مقدمة

إذَن، هل حكمتَ على هذا الكتاب من غلافه؟ أو هل أغراك العُنوان؟ أو العنوان الفرعي؟ والآن وأنت تقرأ هذه السطورَ التي تسعى إلى إشراكِك مباشرةً في مضمونه، هل رغَّبتْك هذه المحاولةُ أم نفَّرتْك؟ خَطر ببالي الآن أنَّ الأمر معقَّد. فبينما أكتب، أُدرك أنَّ الكتاب سيقرؤه قُراء مختلفون ربما يريدون أشياءَ مختلفة، وأُدرك كذلك أنَّه من المستحيل تلبيةُ مثلِ هذه التوقعات الشديدة التنوُّع.

هل تحكم عليَّ؟ يَكمن في هذا السؤال غضبٌ سريعُ الاستثارة، وهو كاشفٌ عن مكنون سائله. فنبرتي مُبطَّنةٌ بالاتهام والضيق. أقول: «لا تكن سريعَ الحكم على الآخرين» بطريقةٍ مُحمَّلةٍ أصلًا بسُرعة الحكم على الآخرين. فعندما تصف شخصًا ما بأنه «سريع الحكم على الآخرين»، دائمًا ما يبدو ذلك حُكمًا سلبيًّا، أليس كذلك؟ ففي كل الأحوال، لن أقول هذا الوصفَ بعد موجةٍ من التصفيق أو الإطراء. فتلك التقييمات الأكثرُ إيجابيةً ليس لها التأثيرُ نفسُه. ففي ميزان الحكم على الآخرين، نجد أنَّ كفة النقد أثقلُ بكثير من كفة الإشادة.1

في وصفي لك بأنك «سريع الحكم على الآخرين»، دفاعٌ عن نفسي، واتهامٌ لك بأنك انتقادي، مُطالبًا إياك أن تبرر ما قلتَه. إن سؤالي، الذي أقول فيه «هل تحكم عليَّ؟» مُحمَّلٌ بالضيق من أنك تُدقق في شئوني وتراني مَعيبًا بشكلٍ ما، ويدفعني إلى أن أحكم عليك في المقابل، كنوعٍ من الانتقام الوقائي. أسألك ما صِلتُك بي، وما علاقتك بأفعالي. «مَن تظن نفسك، على أي حال؟!»

ولكن هل أرغب حقًّا في أن تتوقف عن الحكم عليَّ؟ بالتأكيد، أرغب في ذلك في التو واللحظة. فأنا أرغب في تجنُّب التقييمات السلبية؛ لذا أريد أن يتوقف ذلك. عادةً ما نلجأ إلى استخدام عباراتٍ أسلم؛ مثل «عِش كما تشاء ودَع البقية يعيشون كما يشاءون»، أو «كلٌّ له أذواقه واختياراته»، عندما نشعر بأننا نتعرض لتحديقٍ حادٍّ مزعج، ونريد الهروب من التدقيق في شئوننا.

لكنَّ الهروب فعليًّا من الحكم ما هو إلا محضُ خيال. فكيف يمكن أن نعيش حياةً ذاتَ مغزًى وقيمةٍ دون أن يُحكَم علينا إطلاقًا؟ حتى النقد ضروري لعيش حياة سليمة. فلولاه لكنَّا نلعب التنس دون شبَكة. فالآخَرون ضروريون لبقائنا من نواحٍ عديدة. إنهم مصادرُ للمتعة والسلع والمعلومات، لكن الأهم من ذلك كله أنهم يُشكِّلون تصوراتنا عن ذواتنا وتقديرنا لها. فبينما قد يكون حُكم الآخرين علينا مؤلمًا في بعض الأحيان، فإنه أيضًا مصدرٌ للشعور بالثقل والأهمية، ووسيلةٌ أساسية للشعور بأن أقوالنا وأفعالنا مُبررة ومقبولة. فمن المستحيل أن نشعر شعورًا قويًّا بذَواتنا إلَّا عندما نرى انعكاسها في عيون أولئك الذين نهتمُّ بآرائهم، سواءٌ الوالدان أو الأصدقاء أو الزملاء أو باقي الناس.

فإلى جانب ما يحمله الحُكم الانتقادي من مضايَقاتٍ وإجحافات، يكمن بصيصٌ من الأمل في سماع تقييماتٍ ألطف. وفي هذا الصدد، خلَصَ ريموند كارفر، في قصيدة «جزء مُتأخر»، التي كتبها في أواخر حياته، إلى أنَّه قد نال مُبتغاه من حياته، وشرح قصده قائلًا: «أستطيع أن أصفَ نفسي بأنني محبوب، وأن أشعر بأنني محبوبٌ في الدنيا.» ونحن مثل كارفر نريد أن نشعر بأننا نحظى بحبِّ الآخرين، أو إعجابهم على الأقل، أو احترامهم، أو مجرد اعترافهم بوجودنا. إذن، فما نريده حقًّا، لكننا لا نستطيع أن نطلبه أبدًا، أن تكون الأحكامُ الصادرة علينا أحكامًا إيجابية. ولا أستطيع أن أطلب ذلك؛ لأنَّ هذه الرغبة تُغلِّف أملًا هشًّا في ألَّا تراني مَعيبًا «بغض النظر تمامًا عن ذلك الأمل». لا أريد صدَقتك، ولا تعاطفك، ولا أن أحوِّلك إلى دُمية أو أنتزع منك مجردَ إطراء مُعلَّب. من الصعب الاعترافُ بأننا نريد أحكامًا إيجابية علينا؛ لأننا نحتاج إلى بلوغ هذه الحالة السعيدة دون أن يرى أحدٌ أننا نسعى إليها.

يتحدث المحلل النفسي ليزلي فاربر2 عن مَساعينا إلى أن نُحدِث بإرادتنا ما لا يمكن أن يحدث بإرادتنا. فيضربُ أمثلةً مزعجة جدًّا، قائلًا: «أستطيع أن أُحدِثَ بإرادتي المعرفةَ لا الحكمة، الذَّهابَ إلى الفراش لا النوم، الأكلَ لا الشبع، الخنوع لا التواضع …». لكن هذا أسوأ. ففي حالة تلقِّي حُكم إيجابي، حتى لو كان بوُسعي أن أُحدِثَ ذلك بإرادتي، يكون الحُكم الناتجُ بلا قيمة. فإذا لم يكن سَماع الحُكم الإيجابي مصحوبًا بخطرِ سماع حُكم سلبي، فعندئذٍ يفقد الحكم الإيجابي قيمته. فالحكم ذو القيمة لا بد أن يكون محفوفًا باحتمالية الفشل المؤلم ليكون مهمًّا لدَينا حقًّا. ولذا نشعر بترددٍ شديد حيال ذلك، وغالبًا ما سنتظاهر بأننا نريد التخلصَ من حاجتنا إليه. وهذا هو السبب الحقيقي الذي يجعل سؤالي مُحمَّلًا بغضبٍ انفعالي.

عندما أذكر مصطلح الحُكم، إنما أفكر في الأحكام الاجتماعية والأخلاقية التي يُصدرها بعضنا على بعضٍ بصورٍ مختلفة، وبالأخص تقييم شخصيات الآخرين أو أفعالهم، بما في ذلك المظهر والمكانة، خصوصًا فيما يتعلق بكفاءتهم أو دوافعهم. وهذه الطُّرق التي يرى بعضُنا بها البعضَ الآخَر تؤثر في تفاعلاتنا، من خلال مجرد الجفول الاشمئزازي الذي يكاد يكون غيرَ ملحوظ، والمشاعر الغريزية وصولًا إلى تقييماتٍ أكثر وعيًا، صحيحٌ أنها أحيانًا ما تكون سلبيةً وأحيانًا ما تكون إيجابية، لكنها دائمًا ما تحمل حُكمًا على الآخرين. وفي هذا الكتاب، سأستكشف كيف أن هذه القدرة، وإن كانت ضرورية، غالبًا ما تكون مُتحيزةً وغير متَّسقة وخادمًا للمصلحة الذاتية ومنحرفة؛ ومن ثَم فهي موزَّعة بدرجةٍ غير متساوية. وانعدام الموثوقية هذا ينطبق على كيفية حُكمنا على أنفسنا بقدرِ ما ينطبق على كيفية حكمنا على الآخرين.

وعدم موثوقية أحكامنا يؤكد أنَّ الفهم الذي يُكوِّنه كلٌّ منَّا عن الآخرين يكون قاصرًا كذلك؛ ولذا فلا أحد سيفهمك حقًّا أبدًا. ويُمثِّل الجزءُ الأكبر من هذا الكتاب محاولةً لاستكشاف حدود معرفة كلٍّ منا بالآخرين، والشعور المقابل الذي يُمكن أن يراود معظمنا، أغلب الوقت، بأننا مجهولون ووحيدون وغرباء.

عندما كنتُ في نحوِ العاشرة من عمري، انتقلتْ عائلتي من بيروت إلى بيرلي في جنوب لندن. غادرنا بعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان في عام ١٩٧٥ واتَّجهنا إلى هناك لنكون بالقرب من والدَيْ أُمي في كرويدون. كان أول صيف لنا في بريطانيا هو الصيف الذي شهد موجةَ الجفاف الحارِّ الشهيرةَ في عام ١٩٧٦، حين ارتفعَت درجات الحرارة وبلغت الثلاثينيات، وكان الناس بحاجةٍ إلى ترشيد استهلاك المياه. وقد أشعرَنا هذا، أنا وأخي وأختي، ببعض الأُلفة على الأقل في بلدٍ كان سيبدو غيرَ مألوف تمامًا لولا ذلك، بلدٍ ذي أناس ما كانوا يرتدون سوى سروال قصير! عانينا جميعًا مع التأقلم بطرقٍ مختلفة؛ فوالدي الأردنيُّ عانى الأمرَّين في التعامل مع غرائب «الإدارة الوسطى البريطانية» الشاذة، فكان يُضطر إلى التنقل بين لندن والشرق الأوسط جَيئةً وذهابًا لأداء عمله، وأمي، بعد خمسةَ عشر عامًا قضَتها في الخارج، عانت لتجدَ لنا مدارسَ ومسكنًا. كانت المدرسة الابتدائية التي التحقنا بها قريبةً جدًّا من بيتنا في بيرلي؛ فكان الذَّهاب إليها والعودة منها على الأقل سهلًا. لكنَّ تجرِبتي فيها كانت مُشتِّتة، لا سيما أنَّ المعلمين، بعدَما رأوا أنَّ اسمي الأوسط مسيحي، قرَّروا أن يُسمُّوني بول، ولم تكن لديَّ الجُرأة لأصحِّح لهم طوال عام كامل.

ما زلتُ أتذكَّر حين عرَفنا نتائجَ امتحانٍ في الرياضيات بعد ظُهر أحد الأيام. حصلتُ على تسع درجاتٍ من عشرٍ في الامتحان، وكان من المفترَض أن أفرح بذلك. ولكن مع الأسف، فالدرجة التي فقدتُها كانت بسبب أنني كتبتُ الإجابة الصحيحة باللغة العربية. كانت الإجابة هي العددَ ستة، الذي، حين يُكتب بالعربية، يتعذَّر تمييزه عن العدد سبعة بالإنجليزية. وبدلًا من أن أتناسى ذلك وأجعله يمرُّ مرور الكرام، قررتُ أن أذكره للمعلم أثناء الدرس. وأتذكَّر أنني، لأنني كنتُ أشدَّ خجلًا من أن أرفع يدي، اتجهتُ إلى مقدمة الفصل وانحنيتُ نحوه لأهمس له بما حدث. فنظر إليَّ بعدم تصديق، وكان من الواضح أنه ظنَّ أنني أحاول أن أغشَّه. فعدتُ إلى مقعدي ببطء وأنا أشعر بالإحراج والبهتان، واحمرَّت أذناي من شدة الخجل. استطعتُ سماع بعض الضحكات الساخرة المكتومة. وهكذا تأكَّد إحساس الغربة الذي كنتُ أشعر به في هذه الأرض الجديدة، واكتسبتُ رؤيةً مؤلمةً عبَّر عنها الكاتبُ والمعالج النفسي آدم فيليبس تعبيرًا جيدًا في كتابه «الزواج الأحادي»، قائلًا:

نحن نعمل بكلِّ جدٍّ للاحتفاظ بصور معيَّنة لأنفسنا في أذهان الآخرين؛ ساعِين بالطبع إلى إخراج الصور الأسوأ لأنفسنا من أذهانهم. غير أنَّ كل شخص نلتقي به يخترع تصورًا عنَّا في ذهنه، سواءٌ أحبَبنا هذا التصورَ أم لا. وفي الحقيقة، لا يُوجَد شيءٌ أشدُّ إقناعًا لنا بوجود الآخرين، ومدى اختلافهم عنا، ممَّا يُمكن أن ينسجوه ممَّا نقوله لهم. فغالبًا ما تُطمَس قصصنا تمامًا عند تناقُلها من فمٍ إلى آخر.

فإساءة تمثيلنا ما هي إلا تمثيلنا بنُسَخٍ — مُخترَعة — من أنفسنا لا نستطيع أن نستسيغَها.3

ما زالت واقعة امتحان الرياضيات باقيةً معي كمجرد مثالٍ واحد على إساءة الفهم بهذه الطريقة. صحيحٌ أنَّ القصة التي حُكِيَت عنِّي لم تكن معروفة لي لأنها مختلفةٌ تمامًا عن القصة الحقيقية. لكني أخذتُ ما يكفي من النقد وتأثَّرتُ به جدًّا لدرجة أنني أصدرتُ على نفسي أحكامًا قاسيةً لأنني ضخَّمتُ شيئًا تافهًا، ولأنني كنتُ أحمقَ بما يكفي لأبرحَ مقعدي أصلًا آنذاك. يا للبؤس! من حُسن الحظ أنَّ هذا النوع من الأمثلة الحية نادرٌ نسبيًّا. لكنَّ ظواهر إساءة الحُكم وإساءة الفهم وإساءة التقدير التي تحدث عمومًا على مستوًى عادي بدرجة أكبر، كلها ظواهرُ شائعة جدًّا. فالالتباسات الطفيفة، وعدم التطابق في الافتراضات، والرغبات، والعثرات المحرجة في المواقف الاجتماعية، كلها تخلق شبكةً من الفهم الخاطئ تُلقي بظِلالها على حياتنا اليومية وتعزلنا بداخلها. وحتى عندما تُكتَب تجارِبُ الأحكام الخاطئة والفهم الخاطئ بحبرٍ أخف، أراها سمةً رئيسية من سِمات ماهية الإنسان.

وصحيحٌ أنَّ هذا التفكير يحمل بعض الجدية المثيرة للقلق، لكني سأُبيِّن لاحقًا أنَّ القصة ليست كئيبةً بالضرورة. فإساءة فَهمنا يُمكن أن تحمل بصيصًا من الأمل يبعث على التفاؤل. ففي الواقع، غالبًا ما تُتيح الفجوات في المعرفة بيننا وبين الآخرين مساحاتٍ إبداعيةً يمكن أن تتطور فيها ذواتنا المتقلبة وتنمو. فإذا تجاوزَت معرفتنا بالآخرين الحدَّ المناسب، فستكون العلاقة بيننا خانقة ومتوقَّعة ومُملَّة. وكما عبَّر عن ذلك ليونارد كوهين في المقطع المتكرر من أغنيته «ترنيمة» (أنثِم)، موجِّهًا رسالةً تكرَّرَت على غلاف هذا الكتاب:

انسَ أن تجد شيئًا مثاليًّا
ثمة صدع في كلِّ شيء
فهكذا يدخل الضوء.

إصدار الأحكام في العصر الرقمي

إذا أردتَ أن ترى كيف أصبحَت مسألة الحكم على الآخرين أشدَّ تعقيدًا في السنوات الأخيرة، فكل ما عليك هو أن تنظر فقط إلى القدر الهائل الذي نبذله من وقتٍ وجهد في التعبير عن أنفسنا عبر الإنترنت. وأولئك الذين يظنون أننا أصبحنا غيرَ اجتماعيين ومُصابين بإدمان الشاشات يفهمون المسألةَ بالعكس. وكما ذكَّرتْني ابنتي آنا مرةً حين اشتكيتُ أمامها، قائلةً «اسمها وسائل التواصل الاجتماعي يا أبي». عندما نُقدِّم أنفسنا عبر العدسات الرقمية، ويبدو حينئذٍ أنَّنا محبوسون بمعزلٍ عن الحياة اليومية، نكون في الأصل محبوسين داخل شبكات الآخرين الذين يتواصلون مع النُّسخ التي يُقدمها كلٌّ منا عن نفسه ويُقيِّمونها بطريقةٍ عاطفية للغاية. ليس من السهل دائمًا أن يرى المرء ذلك. ربما نُركِّز على الاتصال والعلاقات وجمع المعلومات ونحن نتواصل على هذا النحو، لكنَّ هذه الرؤية غالبًا ما تستلزم منَّا تجاهُلَ النظر إلى أنَّ العروض التي يُقدمها كلُّ امرِئٍ عن نفسه عبر الإنترنت غالبًا ما تُقدَّم على أملِ أن تلقى تقييمًا إيجابيًّا من الآخرين، الذين بدورهم يردُّون بطريقةٍ متأنية مدروسة كذلك؛ ما يُنشئ قاعةً من المرايا تظهر فيها انعكاساتٌ مُتبادَلة مُفعَمة بالأمل وقلِقة من آراء الآخرين. ومن الصعب أن يشعر المرء بالرضا عن نفسه وقد صار لدَيه الآن نافذةٌ على عالمٍ لأناس يُقدِّمون أنفسهم في أفضل صورها، بسبب المقارنات.

ويُمكن رؤية الكيفية التي يُغذَّى بها تقدير الذات أو يُجوَّع عبر هذا الوسيط، مع ارتفاع معدلات إيذاء النفس والتنمُّر عبر الإنترنت، إلى جانب الفيضان اليومي من الصور التي يلتقطها الناسُ لأنفسهم، والنميمة وتداول الشائعات، ونموِّ منصات مثل «إنستجرام» و«سناب شات». وبالطبع قد تحلُّ عواقبُ وخيمة على الأشخاص الذين لم يُدركوا بعدُ عدم وجود زِرٍّ للحذف على الإنترنت، الذين قد يقولون أشياءَ ويَعرضون أشياء يندمون عليها لاحقًا.

لقد تغلغلتْ في ثقافتنا أشكالٌ جديدة من التواصل تغلغلًا عميقًا جدًّا، لدرجة أننا لم نعُد نشعر بالصدمة عند سماع أرقامٍ كانت ستجعلنا فاغري الأفواهَ من الدهشة لو كنا سمعناها قبل عَقدٍ من الزمن: فعلى سبيل المثال، يستهلك مليارَا شخصٍ على «فيسبوك» وقتًا مقداره ٥٠٠ عام في مشاهدة مقاطع الفيديو يوميًّا؛ فيما تُنتَج ٣٥٠ ألف تغريدة كل دقيقة وتُكتَب ٦٥٠ مليون مدونة كلَّ يوم. كلها مُزينة بمقاييسَ تُعطي المرءَ أساسًا للمقارنة. فيمكنك حساب عدد الأصدقاء لدى شخصٍ ما، أو عدد «الإعجابات» التي تنالها منشوراته، ومتابعيه والمشتركين، وتغريداته، ومرَّات إعادة النشر على «تمبلر» وعدد المشاهدات على «يوتيوب». وبقدرِ ما نُنكر أهميةَ مثلِ هذه المقاييس الساذجة للنجاح، من المرجَّح جدًّا أن تُصيب سلوكَ معظم الناس بنوعٍ من الانحراف. فعندما تترجَّل من إحدى سيارات شركة «أوبر»، يُطلَب منك تقييم السائق بالنقر على واحدةٍ من خمس نجوم، ولكن عليك أن تتذكر أنَّ السائق يُقيِّمك أيضًا. وتُمثِّل الحلقة الأولى من الموسم الثالث من مسلسل «المرآة السوداء» (بلاك ميرور)، التي ألَّفها تشارلي بروكر، هذا التقييم المتبادل تمثيلًا ديستوبيًّا ساخرًا حيث يشعر الأشخاص الذين تتغير درجاتُ تقييمهم باستمرار وتكون مرئيةً للجميع باستمرار بفزعٍ شديد عندما ينخفض تقييمهم إلى أقلَّ من ٤٫٢ درجات؛ ما يحدُّ من قُدرتهم على الوصول إلى سلع الطبقات العليا. أمَّا أولئك الذين سقطوا سقوطًا كارثيًّا إلى أقلَّ من درجتين، فيصبحون من الطبقة الدُّنيا. وتتجلى قوة الحلقة في ترديد فكرة شيوع الأحكام الاجتماعية التي تُصدَر من خلال المنصات الرقمية، والتي سرعان ما أصبحَت جزءًا من الحياة المعاصرة.

فلننظر إلى موقع «تويتر» مثلًا. مَن يستطيع أن يقول بصدقٍ إنه لا يعرف عددَ متابعيه؟ ما من أحدٍ لن يشعر بنفحةٍ طفيفة من الارتياح والرضا عندما يرى ظهورَ مُتابعين جُدد أو مراتٍ جديدة من «إعادة التغريد» تحت تلك العلامة الزرقاء الصغيرة المسمَّاة ﺑ «الإشعارات». ومَن ذا الذي ينشر تغريدةً ولا يتساءل عمَّا إذا كانت ستحظى بالتقدير بطريقةٍ ما؟ لِمَ قد تُغرد أصلًا ما لم تكن راغبًا في أن تحظى بالانتباه والتقدير؟ إن الدقيقة الواحدة تشهد نشر ٣٥٠ ألف تغريدة، وبذلك يتجاوز عددُ الرسائل الساعية إلى استرعاء الانتباه نصفَ مليار رسالة كل يوم.

لقد أصبحنا كلُّنا مُذيعين، ونستطيع الآن أن نصل بضغطةِ زرٍّ واحدة إلى مُستمعين أكثر بكثيرٍ ممَّا كان مُمكنًا قبل بضع سنوات فقط لأي شخصٍ خارج الوسط الإعلامي. وهذا يجعلنا عُرضةً لأحكامٍ أسرعَ بكثير إذا أخطأنا الفهم. فشدةُ الحُكم تنكسِر بوضوح وقوةٍ عبر عدسةٍ رقمية وتوضِّح أنَّ أولئك الذين ظنوا الإنترنت مساحةً مناسبة للتعبير عن آرائهم وأنفسهم بخصوصية قد أخطَئوا الفهم تمامًا. فعندما نشرَت العضوة البرلمانية إميلي ثورنبيري تغريدةً تتضمَّن صورةً لمنزلٍ في روتشستر مَكسوٍّ بأعلام إنجلترا، تعرَّضَت فورًا لأحكام قاسية لسُخريتها الواضحة الموجَّهة إلى ناخبٍ وطني من الطبقة العاملة.

وقد دفعَها هذا في غضون أيامٍ إلى الاستقالة من منصب المدعي العام في حكومة الظل الذي كانت تَشغله.

إن التعليقات غيرَ الحكيمة التي يُدْلَى بها الآن يُمكن أن تنتشِر في أرجاء العالم كانتشارِ النار في الهشيم عَبر عاصفةٍ على «تويتر»، كما حدث لتيم هانت الحاصلِ على جائزة نوبل، الذي انتهَت مسيرته المهنية في غضون أيامٍ من إدلائه بتصريحاتٍ تحمل تمييزًا جنسيًّا خلال مؤتمر في كوريا.

وفي هذا الصدد، يتناول كتاب «إذن فقد وُصِمتَ بالعار (علانية)» الذي ألَّفه جون رونسون، الكثيرَ من حالات العقاب الغاشم الذي يُفرَض على مُستخدمي «تويتر» الحمقى الذين يتجاوزون أحد الحدود. ربما يكون العالم الرقمي قد زاد من نَزعتنا للحكم على الآخرين والحُكم علينا في المقابل. لكنه لم يخلق تلك الحاجة من البداية، بل فقط غذَّى نزعات غريزية قديمة. فمثل الوجبات السريعة الرخيصة، التي صارت متاحةً بوفرةٍ في كل مكان الآن، وتُشبِع نَهَمًا قديمًا للسكَّر والدهون، أصبح بوُسعنا الآن، على نطاقٍ غير مسبوق، أن نستخدم آلياتٍ تُغذي رغبتنا العميقة في إصدار الأحكام الاجتماعية على الآخرين وتَلقِّيها منهم.

لفت انتباهي مؤخرًا سؤالٌ بسيط من رجل يعيش في ظروفٍ عصيبة في زيمبابوي. فقد تساءل قائلًا: «لماذا ينتحر الناس في الغرب أصلًا؟» والمقصود بهذا السؤال هو كيف يمكن أن تبدوَ الحياةُ لا تُطاق عندما يكون أصحابها قد تجاوزوا بكثيرٍ مستوى الصعوبات ومشاقَّ الحرمان الشديدة التي ما زال الكثيرون يواجهونها في هذه الدنيا. لكننا أيضًا، وإن كنَّا نعيش في ظل ثقافةٍ تُشجعنا على أن نُتخِم أنفسنا بالكماليات، نشعر بأنَّ تلبية الاحتياجات الاستهلاكية والمادية لا تُرضينا في النهاية. وهذه الملاحظة تدعونا أيضًا إلى التفكير في المقارنات التي نُجريها بيننا وبين الآخرين والمعايير التي نضعها بعد ذلك التي قد تجعلنا نرى أنفسَنا مَعيبين ومنقوصين. وغالبًا ما يكون الحكم الذي نُصدره على أنفسنا بأنفسنا، بناءً على مثل هذه المقارنات، أصعبَ انتقادٍ نواجهه. فعندما ننظر إلى حياة الآخرين ونحكم عليها، يُمكن أن نُقيِّم حياتنا في ظل تلك الأضواء، وهذا يمكن أن يُسفر عن تخيُّل أحكامهم علينا في المقابل. وهذا بدوره قد يؤدي إلى إضفاء الذاتية على تلك الأحكام وتحويلها إلى أحكامٍ داخلية نابعة منا، وغالبًا ما يجعلنا نجد أنفسنا معيبين لدرجةٍ تجعل الحياة تبدو أقلَّ قيمة. وبعيدًا عن الافتراض المتفائل بأن احتياجاتنا تُصبح اختيارية بدرجةٍ أكبر مع انتقالها من الأساسيات البدائية المتمثلة في المأكل والملبس والمأوى وارتقائها إلى نطاق الاحتياجات الأكثر تجريدًا المتمثل في الحاجة إلى احترام الذات والتقدير (كما يشير هرم ماسلو،4 فإنَّ الحاجة إلى الشعور بأنَّ أفعالنا مبرَّرة في حياتنا، مهما كانت مريحة ماديًّا، تُعَدُّ عميقة بقدرِ عُمق الحاجة إلى النمو على مستوًى أكثرَ أساسية.

ثمة شيءٌ مؤثر في تعليق صامويل جونسون الذي قال فيه إنَّ «كل إنسان، مهما قد تبدو ادعاءاته وتظاهراته ميئوسًا منها للجميع عدا نفسه، لدَيه مُخطط يأمُلُ أن يرتقيَ من خلاله إلى الشهرة؛ حيلةٌ ما يتخيَّل أنَّه سيجذب بها انتباهَ العالم.» إنه مؤثرٌ لأننا نستطيع تصور مِثل هذا الأمل دون شيءٍ يضمن أنه سيتحقَّق كما يبغي صاحبُه. أو ربما لأننا نتصور أنه سيُقابَل بنقدٍ شديد أو لامبالاة، وهذه الأخيرة قد تكون أسوأ؛ فالشخص الآملُ المُعرَّض للانتقاد يكون مُعرَّضًا بكل قسوةٍ للحطِّ من مكانته إلى «شخصٍ بلا قيمة»، بدلًا من أن يكون «شخصًا ذا شأنٍ ما»، فضلًا عن أن يكون «شخصًا عظيم الشأن».

وكما يحدث مع الموارد الاقتصادية والموارد الأخرى، فالأحكام التي يُصدِرها الآخَرون موزعةٌ بدرجةٍ غير متساوية تمامًا. فالبعض منها يَفيض بالتقدير والإشادة والقبول والثقة والسمعة الطيبة، والبعض الآخر مجردٌ من أي كلمة طيبة. وهذا سيكون سيئًا جدًّا إذا كان هذا التوزيع غيرُ المتكافئ للأحكام الإيجابية مبنيًّا على شيء أشبهَ بمجموعة عادلة ومنطقية من التقييمات. فالمحاكم التي تُقيم «العدالة العمياء» تدَّعي أنها رمزٌ لهذا المبدأ الأسمى، إن لم تكن تطبيقًا واقعيًّا له. لكن أسوأ ما في الأمر هو أن الأحكام التي نوزِّعها يوميًّا مَعيبة من جوانبَ كثيرة وموزَّعة توزيعًا غير عادل؛ لأنها مدفوعةٌ بتصوراتٍ أنانية ومنافقة ومنحرفة لبعضنا عن بعضٍ، كما سأتناول بالتفصيل في هذا الكتاب.

ويرتبط هذا التوزيع غيرُ المتكافئ ارتباطًا وثيقًا بأنواع أخرى من عدم المساواة. فقد تحدثَت مقالاتٌ صحفية حديثة عن أنَّ أفراد الطبقات المتوسطة يُنشئون لأطفالهم أرضيةً ضامنة. فهُم يملكون الموارد اللازمة لضمان ألَّا يتخلفَ طفلٌ من أطفالهم عن مستوًى معينٍ من الإنجازات والتوقُّعات في الحياة بغضِّ النظر عن افتقارهم إلى الجدارة الفكرية أو غيرها، وأهمُّ أسباب ذلك أنَّ لديهم فرصًا لزيادة ثقتهم في العالم؛ أي استعدادهم لتوقع تلقِّي أحكامٍ إيجابية من الآخرين. وكما علَّق إرفينج جوفمان عالِم الاجتماع اليهودي المتشدد قبل خمسين عامًا:
من منظورٍ مُهم، لا يُوجَد إلَّا ذَكرٌ واحد لا يخجل من نفسه تمامًا في أمريكا: ألا وهو الشاب المتزوج الأبيض الحضري الشمالي الأب البروتستانتي المغاير الجنس والحاصل على تعليم جامعي، الذي يَشغل وظيفةً بدوام كامل، ويحظى ببشرة جيدة، ووزن وطول مناسبَين، ورقمٍ قياسي حديث في الرياضة. وأي ذكر يعجز عن التأهُّل لهذه المرتبة بأيٍّ من هذه الطرق من المرجح أن يرى نفسه — في بعض اللحظات على الأقل — وضيعًا وناقصًا ودونيًّا.5

ومن هذا المنطلق، فإن معظم الناس موصومون بطريقةٍ أو بأخرى. وتُصبح لديهم «هُويات مُفسَدة» على حدِّ تعبير جوفمان. ولا أتخيل أنَّ تغيير هذا النوع من انعدام التكافؤ سيكون أسهلَ بأي درجةٍ من تغيير أوجُه الظلم الراسخة الأخرى التي يُعانيها مجتمعنا، ولكن قد تُوجَد فائدة كامنة في استكشاف النسيج الغريب للأحكام الاجتماعية من أجل تجنُّب بعض هذه الفخاخ على الأقل. أريد في هذا الكتاب أن أستكشفَ آليات الأحكام الاجتماعية التي تحدث كلَّ يوم من أجل التوصُّل إلى فَهمٍ أفضلَ للنتائج المزعجة التي يبدو أننا نعتبرها أكيدةً بلا نقاش. وإحدى هذه النتائج المزعجة هي الشعور بالعزلة الناجمُ عن ذلك الإحساس المؤرق بأن الناس لا يفهموننا حقًّا.

جولة في هذا الكتاب

من المفهوم، عند تقييم الادعاءات، أن يُطلَب الدليل عليها، وهذا غالبًا ما يعني دليلًا علميًّا. فالأدلة والحجج مُهمة للغاية في تدعيم الادعاءات، وبفضل هذا المبدأ العلمي نستطيع التمييزَ بين الأدوية الفعالة والسحر، بين الجسور التي ستتحمل ثقل حركة المرور وتلك التي لن تتحمَّلها. لكنَّ هذه مشكلات «مذلَّلة» نسبيًّا. والنهج العلمي لن يستطيعَ دائمًا تقديمَ تفسيراتٍ مُقنعة للظواهر الأكثر تعقيدًا، التي لا تُعد مذللةً بدرجة كبيرة. في المقابل، يتَّسم العديدُ من شواغلنا في الحياة الاجتماعية بخصائص «المشكلات الخبيثة». هذا المصطلح يُستخدَم لوصف مشكلةٍ ليس لها حلول صحيحة أو خاطئة (وإن كنَّا نأمُل أن يكون لها حلول أفضل أو أسوأ)، وعادةً ما يُستخدَم استخدامًا فريدًا جدًّا في سياقٍ ما لدرجة أنك لا تستطيع أن تشتقَّ منه تعميماتٍ بسهولة، وتتغير محاولات تحديد المجموعة المعقدة من الأسباب الكامنة وراء المشكلة بشدةٍ على حسب الإطار المرجعي الذي تستخدمه.

والعديد من الشواغل الاجتماعية الرئيسة في زماننا، مثل عدم المساواة أو العلاقات الجيدة، أو العمل المُرضي أو الرفاهة العامة، يندرج تحت فئة المشكلات «الخبيثة». فإذا أردتَ أن تفهم سببَ اختلاف التعاسة بين كلٍّ من العائلات التعيسة (كما قال تولستوي في السطر الافتتاحي في رواية «آنا كارنينا») ستكون مصادرُ الأدلة وطبيعة الحجج أوسعَ بكثيرٍ من أن تقع ضمن نطاق العلوم التجريبية.

وينطبق هذا، في رأيي، على مسألة إصدار الأحكام. فالعلاقة المتناقضة التي تربطنا بالأحكام، وآلياتنا في إصدارها التي غالبًا ما تكون متحيزةً وغير عقلانية، وأحلامنا المعيبة بالهروب من هذا النوع من التدقيق، كلها عواملُ يمكن بالتأكيد إيضاحها من خلال أبحاث علم النفس التجريبي. وسوف أستعين بهذه الأبحاث والدراسات على مدار الكتاب. لكنَّ هذا يَسري أيضًا على الرُّؤى التنويرية الأكثرِ نوعيةً التي يُمكن استخلاصها من الفلسفة ومبادئ التحليل النفسي والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، إلى جانب تلك المستودَعات العميقة الأخرى من المعرفة الإنسانية والثقافة الشعبية والأدب.

يُعَد إنكار ذلك أشبهَ بقصة الرجل السكران الذي يغادر حانةً في إحدى الليالي ويذهب إلى موقف السيارات ليعثر على سيارته. وفي طريقه إلى هناك، يُدرك أنه فقدَ مفاتيحه. فيذهب إلى أقربِ عمود إنارة ليبحث عنها هناك. ثم تبدأ إحدى الشرطيات التي كانت تُتابع الموقف من بعيد في مساعدته، ولكن بعد بضع دقائق من البحث غير المجدي، تسأله عمَّا إذا كان هذا هو المكان الذي فقدَ فيه المفاتيح بالفعل، فيجيب السكران قائلًا: «لا، بل فقدتُها هناك»، مشيرًا إلى مكانٍ ما في الظلام المحيط بهما. فتسأله الشرطية متحيرة: «إذن لماذا تبحث عن مفاتيحك هنا، إذا كنتَ قد فقدتَها هناك؟» فيجيب الرجل قائلًا: «آه، لأن هذا هو المكان المُضاء.» من المفهوم أن يبحث المرءُ عن يقينٍ أكبر ممَّا يستطيع نيله عند دراسةِ ظاهرةٍ ما، وهذا التأثير، الذي يُسمى «تأثير إنارة الشارع»، هو نزعةٌ إلى الاعتماد على ما هو أكثرُ قابليةً للقياس أكثرَ من الاعتماد على ما قد يُتيح فَهمًا أفضل لحقيقة الشيء حتى لو كان أصعب في استكشافه بدقة. فالمشكلات الخبيثة غالبًا ما تتطلَّب منا أن نبحث عن حلولها في الظلام.

غير أنَّ مُتخصِّصي علم النفس التجريبي يستطيعون مساعدتنا في رؤية بعض سِمات الطبيعة البشرية المُعمَّمة عبر التجربة البشرية، وتسليط الضوء على ذلك عن طريق إعداد العالم لكشفِ حقيقة هذه الأوهام اليومية. فيطلبون من الناس أن يتخيَّلوا حجرًا أُسقِط من طائرة ثم يُخمنوا موضع هبوطه. وبإظهار الفجوة بين تخميناتنا (بأنه سيسقط إلى الأسفل مباشرة) وبين الواقع (أنه سيسقط على بُعد أميالٍ؛ إذ نتغاضى عن حقيقة أنَّ الطائرة تتحرك بسرعة كبيرة)، يستطيعون بمهارةٍ توضيحَ التحيزات والشواغل الشاغلة التي يمكن أن تغذِّيَ نظرتنا إلى العالم. ولكن في غمرة البحث عن مِثل هذه السمات المشتركة، من السهل التغاضي عن التجارِب الشديدة الخصوصية التي نُواجهها كأفرادٍ كلَّ يوم. صحيحٌ أنَّ الحيوان ذا النزعة الاجتماعية الفائقة (أي الإنسان) يتداول الأحكامَ لأنَّ السمعة لها الأهميةُ القُصوى، لكنَّ كل تجربة من تجارب هذه الأحكام مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بسياق معين وخاصَّة بالظروف المَعنيَّة. ولفهم هذه المسائل فهمًا أعمقَ نوعًا ما، من المفيد إلقاء نظرةٍ على الأفلام والروايات وأشكال الثقافة الشعبية الأخرى التي تروي قصصًا معينة تدور في سياق معين. ولفهم الخيارات الكامنة في اكتساب سمعة معينة، ربما يُمكن أن نلجأ إلى قصة والتر وايت الشائقة والمُميزة في المسلسل التلفزيوني الناجح «بريكنج باد»، بقدر ما يُمكن أن نلجأ إلى بياناتٍ تجريبية قابلة للتعميم. وكما قال دان ماك آدامز المتخصصُ في علم النفس: «يُصمِّم الفنان الكامن داخل كلٍّ منَّا حياة فريدة يستطيع فيها إثبات ذاته. أمَّا العالِم الكامن داخل كلٍّ منا، فيُركز على ملاحظة التشابهات بين الحياة التي صمَّمناها وحيواتٍ أخرى مُعينة؛ فنكتشف أوجُهَ التشابه والاتساق والاتجاهات.» وبالتركيز على الظواهر العامة أكثر من التفاصيل الخاصة، يميل علم النفس إلى تجميع الأشياء في فئة واحدة دون تمييز، بينما يميل الأدب إلى تقسيمها.

وباتِّباع نهجٍ متعدِّد المستويات، أعتمد على هذه المصادر المتنوعة لتكوين صورةٍ آمُلُ أن تُقدِّم تمثيلًا أصدقَ عن الواقع «الخبيث» المعقد، بدلًا من اختزاله فيما يُمكن تحديده في المختبرات فقط. وآمُل أن يؤدِّيَ هذا التنوعُ في مسارات البحث أيضًا إلى قراءةٍ أكثرَ تشويقًا للكتاب، ويساعد في تبرير الحكم الذي أصدرتَه عند اختيار هذا الكتاب في المقام الأول.

أبدأ بجولةٍ في حقول الألغام الاجتماعية التي نسير فيها. فبينما نتلمَّس طريقنا عَبر الأعراف والتوقعات بأطراف أصابعنا، نواجه خطرَ التعرُّض للأحكام السلبية؛ ما يعرضنا إلى العديد من أشكال الألم الاجتماعي. فالقلق من الإحساس بمشاعر الإحراج والخجل والذنب، التي تُعَد مُصاحِباتٍ ضمنيةً للشعور بالخزي، يَضبط سلوكَنا بطرقٍ عميقة؛ ما يقودنا إلى إيجاد طرقٍ للتعامل مع ذلك بالاختباء؛ بحجبِ كلامنا وسلوكنا. وتتفاوت مهارةُ الأشخاص ومعرفتهم التي يمكنهم استخدامُها لتطوير أسلوبٍ جيد بما يكفي للتعامل مع ذلك. فمُعظمنا يتأرجحُ ما بين الظهور بمظهرٍ جذَّاب أو أنيقٍ من ناحية، والظهور بمظهر مُحرِج وأخرَق من ناحية أخرى، ساعينَ طَوال الوقت إلى السيطرة بشكلٍ دقيقٍ ومفصل على انطباعات الآخرين عنَّا بأفضل ما يمكننا.

إذا توقفتَ عن تسليط كل تركيزك على التحليل الدقيق للتأثير على الانطباعات، وبدأتَ النظر إلى الصورة العامة من منظورٍ أوسع، فسترى كيف تزدهر السمعةُ وتتدهور بمرور الوقت. وهذا هو موضوع الفصل التالي. فالسمعة هي أحدُ أقْيَمِ الأصول التي يمكن أن يُراكمها حيوانٌ اجتماعي مع الوقت. ويحتاج اكتسابُ أفضلِ سمعة ممكنة، على وجه الخصوص، إلى التحكم في مقايَضةٍ مُستبعَدة بين النظر إلى المرء كشخصٍ ذي دوافعَ طيبة من ناحية، وكشخص ذي كفاءة أو مهارة من ناحية أخرى؛ بعبارة أبسط، شخص ذو خُلق وبراعةٍ في الوقت نفسِه. ولكن لا أحدَ يبني سُمعةً وهو منعزل. بل يُمنَح إياها من الآخرين. وسواءٌ كنتَ تُعتبَر ذا أخلاقٍ طيبة أو براعةٍ، فإنَّ كليهما بالطبع يكمن، أو لا يكمن أيٌّ منهما، في عين الرائي.

غير أنَّ عين الرائي ليست موثوقةً مع الأسف؛ وهذا هو موضوع الفصل الثالث. والدروس التي نتعلَّمها عن الكيفية التي يُصدِر بها بعضُنا الأحكام الاجتماعية والأخلاقية على البعض الآخر من شأنها أن تُفيقنا من غفلتنا. فنحن محمَّلون بتحيزاتٍ ضمنية وجفلاتٍ تُصيبنا عندما نشهد فعلًا منافيًا للأخلاق وردود فعل مشمئزَّة، بالإضافة إلى أحكام منافقة أنانية مُصطبِغة بولاءاتنا إلى المجموعات التي نؤيدها. وسأستكشف في هذا الفصل بحثًا أُجريَ مؤخرًا عن علم النفس الاجتماعي والأخلاقي، يكشف نطاق هذه النزعات. وبذلك فالأحكام التي يُصدِرها بعضُنا على بعضٍ أبعدُ عن أن تكون تقييماتٍ مُنصفةً ومحايدة، مهما كَثُرَت محاولاتُ إقناع أنفسنا بأن نراها من هذا المنظور.

من المفهوم أنَّ ثقل كلِّ هذا الحكم يمكن أن يستحضر في الذهن أحلامَ التحرُّر من لعنة إصدار الأحكام والتعرُّض لها وعيش حياةٍ مستقلة وصادقة. فالكثيرون لديهم النفور نفسُه الذي عبَّر عنه لاروشفوكو حين قال إننا إذا «تركنا صيتنا وسُمعتنا الطيبة مرهونَين بأحكام الآخرين لمجردِ أن نجعلهم يُصدرون أحكامًا في صالحنا، فنحن بذلك نُعرِّض شعورنا بالطمأنينة وراحة البال وأسلوب حياتنا، للخطر بطرقٍ لا تُعدُّ ولا تحصى.» فعندما نَلمحُ ما لدى بعض جمهورنا، الذين قد يُصدرون أحكامًا مُهينةً مُحطِّمة، من قدرةٍ غير مرغوبٍ فيها على التأثير في الانطباعات المأخوذة عنَّا، نحلم بالهروب. فمُحطِّم الأيقونات والمعتقَدات، والخارج عن المألوف، والمبدع، كلهم يُقدمون أمثلةً تُجسد مُثُل التحرُّر من الأحكام، وإن كانت وهمية. أحيانًا ما ننظر إلى طبيعاتنا الحيوانية بحثًا عن صورةٍ أبسطَ لذواتنا؛ فلننظر مثلًا إلى ماوكلي أو طرزان. وفي أحيانٍ أخرى، ننظر إلى إبداع الفنانين الذين يُعقِّدون طريقة هروبهم من صخب الحياة اليومية بشيءٍ أشبهَ بحُرِّية حقيقية في تقرير المصير. هؤلاء هم فنَّانو الهروب الذين يُبينون لنا الشكلَ المُحتمل لذواتنا عندما تكون غيرَ مُثقلة بالأعباء، وهذا هو موضوع الفصل الرابع. ويُقدِّم كتاب «الوصمة البشرية» الذي ألَّفه فيليب روث، بشخصيته الرئيسية التي تحمل اسم كولمان سيلك، مثالًا موسَّعًا عن الشكل المحتمل لمحاولة البحث عن التحرر، ومدى العبء النفسي الذي يمكن أن تحمله هذه المحاولة.

يتناول الفصل الأخير الكيفية التي يُحكَم بها على حياتنا من كل الجوانب. إن تقارير النعي وأفلام السِّيَر الذاتية تُعد أمثلةً جيدة لكيفية تلخيصِ حياة شخصٍ ما حين تنتهي تمامًا، لكنَّ تفاصيلها لم تُسرَد بعد. غير أننا نعلم أنَّ هذه القصص، التي ليس للشخص الموصوف أيُّ سيطرة على ما يردُ فيها، تُحرِّف حياته حتمًا لتجعلها متَّسقةً ومترابطة بطريقةٍ ما. فالقصة يُمكن أن تُخفيَ أشياءَ بقدْرِ ما تكشف أشياءَ أخرى. وأُكرر مجددًا أنَّ الأدب الجادَّ يُمكن أن يُقدم رؤًى أدقَّ عن نسيج حياة شخصٍ ما ويتجنَّب أفجَّ التحريفات والمكاشفات التي يتَّسم بها الحكيُ العادي، وإن كان لا يستطيع الإفلاتَ منها تمامًا. ففي كل الأحوال لا تُوجَد رؤية غير مُحرَّفة، ولا أرضية محايدة يُمكن أن نستند إليها في وصف حياة شخصٍ ما بأنها سردية مُتسقة مترابطةُ الأجزاء. وحتى مع ذلك، فالظلم والفظاظة، إلى جانب التعقيد واللَّبس المُحيِّر، يُمكن أن يظلَّا كما هما، ما يضمن استحالةَ سرد القصة كاملة مُطلقًا، ما يعني أننا لن نُفهَم فهمًا حقيقيًّا أبدًا. لكنَّ السرد المُحرَّف أفضلُ من عدم وجود سردٍ أصلًا، كما أنه يُعَد ركيزةً أساسية لنشعر بأن لحياتنا قيمة.

لم أدرك، إلَّا وأنا بصدد إتمام هذا الكتاب، أنه يُعَدُّ في الأساس نقيضًا لكتابي الأخير الذي يحمل عنوان «الألفة: فهم قوة التواصل البشري الدقيقة». وكما يُشير العنوان الفرعي لذلك الكتاب، فقد كان عبارةً عن استكشافٍ لحاجتنا إلى ذلك الشعور الصعبِ المنال بأننا نعرف آخَرين وأنهم يعرفوننا في المقابل؛ بعبارة أخرى: يستكشف الألفةَ باعتبارها تِرْياقًا للعُزلة. وقد ذهبتُ في ذلك الكتاب إلى أننا متعطشون لذلك الإحساس بالتفهُّم من قِبَل الآخرين، حتى وإن كان ذلك الشعور صعبَ المنال وهشًّا وقصيرَ الأجَل، ومصحوبًا في أغلب الأحيان بمحاولاتٍ مؤلمة لتحقيق ذلك الأمل الهشِّ في التواصل تبوء بالفشل التام. ويستكشف هذا الكتابُ حقيقةَ أننا لا نشعر بالألفة معظمَ الوقت. فنحن في الواقع نعيش ونُسيِّر شئوننا في عالمٍ من الأحكام المعيبة، سواءٌ في إصدارها أو تلقِّيها، ولا نستطيع تجنُّبَها. لكنها مهمةٌ لنا. فبدونها سنجد صعوبةً بالغةً في عيش حياة ذات معنًى. لكنها غالبًا ما تكون متحيزة، أو خادمةً للمصلحة الذاتية، أو منافقة، أو غافلة عن جوانبَ معيَّنة، أو معاقة بفعل حقيقة تغيُّر الذوات الاجتماعية لدى كلٍّ منا وتقلُّبها. ربما نرغب في أن يرانا الآخرون وأن يعترفوا بوجودنا، لكنَّ ما يُرى في معظم الأحيان يمكن أن يكون مجردَ جزء منقوص وغالبًا ما يكون مُحرَّفًا من القصة. لكن سيكون من الخطأ أن نظنَّ أنَّ الحقيقة تكمن في الداخل، تنتظر فقط الكشفَ عنها. قد نرقص مرتدين حجابًا، ولكن من الخطأ أن نظن أنَّ ثمة حقيقةً كامنة ثابتة تُميز الذاتَ الحقيقية، أو أن تلك التي نرتديها ونُظهرها للعالم الخارجي زائفة بطريقةٍ ما.

نحن مُحمَّلون بطبقاتٍ كثيفة جدًّا من الشواغل الخفية والمتناقضة واللاواعية، لدرجة أنَّنا لا نُفاجَأ من إساءات الفهم والتقدير المستمرَّة. قد يبدو من الصعب أن نظن أنَّ لا أحد يفهمنا حقًّا، حتى نُدرك أن هذا مصيرنا المشترك في معظم الأحيان. فنحن في النهاية بالكاد نفهم أنفسَنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤