مقدمة

أدرك الإنسان الأول منذ بَدْء الخليقة أن روحه في حاجةٍ إلى قوةٍ تحميه ويأوي إليها، وكانت روحه ترتجف جوعًا إلى هذه القوة مثلما كان جسده يرتجف جوعًا إلى الأكل والأمان، فبدَتْ تتشكَّل بداخله العديد من التخيُّلاتِ بشأن الشمس والأرض والسماء بل الأحلام أيضًا؛ فمرة يعتقد أن أباه الذي يظهر له في الحلم هو هذه القوة الخفية فيعبده ويقدم له القرابين ويتخذ من قبره مزارًا، ونشأت من هنا عبادة أرواح الأسلاف.

ومع تطوُّر معرفة الإنسان البدائي وارتقائه أخذ يتصور أن روح هذا الأب أو الجد يمكن أن تحلَّ في حيوان أو شجرة فانتقل إلى عبادة الحيوانات والأشجار، وأصبح لكل قبيلةٍ حيوانُها الخاصُّ الذي تعبده وتبجِّله، ومن هنا نشأت فكرة «الطوطم».

ومع تطوُّر الفكر الإنساني تعدَّدت القوى وتبدَّلت بما يتوافق مع تعدُّد حاجات هذا الإنسان البدائي ومخاوفه، بالإضافة إلى تعدُّد العوامل الجغرافية والطبيعية التي عاشها ذلك الإنسان، ومن هنا نشأت أولى الأفكار التي كوَّنها الإنسان بطبيعته الفطرية، ونشأت بالتالي عادة التضحية بالبشر، تلك العادة التي أراد منها الإنسان التقرُّب من الآلهة!

ولم تقف عادة تقديم الأضاحي البشرية عند الحدود الزمنية للإنسان البدائي، وإنما امتدَّت لتجد لها صدًى في العديد من البُلْدان حتى الوقت الحالي، فلا زالت عادةُ التضحية البشرية تُمارس في إطارٍ من الغموض والطقوس السحرية ببلادٍ عدة بغرض الحفاظ على القديم من العادات والمعتقدات الموروثة.

وبصفةٍ عامة يجب عدم النظر إلى الديانات القديمة بمَعزِلٍ عن الديانات الحالية؛ وذلك حتى يسهل علينا توضيح الفروق بين الدين والأسطورة في بعض المجتمعات والقبائل البدائية، ولمحاولة فَهْم طبيعة الفكر والمعتقدات التي أدَّت إلى وجود عادات تقديم الأضاحي البشرية وبقائها حتى الآن في بعض المجتمعات ذات الديانات الوضعية التي لا زالت تحيا حياة إنسان عصور ما قبل التاريخ.

فكي يتسنَّى لنا فهم الغاية من تلك العادة علينا أن نترك العنان للخيال يسبح بنا في ماضٍ بعيد مظلمٍ مليءٍ بالوحشية نهارًا وبالخوف والفزع ليلًا، وما بين هذا وذاك عاش الإنسان الأول بقدراته البائسة ورغبته في الحياة وخوفه من الغد بل من اللحظة القادمة!

وهو في سبيل ذلك كان على استعدادٍ لتقديم الغالي والنفيس كي يأمن عاقبة المخاطر التي تُحيط به؛ فهو تارةً يُقدِّم قربانًا حيوانيًّا وتارة يُقدِّم قربانًا بشريًّا وينتظر النتيجة، يترقَّب البيئة ويحتاط لها بالمزيد من الأضاحي لتهدئة غضب الطبيعة، وللحصول على مرضاة الإله!

ولقد مارست أغلب شعوب الأرض في العالم القديم بل الحديث أيضًا؛ عادةَ التضحية البشرية، وكان ذلك انطلاقًا من الفكر غير الواعي بحقيقة الإله الذي طالما سَعَوْا إلى نَيْل مرضاتِه، ولا يزال هناك العديد من الشعوب البدائية تمارس تلك العادة حتى وقتنا الحالي، ولا بد أن تلك العادة كانت قد اتخذت أشكالًا مختلفة، وكانت لها بداياتها ودوافعها التي أدَّتْ بها إلى تواجدها وانتشارها في شتَّى أرجاء العالم؛ فقد عُرفت تلك العادة في العديد من دول الشرق الأدنى القديم وعُرفت كذلك في أوروبا وتركيا والهند وغرب أفريقيا والأميركيتين وبولينيزيا وغيرها من بقاع العالم، وكان لكلٍّ دوافعها وأسبابها ولكن الغاية تكاد تكون واحدة.

وللوقوف على تلك الدوافع والأسباب كان لا بد من إلقاء الضوء على فكر وطبيعة حياة الإنسان الأول منذ البدء؛ فلا شك أن مدعيات الحياة كانت من أول الأسباب التي دعت الإنسان إلى اتخاذ مختلف الأسباب التي تمكِّنه من أن يحيا في أمان، فعندما نضع الإنسان البدائي في مواجهةٍ مع الطبيعة، يجب ألَّا نغفل دور غريزة حب الحياة في هذه العلاقة، تلك الغريزة التي دفعت الإنسان لمحاولة تكييف الطبيعة لصالحه، وأن يستبدل بالظروف الطبيعية القاسية المفروضة عليه ظروفًا أخرى يريدها، وهو في سبيل ذلك اتخذ كل السبل الممكنة لتحقيق الأمن والأمان له، وكانت عادة التضحية الآدمية واحدةً من تلك السبل التي عرفها واستخدمها لينال رضا الآلهة ويحيا دون مخاطر.

لم يأخذ الإنسان البدائي الظواهر الطبيعية على أنَّها ظواهر معزولة عن كيانه، بل نظر إليها على أنَّها تدبِّر حياته وتتحكَّم فيها، هكذا تشكَّل للإنسان البدائي موقفٌ من الطبيعة، ما بين خوفه منها ورغبته في الانتفاع بها، وهذا الموقف هو في حدِّ ذاتِه موقفٌ من نفسه؛ فهو دليل على شعوره بعجز المقاومة من ناحيةٍ والخوف على وجوده من ناحيةٍ أخرى.

وشيئًا فشيئًا أصبح هذا الإنسانُ صانع العبادات والمُعتقدات والطقوس والرسوم في الكهوف دائم التطلُّع إلى عالم آخر حقيقي، وربما كان قد استقر في وَعْيه ملامح هذا العالم فأخذ يصوِّره ويرنو إليه بخطًى حثيثةٍ، وتجسَّد كل ذلك في صور عدة من الأساطير التي صاغها للوصول إلى هذا العالم.

واحتلَّت الأسطورة حيزًا مهمًّا من تراث الإنسانية ومجتمعاتها كافة، ولا يخلو مجتمعٌ أو حضارةٌ من أساطير ترتبط بتراثه جنبًا إلى جنب مع الأشكال الأدبية والفنية الأولى التي تميز ثقافة ذلك المجتمع. وليس من السهل أن نعود لأكثر من سبعة آلاف سنة مضَتْ لندرك ما كان يفكِّر فيه أسلافنا، وما اعتقدوا في الحياة والموت؛ أو لنستطيع أن نتصوَّر كيف حاولوا تفسير أسرار الحياة والطبيعة وما يتعلَّق بهما، وما يزخران به من أشياء محيرة، خصوصًا في ظل عدم استطاعتهم تدوين ما يختص باقتناعاتهم في تفسير ما كان يُحيط بهم من ظواهر وأمورٍ غامضة، ولكن بإمكاننا أن نُمسك بالمفتاح الذي يزوِّدنا ببعض المعلومات فيما يتعلق بمعتقداتهم، وذلك من اللقى والاكتشافات الأثرية التي يكتشفها علماء الآثار هنا وهناك، كالرسوم والنقوش الصخرية والتماثيل البدائية والمذابح والأدوات الحجرية؛ فجميعها أشياء تعطينا مغزًى حقيقيًّا لدين معين. وإن لم يكتب الأقدمون شيئًا، فبإمكاننا أن نستقرئ التاريخ بخصوصهم من خلال العادات والتقاليد التي لا تزال موجودةً حتى اليوم، ومن خلال ما وصلَنَا مكتوبًا على صفحات العصور التاريخية القديمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤