بحث في تآليفه

أتينا في الصحف السابقة بالحوادث الخاصة بحياة نيقولا ماكيافيلي، وبقي علينا أن نبحث في أثره الحقيقي في قومه، وفي العالم فإن ماكيافيلي كان معدودًا في نظر من قرءوا كتبه موجدًا للسياسة الأوربية؛ لأنه رفع الستار عن أسرار صناعة الحكم الدقيقة والمحفوفة بالأخطار، ولأنه غذَّى بآرائه وحكمه نفوس جميع أبطال التاريخ الحديث.

والذي يدهش الباحث لأول وهلة في تاريخ هذا الرجل العجيب أن أهل وطنه لم يأبهوا له أثناء حياته، بل إنه لم يرد ذكره في ما كتب لعهده إلا مرتين؛ الأولى: في جملة تافهة وردت عرضًا في بعض ما دونه جويتشارديني مؤرخ إيطاليا الشهير، والمرة الثانية: في جدول المتهمين في مؤامرة البابا ليون العاشر، كأن أهل عصره لم يشعروا بالعبقري المعاصر الذي انتفع بحوادث التاريخ القديم والحديث وحل ألغاز السياسة، وصير صنعة الحكم الصعبة المراس عملية من عمليات الجبر البسيطة، كأن أهل عصره لم يفطنوا إلى أن ماكيافيلي كان أول من أدرك أسمى فكرة سياسية خدم بها وطنه، وهي فكرة توحيد إيطاليا وطرد البرابرة الذين اعتدوا عليها من الشمال، كما كان ينسب إلى البابوية كل الشرور التي أصابت إيطاليا، ولقد بلغ به حبه لوطنه وبغضه للبرابرة المتغلبين أنه طلب من وزير لويس الثاني عشر في عام ١٥٥٢، وهو إذ ذاك الكردينال دامبواز أن يسير بجيوشه لفتح إيطاليا وطرد البرابرة من ربوعها، ولكن كبار المؤرخين والعلماء الذين تفرغوا لدرس كتبه وآرائه ومبادئه وصفوه بأنه كبعض أشخاص أساطير الأولين، يعلمون علم الأمس والغد، ولكنهم عن علم اليوم عمي، كان ماكيافيلي يرى الماضي ويعتبر به ويتنبأ تنبوءًا صحيحًا بحوادث المستقبل، ولكنه كان لا يفقه معنى حوادث الحاضر، لأجل هذا يمكن الحكم عليه من كتبه لا من الوقوف على تفصيل ترجمته.

ألَّف ماكيافيلي في التاريخ والسياسة والتمثيل ونظم شعرًا غنيًّا بالمعاني وطليًّا بالأسلوب، ودوَّن رسائل أدبية وقصصًا وضعية، وصنف في فنون الحرب، وحرَّر كتبًا سياسية وغير ذلك، وكان في كل نوع ممتازًا بالغًا الغاية القصوى من الإجادة والإتقان، ففي التاريخ يعد من أكابر مؤرخي إيطاليا، ولم يَفُقْهُ أحد في وصف الأماكن وذكر الحوادث وترتيبها بحيث يشعر القارئ أنه حاضر وقوعها، وحتى يخيل له أنه يقرأ صحفًا من يراع تاسيت أكبر مؤرخي العالم، ولكن ماكيافيلي مؤرخ بلا قلب، يرى الجرائم ويصفها وهو جامد لا يحرك عاطفة ولا يذرف دمعًا، ولا يبوح بآهة على الدماء المهدورة والرءوس الطائرة والنفوس الزاهقة والبلاد المهجورة والدول الفانية، بل تراه لشدة اعتقاده بنفوذ القضاء في الإنسان، كبعض مؤلفي اليونان، يعتقد أن سير الكواكب والأجرام العلوية هو الذي يحرك العالم الأرضي، ولكنه يرى بجانب تلك القوة الخفية قوة جديدة بل إلهًا حديثًا هو العقل.

أما عن رواياته الهزلية فقد قال فولتير إنه يشبه تارة أريستوفان وطورًا بوكاتشيو، وإذا سئلنا عن كتبه في فنون الحرب أجبنا بأنها دلت على اقتداره في أمرين؛ الأول: علمه بنظام الجيوش الرومانية، والثاني وقوفه على النظامات الحربية في القرن السادس عشر، أضف إلى ذلك حذقه وقوة انتقاده.

وقد نشرت بقية كتبه بعد وفاته ببضع سنين وبينها كتاب الأمير، وهو أكبرها قدرًا وأصغرها حجمًا، والغريب في أمر طبعها أنها طبعت في المطبعة البابوية متوجة بتصريح البابا كليمنت السابع، ووجه الغرابة في ذلك من أمرين؛ الأول: أن ماكيافيلي ذاته سخر من الأديان في بعض كتبه، وقال: إن وضع دين جديد أمر سهل ميسور، وإن تأسيس العقائد لا يحتاج إلى أكثر من الذكاء والدهاء، وجعل الأنبياء والمصلحين جميعًا في صف واحد بدون تمييز، وما أبعد تلك الأفكار عن أفكار الكنيسة الكاثوليكية في ذلك العهد السحيق! والأمر الثاني هو أن البابا بول الرابع حرَّم كتب ماكيافيلي بعد موته بنحو ثلاثين سنة ضاربًا صفحًا عن تصريح البابا كليمنت السابع، وكان الباباوات والأمراء وذوو السلطة يُظهرون سخطهم على كتب ماكيافيلي في الظاهر، ويتبعون نصائحه في أمورهم ودولهم في الباطن، فإن أسرة مديتشي التي دُوِّن الكتاب في ظلها وأهدي لأحد أفرادها، انتفعت بتعاليمه ومبادئه يوم ألقيت إلى الخاسرة كاترين دي مديتشي تقاليد الأمور في فرنسا، وهي عشيقة المصورين وخائنة وطنها ومدبرة مذبحة القديس برثلومية المنكرة.

ثم جاء دور الجزويت في لعن ماكيافيلي، فسفهوا كتبه وأحرقوا مثالًا صنع على صورته شفاء لغليلهم؛ لأنهم لم يتمكنوا من إحراقه حيًّا.

ثم جاء عهد البروتستنت، ففعلوا مثل أسلافهم الكاثوليك والجزويت، والذي يلفت نظر الناقد اللبق في هجوم رجال الدين على هذا المؤرخ السياسي، أن الجزويت كانوا يرشقونه بذات السهام التي كان يرشقهم بها باسكال المفكر الديني الشهير، فكأنهم رموه بدائهم وانسلوا، وكان بايل الكاتب الفرنسوي الشهير أول من استعمل لفظ ماكيافيلزم ونسب إليها ما صار مرادفًا لها بعد ذلك من منتصف القرن السادس عشر إلى يومنا هذا من صنوف الغدر والأثرة.

ثم جاء فولتير، عاتية العقل والدين، الهازئ بالعالم، الساخر من الملوك والملل، رهين فيرنيه، ومكون الفكر الأوروبي الحديث، وعدو روسو الألد، وقال: إن ماكيافيلي مشترع خالد، ثم قام فردريك الكبير صديق فولتير وتلميذه الذي نعجب بهمته وقدرته الحربية، ونبسم من ادعائه العلمي، وأراد أن يرد على كتاب ماكيافيلي فعجز واستعان بفولتير في نقده بعد ثناء هذا الأخير عليه، ولكن فولتير كان يعلم كيف يرضي الملوك دون أن يغضب الحق، فأعان فردريك الكبير في وضع كتيب سموه «عدو ماكيافيلي» فلم يكن لهذا الكتاب أثر أو قيمة، بل قرأه نقاد القرن الثامن عشر وعلى شفاههم ابتسامة الازدراء، وقالوا في نفوسهم: إن قصور الملك عن الفهم أدى به إلى النقد.

ولم يبقَ بين المفكرين من لم يُبدِ رأيه في ماكيافيلي سوى روسو، فلما جاء دوره دوَّن عنه نبذة عجيبة في كتاب العقد الاجتماعي، قال:

إن مصلحة الأمراء الذاتية كامنة في ضعف الشعب وشقوته ليبقى أبدًا عاجزًا عن المقاومة، وهم يفضلون ما يعود عليهم بالنفع مباشرة، وإن صنع ماكيافيلي يشبه صنع صموئيل لبني إسرائيل، فقد استفاد الملوك من كتابه وكانت فائدة الشعوب أكبر، لقد كان ماكيافيلي رجلًا شريفًا أمينًا حرًّا، ولكنه كان يعيش في كنف أسرة مديتشي، فاضطر أن يكتب بحيث تخفى مقاصده على غير الفطن، والفهم شيمة الحاذق.

وأشبه روسو في رأيه العلامة باكون الوزير الفيلسوف الإنجليزي؛ إذ يقول: «إن ماكيافيلي لا يفيد أحدًا من الملوك؛ لأنهم يعرفون ما يقصدون، ولكنه يفيد الشعوب ويفتح عينيها لما يحيق بها من الأخطار.»

وأنت ترى اختلاف الآراء، وتباين الأحكام في ماكيافيلي وكتابه، ونحن نعتقد أن أصحاب الآراء الطاغية فيه إنما هم فريق من لم يتفهموه ولم يمعنوا النظر في معانيه الدقيقة، أما أصحاء النظر وسليمو الذوق والفطرة يرون فيه ما يراه المعجبون به.

وها نحن نختم هذه النبذة برأي العلامة المعاصر لويجي ريسي أحد شراح ماكيافيلي في كتاب الأمير ومؤلفه، قال لويجي ريسي أحد شراح كتاب الأمير:

إن كتاب الأمير هو أعظم مؤلفات ماكيافيلي، وله لدى أهل الفضل كافة مكانة لم ينلها سواه من تصانيف صاحبه، وعدا ذلك فإنه معدود بين الأسفار الخالدة في لغته الأصلية، فلا عجب إذا عُدَّ في غيرها كذلك، ويتعذر علينا أن نلم بمحاسن هذا الكتاب وفضل واضعه، وقد يجد الراغب فيما كتبه ماكولي، النقادة الإنكليزي الشهير عن ماكيافيلي أكبر مؤرخي إيطاليا وأحذق ساستها ما يشفي الغليل، إنما أردنا للقارئ أن يستوعب ما كتبه ماكولي ليعلم كيف أنه في نقده نسخ آراء المؤلف ومسخها وغيَّر فيها وبدَّل من معانيها، مع أنه كان يستفيد منها ويسترشد بها، غير أنه لم يرَ أن يكافأ صاحبها على فضله إلا بتوجيه سهام النقد إلى ما كتب والتشهير باسمه، فنفر الناس بذلك عن ماكيافيلي وكتابه بعد أن اتهمه بأنه سن أقسى وأفظع النظامات ووصمه بابتداع أظلم خطة للتحكم في الأعناق.

ومن العجيب أن يتهم ماكيافيلي بذلك وهو الذي قضى أيام شبابه وكهولته في خدمة أهل وطنه والسعي في تأسيس بناء العدل ليعيشوا في ظله، وقد جلب عليه تطرفه فقدان منصبه في جمهورية فلورنسا، فهل يعدل في حكمه من يتهم مثل هذا الرجل بمساعدة أهل البغي والطغيان في مفاسدهم؟

إنما كتب ماكيافيلي ما كتب ليدل الناس على مواطن الغدر ليفطنوا إلى صنوف الخداع فيما يدبر ضدهم وما يدس لهم من الدسائس، ولو أن الناس قدَّروا قوله حق قدره وأعاروا آراءه أفئدة واعية ما تمكن أحد من إيذائهم، فمن الغبن — والأمر ما ذكرت — أن يعود اللائمون باللائمة على ماكيافيلي؛ لأن كلامه ذهب صرخة في واد، ونفخة في رماد، والعاقل لا يرى عتبًا على قائل إذا ذهب قوله في الرياح.

ولعلَّ من لا يزالون يبغضون ماكيافيلي مقلدين في ذلك ألد أعدائه وأشد خصومه يرجعون إلى رسائله ومكاتيبه الخاصة التي لا تزال محفوظة بخطه في خزائن الكتب العامة بفلورنسا ورومة ليتثبتوا صدق ما دوَّنت من الحقائق. ا.ﻫ.

وقد آن للقارئ أن يبدأ في مطالعة الكتاب بذاته ليستطيع الحكم عليه حكمًا مستقلًّا شخصيًّا، وخشية أن تصعب معرفة الأشخاص والأماكن التي ورد ذكرها في الكتاب لكثرتها، فقد رتبنا لها في آخره فهرستًا على حروف المعجم مع تبيينها بيانًا وجيزًا كافيًا، وقدمنا على الكتاب فصلًا عن تقديرنا فضله منذ وقفنا على كتابه وقصة خيالية عن وفاته، وفيها وصف حياته، وكانت كتابتها بفيرنزه عقيب زيارة منزله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤