حياة نيقولا ماكيافيلي

ولد نيقولا ماكيافيلي لثلاثة أيام خلت، وقال بعضهم: لخمسةٍ من شهر مايو عام ١٤٦٩ وكانت أسرته تنتمي لحزب جولف، وهو حزب أتباع البابا، ويرجع تاريخ مؤسسها إلى القرن التاسع، ولأمرٍ ما هاجرت تلك الأسرة في منتصف القرن الثالث عشر حوالي ١٢٦٠ ونحسب لتلك الهجرة ارتباطًا بانهزام مونتابرتي، ثم عادت إلى مدينة فيرنزه «فلورنسا» بعد ذلك، وكان لها نصيب من المناصب العامة، ونال عدد من أفرادها تكريم الشعب والحكومة، وقد أنتجت تلك الدوحة خلال ثلاثمائة سنة ثلاثة عشر قاضيًا «جونفالونير» وخمسين مصليًا «برير» أو رئيسًا، وكانت فئة الجونفالونير والبرير هي فئة زعماء الحكومة ورءوس القضاء.

وكان برنارد ماكيافيلي والد نيقولا مشترعًا وأمينًا على أموال أنقونة، وكانت أمه بارتولميية فرع دائحة عريقة في المجد والقدم، من أكرم وأسمى بيوتات سادة فيرنزه، ولكنَّ شرف مَحْتِدِ والدَيْ نيقولا كان أعظم من توفيقهما، إنما الفقر لم يُعِقْ هذين النبيلين عن تهذيب نجلهما، فأنبتاه نباتًا حسنًا، ودرَّبته أمه في صباه على قرض الشِّعر.

بَيْدَ أنَّ أخبار صِبَا نيقولا غير متوفرة لدينا، ولا نعلم عنه أكثر من التحاقه بديوان مارسيل فيرجيل أستاذ الآداب اللاتينية والإغريقية، وكاتم أسرار جمهورية فيرنزه، وذلك حوالي العام الخامس والعشرين من عمره، ثم وصل بعد ذلك بأربع سنين إلى منصب كاتب أسرار ديوان القضاة العشرة، وبقي فيها أربعة عشر عامًا وخمسة أشهر، قام في أثنائها بثلاث وعشرين مأمورية في الأقطار الخارجية عدا مأموريات كثيرة أخرى داخل البلاد.

وكان عهد اشتغاله بشئون حكومة وطنه عهدًا ذا عظائم، فكانت ألمانيا وفرنسا والبابا يتنازعون السلطة في إيطاليا، ويعتركون على مدنها وولاياتها، ويخطفون خطف اللصوص الطامعين أراضيها، تارة مخاتلة وتارة بقوة السيف والنار، وكان البابا في خطر دائم من دعاة الإصلاح أمثال القسيس المرسل جيورولومو سافونا رولا الذي كان يطالب بتقويم اعوجاج الكنيسة، وتغيير نظامها، وإحلال الديمقراطية محل الأرستقراطية.

وكانت أسرة مديتشي الطريدة تعمل تحت طي الخفاء لتقضي على نفوذ حزب الشعب الذي زعزع عرشها لتعود إلى التربع على أريكة السنيورية، ولم يكن يخطر لأحد في تلك الأيام فكرة توحيد إيطاليا ما دام حزب الجولف أتباع البابا، والجبلين أتباع الإمبراطور يعمل كل لشد أزر السلطة التي ينتمي إليها، لولا أن هذا الغرض السامي مر بخاطر أحد أكابر العالم، وهو نيقولا ماكيافيلي.

وكانت حوادث التاريخ الإيطالي تسير الواحدة تلو الأخرى بسرعة الصواعق، فشعرت نفسه الدقيقة الإحساس بتلك الرجفة التي تصيب النفوس الكبيرة لدى الحوادث العظام، ولكن منصبه لم يكن يؤدي به إلى تسيير الأمور حسب رغبته؛ لأنه في منصبه من أهل الصف الثاني بين ذوي السلطة، وإن كان بفكره وإصابة رأيه وبعد نظره وحبه لوطنه في الصف الأول من عظمائه.

على أن ماكيافيلي كان يجمع في ذاته شخصين مستقلين؛ الأول: شخص العالِم الكاتب المُشاهِد المختبِر. والثاني: شخص الرجل العادي. ظهر فضل صفته الأولى في أنه وضع علمًا جديدًا بحذافيره هو علم السياسة العملية، وقد ضمن هذا العلم روح عهد الإحياء، ويقصد بعهد الإحياء جيل النهضة العلمية في القرون الوسطى، ولكن ماكيافيلي بصفته العادية عاش عيش الرجل البسيط، جاهلًا قدر عبقريته، ولم يتناول يراعه ليكتب أول كتبه إلا في العام الرابع والأربعين من عمره، وسيرى القارئ لدى مطالعة هذا الكتاب العجيب أنه خلو من ادعاء المؤلفين، كأنه رسالة وضعها أحد فلاسفة العرب، وأهداها لأمير كريم ذي عطف ومودة، ولم يكن أقرب الناس وأشدهم حاجة إليه من معاصريه وهم السنيورية العشرة يعرفون فضله، فطالما أرسلوه في أمور الدولة وهو يكاد لا يملك قوت يومه، حتى إنه اضطر أكثر من مرة لأن يكتب إليهم كتب استعطاف مفعمة بجمل مخجِلة كقوله: إنه لا ينفق أكثر من أربع ليرات في كل يوم مع أن رفيقه في أسفاره فرنسوا ديلاكازا ينفق ثمانية، وإنه يضطر احتفاظًا بكرامة الجمهورية إلى مشابهته في النفقة، ويطلب أن تصرف له ما يُصرف لرفيقه مشاهرة، وإلا فالأفضل له والأجدر بشرف الجمهورية أن ترده إلى وطنه، وقد أخذ في مكتوب آخر يعدد ما أنفقه من دوكات، قال: إنه أنفق ثمانية عشر دوكًا على بغلته، وأحد عشر ثمنًا لقباء من المخمل، وعشرة ثمنًا لثوب واقٍ من المطر. فوا أسفا على هذا العبقري الذي عاش مفلوكًا ومات معوزًا منسيًّا، وقضى حياته في خدمة الوطن، ودوَّن أعظم كتاب في فلسفة السياسة، ولم يجد من يعرف قدره!

وفي عام ١٥٠٤ تزوج ماكيافيلي من إحدى بنات فيرنزه، وهي السنيوريتا مارية بنت لويس كورسيني، وقد كذب من ادعى عليه أن رغبته في مال زوجته هي التي دفعته إلا الاقتران بها؛ فلم يكن صداقها الذي حملته إليه شيئًا مذكورًا.

وكان ماكيافيلي في السنين الأولى التي تلت زواجه مشتغلًا بدرس التاريخ ونظم الشعر، وبتنظيم الهيئات السياسية والحربية لخدمة جمهورية فيرنزه، وهي وطنه العزيز، وفي عام ١٥٠٥ خطر بباله أن يستبدل بجيش الكونديتوري المأجورين جيشًا وطنيًّا، فلما طرح مشروعه أمام ديوان العشرة نال رضاهم، فوكلوا إليه أن يقوم بحشد جيش وطني، ولكنه لقي في تنفيذ مشروعه عقبات توشك أن لا يمكن التغلب عليها؛ وهذا لأن ماكيافيلي كان يدعو الناس باسم حب الوطن، وهذه عاطفة لم تكن موجودة في عصره إلا في نفوس لفيف من الخاصة.

كانت الأحزاب السياسية تأكل بعضها بعضًا، وتجهل معنى الاتحاد، وتبغض من يدعو إليه، وهيهات أن تثمر الدعوة إلا الإصلاح في مثل هذه الجماعات، وأبعد من هذا تكوين جيش وطني؛ لأن الجيش الوطني ينشأ في الأمم الحية المتحدة، وما دامت الأمم منقسمة على ذاتها متفرقة الكلمة، فليست أممًا، ولا يمكن أن يؤلف منها جيش محارب.

وهكذا كانت حال كل داعٍ إلى الإصلاح في عهد الإحياء، كان يبدي الرأي الصائب فيقابله الخاصة بالرضا، ولكن يستحيل عليه التنفيذ؛ لأن النفوس مائتة، والهمم منحطة، والعزائم فاترة، وقوى الإنجاز والإنفاذ عاجزة قاصرة.

فعبثًا دوَّن ماكيافيلي كتابه في مشروع الجيش الوطني، وعبثًا أوجد القضاة العشرة مناصب تسعة قواد لتأسيس جيش فلورنسا.

شغلت ماكيافيلي بعثاته السياسية إلى بيزا وسينه وفرنسا ست سنين، من عام ١٥٠٦ إلى ١٥١١ ثم كلفته الحكومة الجمهورية بحشد بعض الجنود والتفتيش على الحصون والمعاقل، وكانت هذه الفترة من حياته هادئة عذبة، يلجأ إلى عيشة الخلاء كلما أصاب أيامًا من الفراغ، يواصلها بالدرس والمطالعة والإمعان في كتب الأدب، فلما حل عام ١٥١١ اعتلَّت صحته وجف ماء عُوده، فخشي عدو الناس المفاجئ؛ فبادر إلى تدوين وصيته في ٢٢ نوفمبر من تلك السنة.

أوصى لزوجته المحببة بصداقها كاملًا، وبأن يباع عقب وفاته كل ما يوجد في داره من الحلي والحلل، وأن تشرى بالثمن أسهم تدفع ريعها الحكومة، أو عقار ثابت، وأن تنتفع أرمله دون سواها بالدخل ما دامت طاهرة الذيل بعيدة عن الريب، وأن يكون رأس المال لأولادهما، فإذا حدث أن أرمله تزوجت من غيره بعد موته أخرجت من الوصية وحُرمت دخلها.

ولم يكن ماكيافيلي كما رأيت غنيًّا، إذ تراه مضطرًّا لبيع حليه وحلله ليضمن رزق زوجته بعد وفاته؛ لأن ثروته كلها كانت محصورة في ما يتقاضاه في منصبه، وقد أراد الدهر حرمانه من منصبه أيضًا، فحدث في إيطاليا انقلاب سياسي أفقده أهم مصادر عيشه، وإليك البيان.

أسلفنا أن إيطاليا كانت متنازعة بين الدول؛ لأنها كانت خلال القرون الوسطى لقمة لكل آكل، وفريسة لكل كاسر، وكان فيمن انقضَّ عليها من وحوش أوروبا السالبة جيوش إسبانيا متحدة مع جيش البابا وجيش جمهورية البندقية، كلها تهاجم جمهورية فيرنزه لتعيد أسرة مديتشي إلى سلطانها بعد أن نفيت بسلطة الشعب من القصر العتيق.

وكانت هذه الجيوش المتحدة تأخذ في وجهها كل ما يقابلها، وتقضي على كل قوة تعترضها، فاكتسحت في طريقها دوقية ميلانو، وسارت تريد فيرنزه، فالتقت بجيش بعث به لويس الثاني عشر حليف فيرنزه ليرد عنها هجمات الجيش المتحد في رافنا، وحدثت بين الجيشين وقعة عظيمة هزم فيها الجيش الفرنسوي، ثم سار الجيش المتحد ثملًا بخمر النصرات المتوالية يقصد الفتك بمجد فيرنزه وحريتها انتقامًا منها لأسرة مديتشي الظالمة، وكان رئيس الجمهورية إذ ذاك البطل الشهير سوديريني، فلما علم بدنو جيش العدو من المدينة صمم على المقاومة، ووكل إلى ماكيافيلي كاتم أسرار مجلس العشرة أمر إعداد معدات الدفاع عن الوطن والتفتيش على الحصون الفلورنتية، فقام ماكيافيلي بتلك البعثة الشريفة خير قيام، وأن أهل فيرنزه ورجال حكومتها النبلاء كذلك يتأهبون للدفاع عن وطنهم وأعراضهم ومجدهم ومدنيتهم بعد أن أقسموا أن يبذلوا كل رخيص وغالٍ في سبيل خلاص جمهوريتهم، وأن يبهروا الأمم المجاورة بثباتهم في الذود عن حوضهم، وإذا بوفد من الجيش الإسباني مقبل، فإذا هم فئة من السفراء، فلما مثلوا بين يدي السنيورية في القصر العتيق «بلاتزوفكيو» قالوا إنهم لم يدنوا من أرض فيرنزه لعداوة أو بقصد الفتح أو السلب، وإنهم لا يقصدون الاعتداء على حرية الجمهورية، ولا أن يضعفوا من قوتها، إنما جاءوا ليتأكدوا مودتها وصداقة أهلها، وأن ينصحوا لهم بالتخلي عن الانتماء إلى فرنسا وأن يلجئوا إلى حزب الجيوش المتحدة.

ولما كان سوديريني مشهورًا بحب فرنسا، فالأولى للجمهورية أن تقيله من منصبه؛ لأن الجيوش المتحدة لا تستطيع الوثوق بوعود فيرنزه ما دامت السلطة في يده، وأن لأهل فيرنزه أن ينتخبوا دونه من يشاءون من الجونفالونيري، فأجاب سوديريني على هذه القِحَة الممزوجة بالخبث والوقيعة أنه تسلم زمام منصبه من الشعب، وأنه يأبى التنازل عنه ولو أن ملوك الأرض اجتمعت في صعيد واحد وطلبت إليه ذلك، ولكن إذا رغبت الأمة في تخليه فإنه ينفذ رغبتها عن طيب خاطر، فأشعل جلال هذا الرد الحكيم نار الحمية في أفئدة أهل فيرنزه، فوهبوا حياتهم في سبيل مناصرة هذا الرئيس الأبي.

وكان الجيش الإسباني قد تقدم إلى أن بلغ براتو، وهي قرية تبعد مسافة عشرة أميال عن فيرنزه (بها الآن مخازن البضائع) وبها باب وحصن، كباب النصر أو باب الوزير في قاهرة القرون الوسطى، فاستولى الجيش المهاجم على تلك البقعة، ورأى سوديريني أن المقاومة الحربية مستحيلة، فأراد أن يخابر الجيش المهاجم في أمر الاتفاق، وكان الأشراف الذين باتوا يقرعون سنهم منذ نفي أسرة مديتشي قد انتهزوا تلك الفرصة الخاسرة وتسلحوا واحتلوا تحت جنح الظلام سائر الأماكن المحصنة، فاضطر سوديريني البطل أن يترك المدينة، فاجتمع السنيورية بدون رئيسهم الجونفالونية سوديريني الذي لم يطق البقاء في الوطن بعد أن انتهك أعداءه وأبناءه حرمته، ودعوا أهل المدينة للاجتماع في ساحة السنيوريا، وسنوا قانونًا يعيد عهد المديتشي، ويرد إلى الأبناء والأحفاد ما كان للآباء والأجداد.

وكان هذا الانقلاب سببًا في سقوط نيقولا ماكيافيلي، فلما حلت سنيورية (مجلس الجمهورية) جديدة محل السنيورية القديمة، أصدرت ضده قرارين في نوفمبر عام ١٥١٢؛ الأول: يعلن الملأ بنزع منصبه من يديه. والثاني: يأمر بنفيه عامًا في حدود الجمهورية، وأنه إذا حاول الخروج عن الحدود إنما يعرض نفسه لأشد أنواع العقاب. وتلا هذين القرارين قرار ثالث يحرمه من دخول القصر العتيق.

مسكين أنت يا ماكيافيلي! لك نصيب العظماء في فلاكتهم وشقائهم ومحنتهم، ولكن لم تنته نكبته عند هذا الحد، فقد استأذنت عليه سنة ١٥١٣ بشؤمها، قضى البابا جول الثاني (الذي اشتهر بحبه للمحاربة، وله صورة فائقة من صنع العبقري رفائيل محفوظة بمتحف الأفيتشي بفيرنزه) في يناير من تلك السنة، فالتأم مجمع الكرادلة لينتخبوا مكانه خليفة للقديس بطرس، فأصاب حسن الطالع الكردينال حنا دي مديتشي الذي صار ليون العاشر، وله كلمة مشهورة قالها عندما هنأه أخوه قال: «لقد حبانا الرب بالبابوية فلنتمتع بها!» اخترق الكردينال حنا دي مديتشي أرض توسكانيا ليبلغ رومة مقر مجمع الكرادلة «كونكلاف» فاكتشفت مؤامرة كانت غايتها اغتياله، فاتهم ماكيافيلي فيمن اتهموا في تدبيرها إن صدقًا وإن كذبًا، فسجنوه وعذبوه وقيدوه بالسلاسل، فلم يرَ ماكيافيلي في نفسه جلدًا على تلك النكبة الكبرى، فنظم قصيدة استعطاف وقدمها إلى جوليان دي مديتشي حاكم فيرنزه أودعها حزنه ووحشته، فلم يعرها الأمير التفاتًا، فعاد ماكيافيلي وأتبعها بقصيدة أخرى فرقَّ له فؤاد الأمير وأطلق سراحه، ففرح ماكيافيلي بحريته وحياته؛ لأن كثيرين من أقرانه في التهمة فقدوا حريتهم وحياتهم، وشرع ماكيافيلي يلتمس من سادته المُحْدَثين أمراء مديتشي منصبًا سياسيًّا كالمنصب الذي كان يشغله، ولجأ في توسله إلى أصدقائه الأقدمين وقليلًا ما أصبحوا، وهذا القليل خذله، وكان أقربهم إليه وأشدهم عطفًا عليه فيتوري الذي كان تارة يقيم برومة وطورًا بفيرنزه، كتب إليه ماكيافيلي في ١٥١٤: «أترضى أن أبقى في زوايا النسيان لا أجد رجلًا واحدًا يذكر أعمالي ويقدر نفعي! إنه يستحيل علي أن تطول عزلتي وانقطاعي عن العمل، إن قواي تفنى في ظلال الفراغ والفاقة، سأخرج يومًا في الطريق، وأرضى بخدمة أحقر التجار، أو ألجأ إلى قرية أُعلم فيها حروف الهجاء للصغار.»

انظر إلى تلك النفس القلقة التي لا تستقر على حال، والتي لا تروقها العزلة مع توفر وسائل الدرس والاستفادة والانقطاع للعلم؛ لأنها في حاجة إلى العمل، يُعْوِزُها أن تخوض عباب الحياة الحقيقية، حياة الجهاد المستمر والمتاعب المتتالية والعقبات المتواترة؛ لأن وجودها في اشتغالها المستمر وفناءها في خمودها.

انظر إلى تلك النفس، وقارن بينها وبين نفوس بعض حكماء الشرق، أسمعت بالغزالي يرفض رئاسة المدرسة النظامية ببغداد، ويتشح ثوب درويش مفلوك ليجوب بقاع الأرض في طلب العلم ونشره؟ أم أتاك حديث الفارابي فيلسوف الإسلام غير مُدافَع وهو يقول:

لما رأيت الزمان نكسا
وكل رأس به صداع
لزمت بيتًا وصنت عرضًا
به من العزة اقتناع

كأنه صدى صوت فيلسوف علا من قبل كعبه، وذاع صيته واشتهر فضله، وهو الكندي القائل:

وضائل سوادك واقبض يديك
وفي قعر بيتك فاستجلس
فإن الغنى في قلوب الرجال
وإن التعزز بالأنفس

هؤلاء الرجال لا تُعْوِزهم الحركة، ولا تلذ لهم جلبة الحياة العامة، إنما يطلبون الغرض الأسمى في الوحدة والانعكاف والانقطاع للدرس، هذه هي النفس الشرقية الجميلة الهادئة، القائلة: إن الأعمال بالنيات، وإن الإيمان ينقل الجبال من أماكنها، وتلك النفوس التي منها نفس ماكيافيلي إنما هي نفوس غذاءها الحركة وقوتها العمل الدائم، وهذا الذي دعا كبلنج إلى القول بأن الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقي التوأمان، ولكن الأمم لا تنجح بإحدى هاتين الصفتين، بل ينبغي أن تجمع النوعين: نوع النفوس الهادئة، والنفوس المتحركة، بل إن الفرد لا يفوز في معترك الحياة، ولا يترك في الأرض أثرًا خالدًا إذا لم يجمع تينك الحالتين: حالة السكون، والحركة، فيسعى إلى الغرض الأسمى بالوسيلتين معًا.

كان ماكيافيلي خلال تلك المدة يعيش في قصر صغير له خارج أسوار المدينة، وكان يبلغ خمسين عامًا، وكان نار قلبه لم تطفئها الكهولة ولا النكبة ولا الفراغ، بل كان يجد أوقاتًا يتفرغ فيها لعبادة الزهرة إلهة الحب في شخص فتاة يترقرق في وجهها ماء الشباب، ويشف ثوبها الدمقسي عن عود ليِّن ونهد بيِّن وخصر هيِّن، دع عنك جبينها الباهر، وطرفها الساحر، ووجهها المقسم، وريحها العاطر، وما كان كهل فيرنزه يخجل من مغازلتها وتدوين عواطفه في تلك السويعات الروحانية، وهذا الذي حير الناس في فهم خلق نيقولا المسكين، فظنوه مخلوقًا خرافيًّا وظنه البعض لغزًا أو سرًّا مبهمًا.

إنما رأينا فيه أنه لم يكن هذا ولا ذاك، بل كان إنسانًا كغيره من البشر، يجمع بين سمو مدارك العبقري وبساطة خلق الرجل الطيب، ولم يكن لعبقريته خَلْوًا من آثار الضعف الإنساني.

قدمنا أن ماكيافيلي كان يسكن قصرًا صغيرًا على طريق السابلة من فيرنزه إلى رومة قريبًا من سانتا كاسيانو، أطلق عليه اسم «لاسترادا» وقد وصف لنا بقلمه البليغ حياته في قصره في مكتوب إلى صديقه فيتوري جاء فيه قوله:

من يحرم ذاته خشية غيره يضحى نفسه دون أن يشعر به أحد.

وكان ينهض مبكرًا قبل شروق الشمس فيسلي نفسه بصيد الطيور كما كان يفعل هوراس شاعر اللاتين الشهير، ثم ينقطع إلى أعمال الغرس وتشذيب الشجر، حتى إذا آن وقت الغدا تغدى بجانب فسقية ثم يواصل عمله إلى الغروب، فيعود إلى منزله ويغتسل ويلبس ثوبًا من الثياب القديمة التي كان يعدها للقاء الحكام ودخول القصر العتيق، ويدخل بخشوع إلى قاعة فسيحة فيها خزانة كتبه، فإذا أغلق بابها شعر بأنه انقطع عن العالم الخارجي، وبدأ حياة جديدة بين نفوس العظماء والحكماء، وكأنهم يحيون قدومه ويرحبون به، فيحادث فطاحل القرون الخالية، ويجرع كئوس العلم العذبة، ويشرب مما اقتناه من الكتب النفيسة راحًا له من قواريرها ندامى ومن قراقيرها سماع، ويقضي معظم ليله في اجتناء حديث قوم قد أقفرت من أجسامهم الأرض، ولم تقفر من آثار نفوسهم البقاع.

ومنذ ذلك العهد أخذ ماكيافيلي يؤلف كتبه الشهيرة، فصنف كتاب الأمير الذي نخرجه اليوم للشرق بعد أن نقل إلى سائر لغات الغرب، وشرح تاريخ تيت ليف، وكتب رواياته الهزلية وكتبه السبعة في صنعة الحرب، وترجمة كاستروستو، ولم يكن يعلم أن تلك البطالة مكنته من بلوغ شأو العظماء بتأليف الكتب التي تركها، ولو أنه بقي في منصبه قضت أعباؤه على ذكائه وفطنته، فكم كان له وللعالم من الفوائد في نكبته.

على أنه لم ينشر له في حياته إلا كتاب واحد وهو رواية تمثيلية هزلية اسمها ماتدراجور، فأطربت الجمهور، وذاع صيتها، حتى إن البابا ليون العاشر طلب مشاهدتها فراقته، وكان هذا الرضى المقدس سببًا في العفو عن ماكيافيلي، فأجيب إلى طلبه لما عاد إلى إلحاحه في التماس الاشتغال بالسياسة من جديد.

فبعث في سنة ١٥٢١ بعثة سياسية لدى إخوة كاربي، وكانوا أمراء قاصرين، ثم وكل إليه أمر مراقبة حصون فيرنزه، ثم طلب إليه أن يحل مسائل معلقة بين الجمهورية وبين فرنسوا جوتيشارديني حاكم مقاطعة رومانيا «بإيطاليا» ثم خدم في الجيش المتحد الذي أصبح في عهد مديتشي محالفًا لفيرنزه ضد شارلكان صديق الجمهورية القديم، وكان هذا آخر مناصبه.

وقد رزق ماكيافيلي بخمسة أطفال بينهم بنت واحدة، وترك لهم ميراثًا مكونًا من دور أربع في الخلاء، وخامس في فيرنزه رقم ١٧ شارع جوتيشارديني وبعض الحقول والكروم.

وفي عام ١٥٢٧ لعودته من سفره إلى سيفيتافيتشيا شعر بتغيير فجائي في صحته، وكان اعتاد أن يعالج ذاته بحبوب يصنعها مركبة من عقاقير نافعة، ولكن يظهر أنه أخذ منها جرعة شديدة فأصابته في أحشائه آلام مبرحة، وقضى نحبه في ٢٢ يونيو سنة ١٥٢٧.

وأودعت رفاته قبرًا صغيرًا في كنيسة الصليب المقدس «سنتا كروشيا» وما زالت تجاليده مجهولة من أهل قومه إلى أن أقام له الدوق ليوبولد عام ١٧٨٧ قبرًا فخمًا، كتب عليه هذين السطرين المعجزين باللاتينية:
لا يبلغ أعلى المجد شأو ذلك الاسم:
نيقولا ماكيافيلي المتوفى عام ١٥٢٧
Tanto Nomini Nullum par Elogiun
NICOLUS MACHIAVELLI
Obiit anno A. P. V. MDXXVII.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤