علمتُ أن مقالي قد نُشِر بالفعل، وأن الناس قرءوه في مختلف المدن.

جاءت السيدة سائيكي العجوز إلى حجرتي وقالت لي: «يا دكتور، لقد تلقيتَ الكثير من الخطابات اليوم، ألا تدري أننا سنحصل على إنارةٍ كهربائية اعتبارًا من الليلة، انظر إلى تلك المصابيح التي يركبونها هناك.» وأشارت إلى موقع المصابيح التي ستجعل النور يشع مرةً أخرى في أرجاء المستشفى.

لقد بدأ تسليم الخطابات، وعادت الكهرباء، وآن الأوان أن نستريح ونهدأ بالًا، وحين حل الليل كان الممر مضيئًا، ورغم أن المصباح كان صغير الحجم فإن نوره كان متألقًا، ولم أقدِّر يومًا قيمة الكهرباء مثلما قدَّرتُها اليوم. يجب أن نحصل على مصابيح كافية لإنارة المستشفى جميعه. ولما كان السيد ميزوجوتشي قد ذهب إلى قريته سينو ولم أتمكن من العثور على الدكتور تاماجاوا، فقد جلستُ أتجاذب أطراف الحديث مع السيدة سائيكي العجوز على الضوء الخافت حتى ساعةٍ متأخرة من الليل.

١١ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم ممطر بين حين وآخر.

فاتني أن أذكر أن السيد شيوتا كان قد ذهب لاستطلاع أحوال بيته للمرة الأولى منذ سقوط القنبلة، وعاد اليوم إلى المستشفى في الصباح الباكر، ولمَّا سألتُه عن أحوال بيته قال: «يا دكتور، لقد لحق الدمار ببيتي؛ إذ اتخذه نحو ٢٥٠ جنديًّا من أولئك الجنود الذين أُرسِلوا من طوكيو للمعاونة في تطهير المدينة مقرًّا لهم لمدة أسبوع، وضعوا خلالها اللمسات الأخيرة للدمار الذي حل بالبيت، فقاموا بإزالة السقف والأثاث وقرميد السقوف وكل ما وجدوه داخل البيت المنهار، وتركوه قاعًا صفصفًا، فأصبحتَ تستطيع أن ترى السماء فوق السقف بوضوح، وعندما يسقط المطر ينساب الماء داخل البيت عبر فجوات السقف. وقد تآكل حصير الأرضية (التتامي) وأصبح كل شيء في حالةٍ تدعو إلى الرثاء، وأسوأ من ذلك كله أنهم أتلفوا اللوحة التي تحمل العبارات الصينية الفلسفية (جاكو) المعروفة باسم نوكينا التي أودعتَها أمانة لدَي.»

شعرتُ بالاكتئاب والأسى عندما علمتُ نبأ إتلاف الجاكو التي سبق أن أهديتُها إلى السيد شيوتا؛ فإن هذه الجاكو كانت تحفةً نادرة من الفن القديم كُتبَت على قماش القنب، ورثتُها عن أجدادي، وتحمل توقيع «هو» من مدينة أوكاياما بخطٍّ زخرفي أنيق، وكُتِب عليها الحكمة التالية: «حتى تصبح ناجحًا شريفًا متواضعًا عليك أن تكون رجلًا قوي العزيمة واسلك سبيل السلف.» ومنذ نعومة أظفاري كان آبائي يقرءونها لي ويذكرونني بها عندما يؤنبونني على ما قد أرتكبه من أخطاء، وعندما شببتُ عن الطوق كنتُ أجد متعة في تأمُّل جاكو كيوكو. لقد كانت هذه الحكَم المصوغة شعرًا تُعَد دعامة التربية الخلقية في تلك الأيام، حتى إنني أكاد أرى الجاكو كيوكو ماثلةً أمامي وأنا أكتب هذه اليوميات، وأستطيع أن أكتب بوضوحٍ كل واحدة من تراكيبها الصينية (كانجي)، وأذكر الأجزاء التي بهتَت منها بفعل الزمن، والنقاط الصغيرة التي خلَّفها الذباب على سطحها.

وهناك جاكو أخرى من أعمال بوكودو إينوكاي أودعتُها عند صديقٍ آخر هو السيد يي شيما الذي كان يسكن على مسافةٍ قريبة من منزل السيد شيوتا، وسألتُ نفسي عما يكون قد حدث لها هي الأخرى، وهذه الجاكو كنت أعتز بها كثيرًا وأعلقها في حجرة استذكاري، وأبياتها التي ما زلتُ أذكرها بوضوحٍ تقول: «إن جانش (تلميذ كانفوشيوس) الذي لم يتوقف عن دراسة الفضيلة كان فقيرًا معدمًا لا يملك من حطام الدنيا سوى قلة ماء، ولكن فقره لم يؤذِ أحدًا، أما المتكبر الذي يصد عن الفضائل فهو إنسانٌ بالغ السوء حتى لو كان هذا الإنسان هو الملك كي ري كو (أحد ملوك الصين القدامى)، صاحب آلاف الأتباع الذين يقفون رهن إشارته على صهوات جيادهم.»

لقد أيقنتُ الآن كم كانت تلك الأشياء ثمينة، وأنني عندما كنت ممتلئًا بالثقة بالنصر ومشغول الذهن بالإمبراطور لم أشعر بتلك القيمة، لقد شعرتُ بهذا عندما لحق الدمار ببيتنا في أوكاياما في يوليو الماضي، ودُمرَت معه الكثير من النفائس التي كانت تقتنيها أسرتي، والتي أرسلتُها إلى هناك لتكون بمأمنٍ بعيدًا عن هيروشيما، وعندما فقدتُ كل شيء لم أعد أشعر بالجزع، شعرتُ أنني قد تخلصتُ من عبءٍ ثقيل؛ فإن فقد الهيكل البوذي الخاص بأسرتي،٣٥ لا يجعلني أشعر بالأسى لأن فقده يعطيني الحق في أن أعيش في أي مكان وأتوجه حيث أشاء، فكل مكانٍ أحل به بعد الآن سيصبح بيتي وموطني، وهذا الموقف ولَّده عندي الشعور بواجب التضحية بكل شيء من أجل الوطن، ولا ريب أن أسلافنا وأحفادنا سيلتمسون لنا العذر.

لقد تغيرَت الظروف، فمنذ البيكا أصبحنا جميعًا ممزقين، وقتالنا كان قتال المهزومين. لم يعد هناك معنًى لبيوتنا أو للنفائس الثمينة الخاصة بعائلاتنا، حتى السيد شيوتا الذي لحق الدمار بمنزله لا زال يتمسك بما بقي منه، فالبيت عند الياباني هو البيت؛ لذلك أحسستُ بالوحدة كما لم أُحس بها من قبلُ فقد أصبحتُ بلا بيت.

إن الأوضاع في عنابر المستشفى آخذة في التغير، فقد مات أحد المرضى، وغادر المستشفى بعض المرضى الآخرين، ودخلها مرضى جدد، وتحسنَت حال الفتاة الجميلة التي كانت ترقد وسط بركة من القيح، وكانت تبدو عليها السعادة عندما أخبرَتني بعد ظهر اليوم أنه أصبح باستطاعتها أن تذهب إلى المرحاض بنفسها دون الاعتماد على أحد، ولعلَّ تحسُّن حالتها راجع إلى أن حروقها كانت ناجمة عن النار وليس عن الإشعاع الذري، ولاحظتُ أن حالة أربعة أو خمسة من المرضى الثلاثين الذين دخلوا المستشفى مؤخرًا تختلف بعض الشيء عن المرضى الذين دخلوها من قبل، فهؤلاء المرضى لم تبدُ عليهم أية أعراض حتى نهاية أغسطس، ثم ظهرَت عليهم بعد ذلك أعراض الضعف العام والبثور والصلع والْتهاب الحلق، وعلى الرغم من ذلك فأعراضهم أخف حدة مما كان يعانيه المرضى الذين سبقوهم في الإصابة، وجميع هؤلاء المرضى أُصيبوا على بُعدٍ يزيد على ١٠٠٠ متر من مركز التفجير، وكان أحدهم في موقعٍ يبعد ١٧٠٠ متر من ذلك المركز، فأزعجَتني حالته؛ لأن بيتي كان يقع على مسافةٍ تتراوح ما بين ١٥٠٠–١٦٠٠ متر من مركز التفجير.

وعُدتُ إلى حجرتي وقد تملكني شعور بالضيق والانقباض، فقد يحل دوري بعد حين وتبدأ أعراض الإصابة بمرض الإشعاع الذري في الظهور عندي، وشعرتُ بالقلق على زوجتي، ولكنني أحسستُ بالاطمئنان حين وجدتُها جالسة في فِراشها بادية السعادة لأنها أصبحَت الآن تستطيع الذهاب إلى المرحاض بنفسها.

في المساء زارني بعض الأصدقاء وجلسنا نتحدث حتى ساعةٍ متأخرة من الليل.

١٢ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم مع تساقُط الأمطار بين حين وآخر.

عاد المطر يتساقط من جديد بعد أن استمتعنا بيوم أو يومين تميَّزا بالطقس اللطيف، فجلب لنا معه الضيق والضجر، وكنت أستيقظ كل صباح تقريبًا لأجد البطانيات مبللة، فتنشرها السيدة سائيكي العجوز في الممر حتى تجف. وعلمتُ منها هذا الصباح أنها ستطلب من السيد ميزوجوتشي أن يسد النوافذ بقطَع من الخشب لتقيني شر البرد. وبعد تناوُل الإفطار جلستُ أرتشف كوبًا من الماتشا مع الجدة سائيكي، وكم كنتُ أتمنى أن يشاركني الدكتور تاماجاوا تلك الجلسة، ولكنه كان مشغولًا جدًّا؛ فقد توفَّر لديه عدد من جثث المرضى الذين يُتوفَّون كل يوم، وكان عليه أن يقضي معظم الوقت في المشرحة، فبدا وكأنه في صراع مع الموتى، يعاونه في هذا العمل الدكتور هيياشو الذي سُرِّح من خدمة الجيش مؤخرًا، وطالب الطب المتطوع السيد أوجاوا، ورغم ذلك كان ثلاثتهم عاجزين عن تغطية حجم العمل المُلقَى على عاتقهم، وأضاف المطر المزيد إلى المتاعب التي كانوا يعانون منها، فبدَوا كل يوم مثل الفئران المبتلة.

بعد الظهر أحضر السيد ماتسوموتو الجريدة التي نشرَت مقالي وقد أفردَت له صفحةً كاملة ونشرَت صورتي، وحمل المقال عنوانًا يقول: «القنبلة الذرية ومرض الإشعاع الذري.» وتحته عناوين فرعية تقول إنه من الممكن أن يعيش الناس حول مركز التفجير، وأن مرض الإشعاع الذري يمكن أن يشفى منه بالطعام الجيد. وكمقدمة للموضوع ذكرَت الجريدة أنني أُصِبتُ إصاباتٍ بالغة واضطُررتُ أن أُجري أبحاثي وأنا مقيَّدٌ معزول، فبدأتُ من الصفر دون أن ألقي بالًا إلى المعلومات السابقة. وفيما عدا ذلك نُشِر المقال بنصه الحرفي، وأُضِيف في نهايته نص الإعلان الذي كنت قد ألصقتُه على جدران المستشفى حول مرض الإشعاع الذري. وجملة القول أن الجريدة عالجَت مقالي بصورةٍ جيدة واهتمَّت به اهتمامًا يفوق ما يستحق. وقد سُرِرتُ لرؤية الجريدة، ولكني اكتشفتُ أنني نسيتُ أن أذكر شيئًا عن تناقُص صفائح الدم، كما أغفلتُ استخدام بعض المصطلحات الطبية، وكانت استنتاجاتي أحيانًا أكثر جرأة مما يجب.

قررتُ أن أستحم اليوم لأتخلص من الأقذار العالقة بجسدي، دون أن أُلقي بالًا لجرح فخذي، فانتهزتُ فرصة توقُّف المطر نحو الساعة التاسعة مساءً وذهبتُ إلى المطبخ حيث خلعتُ ملابسي، وكان الجو باردًا، واتجهتُ إلى الحمام عاريَ القدمين ولكني وجدتُ الماء حارًّا داخل المغطس، فصببتُ فيه سطلَين أو ثلاثة من الماء البارد ثم اغتسلتُ، وجلستُ داخل المغطس على الطريقة اليابانية والدخان يتصاعد من حولي فيسيل دموعي.

لقد كان هذا أول حمامٍ كامل أستمتع به منذ البيكا، فرأيتُ أن أستمتع به إلى أقصى حد وأرخيتُ جسدي قليلًا داخل المغطس حتى يبلغ الماء ذقني، ففاض الماء، وأطفأ النار تحت المغطس، وخيم على الحمام ظلامٌ دامس أتاح لي فرصة الانفراد بالمكان دون أن يزعجني أحد.٣٦

ذهبتُ إلى فِراشي شاعرًا بالدفء والراحة، ونمتُ نومًا عميقًا، ولم يقطع المطر الغزير متعة النوم؛ لأن النافذة أصبحَت مُغطَّاة بملاءة من القماش.

١٣ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم ممطر بين حين وآخر.

زارني هذا الصباح طبيبٌ شاب، أحضر معه مجهرًا، وطلب مني أن أسمح له بفحص بعض الحالات الموجودة بالمستشفى، فرحبتُ به وتمنيتُ لو كنا قد حصلنا على مثل هذه المعاونة في وقتٍ مبكر، ولو كان بعض كبار الأطباء الذين زاروا هيروشيما قد بقوا معنا لمساعدتنا عند بداية الحوادث عندما كنا نناضل دون أن تتوفر لدَينا المعرفة أو المعدات الكافية؛ لخفَّف ذلك عنا بعض العبء، ولكن المسألة اتضحَت الآن، ولا أظنه يستطيع أن يستكشف أبعد مما توصلنا إليه، غير أني لم أبخل عليه بالتشجيع. وعندما أبلغتُه بموافقتي كان سعيدًا غاية السعادة، وكأنه نال كنزًا ثمينًا.

بلغَتنا إشاعةٌ اليوم مؤداها أن قوات الحلفاء نزلَت الأراضي اليابانية، فانزعج الكثير من سكان هيروشيما، وانعكس هذا الانزعاج على المستشفى ففر بعض المرضى. وعندما تفقدتُ عنابر المستشفى بعد الظهر كانت تكاد تخلو من المرضى، حتى السيدة سوسوكيدا التي لم تُشفَ حروقها بعدُ غادرَت المستشفى دون إذن. وبصفةٍ عامة كانت النساء أكثر خوفًا من الرجال؛ لأن البعض أشاع أن جنود الاحتلال يغتصبون النساء، ولم أعرف الدافع وراء ترويج مثل هذه الإشاعات الآن، فقد شُوهِد الأمريكان والإنجليز يتجولون وسط خرائب هيروشيما منذ بداية سبتمبر، ولم أكن أعتقد أن هناك ما يدعو إلى القلق، فالغربيون أناسٌ متحضرون، وليس من طباعهم السلب والنهب والاغتصاب، ولكني رأيتُ أن من واجبي أن أكتب كلماتٍ بالإنجليزية تُثبَّت على حوائط المستشفى عند المدخل تشير إلى نوعية المكان، وأن أرفع علم الصليب الأحمر على الشرفة؛ حتى إذا رأوه قدَّروا مسئولياتنا وتجنبوا إزعاج المرضى.

ورغم انشغالي بالمستشفى والمرضى، لم أنسَ أنني زوج، فبدأتُ أفكر في زوجتي، كم كنتُ أتمنى أن أُبعدها عن هيروشيما في أقرب وقتٍ ممكن لتلحق بولدنا، كما انتابني القلق على الممرضات اللاتي يعملن بالمستشفى وخشيتُ أن يلحقهن الأذى. أما زوجتي فكانت تُبدي عدم الاكتراث بالأمر، وكلما تعمقتُ في التفكير كلما ازددتُ قلقًا عليهن، ودخَّنتُ العديد من السجاير، وقطع عليَّ التفكير وصول السيد ياسودا أحد موظفي الشئون العامة بمصلحة المواصلات، وكانت تقع على عاتقه مسئولية حماية صورة الإمبراطور في حالة الطوارئ، وكان راكبًا الترام في الطريق إلى مبنى المصلحة عندما سقطَت القنبلة، وتوقف الترام عند محطة هاكوشيما، غير أنه استطاع الوصول إلى المصلحة فوق أنقاض المنازل وعبْر النيران المشتعلة، وما كاد يصل إلى مبنى المصلحة حتى صعد إلى الطابق الرابع حيث كانت صورة الإمبراطور معلقة هناك داخل حجرةٍ محصنة ببابٍ حديدي، فاستعان بثلاثة من زملائه وحمل الصورة إلى مكتب رئيس المصلحة حيث تناقش الجميع حول إيجاد وسيلة لإنقاذ الصورة من التلف، واستقر رأيهم على حمْلها إلى قلعة هيروشيما، فحمل السيد ياسودا الصورة فوق ظهره، وتولى السيد كاجي هيرا حراسة المقدمة، وقام السيد أوشيو بحراسة المؤخرة، أما السيد آياوا والسيد أوتشي فقد توليا حراسة الجانبَين. واتجهوا عبْر الحديقة الداخلية لمبنى المصلحة وهما يُعلنان للناس أنهما يحملان صورة الإمبراطور صائحَين: «صورة الإمبراطور ينقلها رئيس الشئون العامة إلى ساحة التدريب الغربية!» فما كاد الموظفون والمرضى يسمعون ذلك حتى ركعوا احترامًا للموكب الذي اتجه إلى الباب الخلفي للمبنى. ثم تذكر رئيس الشئون العامة أنه نسي إحضار علم مصلحة المواصلات ليتقدم موكب صورة الإمبراطور؛ حيث تقضي التقاليد بضرورة وجود العلم عندما تُنقَل صورة الإمبراطور من مكان إلى آخر، فعاد السيد آوايا لإحضار العلم وقبل أن يعود إلى رفاقه أحاطت بهم النيران، فواصلوا السير دونه حتى بلغوا مدخل القلعة، وحين شرحوا للجنود الغرض من مقدمهم نصحوهم بالبحث عن مكانٍ آخر غير ساحة التدريب الغربية؛ لأن المكان مهدد بالنيران، فغيروا طريقهم واتجهوا صوب حديقة آسانو سنتاي حتى بلغوا ضفاف نهر أوتا.

وخلال الطريق مر الموكب بالكثير من الموتى والجرحى والجنود المصابين، وكان عددهم يتزايد كلما اقتربوا من ضفاف النهر حتى أصبحَت الطريق مزدحمة بالناس فتعذر عليهم المرور فأخذوا يصيحون في الناس: «صورة الإمبراطور، صورة الإمبراطور.» فأفسح الناس الطريق وأحنى من استطاع منهم الوقوف هامته احترامًا للصورة حتى بلغ الموكب ضفَّة النهر سالمًا.٣٧

روى لي سيد ياسودا هذه القصة بزهوٍّ شديد، فذكر لي أنهم عندما بلغوا ضفَّة النهر أنزلوا الصورة بأحد القوارب، واستل أحد الضباط سيفه مؤديًا التحية العسكرية لها، وأصدر الأوامر لجنوده للإبحار بها بينما اصطف الجنود على ضفَّة النهر يؤدون التحية العسكرية وأحنى المدنيون هاماتهم احترامًا وتبجيلًا.

وقلتُ للسيد ياسودا معقبًا على قصته هذه: «لقد فعلتَ شيئًا عظيمًا كنتَ فيه رمزًا للشعب الياباني.» فاحمرَّ وجهه خجلًا وأبدى أسفه لأن اليابان خسرَت الحرب، ولكني أكدتُ له أنه باشتراكه في إنقاذ صورة الإمبراطور كان جنديًّا باسلًا، وأنه في رأيي يستحق وسامًا ومكافأة على هذا العمل الجليل.

بينما كنا نتناول طعام العشاء وصلَت إلى أنوفنا رائحة حرق إحدى الجثث، وكانت تلك الرائحة تشبه رائحة شي السردين فذكَّرَتنني بالأيام التي أعقبَت البيكا، غير أننا تناولنا العشاء دون اكتراث، فقد تعودنا على استنشاق هذه الرائحة الكريهة، ولم تعُد شهيتنا تتأثر برائحة الموت. وبعد العشاء رويتُ قصة إنقاذ صورة الإمبراطور للسيد ميزوجوتشي والسيدة سائيكي العجوز وزوجتي والآنسة كادو.

١٤ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم وأمطار متفرقة.

كان الدكتور تاماجاوا غائبًا في زيارة لأوكاياما عندما ماتت مريضة الأمس الآنسة تاكاتا؛ ولذلك لم تشرَّح جثتها، ووفاتها كانت الحالة الوحيدة خلال بضعة أيامٍ مرَّت دون أن تحدث فيها حالة وفاة، وتطوُّر مرض الآنسة تاكاتا كان مسجلًا على النحو التالي:
  • تاكاتا، أنثى، العمر ٢٨ عامًا.

  • تاريخ الدخول: ٢٨ أغسطس ١٩٤٥م.

  • الشكوى العامة: إعياءٌ تام.

  • تاريخ المرض: غير محدد.

  • الحالة الحالية: أُصيبَت عند شركة توزيع الأدوية في هاتشوبوري على بُعد ٧٠٠ متر من مركز التفجير، شعرَت بعدها بالضعف والغثيان والقيء والإعياء التام والإسهال لمدة يومين، ثم استعادت صحتها وشهيتها بعد ذلك تدريجيًّا وزاولَت أعمالًا خفيفة، ولكنها فقدَت حاسة الذوق، وكانت تشعر بالتعب لأقل جهد، ورغم فقدانها لحاسة الذوق فإنها كانت تأكل جيدًا، وبدأَت تفقد شعرها بعد الإصابة بثلاثة أيام، ثم تزايد سقوط الشعر اعتبارًا من ٢٥ أغسطس، وجاءت إلى المستشفى يوم ٢٨ أغسطس لإجراء الفحوص.

    تحسنَت حالتها ببطء ولكن ضعفَت شهيتها للطعام وأصابها وهنٌ شديد وفقدَت نحو ثلثي شعر رأسها، النبض طبيعي، والتنفس منتظم، الوجه شاحب، تبدو أعراض الأنيميا في عينيها، حالة الفم طبيعية، لا يوجد أي أعراض غير طبيعية في الصدر والبطن، البول طبيعي، نقصٌ شديد في كرات الدم البيضاء.

  • أول سبتمبر ١٩٤٥م: ظهرَت بثور على الصدر، تشكو من ضعفٍ شديد.
  • ٥ سبتمبر ١٩٤٥م: ازداد حجم البثور كما ازداد عددها، وأصبح الكثير منها في حجم بصمة إصبع الإبهام، درجة الحرارة ٤٠، النبض ضعيف قليلًا، تشكو من الوهن وفقدان الشهية، تقضي حاجتها ثلاث مرات يوميًّا.
  • ٩ سبتمبر ١٩٤٥م: النبض ضعيف، ازداد عدد البثور وتحوَّل حجمها من مثل حجم رأس الدبوس إلى مثل حجم الإبهام، ولونها ما بين الأرجواني والبني.
  • ١٣ سبتمبر ١٩٤٥م: تُوفِّيت.

وتمثِّل حالة هذه المريضة وتطور المرض عندها نموذجًا لأعراض وتطورات مرض الإشعاع الذري.

توجهتُ بعد الإفطار إلى مبنى المصلحة بحثًا عن السيد أويشي لأعرف منه بقية قصة إنقاذ صورة الإمبراطور، فبحثتُ عنه هناك دون جدوى، ولكني التقيتُ ببعض العاملين بمخزن المصلحة الذين أُصيبوا خلال البيكا، وكان يبدو عليهم الإرهاق والتعب واليأس، وأخبرني أحدهم أنه أصبح من الصعب الحصول على الطعام الكافي لإطعام الموظفين والمرضى وعائلاتهم الذين يبلغ عددهم جميعًا نحو الثلاثمائة؛ إذ يصعب الحصول على الأسماك والخضروات الطازجة بسبب ارتفاع الأسعار، وقد أزعجني هذا فذهبتُ إلى السيد إيماتشي رئيس قسم التوريدات بمصلحة المواصلات بهيروشيما، واتجهنا معا إلى غرفة الطعام بالمستشفى حيث روى لي الصعوبات التي تواجه قسم التوريدات لتوفير الأرز والخضروات لعدم توافر المال لدى المصلحة بسبب احتراق الخزانة الحديدية خلال الحوادث، وذكر لي أن التجار والفلاحين أصبحوا لا يفرطون في المواد التموينية بسهولة، وأطلعني على أحد السجلات التي تبين الأسعار التي يشتري بها المواد التموينية، وكانت هذه أول مرةٍ أرى فيها مدى الارتفاع الجنوني للأسعار. وخلال حديثه معي تعلمتُ مصطلحًا جديدًا ذكره لي يجري على ألسنة الناس في المدينة هو الحفر في «مناجم المدينة»، فقد درج الناس على التجول وسط الخرائب بحثًا عما قد يقع تحت أيديهم من أشياء نافعة يبادلون بها الطعام، فشعرتُ بالخجل لذلك، ولكني التمستُ العذر للناس.

عاد الدكتور تاماجاوا من أوكاياما في ساعةٍ متأخرة من الليل، وأحضر معه علبة من الماتشا أعطاها له صديقٌ قديم يُدعى ناكامورا، وذكر لي الدكتور تاماجاوا أن أهالي أوكاياما لا يقلِّون معاناة عن مواطني هيروشيما، وأن مستشفانا يُعَد بالمقارنة بغيره جنةً مليئة بالخيرات، فلم يستطع الدكتور تاماجاوا أن يجد سيجارة يدخنها خلال اليومين اللذين قضاهما في أوكاياما. وحين قدَّمتُ له علبةً كاملة من السجاير لامني على ذلك بقوله: «إنك تعيش هنا يا هاتشيا عيشةً مترفة.» وأخذ يدخِّن بنهمٍ شديد.

١٥ سبتمبر ١٩٤٥م

جوٌّ غائم ممطر بين الحين والآخر.

زارني بعد الإفطار بعض موظفي مكتب بريد كوري، وعلمتُ منهم للمرة الأولى أن جيش الاحتلال قد نزل هناك. حتى كلمة «جيش الاحتلال» كانت تبدو غريبة بالنسبة لي، وشعرتُ بالحزن العميق لاحتلال قوات الحلفاء هذه القاعدة البحرية الكبيرة التي تعلمتُ منذ طفولتي أنها من أهم قواعد الأسطول الإمبراطوري. وعلمتُ من أصدقائي أن ميناء هيروشيما في أوجينا سيُحتَل بدَوره، وأن الناس قد بدَءوا يُقيمون أسوارًا حول بيوتهم ويضعون أقفالًا على الأبواب والنوافذ؛ لأنهم سمعوا أن جنود الحلفاء لا يدخلون مكانًا تحيطه الأسوار ولا يقتحمون بيتًا موصد الأبواب، كما علمتُ منهم أن جنود الحلفاء مغرمون بالنساء ويتوددون إليهن، وأن جنود الحلفاء يظهرون بين الحين والآخر حول محطة سكك حديد هيروشيما.

بدأ البريد ينتظم في الوصول منذ أول سبتمبر وتلقيتُ ٢٤ أو ٢٥ خطابًا دفعةً واحدة أُرسلَت معظمها من أصدقاء قرءوا مقالي في جريدة سانجيو كيزاي امتدحوا فيها المقال وهنأوني بالنجاة من الموت، وبعض هذه الخطابات تحمل تواريخ تقع حول العاشر من أغسطس أرسلها بعض الأصدقاء يسألون عن سلامتي.

أخذ تعداد المقيمين في المستشفى يتناقص فلم يبقَ فيها إلا غير القادرين على الحركة، أما الآخرون فقد فرُّوا ملتمسين النجاة قبل وصول جنود الاحتلال، ومعظم من بقوا لدَينا كانوا أطفالًا يتامى لم يغادروا المستشفى لعدم إدراكهم لما يدور حولهم.

بعد الغداء علمتُ أن قوات الاحتلال موجودة عند محطة هيروشيما وأنه من الممكن مشاهدتهم هناك، فدفعني الفضول إلى الذهاب إلى المكان لرؤيتهم، وفي الطريق إلى المحطة أدهشني رؤية بعض الشباب ذوي الشعر المسترسل والرءوس العارية الذين يسيرون هنا وهناك بزهو وخيلاء، وبالقرب من المحطة رأيتُ الكثير من هؤلاء الشباب ذوي الشعر المسترسل، وحين سألتُ عن سر هذه الظاهرة قيل لي إنه آخر طراز في تصفيف الشعر. لقد خسرْنا الحرب وكسبنا طول الشعر! كنا نُعاقَب أيام التلمذة بحلق رءوسنا إذا خسرَت مدرستنا مباراةً لعبَتها ضد مدرسةٍ أخرى، وكان الشعر القصير أمرًا مألوفًا خلال سني الحرب، أما الآن فقد أرسل هؤلاء الشباب شعورهم حتى لا يظنهم الحلفاء من الجنود المسرَّحين فيعتقلوهم.

أما المحطة، أو ما بقي من المحطة، فكان يعج بالناس الذين كانوا يتحركون هنا وهناك على غير هدى، ولكني لم أشاهد جنودًا، وحول المحطة كانت هناك عششٌ صغيرة يجاور بعضها بعضًا تبيع ألوانًا متعددة من الطعام الرديء، ورغم قذارة تلك العشش كان الإقبال على بضاعتها شديدًا.

ومعظم الذين رأيتُهم كانوا يرتدون بزاتٍ عسكرية، حتى البنات كن يرتدينها، أما الذين كانوا يرتدون ملابس البحرية فكانوا أفرادًا قلائل. وهزَّني منظر سيدةٍ عجوز ترتدي كيمونو زفافها وتحمل على ظهرها سلةً بها بعض ثمار البطاطا، ويبدو أنها افتقدَت كل ملابسها فلم تجد ما ترتديه سوى هذا الكيمونو التذكاري الذي تمكنَت من إنقاذه من الحريق.

أما المحطة فقد أُقِيم عليها مكتبٌ متواضع لصرف التذاكر وسقيفة صغيرة ينتظر تحتها الركاب، فتوقفتُ قليلًا أرقب الناس يروحون ويغدون، جنودٌ مسرَّحون يحملون حقائبهم الكبيرة فوق ظهورهم جنبًا إلى جنب مع المدنيين من ضحايا الحرب، وشاهدتُ طفلًا صغيرًا عاريَ الجسد إلا من سروالٍ قذر يستجدي الطعام ممن يأكلون على الرصيف، ولا يكاد يتحرك إلا إذا قدَّم له بعضهم فضلًا من طعامه، وذكَّرني منظر هذا الطفل الحزين بالأطفال الذين رأيتُهم في منشوريا وكوريا بعد أن اجتاحَتهما قواتنا منذ ثمانية عشر عامًا، فقد كان أطفال منشوريا وكوريا عندئذٍ يستجدون الطعام منا، ولا شيء يمثِّل الهزيمة مثل هؤلاء البؤساء المشردين.

ولم أستطع متابعة المشاهد المؤلمة المحيطة بالمحطة ففضَّلتُ أن أعود أدراجي إلى المستشفى، وفي طريق العودة مررتُ بموقع القيادة الغربية لفرق الفرسان وهزني السكون المطبق المخيم على المكان، وتذكرتُ أولئك الضباط والجنود الذين كانوا موضع فخارنا، تُرى ماذا يخبئ المستقبل لهم؟ فقد شاهدتُ عند المحطة ضابطًا عجوزًا يستجدي الطعام. ومر في مخيلتي شريطٌ كامل للمأساة: ضحايا الحرب المنهكون، الجنود المسرَّحون، العجائز الذين يستندون إلى الأعمدة المحترقة، الناس الذين يسيرون بلا هدف، الشحاذون. إن هذه الظواهر التي ابتُلينا بها هي التي انتصرَت علينا، وعمَّقَت وقع الهزيمة في نفوسنا.

بعد تناوُل العشاء شرد ذهني إلى المناظر التي رأيتُها عند محطة هيروشيما، كم كانت الأنانية تسيطر على الناس، تُرى أي مجتمع تعس ذلك الذي نعيش فيه؟ كان كرام الناس يستجدون ويرتدون الأسمال، أما الذين بدَت على وجوههم سمات الشر وفاضَت ألسنتهم ببذيء القول فكانوا يرتدون أحسن الثياب. كان الذين يلبسون بزات الطيارين يبدون مثل رجال العصابات ويطاردون الفتيات البائسات عند المحطة بوقاحة لم نعهدها من قبل، إن البلاد تنحدر إلى الوضاعة والخسة، شعرتُ بالكراهية لهم، وتألمتُ عندما قفز إلى ذهني احتمال وصول أمثالهم غدًا إلى السلطة. كم تغيَّرَت الأحوال! تُرى ماذا يخبئ القدر لذلك الضابط العجوز الذي رأيتُه يستجدي الطعام؟

١٦ سبتمبر ١٩٤٥م

يومٌ ممطر ملبَّد بالغيوم.

زارني الدكتور آكي ياما على غير عادته وقد ارتسمَت على وجهه علامات الفزع، ونصحني بالهرب قبل وصول قوات الحلفاء حتى لا أُعرِّض زوجتي للخطر، مؤكِّدًا أنهم لن يُبقوا على شيء، وطلب مني أن أسمح له بنقل زوجتي بعيدًا عن المدينة إذا كنتُ مصرًّا على البقاء فيها. فتأثرتُ لموقف الدكتور آكي ياما، فقد سبق له الخدمة في الصين، وكان يخشى أن يحدث لنا مثلما حدث في شمال الصين، فشكرتُه على نصيحته، ووعدتُه بإبلاغ زوجتي وجهة نظره، وطلبتُ منه أن يمهلني حتى أفكر في الموضوع. وعندما قمتُ بتفقُّد المرضى اليوم سمعتُ إشاعتَين جديدتَين، تقول إحداهما إن من جاءوا إلى هيروشيما بعد البيكا قد أصابهم مرض الإشعاع الذري، أما الأخرى فتقول إن من بقوا في هيروشيما بعد حادث القنبلة سيصيبهم الصرع ويموتون خلال عامٍ واحد، وكان عدد المرضى لا يزال آخذًا في التناقص، أما من بقوا بالمستشفى فقد كانت حالتهم تميل إلى الثبات أو التحسن.

وعندما عُدتُ إلى حجرتي وجدتُ زوجتي تضحك مع السيدة سائيكي العجوز، وكانت العمة شيما قد أحضرَت لزوجتي هاءوري (بالطو من الصوف يُلبَس فوق الكيمونو)، وكانت زوجتي تُريه للسيدة سائيكي، كما تلقيتُ هدية من المصلحة عبارة عن بدلة ومعطف من الصوف، وبذلك أصبح لدَينا ملابس تقينا برد الشتاء. وعندما رأى السيد ميزوجوتشي هذه الملابس الجديدة أيقن أن شحنةً جديدة من المعونة في طريقها إلى المستشفى، وسعى إلى إدارة المدينة للحصول على نصيبٍ منها للمرضى، وأكد لي بعد عودته أنه سيوفر للمرضى وللعاملين ما يكفيهم من الملابس الشتوية.

بعد العشاء تناقشنا في موضوع التسليم للحلفاء بلا قيد ولا شرط وحل الجيش والبحرية ومصادرة الأسلحة والذخائر، وترددَت إشاعة حول احتلال الجيش الوطني الصيني لجزيرة شيكوكو، وأن المخازن العسكرية بما فيها من ملابس ستصبح من نصيب جيش الاحتلال الصيني. ورأينا في هذه الإشاعة تفسيرًا لتوفر الملابس التي كان مصدرها مخازن الجيش الموجودة في الجبال، وكانت القطارات التي تمر بهيروشيما تعج بالمواطنين الذين يحملون الملابس العسكرية المنهوبة من مخازن الجيش بحجة أن دافعي الضرائب اليابانيين أحق بها من جيوش الحلفاء، وامتلأَت المدينة بالناهبين الذين كان بعضهم يتحلى بصفاتٍ أخلاقية؛ فكانوا يسرقون ليعطوا ما يسرقونه للفقراء والمحتاجين، ولكن غالبيتهم كانوا يبيعون حصيلة ما ينهبون ويتحولون بين عشية وضحاها إلى أثرياء. لم يكن أحد يفكر في السرقة خلال الحرب، وكانت الممتلكات والبضائع تُترَك في العراء دون حاجة إلى حراسة، أما اليوم فلا وجود للأمن بين ربوع البلاد.

وكنا كلما استغرقنا في الحديث كلما ازددنا فلسفة وتفاؤلًا، فقد كنا ندفع نحو ٨٠% من دخولنا كضرائب للإنفاق على الخدمات العسكرية، فهذه الأشياء هي في نهاية الأمر ملك للشعب الذي اشتراها بأمواله فهو أحق بها من المحتلِّين الأجانب. وانتهت المناقشات في ساعةٍ متأخرة من الليل بالتفاؤل في مستقبَلٍ أحسن في ظل السلام، وقدْرٍ أقل من الضرائب، وبعض الحرية في مجتمع لا توجد فيه شرطةٌ عسكرية تتحكم فينا.

١٧ سبتمبر ١٩٤٥م

أمطارٌ غزيرة ثم عاصفة شديدة.

عندما استيقظتُ في الصباح كانت السماء تمطر، وبعد تناوُل الإفطار تلقيتُ بريد اليوم الذي تضمَّن خطابًا من الدكتور موري يا بداخله بعض الصور التي التقطها لنا خلال زيارته للمدينة، فعكفتُ على دراستها، وأدهشني أن أرى آثار الجروح قد أضفَت على ملامحنا مظهرًا بائسًا، وكان بجسدي ١٥٠ أثرًا للجراح على أقل تقدير، أما وجه الدكتور ساسادا فكان محترقًا، وكانت هناك خمس عشرة ندبة بجسد زوجتي، أما الدكتور كوياما فكان مجروحًا في رأسه. ورغم أن هذه الندبات لا تكاد تظهر في الصور فقد تحسستُ موضع الجراح في وجهي، وتمنيتُ أن تتلاشى كما تكاد تتلاشى في الصور؛ لأن بقاءها يجعلني مثل يوسا المحتال الأسطوري الذي كان يُعاقَب على ما يفعل بجراح في وجهه حتى بدا مثل قاطع الطريق. ولم أكن أتصور أن الدكتور ساسادا قد فقد إلى الأبد ملامح البراءة التي كانت تميز وجهه بعد هذه الإصابات، أما وجه زوجتي الذي كان خاليًا من الندبات أصبح اليوم مليئًا بها. تُرى كيف نستطيع أن نواجه الناس بوجوهٍ مشوهة؟ وكانت الصور توضح الضمادات والأسرَّة المتهالكة والملاط المتساقط والأسلاك الكهربائية المقطعة إنها تُعَد سجلًّا قيِّمًا لما حدث، وأسعدني الحصول عليها فكتبتُ للدكتور موري يا شاكرًا.

شعرتُ بآلام في المعدة، وعندما حان وقت الغداء لم أستطع تناوُل الطعام، واكتفيتُ بارتشاف كوب من الماتشا، وبينما كنت أفكر في محل الشاي الذي يملكه صديقي ناكومورا في أوكاياما هبَّت الرياح فجأةً، وما هي إلا لحظات حتى اشتدَّت سرعتها وارتفعَت حرارتها، فخشيتُ أن يعقبها مطرٌ غزير، واتجهتُ إلى غرفتي لأتأكد من تثبيت حاجز النافذة، وحاولتُ أن أُبعد الأسرَّة عن النوافذ بقدر الإمكان حتى إذا سقط المطر كنا بمنجاة من البلل إلى حدٍّ ما، وأخبرتُ زوجتي باستعداد الدكتور آكي ياما للمساعدة في ترحيلها خارج المدينة، ولكنها ضحكَت ولم تعلق على كلامي، واستمرَّت تعاونني في إزاحة الأسرَّة بهدوء.

وبعد تناوُل العشاء سكنَت الرياح فجأةً ثم انهمر سيلٌ جارف من المطر، لم تكن هذه عاصفةً عادية ولكنها كانت تيفونًا، وما هي إلا لحظات كانت المياه تملأ الحجرة وتبدو كالأمواج في عرض البحر، وتمزقَت الملاءة التي كانت مثبتة على النافذة المجاورة لسريري، وأخذَت الناموسيات ترفرف كالأعلام، وأصبحنا وكأننا ننام في عرض الطريق. وعادت الرياح تهبُّ بسرعةٍ شديدة نحو الساعة التاسعة، فاندفع الناس من المدينة إلى المستشفى ومبنى المصلحة يلتمسون ملجأ، وقليل من أولئك الذين استطاعوا النجاة بأنفسهم قبل أن تنهار فوق رءوسهم الأكواخ التي يعيشون فيها، وارتفعَت المياه حتى خشينا أن تتحول إلى فيضان، وأصبح كل فردٍ منا مبتلًّا حتى الجلد. وما كاد يحل منتصف الليل حتى أصبح كل شيء في المستشفى يبدو وكأنه متروك في العراء. وتوقفَت الرياح بعد منتصف الليل بقليل، وأعقبها توقُّف المطر، ولكننا لم نذق للنوم طعمًا؛ فقد كنا جميعًا مبللين ومتوترين لدرجةٍ جعلَت النوم يذايل جفوننا. ولكننا غفونا قليلًا قبَيل الصباح.

١٨ سبتمبر ١٩٤٥م

سماءٌ ملبَّدة بالسحب التي ما لبثَت أن انقشعَت.

استيقظتُ لأجد العاصفة قد مرَّت، ولكن أكتافي وفخذي كانت تؤلمني، وأصبح أنفي مسدودًا بسبب الزكام، وحين خرجتُ إلى الشرفة وجدتُ بحيرةً كبيرة أصبحَت موجودة أمام المستشفى، ولم يعد هناك وجود للأكواخ الصغيرة التي أُقيمَت حول المستشفى ليأوي الناس إليها. أما الخطابات فكانت مبعثرة بين مبنى المصلحة ومبنى المستشفى، فنزلتُ إلى هناك وحاولتُ أن أجمع منها ما استطعتُ جمْعه وكانت معظمها خطاباتٍ مسجلة.

ذهبتُ إلى مكتب العمل لأسأل السيد سيرا والسيد كيتاءو عن حجم الدمار الذي سببه التيفون، فعلمتُ منهما أن المستشفى لم يفتقد شيئًا سوى بعض البطانيات، ويبدو أن الناس الذين لجَئوا إلى المستشفى من الخارج خلال التيفون يلتمسون ملجأً قد أخذوها معهم، ولكني التمستُ لهم العذر، فهم لا شك في حاجة إليها بعدما دُمرَت أكواخهم.

وكان المرضى يشكون من الإصابة بالبرد ولكن إصاباتهم كانت عادية، أما الفتاة الجميلة التي كانت ترقد وسط بركة من القيح والقذارة فقد أصبحَت الآن قادرة على الحركة دون مساعدة أحد.

مرَّت فترة الصباح دون وقوع حوادث سوى قدوم رسول من عند صديقي الأستاذ هاتا يطلب مني الذهاب إلى جزيرة مياجيما لأوقِّع الكشف الطبي على مدير بنك اليابان بهيروشيما، فأجبتُ بأنني لا أشعر بالقدرة على القيام بمثل هذه الرحلة الآن.

تحسَّن الجو بعد الظهر فقررتُ أن أتمشَّى قليلًا، فما أجمل طلوع الشمس بعد انقضاء المطر! وأخذتُ أتجول حتى وصلتُ إلى الخندق الممتلئ بالماء المحيط بقلعة هيروشيما، ودهشتُ حين رأيتُ رجلًا يصطاد الضفادع بطريقةٍ خاصة ويبيعها للناس، الصغير منها مقابل خمسين ينًّا والكبير منها مقابل مائتَين، فدهشتُ لارتفاع الأسعار بصورةٍ خيالية، ولكن الناس كانوا يتهافتون على شراء ما يصطاده الرجل أولًا بأول.

بعد تناوُل العشاء أخبرتُ رفاقي بقصة صياد الضفادع واندهشوا بدَورهم للتغير الكبير في الأحوال، وأويتُ إلى فِراشي منهكًا بسبب ما لاقيناه ليلة الأمس، وغرقتُ في ثباتٍ عميق لم يقطعه سوى صراخٍ سمعتُه في الليل: «اللص … اللص …» فاستيقظتُ فزِعًا، ولكنه كان حلمًا مفزعًا أصاب الدكتور تاماجاوا فاعتذر لنا عن إزعاجنا، وواصلْنا النوم حتى الصباح.

١٩ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ لطيف.

كانت السماء صافية في الصباح، والجو جميل، والشمس ساطعة، ولما كنت قد استمتعتُ بنومٍ عميق ليلة الأمس، فقد عقدتُ العزم على الذهاب إلى مياجيما للكشف على مدير البنك المريض تلبيةً لطلب الأستاذ هاتا الذي تلقيتُه بالأمس، فطلبتُ من السيدة سائيكي العجوز أن تعد لي (بنتو) وجبةً خفيفة أتناولها أثناء الرحلة، وبدأتُ السير عن طريق كوئي عبْر جسر ميساسا وشاهدتُ رجلًا يدفع عربة فوق الجسر تحمل لحم البقر، ولم أكن قد شاهدتُ اللحم منذ عهدٍ بعيد، وكان منظر اللحم الطازج فيما مضى يثير تقززي، أما اليوم فقد سال لعابي عند رؤية اللحم. وبلغتُ محطة كوئي عند الظهيرة، وتمكنتُ من الحصول على مقعد في عربة الترام المزدحمة المتجهة إلى مرفأ مياجيما. وفي الطريق إلى وجهتي أخذتُ أرقب المنطقة التي يمر بها الترام، فكانت المنازل فيما بين كوئي وتاكوسا عارية السقوف محطمة النوافذ والحوائط تبدو وكأن زلزالًا قد أصابها، أما المنطقة الواقعة وراء كوساتسو٣٨ فقد كانت منازلها أحسن حالًا، أما نوافذها فكانت محطمة، وكانت علامات الدمار واضحة حتى إيتسوكايتشي وتختفي آثار الدمار تمامًا عند هاتسوكايتشي، وبالقرب من جي جوزن بدأَت جزيرة مياجيما تلوح في الآفق، وإلى يمين الطريق ركزتُ نظراتي على المنازل الصيفية الجميلة المسماة «بسو» التي يقضي فيها الصيف أثرياء الناس.

وقد أدهشني أن أرى بعض المنازل عند مرفأ مياجيما وقد فقدَت نوافذها لأن المنطقة تبعد كثيرًا عن هيروشيما. وتوقفتُ عند محلٍّ لصناعة الفخار تربطني بصاحبه صداقةٌ قديمة حيث تناولتُ طعام الغداء، ثم ركبتُ العبَّارة في الطريق إلى مياجيما، واستغرقَت الرحلة البحرية نحو نصف ساعة وصلتُ بعدها إلى الجزيرة الجميلة. وقصدتُ هناك فندقًا صغيرًا أعرفه يديره بعض الأصدقاء لتحيتهم، ثم تابعتُ السير إلى فندق بائي رنيو الذي يقيم فيه مدير البنك، وكان هذا الفندق يقع فوق قمَّة تلٍّ صغير تحيط به منازل قديمة من مختلف الجهات، وتطل نوافذه على منظر الجزيرة كلها، وتلوح في الأفق هيروشيما من بعيد. كم تمنيتُ أن أقيم في هذا المكان الجميل! واستقبلَتني زوجة المدير، وقادتني إلى حجرته حيث علمتُ أنه كان يمارس العمل بالبنك عندما سقطَت القنبلة، ولما كان البنك يقع على مسافة ٤٠٠–٥٠٠ متر من مركز التفجير اعتقدتُ أنه قد أُصيب إصابةً بالغة، ولكن زوجته ذكرَت لي أنه يعاني من الضعف وفقدان الشهية. وبعد أن فحصتُ الرجل أيقنتُ أن فرصته في الشفاء كبيرة، فعلى الرغم من أنه كان بالبنك عند وقوع الحادث إلا أن بناء البنك المتين كفل له الحماية من الإصابة بالإشعاع الذري، وذكرتُ له أن البنك قد تحول الآن إلى مركز استعلامات تغطي جدرانه نشراتٌ تحمل أسماء المفقودين والموتى والمصابين، وأوصيتُه بأن يُكثر من تناوُل الطعام الجيد كوسيلة للعلاج، وعُدتُ أدراجي إلى الفندق الذي يديره أصدقائي حيث تناولتُ الطعام عندهم واسترحتُ قليلًا ثم ودعتُهم بعد أن حمَّلوني بأنواع شتَّى من الهدايا. ووصلتُ إلى مرفأ مياجيما نحو الرابعة مساء، فألقيتُ التحية على صاحب محل الفخار، وركبتُ الترام قاصدًا هيروشيما. وفي الطريق سمعتُ حديثًا يدور بين الركاب حول فتاةٍ كانت لأحدهم رأوها تسير مع جنود الاحتلال، وتردَّد على لسان البعض ضرورة إلقائها في البحر عقابًا لها على ذلك.

وبعد أن غادرْنا محطة إيتسوكايتشي بقليل توقفَت عربة الترام فجأةً، واتضح أن هناك ثلاثة من السُّكارى وقفوا على الخط الحديدي فأجبروا السائق على التوقف ودفعوا المحصل جانبًا ثم ركبوا الترام، وأخذوا يسبون المحصل والسائق بألفاظٍ بذيئة ويعربدون في العربة ويهددون الناس جميعًا وهم يرددون أغنيةً غرامية كورية، ثم يصيحون بين الحين والآخر: «باتراي.» (يعيش)، وقبل أن تصل العربة إلى كوئي أجبروا السائق على التوقف مرةً أخرى وغادروها، ولم يدفع أحدهم الأجرة، ولم يستطع أحد أن يجبرهم على دفعها، فاستأتُ لتصرُّف هؤلاء السكارى وساءلتُ نفسي إلى متى تستمر قيم الحرب؟ لقد كان الناس يلقنون مبدأ يقول: «القوة هي العدالة، والعدالة هي القوة.» ويبدو أن هؤلاء السكارى كانوا لا يزالون متمسكين بقيَم ما قبل الهزيمة.

وصلتُ إلى المستشفى منهكًا مكتئبًا لِما شاهدتُه في عربة الترام، ورويتُ ما حدث لأصدقائي بصعوبةٍ بالغة، ثم استحممتُ وأويتُ إلى فِراشي دون أن أتناول طعام العشاء.

٢٠ سبتمبر ١٩٤٥م

سماءٌ صافية مع ظهور بعض السحب أحيانًا.

كانت رحلتي إلى مياجيما فوق طاقتي البدنية، فقد كنتُ منهكًا ليلة الأمس، ولم أستطع النوم إلا لمامًا، وعندما استيقظتُ هذا الصباح كانت أرجلي تؤلمني، ونهضتُ بصعوبةٍ من فِراشي لتناوُل الإفطار ثم عُدتُ إلى الفِراش لأستريح، وعندئذٍ حضر صديقٌ قديم كان يملك محلًّا تجاريًّا يحمل اسم «إيريبن»، وكان مغتمًّا حزينًا، وما لبث أن انفجر بالبكاء قائلًا: «يا دكتور لقد ماتت أويوني ولا أدري أين أو متى حدث ذلك، فقد غادرَت زوجتي المسكينة البيت صباح يوم البيكا لتنضم إلى إحدى فِرق العمل، وكانت هذه هي النهاية، فلم أسمع وابنتي عنها شيئًا حتى الآن.» فسألتُه عن ابنته ماساءو فأخبرني أن ذراعها كُسرَت عندما دمَّر التيفون البيت. وكان حديثه لا يكاد يُسمَع وسط النحيب، كما أنه كان جريحًا وكانت رأسه مغطَّاةً بضمادة من القماش المتسخ، وحالتُه تدعو للرثاء، فحاولتُ أن أهدئ من روعه، ولكني انفجرتُ باكيًا وجاءت السيدة سائيكي لتجدنا على هذه الحال، فأخذَت تنقل نظراتها بيننا، وحاولَت أن تطيِّب خاطر الرجل العجوز المسكين، وعرضَت عليه أن يحضر هو وابنته ليُقيما معنا فغادر المستشفى وهو يشعر بالارتياح.

كنتُ مستلقيًا فوق السرير بعد الغداء أحملق في الفضاء عبر النافذة عندما اندفع السيد سيرا إلى الحجرة متقطع الأنفاس وهمس في أذني قائلًا: «يا دكتور، هناك ضابطٌ أمريكي بالخارج.» وفزعتُ عند سماعي هذه الكلمات، غير أني لم أحر جوابًا للحظات ثم تملكني الخوف والغضب، وتغلَّبتُ على شعور العداء، واستجمعتُ قواي وقلتُ بصوتٍ مقتضب: «يا سيد سيرا لا تهتم بأمره.» فأجاب بارتياع: «يا دكتور لا تقل مثل هذا الكلام، إن الرجل يقف عند مدخل المستشفى الآن، أرجوك أن تقابله.» وبدأ شعور العداء عندي يفسح المجال لشعورٍ بالرهبة؛ إذ كنت أعرف أنه لا خيار أمامي، وأن عليَّ أن أقابل هذا الضابط. كان بنطلوني متسخًا، ولم يكن قميصي أحسن منه حالًا، غير أني لم أهتم بمنظري هذا عندما اتجهتُ لمقابلة هذا الأجنبي. وبعد لحظاتٍ سمعتُ وقع أقدام الضابط على الدرج، فإذا به رجلٌ مهيب خلفه حارسٌ أسود يتمنطق بمسدس، ويبدو أنه جاء ليلعب دور المترجم بيننا وبين الضابط، فأخبرتُهما أنني مدير مستشفى المواصلات بهيروشيما، وبعد أن قمتُ بتحيتهما، عرضتُ عليهما أن يتفقدا عنابر المرضى، وكان الضابط مهتمًّا بمعرفة الأضرار التي ترتبَت على التيفون، ولم يكن يُلقي بالًا لحديثي عن نتائج الإصابة بالقنبلة الذرية، واكتشفتُ أن المترجم لا يعرف من اليابانية إلا قليلًا؛ ولذلك لم أطمئن إلى مقدرته على نقل ما دار بيني وبين الضابط من حديث، وبعد أن قمنا بالجولة التفقدية وصلنا عند زوجتي، وسألني الضابط عما إذا كانت قد أُصيبَت، فقلتُ له إنها تشكو من الأنيميا، كما أن بعض الجراح قد أصابتها، وشمرتُ أكمامها لأكشف له عن آثار تلك الجراح، فهز رأسه قليلًا ثم غادر المكان.

وبعد أن تركنا أخذ قلبي يدق بعنف، وعادت أرجلي تؤلمني من جديد ونسيتُ في غمرة الانزعاج أن أصحبه حتى مدخل المستشفى.

تغيَّر جو الهدوء الذي كان يخيم على المستشفى بمجرد ظهور هذا الضابط الأمريكي، فانزعج الموظفون، كما أن زوجتي التي لم يبدُ عليها التبرم حتى الآن ظهرَت عليها علامات القلق، وبدأَت الآنسة ياما تفكر في الفرار وتجمع حاجياتها، وشعرتُ بالقلق بدَوري، فإذا كان باستطاعتي أن أتبادل الحديث مباشرة مع الضابط الأمريكي ربما استطعتُ أن أعبِّر له عن مخاوفنا، ولعلَّه كان باستطاعته أن يهدئ من روعنا. ولم يكن لدي قاموس أستعين به في مثل تلك الحالات، فرغم إجادتي للإنجليزية قراءة وكتابة غير أني لا أحسن التخاطب بها ولا أفهمها حين أسمع حديثًا يدور بها. وعقدتُ العزم على أن أتفاهم مع الأمريكيين الذين يزوروننا في المستشفى بالكتابة، فهيأتُ مكانًا وضعتُ فيه منضدة وبعض المقاعد حتى أتخذه مقرًّا للحوار الكتابي مع من يزورنا من الأمريكيين في المستقبل، وكلفتُ موظفًا بالبحث عن قاموس ياباني-إنجليزي حتى إذا زارنا ضابط لا يصحبه مترجم استطعنا التفاهم معه، ولا بد أننا سنتعرض لمثل هذه الزيارات طالما أن الجزر اليابانية أصبحَت معسكر اعتقالٍ لنا، وعلينا أن نتدرب على التعبير عن أنفسنا باللغة الإنجليزية بعدما أصبحنا تحت رحمة العدو، طافت بمخيلتي صورة صاحب محلات إيريبن الذي كان غنيًّا ميسور الحال بالأمس وأصبح الآن متسولًا يضع على رأسه ضمادة من القماش المتسخ، إنه يرمز إلى ماضي اليابان وحاضرها.

٢١ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم وزخَّات مطر خفيفة.

علمتُ صباح اليوم أن الملاحة في خليج هيروشيما ستصبح محظورة اعتبارًا من الخامس والعشرين من سبتمبر، أخبرني بذلك السيد سوميتاني مراسل جريدة جودو الذي فقد زوجته خلال الحوادث، وجاء إلى هيروشيما ليحضُر إقامة شعائر اليوم التاسع والأربعين الذي يصوم فيه البوذيون احترامًا لذكرى الموتى، ويحل هذا اليوم في الثالث والعشرين من سبتمبر هذا العام، فذكَّرني بإحياء شعائر هذا اليوم احترامًا لأرواح أصدقائي من ضحايا هيروشيما.

قررَت زوجتي أخيرًا أن تذهب إلى بلدتنا بالقرب من أوكاياما وأعددنا لها عدة الرحيل في الرابع والعشرين من هذا الشهر، أما الآنسة ياما فستغادرنا اليوم عندما تحضُر أختها لمرافقتها. وكنت في بداية الأمر أتردد في السماح للمرضى بمغادرة المستشفى وخاصة أولئك الذين كانت حالتهم خطيرة، ولكن الخوف نصب شباكه حول الناس جميعًا منذ وصول قوات الاحتلال؛ ولذلك أصبحتُ أشعر بالارتياح عندما يغادرون المستشفى، فكلما قل عدد المرضى كلما أصبحَت مسئولياتنا محدودة، وخاصة أننا لا نعرف شيئًا عن نوايا قوات الاحتلال، غير أني بذلتُ أقصى الجهد في تهدئة روع من بقي بالمستشفى من المرضى.

تناولنا في طعام العشاء طبقًا مكونًا من أرجل الضفادع، فرويتُ لأصدقائي قصة الرجل الذي شاهدتُه عند قلعة هيروشيما يصطاد الضفادع ويبيعها للناس.

٢٢ سبتمبر ١٩٤٥م

جوٌّ ممطر مصحوب بالبرق والرعد.

استيقظتُ اليوم مبكرًا على غير العادة، وكانت السيدة سائيكي العجوز تقوم بإعداد طعام الإفطار بالمطبخ، بينما كان السيد ميزوجوتشي لا يزال نائمًا، وألقيتُ نظرة على الأسرَّة الخالية الموجودة بالغرفة والتي كان يشغلها الأصدقاء الذين غادروا المستشفى فشعرتُ بالشوق إليهم. لقد أصبحَت ذكريات هذه الحجرة عزيزة عليَّ وهو أمر لم أكن أتوقعه منذ أسابيع مضت.

بعد تناوُل الإفطار، طلبتُ من السيدة سائيكي أن تنظف الحجرة وتعيد ترتيبها حتى نستطيع استخدامها كغرفة اجتماعات إذا عاد جنود العدو لزيارتنا مرةً أخرى، فنحينا السيوف والأسلحة القديمة التي عثرنا عليها بين الخرائب جانبًا، ووضعنا الأسرَّة في أحد جوانب الغرفة، ووضعنا منضدة وبعض المقاعد في وسطها، أما الأريكة التي أعددناها لاستراحة ضيوفنا فكانت عبارة عن لوحٍ خشبي بأربعة أرجل وأصبحَت الغرفة بذلك معدَّة لاجتماع أربعة أو خمسة من الضيوف.

ولما كان عدد المرضى آخذًا في التناقص، حتى إنه لم يبقَ منهم إلا نفرٌ قليل وليس لدي ما أفعله؛ فقد آثرتُ أن أجلس مترقبًا ما قد تسوقه الأقدار، وأصبحتُ أتمتع لأول مرة بقدر من الهدوء جعلني أستعيد ذكريات الماضي بشيء من الموضوعية. كانت الشرور التي بدأَت تهبط على هيروشيما تثير قلقي، كالجنود السكارى الذين يعيثون في الأرض فسادًا مثل أولئك الذين رأيتُهم أثناء عودتي من مياجيما والذين يمثِّلون صورة الحاضر الذي نعيشه الآن. لم يعد هناك مكان للحكَم المأثورة التي تقول «العدالة هي القوة.» و«المرء بخلقه وليس بمولده.» وبدا لي أن نظام التعليم كان بالغ الأثر زمن السلم عندما كان هناك قانون ونظام. إن الأخلاق لا يمكن أن يصقلها التعليم، فإنها تثبت وجودها في أحسن صورة عندما لا يكون هناك شرطة تحفظ النظام، وسواء كان الرجل متعلمًا أو غير متعلم فإن باستطاعته أن يبرز خلقه في وقت الشدة، والنصر دائمًا في جانب الخلق المتين. لقد اختفت هذه الحكم الغالية وأصبحَت القوة هي العدالة، وأصبح المولد أكثر أهمية من الخلق، ولا بد أن تحكم القوة هذا البلد.

٢٣ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ غائم في أول النهار، ثم ما لبث أن أصبح صحوًا بعد ذلك.

اليوم هو التاسع والأربعون الذي تُكرَّم فيه أرواح الموتى، وعندما استيقظتُ اليوم فكَّرتُ في إقامة صلاةٍ بوذية على أرواح أصدقائي الذين قُتِلوا خلال البيكا، وبعد تناوُل الإفطار ذهبَت السيدة سائيكي العجوز لتصلي من أجل أبنائها الثلاثة الذين فقدَتهم في الحرب، وبينما كنت أتأهب للخروج جاءني صديقان هما السيدة كانيكو وزوجة ولدها، وما كادت تراني حتى انفجرَت باكية لتقول إن ولدها قد مات وراحت تقص عليَّ قصته: «في اليوم التالي للبيكا عُدتُ وزوجة ابني إلى المدينة لنبحث عنه بين حطام منزلنا، وبينما كان زوجي يفحص الجثث المسجاة هنا وهناك بالقرب من ساحة التدريب وجد شخصًا ميتًا وهو واقف، وقد واصلتُ البحث بين حطام البيت غير أني لم أجد شيئًا، ثم ما لبثتُ أن وجدتُ عظام إنسانٍ محترقة لا زال الدخان يتصاعد منها، غير أني لم أستطع الجزم بأنها لولدي. وعُدتُ في اليوم التالي لأجد أنها عظامه؛ فقد تأكدتُ من وجود بكلة حزامه فوق الهيكل العظمي.» ثم استطردَت تقول: «أرجوك أن تحضر لزيارتنا في فوكاوا؛ فإن زوجي المسكين قابع هناك ولا شيء يُدخل السرور على قلبه إلا حين يراك. لقد كنت في طريقي إلى المعبد حين خطر لي أن أزورك، سايونارا (إلى اللقاء).»

فقلتُ لها: «سايونارا.» ردًّا على تحية الوادع، بينما رسمتُ على شفتي ظلال ابتسامة وأحنيتُ هامتي لهذه السيدة المسكينة وأرملة ولدها، ثم انطلقتُ لأصلي على أرواح أصدقائي من الضحايا مبتدئًا بالجيران، فوقفتُ أمام حطام كل منزل أصلي من أجل سكانه الراحلين مغمض العينين. وكان يُخيَّل لي عند كل صلاة أنهم ماثلون أمامي وعلى وجوههم ابتسامةٌ عريضة، واستعرتُ دراجةً أخذتُ أطوف بها أرجاء المدينة أصلي من أجل بقية الأصدقاء، فعبرتُ جسر ميساسا وجسر يوكوجاوا، وسِرتُ بالدرجة على شاطئ نهر أوتا أفكِّر في هؤلاء الأصدقاء، ثم عبرتُ منطقة تيرا ماتشي حتى وصلتُ إلى حي سورا زاياتشو فبلغتُ المكان الذي مات فيه الدكتور موري سوجي وزوجته، فصليتُ هناك من أجلهما، واتجهتُ بعد ذلك إلى مكانٍ بالقرب من مركز التفجير حيث كانت رائحة البخور تعبق في الجو وجمعٌ غفير من الناس يصلون من أجل أحبائهم. ثم عبرتُ جسر أيوي مخترقًا مركز التفجير، فكانت خرائب متحف العلوم والصناعة تقع على جانب الطريق وأمامها خرائب المباني الأخرى، وعبرتُ هذه المنطقة حتى بلغتُ موقع مكتب بريد هيروشيما، وهناك وجدتُ شاهدًا حجريًّا كُتِب عليه «مات جميع العاملين بالمكتب في ساحة الشرف.» وبعد أن صلَّيتُ من أجل أصدقائي الذين ماتوا هناك، أخذتُ أفكِّر في حجم الخسارة التي نزلَت بنا، وبعد ذلك عبرتُ وسط خرائب مستشفى الدكتور شيما حيث ماتت عائلته وسائر العاملين معه وجميع المرضى، أما هو فقد نجا من الموت لوجوده خارج المدينة عندما وقع الحادث، وتذكرتُ الصديقين: الدكتور كورا كاوا، والدكتور تينا كا اللذين كانا يعملان معه ولقيا مصرعهما في الحادث. وبعد أن تجولتُ بعض الوقت وزرتُ الأماكن التي مات فيها أصدقائي الآخرون عُدتُ إلى المستشفى في وقتٍ متأخر متعبًا مكتئبًا.

وجدتُ في انتظاري عشاء من السوكي ياكي٣٩ أعدَّه السيد ميزوجوتشي احتفالًا بسفر زوجتي، وضمَّت مائدة العشاء الآنسة كادو والسيدة سائيكي والسيد ميزوجوتشي بالإضافة إلى وزوجتي، وبعد العشاء لبثنا نتحدث طويلًا، كان هذا هو العشاء الأخير لزوجتي بالمستشفى، تناوله معها أصدقاء اشتركوا معًا في كل الحوادث التي حلَّت بنا منذ وقع البيكا، وستغادر زوجتي المستشفى غدًا فلا غرو أنها تبدو سعيدة كطفل صغير.

٢٤ سبتمبر ١٩٤٥م

جوٌّ صحو بصورةٍ عامة تتخلله بعض السحب أحيانًا تصحبها أمطارٌ خفيفة.

تحدَّدَت الساعة السادسة صباحًا موعدًا لرحيل زوجتي، فأعدت السيارة أمام باب المستشفى قبل أن ننتهي من تناوُل الإفطار، وتولى السيد إيجوتشي قيادة السيارة الحكومية التي كانت تُستخدَم للمرة الأولى منذ البيكا. واشتركَت مجموعةٌ كبيرة من الأصدقاء في توديع زوجتي ساعة الرحيل.

غفوتُ قليلًا بعد رحيل زوجتي واستيقظتُ فجأةً على شعور بالمغص ورغبة في التبرز، واكتشفتُ أنني أعاني من الإسهال، فظننتُ أن السبب يرجع إلى وجبة العشاء التي تناولناها بالأمس، ولكن تكرر ذهابي إلى المرحاض عدة مرات. وعندما عُدتُ إلى غرفتي تناولتُ كوبًا من الشاي ولم أعبأ بتناوُل الغداء، وطلبتُ من السيدة سائيكي أن تُحضر لي دواءً قابضًا من الصيدلية، وعندما علم الدكتور هينوئي بحالتي جاء إليَّ مسرعًا وأعطاني دواء السلفا جوانيدين مع دواء للمعدة وألقى عليَّ محاضرة حول ضرورة الاهتمام بصحتي، مؤكدًا أن الكثير من المرضى ماتوا بعد البيكا ممن كانوا يعانون من الإسهال بسبب عدم اتباعهم التعليمات الخاصة بالعلاج.

وأخذ الشك يتسرب إلى نفسي، تُرى هل استنشقتُ ذلك «الغاز السام» الذي تحدَّث الناس عنه أثناء تجولي وسط الخرائب بالأمس، ولكن مرات ترددي على المرحاض ازدادت عددًا وشعرتُ بأعراض تشبه الدوسنطاريا، ثم أصبحتُ عاجزًا عن الذهاب إلى المرحاض، فدبرَت لي السيدة سائيكي قصرية فِراش وعاونتني على استخدامها، وازددتُ وهنًا على وهن، فطلبتُ منها أن تعد لي كيسًا من الرمل الساخن لأضعه فوق بطني، فأعدَّت لي زجاجة من الماء الساخن استخدمتُها لهذا الغرض، وعادني الدكتور كوياما والدكتور كاتسوبي ولكنهما لم يستطيعا أن يفعلا شيئًا لتخفيف آلامي، غير أن زجاجة الماء الساخن جعلتني أشعر ببعض الراحة. ومنعَت السيدة سائيكي الزوار من دخول الغرفة، وضربَت ستارًا حول سريري لتتيح لي قدرًا من الحرية. وفي المساء شعرتُ بالعطش الشديد ورغبتُ في تناوُل الماء البارد، ولكني خشيتُ أن تزداد رغبتي في التبرز ففضلتُ تحمُّل العطش على تناوُل الماء، وتمكنَت السيدة سائيكي بعد ذلك من إحضار كيس من الرمل الساخن ووضعَته فوق بطني، واتخذَت لنفسها فِراشًا بجواري وأخذَت تتحدث معي حتى استغرقَت في النوم، غير أنها كانت تستيقظ بمجرد أن تشعر بحركتي حين أشعر بالحاجة لاستخدام القصرية فتهب لمعاونتي، ولم أستطع النوم إلا لمامًا طيلة الليل.

٢٥ سبتمبر ١٩٤٥م

جوٌّ صحو.

شربتُ بعض الشاي بالملح، وطلبتُ بعض بذور الخل لرغبتي في أن أتناول شيئًا مرًّا، وطلبتُ قليلًا من حساء الأرز، ولكن حالة المرض استمرَّت على ما هي عليه بالإضافة إلى الدم والمخاط، ولم أشعر بحياتي بالضعف وقلة الحيلة مثلما شعرتُ اليوم. وتناولتُ في المساء طبقًا من حساء الأرز مع قليل من الملح ثم تجرعتُ الدواء، فتناولتُ جرعةً كبيرة من السلفا جوانيدين، غير أن حالتي لم تتحسن.

٢٦ سبتمبر ١٩٤٥م

جوٌّ صحو ما لبث أن تلبد بالغيوم وتساقط المطر.

حالتي اليوم لا تزيد عما كانت عليه بالأمس مع استمرار الإسهال الدموي والألم والضعف العام، وأُضيف الكودين إلى الدواء الذي أستخدمه، ولم أذُق الطعام طوال اليوم فيما عدا ثلاث أطباق من حساء الأرز، وعند المساء جعلني الكودين أُحس ببعض الراحة فلم أشعر بالحاجة لاستخدام القصرية إلا مرات قليلة خلال الليل.

٢٧ سبتمبر ١٩٤٥م

جوٌّ ممطر مبلد بالغيوم.

استيقظتُ في الصباح معانيًا من جفاف الحلق، فتناولتُ كوبًا من الماء الساخن بالسكر بالإضافة إلى طبق من حساء الأرز التي أصبحتُ أمجُّ طعمها، وتحسنَت حالتي بعض الشيء ربما كان الفضل يرجع للكودين فتناولتُ جرعةً أكبر منه، شعرتُ بالتحسن بعض الشيء في المساء ونمتُ طوال الليل.

٢٨ سبتمبر ١٩٤٥م

طقسٌ متقلب بين الغائم والصحو.

تحسنَت شهيتي اليوم، فتناولتُ في الصباح طبقَين من حساء الأرز بالإضافة إلى كوب من الماء الساخن بالسكر، وأكدَت لي السيدة سائيكي أن كل شيء سيصبح على ما يُرام، وأن السيد ميزوجوتشي قد عاد بأخبار عن رحلة زوجتي.

لقد نسيت خلال الأيام الأربعة أو الخمسة الماضية كل شيء عن زوجتي وولدي، وبعدما تحسنَت حالتي الآن أخذتُ أفكر في أمي ومدى سعادتها عندما وصلَت زوجتي، ولكني صرفتُ التفكير في هذا الموضوع مفضِّلًا التركيز على حالتي، فشفائي مهم بالنسبة لهم لأتولى رعايتهم.

بدأتُ أستقبل بعض الزوار وكان من بينهم السيد ياماشيتا الذي أطلعني على مذكراته التي كتبها حول حادث البيكا وعجبتُ لعبارات التفاؤل بالنصر التي وردَت في مذكراته والتي تتناقض مع الهزيمة التي وقعَت بالفعل. تُرى كيف يفكر الناس بالنصر ويرغبون في تحمل الصعاب من أجل تحقيقه غير مصدقين أن الهزيمة قد حلَّت بهم بالفعل؟!

شعرتُ بالتحسن وبالعافية تدبُّ في بدني، وأصبحتُ أستطيع النهوض من الفِراش والذهاب إلى غرفة الطعام حيث تناولتُ بعض الأوراق وقلم رصاص وسجلتُ وقائع الأيام التي مضَت من يومياتي حتى لا أنسى شيئًا، وفي العشاء تناولتُ حساء الأرز والدواء. ورغم تحسُّن حالتي كان لا يزال بيني وبين الشفاء التام مراحل طويلة، فلم أستطع النوم طوال الليل إلا قليلًا، واعتقدتُ أنني أُسرع الخطى نحو الموت حين تذكرتُ الإشاعات التي ترددَت حول أولئك الذين لقوا حتفهم بعد أن تجولوا وسط خرائب المدينة.

٢٩ سبتمبر ١٩٤٥م

جوٌّ صحو تتخلله السحب أحيانًا.

مكثتُ في الفِراش هذا الصباح، فلم أستطع الذهاب إلى غرفة الطعام، وحاولتُ ازدراد طبقَين من حساء الأرز رغم فقداني الشهية، ثم ذهبتُ إلى مرحاضي المفضل خارج المستشفى، وبعد قضاء الحاجة اكتشفتُ وجود أكياس في البراز، فاطمأننتُ إلى أن ما أعاني منه نزلةٌ معوية وليس مرض الإشعاع الذري، وعُدتُ مرةً أخرى إلى فِراشي وأنا أشعر بالراحة وتابعتُ تناوُل العلاج.

زاراني ضابطان من جيش الاحتلال بعد ظُهر اليوم، ورغم أنني لم أكُن أشعر بالراحة فقد حاولتُ أن أكون كريمًا معهما فلففتُ كوفيةً حول بطني لأدفئ معدتي، وصحبتُهما في جولةٍ داخل عنابر المرضى ولم يستطع كلٌّ منا فهم ما يقوله الآخر، رغم أنني شعرتُ بنبرات الصداقة في حديث الضابطَين الشابَّين، فاستجمعتُ أطراف شجاعتي وقلتُ لهما باللغة الإنجليزية: «كيف حالكم؟ How are you» فأجابا على تحيتي بمنحي سيجارة قبِلتُها شاكرًا وأشعلها أحدهما لي، وحاولتُ خلال الجولة أن أطلعهما على أحوال المستشفى بقدر المستطاع رغم ما أشعر به وهن، وبعد أن انتهت جولتنا ووصلنا إلى باب المستشفى صافحاني وقالا لي باليابانية «كون ني تي وا (كيف حالك).» بدلًا من عبارة «سايونارا (إلى اللقاء).» فانفجر من كانوا معي في الضحك، وضحكتُ بدَوري، كما ضحك الضابطان الشابان، وركبا سيارتهما وقد ارتسمَت على وجهَيهما ابتسامةٌ عريضة، وظلَّا يلوِّحان لنا بأيديهما حتى اختفَت سيارتهما عن الأنظار، وقد تركَت زيارتهما شعورًا بالطمأنينة في نفوس الجميع، وأصبحَت عبارة التحية التي ألقياها علينا قبل انصرافهما موضوعًا لتندُّرنا.

وضعَت اليوم السيدة هي ياما التي كانت تعمل بالمستشفى منذ سقوط القنبلة طفلًا في بيتها بكا كوماتشي، وكانت تؤدي واجبها حتى ليلة الأمس، وسعدتُ حين علمتُ أن الطفل في حالةٍ طبيعة وأن الأم بصحةٍ جيدة، وكانت هذه هي حالة الولادة الوحيدة بين المقيمين بالمستشفى منذ وقع البيكا.

أويتُ إلى فِراشي مبكرًا واستغرقتُ في نوٍم عميق.

٣٠ سبتمبر ١٩٤٥م

أمطارٌ غزيرة وغيوم كثيفة.

استيقظتُ قبل الفجر بقليل، وقد شعرتُ بتحسُّنٍ ملحوظ، وأصبحَت معدتي أحسن حالًا، وتناولتُ طبقَين من حساء الأرز في وجبة الإفطار، وجاء السيد ميزوجوتشي أثناء تناوُل الإفطار بنبأ وصول زوجتي إلى بلدتنا بسلام، وحمل إليَّ أنباء الرحلة وتعليقات والدتي على ما حدث لنا وللبلاد.

بعد الظهر زارَتنا مجموعتان من جنود الاحتلال، أما أفراد المجموعة الأولى فقد تفقدوا الأحوال في المستشفى بمصاحبتي، واهتموا بالوقوف على تفاصيل كل شيء، ويبدو أن أحد أفراد هذه المجموعة كان مدرسًا، لأنه كان يحرص على ترميم صدع إنجليزيتي ويصحح لي طريقة النطق، أما المجموعة الثانية فكان معها مترجمٌ أمريكي من أصلٍ ياباني ينحدر من أسرةٍ تقيم في «تنَّا»، وجلستُ مع هذه المجموعة في المكان الذي أعددتُه للاجتماعات، ووقف أحدهم ينظر إلى الخرائب عبر النافذة ثم قال من خلال المترجم: «لا بد أن تكون هناك بعض الجثث بين هذه الخرائب ويُخيَّل لي أنه إذا لم يتم إزاحة تلك الأنقاض فإن هذه الجثث المتعفنة وهذا الدمار سيظل سببًا في سوء العلاقة بين بلدَينا، فما رأيك؟»

فأجبتُ: «إنني موافق على رأيك تمام الموافقة، فقد سمعتُ أنكم استخدمتُم في كوري آلةً جديدة لإزاحة الخرائب تسمونها على ما أظن «البلدوزر» فلماذا لا ترسلون واحدة منها إلى هنا لمعاونتنا على إزالة تلك الأنقاض، وإلا فإنني على يقين أن أولئك الذين جُرِحوا أو فقدوا أقاربهم وأصدقاءهم سيظلون يذكرون يوم سقوط القنبلة ويحقدون عليكم ويكرهون بلادكم كلما رأوا حال المدينة.»

فأجاب الضابط: «إن هذا الموضوع غير قابل للمناقشة؛ فإن أمريكا لا تستطيع إرسال أي معدات إلى هنا في الوقت الراهن، ولكن ما رأيك في حادث قصف هيروشيما بالقنبلة الذرية؟»

فأجبتُ بقولي: «إنني رجلٌ بوذي، وقد تعلمتُ منذ نعومة أظفاري أن ألزم السكينة في مواجهة المصائب، لقد فقدتُ بيتي وثروتي وجُرِحت، ولكن بغض النظر عن ذلك كله أعد نفسي محظوظًا لأني نجوتُ وزوجتي من الموت بينما لم يخلُ بيتٌ من فقْد عزيز أو قريب.» فردَّ الضابط بصلف وكبرياء: «إنني لا أستطيع مشاركتك هذا الشعور، فلو كنت مكانك لقاضيتُ البلاد.»

ووقف الضابط مرةً أخرى يحملق عبر النافذة ثم رحل مع جماعته. وبعد أن غادروا المستشفى رويتُ لأصدقائي هذا الحديث، وأخذتُ أردد بيني وبين نفسي عبارة: «أقاضي البلاد!» ولا أدري كم مرة ردَّدتُ هذه العبارة وكيف كان وقعها على نفسي، لقد كان الموقف كله أكثر من أن يحتمل.

١  جرَت العادة في اليابان على أن يقوم مرضى القسم الداخلي في المستشفيات بتدبير من يتولى خدمتهم وإعداد طعامهم، ومثل هذا الشخص يكون في العادة أحد أفراد أسرة المريض.
٢  قرية تقع على بعد عشرة أميال إلى الجنوب الغربي من هيروشيما.
٣  جسرٌ كبير مُقام على نهر أوتا، يقع بالقرب من قلعة هيروشيما شمال المدينة، ولا يبعد كثيرًا عن مستشفى المواصلات.
٤  وهي قرية فيما بين هيروشيما وجي جوزن.
٥  محطة سكة حديد تقع عند الحدود الغربية لمدينة هيروشيما.
٦  هو هيكل للديانة الشنتاوية بالقرب من الحدود الجنوبية لثكنات هيروشيما العسكرية، التي كانت تقع وسط المدينة، والمحراب يقع على بُعد ٢٠٠ متر من مركز انفجار القنبلة الذرية، وتعني كلمة جوكوك «أرض الآباء».
٧  كابى مدينة تقع على بعد عشرة أميال إلى الشمال من هيروشيما في وادي نهر أوتا.
٨  نينوشيما جزيرةٌ جبلية تقع على بعد ثلاثة أميال جنوب هيروشيما في خليج هيروشيما، وقد اتُّخذَت هذه الجزيرة ملجأ لمن بقي على قيد الحياة من سكان المدينة.
٩  «بيكا» باللغة اليابانية تعني: بريق أو ضوءٌ لامع، أما «دون» فتعني الصوت المدوي، فأولئك الذين شاهَدوا الانفجار من ضواحي المدينة سمعوا «بيكادون»، أما الذين كانوا قرب مركز الانفجار فقد شاهدوا بريقًا بلا صوت؛ ولذلك أطلقوا عليه «بيكا».
١٠  تقع على بعد أقل من ٥٠٠ متر من موقع المستشفى.
١١  هو هيكل للديانة الشنتاوية يقع على بعد ١٧٠٠ متر من مركز التفجير وعلى بعد نصف ميل تقريبًا من موقع المستشفى.
١٢  فوتشو ضاحية تقع على بعد ميل إلى الشرق من هيروشيما، ويفصلها عن المدينة مرتفعاتٍ جبلية منخفضة تمتد من الشمال إلى الجنوب.
١٣  إيواكوني قاعدةٌ بحرية كانت بها قاعدةٌ جوية أيضًا تقع على بحر اليابان على بعد ٣٠ ميلًا إلى الجنوب الغربي من هيروشيما.
١٤  كوري قاعدةٌ بحرية كبيرة على بحر اليابان تقع على بعد ٢٥ ميلًا إلى الجنوب الشرقي من هيروشيما.
١٥  جسر أيوي يمر فوق نهر أوتا بمنطقة وسط المدينة، وكان في مركز القصف تمامًا، ويُعتقَد أن القنبلة قد انفجرَت على بعد ٥٠ مترًا إلى الجنوب الشرقي من موقع الجسر.
١٦  دواء شعبي ياباني له مذاق النعناع، يُعتقَد في قدرته على تطهير المعدة من الأمراض.
١٧  الآيو نوع من السمك المرقط الصغير يعيش في المياه العذبة ويكثر وجوده في ذلك الوقت من العام في المجاري المائية التي تنتشر بالجبال.
١٨  تقع سينو إلى الجنوب الشرقي من هيروشيما في الطريق إلى كوري.
١٩  تقليدٌ ياباني متوارَث من العهد الإقطاعي، يُقدِم فيه الفارس المهزوم على الانتحار بشَقِّ بطنه بسكينٍ علانية قبل أن يقع في يد خصمه، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة يقوم أحد رفاقه بفصل رأسه عن جسده ليخفف عنه آلام معاناة سكرات الموت.
٢٠  قاعدةٌ جوية تابعة للبحرية كانت مركزًا للتدريب والإمدادات والوقود، وتضم مصنعًا لتجميع الطائرات، وتقع هيرو في ضاحية بالقرب من كوري على بعد نحو ٢٥ ميلًا إلى الجنوب من هيروشيما.
٢١  خمرٌ مصنوع من الأرز، تتوافر منه ثلاث درجات حسب نسبة الكحول في كلٍّ منها، ويُعَد شرابًا وطنيًّا في كلٍّ من اليابان والصين وكوريا، يتناوله الناس في مناسبات الحزن والبهجة على حدٍّ سواء، ويحمل معنى المشاركة.
٢٢  يأكل اليابانيون الأخطبوط الصغير مسلوقًا أو طازجًا دون طهي ويبدو بعد سلقه غضروفي المذاق.
٢٣  انفجرَت القنبلة على ارتفاع ما بين ٥٠٠–٧٠٠ فوق البحر، وربما كان مركز التفجير بالقرب من مستشفى شيما، فكما ذكر الدكتور هاتشيا وُجدَت الأعمدة الخرسانة التي شكلَت دعامات بناء المستشفى غائصة في الأرض، ولا ينتج ذلك إلا عن قوةٍ ضاغطة من أعلى، وإلا لكانت تلك الدعامات قد سقطَت على الأرض بدلًا من الغوص فيها.
٢٤  في التقويم الياباني القديم يوافق ٢١٠ من السنة مقدم الخريف، ويكون مصحوبًا برياحٍ شديدة وأيام ممطرة، ولمَّا كان هذا التقويم يبدأ حوالي ٤ فبراير، فإن بداية الخريف وفقًا له تقع في أول سبتمبر من التقويم الميلادي الحالي.
٢٥  الماتشا نوعٌ جيِّد من الشاي الأخضر الناعم، وهو صيني الأصل، أدخله إلى اليابان كهنة مذهب الزن البوذي في العصور الوسطى، ويُستخدَم في حفلات الشاي اليابانية التقليدية.
٢٦  العِصِي التقليدية التي يتناول بها الصينيون واليابانيون الطعام.
٢٧  الواكا ضربٌ من ضروب الشعر الياباني يرجع إلى العصور الوسطى، عُرف بصوره البيانية البديعة.
٢٨  وهي تعني «داروما والنمر»، وداروما حيوانٌ خرافي ليس له أطراف، يمثِّل أحد الآلهة القديمة المعنية بالعزيمة والصبر، وتقول الأسطورة القديمة إن داروما قضى أيامًا وليالي عديدة في التفكير والتدبر حتى غلبه النعاس، حين استيقظ من نومه آلمه انقطاع التدبر خلال النوم، فقطع جفونه حتى تظل عيونه مفتوحة فلا ينام مرةً أخرى، وقد نبت الشاي الياباني لأول مرة حيث سقطَت الجفون، وبذلك قدَّم للناس ما يدفع عنهم النوم.
٢٩  عصر مايجي يحدد بداية بناء الدولة الحديثة في اليابان والأخذ بمظاهر الحضارة الغربية، ويبدأ بعام ١٨٦٨م، أما عصر تايشو فقد استمر من ١٩١٢م حتى ١٩٢٦م عندما اعتلى الإمبراطور هيروهيتو العرش وتلقَّب بشووا.
٣٠  تلعب صفائح الدم الكروية أو البيضاوية دورًا هامًّا في الدورة الدموية المعقدة، وفي الحالات الطبيعية يبلغ عددها ٣٠٠ ألف في السنتيمتر المكعب من الدم، فإذا تأثرَت الأعضاء التي يتكون منها الدم بالإشعاع فإن عدد هذه الصفائح يتناقص وقد تختفي تمامًا، وينتج عن ذلك حدوث نزيفٍ من مخارج الجسد (الأنف أو الفم أو الشرج)، فصفائح الدم تساعد على التجلط وبدونها يفقد الدم قوامه.
٣١  إيتسوكايتشي قرية تقع في الطريق إلى مياجيما على بعد نحو أربعة أميال إلى الجنوب الغربي من هيروشيما.
٣٢  فوتشو قرية تقع شرق هيروشيما على بعد ٥٠٠٠ متر من مركز التفجير وتختفي خلف التلال، أما فورويتشي فمدينة تقع على بعد ثلاثة أميال شمال هيروشيما.
٣٣  التيفون إعصارٌ ممطر يصيب منقطة الشرق الأقصى في مطلع فصل الخريف على فتراتٍ متقاربة، ويحمل كلٌّ منه اسمًا خاصًّا.
٣٤  كان يتم الكي وفْق طريقةٍ تقليدية يُستخدَم فيها كومةٌ مخروطية صغيرة من الأعشاب الجافة تُوضَع فوق أماكن خاصة من الجسم وتحرق للتخلص من الالتهابات، وهذه الطريقة كانت متبَعة في الصين القديمة نقلًا عن مصر الفرعونية، وقد أدخلها رجال الدين البوذيون إلى اليابان.
٣٥  تحتفظ العائلات اليابانية بهيكلٍ بوذي صغير داخل البيت تؤدَّى له الصلوات، ويمثل المحور الذي يربط أفراد العائلة بالمكان الذي نشئوا فيه، وعلى الأجيال المعاقبة — وفق التقاليد اليابانية — المحافظة على هذا الهيكل وعلى موقع البيت الذي تسكنه العائلة، ففي المحافظة عليها محافظة على تراث الأسلاف.
٣٦  يلعب الحمام دورًا بارزًا في الحياة اليومية لليابانيين، فارتفاع درجة الرطوبة على مدار السنة، وانخفاض درجة الحرارة في الشتاء يجعل الحمام الساخن أمرًا ضروريًّا للأسرة اليابانية ويُعَد ضمن روتينها اليومي، وكان الحمام في ذلك العصر عبارة عن مغطسٍ مكون من إناء معدني كبير يتسع لشخصين أو أكثر توقَد تحته النار، ويغتسل الشخص خارجه، ثم يجلس القرفصاء داخله بضع دقائق يغادر الحمام بعدها لينام مباشرة. وفي البيت الياباني يخضع استخدامه لتقاليد خاصة، فيستخدمه الأب أو رب الأسرة أولًا، يليه الأولاد الذكور، ثم الأم وبناتها.
٣٧  كان الإمبراطور يُعبَد في اليابان حتى نهاية الحرب العالمية الثانية باعتباره إلهًا من سلالة الربة الشمس التي تُعَد أصل البيت الإمبراطوري، ولذلك لا نعجب إذا رأينا صورة الإمبراطور تُعامَل بمثل هذا الإجلال والإكبار. وكان من بين التطورات التي أدخلها الأمريكيون إلى اليابان بعد الهزيمة إجبار الإمبراطور على إعلان أنه لا ينحدر من سلالة الآلهة، وأنه ليس سوى بشرٍ مثل بقية الناس لا يجب أن يُعبَد. فأُلغيَت عبادة الإمبراطور بصفةٍ نهائية في عام ١٩٤٦م.
٣٨  كوساتسو تقع على بعد ٥ كيلومترات من مركز التفجير.
٣٩  السوكي ياكي طبقٌ ياباني مكون من شرائح اللحم وبعض الأعشاب والكرات، يضاف إليها صفار البيض الطازج، وتعد من أزكى الأكلات عند اليابانيين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤