ديانة الميديين والفرس

مقدمة

تدل أول بادرة لاحت لنا عن الشعب الآري على أنه كان من طبقة عباد الطبيعة؛ فقد كان يعبد السماء الصافية والنور والنار والرياح والغيث التي تمنح الحياة بوصفها كائنات مقدسة، في حين أنه كان يعد الظلام والقحط شيطانين. وقد كان للسماء في تعداد المعبودات المكانة الأولى، وكانت الشمسُ تدعى «عين السماء»، كما كان البرق يدعى «ابن السماء»، وقد يدعي البعضُ أنَّ معظم الديانات تحتوي على هذه الأساطير التي نجدها في واقع الأمر منتشرةً انتشارًا واسعًا، ولكن نجد في حالة الآريين أنه لا يوجدُ استعطافُ الأرواح الشريرة، كما هي الحال عند السوماريين، بل على العكس كان لا بد من مواجهتها والتغلُّب عليها بالأرواح الخيرة الطيبة التي كانت بدورها تستندُ كثيرًا في نجاحها على الصلوات والقربات التي يقدمها الإنسان، وعلى ذلك كان بدهيًّا — من بادئ الأمر — أن مكانة الإنسان كانت ذاتَ قدر مَكِين، كما كانت حالُهُ تَدُلُّ على الرجولة نحو آلهته الذين كان يتعبد إليهم طلبًا للمساعدة، يُنشد لهم أناشيدَ المدح والثناء، ويقدم لهم الضحايا، وفوق كل ذلك كان يصب لهم شرابًا مقربًا من «الهاؤما Haoma»١ المقدسة، وكان الآري يشعر بأنه بمثل هذه الصلوات وبمثل هذه القربات قد ساعد الآلهة الأبرار على أن يحاربوا في جانبه قوى القحط والظلام، وإنه لمن الأهمية البالغة حقًّا أن نقرأ كيف أن إله أسماء «فارونا Varuna» وهو «أورانوس Ouranos» عند الإغريق كان يُعبد بوصفه الإله الأعلى الذي كان لزامًا على الناس أنْ تُوَجِّهَ إليه الصلوات، وكيف أن الصفات الخلقية قد تجمعتْ حوله، وكيف أنه بوجه خاص قد مقت الكذب، وتلك حقيقةٌ كان لها تأثيرُها العميق على الإيرانيين، كما يمكن أن يشاهد في نقوش الملك «دارا الأول» وكذلك في صفحات تاريخ «هردوت».
وكان يشترك مع السماء الأثير الوضاء الذي كان يشخص باسم «مترا»، فكانا يحرسان سويًّا القلوب وأعمال البشر، وكان كُلٌّ منهما يرى كل شيء، ويعرف كل شيء، وكذلك النار كانت تلعب دورًا بارزًا في صورتها الأصلية بوصفها البرق في الصراع الأبدي الذي يشنه باستمرار آلهة النور على قوى الظلام، وقد ذكر لنا «هردوت» (راجع: Herod. 1, 131) أنهم (أي الفرس) كانوا معتادين صعود أعلى الجبال وتقديم القربان إلى «زيوس Zeus»، وقد أطلقوا اسم «زيوس» على كل الدائرة السماوية، وفضلًا عن ذلك كانوا يُقَرِّبُون القربان إلى الشمس والقمر والأرض والنار والماء والرياح.
ومما هو جديرٌ بالذكر هنا أن عبادة قُوى الطبيعة التي ذكرها لنا «هردوت» كانت مِنْ خَوَاصِّ كُلِّ السلالات الآرية، ولكن يلفت النظر هنا كذلك أن الآريين الهنود والإيرانيين كانوا يشتركون في ديانةٍ واحدةٍ وثقافةٍ واحدةٍ لمدة طويلة من الزمن انتهت قبل الوقت الذي نتناولُ البحث فيه بفترة قصيرة نسبيًّا.٢
والواقع أن آريي الهند كان لهم كتاباتٌ مقدسةٌ أُوحي بها تدعى «فيداس Vedas» أو «المعرفة» وتشتمل على مجموعة من الأناشيد يبلغُ عددُها أكثرَ مِن ألف أُنشودة، قد حافظ عليها الآريون القدامى الذين فتحوا بلاد «البنجاب»، ونجد الآن بوجهٍ خاص أن عصر «فيداس» المبكر بين أهل «البنجاب» في نفس درجة التطور العام التي نجدها في إيران، كما نجد كذلك نفس عبادة قوى الطبيعة.
هذا، ونجد تعابيرَ مماثلة في البلدين فمثلًا نجد اسم «آسورا Asura» (وباللغة السنسكريتية Asura, Avesto Ahura، ويعني: السيد)، واسمًا آخر هو «دايفا Daiva» (وباللغة السنسكريتية Deva, Avesta, Daeva) وهو مشتق من الكلمة الهندو-أوروبية التي تعني: «الآحاد السماوية»، وقد استمر الاسمُ الأخيرُ بوصفه كلمة تعبر عن لفظة إله في الآرية في صور مثل «تيوس Theos» أو «ديوس Deos» وقد اشتق من اللفظ الأخير اللفظة المعروفة التي تعبر عن إله Dieu في الإغريقية واللاتينية والفرنسية على التوالي.
هذا، ونلحظ في عهود الفيديين المبكرة أن طبقتي الآلهة «أهوراس Ahuras» و«دائفاس Daevas» كانتا تعدان مناهضتين الواحدة للأخرى بالنسبة لتقديسهما عند رجال القبائل، فنجدُ أنَّ فِي الهند كان أتباعُ «دائفاس» يعتبَرون أصحاب الكلمة العُليا، وفي عهد «فيدا Veda» المتأخر كان «الأسوراس Asuras» يعدون شياطين، ولكن في «إيران» من جهة أُخرى كان «الأهوراس» في المكانة العُليا، ومن ثم نجدُ أن الوعي الديني عند الإيرانيين بعلاقته مع «أهورا» قد نما وتطور، أما «الدائفاس Daevas» فقد انحط إلى المنزلة التي كانت أعطيت «آسوراس» في الهند.

الأساطير الهندية الإيرانية – «جاما» أو «جامشيد»

توجدُ كذلك أساطيرُ مشتركة في كِلتا البلدين، ويُحتمل أن يكون من أهم هذه الأساطير أُسطورة البطل «جاما» وهو اسمٌ كان يُطلق — في الأصل — على الشمس الغاربة، وكان يعتبر أنه أول من «أرشد الكثيرين إلى الطريق»، وكان أول من وصل إلى «قاعات الموت الفسيحة» وقد تحول — بطبيعة الحال — إلى ملك الموتى، وهنا نلحظ تشابُهًا كبيرًا بينه وبين الإله «أوزير» عند قدماء المصريين، وكان يملك كلبين أسمرَي اللون عريضَي الخطم، ولكل منهما أربعُ عيون، وكانا يخرجان يوميًّا ليقتفيا رائحة الموتى ويسوقونهم إلى حضرة مليكهما، ويمكن أن نتتبع ذكرى هذين الكلبين في بلاد الفرس في العادة الزورواستية المعروفة باسم «ساجديد»؛ أي «رؤية الكلب».

هذا، وقد وصف «الأفستا» أنه يؤتى بكلب أصفر له أربع أعيُن، أو كلب أبيض له أذنان بيضاويتان بجوار كل شخص ميت؛ وذلك لأن نظرته تطرد بعيدًا الشيطان الذي يسعى لدخول الجثة، وهذا يشبه بعض الشيء الإله «أنوبيس» إله الموتى عند قُدماء المصريين؛ فقد كان يعد حارس الموتى وإله التحنيط.

ويُلحظ في أيامنا هذه أن الفرس، الذين يجهلون القدم العظيم لهذه العادة يضعون قطعةً من الخبز على صدر الرجل الذي فارق الحياة، فإذا أكلها الكلبُ فإن الرجل يعتبر ميتًا حقًّا ويُحمل إلى «البراخما» أو «برج التعريض»، وذلك بوساطة أعضاء الهيئة الذين كانوا يعتبرون نجسين أبدًا وحكم عليهم بحياة تعسة.

زورواستر نَبِيُّ «إيران»

كان «زورواستر» هو المؤسس للديانة الفارسية القديمة، وهو الذي تَجَمَّعَ حول اسمه وشخصيته آراءٌ متناقضةٌ جدًّا، فقد أنكر عليه أنه شخصية تاريخية، ومنذ زمن غير بعيد كان من بين النظريات التي قِيلت إنه نتاجُ أُسطورة العاصفة التي توجد في كل مكان، وهنا نجد كذلك كما في حالة الآرية أنه قد حدث تَقَدُّمٌ هائلٌ على نظريات الباحثين الأُوَل الذين يُعْزَى إليهم كل شرف السبق — على أية حال — في هذا الموضوع، ولكن على الرغم من الأسطورة والخرافة اللتين جعلتا صورته مبهمة؛ فإن مصلح «إيران» العظيم ونبيها قد برز الآن من غيوم الماضي السحيق، بوصفه شخصية تاريخية وحقيقة بارزة.

أصل الاسم «زاراتوسترا»

واسم «زورواستر» هو مجرد تحريف لاتيني — لم يعرف تفسيرُهُ بأكمله، ولكنه يشتملُ على الكلمة «أوسترا»؛ أي «جمل» وهي كلمةٌ لا تزال باقيةً في الفارسية الحديثة بصورةٍ مختلفةٍ بعض الشيء، وهناك سببٌ يحملنا على قَبُول الرواية القائلة: إن هذا النبيَّ كان مِن أهل «أذربيجان» وهي «أتروباتن Atropatene» القديمة وفي كِلا الاسمين يُمكنُ التعرفُ على الكلمة القديمة «أثار Athar» ومعناها «النار» وفيها نجد ارتباطًا فيما بما أيام ظهور الزورواستية باسم «زورواستر» وهو أن الكاهن في ديانة القوم كان يُعرَف باسم «أثارفان Atharvan» أو «حارس النار»، والمعتقد أن مسقط رأس «زورواستر» هي بلدة «أوروميا Urumia» الواقعة على البحيرة التي بهذا الاسم، وقد وهب شبابه للتأمل والعزلة، وفي خلالها رأى سبعة أحلام ومر بإغراءات منوعة وفي نهاية الأمر أعلن رسالته، غير أنه مكث عدة سنين لم يُصِبْ من النجاح إلا شيئًا يسيرًا؛ إذ الواقعُ أنَّهُ في العشر السنوات الأولى لم يعتنقْ مذهبه إلا فردٌ واحد.

«جوشتاسب» هو أول من اعتنقَ مذهبَه من الملوك

وبعد ذلك ألهم «زورواستر» السفر إلى شرق بلاد الفرس، وقد تقابل في «كيشمار»٣ الواقعة في إقليم «خورسان» مع «فيستاسب Vistasp» الذي ذكره الفردوسي في ملحمته باسم «كوشتاسب»، وقد أفلح في بلاط هذا الحاكم في ضم ابنَيِ الوزير ثم الملكة إلى دعوته، وقد كانتْ هناكَ مناقشةٌ نفسيةٌ بين هذا النبي والحكماء، وفي خلال هذه المناقشة حاول الحكماءُ التغلُّب عليه بسحرهم، ولكن «زورواستر» فاز عليهم، ومِنْ ثَمَّ أصبح الملك نفسه تابعًا متحمِّسًا لهذا الدين الجديد، وهاك اقتباسٌ من كتاب «فارقادين باشت» عن ذلك: «إنه هو الذي أصبح المساعدَ والمعضد لديانة «زورواستر» و«أهورا»، وهو الذي خلص من السلاسل الديانة التي كانت مغلولةً في القيود، ولم تكن قادرةً على التحرُّك.»

وقد تبع اعتناق «جوشتاسب» وبلاطه ديانةَ «زورواستر» غزو القبائل التورانية القاطنة في أواسط آسيا، وهذا الغزوُ — على ما يظهر — كان المحرض عليه محاربة المعتنقين للدين الجديد، وهذه الحروبُ المُقَدَّسَةُ، كما يمكن أن نعتبرها كانت قد نشبت — بوجه خاص — في «خورسان»، وإذا صَدَّقْنا ما جاء في الأسطورة الخاصة بها؛ فإن الواقعة الفاصلة قد وقعتْ بالقرب من مدينة «سابزاوار» الحالية.

وقد ذُبح «زورواستر» في «بلخ» بعد أن عاش عمرًا طويلًا وكسب شرفًا عظيمًا، وذلك عندما قام التورانيون بغزوتهم الثانية، وتقولُ التقاليدُ إنه مات عند المحراب يُحيط به تلاميذه.

تاريخ ميلاد «زورواستر» ومماته

كان «زورواستر» من أهل «أذربيجان» ومن المحتمل أنه كان ماجوسيًّا، وإن كان ذلك فيه شك.

وهناك كذلك شكٌّ كبيرٌ في العصر الذي عاش فيه، ويعتبر بعض الثقاة أن هذا النبي قد وُلِدَ في عام ١٠٠٠ق.م، في حين أن الرأي التقليدي يقول: إنه وُلِدَ في عام ٦٦٠ق.م، ومات في عام ٥٨٣ق.م، ويعضد الرأيَ الأخيرَ ما قِيل من أن الملك «دارا الأول» كان أولَ ملك متحمس لمذهب «زورواستر»، ولكن نظرًا لهذه الآراء المتباينة عن حياة هذا النبيِّ يُستحسن أن ننتظر براهينَ جديدةً عن هذه المسألة الهامة الصعبة الحل.

الأفستا Avesta

يعتبر المسلمون سكان العالم منقسمين قسمين، وهما أصحاب الكتب المنزَّلة والذين لم ينزل عليهم كتابٌ، وأتباع «زورواستر» يُعتبرون أهل كتاب؛ وذلك لأن لديهم كتاب «أفستا» الذي كان قد أنزل بعضه أو كله على «زورواستر»، وهذا الكتابُ المقدس قد كُتب بلغةٍ تُدعى — بوجه عام — «أفستك»، وهي لغةٌ تختلفُ عن اللغة التي استعملها الأخمينيسيون في نقوشهم، ويعتقد أنه كان يحتوي على واحد وعشرين كتابًا، نقشت بحروفٍ من الذهب على اثني عشر ألف جلد ثور، ومن المفهوم أنه قد أتلف بعد سقوط الدولة الأخمينيسية، وأنه لم يعثر إلا على جُزء صغير منه، ويقال إن «فولا جاسس الأول Volagases 1» ملك «بارثيا» الذي حكم حوالي منتصف القرن الأول بعد الميلاد؛ قد بدأ في إعادة جمعه، ولكن في الواقع قام بجمع معظمه الملك «أردشير» الفارسي مؤسس الأسرة الساسانية، ومن المحتمل أنه قد أُدخلتْ عليه إضافاتٌ في الجيلين أو الثلاثة التي تلت ذلك.

يميلُ الإنسانُ — بطبعه — إلى الآثار القديمة — على ما يظهر — ولذلك فإنه عندما نذكرُ أنَّ مذهب «زورواستر» الذي لا يزالُ يُعَدُّ ديانةً حية؛ قد عاصر ديانات «بعل» و«آشور» و«زيوس»، وهي التي قد أصبحتْ في عالم النسيان منذ عِدَّة قرون مضتْ، فإنه يحق لنا أن نُشاطر عواطفَ العلماء الباحثين، الذين وهبوا حياتهم للبحث والتدقق؛ في تأثُّر هذا المذهب إلى الوراء حتى أبعد موردٍ له في وسط سحب الأساطير والخرافات التي تغمرُهُ، والجزءُ الباقي من كتاب «أفستا» يحتوي على كتابٍ واحدٍ فقط وهو «فنديدات» أو — على الأصح — «فيدفات» أو «القانون ضد الشياطين».

ويدخلُ بعضُ الأجزاء من الفصول الأُخرى في تأليف «ياسنا Yasna» أو الشعائر، وقد حفظت قطع أخرى في كتب «باهلوفي Pahlovi» والأخيرُ تشبهُ علاقتُهُ كثيرًا بالأفستا كما يشبه في اللاهوت الكنسي كتاب «العهد الجديد»، وما بقي من كتاب «أفستا» ينقسم أربعة أقسام كما يأتي:
  • (أ)
    قسم «يانسا Yansa» وينقسم بدوره اثنين وسبعين فصلًا، ويحتوي على أناشيدَ، بما في ذلك «جاتاس».
  • (ب)
    اﻟ «فيسبرد Vispered» أو مجموعة تسابيح تُستعمل مع «يانسا».
  • (جـ)

    اﻟ «فيديداد»، وهو كتاب القانون الكنائسي، الذي يبين العقوبات الدينية، والتطهيرات، والتكفير عن الذنوب.

  • (د)
    اﻟ «ياشتس Yashts» أو الأناشيد التي ترتل على شرف الملائكة الذين يترأسون أيام الشهر المختلفة.

وقد وُجد جزءٌ في «أفيستا» يمثلُهُ كتاب «جاتاس»، وهو الذي قد قرن — بحق — بكتاب المزامير العبري، والمعتقَد أنه يمثل التعاليمَ الفعلية وكلمات «زورواستر» ومَن أتى بعده مِن أتباعه مباشرة، ونجد في هذه التعاليم أنَّ هذا النبيَّ يتمثل لنا في صورة شخصية تاريخية تلقي دروسًا أخلاقية محضة، ولا بد أنها قد نالت احترامًا عميقًا، وبخاصة عندما نذكر مقدارَ عُمْق ما كان حوله من ظلام دامس.

«أورموزد» الإله الأعلى

لقد أشرنا بالنسبة لعلاقة موضوع الأساطير الآرية لإله السماء القديم الإيراني المسمى «فارونا Varuna» Uranus وقد أصبح «فارونا» موحدًا بالإله «أهورا» (السيد) أو بعبارةٍ أَعَمَّ: «أهورامازدا» (أورموزد) رب المعرفة العظيمة والإله الأعلى وخالق العالم، وذلك بعد التأثير الروحاني لتعاليم «زورواستر» التي يمكن أن تُعرف بأنها عبارة عن نسبة صفة خلقية إلى قوى الطبيعة، وقد بَدَتْ هذه الظاهرةُ في إحدى محادثات «زورواستر» التي تنطوي على الوحي الذي كان قد أُنزل عليه، فيقول «أهورامازدا»: «إني أحفظُ السماء هناك في أعلى منيرة ومرئية بعيدًا وتحيط بكل الأرض، وأنها ترى كأنها قصرٌ قد أُقيم من مادة سماوية، ثابتة تمامًا بأطراف واقعة على بعد، مضيئًا في جسمه الأزرق على العوالم الثلاثة، وأنه كمثل ثوب مرصع بالنجوم مصنوع من مادة سماوية يرتديه «مازدا» (ياشت ١٣ Yasht 13).»
وإنه لَمن المهم في هذا المختصر عن الديانة الفارسية أنْ نُميز بين فكرة الإله الأعلى — كما جاءتْ فِي تعاليمِ «زورواستر» — وبين الفكرة التي سادتْ في العُصُور المتأخرة، وذلك أنَّ الفكرةَ التي وردتْ في كتاب «جاتاس» الذي يُشبه المزامير هي عبارة عن روح منعمة؛ أي أنه الخالقُ العظيمُ الأوحدُ. والواقع أن صفات «أهورامازدا» — وهي الروح الطيب؛ أي العدل والقوة والصلاح والصحة والأبدية — تُمَيَّز دائمًا وتُخاطب كأنها منفصلةٌ عن «أهورامازدا»، ومع ذلك فإنه يُشار إليها بوصفها أسماء معنويةٌ عامةٌ، وليست بوصفها شخصيات منفصلة، ومن ثم نجد تحت الفكرة «الجاتيه Gatia» الوحدانية الإلهية التي لا شك فيها، ونجد في «الأفستا» المتأخرة أن «أهورامازدا» لا يزال الإله الأعظم، ولكنه ليس بالإله الأحد الذي يعبد، وفي هذا الوقت أصبحت الصفات الست؛ أي «الآحاد الأبدية المقدسة»، وكانت تعبد بهذه الصورة.
وفضلًا عن ذلك فَإِنَّ كل آلهة الطبيعة الذين محاهم المصلح العظيم قد أُعيدوا ثانية وعبدوا جنبًا لجنب مع «أهورامازدا» ورؤساء الملائكة، ويمكن أن تقتبس الآلهة «مترا» بوصفها مثالًا لهذا الدور، وكذلك يلحظ أن عبادة «أناهيتا Anahita» التي على نموذج «أشتار» آلهة الإخصاب الآسيوية، كانت قد أُدخلت في العبادة في تلك الفكرة، وهكذا نجد أن الإصلاحات والتوحيد الذي كان يدعو إليهما «زورواستر» قد تُركا جانبًا شيئًا فشيئًا وعادت الحال إلى تَعَدُّد الآلهة.

وبقي علينا أن نذكر هنا الإله «أهورامازدا» الذي كان الإله القَبَلي عند ملوك الأخمينيسيين؛ قد مثل في صورة محارب واقف في صورة قرص شمس مجنح «أو على هيئة طائر بذيل»، كما مثل في صورة لوحة «بهيستون»، وصورة الإله هذه تسمى «فرور»، وهي صورةٌ طبق الأصل للإله الآشوري المسمى «آشور»، وهو بدوره قد اشتق من صورة الشمس المجنحة عند المصريين.

أهريمان روح الشر

هذا، ونجد على قدم المساواة مع «أهورامازدا» إلهًا آخر، كان في الأصل معاديًا له ويتمتع بقوة تفوق أعماله الخيرة، وهو روح الشر «أنجرا ماينو Angra Mainyu» أو «أهريمان» الذي كان يحد من سلطان «أهورامازدا»، وهو كما يقول «ادوردز» «الستار الأسود» الذي يجب أن توضع عليه فكرتنا العالية عن الإله «أهورامازدا»، ونجد فيما بعد أنه عندما شخصت الأرواح الطيبة ووجدت الأرواح الشريرة لمقاومتها ومعارضتها، ومن ثم نشبت الحرب بين قوى الشر وقوى الخير بشدة، وكانت الحرب سجالًا، وعلى أية حال يجب أن نذكر أن «دروج» أو الكذب كان جماع كل الشر، كما اعتقد بذلك الملك «دارا» وأن فكرة «أهريمان» قد أتتْ بعد ذلك بزمنٍ قليل.

مبادئ «زورواستر» الثلاثة

يوجد في كتاب «فنديداد» ثلاثة مبادئ أساسية ترتكز عليها مجموعةٌ ضخمةٌ من الشعائر الكهنوتية والنظام، وهي: (أ) أن الزراعة وتربية الماشية هما المهنتان الوحيدتان الشريفتان، (ب) وأن كل الخليقة في حرب بين الخير والشر، (ﺟ) وأن العناصر الأربعة وهي الهواء والماء والنار والأرض طاهرةٌ، ويجب ألا تدنس، وتفسيرًا للمبدأ الأول ليس هناك أفضل مِن وصف ما يسمى: الحياة المثالية على حسب عقيدة «زورواستر».

فردًّا على سؤال وضعه هذا النبيُّ نعلم أنه حيث «يقيم أحدُ المؤمنين بيتًا بماشية وزوجة وأطفال، وحيث تكون الماشية في ازدياد، والكلب والزوجة والطفل والنار تكون ناجحة … وحيث يزرع أحد المؤمنين كثيرًا من الغلة والكلأ والفاكهة، وحيث يروي أرضًا تكون جافة أو يجفف أرضًا تكون مبللة.»

وهذه التعاليمُ سليمةٌ صحيحةٌ بصورة غريبة، ونجد من الأشياء التي تتضمنها أنها تحرِّم الصوم بسبب: أن كل من لا يأكل فإنه لن يكون لديه قوةٌ يؤدي عملًا جريئًا من أُمُور الدين أو يشتغل بشجاعة … وأنه بالأكل يعيش العالم، ويموت بدون غذاء، ويرجعُ السببُ في أن أتباع «زورواستر» في القرى أصحاب أجسام قوية؛ إلى انعدام كل القيود غير الطبيعية.

هذا، وكان الزواجُ محتمًا كما كان كذلك تعدُّد الزوجات، ويقول «هردوت»: إن الملك كان يمنحُ مكافأة سنوية للفرد الذي يكون له أكبرُ أُسرة، والمبدأ الثاني هو عبارةٌ عن بيان طبيعة العقيدة الزورواستية، وذلك أن «أهورامازدا» قد خلق كل ما هو طيبٌ مثل الثور والكلب والديك، وهي التي كان من واجبات كل مؤمن أن يعزها، أما «أهريمان» فإنه — من جهة أخرى — قد خلق كل المخلوقات المؤذية؛ مثل الحيوانات المفترسة والثعابين وكل الذباب والحشرات، وهي التي كان من الواجب المحتم على كل المؤمنين أن يهلكوها، ومن بين هذه الطبقة الأخيرة النملة التي يستحب قتلها؛ لأنها تأكل حب الفلاح، وكذلك الورل والضفدع، أما مكانة الماشية فلا تحتاج إلى شرح؛ وذلك لأنها قد وُصفت بالقداسة التي لا تزال مرتبطةً بالماشية في الهند.

وتفسير مكانة الكلب في مذهب «زورواستر» كما جاء على لسان «أهورا» شعري بهج إذ يقول: «لقد جعلت الكلب في غير حاجة إلى ملبس أو نعل، وأنه شديد الحراسة، يقِظٌ ذو أسنان حادة، وُلد ليأخذ طعامه من الإنسان ويحرس متاع الإنسان … وأن أي فرد سيستيقظ على نباحه فإنه لا اللص ولا الذئب سيسرق شيئًا من بيته دون أن يحذر، والذئب سيُضرب ويمزق إربًا إربًا … على أنه لا يمكن أن يبقى بيت على الأرض عمله «أهورا» إلا بسبب كلبي هذين وهما كلب الراعي وكلب البيت.»

وقد غالت هذه التعاليم أحيانًا بوضع الكلب على قدم المساواة مع الرجل، ويظهر هذا في العبارة التالية: «قتل كلب أو رجل.» كما نشاهد ذلك أيضًا في الحياة المثالية في تعاليم «زورواستر» التي اقتبسناها فيما سبق؛ حيث ذكر الكلب قبل زوج الرجل وأولاده.

أما المكانة التي مُنحتْ للديك الذي يوقِظُ الخمولَ هي: «الطائر الذي يرفع صوته على الفجر الجبار … وأن من سيهدي كرمًا وتدينًا إلى أحد المؤمنين زوجًا من طيوري هذه، فإنه يكون كمن أهدى بيتًا يحتوي على مائة عمود.» ومن المحتمل أن هذه العبارة قد تُشير إلى أن الدجاج كان نادرًا في بلاد الفرس في ذلك الوقت.

هذا، وكان كلب الماء يُعتبر غاية في القداسة؛ فقد كانت عقوبةُ قتل واحدٍ منها عشر جلدات، وهي أعظم عقوبة على أيِّ جريمة، أما المبدأ الثالثُ فكان مرتبطًا بقداسة النار بوصفها رمزًا، وقد كان على الكاهن أن يغطي فَمَه عندما كان يقومُ بواجبه الدينيِّ عند المذبح، يُضاف إلى ذلك أنه كان يرشد للقواعد الخاصة بعدم تلويث الماء الجاري، وهي لا تزال متبعةً في بلاد فارس على حسب تعاليم الإسلام.

وثانيًا: كان الفردُ المعتنق تعاليم «زورواستر» تعرض جثته على برج لتمنع تدنيس الأرض، يضاف إلى ذلك أنه لَمَّا كانت كُلُّ الأمراض يُنظر إليها بأنها ملك قوى الشر؛ فإن معتنق مذهب «زورواستر» كان غالبًا ما يهملُهُ أفرادُ أُسرته وهو يموت، بل أكثر من ذلك: كان يحرم من ضروريات الحياة، وقد كان من مساوئ هذا الدين المدهش أن معالجة المرضى بالغسل والتطهير ببول البقرات.

التأثيرُ التوازنيُّ على مذهب «زورواستر»

من المستحيل — في نظرةٍ عامةٍ كهذه عن المذهب الزورواستري — أن نهمل مسألة تأثير الشعب التوراتي على الديانة الآرية؛ إذ من الطبعي بل من المحتم على القبيلة التي تغزو بلادًا جديدة وتستولي عليها دون أن تقضي على أهلها جملة أو تطرد سُكَّانها الأصليين أنْ تتأثر إن قليلًا أو كثيرًا بعقائدها الدينية، وأفضلُ مثالٍ لدينا على ذلك تاريخُ قبائل بني إسرائيل، وأبرز مثل نجدُهُ في العقيدة الزورواستية هو الاحترامُ العميقُ الذي كان يُقَدَّمُ للنار؛ وذلك لأن هذا الشعور كان قد زِيدَ فيه بسببِ أن الآريين الذين كانوا يقطنون في البلاد الواقعة غربي «بحر الخزر» قد وجدوها تتفجَّر من خلال الأرض ويُقدِّسها السكانُ المجاورون.

والواقعُ أن بعض مَنْ زاروا «باكو» وشاهدوا هذه الظاهرةَ كانوا في دهشةٍ عظيمةٍ عندما رأوا عند غُرُوب الشمس هذا المكان المُغَطَّى بالثلج، ومع ذلك كان لهيبُ النار يندلعُ مِن جوف الأرض، مما جعل المنظر يتركُ في النفس تأثيرًا سحريًّا عظيمًا يفوق حد الوصف، وهكذا قد أوعزت طبيعةُ الأرض تمامًا إنشاءَ نيرانٍ مقدسة، وقد كان لزامًا على الإنسان أن يشعر بأن هذا العنصر النقي إن هو إلا رمزٌ لخالق العالم، ولا شك أنه بمرور الزمن قد ازداد الاحترامُ لها بدرجةٍ عظيمة حتى إن لقب «عباد النار» قد أصبح يُطلق على أتباع «زورواستر»، وهذه العبادةُ قد بقيت حتى يومنا هذا؛ إذ لا نجد فارسيًّا «بارسي» يطفئ شمعة أو يخمد نار قطعة خشب مشتعلة، يضاف إلى ذلك أن التدخين محرمٌ في هذه البلاد.

واستعمالُ حزمة البرسيم يحتمل أنها مأخوذةٌ من عصا السحر التورانية، ولا نزاع في أنَّ جماعات الأرواح الشريرة التي تُهاجم البشر باستمرار، والتعاويذ الطويلة الضرورية لهزيمتها والخرافة القائلة إن قصاصة الأظافر لا بد أن تُدفن بصلوات لتمنع انقلابها إلى حراب وسكاكين وأقواس وسهام في صورة صقور مجنحة وحجارة مقاليع في أيدي اﻟ «دائفاس Daevas»؛ كل هذه كانت خرافات يرجع تاريخُها إلى ما قبل ظهور «زورواستر»، ونجد في بلاد فارس الحديثة أن المسلمين يدفنون قصاصات الأظافر بعناية تحت عقب الباب؛ وذلك لأنه يعتقد أنها إذا وضعت هكذا تكون حاجزًا مانعًا للأسرة من الانضمام إلى المسيح الدجال عندما يظهر على الأرض، ومن المحتمل أن هذه الخرافة قد انحدرت من الخرافة القديمة.

الماجي أو الماجوس

يُظنُّ أن الماجوس لم يكونوا من أصل آري، بل يحتمل أنهم من سلالة قبيلة التورانيين (وراء نهر الأكسوس) التي هضمها الآريون الفاتحون.

هذا، ونجد أنهم في العهد التاريخي قد أصبح مثلهم في المذهب الزورواستري كمثل اللاويين عند اليهون، وأنهم وحدهم الذين كانوا يذبحون ضحية ويحضرون «الهاؤما المقدسة Haoma» ويحملون حزمة البرسيم، هذا فضلًا عن أنهم كانوا متعمِّقين في علم التنجيم وبوساطة هذا العلم كان لهم علاقة — في أُسطورة الرجال الحكماء من الشرق — بولادة المسيح، وقد أصبح تأثيرُهُم بمرور الأجيال عظيمًا جدًّا، ومن المحتمل أنه بالنسبة لهذه الحقيقة أنَّ العقائدَ النقيةَ التي لقنها «زورواستر» الذي كان — على أية حال — يعتقد أنه من أصل ماجوسي، قد أدخل عليها الخرافات، كما أدخل عليها المحافظة على القوانين الجامدة، وتَدُلُّ شواهدُ الأحوال على أنَّ الفُرس لم يكونوا مستعدين لاعتناق الشعائر الماجوسية في الحال، والظاهرُ أن هذه الديانة لم تُعتنق بأكملها إلا في العهد الساساني.

عقيدة القيامة

كان الاعتقادُ بوجود حياة أُخرى بعد الموت يُثاب فيها الإنسانُ أو يعاقب؛ من العقائد الأساسية في الديانة الآرية، والواقع أن هذا المذهب لم يكن محددًا بوضوح في كتاب «جاتاس» ولكن في كتاب «فنديداد» نجد أن الإبهام الذي في اﻟ «جاتاس» قد انقشع وأصبح أكثر تحديدًا. وهذه العقيدة موضوعةٌ في صورة الوحي العادية؛ ففي جواب عن سؤال خاص بما إذا كان المؤمن والكافر كذلك عليهما أن يتركا المياه التي تجري والقمح الذي ينمو وكل باقي ثروتهم فيقول «أهورا»: إن الأمر كذلك، وإن الروح تدخل الطريق التي عملها «الزمن» فتكون مفتوحةً لكُلٍّ من الشقي والعادل، وكذلك نعلم أن الروح بعد انقضاء ثلاثِ ليالٍ على موت الإنسان تأخُذُ مقعدها بجوار رأس المُتوفَّى الذي كانت قد تركته، وكانت على حسب فضائلها تتمتع بالنعيم أو الشقاء إلى درجة قصوى.

وعندما ينبلج فجر اليوم الرابع يهب ريحٌ عبقٌ من الجنوب، وتقابل روح المؤمن عند جسر «شينفات Chinvat» أو «جسر الوداع» الذي كان يقام عبر هوة الجحيم بوساطة عذراء جميلة بيضاء الذراع «وجمالها كأجمل شيء في هذه الدنيا»، وتسأل الروح من هي وتتلقى الجواب التالي: «يا أيها الشاب صاحب الفكر الطيب والكلمات الطيبة والأعمال الطيبة إني ضميرك.» وبعد ذلك يقود هذا الدليل الجميل روحَ المؤمن إلى حضرة «أهورا» وهناك يرحب بها بوصفها ضيف مكرم، أما الروحُ الشريرةُ فإنها بعد أن تقابل امرأة قبيحة الخلق لا يُمكنها أن تعبر الجسر وتسقط في مأوى الكذب لتكون هناك أمة «أهريمان».
هذا، ونجد في «هردوت» (Herod. III 62)، فقرة غاية في الأهمية لها علاقةٌ بالموضوع الذي نحن بصدده، وذلك أنَّ «قمبيز» الذي سمع بالعصيان عليه في صالح «بارديا» المزعوم الذي قد قتله أخذ يوبخ «بريكزاسبس Prexaspes» الذي كان قد أمره «قمبيز» بتنفيذ حُكْم الإعدام على أخيه «بارديا»، وقد دافع «بريكزاسبس» عن نفسه بقوله: إن هذا الخبر عارٍ عن الصحة ثم نطق بالبيان التالي: «إذا كان حقًّا أنَّ الموتى يُمكنُهُم تركُ قُبُورِهِم فانتظر «أستياجس» ملك «ميديا» أن يقوم ويحاربك، ولكن إذا كان مجرى الطبيعة هو نفسه — كما كانت الحال من قبل — فكن إذن متأكدًا أنه لن ينالك شرٌّ من هذه الناحية.» وفي الحق هذه فقرة تلفت النظر بالنسبة للعقائد الإيرانية.

الجنة الإيرانية

تقع جنة أتباع «زورواستر» على جبال «هارا-برزايتي Hara-berzaiti» أو الجبل الشامخ المعروف في العصر البهلوي باسم «البورج» وهو الذي يُسَمَّى الآن «البورز»، وهذا الجبل السري يرتفعُ من الأرض فوق النجوم إلى دائرةٍ نُورُها لا نهايةَ له إلى جنة «أهورامازدا» مأوى الفتوة، وهو أم الجبال، وقمتُهُ تسبح في الفخار الأبدي حيث لا ليل ولا زمهرير ولا مرض، حقًّا إن هذه المثالية الشعرية لقمة جبل «دمافاند» المنقطعة النظير يمكن أن تجد لها مكانةً في أنفسنا، ويحتمل أن تكون هذه المكانةُ كبيرة عند من شاهدوها وشعروا بعظمتها ورهبتها.

تأثير ديانة «زورواستر» على الديانة اليهودية

قد يَطُولُ بنا البحثُ إذا تَعَمَّقْنَا في موضوع تأثير ديانة «زورواستر» على ديانة اليهود، وبالطبع على الديانة المسيحية، ولكن مما يستحق الإشارة إليه أن «أهريمان» في ديانة «زورواستر» يكادُ يكون موحدًا بالشيطان في ديانة اليهود وﺑ «إبليس» في الدين الإسلامي، فنجدُ في كل الديانتين شياطينَ مؤذيةً لا يُمكنُ للإله الأعلى أن يقضي عليهم في الحال كما يُريد بداهة إذا أمكنه، يُضاف إلى ذلك أن صفاء «أهورامازدا» وسموه في علاه كما لقنهما «زورواستر» تَفُوقان فكرةَ «يهوه» الإله القبلي عند اليهود والذي قد مثل صائحًا: «إذا شحذت سيفي البارق، وأمسكت بيدي على القضاء، فإني أُرسل النقمة على أعدائي، وأُجازي مبغضي، وسأُسكر سهامي بالدم، وسيلتهم سيفي لحمًا بدم القتلى والسبايا ومن رءوس قواد العدو» (كتاب التثنية، الإصحاح ٣٢ الأسطر ٤١ و٤٢).

ومن جهة أخرى نجد أن الإله الذي طبيعتُهُ السامية قد وضعت في الفقرات الرفيعة في كتاب «أشعيا» تفوق أعلى تصور جاء على لسان «أهورامازدا».

والآن ننتقل إلى مسألةٍ أَهَمَّ بكثيرٍ من السابقة، وذلك أنه من المحتمل أن نكون قد غَالَيْنَا كثيرًا إذ ادعينا أنَّ عقيدةً أبديةَ الروح قد بشر بها أولًا «زورواستر»، ثم نقلها عنه اليهودُ الذين وضعهم «سرجون الثاني» في مُدُن الميديين، وكانوا قد اختفوا، وعُدُّوا مفقودين بالنسبة لإسرائيل.

ونحن نعلم — على أية حال — أن الأسر الكهنوتية والأرستقراطية من اليهود الذين يمثلون الصدوقيين (الكفار باليوم الآخر)، قد قالوا في بداية العصر المسيحي إنه لا يوجد في الكتب المنزلة ما يثبت الاعتقاد في وجود ملائكة وأرواح أو قيامة، وعلى ذلك فإنه لدينا من جهة الزورواستريين الذين كانت عقيدة أبدية الروح في نظرهم من الأمور الأساسية، ومن جهة أخرى لدينا اليهود الذين انقسموا على أنفسهم بسبب هذه العقيدة الحيوية الهامة، وذلك بعد مضي عدة قرون على موت نبي «إيران» العظيم.

هذا، ويَضيق بنا المقام في هذا المختصر أنْ نُضيف أكثر مما سبق على التأثير الهائل الذي أحدثتْه ديانةُ «زورواستر» على اليهودية سواءٌ أكان ذلك بطريقٍ مباشرةٍ أو غيرِ مباشرة، وبقي علينا أنْ نُشير إلى أن نغمة الأنبياء اليهود نحو الفرس تلفتُ النظر في تسامُحها، ولنعطِ مثالًا واحدًا من بين كثير فنقرأ في «أشعيا»: «هكذا قال الرب إلى معطرة إلى «كورش» والواقعُ أن الفرس وحدهم من بين السلالات المتسلطة لم يحكم عليهم بدخول النار من جانب أنبياء اليهود، وقد اعترف بهم اليهودُ إلى حَدٍّ ما بأنهم قوم تقرب ديانتهم من الديانة اليهودية.»

وخلاصة القول أننا قد رأينا هؤلاء الإيرانيين في أول أمرهم قد بدوا أجلافًا يعبدون الطبيعة، ثم يظهر بينهم بعد ذلك «زورواستر» في جلاله وعظمته، فحَوَّلَ أساطير قومه إلى رُوح طيبة، وبعث فيهم الشعورَ بوُجُود إله يقرب سموه ورفعته مِن سُمُوِّ عيسى ورفعته، وأنه «زورواستر» الذي نادى بالاعتقاد الآري في خلود الروح، وكانت رسالته التي قوامُها الأمل قد أتت — بلا شك — من الماضي البعيد، مارةً بمسارح الزمن الهامسة، تاركة أثرها في نفوس أهل القرن العشرين الذي نعيش فيه بصفة مباشرة وغير مباشرة.

فعلى حسب تعاليمه نجد الإنسانَ في صراعه الأبدي بين الخير والشر، قد تُرك ليختار لنفسه ما يحلو له، فالأرواحُ الخَيِّرةُ تعاضدُهُ، والأرواح الشريرة تهاجمه، غير أنه يعلم أن الغلبة ستكون للخير على الشر كما يقهر غيثُ السماء القحطَ.

وفي رأيي أنه من الصعب أن يكون في قدرة الإنسان الزيادة في تحسين عقائد هذه الديانة، وهي التي يرددها كل صبي عندما يصبح في سن كافية «لشد حزامه»، ويقول بعد أن يتعلم على يد مَنْ هو أكبر منه سنًّا: «أفكارًا طيبة وكلمات طيبة وأعمالًا طيبة» وتلك هي تعاليمُ هذا الدين القويم.

١  الهاؤما نباتٌ جبليٌّ مُقَدَّس موحدٌ مع «السوما» الهندية غير أن أصل حقيقته يعترضه بعض الشك.
٢  راجع عن هذا الفصل: Williams Jackson, Zoroaster the Prophet of Ancient Iran; J. Moulton Early zoroastrianism.
٣  راجع: Journal. R. G. S. for January and February 1911.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤